شهادات ومذكرات

السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية.. علاقة القمة والهرم

ali almomen2آية الله السيد محمد باقر الصدر؛ نموذج نادر لعلماء الدين في عبقريته وإبداعه العقلي، وفي تحويل نتاجه الإبداعي الى مشروع عمل متكامل. فقد أسس مشروعاً إسلامياً إصلاحياً تغييرياً شاملاً؛ يستوعب مختلف مجالات النظرية والعمل؛ بدءاً بمناهج الفكر الإسلامي والفقه الشرعي، وبنية الحوزة العلمية، وأنساق المنظومة الاجتماعية الدينية الشيعية، والوعي الإسلامي المعاصر، وانتهاءً بالعمل التنظيمي، والثورة السياسية. و بدأ بطرح أجزاء مشروعه في وقت مبكر جداً من حياته، وختمه بالتضحية بحياته من أجله وهو بعمر 45 عاماً فقط. وكان الحراك الإسلامي الشيعي المنظم المتمثل بحزب الدعوة الإسلامية أحد أهم أجزاء هذا المشروع.

قاد السيد محمد باقر الصدر عملية تأسيس حزب الدعوة الإسلامية وهو بعمر 22 عاماً؛ فكان يدير معظم الاجتماعات التحضيرية للتأسيس؛ وأهمها الاجتماع التأسيسي للحزب في بيته في النجف الأشرف في آب 1957، واجتماع أداء القسم في كربلاء في تشرين الأول 1957، وكتب نظرية حزب الدعوة وأسسه، وأطلق عليه اسم "الدعوة الإسلامية"، ومنح الإذن الشرعي لوجوده؛ باعتباره مجتهداً، وكان مفكر الحزب وفقيهه المتفرد، وتصدى لكل التشكيكات التي واجهت الحزب في الوسط الاجتماعي الديني النجفي؛ لأنه محل ثقة علمية وفكرية وشخصية لدى المرجعيات الدينية النجفية والحوزة العلمية والاجتماع الديني. ولذلك كان الأبرز بين مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية العشرة؛ برغم كونه أحد أصغرهم سناً.

أصبح السيد الصدر عضواً في أول لجنة قيادية رباعية للحزب انبثقت بعد التأسيس، واستمرت حتى العام 1961، وهو العام الذي انسحب في الصدر من القيادة والتنظيم؛ لكنه لم ينسحب من الدعوة ونظريتها؛ إذ بقي على علاقة وثيقة بها حتى إعدامه؛ بل التحمت به تنظيمات حزب الدعوة في داخل العراق في العام 1979 وبايعته قائداً. ولذلك فقد كانت التهمه المعلبة التي يسوقها نظام البعث حين أقدم على اعتقاله في الأعوام 1972 و 1974 و1979؛ هي قيادة حزب الدعوة الإسلامية. ثم اعتقل للمرة الأخيرة في 5 نيسان من العام 1980، والتي لم يعد فيها الى بيته؛ إذ أطلق عليه صدام حسين الرصاص بنفسه بعد أربعة أيام من الإعتقال؛ تعرض خلاله لأبشع أنواع الضرب والحرق والتعذيب.

تأسيس حزب الدعوة الإسلامية

اقترن الحراك الإسلامي الشيعي الجديد في العراق والمنطقة العربية منذ نهاية خمسينات القرن الماضي بالفقيه والمفكر الشاب السيد محمد باقر الصدر، والذي كان نموذجاً نادراً لعلماء الدين؛ إذ كان يحمل مشروعاً إسلامياً تغييرياً متكاملاً؛ يبدأ بالتأصيل الفكري، والتحول الفقهي، وتأسيس الحراك السياسي، والعمل على مأسسة منظومة المرجعية الدينية، وينتهي بإعلان الثورة ضد النظام الطائفي العنصري الظالم. ولذلك فقد كان حزب الدعوة الإسلامية أحد الفصول المهمة في مشروع السيد محمد باقر الصدر. ولذلك فإنه بادر الى قيادة عملية التأسيس بمجرد أن قام نجل مرجع النجف السيد محمد مهدي الحكيم بطرح الفكرة عليه. وفي هذا الصدد يقول السيد محمد مهدي الحكيم بأن فكرة تأسيس حزب إسلامي طرحت خلال العام 1956، واستمرت التحركات والاجتماعات التحضيرية أكثر من سنة، تباعدت فيها الأفكار وتقاربت، وتراجعت شخصيات وثبتت أخرى، وحتى تم في النهاية الاتفاق على شكل العمل وطبيعة تحركه. وكانت أول قضية طُرحت على طاولة البحث (قبل التأسيس) هي: ((شرعية تأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة))؛ لتكون قاعدة فقهية يستند اليها الحزب في شرعية عمله؛ فكتب آية الله السيد محمد باقر الصدر دراسة فقهية استدل فيها على جواز قيام دولة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي، وكانت هذه الدراسة أول نشرة داخلية يتبناها الحزب. ويضيف السيد محمد مهدي الحكيم: أنه عرض فكرة تأسيس الحزب في العام 1957 على السيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي؛ فكان الأربعة يعقدون الاجتماعات التداولية الأولى لفكرة الحزب، ثم قام السيد محمد مهدي الحكيم بمفاتحة السيد محمد باقر الصدر؛ فوافق على الفور، ثم اقترح السيد الصدر ضم السيد مرتضى العسكري للعمل (وكان يقيم في الكاظمية)، حيث فاتحه بذلك من خلال رسالة حملها إليه السيد محمد مهدي الحكيم (1). ثم تمت مفاتحة السيد محمد باقر الحكيم والسيد حسن شبر والدكتور جابر العطا ومحمد صالح الأديب.

لقد استمرت مداولات تأسيس حزب الدعوة بين أصحاب الفكرة وأقرانهم الذين انفتحوا عليهم؛ حتى أواسط العام 1957؛ عُقد خلالها أكثر من اجتماع تحضيري؛ معظمها في بيت السيد محمد باقر الصدر في النجف الأشرف، وكان آخرها الاجتماع التأسيسي الذي عقد في بيته، خلال آب من العام 1957، وحضره ثمان شخصيات: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد مهدي الحكيم، عبد الصاحب دخيل، السيد طالب الرفاعي، محمد صادق القاموسي، السيد مرتضى العسكري، السيد حسن شبر والدكتور جابر العطا.

وأعقب اجتماع النجف التأسيسي؛ اجتماع أداء القسم في كربلاء بشهرين؛ أي في تشرين الأول من العام 1957 (17 ربيع الأول 1377هـ) في دار إقامة المرجع الديني الإمام السيد محسن الحكيم؛ بحضور سبع شخصيات: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد مهدي الحكيم، عبد الصاحب دخيل، محمد صادق القاموسي، السيد مرتضى العسكري، السيد محمد باقر الحكيم ومحمد صالح الأديب. وغاب عنه ثلاثة ممن حضروا الاجتماع التأسيسي في النجف: السيد طالب الرفاعي والسيد حسن شبر والدكتور جابر العطا. وهو الاجتماع الذي يعده بعض مؤسسي «الدعوة» اجتماعاً تأسيسياً؛ كما يقول محمد صالح الأديب؛ فيما يعده آخرون أول اجتماع رسمي للدعوة؛ كما يذهب السيد مرتضى العسكري. بينما يعده مؤسسون آخرون اجتماعاً لأداء القسم وليس تأسيسياً؛ كما يؤكد السيد محمد مهدي الحكيم والسيد حسن شبر؛ إذ يقول الأخير مانصه: (الجلسة التي تم فيها أداء القسم في بيت السيد محسن الحكيم في كربلاء بتاريخ 12 تشرين الأول من العام 1957 كانت فقط لأداء القسم بالالتزام بمبادئ الحزب والعمل تحت خيمته والمحافظة على سريته. أما تأسيس الحزب فقد سبق جلسة أداء القسم بشهرين؛ أي في آب من العام 1957؛ خلال الجلسة الأخيرة التي عقدناها في بيت السيد محمد باقر الصدر في النجف الأشرف، وحضرتها أنا [السيد حسن شبر] والسيد محمد باقر الصدر نفسه والسيد محمد مهدي الحكيم وعبد الصاحب دخيل وجابر عطا والسيد مرتضى العسكري والسيد طالب الرفاعي ومحمد صادق القاموسي. وتم فيها مناقشة كل التفاصيل؛ بما فيها الاتفاق على أن تكون الجلسة اللاحقة لأداء القسم. أما فيما يخص تسمية الحزب فقد سمي بـ «الدعوة الأسلامية» في بداية العام 1958؛ أي بعد شهرين من أدائنا القسم. والدليل على أن الحزب تأسس قبل انقلاب 14 تموز من العام 1958 هذه الحادثة التي جرت خلال أيام الانقلاب التموزي: عندما شكل عبد الكريم قاسم حكومته استقطب بعض المختلفين في الأفكار السياسية، وحينها قال السيد مهدي الحكيم خلال أحد اجتماعاتنا: لو كنا قد أعلنا عن اسمنا لاختار عبد الكريم قاسم من حزبنا وزيراً أو اثنين)) (2).

ولذلك؛ فإن تاريخ التأسيس الحقيقي لحزب الدعوة الإسلامية هو شهر محرم من العام 1377 هـ (آب 1957)؛ أي قبل اجتماع كربلاء بشهرين؛ كما يثبت السيد حسن شبر أحد المؤسسين العشرة (3)؛ الأمر الذي يدعو الحزب لمراجعة أدبياته الرسمية التي تنص على يوم 17 ربيع الأول 1377 هـ (12 تشرين الثاني 1957) بوصفه تاريخاً لتأسيسه. كما ينبغي مراجعة المعلومة التي طرحتها بعض أدبيات الدعوة في ثمانينات القرن الماضي، والتي تقول بأن مؤسسي حزب الدعوة ثمانية؛ لأنها تستند الى معيار أحادي وغير موضوعي. أما المعيار الموضوعي في توصيف المؤسسين فهو ((أن كل من حضر أحد اجتماعي التأسيس في النجف و أداء القسم في كربلاء يعدّ مؤسساً))؛ فهناك من حضر اجتماع التأسيس ولم يحضر اجتماع أداء القسم، وهناك من حضر اجتماع أداء القسم ولم يحضر اجتماع التأسيس. فتكون المحصلة أن مؤسسي الحزب هم عشرة: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد مهدي الحكيم، عبد الصاحب دخيل، السيد طالب الرفاعي، السيد مرتضى العسكري، محمد صادق القاموسي، الدكتور جابر العطا، السيد حسن شبر، السيد محمد باقر الحكيم ومحمد صالح الأديب.

دور الشهيد الصدر في تأسيس "الدعوة" وقيادتها

كان السيد محمد باقر الصدر أبرز المؤسسين العشرة لحزب الدعوة الإسلامية؛ بل أن أداءه ودوره أفرزاه قائداً للحزب في الأبعاد الفقهية والفكرية والإرشادية أيضاً. وقد كان الحديث عن كون السيد الصدر مؤسساً للدعوة، متداولاً في أواسط الحزب منذ مطلع الستينات. ثم برز اسمه قائداً للحزب خلال العام 1979، بعد تفجير الصدر للتحرك المعارض لنظام البعث في العراق. ولكن تقدُّم السيد الصدر على باقي المؤسسين والقياديين في توجيه بوصلة حزب الدعوة خلال الفترة من العام (1957 إلى 1961)، ثم بقاءه مرشداً لحزب الدعوة وداعماً له؛ قد أقنع أجيال الدعاة والمؤرخين والمراقبين بأن السيد الصدر هو المؤسس الواقعي لحزب الدعوة، وقائده في أول أربع سنوات؛ ثم مرشده الفقهي والفكري بدءاً من العام 1961؛ ثم قائده عملياً مرة أخرى في السنة الأخيرة من حياته؛ أي حتى استشهاده (4). و أبرز أدلة هذه الحقيقة:

1- إن السيد محمد باقر الصدر هو أحد الخمسة الأوائل الذين ناقشوا فكرة الحزب، وحوّلوها الى واقع قائم، وأنه قام بنفسه بمفاتحة بعض الشخصيات التي ساهمت معه في التأسيس.

2- إن السيد محمد باقر الصدر هو الذي أتاح فقهياً للحزب فرصة التأسيس؛ فمن خلال الدراسة التي استدل فيها على جواز تأسيس دولة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي، وإمكانية قيام جماعة إسلامية لتحقيق هذا الهدف؛ تمكن أصحاب فكرة الحزب من تحويل الفكرة الى واقع. و هذه النظرية التأسيسة التي دوّنها السيد الصدر نقلت الفقه السياسي الإسلامي الشيعي من واقع الى واقع آخر، ولم يسبقه اليها فقيه شيعي؛ فلأول مرة في مسار الفقه السياسي الاسلامي؛ ينظِّر فقيه شيعي لتأسيس دولة إسلامية؛ خالصة في قاعدتها النظرية ونظامها السياسي؛ في عصر الغيبة (5).

3- كان الصدر المجتهد الوحيد بين المؤسسين، ووجوده كفقيه أعطى الإذن الشرعي لقيام الحزب كجماعة منظمة من المؤمنين بدور قيادة الأمة باتجاه تأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة، ومايترتب على ذلك من وسائل وممارسات، وكذا شرعنة العهد التنظيمي والتولي للقيادة.

4- ظل الصدر منظراً لحزب الدعوة وقائداً فكرياً له؛ منذ لحظات نشوء فكرته. فقد كتب نظرية حزب الدعوة؛ المعروفة بالأسس الإسلامية؛ التي تمثل الأسس الفقهية والفكرية والسياسية للحزب. كما ظل المؤسسون وقياديو «الدعوة» يعودون إلى السيد الصدر في التكييفات الفقهية والفكرية، وكان صاحب المبادرة في هذا المجال(6).

5- قام الصدر بنفسه بعرض الأسس على جملة من كبار فقهاء النجف ومراجعها؛ كالإمام الحكيم والإمام الخوئي والشيخ حسين الحلي والشيخ مرتضى آل ياسين. وكان هذا العرض بمثابة إبلاغ رسمي لزعامات المنظومة الاجتماعية الدينية الشيعية بمشروع الحزب.

6- بالنظر لمركزه العلمي الفقهي الرفيع في الحوزة العلمية النجفية، وموقعه في الاجتماع الديني النجفي، وكونه سليل أحد أهم بيوتات المرجعية؛ فقد كان يصد عن الحزب موجات الإشكاليات والتشكيكات التي تطرحها بعض أوساط الحوزة أو العناصر المتدينة حول الحزب ومواقفه وتفاصيل أدائه؛ لأن كثيراً من أوساط المنظومة الدينية الشيعية النجفية لم تكن تستسيغ العمل السياسي عموماً، والعمل الحزبي خصوصاً. وفي دور مكمل؛ كان السيد محمد مهدي الحكيم بوصفه نجل مرجع النجف الأعلى، وأحد أهم عناصر الاجتماع الديني النجفي؛ يدفع عن حزب الدعوة الإشكاليات العملية التي يواجهها؛ فكان السيد محمد باقر الصدر في البعد الفكري والفقهي والحوزوي، والسيد محمد مهدي الحكيم في بعد الاجتماع الديني؛ سيف الدعوة ودرعها.

7- كان السيد الصدر يدير الاجتماعات التحضيرية والتأسيسية في النجف الأشرف، وكذا اجتماع أداء القسم في كربلاء، وكان المفروض أن يكون أول من يؤدي قسم الانتماء للحزب؛ لولا إصراره على أن يكون المرحوم السيد مرتضى العسكري أول من يؤدي القسم؛ باعتباره أكبر الأعضاء سناً (كان عمر العسكري آنذاك 45 سنة والصدر 22 سنة). وأقسم بعده السيد محمد باقر الصدر قسم الانتماء للحزب؛ فكان ثاني من يقسم؛ برغم أنه كان أحد الأعضاء الأصغر سناً بين المؤسسين العشرة؛ إذ كان السيد محمد باقر الحكيم الوحيد الذي يصغره سناً، أما السيد مهدي الحكيم فكان بعمره، أما المؤسسون السبعة الآخرون فكانوا أكبر منه سناً.

8- اختار السيد الصدر للحزب اسم "الدعوة الإسلامية"، ونظّر لهذه التسمية كثيراً، ولم يكن يريد منه مجرد اسم؛ بل صفة وغاية وهدفاً ووظيفة للحزب؛ أي أن "الدعوة" هي المضمون والجوهر، والحزب هو الشكل والوسيلة.

9- كان السيد الصدر العضو الأبرز في القيادة الرباعية الأولى بعد التأسيس؛ وإن لم تكن تسمى حينها رسمياً قيادةً؛ بل لجنة العمل. وقد تألفت اللجنة بعد مرحلة التأسيس من السيد محمد باقر الصدر والسيد مهدي الحكيم وعبد الصاحب دخيل والسيد مرتضى العسكري، وكان الصدر يدير اجتماعاتها، وبمثابة أمينها.

10- كان المشهور في مركز القرار الحوزوي النجفي والإيراني وأوساط المرجعيات الدينية، وقيادات الأحزاب السياسية العراقية واللبنانية والإيرانية؛ بأن السيد محمد باقر الصدر هو مؤسس حزب الدعوة الإسلامية ويقوده. فقد كشف حزب البعث العراقي هذا الأمر في وقت مبكر؛ فقام في عام 1961 أحد قيادييه في النجف (السيد حسين الصافي) بزيارة المرجعين السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي؛ وأبلغهم بخطورة الحزب الجديد الذي أسسه الصدر ويقوده؛ فكان جواب السيد الحكيم للصافي وهو ينهره: ((وهل تتصور أنك أحرص من السيد الصدر على الحوزة والنجف؟))(7). وكان جواب السيد الخوئي له: ((إذا كان السيد الصدر قد أسس هذا الحزب ويقوده؛ فأنا أول من ينتمي إليه)). وقد روى ذلك لي المرحوم الشيخ محمد باقر الأنصاري الذي كان حاضراً اللقاء(8). كما روى لي السيد موسى الخوئي أنه تحدث مع جده الإمام الخوئي حول الإشاعات التي كان يثيرها بعض حاشية (مكتب) السيد الخوئي ضد السيد الصدر أمام الوفود الطلابية التي كانت تزور النجف للقاء المرجعيات الدينية، ومنها شبهة كون السيد الصدر حزبياً وأنه يقود حزب الدعوة. فقال الإمام الخوئي: ((إذا كان محمد باقر الصدر في حزب الدعوة فأنا أيضاً سأكون في حزب الدعوة))(9). ونقل السيد كاظم الحائري عن المرجع الديني الإيراني السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، أنه امتدح السيد الصدر حين طرح بعض علماء الدين في إيران أواخر الخمسينات موضوع تأسيس السيد الصدر لحزب الدعوة(10). كما أني اطلعت على وثيقة سرية لحزب تودة الشيوعي الإيراني عام 1962 يؤكد فيها وجود حزب إسلامي شيعي في العراق اسمه حزب الدعوة ويقوده السيد محمد باقر الصدر. وكانت هذه الوثيقة ضمن محفوظات السافاك الإيراني (مخابرات الشاه). ومن المعروف أن بعض كوادر وقيادات حزب تودة الإيراني والحزب الشيوعي العراقي كان يتبادل المواقع التنظيمية بين الحزبين، فضلاً عن تبادل المعلومات بينهم لمواجهة الحركة الدينية في العراق وإيران.

11- بعد انسحاب السيد الصدر من التنظيم في العام 1961؛ إثر طلب المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم منه أن يبقى مرشداً للحزب؛ ولكن من خارج الحزب؛ فإن علاقته بـ«الدعوة» ظلت تلاحمية وقريبة جداً؛ إذ ظل يتابع شؤون الحزب ويتدخل لحل ما يعترضه من مشاكل وخلافات داخلية، ويشارك في التنظير والتخطيط له. وكانت أهم قضية تمكن من حسمها هو منع انهيار حزب الدعوة في العامين 1963 و1964؛ إثر حدوث خلاف عميق بين قيادة الحزب في بغداد ممثلة بالثنائي محمد هادي السبيتي وعبد الصاحب دخيل، ولجنة النجف ممثلة بالشيخ عبد الهادي الفضلي، وصدور بيانين انشقاقيين داخليين من الطرفين يفصل كل منهما الآخر من الحزب. فكان تدخل السيد الصدر حازماً في إنهاء الأزمة.

12- إن معظم تلاميذ السيد الصدر كانوا من الدعاة الأوائل أو دعاة المراحل اللاحقة، وأصبحوا من قيادات الحزب وكوادره فيما بعد، وكان هو الذي يبادر بتحريك بعض تلاميذه لضم زملائهم الآخرين إلى الحزب. وانتهى الأمر في العام 1979 إلى أن يكون ما يقرب من 60 بالمائة من تلاميذه، وحوالي 80 بالمائة من وكلائه في المدن العراقية كافة؛ أعضاء في حزب الدعوة. وبعد أن أصدر السيد الصدر حكمه الشرعي بفصل العمل الحزبي عن الحوزة العلمية في العام 1973؛ بهدف حفظ الحوزة العلمية النجفية والمرجعية الدينية وحزب الدعوة؛ فإنه استثنى بعض تلامذته داخل العراق، وكذلك وكلائه في المدن وتلامذته في خارج العراق؛ حرصاً على عدم إضعاف مسيرة الحزب وتنظيماته وعمقه الفكري والإيماني والروحي. وقد ألغى السيد الصدر حكمه نهائياً من خلال رسالته التي حملها تلميذه السيد عبد الكريم القزويني إلى قيادة الحزب خلال تواجدهم في مكة المكرمة في موسم الحج في العام 1979.

13- لم يحصل خلاف فكري أو منهجي أو سياسي أساس بين السيد الصدر وحزب الدعوة أو قيادته طيلة حياته. أما الحالات التي أدت إلى خلافات في الرأي والتوجه الميداني، فكان ذلك يدل على التلاحم بين الطرفين وعلى تدخل السيد الصدر المباشر في شؤون الحزب، وهو خلاف طبيعي يحصل في كل الأحزاب والتيارات والتنظيمات. فقد كانت الخلافات النظرية الميدانية والمزاجية بين أعضاء قيادة حزب الدعوة أنفسهم أكبر بكثير من أي خلاف مع السيد الصدر. صحيح أن السيد الصدر كان يبدي انزعاجه من تصرفات بعض قياديي "الدعوة" في الخارج وتصريحاتهم وكتاباتهم؛ كانزعاجه الدائم من الشيخ علي الكوراني، والمطالبة بإخراجه من القيادة، ولكن ـ عموماً ـ كان التباينات بينه وبين قيادة الخارج ليست أكثر من خلاف أبناء البيت الواحد.

14- كان السيد الصدر بعد العام 1974، وعلى إثر الضربتين الموجعتين اللتين وجهتهما دولة حزب البعث لحزب الدعوة؛ يجتمع مباشرة بالدعاة العسكريين والقائمين على التنظيم العسكري، ويدعوهم إلى تقوية التنظيم العسكري؛ لأنه الوحيد - في ظل القمع الشديد والإعدامات المتوالية - القادر على كبح جماح السلطة. وكان أحياناً يبدي عدم رضاه على حجم هذا التنظيم ويدفعه باتجاه الفاعلية الأكبر كماً ونوعاً. وبدأ من ذلك التاريخ يخصص للتنظيم العسكري أموالاً مما يصله من حقوق شرعية وحتى استشهاده.

15- كان السيد محمد باقر الصدر حتى تاريخ استشهاده يدعو من يجتمع به من قيادة حزب الدعوة في الداخل ووكلائه ومعتمديه الدعاة في المدن العراقية بضرورة النهوض بعملية ضم الشباب المتدين إلى حزب الدعوة. وقد نقل لي عدد من وكلائه ومعتمديه؛ كالسيد حسن شبر والشيخ عبد الحليم الزهيري؛ بأن السيد الصدر في اجتماعاته الخاصة بهم في أواسط العام 1979 كان يؤكد ضرورة توسيع التنظيم وضم شباب جدد إليه (11). كما كان يجتمع بقيادة حزب الدعوة في الداخل مباشرة ويوجههم ويتابع عملهم، ولم تكن قيادة الداخل تخطو أية خطوة استراتيجية دون الرجوع إليه. ومن بين من كان يجتمع بهم من القياديين بانتظام: السيد حسن شبر ومهدي عبد مهدي والشيخ حسين معن وجواد الزبيدي.

16- ظل السيد الصدر خلال العامين 1979 و1980 يكرر توصيته إلى مقربيه بالاهتمام بحزب الدعوة وبشبابه. وقد أبلغ توصياته المتواترة المشهورة ((أوصيكم بالدعوة خيراً فإنها أمل الأمة)) و((أوصيكم بشباب الدعوة فإنهم أملي)) الى كثير من تلامذته ومقربيه، ومنهم السيد محمود الهاشمي والسيد محمد باقر الحكيم والسيد حسن شبر والشيخ محمد رضا النعماني، ونقلوها عنه مباشرة.

17- رفض السيد الصدر رفضاً قاطعاً طلب صدام حسين المتكرر إصدار فتوى بحرمة الانتماء لحزب الدعوة مقابل إيقاف قرار إعدامه. ولكنه فضّل الموت على ذلك. ولذلك كان حكم إعدامه طبقاً للقرار 461 الصادر في 31 آذار من العام 1980، على وفق المادة 156 عقوبات، والقاضي بإعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة ويروج أفكاره ويعمل على تحقيق أهدافه (12).

وهناك قرائن أخرى تؤكد جميعها أن السيد محمد باقر الصدر كان أبرز مؤسسي حزب الدعوة؛ بل أن مسيرة التأسيس وسنوات الحزب الأولى أفرزته القيادي المؤسس الأول، والأكثر تاثيراً

 

علي المؤمن

.........................

الإحالات

(1) من ندوة حوارية للسيد محمد مهدي الحكيم خلال العام 1984 مسجلة على أربعة أشرطة، وتم إصدارها من مركز دراسات تاريخ العراق الحديث في كتيب تحت عنوان «التحرك الإسلامي في العراق» في العام 1988؛ بعد إعادة صياغتها وتعديلها. كما دونت هذه المعلومة منه في لقاء معه في بيت السيد محمد باقر الحكيم في طهران خلال شباط من العام 1986.

(2) من مقابلات خاصة مع السيد حسن شبر خلال ثلاثة عقود.

(3) السيد حسن شبر، لقاء خاص، خلال العام 2015، وأيضاً مقابلة معه في جريدة البيان (البغدادية) في 15/9/2012.

(5) وتمظهر ذلك في دراسته الأولى التي كتبها في العام 1956؛ والتي تأسس حزب الدعوة استناداً إليها. انظر: علي المؤمن، «الفقه والسياسة: تطور الفقه السياسي الإسلامي حتى ظهور النظريات الحديثة»، ص 78.

(6) بعد دراسته الأولى كتب السيد محمد باقر الصدر عدداً نوعياً من النشرات الداخلية لحزب الدعوة؛ أهمها على الإطلاق «أسس حزب الدعوة الإسلامية»، المعروفة بـ «الأسس الإسلامية».

(7) انظر: «سنوات الجمر»، ص 89.

(8) المصدر السابق.

(9) ضمن لقاءاتي بالسيد موسى الخوئي خلال العام 2015.

(10) «سنوات الجمر»، ص 91.

(11) ضمن لقاءاتي بالشيخ عبد الحليم الزهيري والسيد حسن شبر خلال العام 2015.

(12) انظر تحليلاً عن القرار في كتاب «سنوات الجمر»، ص 340. واحمد ابو زيد، ج5، والشيخ محمد رضا النعماني، «سنوات المحنة»، ص 157.

(13) للمزيد راجع: علي المؤمن، جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي، ص 25- 48.

 

 

في المثقف اليوم