صحيفة المثقف

الإكليروس في الرواية العراقية

عبد الجبار الرفاعي

لا أكتب خارج اختصاصي، ولا أتطفل على ما هو غريب عن اهتماماتي، لذلك أعتذر عن المشاركة في كثير من المؤتمرات والندوات التي ليس لدي رأي أقوله فيها. أهتم بالروايات، وأقرأ ما أجده لافتًا مما يصدر منها، وأتابع أغلب ما يكتب عنها، لكني لست ناقدًا أدبيًا. وهكذا أهتم بالفنون، واحتفظ في بيتي بعدد من اللوحات المشتراة والمهداة لرسامين أتذوق فنونهم، غير أني لم أكتب عن هذه اللوحات الجميلة.

د. مسار غازي أستاذة في جامعة ذي قار، المحافظة التي ولدت في احدى مدنها "الرفاعي"، وأكملت الثانوية في أحب مدنها إلى نفسي وأعمقها رسوخًا في ذاكرتي "الشطرة"، إذ كانت هذه المدينة قبل نصف قرن من أشد مدن جنوب العراق توقدًا بحيويتها السياسية وحضورها الثقافي والأدبي المتدفق. في مكتبة الشطرة تعرفت على كتابات علي الوردي وغيرها، وفي الثانوية ولدت صداقاتي الصادقة الأولى بمجموعة من الأحبة من مدينة الجبايش والفهود والدواية وغيرها من مدن ذي قار. عسى أن تمهلني الحياة لأكتب عن تلك الأيام الموحية، وأولئك الناس المضيئين، الذين غبت عنهم وغابوا عني منذ سنة1973  بعد اكمال امتحانات السادس ثانوي، ثم ذهابي للدراسة ببغداد.

بادرت مسار غازي فبعثت لي مشكورة بكتابها "الإكليروس في الرواية العراقية"، منذ مدة طويلة نسبيًا، وكانت تتطلع لرأيي فيه. وضعتني مسار غازي في اختبار لا أستطيع اعتذاره، لأني أرى دعم الجيل الجديد ورعايتهم العلمية وتنمية مواهبهم ضرورة يفرضها ضميرنا الوطني.

أصل كتاب مسار غازي اطروحتها للدكتوراه المناقشة بداية هذا العام في جامعة القادسية في العراق. مكث الكتاب يترقب دوره في سلسلة التزاماتي اليومية ومشاغلي الكتابية، خصصت يوم أمس للغوص في موضوعاته من المقدمة الى الخاتمة، عشت معه لحظات بهيجة. يقع الكتاب في 500 صفحة، برعت الكاتبة في بناء خطة البحث، وتنظيم مباحثه منطقيًا، والكتابة بالتفصيل عن موضوعات كل مبحث. وظّفت مسار تكوينها الرصين، وخبرتها اللافتة في استيعاب مناهج وادوات أنتجتها الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، لقراءة وتحليل عدد كبير من الروايات العراقية.

1562 مسار غازي 1

فوجئت بشجاعة مسار غازي في اختيار "الدين والمقدس" موضوعًا لبحثها، وهو موضوع كان ومازال يتحاشى أكثر تلامذة الدراسات العليا اقتحامه، مثلما يتحاشى الأساتذة توجيه تلامذتهم لاتخاذه موضوعًا لرسائلهم الماجستير وأطروحاتهم الدكتوراه، لئلا يتعرضون للاتهام.

يرى فوكو أنه حيثما تكون السلطة تكون المعرفة، وحيثما تكون المعرفة تكون السلطة، ففي رأيه "السلطة ليست في مكان واحد، إنها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد، في صاحب الفرن الذي يبيع الخبز للسجن، ويشعر بالفرح لأن السجن موجود".كانت مسار غازي ذكية في تطبيق نظرية ميشيل فوكو لاكتشاف تمثلات "الدين والمقدس في الرواية العراقية"، في ضوء الصلة العضوية بين "المعرفة والسلطة"، وكيفية انتاج السلطة لمعرفة من جنسها ترسخ حضورها، وانتاج المعرفة لسلطة من جنسها تتجذر فيها،  وحاولت أن تكشف عن كيف تنبث هذه السلطة في كل مؤسسات المجتمع والدولة، بأشكال "ميكروفيزيائية" دقيقة، وتحدثت عن كيفية ممارسة السلطة "المراقبة والمعاقبة" والقمع بصيغ مختلفة،  وأوضحت كيفية افصاح السلطة عن نفسها بأشكال متنوعة ومتعددة ومتغيرة.

1562 مسار غازي 2

هذا الكتاب جدير بالعناية والاهتمام، بوصفه مغامرة جسورة في البحث العلمي، آمل أن يتخذه الباحثون من الجيل الجديد في وطننا نموذجًا في كيفية توظيف علوم الإنسان والمجتمع الحديثة لدراسة تمثلات الدين في حياتنا، والتنقيب عن تغلغله في مختلف مؤسسات السلطة والدولة والمجتمع.

الدين مكون عميق لماضينا وحاضرنا، متغلغل بكل شيء في حياتنا، لا يتحقق فصل الدين أو وصله بحياتنا بقرار نتخذه. قراءة نصوص الدين برؤية تنتمي للتراث أهم أسباب الانسداد في حياتنا. يفرض الواقع اعادة قراءة نصوص الدين برؤية تنتمي إلى عالَمنا، كي تنتج المعنى الديني المتناغم مع ايقاع حياتنا.كل محاولة لإعادة البناء التربوي والتعليمي، واعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع لا تبدأ بإعادة بناء التفكير الديني تموت لحظة ولادتها، لأن الدين والمقدس يتغلغل في كل شيء في حياتنا.

أقترح على د. مسار غازي:

1- تبديل عنوان الكتاب من: "الإكليروس في الرواية العراقية"، إلى: "الدين والمقدس في الرواية العراقية". "الإكليروس" مصطلح ينتمي لسياق لاهوتي كنسي، وكل لاهوت يعبر عن نفسه بمصطلحاته الخاصة، مصطلحات كل دين مشتقة عادة من المعنى الديني والفضاء الروحي الذي تنتج فيه، لذلك لا يصح أن نستعمل مصطلح "قس" لرجل الدين المسلم، أو مصطلح "كنيسة" الذي هو بيت عبادة المسيحي، لبيت عبادة المسلم "الجامع"... وهكذا.

2- العمل بتبصر صبور على تحرير الكتاب وتهذيبه وتنقيحه من جديد، واختزل مباحثه وتكثيف عباراته بدقة، وتدقيق الأخطاء المطبعية وغيرها،كي يكون الكتاب أكثر دقة ورصانة في نشرته البيروتية القادمة.

3- الاقتصاد في الاقتباس، وتنصيص بعض الاقتباسات المهملة بلا أن تحصر بين هلالين.

4- اعادة اخراج الكتاب فنيًا، بالشكل الذي يتناسب من المعايير الفنية في الاخراج الحديث للكتب.

5- اعادة طباعة الكتاب في دار نشر لبنانية معروفة،كي يصل للقراء العرب في مختلف البلدان.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم