شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: الشاعر أحمد فؤاد نجم.. المعارض الأبدي الساخر (1)

محمود محمد عليترتبط السخرية بالسياسة ارتباطاً وثيقاً يمتد لتوغل في عمق التاريخ الأدبي، والسخرية السياسية تختلف عن التهكم السياسي. وقد عرفنا في الفلسفة عند اليونان أن " التهكم عند سقراط هو اصطناع الجهل على أمل أن يراجع الطرف الآخر في الحوار آراءه، ولكن السخرية، بعيداً عن الحوار، هي" أسلوب في الكتابة يؤدى لانفجار الضحك وبيان تهافت رأى كان محاطاً بهالة من التقدير والقداسة "(1)؛ كما عُد أرِسْطُفان أو أرِسْطُفانِس (ت 385 ق. م)" سيد المسرحية الهزلية التي تبطن النقد السياسي والاجتماعي، وفي العصور الوسطى الإسلامي وجدنا ملامح السخرية السياسية تظهر بوضوح مع بداية العصر العباسي، فكان من أشد الساخرين وقعاً الشاعر "بشار بن برد"، إذ سخر من كبار رجال الدولة، وكذلك عُرف هذا اللون عند المتنبي الذي سخر من السلطة والمجتمع في عصره، وقيل عنه إنه " كان يغالي في احتقاره للحكام والخانعين اللذين رضوا بحكم الظالمين "؛ وفي العصر الحديث في فرنسا عُد الفيلسوف "فولتير" (تــ 1778م) بأنه من المقدمين للثورة الفرنسية، ومن الأدمغة المتحررة التي ساهمت في تفجير الثورة الفرنسية. وجرته عقلانيته إلي التصادم مع السلطات التي زجت به في سجن الباستيل لردح قصير من الزمن. لقد كان من المعجبين به الوصي على العرش الذي سعى للإفراج عنه. وبعد إطلاق سراحه ذهب ليشكره على حسن صنيعه فنصحه الوصي بالتعقل ليمكن مساعدته، فأجابه فولتير: "شكراً لك. ولكن لدي رجاء واحد. وهو أن تكفوا من الاهتمام بإقامتي"" (2).

وهؤلاء جميعاً قد كشفوا عن عمق العلاقة بين السخرية والسياسة ومدى ارتباط السخرية بالسياسة، فأين ما كان الظلم تكون السخرية وسيلة موضوعية وفنية للقضاء عليه، ومن ثم ينتج عن التناقض بين الفنان والبيئة ذلك الفن الراقي الذي يتصف بالديمومة والاستمرارية .

وقد قسم الأدباء السخرية بحسب المقاييس والمعايير التي تختلف باختلاف آرائهم ورؤاهم في السخرية ؛ فإنه قُسم من حيث الموضوع إلى ثلاثة أقسام الاجتماعية والسياسية والترفيهية، ويعد الشاعر السياسي "أحمد فؤاد نجم" من أبرز شعراء السخرية في مصر، حيث اكتسبت سخريته ثوبا سياسيا واجتماعيا، حيث وظفها كبوق أعلن من خلاله عن مواقفه الصارمة والصلبة، حيال الأنظمة العربية بنبرة صارخة، حتي اشتهر في الأوساط الأدبية بشاعر السياسة، وتمتاز سخرية أحمد فؤاد نجم اللاذعة بميزتين أساسيتين: أولاً من حيث الدلالة أنها تحمل في طياتها معاني ثورية تندد بالأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم العربي . وثانياً من حيث الصياغة فإنها صيغت بلغة نارية ولهجة شديدة عارمة تنقض علي الأنظمة التي خانت الشعوب العربية كالصاعقة . إن الموضوعات التي تناولتها سخرية" أحمد فؤاد نجم" هي: نقد الأوضاع الاجتماعية والحكومات العربية وعمالها ورجال الحكم والسياسة وذم التدخل الأجنبي في الشؤون العربية ونقد الظروف السياسية والاقتصادية المتردية والحث علي مقارعة الظلم ومكافحة الظالمين (3).

انتقد "أحمد فؤاد نجم" الحكومة المصرية في أشعاره مراراً وتكراراً مما أدى إلى وقوعه في السجن، والانتقادات اللاذعة التي وجهها أحمد فؤاد نجم جعلت منه بطلاً شعبياً حتى أضحي يمثل صوت الطبقات الكادحة،  يقول الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم (1929-2013) والملقب بالفاجومي في إحدي قصائده: الاسم: صابر.. التهمه: مصري.. السن: اجهل اهل عصري.. لرغم انسدال الشيب ضفاير.. من شوشتى.. لما لتحت خضري.. المهنه: وارث.. عن جدودي.. والزمان.. صنع الحضاره.. والنضاره.. والامان.. البشره: قمحى.. القد: رمحى.. الشعر: اخشن من الدريس.. لون العيون: اسود غطيس.. الانف: نافر كالحصان.. الفم: ثابت في المكان.. واما جيت ازحزحه.. عن مطرحه (4).

إنها كلمات شاعر العامية المصري "أحمد فؤاد نجم"، والذي ارتبط اسمه بالمنع والمصادرة والسجن والاعتقال،  وربما هو الشاعر المصري الوحيد الذي مثل للمحاكمة أكثر من مرة بسبب قصائده السياسية، والتي طالما أغضبت النظام المصري بداية من "عبد الناصر" حتي نهاية حكم "حسني مبارك" وأزعجت رجاله، والتهمة كانت دوما هي " تكدير السلم العام"، وبسب ذلك سجن ثمانية عشر عاما، حتي قيل عنه بأنه الشاعر المصري الذي لم تمنعه السجون من هجاء الحكام.

ولهذا يعد "أحمد فؤاد نجم" نموذج لشخصية " المعارض الأبد "، الذي يبدو وكأنه غير قادر على غير المعارضة، فهو غاضب على الجميع، وكأن لا شيء يعجبه، ولا شيء يمكن أن يرضيه. وهو طراز أقل شيوعاً بالضرورة لأن مغانمه الشخصية، المادية علي الأقل معدومة ، ومن ثم تأتي "معاضته الأبدية للسلطة من أنبل الدوافع وأرفعها شأناً، ذلك أنه يتميز أولا باعتزاز شديد بالنفس، وبرغبة حقيقية في تحقيق مصلحة الوطن، ثم إن لديه من الذكاء ما يمكنهم من تمييز الخط الفاصل بين الحق والباطل في أكبر الأمور وأصغرها علي السواء، ومن الشجاعة ما يجعله يصر على الجهل بالحق ومعارضة الباطل " (5).

هذا النوع من الشعراء من أمثال أحمد فؤاد نجم  تجده لا يكاد يقترب من السلطة حتى يبتعد عنها، إذ إنه حتى في أكثر العهود صلاحاً وإخلاصاً، يزعج السلطان بذلك الاعتداد الغريب بالنفس، وتلك الجرأة الغريبة على الجهر بالحق . فالسلطان، أياً كانت قوة ميله إلى جانب الحق، لم يظفر بالسلطان، في أغلب الأحوال، إلا بسبب ميل طبيعي لديه في الوقت نفسه إلى الاستبداد بالرأي، ولم ينجح في الاحتفاظ بالسلطان، إلا بدرجة أو بأخرى من القهر؛ والسلطان حتى إذا كان يحمل تقديراً دفيناً لهذا الطراز الفريد من الناس، طراز " المعارض الأبدي"، ولا يجد من الحكمة أن يعترف بالخطأ، وعلى الأخص على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن للسلطان مصلحة محققة في أن يُظهر هذا الشاعر بمظهر المحق دائماً، الذي لا يخطئ أبداً، ولا يجد من الحكمة دائما أن ينصر المجاهر بالحق على أهل الباطل، إذ إن في ذلك تشجيعاً غير مرغوب فيه على انتشار الشعراء المعارضين، لهذا نجد أن العلاقة بين هذا الشاعر المعارض الأبدي والسلطان، حتى فى أزهى العهود وأقربها إلى قلبه، قصيرة العمر، إن لم تفُتر بسبب زهد الشاعر "المعارض الأبدي نفسه فى علاقة تطلب منه السكوت أكثر مما تطلب منه الكلام والتعبير عن موقف، فإنها تَفْتُر  لضيق صدر صاحب السلطان به ؛ لما يسببه له من متاعب مستمرة بسبب كونه دائماً على حق" (6).

وأحمد فؤاد نجم نموذج واضح للشاعر الذي يجسد فكرة المعارض الأبدي، وذلك لكونه أثار الجدل بأشعاره، وملأ الدنيا ضجيجًا لرفضه كل القيم والأعراف السائدة؛ كما أنه حارب الجميع فتم حبسه لأكثر من مرة لعدة سنوات، فوصف نفسه بأن:"روحي حرة في كل مكان، ولم يكن ضد الدين كجانب روحي مهم في حياة الإنسان، بقدر ما هي ضد أفكار من يعتقدون أنهم هم من يُمَثِّل الدين وَيَتَحَدَّثُونَ باسم الله، ولذلك وجدناه شرساً ضد جماعة الإخوان المسلمين، وشرسا في ضد نظام كل من جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، كما دخل "نجم" في مشكلات عِدة مع السلطات بسبب هجومه المتحمس على الحكومة المصرية باستمرار، كما هاجم بعض الأساليب الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر.. وهلم جرا (7).

وقد ولد أحمد فؤاد نجم في قرية كفر أبو نجم، التابعة لمحافظة الشرقية في 23 مايو عام 1929، وهو أحد أهم شعراء العامية في مصر، وأحد ثوار الكلمة، واسم بارز في الفن والشعر العربي.. تنقل نجم في أعمال يدوية مختلفة، واشترك في المظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال. في الفترة ما بين 1951 إلي 1956 اشتغل "نجم" كعامل في السكك الحديدية. ثم بدأ في نشر دواوينه .. والتقي الشيخ إمام في الستينيات. وهو ملحن ومغن كفيف البصر، وراجت أغانيهما بعد هزيمة مصر أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967، وعاشا في منطقة شعبية تدعى "حوش قدم" ورغم انفصالهما فنيا ووفاة الشيخ إمام فإن نجاحهما معا كان ظاهرة استقبلت جيدا في مصر والعالم العربي (8).

في كتابه "الفاجومي" الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، يتحدث عن "نجم" عن كواليس من حياته منذ الطفولة، وتجربة الملجأ ومقابلة عبدالحليم حافظ، وعلاقته بأمه وبالمرأة، وكواليس قصائده التي عرضت بعض منها مشكلات متنوعة، كما يرصد بدايات علاقته بالشيخ إمام، والمثقفين المترددين على حفلاته، الذين جمعته بهم علاقات محبة، حيث يقول في الكتاب بأنه تزوج "أحمد فؤاد نجم" من الكاتبة المعروفة "صافيناز كاظم" التي تحولت كتاباتها منذ نهاية السبعينيات نحو مفاهيم إسلامية، وهى والدة ابنته الكبرى "نوارة الانتصار: نسبة لنصر مصر على إسرائيل في أكتوبر 1973" وبعد طلاقهما تزوج من المطربة "عزة بلبع" التي غنت الكثير من الأغاني السياسية والوطنية، وفي آواخر أيامه تزوج من سيدة من خارج الوسط الثقافي تكنى بـ"أم زينب" نسبة لابنتها الوحيدة من نجم (9).

قال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراجون "إن فيه قوة تسقط الأسوار"، وأسماه الناقد الراحل علي الراعي "الشاعر البندقية"، ووصمه الرئيس الراحل أنور السادات بـ "الشاعر البذيء"، وقال عنه الأديب الراحل يوسف إدريس: "الفارس الذي تمنيت أن أكونه"، وقال عنه الكاتب المصري "صلاح عيسى:" اكتشفت وأنا أتأمل مشاعري تجاه (نجم) الإنسان، ونجم (الشاعر)، ونجم (الفاجومي)، العنيد العصي على الإفساد، إننى أمام ابن البلد الحقيقي الذي أتمنى أن أكونه، وأن جلده فعلاء عباءة الفلاحين القادمين من حقول القمح، وبيان القادمين من الصناعات الخفيفة ليقوموا بالواجب اليومي ضد الهزيمة" (10).

ولم تكن السخرية لدي أحمد فؤاد نجم وسيلة للتسلية أو المتعة، بل كانت عنده آلية تعبيرية موحية عبر بها عن مواقفه السياسية والاجتماعية، ويمكن اعتباره ناجحا إلي حد كبير في نهجه الأدبي حيث إنه تمكن من إبداع فكاهة تتمتع بقدرة إيحائية هائلة، وقد حصل أحمد فؤاد نجم بهذا على مجموعة من التكريمات، ففي عام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة، سفيرا للفقراء، وفي 2013 وبعد وفاته منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكنور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.................

(1) أنور مغيث: فولتير الساخر، مقال بجريدة الأهرام، الثلاثاء 3 من جمادي الآخرة 1441 هــ 28 يناير 202.

(2) خالد القشطيني: سيد السخرية، جريدة الشرق الأوسط -الجمعة - 15 شعبان 1438 هـ - 12 مايو 2017 مـ رقم العدد [14045].

(3) تورج وند: الفكاهة السياسة في أشعار أحمد فؤاد نجم دراسة وتحليل، أفاق الحضارة، أكاديمية العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية ..السنة التاسعة، العدد الأول، الربيع والصيف 1437هـ، ص 46.

(4) أحمد فؤاد نجم: الأعمال الشعرية الكاملة أحمد فؤاد نجم، دار العودة، القاهرة، 2005، ص 122.

(5) د. جلال أمين: فتحي رضوان أو السياسة كأخلاق، ضمن كتابه شخصيات لها تاريخ، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص 17.

(6) المرجع نفسه، ص 18.

(7) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي، تقديم صلاح عيسي، سفنكس للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1993، ص 12.

(8) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي .. السيرة الذاتية الكاملة، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، 2013، ص 34.

(9) المصدر نفسه، ص 18.

(10) إلهام زيدان: في ذكرى رحيله الـ7.. ماذا قال كبار المثقفين عن أحمد فؤاد نجم؟.. مقال منشور بجريدة الوطن المصرية .. نشر بتاريخ11:09 ص | الخميس 03 ديسمبر 2020.

 

 

في المثقف اليوم