صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدّين (11)

مجدي ابراهيملم نكن مرة ثانية - بعد تلك الوقفة التوضيحية - نكررُ هذا المعنى من جانبنا، وهو المعنى الذي دار في السابق حول أن الحضور في القرآن ذو دلالة على قوة استخدام العقل يتولد عنه ذكاء الذهن؛ ليقوى الفهم ويستبين فيه اليقين، ويصفو من ثمَّ الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن. أقول؛ إننا لم نكن لنكرر هذا المعنى، إلا لأن شرط الحضور يرتد بداية إلى "التعلُّم" وإلى الاكتساب كيما يكون "الفهم" بداية معرفة مقررة بأولوَّيتها على غيرها، وأن يجيء "العلم" شروعاً في التطبيق لذاته لا لغيره، أي شروعاً في تحويل النفس من مكانها الذي اعتادت أن تقف عنده، ولا تتجاوزه ليجيء "التحويل" دليلاً على وضوح السبيل من طريق فهم القرآن.

ثم إن الدلالة الجُوَّانِيَّة الباطنة صارمة في فهم القرآن، وهى دلالة تتأتى مؤكداتها في ملكة الوعي: الوعي بالإقبال على الله بصدق، ثم ارتقاء الوعي في الرغبة لفهم كتابه باجتماع هَمِّ هو بالضبط ضد غفلات التعطيل؛ لأن التعطيل في أول مقام ضد الحضور، والحضور كذلك في أول مقام معناه إزاحة القلب عن التعطيل من طريق فعل الهِمَّة وبقاءه دوماً في حيوية روحيّة وحركة فاعلة، واستمرار هذه الحركة عاملة في وجدان صاحبها.

وحضور القلب يأتي ليكون معناه إزاحة التعطيل عن الفهم، حتى إذا ما ثُقِلَ فهم القرآن أو صعب؛ فإن مَرَدَّ ذلك إلى الوهم الذي يربض غائراً في جوف الوعي تحت ظلمات التعطيل.

هنا أشير إلى شذرة لافتة للانتباه جديرةٌ بكل آيات التأمل، هى من شذرات الأستاذ الإمام الشيخ "محمد عبده"، المجموعة عنه من قِبَل تلميذه رشيد رضا؛ تقول الشذرة المُلفتة للنظر: " إنَّمَا يُصِّعب القرآن توهُّم أنه صَعْبُ، وكلما أدخل الإنسان على نفسه الصعوبة صعُب عليه، وكلما مَكَّن نفسه من الفهم مَكَّنَه اللهُ منه ".

ولتلحظ التعطيل هنا كامنٌ في الإنسان نفسه لا في القرآن؛ كامنٌ في التَّوهُّم الذي يُحيط به من جميع أقطاره من جهة، ومن جهة ثانية في دخوله الصعوبة على نفسه من أجل تراكم ما استقرَّ في أعماقها من آفات وأباطيل هى الموانع الصارفة عن الفهم والحاجبة له عن مدراك الخطاب، والداخلة بالإنسان من حيث لا يشعر في مزالق التعطيل.

إذا ثقل فهم القرآن أو صَعُبَ؛ لأسباب يستشعرها ذلك الذي يجد في نفسه ثقلاً أو صعوبة؛ فالتعطيل في طليعة هذه الأسباب: تعطيل القلب عن الحضور وعن الفهم:" ولو عَلمَ الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" (سورة الأنفال: آية 23).

على أن السّماع هنا يترادف مع الفهم، وعدمه أيضاً مُرادفٌ لعدم الفهم، فلو علم الله فيهم خيراً لأفهمهم، ولكنهم لمَّا ضيَّعوا الفهم واستبدلوا به التعطيل؛ ليجيء صارفاً من صوارف الغفلة على عادة التوهم المرذول، كانوا عن الفهم بالقطع الذي لا مرْيَة فيه عاطلين، وكانت:" لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" (الأعراف: آية 179).

فمن تمام الغفلة فيهم أن قلوبهم مقفلة، وعيونهم غير مُبْصِرة، وآذانهم صَمَّة لا يسمعون بها؛ لأنهم كانوا أغلقوا منافذ السَّماع (= الفهم) فحَجَبَهُم بالغفلة عن فقه الأفئدة، بمقدار ما انطمست لديهم الرؤية، وأظلمت من الباطن على الحقيقة أنوار القلوب.

تحويل النفس:

وتحويل النفس من وجهة في الحياة إلى وجهة أخرى يُرادُ به تنزُّل القرآن من جديد، لا على الاستماع لحروفه ونغماته كما كان يسمع بالعادة قبل أن تتحوَّل النفس؛ بل لكأنه يُسْمَعُ لأول مرة بعد التحويل؛ إذْ في كل ترديد لكل حرف من حروفه مكسبٌ جديدٌ من إثمار الخاصَّة الذاتية في النفس بعد التحويل؛ فهذا الإثمار يتأتى من طريق التذوق المعرفي بخصائص القرآن التي يُضْفِيَها على النفس بعد أن كانت تَبَدَّلت خصائصها وتغيَّرت توجهاتها في الحياة من جانب إلى جانب مناقض له؛ ثم انفردت بأن تعقل ما طرأ عليها من تغيير من جهة، ومن اكتمال في مراحل تطورها الروحي من جهة أخرى.

ولا شرط لهذا الاكتمال غير شرط "التَّذَوِّق": التذوق الرفيع لمدلول الآيات تذوقاً مُوَفّقاً يجيء معه "التحويل" إلى الأرقى والأعلى صفة خاصَّة لكل تدبُّر تسقط معه الغفلة ويسقط السهيان، وترتفع فيه على الإطلاق ملكات التذوق ومواهب الحضور. وفي مثل هذا الارتفاع لملكات التذوق والحضور بين يدى الله تكون "الحلاوة" هبةً وعطيةً؛ يُذيقها الله أهل التَّقَوَى؛ فإنّ كلامه ربيع قلوب الأبرار، يثقل فهمه على من تَعَطَّل قلبه.

وإني لأسوق مثالاً على تلك الدرجة التي هى بلا ريب درجة المُقرَّبين الأبرار؛ والتي أخبر عنها "جعفر بن محمد الصادق"، رضى الله عنه، حين قال:"والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه؛ ولكنهم لا يبصرون". وقال أيضاً وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خرَّ مغشياً عليه؛ فلما سُرِّيَ عنه (أي أفاق من غشيته)، قيل له في ذلك، فقال:" ما زلتُ أردِّد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبتْ جسمي لمعاينة قدرته ..".

وممّا رواه سادات العارفين عن درجة المُقرَّبين هذه، تعظم فيها الحلاوة ولذة المناجاة: أن بعض الحكماء قال كنتُ أقرأ القرآن فلا أجدُ له حلاوة حتى تلوتهُ كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوهُ على أصحابه؛ ثم رفعتُ إلى مقام فوقه كنتُ أتلوه كأني أسمعه من جبريل على السلام يُلقيهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم جاء الله بمنزلة أخرى؛ فأنا الآن أسمعه من المتكلم به؛ فعندها وجدتُ له لذة ونعيماً لا أصبر عنه".

ولك - إنْ شئت - أن تلاحظ مثل هذا التطور الروحي والتَّدَرُّج في أنماط الإدراك الذوقي؛ فلا تستغرب على هذه الحالة وجودها لدى مَنْ يتذوقها فيدركها، إذا هى كانت مفقودة لديك، فليس كل ما لا تناله مداركك هو في حكم العدم.

ولقد سبقت الملاحظة بأن الذاتية الخاصَّة للقرآن تفرضُ نفسها، بحيث تأتي فتعْبُر هذا الوجود المغلق المحسوس إلى الوجود الروحي المفتوح الذي لا حدود له ولا قيود لأنه الوجود الذي يتعلق بسَبَحَات الفكر وطلاقة الروح؛ هو وجود من باطن النفس والضمير، يمضى معه وجود الإنسان الروحي في فهم آيات القرآن فلا يقصرها فقط على ظاهر ما يفهم من مدلولها الخارجي، بل يغوصُ بها في أعمق أعماق ذاته؛ ليستشرف خلالها مقاصد القرآن داخل هذه الذات نفسها، لكأنه يتنزَّل عليه هو كما كان يتنزَّل على سيد الخلق؛ صلوات ربي وسلامه عليه؛ فيترجم ترجمة واعية بما في مستطاعه؛ مثل هذه التنزّلات الإلهية تعليلاً وإخباراً بالأحوال النفسية التي لازمته؛ والمنازلات الروحيّة التي اعترته ساعة أن هَبَّ عليه التنزيل - ذوقاً - له من واقع الحياة الجُوَّانيِّة الباطنة ما لم يكن موجوداً في واقع عاشه أحدُ غيره ولا أختبره إنسان سواه.

والساعةُ التي يكون فيها "الحضور"، وتبدو فيها علامات "التحويل" لهى هى الساعة التي تأخذ من معدن النبوَّة مددها، فيقترب الذي يتذوَّقُ القرآن - على ما وصفنا - فهماً على بصيرة وهدى من مشكاة النبوَّة؛ لكأنما كان فضلُ التنزيل الإلهي ممدوداً من عين الإتباع لسيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه؛ كما في قوله تعالى: "قل إنْ كنتم تحبُّونَ الله فاتبعوني يحببكم الله".

فوحدة الشعور التي تتجلى سرَّاً من أسرار القرآن بالمعية الإلهية هى في الأصل وحدة شعور بالحقيقة المحمديِّة؛ فلا غرابة من بعدُ في شعور الشاعر بوحدة القصد في تجليات القرآن.

وقد قال الرسول عليه السلام:" مَنْ قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوَّة، وَمَنْ قرأ ثلثيه أعطى ثلثي النبوة، وَمَنْ قرأ القرآن كُلَّهُ أعطى النبوة كُلُّها". وربما كان المقصد من وراء هذا - إنْ جاز لنا أن ندرك مقاصد النبوة على الوجه الذي كانت فيه مقاصدها صاعدة إلى تحقيق فهم وإثارة وعي - هو أن قارئ القرآن يزدادُ قُرْبةً من شرف النبوة بفهمه لمعاني القرآن ومقاصدها، وليس الفهم ها هنا فهماً سكونِيَّاً مُغْلقاً للمعاني وللمقاصد مجردة عن لواحقها العملية بل هو فهمُ مُتحرِّكُ حي لواقعها في هذه الحياة: فهمُ حركيُّ مفتوح؛ أعني قدرة التغيير في الواقع بعد التحويل في النفس.

وإنّه؛ ما لم تتحول النفس عن ركامها المتراكم الدفين، إلى حياة تتلقَّاها من أعلى، ما لم ترتحل من جسد يطويها وكثافة تشملها، فإنها لن نتحقق أملها المنشود في الخلاص. فالتغيير الذي يتمُ في الواقع لابد أن يكون قد سبقه تغييرٌ قد تمَّ فعلاً في النفس؛ لأن الواقع لن يغير نفسه بنفسه، فلا مناص من وجود أشخاص غيروا من أنفسهم أولاً، وارتحلوا عن طباعهم ثانياً، فاستجاب لهم الواقع ثالثاً، فحققوا ما كانوا يأملونه من نشدان الخلاص رابعاً. وتلك هى اِحْدى ركائز الذاتية الخاصَّة للقرآن: قدرة التغيير في الواقع بعد التحويل في النفس.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم