شهادات ومذكرات

عزمي إسلام.. عاشق المنطق الحديث

محمود محمد عليليس من المعقول أن تمر علينا الذكري الثانية والثلاثين علي وفاة الأستاذ الدكتور عزمي إسلام موسى إسلام (أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بكلية الآداب – جامعة عين شمس بجمهورية مصر العربية)، وأن نمر عليها مرور الكرام، دون ذكر أو وقفة أو تسليط الضوء على شيء من منجزات هذا العالم الكبير، فهو يعد رائداً من رواد المنطق وفلسفة العلوم بعد الدكتور زكي نجيب محمود الذين أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في هذا المجال، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم.. كما يمثل أحد كبار مفكرينا المصريين الذين كانوا في القرن الماضي يشرفوننا في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالمنطق وفلسفة العلوم في مصر وفي العالم العربي وأوربا.. كما كان كذلك أحد أبرز أساتذتنا الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في المنطق الحديث من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

كان الدكتور عزمي إسلام قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وقد شهد له تلاميذه في مصر بالكفاءة والقدرة غير المحدودة علي اكسابهم مهارة التفكير الفلسفي وجعل الأفكار الفلسفية حية في نفوسهم وعقولهم وكان شديد التأثير في تلاميذه لما تميز به من حب لا محدود لتلاميذه لدرجة أن كان يهدي إليهم مؤلفاته المطبوعة من شدة اعتزازه بهم ؛ فقال عنه كلا من : (د.أحمد عبد الحليم عطية – د. حسين علي في مقال بعنوان عزمي إسلام، المنطق وفلسفة التحليل):" يمثل عزمي إسلام، المفكر والأستاذ الجامعي المصري المتخصص في الفلسفة، والذي تركزت جهوده العلمية وإنتاجه الخصب الدقيق في مجال الفلسفة الحديثة عامة، وتحددت بشكل واضح في المنطق (الرياضي أو الرمزي بوجه خاص) والعلوم الفلسفية المتصلة به مثل مناهج البحث وفلسفة العلم ونظرية المعرف... وإذا كان عزمي إسلام بمزاجه العلمي والمنطقي قريباً من فلسفة التحليل المعاصرة، فقد اهتم كذلك بالكتابة في الفلسفة المعاصرة والميتافيزيقا، سواء في كتبه أو بحوثه ومقالاته، كما أولى تراثنا الفلسفي جزءً من وقته واهتمامه، فكتب عن ابن رشد وابن تيمية".

ولم يكتف أحمد عطية وحسين علي بذلك بل أكدا لنا أن :"المنطق الذي شغف به عزمي إسلام – وبخاصة الرمزي – كما ذكر أحمد عبد الحليم عطية – حسين علي يحتاج أكثر من أي مبحث آخر في الفلسفة، إلى معالجة فنية متخصصة لمشكلاته. فالمشكلات المنطقية لا تُحل بلغة مجازية، وإنما تقتضي دقة الصياغة الرياضية، بل إن مجرد التعبير عن المشكلة يكون في كثير من الأحيان مستحيلاً بدون مساعدة لغة تماثل في دقتها لغة ً الرياضيات. والمنطق هو الجزء الفني في الفلسفة، ولهذا السبب ذاته كان شيئا عنه للفيلسوف. ولقد غدت أهمية المنطق الرمزي بالنسبة للتفكير الفلسفي تعادل الآن أهمية الرياضة لعلم الفيزياء".

ويستطردا فيقولا :" إن عزمي إسلام قد اختار أن يدخل إلى الفلسفة من أصعب أبوابها، وأن يسير على أشق دروبها، فخص المنطق الرياضي وفلسفة العلم بقدر كبير من جهده العلمي الدقيق. ولا شك أن كتاباته في المنطق القديم والحديث تضعه بين رواد هذا الميدان العسير من ميادين الدراسات الفلسفية، وتجعله أحد روادها القليلين. أن ولا شك أيضا دراسة المنطق الحديث تمثل القاعدة الصلبة التي تنهض عليها الدراسات الفلسفية المعاصرة، وبخاصة ما أصبحت ٍ في مجالات فلسفة العلوم ومناهج البحث ونظرية المعرفة، بل ربما أصبحت ضرورة لا غنى عنها لفهم التطورات الحديثة في مجالات أخرى تبدو بعيدة عنها، كفلسفة الأخلاق، والميتافيزيقا وفلسفة اللغة".

ولا شك في أنني أؤيد أحمد عطية وحسين علي فيما قالاه عن هذا الرجل العظيم؛ فهو نعم العالم المتوحد الشامخ: سراجاً هادياً.. عالياً كالمنار.. وارفاً كالظل.. زاخراً كالنهر.. عميقاً كالبحر.. رحباً كالأفق.. خصيباً كالوادي.. مرفرفاً كالعَلم.. لا يرجو ولا يخشي.. طاقته لا تنضب.. كأن وراءها مدداً يرفدها من سر الخلود .

ولد الدكتور عزمي إسلام بالقاهرة في اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس سنة 1931، وتوفى في خريف 1987 بمدينة القاهرة عن عمر 56 عاماً عقب إصابته بأزمة قلبية. حصل عزمي إسلام على درجة “الليسانس” في الفلسفة من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1953، وعلى “الدبلوم” العامة في التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس في السنة التي تلتها (1954). وقد عمل بتدريس المواد الفلسفية بالمدارس الثانوية ما يقرب من اثنى عشر عاما، تقدم خلالها للحصول على درجة الماجستير عن “نظرية المعرفة عند جون لوك” (1962) من جامعة القاهرة. وكان معاراً من قبل وزارة التعليم العالي للتدريس بالجامعة الليبية (كلية الآداب والتربية) خلال المدة سبتمبر 1964 إلي فبراير 1967، قبل تعيينه مدرساً بجامعة عين شمس. ثم حصل علي درجة الدكتوراه في قسم الفلسفة بآداب القاهرة بـ “مرتبة الشرف الأولي” في السادس عشر من مارس عام 1966 .وكانت أطروحته للدكتوراه “فلسفة التحليل عند فتجنشتين” بإشراف الدكتور زكي نجيب محمود.

بدأ عزمي إسلام عمله مدرساً بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس في الأول من شهر فبراير سنة 1967، وأخذ يترقى في سلم الدرجات الجامعية من مدرس إلى أستاذ مساعد ( 3/10/1973(  إلى أستاذ (27/2/1978 ( إلى رئيس لقسم الفلسفة بآداب عين شمس (1978 – 1979(. وسافر للعمل في قسم الفلسفة بكلية جامعة الكويت في الفترة من 12/9/1971 إلي 31/8/1975، وعاد واستلم عمله بقسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة عين شمس اعتبارا من 2/9/1975، واستقال ليواصل العمل بجامعة الكويت. نال الدكتور عزمي إسلام جائزة الدولة التشجيعية (في تاريخ الفلسفة والمنطق) قبل وفاته بعشر سنوات (في شهر ديسمبر سنة 1978).

وللدكتور عزمي إسلام مؤلفات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : كتاب أسس المنطق الرمزي، وكتاب الاستدلال الصوري (جزآن)، وكتاب دراسات في المنطق، وكتاب مقدمة لفلسفة العلوم، وكتاب مبادئ التفكير العلمي، وكتاب مفهوم التفسير في العلم، وكتاب جون لوك، وكتاب مدخل إلى الميتافيزيقا، وكتاب مفهوم المعنى –دراسة تحليلية، وكتاب اتجاهات في الفلسفة المعاصرة، وكتاب مدخل إلى الميتافيزيقا.. الخ.

هذا بالإضافة إلي الكتب المترجمة مثل : مقدمة للمنطق ولمنهج البحث في العلوم الاستدلالية”، لـ (ألفرد تارسكي)، “فلسفة الذرية المنطقية” (وهى المحاضرة الأولى من ثماني محاضرات ألقاها "رسل" في جامعة لندن بين عامي 1917 و 1918،”، وكتابي بحوث فلسفية”، "رسالة منطقية فلسفية" لـ (لودفيج فتجنشتين)، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1990، مراجعة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي..الخ.

ومن البحوث والدارسات والمقالات التيَ طُُّور معظمها أو أُدمِج في كتب ما يلي: “ رسالة منطقية فلسفية للودفيج فتجنشتين”، و“مشكلة المعنى في الفلسفة المعاصرة” و“التحليل في الفلسفة المعاصرة” و “واحدية محايدة بين العقل والمادة”،  و“الاتجاه الذري في الفلسفة المعاصرة”، و“مبادئ الأخلاق لجورج مور”، و“مشكلة الحتمية في الفكر المعاصر”، و“ من حقوق الإنسان في الإسلام”، و“من الميتافيزيقا إلى فلسفة العلوم”،و“ابن تيمية والرد على المنطق الأرسطي”، و“المنطق الصحيح لتشارلز بيرس”،، و“برتراند رسل الفيلسوف الإنسان”، و“ألفرد نورث هويتهد”، و“فتجنشتين وفلسفة التحليل”، و“الفلسفة والطب لليدرمان”،و“ابن رشد، دراسة تحليلية”،و“مفهوم الزمان عند ماكتجارت”، و“الدكتور زكي نجيب محمود ومكانته في الفكر العربي المعاصر”، و“في فلسفة العلوم الإنسانية”، و“البرهان الرياضي على المعرفة بوجود الله عند جان موران”، فضلاً عن كتابة عدد من مواد "معجم الأعلام" عن بعض المصطلحات في المنطق وفلسفة العلم وبعض أعلام الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

وبجانب اهتمامه بالمنطق الصوري، كان عزمي إسلام مهتما بالفلسفة التحليلية ؛ وبالأخص تحليلية فتجنشتين، حيث كان الرجل يؤمن بأن فلسفة " فتجنشتين"  نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، ويرجع ذلك إلي أهمية المنهج الذي اصطنعه في بحث مشكلات الفلسفة وهو المنهج التحليلي الذي يتناول عبارات اللغة، التي نصوغ  فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، يتناولها بالتحليل المنطقي لكي يكشف عن أن هذه المشكلات ليست أصلا بمشكلات، وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة، الأمر الذي جعل فلسفة " فتجنشتين" كما يقول عزمي إسلام، أشبه ما تكون بالثورة علي الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهوم الفلسفة نفسها وكذا من مجالها ووظيفتها، فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة، وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها أو الوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم .. إلي غير ذلك – إلي البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معني منها وما لا معني له أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء علي اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي للغة، ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة نسقات فكرية أو ميتافيزيقية متكاملة، أصبحت الفلسفة لديه فلسفة للفلسفة، وأصبح عمل الفيلسوف عنده، هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف بتحليله لما يقول.

ويؤكد عزمي إسلام أن عمل " فتجنشتين " الفلسفي ينقسم إلي فترتين، فترة مبكرة وأخري متأخرة . وتجد الفترة المبكرة صياغة دقيقة لها في " الرسالة المنطقية الفلسفية " . ولكن فتجنشتين لم ينشر شيئاً عن فترته المتأخرة، وإن كان لدينا صورة أولي عنها، وذلك في كتابيه " الأزرق" و" البني" نسبة للون غلاف كل منهما، ثم صورة ثانية في كتابه : البحوث الفلسفي" Philosophical Investigations .

ثم يوضح عزمي إسلام أن هذا الرأي هو الذي يتفق عليه معظم الشراح والباحثين، حتي أن بعضهم  لا يقتصر علي تأكيد الفروق الأساسية بين المرحلتين، وإنما يذهب إلي حد الكلام عن فلسفة " أولي " وفلسفة " ثانية "، مثل الاستاذ فولفجانج اشتيجمولر في كتابه عن التيارات الأساسية في فلسفة العصر الحاضر . غير أن فيهم من يكتفي ببيان الأفكار التي عدل عنها في فلسفته المتأخرة، والتعديلات التي أدخلها علي آرائه ومواقفه التي تبنهاها في الرسالة نتيجة للتوسع في منهج التحليل، واختلاف تطبيقه، وتغير مفهومه عن اللغة، مثل أ.ج. آير في كتابه عن فلسفة القرن العشرين، وفيهم كذلك من يحاول أن يثبت أن فلسفة " فتجنشتين " ظلت في جوهرها وغايتها واحدة لم تتغير، وأن الهدف منها – علي الرغم من التوسع والتنويع في استخدام منهج التحليل اللغوي والمنطقي – هو نفي الفلسفة نفسها ودفعها إلي النهاية وإجبارها علي " الانتحار" وتقديم الأدلة والمسوغات لبيان أن عباراتها إن لم تكن لغوا هاماً ( كما قال في الرسالة) فهي في أفضل الأحوال تحاول أن تقول ما لا يمكن أن يقال، وإنما يظهر نفسه أو يتجلي بنفسه ( كما قال في البحوث الفلسفية) ... وكأن الهدف من " فاعلية " الفلسفة هو في النهاية تأكيد أن قضايا الفلسفة لا معني لها، ومن أراد أن يبحث عن المعني فليذهب إلي العلوم الطبيعية أو فليرجع إلي لغة الحياة اليومية " الجارية" التي هي صورة من صور الحياة.

ويستطرد فيقول إن دراسة فكر " فتجنشتين " في المرحلة الأولي يبدو وكانه مقطوع الجذور عن تطوره في المرحلة الثانية ؛ بمعني أن فكر " فتجنشتين " المتأخر هو سلب أو نفي لفكرة فتجنشتين المبكر. وبالتالي فإن هناك قطائع ابستمولوجية في فلسفة " فتجنشتين "، وهذه القطائع تنبثق من منطلق أن " تاريخ العلم يتخلله الكثير من القفزات والوثبات والتحولات الفجائية والجذرية وأن التقدم في تاريخ العلم لا يشبه ابدا درجات السلم التي يصعد عليها العلماء درجة بعد درجة للوصول إلي الغاية المنشودة وهي التقدم، وإنما التقدم كما يشهد عليه تاريخ العلم لا يسير وفقاً لخطي متصلة مستمرة، وإنما يحدث من خلال قطائع وانفصالات". وهذه القطائع نحاول هنا في هذه الدراسة إلقاء الضوء عليها، وتحليل عناصرها الأساسية في ضوء أهمية دراسة الابستمولوجيا في الفكر الفلسفي المعاصر.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور عزمي إسلام الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور عزمي إسلام، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم