صحيفة المثقف

بهجت عباس: حدث في كوبنهاگن

بهجت عباستعرّفتُ عليه في المؤسّسة العامة للأدوية حيث كان يعمل فيها مديراً لمخزن رقم (4) منذ عام 1966 .كان إنساناً لطيفاً مرحاً اقترب من السبعين، جاء إلى العراق في أوائل القرن العشرين وهو فتى يافع هرباً من مجزرة الأرمن المعروفة في تركيا التي حدثتْ في عام 1915. مارس مهنة الصيدلة وفتح مذخر أدوية  واستورد مادة الكورتيزون من شركة دنماركية وكان ربحه كثيراً كما يقول، وبعد تأميم الأدوية انقطعت علاقته بها حيث اقتنع براتب الوظيفة التي لاتكلّفه جهداً كبيراً. كان تَردادي إلى هذا المخزن مستمرّاً لأنّ أدوية الشركة (إ. ميرك) التي كنتُ أمثّلها موجودة فيه وكان عليّ معرفة كميّاتها الموجودة وتعقّب طلب الصيادلة منها مادة مادة لأطلب من المديرية العامّة للأدوية (كيماديا) استيرادها قبل أنْ تنفد . لماذا يا عزيزي يروانت لا نذهب إلى كوبنهاگن لنسأل (شركتك) فيما إذا كانت لديها رغبة في تصدير هذه المادّة ونشترك في الربح الناتج؟ هكذا قلت ُ له في غمرة نشوة. وجدها فرصة ليس فيها أي جهد أو خسران حيث سيبقى في وظيفته وأنا أطلب من شركة ميرك أن توافق على إضافة هذه المادّة (الكورتيزون) إلى المكتب حيث لا تتعارض مع موادّهم ، فلربّما يوافقون، هذا كان ظنّي أو هكذا تخيّلتُ . سّر يروانت لهذه الفكرة فقد كان يرغب في السفر بصحبة من يساعده في أمور السّفر ليشاهد برلين وكوبنهاگن في الوقت ذاته. فكان السّفر إلى الدنمارك بعد أن اتّصل بمديرأو مالك شركة (فريدريكسبرغ- هكذا اسمها كما أتذكّر) فرحّب الرجل بزيارتنا. شددنا الرحال في صيف 1968 إلى كوبنهاگن الجميلة التي كنتُ أتلهف لزيارتها فوصلناها مساءً واخترنا فندق  Dunn Hotel وهو فندق جيد لا يبعد عن المطار كثيراً، ولكنّ موظّف الاستقبال/الحجز اعتذر بلطف عن عدم وجود غرفة خالية قائلاً: إنّ غرف الفندق محجوزة لسيّاح  سيأتون هذه الليلة، فكانت الحيْرة. ولما رآنا حائريْن وعرف أننا سنقابل مدير شركةٍ غداً (عطف) علينا وقال: سأعطيكم غرفة لهذه الليلة وغداً تغادران. شكراً يا عزيزي وسنكون ممتننيْن لك، هكذا أجبتُ. قلتُ لصاحبي ونحن في غرفتنا الجميلة: عزيزي يروانت، لا تتكلّم كثيراً حول مشروع عملنا المُنتَظر أو في السياسة ، فقد تكون هناك كاميرة خفيّة أو لاقطات صوت لاستراق السَّمع . لم نكن نتكلّم في المواضيع الحسّاسة ونحن في مكان لا نعرف عنه شيئاً. في الصباح ونحن بانتظار مدير شركة فريدريكسبرغ الذي أخبرنا بأنه سيأتي إلينا قال موظّف الاستقبال بلغة عربية : هل أعجبتكما الغرفة؟ استغربتُ وقلتُ نعم، ولكن كيف تعلمت العربية؟ قال: إنني إسرائيلي! فبُـهِـتُّ واستطرد : إذا أردتما المكوث بها يومين آخريْن فبإمكانكما البقاء. فوافقنا. كان هذا بعد (انتكاسة) الخامس من حزيران عام 1967 بسنة واحدة عرفتُ أنّهم (يزرعون) مثل هذا الشخص وربّما بعض الفتيات الحسان للتجسّس على الصفقات التجاريّة والعسكريّة والفعّاليات الأخرى التي يقوم بها (قادة) العرب دون أن يعرفوا أنّهم (عراة) أمام جبروت الاستخبارات الأجنبيّة. جاءنا مدير شركة فريدريكسبرغ إلى الفندق وكان إنساناً لطيفاً وأخذنا إلى مقرّ شركته وكان ترحاب وحديث ووافق على العمل معنا ولكنّه قال: إنّ شركته صغيرة لا تتحمّل مصاريف فتح مكتب لها في العراق، ولكنْ سيتّصل بشركة أخرى أو بشركات أكبر من شركته ليسهل فتح مكتب يضمّهم جميعاً، فوافقت فوراً. إتّصل بشركة (ليو  leo ) كبرى الشركات الدنماركية للأدوية، وقال إنّهم يرغبون في سوق لهم في العراق، فكان لقاء مع مدير شركة ليو مستر بلوم ومساعده في مطعم جميل على بحر الشمال. قال مستر بلوم: إنّكما إثنان، فأنت وأشار إليّ، ستكون مدير المكتب الفعّال وستقوم بمراجعة الدوائر الرسمية وغير الرسميّة لتنجز المهمّات المتعلّقة بالاستيراد والدّعاية والمبيعات، وأنتَ، يا سيّد يروانت، ما دورك في هذه العمليّة؟ أجاب يروانت باضطراب واضح بأنّه سيقوم بتعليم وإرشاد موظّفي المكتب وكيف سيقومون بدعاية الأدوية وأضاف بأنّه هرب وهو صبيّ يافع من تركيا لأنّه لم يقل (لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله)! صُدِمتُ ولاح وجوم على وجهي، فليس هذا كلاماً يقال في هذه المناسبة، ولا ضرورة لقوله هنا سوى استدرار العطف عليه، ولم يدرِ أنّ مستر بلوم يهوديّ!  أجابه هذا الأخير أنّه زار العراق مرّتين فوجد المسلمين (ألطف) من المسيحيّين! (لا أوفق طبعاً على هذا التفريق بين الأفراد حسب الأديان أو الطوائف من ناحية، والتعميم خاطئ من ناحية أخرى، فقد يكون أحد الطرفين ألطف من الآخر معتمداً على الشخص نفسه، ولكنّي أذكر ما وقع ذلك الحين بالتمام خدمة للحقيقة والتاريخ). بعد الغداء زرنا بعض أقسام المصانع حيث أنتجوا قبل بضع سنواتٍ من زيارتنا المادّة الفعّالة الأنتيبيوتك فيوسيدين Fucidin وكان منها حبوب ومراهم. وكان اللقاء الآخر في اليوم الثاني. حيث سألني المستر بلوم عن ارتباطي بشركات أدوية فأخبرته بعلاقتي بالشركة الألمانية أ. ميرك فطلب منّي أن أقطع العلاقة معها إن أردت العمل معهم واستطرد قائلاً إنّ ثمّة شركة دانماركيّة أخرى ستنضمّ أيضاً إلى المكتب وهي شركة گادكس، ليكون المكتب الجديد يضمّ ثلاث شركات دانماركيّة وسيكون العقد موقّعاً بيني وبينهم. أما السيّد يروانت، فستكون علاقته بي وحدي وليس معهم. كتبوا العقد وكان العرض سخيّاً لم أستطع رفضه، ولكن كيف سأتخلّص من ميرك وكيف أقنع يروانت بأخذ بعض الـ(الحصّة) وليس الشراكة، هذا ما فكّرتُ به كثيراً. وكان أولاً العقد الذي بعد أنْ وقّعه الثلاثة أخبرتهم بأن يمهلوني بضعة أيّام للتباحث مع شركة أ. ميرك قبل أن أوقّع عليه فيكون نافذاَ. وهكذا كان. قلتُ للسيد يروانت: جئنا إلى هنا وفي النيّة الاتّفاق مع شركة فريدريكسبرغ فقط ولكنّ الأمر تغيّر وتطوّر. فليس من المعقول أن أترك عملي مع ميرك وراتبي  والامتيازات وأعطيك نصف الأرباح الناجمة عن عملي للشركات الثلاث وأنت لا تؤدي أيّ فعّالية في المشروع، كما إن الشركات وقّعوا العقد معي فقط ولم يرضوْا أنْ يكون ثمّة آخر معي إضافة إلى كونك موظّفاً في المؤسًسة العامة للأدوية وتتقاضى راتباً فالمسألة هنا تغيّرت عما خطّطنا له من قبل. لذا لديّ اقتراح بأنْ أعطيك ثلاثة أضعاف راتبك الشهري الذي تأخذه من كيماديا على أن تترك وظيفتك ونسجّل المكتب باسمك رسميّاً وأنا أديره وأتكلّف بكلّ الأعمال المتطلّبة ، هذا إن وافقوا، أو أن تتسلّم الأرباح الناجمة عن شركتك السابقة فريدريكسبرغ ولا علاقة لك بما سيكون من أمر الشركتين الآخريين وسيكون تسجيل المكتب باسمي، هذا إنْ قطعتُ علاقتي بشركة ميرك. والواقع إنّ القضيّة معقّدة. أبى السيّد يروانت إلا الشراكة مهما كان الأمر. ولمّا كنتُ غيرَ مرتبطٍ معه بأيّ اتفاق كان بإمكاني اتّخاذ القرار الذي أراه في صالحي ولكنّي أردته أن يستفيد أيضاً فلولاه لما تعرّفتُ على شركته ومن ثمَّ على الشركتين الأخرييْن. لذا فكّرت مع نفسي أن أبقى مع شركة ميرك ولكن بشروط أفضل بعد أن (أعصرهم) فقد ارتفعت مبيعاتهم خلال السنتين المنصرمتين اللتين عملت معهم أربعة أضعاف، ولكنّهم لم يعطوني حقوقي كما وعدوني، وإنّهم لا يريدون أن أتركهم، وأنا لا أريد تركهم دون ضمان عمل آخر أحسن من عملهم. فلماذا لا أحاول الضغط عليهم بهذه الورقة الجديدة وأحصل على منافع أكثر وخصوصاً أنني وطّدتُ عملي معهم ولي أساس قويّ وأتكلّم لغتهم وهم يعتزّون بذلك؟ لذا قلت للسيّد يروانت: بما أنني لا أعرف موقف ميرك من هذا الأمر فلماذا نتجادل أو نتخاصم. دعني أرى ما سيكون، فإن توصلتُ مع ميرك إلى اتّفاق ، فخذ الشركات الثلاث وحدك، إن رضوا بك وينتهي الأمر فوافق ولكنّه لم يكنْ مسروراً ، ربّما لعدم قناعته بإدارة هذ العمل بطريقة جيّدة أو لعدم موافقة الشركة ليو على ذلك.  عاد يروانت إلى بغداد لأن إجازته انتهت وبقيت في برلين مستعداً للذهاب إلى دارمشتادت للتفاوض. التقيت صديقي عدنان الاستربادي (الدكتور بعدئذ) فأخبرني أن شركة ميرك اتصلت به (لأنی ترکت رقم تلفونه لديهم للإتّصال بي) تطلبني فوراً للاتصال بهم فاتصلت. سألني الدكتور پـيـپر (مدير الدعاية العام) أين كنتُ، فأخبرته هنا في برلين فطلب منّي أن آتي فوراً إلى دارمشتادت. ركبت الطائرة إلى فرانكفورت وهناك كان ينتظرني السائق الذي أوصلني إلى ميرك . دعاني الدكتور پـيـپر للعشاء معه، فذهبنا إلى مطعم خارج المدينة وبدأنا نتحادث. شكوت له من مستر كليتا (وكيلهم السابق) وقلت له إنني أعمل أكثر منه وأحصل على أقل مما يحصل عليه  وإني أسألك يا دكتور پـيـپر إذا وجدت شركة تعطيك ثلاثة أضعاف ما تعطيك ميرك، أفتبقى مع ميرك؟ فاحمرّ وجهه وقال: أهي شركات أمريكية؟ نعم، إنهم سيعطونك أكثر مما نعطي ولكنهم سيتركونك عندما تنتفي الحاجة إليك، ولكننا، الألمان، لا نتركك إن كان ثمة شرٌّ في العراق، فسننقلك إلى إيران، لبنان، أو ألمانيا وستبقى معنا لأننا نحسبك (ألمانياً) فأجبته شاكراً لطفه ولكني أردفت قائلاً: إنني عراقي وأريد الآن وليس غداً. وهنا أبرزت له الاتفاق مع الشركات الدنماركية فقرأه ولم يستطع أن يبلع لقمته وقال: حسناً، سنتباحث غداً. وانفضّت الجلسة. في الصباح التالي تداول مستر (أك)، مساعد الدكتور پـيـپر معي وبعد أخذ وردّ تفاهمنا وحصلتُ منهم على مكسب جيد وبأثر رجعي. أعطوني بعض الحقوق التي كنتُ أطالب بها فوجدت الاستمرار معهم أكثر ضماناً من عمل أبدأ فيه من جديد ولا أعرف مستقبله المجهول، وخصوصاً أنّ ثمّة خلافاً بدأ مع يروانت قبل المباشرة في العمل، فكتبتُ إلى شركة ليو معتذراً وشاكراً حسن ضيافتهم وتقديرهم واقترحتُ فتح المكتب باسم صيدلي آخر على أن أكون مُشرفاً عليه، فشكروني ورفضوا اقتراحي. عدت إلى برلين متمشّياً في الشارع الرئيس (كورفُـرستندام Kurfürstendamm) التي تقع عليه مقهى (كرانتسلـر Kranzler ) التي تحاشيتُ الجلوس فيها في أواخر أيّامي في برلين عام 1964 لاقتصادي بالماركات الألمانية القليلة المتبقيّة لديّ! والآن، وبعد أربع سنوات على مفارقتها، أعود إليها وفي جيبي ما يكفي لشراء شقّة جميلة لا تبعد عنها كثيراً!

 

بهجت عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم