شهادات ومذكرات

مَصَابيحٌ في دائرةِ الظِّل: عبد الحميد حمدي ومحمد يوسف

عصمت نصار(1) عبد الحميد حمدي:

لمّا كان النقد والحوار والمُحَاجَّة من آليات الإبداع والإصلاح، انتهج التنويريون المحدثون في الثقافتين الغربية والعربية هذا المنحى، ولاسيما في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وكان مقصدهم من ذلك هو غربلة كل المعارف الوافدة سواء من الموروث أو من الغرب، وانتقاء منها النافع الذي يتفق مع العقل والعلم واحتياجات الواقع من جهة، والثوابت العقدية والمقاصد الشرعية من جهة ثانية.

ويُعد مفكرنا من أوائل المستنيرين الذين اتهموا من قبل الرجعيين بالإلحاد ووصفهم الوهابيون وأنصارهم في مصر بالعمالة والعمل على تزييف الهويّة الإسلامية.

هو عبدالحميد أفندي حمدي، أديب وناقد اجتماعي وسياسي ليبرالي، ورائد من رواد صحافة الرأي المصرية (١٨٨٥-١٩٥٠م)، وُلد في دمياط في كنف أسرة برجوازية وطنية، ثم انتقل إلى القاهرة، وأضحى من شبيبة كتاب الجريدة وله عشرات المقالات في مجلة الثبات، ثم السياسة اليومية والسياسة الأسبوعية، والرسالة، والأخبار، ورأس تحرير العديد من الصحف والمجلات نذكر منها الطلبة، والسفور، والنهضة المصرية بالاشتراك مع إدوار بايار، والتجارب، وأخبار الحرب والعالم.

وقد اشتهر بين رفقائه بثقافته الموسوعية وإلمامه بالثقافتين العربية والغربية، وقد مكنته إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية من ترجمة الكثير من الروايات العالمية وتلخيص أشهر النظريات الاجتماعية والسياسية التى ظهرت فى النصف الأول من القرن العشرين. وقد وصفه معظم معاصريه بأنه الناقد الواعي المجادل. ولعل أشهر مساجلاته هى تلك التي جرت بينه وبين محمد رشيد رضا (١٨٦٥-١٩٣٥م) الذي كان يروج في الفترة ما بين الحربين إلى الفكر الوهابي بكل ما فيه من تقليد وجمود، ولا سيما حيال المرأة وحجابها، وقد انقلب بتلك الآراء على مدرسة الإمام محمد عبده وتلاميذه - تلك التي كان ينتمي إليها - إلى درجة وصفهم بالمروق والكفر في العقيدة، الأمر الذي دفع عبدالحميد أفندي حمدي إلى التصدي له على صفحات مجلة السفور منذ عددها الأول في ٢١ مايو ١٩١٥، مبينًاً أن وجهته الليبرالية المدافعة عن حرية الفكر والاعتقاد والمرأة ليست بدعة ولا ضربًا من ضروب المُروق، بل هي امتداد لمشروع التجديد وتحرير الفكر من قيد التقليد وفتح باب الاجتهاد وحرية المرأة وكرامتها وغير ذلك من دروب الإصلاح والاستنارة، وهو الدرب الذي استنه الأستاذ الإمام محمد عبده، كما بين أن حملة الرجعيين على مجلة السفور لا مبرر لها إلا الجهل بحقيقة مراميها والتشكيك في وجهة كتابها.

وأكد أن السفور الذي يدعو له لا ينبغي حصره في قضية سفور المرأة وحجابها ولا وصفه بأنه دعوة للتبرج أو مخالفة لما ثبت من الشرع، بل إنه يريد تمزيق كل حجب الزيف والخداع والفساد والغش والرياء والتملق في شتى ميادين حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية.

وقد رمز في هذا السياق إلى حال الأمة المتردي بالمرأة التي أرادوا سجنها واغتصاب حقوقها وإذلالها وإهدار كرامتها باسم الدين تارة أو العادات والتقاليد تارة أخرى، متوهمين أن المظهر يمكنه ستر المخبر المريض، وكأنه أراد إعادة قراءة كتاب (كارليل) فلسفة الملابس الخادعة التي تظهر المدلس الجاهل في عباءة العالم الأريب، والمرأة اللعوب في حجاب العفة والحياء.

وأعتقد أن عبقرية قلم "عبد الحميد حمدي" تتجلى بوضوح في مناقشته الفلسفية الهادئة لقضية سفور المرأة وحجابها التي طرحت على مائدة التثاقف والتناظر منذ مائة عام، ولا ريب في أن دفوعه وحججه التي ساقها تكشف عن أصالة نهجه الفلسفي واعتدال وجهته العقدية وقوة أسانيده العلميّة.

فقد ذهب إلى أن ادعاء الرجعيين بأن دعوتهم للنقاب ضد سفور المرأة ذودٌ عن الدين والأعراف والتقاليد زعم يحتاج إلى مراجعة، فالحجاب المادي الذي يشيرون إليه (النقاب) غير متفق عليه بين الفقهاء وغير معروف للعوام، فالقفطان الذي يغطي كل الجسد لم تلبسه المصريات إلا في أقاصي الصعيد، أما نساء الوجه البحري فترتدين الجلاليب والطرح، ونساء المدن يرتدين الملاية والبرقع، كما أن الخمار الذى ورد في النص صفاته غير معروفة، وكل هذه الأزياء لا تعبر عن الصورة المتوهمة للحجاب الشرعي الذي أباح ظهور الوجه والكفين من جسد المرأة.

وإذا قيل إنهم ينادون بالحجاب الوهابي درءًا للمفاسد الخلقية وصونًا للعفة والحياء فإن هذا القول أيضًا تكذبه شكايتهم من انحلال أخلاقيات النسوة المنتقبات، وإذا قيل إن حجاب المرأة المصرية هو الأصل الذي نشأت عليه وأن غالبية النسوة في مصر محجبات؛ فإن مثل ذلك القول يبطل دعوتهم لشيء غير موجود (السفور).

أمّا إذا كانت دعوتهم للحجاب بمعنى الفصل والعزل وسجن المرأة في بيتها، فإنّ مثل ذلك المقصد لا يوجبه الشرع ولم تحث عليه الأعراف، فالمرأة المصرية على وجه الخصوص ما زالت تجوب الأسواق في المدن وتشارك زوجها في أعمال الحقل في القرى شأنها في ذلك شأن المرأة في صدر الإسلام التى كانت تتعلم وتعلم وتعمل جنبًا إلى جنب الرجال، ولم ينهها الشرع عن ذلك.

وانتهى إلى أن الحصن الحقيقي للمرأة في تعليمها وحسن تربيتها وتعويدها على خوض ميدان العمل والمشاركة الإيجابية للمجتمع، فالعفة والحياء والفضيلة وغير ذلك من القيم التى نريدها لجمال المرأة وكمالها لا يمكن حصره في تلك الخرق التي تتسربل بها النساء .. فما فائدة سلامة المظهر إذا ما فسد المخبر؟

وحسبنا أن نشير إلى أن أصالة هذا المفكر لا تكمن في آرائه حيال هذه القضية بل تكمن في لغة مثاقفته ومصاولته للخصوم، وتأكيده على حرية الرأى بمنأى عن القدح والسب والشتم، فهو مؤمن كل الإيمان بأنه لا يقدم فصل الخطاب أو الحكم الذي لا يُرد، بل نجده في المقالات التي عالج فيها هذه القضية يؤكد أن الحقيقة تكمن في الحوار العلمي بين المثقفين والعارفين بمقاصد الشريعة وطبائع المجتمع وحاجاته، وأن هدفه من طرح هذه القضية هو الإصلاح وليس الفوضى، أو إنكار ما يثبت صحته شرعًا.

وأعتقد أن "عبد الحميد حمدي" يستحق عن جدارة وسام أدب الاختلاف، وإذا كان منا من يعشق التقليد، فينبغي عليه أن يحتذي أدب هذا الرجل في المثقفات عوضًا عن تلك البذاءات التي نعيشها في عصر انحطاط الفكر.

(2) محمد يوسف موسى:

تشهد الواقعات ومحاولات المستنيرين المتتالية - منذ العقد الثانى من القرن التاسع عشر حتى اليوم - لتجديد الخطاب الديني بأن هذا الأمر ليس يسير التحقيق من الخارج، ولن يأتي بأكله أو تتحقق كل مراميه فى ظل جمود الأزهريين وعنت الرجعيين منهم ووجود بعض التيارات المناقضة للوجهة الأشعرية التى اصطبغت بها نهوجهم حيال قضية العلاقة بين المنقول والمعقول. ومع تسليمنا بأن هناك مشروعات قد نمت بين جدران الأزهر واضطلع بها بعض الثائرين الداعين لنبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد - ثانية - لتحديث علم أصول الفقه وعلم أصول الحديث وعلم الكلام، فإن مثل هذه المشروعات قد وُجهت بالرفض بل والطعن فى أصحابها، وعليه لن ينصلح حال الأزهر - القادر دون غيره - على تجديد الخطاب الديني، إلا إذا قوى تيار المصلحين من علماء الأزهر الذين يستلهمون مشروع الأستاذ محمد عبده ومدرسته لهذا الغرض.

ويُعد مفكرنا الذى نقدّمه اليوم أحد أولئك الثائرين والمصلحين فى النصف الأول من القرن العشرين، هو الفقيه والقانوني والكاتب والمعلم والمتفلسف المصرى محمد يوسف موسى (١٨٩٩- ١٩٦٣م) أحد رواد التجديد فى النصف الأول من القرن العشرين، وُلد بمدينة «الزقازيق» بمحافظة «الشرقية»، فى بيت علم وتقوى، إذ كان معظم أفراد عائلته من خريجي الأزهر، وكانت أمه من حفاظ القرآن.

ختم القرآن مرتلاً ومجوّدًا فى سن مبكرة، ثم ارتحل إلى الأزهر عام ١٩١٢م لإتمام دراسته حتى حصل على العالمية عام ١٩٢٥م، ونظرًا لتفوقه العلمي عُين فى أحد المعاهد الأزهرية فى مدينة الزقازيق لمدة ثلاث سنوات، وفى هذه الفترة أُصيب بضعف شديد فى بصره، ومن المؤسف أن الأزهر فصله من وظيفته عقب هذه الحادثة، غير أنه لم يستسلم لهذه المأساة وقرر أن يبدأ من جديد، فتعلم الفرنسية ليتمكن من دراسة الحقوق واحتراف المحاماة عام ١٩٣٢، وفى نفس الوقت راح يطلع على الكتب الفلسفية قديمها وحديثها، وقرر ترجمة العديد من كتب المستشرقين والرد عليها، وذلك لما تحويه من مغالطات وأخطاء تاريخية. وفى عام ١٩٣٦ أعاده الإمام الأكبر الشيخ مصطفى المراغي (١٨٨١- ١٩٤٥م) لوظيفته وفى العام التالي عينه معيدًا للفلسفة والأخلاق فى كلية أصول الدين.

وفى عام ١٩٣٨م سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه فى الفلسفة الإسلامية من جامعة باريس تحت إشراف المستشرق الفرنسي (ماسينيون) وكان موضوع رسالته «الدين والفلسفة فى رأى ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط»، غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية دفعته إلى العودة ثانية إلى مصر، وفى هذه الفترة تعرف على الشيخ مصطفى عبدالرازق (١٨٨٥-١٩٤٧ م)، الذى ألحقه عام ١٩٤٥ ببعثة الأزهر إلى جامعة السوربون وحصل على الدكتوراه عام ١٩٤٨م بدرجة مشرف جدًا بعد مناقشته من خمسة أساتذة يرأسهم (ليفي بروفنسال).

ولم يكن محمد يوسف موسى مدرسًا تقليديًا، بل كان مجددًا ومحدثًا ومطورًا بطبعه، الأمر الذى دفعه إلى إعلان الحرب على كل قلاع الجمود والتقليد فى التعليم الأزهري، ونادى بالتوسع فى إرسال البعثات العلمية إلى المراكز البحثية الكبرى فى أوروبا، ولاسيما تلك التى عكفت على دراسة التراث العقدي والفلسفي الإسلامي، وقد جابه الأزهريون دعوته بالرفض وراحوا يحيكون حوله المؤامرات، الأمر الذى كان وراء نقله إلى جامعة فؤاد الأول للعمل أستاذًا للشريعة فى كلية الحقوق عام ١٩٥٢.

أمّا مشروعه الإصلاحي؛ فيمكن إيجازه فى ثلاثة محاور، وجميعها مستمد من مشروع الأستاذ الإمام محمد عبده ومدرسته. أولها القضاء على الخصومة المتوهمة بين الفلسفة والعلم من جهة، والدين الإسلامي من جهة أخرى، وتبيان أن علاقة التجاور بين الأنساق المعرفية هى الأفضل، فليس من مصلحة الدين القضاء على العقل أو الإطاحة بالفلسفة كأسلوب تفكير، أو جحد العلم ونظرياته وتطبيقاته المعاصرة باسم الموروث العقدي وما ألفناه من فقهائنا الأقدمين، وهذا لا يعنى التضحية بالثوابت العقدية التى تحوى بين طياتها المشخصات الإسلامية لمسايرة نظريات سياسية أو اجتماعية أو علمية لم يقطع بصحتها، كما ينبغي على المفكرين المسلمين عدم القطع بصحة الوافد سواء كان مصدره التراث العربى الإسلامي أو الوافد الحديث من الغرب، وتطويع القيم والأخلاق الإسلامية والمبادئ العقلية الفلسفية لتوائم مع الواقع المعيش، فلا فائدة من التجريد والتنظير فى الواقع العملى الذى لا يعترف بصحة الأمور إلا فى ميدان التجريب والتطبيق، ومن ثم جاءت دعوة مفكرنا للفلسفة التطبيقية وأخلاقيات المهنة.

أمّا المحور الثانى فيتمثل فى قضايا التعليم الذى يجب تطويره من حيث الأسلوب والآليات وتجديده من حيث تخليصه من الحواشي ومواطن الحفظ ومواضع التلقين وتحديثه للمعارف والعلوم والفلسفات والمناهج النقدية المعاصرة وطرائق التحقيق العلمي، ذلك بالإضافة إلى دعوته لتوحيد التعليم الابتدائي الذى يتلقى فيه النشء المبادئ الأساسية التى تكون الهوية وتؤسس عليها المشخصات الدينية والقومية، لا فرق فى ذلك بين المدارس الأزهرية والمدارس المدنية مصرية كانت أو أجنبية، وتحديث الخطاب الدعوى فى الكليات الأزهرية والتأكيد على أن الاجتهاد هو الأصل الذى يجب أن تقوم عليه الدراسات الأصولية والفقهية. وثالثها تحديث المناهج الأزهرية فى دراسة الفقه الإسلامي على نحو يُمكّن الطالب من فهم مقاصد الشريعة وكيفية استنباط الأحكام وتخير ما يناسب الواقع المعيش من الآراء المتباينة، وذلك بفضل اطلاعه على الفقه المقارن، وقد نادى غير مرة بضرورة عمل موسوعات فقهية تشتمل على الآراء والأحكام الفقهية دون التقيد بمذهب أو بطائفة دون أخرى، أما الشاذ فيجب إدراجه أيضًا وتبيان أوجه الشطط والخلل والانحراف فيه دون تسفيه أو قدح، فالمجتهد المصيب له أجران، ودونه له أجر المحاولة.

أمّا آليات تطوير هذا العلم؛ فيمكن إيجازها فى : عدم مخالفة قطعي الثبوت والدلالة من القرآن وصحيح السّنة، وذلك فى إصدار الأحكام أو مناقشة القضايا المعاصرة، وتقديم المقاصد الشرعية فى ميدان التطبيق. تحقيق المصادر الفقهية تحقيقًا علميًا نقديًا واستبعاد ما لا يتلاءم مع الواقع. إنشاء مجمع عالمي للفقه الإسلامي وتكون سلطته العلمية هى التى يجب تعميمها بوصفها نتيجة إجماع العلماء المجتهدين فى هذا العصر. تقديم العقل على النقل فى فهم النصوص الشرعية.

وحسبي أن أؤكد أن مشروعات التجديد وآلياتها موجودة بالفعل ولا ينقصها إلا الطاقة الدافعة للتطبيق الذى نادى به مفكرنا المجتهد المناضل.

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم