شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: "عرار".. الشاعر الذي ارتدي عباءة "نيلسون ماندلا" (2)

محمود محمد عليفي هذا المقال نحاول أن نتناول تجربة عرار، بصفته متمردا وغير خاضع لأي إطار سواء أكان اجتماعياً أم سياسياً، فمثل هذا التمرد الذي عاشه عرار، لم تتطرق إليه الكثير من الدراسات المعمقة من قبل الدارسين والباحثين الذين يفضلون عرار المهادن المصالح، ولذلك وجدناه يذهب في شعره باتجاه الغجر، وباتجاه الخمر يؤشر إلى حالة الاحتقان السياسية والاجتماعية، التي كانت تعصف بالمجتمع الأردني، وتضيق الخناق عليه؛ فمن جهة كان هناك الحكم الإنجليزي المستبد في كل من الأردن وفلسطين، ومن جهة أخرى كان هناك الصهاينة الذين كانوا يعدون الخطط من أجل الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية والعربية، وأبياته عن المسجد الأقصى الذي يهدده الضياع خير مثال على المستقبل السوداوي الذي كان ينتظر المسجد الأقصى.

ولذلك وجدنا عرار العروبي الإنساني قد نشأ على معاداة المشروع الصهيوني، ومنذ ذلك الحين وقف على خطر هذا المشروع ليس على فلسطين بل على الأردن، بل على جامع قريته وكنيسة العذراء فيها، ولهذا نظم محذرا:

"يارب"، إن «بلفور» أنفذ وعـده كم مسلما يبقى وكم نصراني؟!

وكيان مسجد قريتي من ذا الذي يبقـي عليه إذا أزيل كيانـي؟

وكنيسـة العذراء أين مكانهـا سيكون إن بعث اليهود مكاني؟»

وفي شعره نري أن هموم الإنسان هي هموم الوطن، هي المعاناة من المستعمر، فتحدث عن الوطن والمستعمر . فجاءت قضائده رائعة التصوير، بارعة المعاني والنكتة الساخرة، فيها خفة روح ودعابة، فكان حاضر البديهة رقيق الشعور، وغالباً ما كان يخفي وراء ذلك كله غماً وهماً .. ومن أطرف ما يذكر عن "عرار" في هذا الإطار الوطني أنه عندما كان أستاذاً للعربية في مدارس الكرك وإربد والحصن أخذ يؤلب النشيء الجديد علي المستعمر ويحذر من مؤامراته ويدعو إلي مساندة العرب في كل مكان:

سلم علي النبي محمد ... وأحمل سلاح مجاهد مستشهد

وأخدم لعزة دولة عربية ... في الجيش والبس شكة المتجند

يا ابن الألي وردت سوابق خيلهم... نهر المجرة في زمان السؤدد

هلا اقتفيت إلي العلا آثارهم... فالمجد في الفسطاط لا في المربد.

وفي الوصايا التي كتبها للتلاميذ أثناء تعليمهم بحثهم فيها علي التضحية من أجل أن يبقي الوطن أمناً يعيش في استقرار دائم .. " اعتقد أن روحك فداء أمتك، وحذار أن تهمل نفسك فتضيع أمتك، والجزيرة حافظ عليها . وقل أمام كل إنسان وفي نفسك علانية وسراً أنا أسعى لا ستقلال الجزيرة، وأتحمل في هذا السبيل كل شئ حتي الموت، أحيا من أجل هذا، وأموت مستريحاً في سبيل أمنية العرب اللهم أشهد، إني عربي اتعلم لأجل استقلال العرب، وأحيا وأموت لا أغير عقيدتي، أنا رهن إشارة قومي وإن أضاعوني".

علاوة علي أن شعر عرار كما ذهب بعذ الباحثين قد شكل تاليا نقطة انطلاق لدى شعراء عرب كثيرين، فقد رأى هؤلاء فيه أنموذجا يحتذى به، خصوصا فيما يتعلق بصورة الشاعر المتمرد المتصعلك، الخارج على القوانين والأنظمة والعادات والمنتصر في الوقت نفسه لقضايا فلسطين والحرية، ولذلك وجدناه يصوغ قصائده في هذه النماذج وغيرها من النماذج الأخرى بنسق شعري بسيط وبمفردات من اللغة اليومية المتداولة للشعبية، ومن هنا أطلق على أشعاره بـ"الشعبية"، لافتا إلى أن عرار اشتهر بأنه استخف كثيرا بالقيم السائدة في مجتمعه، معرضا بها وغير عابئ بردود الفعل ضده، فهو بحق ابن وطنه المخلص، والمعبر عن آمال وآلام شعبة بالكلمة الصادقة والموقف النبيل.

إن "عرار" بوعيه الثاقب انتبه منذ البدايات إلى الطبقة الإقطاعية التي كانت تتحكم بالثروة، وذلك مقابل الطبقة المسحوقة التي تمثل معظم البنية المجتمعية في الأردن، ومن هنا انتصر "عرار" من خلال شعره للمحرومين والمسحوقين من أبناء شعبه، كما قام بهجاء الطفيليين الذين يعيشون على امتصاص الشعب، ولذلك رأيناه في شعره يبحث عن أفق اجتماعي تترسخ فيه قيمة العدالة الإنسانية المطلقة، وكان يعيش في سياق حضاري فيه طبقات اجتماعية متنفذة مارست ظلما ملحوظا على الفقراء والمساكين، فكان "عرار"  يعبر عن موقفه الرافض لهذه الهيمنة الاجتماعية ويرفض تنفيذ القوانين التي صيغت لمصلحتهم

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة وهي تتعلق بأثر"عرار" التجديدي في الشعر، فالقارئ لتجربة "عرار" يلاحظ نزوعه المبكر في الثورة على تقاليد القصيدة السائدة في ذلك الوقت. لقد كتب "عرار"  قصيدة التفعيلة قبل وقت طويل من السياب ونازك الملائكة، وهذا واضح في التواريخ المثبتة في نهايات قصائد التفعيلة التي أنجزها، كما أن مثل هذه الثورة على تقاليد الشعرية كانت منسجمة مع ثورته على الواقع السائد أيضا، حيث تمثل قصائد عرار ذات خصوصية تميزها عن غيرها من القصائد، حيث تمتلك بنية منفردة، إضافة إلى مواصفات أسلوبية لا يشاركه فيها غيره من شعراء مرحلته، ولكن هذا لا يعني أن الشاعر مقطوع عن الحركة الشعرية العربية التجديدية، كما انه لا يبتعد عن البعد القومي العروبي على امتداد الوطن العربي الكبير؛ ولهذا فإن "عرار"  بحضوره الحار في نادي الشعر العربي استطاع ان يقدم نماذج بشرية واقعية ميزت المجتمع بما فيه من آفاق ومآس: الهبر وصورة للظلم الاجتماعي، عبود وصورة التزمت والتطرف، قعوار وصورة الخمر والندماء، وكوكس وصورة المستعمر المحتل.

وهنا راينا جاذبية شديدة شكلتها شخصية نيلسون ماندلا وفلسفته الإنسانية لعرار، حيث كان مفتونا به ويقلده على مستوى السلوك والرؤية للحياة واقتناص المعنى الفلسفي العميق للوجود الإنساني، ومحاولة تبرير تمرده على القيم الاجتماعية، خصوصا فيما يتعلق بإدمانه على الشراب، وسخريته اللاذعة للرموز الدينية في عصره.

وفي اعتقادي أن حبي لعرار يكمن تعلقه بالحرية، سيما أنه من الشخصيات الرواسي العالمية، التي تعلقت بالحرية وبالدفاع عنها، وعن أهمية أن يكون للإنسان الحق في اختيار نهجه ونمط تفكيره وطريقته في الحياة، والتي جعلته يقف ضد القهر والظلم وناضل لوطن يقوم على حرية المواطن، وعلى حقه في امتلاك خياراته، وعلى المساواة امام القانون، وتكافؤ الفرص بين الناس، وعلى العدالة السياسية والاجتماعية، ولذلك فإنه من الأولى بنا أن نلتفت لقيم عرار المؤسسة لوطن يسوده السلام بسيادة القانون والمواطنة والحرية، الأولى الرجوع لقيم عرار والتي كرسها الدستور.

وقد عاش "عرار" خمسون سنة عاش منها متقلباً بين اللهو والجد، والسياسة والشعر حوالي أربعون سنة من عمره، وكان يعلم أن أجله لا بد وأن يأتي في يوم من الأيام، لذلك أعد العدة وهيأ نفسه لساعة لا مناص منها، وقبل دنو أجله طلب أن يكون قبره في تل إربد تحديداً حتى يبقى مشرفاً على سهول المدينة ووديانها ومرتفعاتها وشوارعها التي وضع بصمته عليها، وكان بينه وبينها علاقة تشبه علاقة الحبيب بحبيبته، والعشيق بعشيقته..

ويكثر المؤرخون ليحاة "عرار" من التركيز علي أن الرجل كان جملة من التناقضات، والطباع العجيبة، والشاعرية والبساطة، والذكاء، والروح المرحة، والنقد اللاذع، والقاق، والنزق، والاضطراب، والتمرد، والمناكفة. تميز "عرار" بروح مرحة، لم تترك لحظة أو موقفاً إلا وأضفت عليه مسحة من الظرف والدعابة، وكان كثير السخرية، بعيداً عن الجدية، وعرف عنه ذلك في حياته الشخصية والرسمية، في الوظيفة وغيرها، دون أن يؤثر هذا الجانب المرح الساخر في موافقه الوطنية، فهو مرح، ولكن ليس إلي حد الابتزال، ساخر، ولكن ليس إلي حد الإسفاف . وقد كان المرح والفكاهة والسخرية عنهد " وسيلة للنقد الكاريكاتوري اللاذه لأوضاع مجتمعه، ورموزها البشرية .

كان "عرار" غريباً في طريقة حياته، مما أثار بعض من تعاملوا معه، حتي اتهمه بعضهم بالشذوذ، وبعضهم اتهمه بالإنحراف، فكان يقابل اتهاماتهم هذه بالهزء والاستخفاف أحياناً، وبالعتب أحياناً أخرى، وقد اتصف بالإنطلاق وعدم اللامبالاة، والخروج علي كل عرف ومألوف، وامتلأت حياته بالنوادر والدعابات التي تثير الدهشة والإعجاب، وتكشف عن جوانب ممتعة من شخصيته .

وفي نهاية هذا المقال الثاني أقول الإذاعي اللامع " أحمد مزيد أبو ردن"  وهو يرثي "عرار"  فيقول: يا شاعر الأردن يا سيفاً تجرد في المصاب.. علمتنا أن الثري كالعرض يفُدى بالرقاب... يامصطفي أنت الخلود ولوتعيبك التراب .. ولبثت تشرحُ بؤسنا حمماً قوافيك الغضاب.. ستظل طراد الهوي بين الخرائد والكعاب .. علمتنا كيف الوفاءُ يكونُ إن عز الصحاب.. نبكيك في زمن التخاذل وانحناءات الرقاب .. ماذا أقول أراثيا فيجف في حلقي اللعاب.. يا فارساً عزت به الأيام إن عصفت العذاب.. فوق الرثاء لأنت يا رمزاً  تشامخ كالقباب.

رحم الله  "عرار "، والذي كان واثق الخطوة في كل مواقفه. كان مجدداً ولم يكن مقلداً بأي وجه من وجوه التقليد. والمجدد ينظر إلى الأمام، والمقلد ينظر للخلف والعياذ بالله، المجدد يمثل النور، والمقلد يمثل الظلام، ألم يقل الفيلسوف ابن سينا في دعائه إلى الله تعالى: فالق ظلمة العدم بنور الوجود. ومن حكمة الله تعالى أنه خلق عيوننا في مقدمة أدمغتنا، ولم يوجدها في مؤخرة الأدمغة. كانت كتابته تمثل شلالاً متدفقاً من الحكمة والمعرفة، وإن كان أكثرهم لا يعلمون، وتعد بحراً على بحر، إنها تعد نوراً على نور، ويكفيه أنه حارب طوال حياته حياة الظلام والتقليد، إنه مدرسة كاملة، وإذا كانت روحه قد صعدت إلى السماء خلال الأشهر الماضية، فقد صعدت إلى عالم الخلود والبقاء واستراحت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

نعم رحم الله "عرار "، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...............................

1- لقمان محمود: شاعر الانسانية والغجر، عرار رائد القصيدة الاردنية الذي تفرد بين جيله.. مقال.. التاريخ: 19 أبريل 2000.

2- أبو ردن، أحمد مزيد: مرثية عرار، المجلة الثقافية، الجامعة الأردنية، ع42، 1997.

3- أحمد أبو مطر: عرار الشاعر اللامنتمي، أقلام الصحوة، الإسكندرية، ط1، 1977. دار صبرا للطباعة والنشر، دمشق - نيقوسيا، ط2، 1987.

4- عرار شاعر الأردن، يعقوب العودات (البدوي الملثم):، دار القلم، بيروت، ط1، 1980.

5- عرار شاعر الأردن وعاشقه (مختارات)، عبد الله رضوان، منشورات أمانة عمان الكبرى، عمان، ط1، 1999.

6- مصطفى وهبي التل، حياته وشعره، كمال فحماوي، د.ن، عمان، د.ت.

 

 

في المثقف اليوم