صحيفة المثقف

التواطؤ البريء

صحيفة المثقففي لحظات حنين لماضٍ عشناه نشعر بحاجة لاسترداد بعض الأحداث التي علقت في الذاكرة وأبى الذهن أن يمحو ملامحها. علقت وتعلّقت بأهداب يوميات الراهن رغم سقوطها في بئر عميق شحيح المياه كريم الحجر، إنه الزمان. ورغم ذلك أيضا فإن تيار الزمن يعود بنا إلى تلك اللحظات وكأنها ومضات تذكّرنا بجميل عصر عشناه لا يمكن حتى أن نماثله براهنية عصر نعيشه.

وفي لحظات استرخاء الذهن نعود بمشاعرنا إلى تلك التجربة التي عادة ما توّثقها براءة عمر الطفولة فترسم في ثغورنا ابتسامة تغزو المحيى وتستفرد بالذات عما يحيط بها.

كنت تلميذة في الطور المتوّسط وكان يجلس إلى جانبي في الطاولة تلميذ تعمّدت أستاذة الفرنسية دون غيرها أن تجلس التلاميذ ذوي المستويات الضعيفة إلى جانب التلاميذ النجباء، وكان ذلك التلميذ من نصيبي شاركني طاولتي وفرّقني عن صديقتي وقد كنت أنزعج لذلك. كنت أحب حصة مادة الفرنسية وأستاذتها إلا أنني كنت أمتعظ لفكرة أن يفرض عليك جليسك.

لم يكن لذلك التلميذ أي حضور بالنسبة لي ولا حتى هو كان يتوجس من جلوسه إلى جانبي، لم يتجرّأ يوما على الحديث معي. لقد كنت نجيبة القسم وزعيمته وصارمة مع الأولاد حد الإقصاء.

ولكن يوما من أيّام حصّص الفرنسية، كانت الأستاذة تأمرنا بإحضار اللوحات التي نكتب عليها بالطباشير في حصة النحو والصرف، وكانت تعاقب بالضرب كل من ينسى لوحته أو يخطئ في الإجابة. لم أنتبه أنني قد نسيت اللوحة وما إن طلبت الأستاذة من التلاميذ إخراج لوحاتهم حتى تملّكتني حمى جعلتني أشعر بتوهج وحرارة في وجهي وكنت أتصّبب عرقا.

يا إلهي لقد نسّيت اللّوحة ستضربني الأستاذة، أي حرج أمام التلاميذ وأنا زعيمتهم وكليمتهم، القول قولي والفعل فعلي، ماذا أفعل الآن؟ ثم كيف يمكن لأستاذتي المحبّبة أن تضربني؟ إنه حرج بالنسبة لي ولها أيضا. أعرف أنها لو ضربتني سوف تضربني  وهي منزعجة، كيف أخرج من هذا المأزق؟

جليسي ذلك الذي كنت لا أشعر به، أصبح حضوره يتراءى. لأول مرة نظر إلي وقال لي: هل نسيّتِ لوحتك؟ أجبته مستغربة ومتهكّمة نعم وبعد ماذا هناك؟ قال: يمكن أن نعقد اتفاقا بيننا إن وافقتِ. أي عهد أو عقد أو اتفاق قد يربط بيننا؟ لم آخذ كلامه على محمّل الجد، ثم قلت في نفسي لن أخسر شيء إن استمعت له، أنا في كل الأحوال سأُضرب أمام الجميع. قلت ما اقتراحك؟ قال أعطيكِ لوحتي وأضرب مكانك على أن تعطيني الإجابة عن كل سؤال تطرحه الأستاذة؟ توقفت برهنة ودونما تفكير قلت له اتفقنا، لم أصدق أنني تخلّصت من إمكانية الضرب، لم يكن يهّمنِ ألم الضرب كما الشعور بالإحراج.

وحقا قال للأستاذة لقد نسّيت لوحتي وصعد المنصة مع الذين وقعوا في فخ النسيان، وأخذت تضربهم الواحد تلوى الآخر وأنا أنظر، ولكن ذلك التلميذ الذي لم أكن أهتم لأمره كان كلما ضربته الأستاذة كلما شعرت أنا بالألم، حينها قلت ليتني لم أوافقه في اقتراحه، أنا في كل الأحوال لم أكن أخفي عليه لوحتي وإجابتي، ولكنني أيضا لم أكن أكشفها له.

عاد ذلك التلميذ إلى مكانه وجلس إلى جانبي، شعرت بالذنب وأنبّني ضميري قلت له هل تألمت؟ أجابني بنبرة رجولية غير مبالية: طبعا لا. ثم أردف يسأل ستطلعيني على الإجابات، قلت له نعم لا تقلق وهكذا أرّد ديني. حينها كان يكتب على غلاف دفتر له ويرفعه بكل ثقة وبلا خوف. أدركت أنه تلميذ ذكي، لقد ضرب مرّة وتجنّب الضرب عدّة مرات التي كان سيخطئ فيها الإجابة، في عرفنا نقول" ضرب ساعة ولا كل ساعة". عندها شعرت بارتياح كبير وإذا به يقول لي: في كل مرة تنسّين فيها لوحتك تذكري أني موجود. تبسمت وقلت له حسنا هذه لن أنساها.

وبعد سنين عديدة مرت التقيت صدفة مع ذلك التلميذ، اليوم أصبح رجلا ناضجا كان يمسك بيد طفل يحمل على ظهره محفظة، إنه ابنه. نظر إلي وسألني عن أحوالي، تبادلنا أطراف الحديث ثم افترقنا، حينها قلت في قرارة نفسي ماذا لو أني أخبرت ذلك التلميذ الصغير كيف كان والده وهو تلميذ؟

بينما اليوم هو يمسك بيده متوّجها به إلى المدرسة لعله يفهم ما لم يفهمه والده ويتجنب نفس مصيره. قلت ذلك في نفسي وأكملت طريقي، وإذا بي ألتقي أيضا وصدفة بصديقة الطفولة، لكن هذه المرة صديقة الطور الابتدائي، على ما يبدو أنه يوم الالتقاء بالأصدقاء. لقد كانت صدفة جميلة وربّ صدفة خير من ألف ميعاد.

التقيت بصديقتي وكانت أيضا مع ابنتها عند موقف الحافلات وقد كنت أنا أيضا متوّجهة إلى هناك. وكم كانت فرحتها وفرحتي بلقيانا، في تلك المدة التي انتظرنا فيها الحافلة اختصرنا عمرا من الذكريات قد مضى. ثم حولت نظري لابنتها التي قبّلتها وسألتها عن مستواها الدراسي وعن كفاءتها، فقالت لها أنظري هذه صديقتي كنت أدرس معها هي أكملت دراستها ونجحت، وأنا أنظري لحالي، واسترسلت تشكو حالها وسوء أحوالها، ثم قالت لها كوني مثلها واهتمي بدراستك فرق كبير بيني وبينها.

هنا تدخلت مقاطعة إياها وعرضت عليها مقايضة كتلك التي عرضها علي زميل اللوحة والضربة. قلت لها ما رأيك أن نتبادل المهام والمسؤوليات أعطيك محفظتي بمشاغلها وامتيازاتها وتعطيني ابنتك بمشاكلها ومستلزماتها. نظرت إلي ودون تفكير قالت طبعا لا وضمّت إليها ابنتها. حينها قلت لها: عليك بالرضا بما عندك لأنها نعمة إن نظر إليها فاقدها حسدك عليها. فهمت قصدي وأطرقت رأسها وقالت لي: صح عندك الحق الحمد لله.

المسكينة شعرت بالشفقة عليها، ولا أدري من المسكين حقا هي وصاحب اللوحة أم أنا، عدت وقلت في نفسي هل علي أن أجبر بخاطرها، نعم علي ذلك، عندها قلت لها: أسأل الله أن تكون ابنتك أحسن مني ومنك. في تلك اللحظة رفعت رأسها ونظرت للسماء متوّسلة وقالت: آمين، آمين.

ابتسمت هي ورضيت وفرحت أنا ثم وكأنني استفقت من حلم، يا إلهي لقد تأخرت على العمل والحافلة لم تأت بعد، قلت لها لنذهب في سيارة أجرة قالت لا لست مستعجلة سأنتظر. ذهبت لحال سبيلي وتركتها تنتظر وأنا ما كنت أبدا أحب الانتظار لولا وجودها هناك الذي سلبني شعوري وإدراكي بالوقت ولأول مرة شعرت أن في الانتظار انتصار..

 

د. أمينة بن عودة -  جامعة معسكر

الجزائر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم