صحيفة المثقف

عقيل العبود: منصة الشاهد

عقيل العبودأمست ذاكرة الشاهد تحتفظ ببقايا صور لمدينة تقبع أزقتها خلف ركام أخطبوط ألمَّ بأبنائها ذات يوم، ليلتحق الدمار بهم تباعاً. كانت الضفة اليسرى من دروب شوارعها النحيفة تتغنى برؤى بقيت أحداثها حاضرة على ذمة التاريخ.

استحوذت على مشاعر الصبي وقائع تحتاج أن يتوقف العقل عندها، لعله يقدر أن يؤرق تفاصيل أغار الإثم على أبجدياتها، بطريقة نهر اصطبغت أمواجه بلون الدم، حتى تمزقت، لتقبع خلف كواليس مسرح تسكن أنحاءه رائحة الجريمة.

صار يحتفظ بأمجاد بطولاتهم، يتغنى بهم، أتعبته لغة المكابرة، وجد نفسه عاجزاً أمام دوامة الصمت، ورابطة الشيخوخة.

أبحر عبر مقاطع ارتبطت موضوعاتها بشخصيات رسموا مواقفهم بناءً على تفاصيل مسيرة، سبقت لياليها صباحاتها، مذ تم اعتقال قوافلهم، أولئك الذين اختفت بصماتهم فجأة إبان حاضر سُرِقَ ماضيه، كما حقل من الأزهار جفت سواقيه.

لم تمت أساطير ملاحمهم بعد أن تم الاحتفاظ بها على قيد ضمائر بقيت تنبض بالمحبة.

أضحت آثارهم تستعيد مدياتها، لتغادر دهاليز صمتها المسكون بالخذلان، بعد أن تم تصفيتهم تباعاً، على أيدي ما يسمونه بالحرس القومي، بقيت الجثث معلقة تنزف في دهاليز السجون، ومضى السلاح في أقبية التعذيب، يبحث عن بدائل وطرق جديدة للإبادة.

استمرت الهتافات  أشبه بلوحة لم تنل منها ركام الكوابيس المثقلة بإمضاءات معسكرات الدم، ومظاهر البطش.

تفشت لغة القتل، والتعذيب، واغتصاب بعض النساء في الشوارع، والأزقة، والمدارس، ليمضي الأسى هكذا قاصداً ممن تقع عليه العين.

تم استحضار صورة الزعيم، مع أمكنة مصحوبة بنحيب امرأة راحت تبكي يوم تم اعتقال ابنها الوحيد.

غدت حزينة بيوت المحلة، وصفوف المدرسة، وقلوب الأهل، حتى تنحى يوم الخميس، ومدرسة الشرقية عن إقامة مراسيم رفع العلم، كأنما استجابة لنعي تلك المرأة.

استعادت ذاكرة الصبي صورة أستاذ أحمد، ورحيم، وأم صبحي ، وفلاح تزامنا مع منظر طائرين راحا يحلقان في أجواء المدينة.

ترتب على صفوف مدرسة قرطبة آنذاك أن تنال قسطها من الحزن كأنما تعزية إلى استغاثات الضحايا، استشهاد سيد وليد الذي تم دفنه حيا، أم رحيم التي خرجت مع ولدها عاجل في مظاهرة سوق الخضارة، اقتياد أستاذ أحمد إلى السجن، إضافة إلى أولئك الذين تركت فيهم فطرة النقاء صبغة الألفة ومعاشرة الطيبين من أبناء المحلة.

بقي شاخصا علم العراق في ذاكرته مع منظر اصطفاف  التلاميذ، حيث تستلقي جميع الأشياء وفق كبرياء، تنبعث الذروة فيه على هيئة ألوان قوس قزح.

هامت نفوس الذين لا يعرفون من الحياة إلا جمال الطبيعة، وتدفق أنوارها في فضاءات سماء تكشف حقيقة أجوائها عن أنباء زرقة محايدة.

 تعكر مزاج الفتى مع تصاعد ذرات غبار داكن كان يحمل بين دفتيه نشيد (الله أكبر فوق كيد المعتدي)، اختلط الأمر مع صوت المذيع الذي كان يسعى لإن يقول أمراً ما.

أجتاحت أفكاره بعض الأسئلة، لعل الإجابة تعلن عن بركان تمردها الذي كان ينتشر متدفقا بالضد من نبرة المذياع، بل وبالضد من أصداء ما كان يسمع، ليسأل أباه عن حقيقة ما يجري.

باتت الأحداث تمضي بطريقة مدهشة، كأنها إعصار ريح مباغتة أقبلت من جهة مظلمة، شيء يهدد بأعباء حدث مخيف، راح يتحرك خارج دائرة التصور؛ .. البيان.. رقم.. هنا ..

مجموعة تقاطعات راحت ترن مع صوت المذياع في ذهن الصبي الذي أطلق صوته متسائلاً:

- ماذا جرى؟. أجاب الأب بنبرة حزينة:  انقلاب ضد الزعيم يا ولدي. امتزجت الأسئلة مع ما جاء به المذياع.

- لقد قتلوا الطغمة الحاكمة الشعوبية:  قال المذياع.

 نزل النبأ كالصاعقة، ليسلب مشاعر الغلام الذي اهتز كيانه خلف أستار البحث عن تصور الخبر، بات السؤال خارج محيط الإجابة، فمن الصعوبة على طالب في الصف الخامس الإبتدائي إدراك حقيقة المفاهيم وتصورها، راحت أنباء القتل تتفاعل مع مقولة الانقلاب، التي تم تفسيرها من قبل والد الغلام على أنها تحمل معنى الإطاحة بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم وقتله. 

غدت الاناشيد تتفاعل في ذهن الفتى الذي وجد نفسه مصعوقاً بكلمات غير مألوفة (الله اكبر فوق كيد المعتدي).

(المعتدي) كلمة ارتبطت بموضوعات لم تجد لها باباً من أبواب التفسير، فهي لم تأخذ طريقها إلى الوعي الذي لم يكن يقدر بعد أن يرسم إلا زوارق المحبة، وزقزقات العصافير، وهي تطير فوق حقول القمح، لتلتقط حبات السنابل، أما المعتدي فلم يكن قاتلا، بل ضحية أُطلِقَ الرصاصُ عليها بحسبه، بقيت صورة  الخبر، تحمل بين ثناياها سراً، اختلطت معه سيناريوهات، فرضت نفسها على حين غرة.

 

عقيل العبود

............................

* سرد الوقائع تم تسجيلها من قبل شاهد عاصر الأحداث، وهو من سكنة محلة الشرقية، مدينة الناصرية؛ ذلك بحسب ما حصل إبان 8 شباط  1963، وما قام به عناصر الحرس القومي من اغتيالات، وبطش، وتعذيب ضد أبناء المدينة من المثقفين، والمتعلمين.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم