صحيفة المثقف

علم الفايرولوجيا أم علم السياسة.. من يحسم لغز فايروس كورونا؟

ما لم تكن هناك معطيات علمية ومعطيات سياسية مستوفية، فأن المنطق يشير الى صعوبة الحسم في الرأي، وخاصة في موضوع مهم وخطير جامع شامل مؤذي للبشرية. ومن هذا، لا ادخل بوابة العلم البيولوجي والبكتيري والجرثومي والفايروسي، وذلك لعدم كفاية المعطيات من ناحية، كما وإن العالم ما تزال مختبراته تبحث في الأمر. أما معطيات علوم السياسة في هذا الموضوع، على الرغم من ان الكثير من الذين يعتقدون بمنهجية المؤامرة في التحليل، فهي مؤشرات فكرية وسياسية - سلوكية يمكن إخضاعها لتحليل علم السياسة وكما يأتي :

أولاً- كان (دونالد رامزفيلد) وزير الدفاع الأمريكي الأسبق قد اطلق تعبيره الشهيرعلى أوربا حين ترددت عن تلبية الدعوة الامريكية الى شراكة إستراتيجية بعد إرهاب برج التجارة العالمي والتخطيط لوضع افغانستان ومن ثم العراق في قائمة الاستهداف، بأنها القارة العجوز، بمعنى انها غير القادرة على الحشد، لأن معظم سكانها من كبار السن، وهؤلاء مستهلكين وغير منتجين حسب قوانين السوق الرأسمالية - وذلك لأن القيمة الأنسانية مفقودة في عروض التسويق الغربية - . وشدد على ان موضوعة الحرب تعد احد اهم الوسائل التي تقلص من الكثافة البشرية التي لا تتناسب مع طبيعة وكمية مستحصل الانتاج، وانه من الصعب اعتماد فئات معينة في العملية الانتاجية، بمعنى ان هذه الفئات المسنة باتت عبئاً على الدولة الرأسمالية المنتجة.. ثم لا احد ينسى كيف استخدمت امريكا لقاح (العقم) على انه لزيادة الإخصاب لنساء في امريكا الجنوبية، وخاصة نساء الهنود الحمر.!!

ثانياً- وتساوقت هذه المفاهيم مع نظريات سابقة تحدث عنها (مالثوس) وهو مفكر غربي وضع نظرية الابادة وجوهرها التبريري ان سلة الغذاء والزراعة باتت لا تكفي الاعداد المتزايدة من السكان وعليه يتوجب اقامة التوازن واحدى وسائل التوازن هي الحرب. ويتضح من هذه المقولات ان الغرب الرأسمالي لا يعير اهمية للبشر ولا للأنسانية بدليل انه يفتعل الحروب من اجل تصريف انتاج السلاح . فجائحة كورونا باتت مهلكة للبشرية. والرأسمالية وشركاتها العملاقة الخاصة بصناعة الادوية تحتاج الى تصريف منتجاتها ومستلزماتها الطبية، كشركات تصنيع السلاح عابرة للقارات التي تفتش عن اسواق لتصريفها – والتصريف هو افتعال الحروب في مناطق الاشتعال في العالم كالشرق الاوسط واسيا والبلقان على وجه الخصوص - وان شركات النفط معنية باستنزاف الموارد في مناطق النفوذ وتأمين الخزين الاستراتيجي للدول الغربية ومنها الولايات المتحدة الامريكية . هذه الشركات كلها هي التي تحكم امريكا، فالرأسمالية شركات وبيوتات مال وبنوك تحميها جيوش وتديرها ادارة مكلفة بالتنفيذ .

ثالثاً- وهنالك اشارة تطرق اليها الصهيوني (مناحيم بيغن) بشأن معهد وايزمن الذي اعلن بأن نسبة الولادات بين الفلسطينيين تزداد معدلاتها وهي كثافة مخيفة حسب تعبيره اذ تصل 2،7% وان الاسرائيليين نسبة الولادات لديهم 2،3%، وهذا يعني ان اليهود سيكونون اقلية خلال عشرين سنة .. والاشارة هنا الى الدعوة لإبادة الفلسطينيين في حروب او تهجير قسري او تجريف. وهذا ما دأبت عليه سلطات الاحتلال الأسرائيلية المحتلة منذ عام 1948 ولحد الآن . فالنظم الرأسمالية لا تخرج عن نطاق مفاهيم الحروب والتحكم بمصائر الشعوب والسيطرة على ثرواتها منذ ان حل الاستعمار وتربعت على ارثه الاجرامي الامبريالية التي هي اعلى صورة للأستعمار القديم في العالم . وكما حلت الابادات ضد الانسانية في افريقيا وفي البوسنة والهرسك تحل في الوطن العربي وخاصة في سوريا والعراق تحت يافطة واسعة من المفاهيم والمبررات .

رابعاً- في زمن (جائحة كورونا) الراهن تكشفت نزعة الأنا الرأسمالية المتضخمة التي اتخذت في بعض اوجهها قرصنات في عرض البحار يتم الاستيلاء على شحنات الطوارئ الطبية ومستلزماتها العاجلة الانسانية .. واخضاع الطلبات الانسانية المستعجلة والمرتبطة بأرواح البشر الى المناقصات الربحية، فضلاً عن نكث البعض لتعهداتهم وإلتزاماتهم في صفقات توريد السلع الطبية وتحويل سير السفن للذي يدفع اكثر وزيادة اسعارها وهي اساساً للضرورات الانسانية في ايطاليا واسبانيا والمانيا. واغلقت هذه الدول على نفسها ولم تستجب لا للعامل الانساني ولا للعامل الأخلاقي لدرجة لم تعد للروابط والاتحادات من معنى سوى معنى واحد هو الأقتصاد والكل متهالك على الاقتصاد حتى لو سحقت الشعوب وابيد البشر.. ولم يلمس دافع واحد للتعاون الجمعي على الرغم من ان الجائحة الكارثة تقتل الجميع بدم بارد. وإذا ما استجاب بعضهم فهو للدعاية. ولم يتحدوا في المختبرات ونتائج التجارب وتبادل المعلومات والخبرات والخبراء، ولم يجمعهم مجلس عالمي للطوارئ وظل العالم مجرد (كانتونات) وحجر صحي وصفقات، وعدم تقدير الموقف الصحيح في مسائل الحظر والانفتاح والعكس تزايد موجات قادمة بكثافة نتيجة الاستهتار بقيم المجتمعات ووجودها. والغريب في الامر، ان بعض الدول تعتقد بأن وفياتها لا تشكل إلا نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بالخسائر الاقتصادية .. والبعض الاخر يرى ان خسائر مليون انسان يعد لا شيء إذا ما تمت المقارنة بعدد السكان الذي يصل الى (مليار ونصف المليار) . ولكن الخسائر البشرية تكون فادحة اذا فقد ذلك البلد نصف مليون وتعداد سكانة خمسة ملايين نسمة. هكذا بدأ الغرب وبعض الدول الكبرى والاقليمية تفكر، فيما عمل الغرب على نزع اجهزة التنفس الاصطناعية من كبار السن انتزاعاً وتقديمها لفئات عمرية اقل سناً، وذلك بدعوى ان هذه الاجهزة قليلة ومن باب أولى إسعاف الاصغر وترك المسن لمصير الموت المؤكد - لأنه مُستَهْلِكْ وغير منتج في بنية النظام الرأسمالي- . فهل ان هذه النزعة هي انسانية وهل يقبل بها العقد الاجتماعي وهل تقبل بها نواميس السماء.؟

خامساً- تدعي الدول الغربية وفي مقدمتها امريكا بأنها تفاجئت بوباء شرس بلغ مرحلة الابادة، واخذت تلوم غيرها لحد الشك والاتهام بالتستر والاخفاء المتعمد، ولكن اين امكاناتها وقدراتها وطاقاتها وتخطيطاتها الاستراتيجية وتوقعاتها وسيناريوهاتها، هل تبخرت امام خطر صغير لا احد يراه بات يهدد البشرية بالفناء بحيث اصبحت كل مختبرات العالم وعلماؤها اقزام امام هذا الصغير المتخفي.؟ فلماذا لم تستعد الدول العظمى والكبرى وغيرها لهذا الوباء ما دامت تعرف عنه وعن سلالاته وسلوكه وتطوره وقدراته الخارقة على الاختفاء والإيهام ومنذ ما قبل وباء (سارس) الذي ظهر عام 2012، ثم لماذا لم تدرس احتمالات ظهوره بطفرات جديدة، ليتم التهيؤ لها دراسة واختباراً واستعدادا.؟

سادساً- الآن، ظهر دافع تصدير الازمات المستعصية الى الخارج لإيجاد الحلول لها أو لإسكات الاصوات المطالبة بالحقيقة أو العمل على مخرجات نظرية المؤامرة وخلط الاوراق بأن ما يجري هي حرب عالمية ثالثة تسمى حروب السلاح الفايرولوجي المقترن بعامل الصراع (Geo- economy)، وليس (Geo-policy) .!!

سابعاً- ما يجمع اوربا على قاعدة العمل المشترك كان التكامل الاوربي ووحدة اليورو من اهم العوامل التي غابت عنها النظرة المشتركة للتحديات والمخاطر المشتركة. أوربا ترى مخاطر في مناطق العالم المختلفة واخطرها في منطقة الشرق الاوسط / توسعات وتهديدات وصواريخ واسلحة غير تقليدية يتم التلويح بها/ ومع ذلك، فأوربا منقسمة بين صامت ومتحدث عن سلطة المصلحة الاقتصادية المنفردة وليس في ظل سلطة المصلحة الاوربية العليا. / إذ ليس هناك تضامن حقيقي مالي ولوجستي يتعلق بالأزمات وحالات الطوارئ/ وان ترسبات عدم الشعور بالتحديات الخارجية يفتح الباب على اوربا بتدفقات الهجرة الملغومة بالأرهاب والارهابيين وبالوباء المستشري. ومع ذلك ما تزال اوربا تتمسك بـ(الأقتصاد) مع اخطر بؤرة في الشرق الاوسط .

ثامناً- ان اخطر ما يعرض الكتلة الاوربية هو ان تشعر احدى دولها بأن بقية اعضاء الاتحاد او بعضها قد تخلوا عنها، هنا يبدأ الشعور بالإنفصام بين السياسة والواقع، وخاصة اختفاء قاعدة جوهرية يسمونها اجراءات السلع اللوجستية في زمن الحرب. هذه القاعدة يبدو انها قد اختفت في زمن الجائحة المستشرية في العالم .

تاسعاً- الكل الان يبحث عن مخرج منفرد، والإشكالية عامة خطرة. فكيف يمكن ان تكون الجهود الانفرادية مثمرة حين تكون تعمل بين جدرانها المحدودة دونما انفتاح على جهود ونتائج المختبرات الاخرى التي يجب ان تعمل كفريق واحد وتحت قيادة مركزية واحدة قادرة على صنع القرار في زمن تتهدد فيه البشرية من على سطح الأرض؟، اما الدخول في حروب جانبية واتهامات سياسية دون قرائن وادلة علمية، والوباء العالمي يحصد البشر ويزداد بموجاته المتطورة، فهو الغباء السياسي والهراء الاخلاقي اللذين تفرزهما الرأسمالية العالمية في كل مرة تمر بمأزق وركود وكساد بعد سلسلة من الحروب .

 

د. جودت العاني

24/04/2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم