صحيفة المثقف

أميرات الدولار!

منى زيتونمنذ أيام تصدر وسم لدعم الإعلامية المصرية رضوى الشربيني صدارة مواقع التواصل الاجتماعي في مصر. وبداية القصة أن الإعلامية كانت قد أدلت برأيها عن الحجاب في إحدى حلقات برنامجها، مشجعة المحجبات اللاتي يفكرن في خلع الحجاب بالعدول عن خلعه، ورغم أنها لم تدع غير المحجبات إلى ارتدائه ولم تذكر صراحة أنها ترى الحجاب فريضة إلا أن كلامها أشار إلى ذلك الاعتقاد بوضوح، وذكرت صراحة رأيها بأن عدم ارتدائه ليس سوى ضعف إيمان وتغلب للنفس الأمارة بالسوء –أو تغلب شيطان نفس غير المحجبة بحسب تعبيرها-؛ ومن ثم فالمحجبة أفضل من غير المحجبة.

وعلى الفور تلقت لجنة الشكاوى بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المصري عددًا من الشكاوى ضدها بسبب هذا التصريح، والذي اعتبروه مسيئًا، وفتحت بسببها تحقيق عاجل مع الإعلامية.

وكثر تداول الموضوع على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول النقاش حول رأي أدلت به إعلامية إلى قضية رأي عام، وكعادتنا فقد اتسع ذلك النقاش ظاهريًا فقط من حيث أعداد المشاركين فيه، وليس من حيث دلالة الفعل ورد الفعل، والذي أراه أكبر من أن يُحصر في نقاش حول الحجاب وكونه فريضة أم لا، أو مقارنة سلوك المحجبات بغير المحجبات، فما يحدث هو فصل جديد من فصول تبدل القيم في المجتمع المصري، وإذا تغيرت أفكارنا تبدلت سلوكياتنا بالتبعية، ولا ينبغي أن يمر علينا مرور الكرام في حديث عابر عن الحجاب، بل ينبغي التعمق وأن نفهم علاقة ما حدث بـ "الرغبة في التميز" وتبدل قيم "الأنا" لتتوافق مع "الهو".

الرغبة في التميز عن طريق الانتماء لجماعة

سبق وناقشت "الرغبة في التميز" في مقال قديم، وأعطيت أمثلة لطرق يحاول من خلالها أناس عاديون إشعار أنفسهم بالتميز من خلال الانتماء لجماعة ما، حتى أن بعضهم قد يرى نفسه مميزًا عن غيره لأنه من سكان العاصمة، وإن كان يسكن أحد أحيائها الشعبية!

والضيق من "مدح الحجاب" وتحويل الحديث إلى ذم المحجبات لأن بعضهن قد تفعلن كذا وكذا هو مثال آخر للأسباب التي قد تخترعها غير النابهات لنفخ ذواتهن الفارغة من كل قيمة؛ لأن الحجاب ذاته لا علاقة له بسلوك بعض من ترتدينه، كما أن سلوك من لا ترتدينه بوجه عام لا يمكن الجزم بأنه أفضل.

كما أنني لست أفهم كيف تبرر من لا ترتدي الحجاب ذلك في إطار حريتها الشخصية، في حين تتدخل دون خجل في حرية غيرها عندما تقررن ارتدائه، بل ويتدخلن في حرية إبداء إحداهن مدحًا له ولمن اخترنه!

ولكن كما أسلفت فهناك دافع حقيقي لسلوك التطاول على الحجاب والمحجبات يختلف جذريًا عن الخلاف الظاهري المدعى حول فرضيته أو الإدعاء بأن المسألة تقع في نطاق الحرية.

إن حالة الإفلاس الثقافي التي تستشري في المجتمع المصري اليوم جعلته مجتمعًا يعمه التظاهر؛ فلا قيم حقيقية أصيلة فيه تسوده، فإما قيم بدوية مستوردة وإما قيم أوروبية مستوردة، وهناك من يحاول الظهور بمظهر المثقف، فيختار التعارض الدائم مع رأي المتدينين، وطالما قلت إن التعصب يخلق ما يمكن أن نسميه بالعور الفكري، وهناك من يحاول الظهور بمظهر علية القوم، ولهذا التظاهر مستلزماته التي لا تفارقه، والتي تكشفه في آنٍ واحد. وكما يقول الشاعر: إذا ظهر الحمار بزي خيل *** تكشّف أمره عند النهيق!

ربما لم يسمع كثيرون منا بمصطلح "أميرات الدولار"، وهو مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر، تعبيرًا عن الفتيات الثريات من العائلات الأمريكية ذوات الأصول المتواضعة، اللاتي تم ترتيب زواج لهن من نبلاء إنجليز قليلي الثروة، فكان أول زواج بين الثروة والجاه في العصر الحديث. وكان من العلامات الفارقة لهن عن النبيلات الإنجليزيات أنهن كن يبالغن في الاعتناء بمظهرهن، وظهر ذلك جليًا في أعداد الأزياء الجديدة اللاتي كن يعددنها في كل موسم، والتكلف فيها، وتلك هي المفارقة، فبينما اعتقدن أن كثرة الأزياء وزيادة تكلفتها سترفع شأنهن كانت الكاشف الأول لحقارة أصولهن!

ومن يريد أن يرى كيف تعبر البساطة عن الرقي فليبحث عن صورة فستان خطوبة الأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد وشقيقة الملك فاروق لولي عهد إيران وقتها محمد رضا بهلوي. الفستان من قماش الساتن الأبيض الناعم، محلى بوردات مشغولة يدويًا، وأعتقد أن فتيات اليوم يستحيل أن ترضى إحداهن بمثل هذا الفستان الراقي البسيط في حفل عيد ميلاد لها فضلًا عن حفل خطبة.

ولمن لا يعلم فإنه حتى عقد السبعينات كانت كل سيدة في مصر تشتري لنفسها حوالي ثلاثة فساتين جديدة سنويًا في الصيف، وأقل من ذلك العدد في الشتاء، وبعضهن كن يُفصلن ملابسهن وملابس أفراد عائلاتهن، وكانت من تريد إبراز غناها تبرزه في صورة عاقلة بأن تقتني من الذهب والمجوهرات ما تدخره للزمن.

ثم تبدل الزمن منذ نهاية السبعينات، مع بداية ما عُرف بالانفتاح الاقتصادي، وكلنا يلمس كيف تحاول طبقة من محدثي ومحدثات النعمة اليوم الإنفاق ببذخ زائد على مظهرهم، ومحاولة التشبه بالغرب في ذلك المظهر، علمًا بأن الأجانب لا ينفقون معشار ما ينفق هؤلاء على المظاهر الفارغة.

وعودة إلى موضوع الحجاب لأقول إن عدم تحجب نساء هذه الطبقة يأتي غالبًا كحرص على إظهار رقي زائف باعتبار الحجاب –كما ترينه- يليق بالطبقات الاجتماعية الدنيا، لا بهن! ومثله في ذلك كثرة دس أغلبهن كلمات من اللغة الإنجليزية في حديثهن، وبلهجة عجيبة لم أسمع الإنجليز أو الأمريكان أنفسهم ينطقون بها! ومدح رضوى للحجاب والمحجبات كان سهمًا صُوب تجاه تميزهن المزعوم، وفضحهن رد فعلهن.

ولو وُجد معيار حقيقي تتميز هؤلاء التافهات باعتباره لما انشغلن بالتقييم على أساس التصنيف كمحجبات وغير محجبات، لأنه حتى الأجانب اللاتي يقلدونهم يرون ارتداء الحجاب كحرية شخصية ولا يحكمون على الناس من خلاله.

إن التميز الحقيقي الذي يحق للمرء أن يفتخر به هو ما صنعه بنفسه، وليس من خلال الانتماء لجماعة. إن الفتى من قال هأنا ذا **** ليس الفتى من قال: ذاك أبي.

عندما تصير "الأنا" "هو"!

في نظريته الشهيرة، حدد سيجموند فرويد ثلاث منظمات للنفس الإنسانية (الهو- الأنا- الأنا العليا)، وقرر أن الشخصية الفردية هي نتاج تفاعلها.

وبينما تكون الهو/الهي مستودع الغريزة والرغبات، ويسير وفق مبدأ "اللذة"، فلا ينشغل بخلق توافق بين الفرد والقيم الاجتماعية، ولا يعنيه إن كان تحقيق الرغبة في إطار يتفق مع القيم أو يخالفها، تكون الأنا في المقابل منشغلة بالتوفيق بين قيم ومعايير المجتمع وبين رغبات الهو، فهي تعمل وفق مبدأ "الواقع". أما الأنا العليا فتعمل وفق مبدأ "المُثل"، وتحتاج لتعمل بشكل جيد أن يتلقى الفرد تربية جيدة ملتزمة أخلاقيًا منذ صغره، تجعله ينأى بنفسه عن كل حقير من الفعل مهما كان متوافقًا مع هواه، وحتى إن سمحت به قيم المجتمع الذي يحيا فيه.

ووفقًا لرؤيتي فهناك محاولة حثيثة لخلق تبدل واضح في قيم المجتمع المصري والعربي، وتعديل قيم المجتمع لتحقيق أكبر قدر من التوافق مع غرائز ورغبات النفس. إنه تعديل "الأنا" لتصير "هو"! لأن القيم المجتمعية هي مرجعية "الأنا". وعندما تتوافق قيم المجتمع مع مبدأ اللذة –كما يريدون لها- سيصبح "الهو" متلبسًا قناع "الأنا" متحكمًا في الأغلبية منا، باستثناء من عصمهم الله وبقيت لديهم "الأنا العليا" قوية؛ لتكون الضمير في غياب القانون والناس وكل وسائل الردع الخارجية.

وقد يقول قائل إن ما يحدث من رفض للحجاب والاحتشام بوجه عام في بعض الأوساط المجتمعية هو تعارض ورد فعل لسلوكيات مناقضة صدرت من بعض المضطربين عقليًا الذين يجبرون النساء على ارتداء النقاب واللون الأسود خاصة، حتى إنهم قد يجبرون طفلات لم يصلن لسن المدرسة على ارتداء النقاب!

وبتعبير علمي، فإن الأنا العليا عند هذه الفئة الأخيرة تكون قاسية بالدرجة التي تخرج الفرد من عداد الأسوياء نفسيًا، وظاهريًا تكون قوية لا تسمح للهو بالسيطرة على النفس، ولكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، وقد يسقطون في كثير من الاختبارات الأخلاقية حين تخف سطوة المجتمع وتغيب الرقابة الخارجية.

والحقيقة التي تؤكدها الدراسات النفسية أنه بمقدار قوة "الأنا" واتزانها بين "الهو" و "الأنا العليا" تتكامل الشخصية. ومن هنا فألاعيب الحواة تعمل على إضعاف "الأنا".

وكثيرًا ما لا أجد فرقًا حقيقيًا بين أميرات الدولار المتحزبات ضد الحجاب ونساء الجماعة السلفية المنقبات من حيث دوافع السلوك، فالدافع وراء السلوك واحد وهو الرغبة في التميز من خلال الانتماء لجماعة، مع الفارق الكبير بين اعتقادات وسلوكيات كلا الجماعتين. إنها حرب نفسية بين حزب "الهو" وحزب "الأنا العليا"، وكلا الحزبين متطرف.

 

د/ منى زيتون 

الخميس 17 سبتمبر 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم