شهادات ومذكرات

عصمت نصار وهموم الشباب

محمود محمد عليلا يدور الحديث عن هموم الشباب في مناسبة من المناسبات إلا وتقفز في الأذهان ذكري بعض مفكرينا الكبار ، وصور أعلامنا الخالدين في هذا الميدان من النشاط الفكري؛ أمثال الأمام محمد عبدة، ورفاعة الطهطاوي، ومصطفي عبد الرازق، وطنطاوي جوهري، ومحمد فريد وجدي ، والدكتور عاطف العراقي ، والدكتور حسن حنفي ،والدكتور عصمت نصار .

ولعل الذي يجمع بين هؤلاء علي اختلاف مشاربهم – هو إيمانهم الراسخ بأن إعداد النخب وصناعة العقول وتدريب القيادات من الأمور التي تؤدي إلي نهضة الأمم ، ولذا أكد هؤلاء علي ضرورة بناء المدارس كخطوة أولى لتخليص المجتمع من قيود الجهالة وسجن الأمية وتهيئة العقول لاستيعاب شتى المعارف للاستفادة منها في تدبير شئون المجتمع، ثم تشييد المنابر الثقافية والمنتديات الأدبية التي عكفت بدورها على تشكيل المجالس العلمية والحلقات البحثية والصالونات الأدبية، وذلك لإعداد الطبقة الوسطى المستنيرة، لتصبح حركة الوصل، وحجر الزاوية بين السلطة الحاكمة، والرأي العام التابع، ذلك فضلا عن دورها التوجيهي والتربوي، لخرق ما نطلق عليه الروح الجمعي، والذوق السائد، وتوحيد الولاءات، وتحديد الثوابت، والمتغيرات في العادات، والتقاليد، والقيم، والأخلاق، والموروث، والوافد.

أما الذي يهمني بشكل مباشر فهو الأستاذ الدكتور عصمت نصار والتي ترجع معرفتي به في أوائل تسعينيات القرن الماضي ، فق كان هذا الرجل العظيم يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد ، والشموخ الإنساني المتميز ، باحثاً ومنقباً ، محققاً ومدققاً ، مخلفاً وراءه ثروة من الكتب العلمية ، والبحوث الاكاديمية الرصينة ، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

والمتتبع للحياة الاكاديمية والثقافية للدكتور عصمت نصار يلحظ بوضوح العطاء العلمي والإسهام الثقافي اللذين أثري بهما الحياة الاكاديمية والمواسم الثقافية في مصر والعالم العربي.

يشهد علي كتاباته وأبحاثه الكثيرة في مجال الفكر العربي الحديث والمعاصر ، فمن كتاباته علي سبيل المثال لا الحصر  : الأبعاد التنويرية للفلسفة الرشدية في الفكر العربي (2000) ، واتجاهات فلسفية معاصرة في بنية الثقافة الإسلامية (2003) ، و فكرة التنوير بين سلامة موسي بين أحمد لطفي السيد وسلامة موسي ، وأحمد فارس الشدياق قراءة في صفائح المقاومة، والفكر العربي الحديث بين النقد والنقض ، وإمام المستنيرين الشيخ حسن العطار وبواعث النهضة المصرية في القرنين 18، 19، وثقافتنا بين الإيمان والإلحاد (2000) ، وحقيقة الأصولية الإسلامية في فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي ،والخطاب الديني والمشروع العلماني وجهان لعملة زائفة، والروحية الحديثة في الثقافيتين الشرقية والغربية ... وهلم جرا .

والدكتور عصمت نصار أحد أعمدة الفلسفة الإسلامية ورائد من روادها، الذين اتسمت شخصيتهم الفكرية بالنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل . لقد شهد له زملاؤه ومعاصروه بالدقة والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة.

وقد أسهم الدكتور عصمت نصار بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي العالمية، وألقي العديد في بحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودواية، منها أبحاث نشرت في الكويت في متخصصة، كما حاضر عن الفكر العربي الحديث والمعاصر في كثير من الجامعات المصرية والعربية.

كما كان الراحل كاتباً مرموقاً فى عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية كجريدة الأهرام ، والوطن، وروزا ليوسف، والوفد، والبوابة نيوز، وفيتو، والأخبار ...الخ.

والدكتور عصمت نصار له اهتمامات بهموم الشباب ، يظهر ذلك بوضوح في كل مقالاته الكثيرة والثرية للحديث عن مشاكل الشباب وهمومهم ، ويكفينا استشهادا بتلك  المقالة والتي نشرت بعنوان " الشباب والكراسي والبرنامج الرئاسي"، في 21  يوليو 2017 بمجلة روزر يوسف، حيث استعرض الدكتور عصمت نصار، تطور جهود الدولة وقادة الرأي من المصلحين لإعداد ظهير سياسي وطني من الشباب لقيادة المجتمع، وذلك منذ برنامج محمد عبده في العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى أخريات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك للتأكيد على أن البرنامج الرئاسي الذي أزمع الرئيس عبد الفتاح السيسي تنفيذه -آن ذاك- من أعظم المشروعات الإصلاحية التي ترمي إلى إعادة بناء الطبقة الوسطى التي أعياها التشتت وأقعدها اليأس وحال الجهل والتطرف بينها والقيام بوظيفتها في إنهاض المجتمع.

ثم بينا لنا الدكتور عصمت نصار بأن " الغرض الرئيسي من الإسراع لتفعيل هذا المشروع هو خلو الأحزاب المصرية من الكوادر التي يمكنها حمل المسئولية والمشاركة الإيجابية في التخطيط والقيادة، الأمر الذي يضطره في معظم الأحايين إسناد الكثير من الأمور للمؤسسة العسكرية، وذلك ليس تحزباً أو المضي في ما يطلقون عليه عسكرة الدولة بل غيبة الكوادر أو إن شئت قل غيابها عن مسرح الأحداث أو بعدها عن المشهد السياسي والعمل العام، وأعتقد أن الواقع المعيش خير دليل على ما أزعم".

ويفرح الدكتور عصمت نصار فرحاً شديدة ببدء مشروع السيسي تحت عنوان "البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة" في 6 فبراير 2016 وقد تخرجت الدفعة الأولى منه في نوفمبر من نفس العام، بعد تثقيف المشاركين بالعديد من المعارف السياسية والإدارية والاجتماعية عقب الاستعانة ببيوت الخبرة الخاصة بإعداد الكوادر الشبابية في الداخل والخارج، وذلك في وضع المحتوى المعرفي والعلمي والتدريبي الذي استغرق ثمانية أشهر.

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة يؤكد عليها الدكتور عصمت نصار فيقول :" ولا ريب في أن البدايات مبشرة إلى حد كبير وقد تابعت ذلك من خلال ما كُتب وما شوهد من وقائع في الدورات واللقاءات التي كان السيد الرئيس أحرص ما يكون على حضورها للتحاور مع الشباب حول قضايا الساعة. ولعل قلة المعلومات والبيانات عن مضمون المعارف التي وضعت في البرنامج هي التي أقعدتني عن نقد البنية المعرفية والمنهجية للبرنامج، أما ما كُتب عن مصير الخريجين هو الذي جعلني أشعر بأن هناك ازدواجية في استراتيجية البرنامج الرئاسي وعدم وضوح الغايات أو إن شئت قل تحديد المرامي منه، فبعض خريجي الدورة الأولى قد عادوا إلى وظائفهم وأعمالهم، والبعض الأخر عُين في أجهزة الدولة (مساعدين للوزراء أو محافظين)، مع العلم بأن الصفحة الرئيسية الخاصة بالبرنامج أكدت على أن ليس من مهام هذا المشروع إيجاد فرص عمل للشباب وتوظيفهم، ولا تشكيل منظمة شبابية تكون بمثابة ظهير سياسي لينمو فيصبح حزبًا يدافع عن القيادة العسكرية للدولة".

ويستطرد فيقول الدكتور عصمت نصار :" وأعتقد في ضوء المعلومات التي وقفت عليها يجب إعادة النظر في استراتيجية المشروع لتحديد وجهته. هل يرمي إلى إعادة بناء الطبقة الوسطى على أسس حديثة تمكنها من محاربة الفساد وكل مظاهر التطرف في المجتمع، أو أن البرنامج يهدف إلى إعداد كوادر شبابية لإدارة شئون الدولة والمشاركة الإيجابية في الحياة الحزبية والإشراف على المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية وحل المشكلات والأزمات الحياتية للمجتمع".

وأخيرا يخلص الدكتور عصمت نصار إلي أنه " وبموجب تحديد الهدف والغاية تتمكن الهيئة الرئاسية من وضع البرنامج المناسب، فثمانية أشهر من الدورات التثقيفية لا يمكنها أن تصنع قيادة، كما أن معايير اجتياز هذه الدورات غير معلنة، هل هو النجاح على غرار الدورات التي تعقدها المؤسسات والهيئات الحكومية أم هو شيء أخر، وهل من ضمن البرنامج الذي يريد تخريج قيادات دورة تدريبية على التفكير الناقد واتخاذ القرار، الأمر الذي يمكن الطلاب من اجتياز الاختبار الرئيسي الذي يلزمهم بوضع تصورات لإدارة الأزمات وحل المشكلات المختلفة التي تعوق المجتمع عن تقدمه أم لا؛ ويتراءى لي ضرورة الفصل في البرنامج الرئاسي بين شعبتين أولهما تعمد إلى تثقيف الشباب وإعادة بناء الطبقة الوسطى على أن تتسع قاعدتها لتشمل كل المحافظات ويشيد في كل منها مقرًا لهذا الغرض، وذلك لاستيعاب 500 طالب في كل دورة بالشروط والقواعد السابقة؛ وثانيها تنصرف جهودها لإعداد القيادات وهي تحتاج بطبيعة الحال إلى مدة أكبر وبرنامج مغاير للشعبة الأولى، ولجان بحثية تعمد إلى:- وضع خطط لإدارة الأزمات، واستطلاع الرأي والتقصي لمد القيادات بنبض الشارع، والإعلام والإشراف على هيئة الاستعلامات ومحاربة الشائعات، والارتقاء بالذوق العام وذلك لإصلاح ما فسد في أجهزة التواصل الاجتماعي والأغاني والمسلسلات والمطبوعات".

تحية طيبة للدكتور عصمت نصار الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره ، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة ، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً

 

بقلم د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم