صحيفة المثقف

شرقنا والغيبيات: عبر منظور استشراقي

محمد الدعميومن أهم الأخطاء والتشويهات التي ساعدت على المزيد من الحرف إنما قد تجسد في ميول المستشرقين إلى الادعاء بأن أولي الأمر عبر الدول العربية والإسلامية على حقبة القرون الوسطى كانوا يعتمدون الغيبيات والخرافيات في إدارة شؤون بلدانهم ورعيتهم.

قادني تخصصي العلمي الدقيق في أدبيات “الاستشراق” إلى إيجاد العشرات، بل والمئات من المثالب في طرائق تفكير العقل الغربي (المثقف خاصة) بعالمنا العربي والإسلامي، ماضيا وحاضرا. وإذا ما لاثت بعض هذه الأفكار والتشويهات طرائق الاستقبال والتعامل الغربي مع تراثنا وعالمنا، فإنه قد وجب على المرء استمكان ورصد، ثم تصحيح هذه الأفكار وتصويبها على سبيل هدف أبعد وأسمى بكثير من التشويهات ومطلقيها، وهو، بلا ريب، هدف التفاهم الثقافي والحوار الدولي على سبيل بلوغ عالم أكثر سلاما وتقدما.

من بين أهم الأفكار التي أشاعها المستشرقون والمستعربون (بقصد أو بغير قصد) هي فكرة اعتماد الدولة العربية الإسلامية على “الغيبيات” عبر التاريخ، ليس فقط في مراحل تطورها عضويا في دواخل جسد التاريخ الكوني، ولكن كذلك في طبيعة سياساتها، ماضيا، بل ومعاصرا. والحق، فإن دراستي العلمية الدقيقة لنصوص مستشرقين كبار دلَّت على أنهم (وإن لم يكونوا متحاملين) كانوا يؤمنون بأن الدولة في الشرق العربي الإسلامي كانت عبر الماضي، ولما تزل تعتمد الغيبيات في تشكيل سياساتها وإدارة دفة حكمها. والحق، فإن الكثير من هذا النمط من سوء الفهم وسوء التقديم هذا كان قد وجد جذوره، ليس في الواقع الملموس الذي وقف المستشرقون والمستعربون عليه بشكل مباشر، وإنما وجد هذه الجذور ضاربة في عدد كبير من المؤلفات والنتاجات الثقافية العربية الإسلامية، خصوصا عن طريق “حكايات” (ألف ليلة وليلة) الفلكلورية. وإذا كانت جوهرة المأثور الشعبي أعلاه قد اعتمدت للتسلية منذ القرون الوسطى في أوروبا وأميركا الشمالية، فإن الخطأ الشنيع الذي ارتكبه العقل الغربي إنما قد تجسد في اعتماده (الليالي العربية)، كما أسموا هذه الحكايات هناك، كوثائق اجتماعية، وثيقة تقدم صورا واقعية (طبق الأصل) للكيفية التي عاش عليها وبواسطتها الحكام والرعية في العصر الوسيط عبر العالم الإسلامي (عصر تأليف ونشر الليالي).

ومن أهم الأخطاء والتشويهات التي ساعدت على المزيد من الحرف إنما قد تجسد في ميول المستشرقين إلى الادعاء بأن أولي الأمر عبر الدول العربية والإسلامية على حقبة القرون الوسطى كانوا يعتمدون الغيبيات والخرافيات في إدارة شؤون بلدانهم ورعيتهم، درجة الادعاء بأن كل بلاط إسلامي أو عربي كان دائما ما يحتوي على موظف مهم للغاية، وهو شخصية “الساحر” أو “قارئ الفأل” أو “المتنبئ”، مدعين بأن أصحاب الحل والعقد حقبة ذاك اعتادوا استشارة “ساحر” أو “متنبئ” البلاط قبل الإقدام على أية خطوة مهمة تخص دولتهم ومصير الأمة، وهذه خطوات مهمة من نوع إعلان الحرب أو التعيينات وإدارة الحياة الاقتصادية. هذه فرية مرفوضة بطبيعة الحال، بدليل استهزاء أبي تمام بالأوروبيين في أجواء “معركة عمورية”، إذ إنه هو الذي انتقد، بل وتندر باعتماد دولهم على قراءة الفأل والسحر في القضايا الحاسمة، مقارنة بالدولة العربية الإسلامية، قائلا:

السيف أصدق أنباءً من الكتب / في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح، لا سود الصحائف/ في متونهن جلاء الشك والريب.

 

أ.د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم