صحيفة المثقف

ابن شداد.. وللمعرفة ميدان

يسري عبد الغنيألف ابن شداد، بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع، كتابه (سيرة صلاح الدين الأيوبي) المسمى بـ (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسيفية)، والنسخة التي لدينا مذيل عليها منتخبات من كتاب (التاريخ) لصاحب حماه، تأليف / تاج الدين شاهنشاه بن أيوب، طبع بالقاهرة، سنة 1317 هـ .

وابن شداد من مؤرخي التراجم، ولد بالموصل العراقية سنة 539 هـ، وتعلم بها وببغداد، وتولى التدريس في الموصل سنة 569 هـ، وانتفع بعلمه كثير من الطلاب، وذاع صيته، ولما اشتهر به من رجاحة العقل وسداد الحكم، عهد إليه حاكم الموصل بالسفارة في أمور سياسية بالغة الخطورة والأهمية، ولما وقع من نزاع حاد بين صلاح الدين وأمير الموصل، أثناء قيام صلاح الدين بتوحيد الجبهة الإسلامية، أدى إلى التهديد بالاستيلاء على الموصل، فكان لزامًا على أمير الموصل التماس الوسطاء لتسوية هذا النزاع، وكان ابن شداد من بين هؤلاء الوسطاء، فعرف صلاح الدين عن قرب .

ويشير ابن شداد إلى أن ثبت في نفس صلاح الدين، في تلك الدفعة سنة 579 هـ مني أمره، لم أعرفه إلى بعد خدمتي معه، وبالفعل لم يفارق ابن شداد صلاح الدين ساعة من ليل أو نهار، حتى حضر وفاته سنة 1193 م، وبذل ابن شداد محاولات عديدة للتوفيق بين الأمراء الأيوبيين في مصر والشام، وتولى القضاء في حلب، وما حدث في حلب من اضطراب الأمور جعل ابن شداد يلزم داره، وأن يدرس الحديث النبوي الشريف لمن يقصده من المريدين .

وفي زمن ابن شداد نشطت حركة الدراسة والعلم بفضل ما أنشأه من مدارس، التي شجعها حكام هذا العصر وأمرائه، وبفضل مركزه الديني والسياسي، وكانت وفاة ابن شداد في حلب في سنة 632 هـ .

وعلى الرغم من مشاركة ابن شداد فيما وقع من أحداث، وعلاقته الطيبة الدائمة مع صلاح الدين وأولاده، واتصاله بالعلماء والفقهاء، وقيامه بالسفارات بين الأمراء، وتوليه مناصب رئيسية في الدولة، وكل ذلك يؤلف مادة تاريخية وخبرة، فإنه لم يؤلف في التاريخ إلا كتاب (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسيفية)، الذي يعتبر ترجمة لصلاح الدين، التزم فيه الأسلوب السهل والعبارة المحددة، ولم يلجأ إلى التعقيد والاسترسال مثلما نجد عند العماد الأصفهاني في كتابه (الفتح القسي في الفتح القدسي).

لقد اعتمد ابن شداد فيما أورده عن الأحداث السابقة على دخوله في خدمة صلاح الدين، على ما توافر لديه بعد 584 هـ من أخبار ومؤلفات تاريخية، أما القسم الثاني الذي يعتبر أعظم شأنًا من الناحية التاريخية، فيتضمن مشاهدات ابن شداد ومعاصريه الذين اتصل بهم عقب وقوع الحوادث .

ولم يكتف ابن شداد في الفترة الواقعة بين 1188 م و1193 م، بأن يعرض سجلاً أمينًا لما شهده من أحداث، بل إنه بفضل مكانته باعتباره صديقًا لصلاح الدين وملازمًا له في كل تحركاته، حتى يوم وفاته، أوقفنا على ما اشتهر به من بصيرة نافذة في إدراك الحوافز، التي أنارت لصلاح الدين في كثير من القرارات الأخيرة، على أن ما أورده ابن شداد من أخبار عن الفترة الواقعة بين 1169 م و1188 م، يعتبر فيها مصدرًا ثانويًا، ولم يكن ينجو من الأخطاء في تفاصيل الحقيقة والتاريخ .

هذا، وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة سشيلتينس في ليدن الهولندية من سنة 1732 م إلى سنة 1755 م، وترجمه إلى الإنجليزية كوندر سنة 1897 م، في مجموعة : جمعية دراسات حجاج فلسطين تحت عنوان (حياة صلاح الدين)، ونشر أيضًا في مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية، المؤرخين الشرقيين، الجزء الثالث، أن لكتاب (النوادر السلطانية) لابن شداد، طبعة قام على تحقيقها ونشرها أستاذنا الدكتور / جمال الدين الشيال (رحمه الله)، وصدرت في القاهرة سنة 1965 م .

ويجدر بالذكر هنا أن لابن شداد كتابًا أو كتيبًا أعده خصيصًا لصلاح الدين الأيوبي، بعنوان (فضائل الجهاد)، جمع فيه العديد من الأحاديث النبوية المطهرة التي تحث على الحرب وجهاد الأعداء، وقد أراد بذلك أن يحث ويشجع على مواصلة حربه ضد الصليبيين، حتى ينجح في طردهم نهائيًا من بلاد الشام .

وواقع الأمر يقول أن ابن شداد كان بمثابة المعلم والموجه والمستشار والسفير لصلاح الدين الأيوبي، لذلك كتب عنه بحميمية شديدة، ورأى فيه أنه المخلص الحقيقي من عدوان الصليبيين، بل هو مفتاح وحدة البلاد الإسلامية .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم