صحيفة المثقف

الفصاحة الشعبيّة

سوف عبيديظلّ الأدب العربي غير مكتمل ولا يمثل المجتمعات في مختلف أطوارها ونواحي حياتها طالما لم يدرج نصوصها الأخرى أي النصوص الغائبة والمعبّرة بصدق عن وجدان المجتمع وشجونه تلك التي تنتشر عبر التواصل الشفوي من أغان وأمثال وألغاز ونوادر وخرافات  وأخبار وأشعار وغيرها ولئن لم تصل إلينا أغلب تلك النصوص من العصور الماصية إلا بعض شذرات نادرة مبثوثة في صفحات بعض مصادر الأدب القديم وقد كان اِبن خلدون رائدا عندما سجّل في فصول مقدمته الكثير من الشعر الشعبي الدارج في عصره وهو بذلك يُعتبر اِستثناء وهاهو الشاعر مبروك العشّي ينبري لجمع ما تيسّر له من قصائده وينشرها معزّزا بهذا حركة نشر الأدب الشعبي وهو المصطلح الحامل للقيم  الإنسانية الحقيقية بما فيه من تعبير عن معاناة النّاس وآلامهم وأحلامهم بمصداقية وعفويّة قد لا نجد وهجها في أغلب النصوص الواردة في الأدب الفصيح الرّسمي والذي تكتبه وتقرأه النخبة المسيطرة ومن والاها عبر التاريخ لذلك نعتبر الأدب الشعبي اِستثناء مقصودا عبر التاريخ وما قصيدة ـ ملحمة بنقردان  ـ إلا مثال على تسجيل إحدى بطولات الشعب التونسي في ذوده عن سيادته الوطنية وكم كان الشعر  الشعبي شاهدا على الوقائع والأحداث التي قد لا نجد لها أثرا يُذكر في نصوص الأدب الفصيح الذي ينهل منه الشاعر مبروك عشّي أيضا وهذا يؤكد التواصل بين الأدب الفصيح والأدب الشعبي وإنّ قصيدته التي قالها في القلم خير مثال حيث يقول

شْكيتْ للقلم من وقت بكى

 عيني

لِـــيَّا إعْـــتِذَرْ

وقَالِي خَـلِـيـــــنِي

شكيت بهمّي

والحبر داكن

صبغته من دمّي

بحيث أنّ الشّعر الشعبي والشعر الفصيح يتقاربان إلى حدّ التماهي بينهما فمبروك العشّي عندما يتحدّث عن الاغتراب في إحدى قصائده قائلا :

سَـــــافِرْ وِبدِّلْ مَنْزِلِكْ

وتِحوِّلْ

خُشْ البِـــــرُورْ إجَوِّلْ

هَوِّنْ عَليكْ الصَّاعبَـــــــه

مَا تِهوِّلْ

 

لكأنّه يستحضر بيت الشافعي الذي قاله في نفس السياق :

سافر تجد عوضا عمن تفارقـــه * وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

وإنّ الدّارسين للشعر الشعبي مثل الأديبين الشاعرين محمد المرزوقي ومحي الدّين حريّف قد أكّدوا على التشابه والتماثل بين الأغراض والمعاني والصور في الشعر الفصيح والشعبي ولا عجب في ذلك فكلاهما صادر عن بيئة واحدة وظروف متقاربة وقيم أخلاقية وجمالية هي نفسها وجذور لغوية تعود إلى العربية بتنوّع مستوياتها المستعملة حسب الحال والمجال

وفي الدّيوان نقرأ الكثير من حميميّات الوجدان المُفعم بالوفاء إلى قيم البداوة الأصيلة تلك التي يريد أن يَنشَأ عليه اِبنُه عندما يوصيه أن يكون خير خلف لخير سلف

أنْــتَ بَـــذْرَة جِيــنَاتْ جِــــــدُودِكْ

مُـــوتْ وَاقِفْ وِيّـَــاكْ تِــطِـيـــحْ

لكأنّه يتمثّل بيت عنترة ـ لا تسقني ماء الحياة بذلّة ـ أو بيت المتنبي ـ عش عزيزا أو مُت وأنت كريم ـ وكذلك بيت الشّابي ـ سأعيش رغم الدّاء والأعداء ـ

وقد سجّل الدّيوان ظاهرة ثقافية جديدة ألا وهي ظاهرة ـ الإرساليات الفايسبوكية شعرًا ـ فقد وردت عدّةُ أيباتٍ ومقاطعُ شعرية تُمثّل مطارحات ومساجلات بين الشاعر وبعض أصدقائه من الشعراء في شتى الاغراض غير ان طايع الحكمة يبدو هو الغالب على تلك الإخوانيّات وهي تمثّل نوعا طريفا من الشّعر يمكن أن يكون بمثابة المراسلات او اليوميّات الخاصّة فأغلبها قد حرص فيها الشاعر على نشر تاريخ إرسالها وتاريخ وُرودها

وبقدر ما كانت قصائد الشاعر مبروك العشّي معبّرة عن شجونه الذاتية في تفاعلها مع محيطه الخاص والعام ومنه الميدان التربوي فإنها تعبّر كذلك عن بعض الظواهر الاجتماعية المؤلمة مثل ظاهرة المخاطرة بركوب زوارق الغرق للهجرة السرية نحو أوروبا فيصوّر معاناة أولئك الشبان وهم يغامرون بحياتهم هروبا من واقعهم الأليم يحدوهم الأمل في رغد العيش بالرغم من المخاطر الجسيمة التي تعترضهم وهم يبحرون على متن تلك الزوارق.

ثمّة خيط دقيق متواصل بين جميع قصائد هذا الديوان ألا وهو الولاء لتونس والتشبع من بيئتها وقيمها الأصيلة وتاريخها وأمجادها والتعبير عن أحلام أناسها الكرام وآلامهم من محبة وعزّة وشهامةووفاء وتضحية وعطاء أوليس الشعر هو لسان حال الفرد في صيغة الجمع وهو ترجمان الوجدان والوشائج في كل مكان وزمان وما اللغة إلا حاملةٌ للمعاني والدلالات والصور فما أحوج الأدبَ العربي الفصيح الحديث وأجدره أن يجعل من الأدب الشعبيَّ رافدا له أساسيا كي يُطور من مواضيعه وأساليبه وأشكاله وكيف يسمح الأدباء لأنفسهم أن يَستلهموا من الآداب الأجنبية إلى حدّ النقل والاِستنساخ أحيانا ولا يُعيروا اِهتماما يُذكر لأدب مُحيطهم الذي يعيشون فيه فتلك لَعَمري من مُربكات الثقافة العربية المعاصرة التي تُعاني من الاِنفصام والضّمور وما على الشعراء الشعبيين إلا أن يطلعوا هُم أيضا على النصوص الأدبية والشعرية الفصيحة وفي الآداب الأخرى ليُطوّروا من قصائدهم كي لا تَظل تقليدا جافا للمواضيع وللمعاني وللصور وللأوزان وحتى لقاموس الشعراء السّابقين وعندما يتفاعل شعراءُ الفصحى مع الأدب الشعبي ويتفاعل الشعراء الشعبيون مع النصوص الفصيحة ستنشأ نُقلة نوعية في مسار الثقافة العربية الحديثة.

وبعد

هذه مصافحة أولى وتحية ترحيب بديوان صديقي الشاعر مبروك عشّي الذي شرفني بإهداء قصيدتين فإليه أثيل الشكر وخالص المودة وأرجو أن يكون هذا الديوان إضافة في مكتبة الأدب الشعبي التونسي خاصة والأدب العربي عامة ويكفي القلادة ما أحاط منها بالعنق

 

 سُوف عبيد

رادس في17 جوان 2019

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم