شهادات ومذكرات

علي مصطفى مشرفة.. رائد فلسفة العلم (2)

محمود محمد علي"الفلسفة والعلم"

ذكر في المقال السابق إلي أنه في الخامس عشر من يناير من عام 1950 غيب الموت عالم الفيزياء المصري الشهير الدكتور علي مصطفي مشرفة والذي لقب بأينشتين العرب، والذي كان أول من كتب أبحاثاً بالعربية للتعريف بالذرة والقنبلة الذرية، وكان لوفاته في سن الحادية والخمسين أن تطرح أسئلة ما زالت أصداؤها مستمرة حتي اليوم، ما إذا كانت تلك الوفاة طبيعية، أم أن أيادي خفية قد تدخلت لتتسبب في تلك الوفاة .. ولكن كتاب " دكتور علي مصطفي مشرفة: ثروة خسرها العالم" من تأليف شقيقه الدكتور عطية مشرفة ينفي تماما هذه الأقاويل ويؤكد أنه مات علي فراشه.

وهنا في هذا المقال أود أن أكشف عن حقيقة مهمة تتعلق بالدكتور مشرفة، وهو إيمانه الشديد بأن الفلسفة والعلم أثران من آثار العقل البشري ؛ حيث يقول :" أولاهما ترجع إلي عصور نشأة المدينة ذاتها، وإذاً فهي جديرة بجلال السن ووقار النضوج . وأما العلم فوليد الفلسفة ورضيع ثدييها . ولو أنني سئلت أن أحدد تاريخ ميلاد  العلم علي وجه التحقيق لتحاشيت الإجابة علي السؤال، ولكننا لا نكون بعيدين عن الواقع كثيراً إذا نحن اعتبرناه في النصف الأول من القرن السادس عشر .

وليس معني هذا كما يقول علي مصطفي مشرفة أن العلم لم يكن له وجود قبل هذا التاريخ ؛ فقد كان موجوداً ولكن كجنين يتداخل في كيان الفلسفة بلا شخصية منفردة ولا حقوق سياسية ولا روح مستقلة . ومن المهم أن نلحظ كما يقول علي مصطفي مشرفة في دراسة تطورات هذا الطفل – لا سيما الأولي منها – أنه ولد ثأئراً علي أمه، فولادته ذاتها كانت خروجاً علي الآراء والتعاليم الفلسفية في عصره . كان ولداً عاقاً لا يخضع لما يريد أن يمليه  عليه من هم أرشد منه واحكم بل ظن أنه أخبر وأعرف شأن الصبية إذا امتلأوا حيوية وصحة.

كانت الفلسفة كما يقول علي مصطفي مشرفة عجوزاً تميل إلي التأمل الداخلي بعيدة عن الحياة العلمية بل شر من ذلك كانت لها آراء ثابتة عن هذه الحياة العملية، وكانت نستشيط غضباً وحدة، بل وتنزل عذابها ونقمتها علي كل من تجرأ  بالتشكك في هذه الآراء.  فهل نعجب إذاً لثورة العلم علي هذه الشمطاء القاسية.

وأحدثت ثورة العلم كما يقول علي مصطفي مشرفة انقلاباً أدي إلي استتباب نظام جديد في مملكة التفكير البشري، فقامت حكومة جديدة، وعلي أساس دستور جديد، فمن ذلك الوقت، انتهي أمد التأمل الداخلي والتشريع المبني علي التفكير في حجر مقفلة؛ إذ ما معني أن يحجب المرء عن نفسه علم الحقيقة، لكي يتأمل في حقيقة العلم؟!.

كان شعار الحزب الجديد كما يقول علي مصطفي مشرفة ( شاهد أولاً) فأسرار الطبيعة تعرف من الطبيعة بالاستجواب المباشر، وإذا هي أبدت امتناعاً، أو تعلثماً، اخترعت الآلات والأجهزة اللازمة لجبرها علي الاعتراف.

لقد لقي رواد هذه الحركة، كما يقول علي مصطفي مشرفة نجاحاً مشجعاً فكوبرنيك (1473-1543) وتانجوبر (1546-1601م)، وكبلر (1571-1630م)، وجاليلي (1564-1642م) قام كل منهم بنصيبه في تنمية المعرفة الجديدة، واختراع الأخير منهم تلسكوبه، لكي يتطلع البشر إلي أعماق الفضاء، ويروا عالمين آخرين، ثم جاء الانتصار تلو الانتصار، فجيوش العلم، قد نظمت فصارت لا تغلب وكلنا خبيرون بقصص فتوحاتهم وأحاديث نصرهم.

سأترك الجيوش المنصورة كما يقول علي مصطفي مشرفة في تقدمها، وأتحول لحظة إلي دراسة خطة قتالهم، فهذه الخطة، كانت إلي عهد قريب، تمتاز بوضوحها ودقتها، وهي تعرف بالطريقة العلمية، وهي شيئاً كالآتي : كل باحث علمي بعد أن يختار طائفة من الظواهر الطبيعية، ليبحثها عليه أن يجري عدداً من المشاهدات كثيراً علي قدر استطاعته في ظروف متفاوتة علي قدر الإمكان، وعليه بعد هذا كما يقول علي مصطفي مشرفة أن يدون نتائج هذه المشاهدات بقدر ما يستطيع من الدقة والوضوح، وأن يصف ظروف كل مشاهدة وصفاً مضبوطاً، وبهذه الطريقة يحصل العلم علي مادته، أو معلوماته الأولية، ويستحسن أن تكون هذه المعلومات الأولية علي صورة أعداد ؛ أي أن تكون كمية، وكلما أمكن ذلك كما يقول علي مصطفي مشرفة قيل أن المعلوم هو قياس مضبوط ؛ إلا أنه في كثير من فروع العلم لا يتيسر التعبير بالأعداد فتستعمل عبارات لفظية معيارية، بدلاً من الأعداد، وهي ما يسميه كما يقول علي مصطفي مشرفة المصطلحات العلمية هذه المادة الأولية من أعداد ومصطلحات تصير غذاء للتفكير البشري يحاول أن يؤلف من مختلفها ومتفرقها وحدة متماسكة تقابل وحدة الحقيقة الخارجية، أو العالم الوقعي . هذا العالم كما يقول علي مصطفي مشرفة،هو إذن آلة عظيمة نابضة تعمل طبقاً لقوانين ثابتة ووظيفة العلم هي خلق صورة مضبوطة لهذه الآلة في العقل البشري هذه الصورة، أو هذا الأنموذج، يجب أن يكون ديناميكياً، لا كاللعب الرخيصة الاستاتيكية، التي يلهو بها بعض صغار الأطفال، بل كالأصناف الغالية منها تصغر وتنفخ في حركتها، ولذا كان من الضروري كما يقول علي مصطفي مشرفة الكشف عن القوانين التي تضبط حركة الآلة، وبذلك صار الوصول إلي معرفة هذه القوانين الطبيعية، كما تسمي أول هم للعلم وسائر القراء خبيرون بهذه القوانين، فقانون مثلاَ كما يقول علي مصطفي مشرفة يضبط تصرف الغازات، وقانون الجاذبية العالمية يتحكم في حركات الكواكب، والنجوم، وقوانين الوراثة، يفترض أنها تنظم انتقال الصفات والمميزات من السلف إلي الخلف .

وعملية محاولة الوصول إلي صوغ القوانين الطبيعية في كنهها كما يقول علي مصطفي مشرفة عملية تفكير بحت، فالعقل البشري بإعماله الفكر في معلومات العلم الأولية، يجد انتظامات تظهر له من درسها؛ ففي العلوم الأكثر ضبطاً كالطبيعيات، والفلك، يكون الطريق كما يقول علي مصطفي مشرفة عادة من المعلومات المتفرقة إلي القوانين المصوغة طويلاً ووعراً، ويقتضي استعمال رموز معقدة، وإجراء عمليات فكرية صعبة . إلا أننا كما يقول علي مصطفي مشرفة نضع ثقتنا في القوة البشرية المفكرة وتنقاد انقيادا أعمي لمنطق الفكر، وفي الواقع لا يكاد يكون أمامنا سبيل آخر، فإذا خاننا كما يقول علي مصطفي مشرفة منطق الفكر وجب علينا أن نعيش في مستشفيات المجاذيب .

ومن حسن الحظ أن منطق الفكر كما يقول علي مصطفي مشرفة لا يخوننا وقوانين الطبيعية التي يصوغها الفكر ليست هذياناً ولا هلوسة، فإننا نستطيع كما يقول علي مصطفي مشرفة أن نحكمها بمحك الحقيقة فنستدل علي صلابتها وماديتها، أو إذا نحن كما يقول علي مصطفي مشرفة وجدنا فيها عيباً، فإن ذلك إنما يكون راجعاً إلي نقص أو خطأ في معلوماتنا الأولية يرينا منطق الفكر كيف نتحاشي أثره فنصوغ القوانين مرة أخري خالية  مما يشوبها وهكذا يزداد  همنا كما يقول علي مصطفي مشرفة للطبيعة ازدياداً متواصلاً ويزداد  أنموذجنا شبهاً بالشئ الحقيقي، وإذا كنا نستطيع كما يقول علي مصطفي مشرفة صنع الأنموذج فلماذا لا نجرب أيدينا وعقولنا في صنع الشئ ذاته .. أليس الرق كما يقول علي مصطفي مشرفة فرقاً في مقياس الرسم ليس إلا ؟ هكذا تتحول المعرفة إلي قدرة علي تكييف الطبيعة طبقاً لإرادتنا كما يقول علي مصطفي مشرفة فانتصار العقل علي المادة محقق والزمن وحده كفيل بمجيئ الحكم المطلق للإنسان.

ربما ظهر مما تقدم أنني كما يقول علي مصطفي مشرفة أحاول السخرية بكل من الفلسفة والعلم فبعد أن صورت الفلسفة في صورة عجوز لا تقدر علي شئ، إذا بي أجعل العلم طفلاً ..  وبظن نفسه قادراً علي كل شئ أو بعبارة اخري كما يقول علي مصطفي مشرفة أنني في محاولتي أن أقف موقف العدالة نحو كل من الفلسفة والعلم، إنما نجحت في أن لا أكون عادلاً نحو أيهما، وجوابي كما يقول علي مصطفي مشرفة علي ذلك أنني لا أتكلم عن الفلسفة والعلم، بل عن فلسفة القرون الوسطي وعلم القرن التاسع عشر، فكلنا عرضة لأن نمر في حياتنا بمراحل نكون فيها إما متصلبين في الرأي نملي الحقيقة إملاءً أو ممتلئين شعوراً بأهميتنا وقدرتنا، وما دمنا نجتاز هذه المراحل إلي غيرها نكون أوقع وأكثر اتزاناً منها، فإن المراحل الأولي التي نجتازها كما يقول علي مصطفي مشرفة تكون قد قامت بقسطها في التطور الطبيعي لارتقائنا.

ففلسفة وعلم اليوم  لا هما متصلبان ولا هما متعجرفان  كما يقول علي مصطفي مشرفة والعلم  علي وجه الخصوص – هو الوحيد بينهما الذي استطيع كما يقول علي مصطفي مشرفة أن أتكلم عنه بشئ من التحقق – يمتاز في طوره الحالي شئ من الوداعة والحياء وعدم الرغبة في الإجابة إلي أي سؤال يوجه إليه تعلو وجهه الحيرة وتظهر عليه علامات  الحيرة وعدم الثقة بالنفس، فطفل القرن التاسع عشر الممتلئ إعجابا كما يقول علي مصطفي مشرفة بنفسه وثقة بالنجاح  قد أصابته صدمات متتالية في أوائل القرن الحالي ( ويقصد القرن العشرين)  جعلته خجولاً حماساً .. وهنا يقول علي مصطفي مشرفة ولا أريد هنا أن أصف هذه الصدمات التي هي في الواقع خطوات في تقدم المعرفة البشرية يرجع الفضل فيها إلي أينشتين وماكس بلانك ولوي دي بروليه وسواهم، ولكنني كما يقول علي مصطفي مشرفة سأكتفي بالإشارة إلي بعض النتائج الفلسفية لهذه الصدمات . فمن المعلوم كما يقول علي مصطفي مشرفة أن الزمان والمكان وعلاقة كل منهما بالوجود من المسائل التي شغلت بال الفلاسفة من قديم الزمن، ومن التعاريف المشهورة للوجود الخارجي البقاء في الزمان والمكان وأيا كانت الاختلافات بين الفلاسفة إلي أواخر القرن الماضي في معني الوجود ومميزاته فلا أطن كما يقول علي مصطفي مشرفة أن هذه الاختلافات قد ظهر فيها عنصر اختلاط بالزمن بالمكان حتي أوائل القرن العشرين . ففكرة الزمان وفكرة الماكن كانتا كما يقول علي مصطفي مشرفة تدخلان في تركيب فكرة الوجود، ولكن بحيث تكون كلتاهما مستقلة عن أختها ثم يجتمعان دون أن يختلطا . فمثلاً لا أظن كما يقول علي مصطفي مشرفة أنه كان هناك ريب في ذهن فلاسفة القرون الماضية في أن تتابع حاثين بالذات من حيث أسبقية أحدهما علي الآخر، فالزمان مسألة تحقيقية لا يجوز أن يختلف فيها اثنان كما يقول علي مصطفي مشرفة.

فالعالم الخارجي كان كما يقول علي مصطفي مشرفة عبارة عن جملة صور لحظية تملآ كل صورة منها الفضاء بأسره هذه الصور تتلو الواحدة منها الأخري لحظة في لحظة من اللحظات، ثم من تتابعها يتألف كما يقول علي مصطفي مشرفة مجموع الحقائق الخارجية من أول الماضي إلي آخر المستقبل، ولم يكن هناك احتمال أن يختلف اثنان لي حقيقة صورة واحدة من الصور اللحظية ولا علي طريقة تتابع هذه الصور لحقيقة العالم . فاللحظة التي أكتب كما يقول علي مصطفي مشرفة فيها هذه الكلمة مثلاً كانت يعتبر شيئاً واقعاً يصح أن أعرفه كما يصح أن يعرفه الغير ولم يخطر بالبال أن ما يمكن أن أعرفه أنا عن هذه الحقيقة قد يختلف عما يمكن أن يعرفه الغير إذ لو سلم بهذا لأصبحت الحقيقة مسالة ظنية أو علي الأقل غير حقيقية ولضاع معني البحث في كنه الوجود.

من كل ما سبق يتضح لنا أن الدكتور علي مصطفي مشرفة كان عالماً قبل أن يكون مفكراً، وكان مفكراُ قبل أن يكون عالماُ، فاهتدي بفكره إلي نتائج عملية مهمة ؛ نذكر منها ذلك العلم الرياضي الذي يرتب الأمور علي بعضها ترتيباً لا يتطرق إلي بنائه مثقال ذرة من الشك، ذلك العلم الرياضي الذي أحكمت قواعده ورسخت مبادئه، ذلك  العلم الرياضي الذي ينطلق من المعطيات التي أمامه فيصل إلي النتائج بعد ان ينفذ من شباك المعضلات من حوله، ذلك العلم الرياضي الذي يفترض الفروض ويمضي به فإن خلص منه إلي النتيجة كان بها، وإلا بحث عن غيره وظل يبحث حتي يأتيه اليقين.

وحتي لا يطول بنا الحديث فإنني في نهاية هذا المقال لا أملك إلا أن أقول بأن الكلمات لا تستطيع أن توفي الدكتور مشرفة حقه، فتحية طيبة لهذا العالم الجليل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للفيلسوف المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.......................

المراجع

1- علي مصطفى مشرفة : الفلسفة والعلم، دراسات تربوية، رابطة التربية الحديثة، مج4 , ج 20، 1989.

2- د. محمد الجوادي : مُشرفة: سيرة حياة، دار الشروق، القاهرة، 1980.

 

 

في المثقف اليوم