شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: ولادة بنت المستكفي.. غادة الأمويين في عصر المرابطين (2)

محمود محمد عليفي المقال السابق بينا كيف كانت ولادة بنت المستكفي ذائعة الصيت، وهي الأميرة تُعتبر شخصية الأميرة الأموية، والشاعرة القرطبية" ولاّدة بنت المستكفي بالله "، هي إحدى أظهر شخصيات التاريخ النسوي الأدبي في الأندلس وأشهرها. فهي الشخصية التي قد اهتمّ لها، وهامَ بها: جملةٌ من أهل الفنون ؛ فكتب عنها الأدباء، والشعراء، والمستشرقون، وجنح بالخيال عنها المتأدبون.

وفي هذه الفترة اتَّصلت ولادة بـ"أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي " الشهير بـ "ابن زيدون" بابن زيدون، والذي يعد من أعظم شعراء الأندلس، وأجلهم مقامًا، لموهبته الشعرية الفذة، وتنوعت أشعاره، وأغراضها فمنها الغزل، والمدح، والرثاء، والاستعطاف، ووصف الطبيعة، والهجاء، وقد كان في مدحه لحكام الأندلس، يركز على معانٍ محددة هي الشجاعة والقوة، وكان يضع نفسه في مصاف ممدوحيه، وهيبتهم على طريقة المتنبي (1) .

تعد قصة الحب بين ولادة وابن زيدون إحدى تلك القصص الحالمة والمشهورة التي بدأت داخل حدائق قرطبة وهناك حيث انطلق فيض من الشعر في جمال تلك الفاتنة ولادة حتى قال فيها ابن زيدون العاشق:

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقًا      والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا

   وللنسيم اعتلال في أصائله        كأنما رق لي فاعتل إشفاقا

وقد اشتهرت قصَّة الحب التي نشبَت بينهما رغم أنَّها لم تدُم طويلًا، فقد أحبَّها ابن زيدون حبًّا كبيرًا وصار مولعًا بها، وظلَّ يطلب وصالها ولقاءها على طول الفترة التي جمعت بينهما، وقد ذكر البعض سبب عدم استمرار علاقتهما طويلًا بأنَّ ابن زيدون قد أظهر ميله لجارية سوداء البشرة كانت بارعة في الغناء من أجل أن يثير غيرة حبيبته ولادة حتى تعود إليه، وقد حاول كثيرًا أن يسترضيها بقصائده الشهيرة والتي أشهرها القصيدة ذات المطلع الأشهر:

أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا.. وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

إلا وقد زال يضحكنا أنسا بقربهم.. قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا

فانحل ما كان مفقـودا بأنفسـنا.. وأنبت ما كان موصولا بأيدينــا (2).

وصار هذا الحب الجارف واضحا عبر لقاءات في مجلسها، فاشتعلت قريحته بأشعار ملتهبة، ومساجلات رائعة، كانت مفاجأة لرواد المجلس، وأضفى سجالهما الشعري بعدا جديدا على حركة الإبداع الأندلسي في نهاية العصر الأموي، وبداية عصر الطوائف، ووصل الحب الجارف بينهما حد أنها كانت تطلب اللقاء وتتعجله تحت جنح الظلام ونظمت أبياتاً من الشعر في ذلك:

ترقب إذا جن الظلام زيارتي.. فإني رأيت الليل أكتم للسر

وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح.. والبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

ويصف "ابن زيدون" حرصه على سرها، وصونه لها وحنانه عليها بقوله:

أصونك من لحظات الظنون.. وأعليك من خطرات الفكر

وأحذر من لحظات الرقيب.. وقد يستدام الهوى بالحذر

وكان لـ «ابن زيدون» غلام يدعى «علي» فداعبته فيه «ولادة» بقولها:

إن ابن زيدون على فضله.. يفتأ بي ظلما ولا ذنب لي (3).

وهكذا بدأ العشق بالسجالات الشعرية والمباريات الفكرية بينهما، كان حبهما مختلفًا، حب يحكمه اللهفة والشغف والشاعرية المفرطة والتنافس والتحدي، كل منهما يسجل أهدافًا على الآخر، وينتظر ردة فعل حبيبه، وكحال كل العشاق دائمًا يأتي الكدر متخفيًا داخل عباءة القدر،

وبينما كان العاشقان بالسر يتواعدان وبظلام الليل يستتران وفي الصباح بعضهما بالأشعار يغازلان، وذات مساء في مجلس ولادة كان ابن زيدون والحضور يستمعون لصوت جارية سوداء من جواري ولادة، ويبدو أنّ ابن زيدون لشدة إعجابه بصوتها طلب إليها أن تعيد الغناء، ما أثار حفيظة ولادة التي أبدت غيرتها ونقمت على ابن زيدون منذ ذلك الحين، وقالت معاتبة له:

لو كنتَ تنصِفُ في الهوى ما بيننا.. لم تهوَ جاريَتِي ولم تتخيَّرِ

وتركتَ غصنًا مثمِرًا بجمالِهِ.. وجَنَحتَ للغصنِ الذي لم يثمِرِ

ولكي تغيظ ولادة ابن زيدون صارت تصرف اهتمامها لابن عبدوس الوزير الذي صار ينافس ابن زيدون على ولادة، وقد ذكر المؤرّخون أنّ ابن عبدوس وولادة قد عُمِّرا طويلًا وبقي ابن عبدوس يواصلها وهي في عمر الثمانين، وهذا الحب الذي كان بين ولادة وابن عبدوس -أو الحب المفترض والمزعوم الذي ادّعته ولادة- قد أثار غيرة ابن زيدون، فما كان منه إلّا أن كتب الرسالة الهزليّة المشهورة وأرسلها لابن عبدوس، بل فوق ذلك فقد وصف ابن عبدوس بالفأر الذي يأكل فضلات ابن زيدون، والفضلات هنا هي ولادة، فقال ابن زيدون:

أكرِم بولادةٍ ذخرًا لمُدَّخِرٍ.. لو فرَّقَت بينَ بيطارٍ وعطّارِ

قالوا أبوعامرٍ أضحى يلِمُّ بها.. قلتُ الفَراشَةُ قد تدنو من النارِ

عَيَّرتُمونا بأن قد صارَ يَخلُفُنا.. فيمن نحِبُّ وما في ذاكَ من عارِ

أكلٌّ شهيٌّ أصبنا من أطايبهِ.. بعضًا وبعضًا صَفَحنا عنهُ للفارِ (4)،

وهنا هجرته ولادة إلى غير رجعة، ولم يستطع ابن زيدون استمالتها على كثرة ما قال فيها من قصائد واعتذاريّات، حتّى إنّ ابن عبدوس خشي أن يرقّ قلب ولادة له فسعى به عند أبي الحزم بن جهور فسجنه وهرب من سجنه، والأرجح أنّه قد هرب إلى إشبيلية إلى المعتضد من بني عبّاد، وبذلك تنتهي قصة الحب الخالدة التي جمعت ابن زيدون بولادة.

أن ترتبط بابن عبدوس، غريم ابن زيدون وعدوه الأول، بالغت ولادة في علاقتها بابن عبدوس ووصلت الأخبار لابن زيدون في سجنه، فبات يبكيها كل ليلة ويبكي جمال لياليها، ويبكي غربته وقهره في بعده عنها، وكتب في ذلك أشعارًا وهرب من سجنه يطوي صحاري وقفارًا حاملًا حبه لولادة بين حجرات قلبه، وبعد هربه قضى ابن زيدون بعد هربه فترة من الزمن شريداً في قرطبة، يتمنى أن يستطيع رؤية ولادة، ثم أرسل إليها بقصيدته الأشهر (النونية) وهي واحدة من أروع قصائد الشعر الأندلسي والشعر العربي عموما، يقول في مطلعها:

أَضْحَى التَّنَائِـي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا    وَنَا بَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا

ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا      حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِيـنـا

مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِـهـم     حُزناً مع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا (5).

لم تلق هذه الأبيات أي رد فعل أو قبول أو استجابة في قلب ولادة حيث أصبحت قصة حب ابن زيدون وغرامها له مجرد ذكرى برغم ما خلفه هذا الحب العنيف من أثر في نفسيهما، وقد بقي مستعرا عند ابن زيدون لدرجة أنه كان يعتبر حياته فراغا قبل علاقته بولادة وأصبحت بحبها وامتلاكه لقلبها حياة سعيدة هانئة حقق فيها أمجاده الفكرية والأدبية، والسياسية أيضا، فقد كان يؤرخ لحياته بهذا الحب الطاغي ليلازمه سوء الحظ في مأساته وعذابه المرير وتحول أيامه إلى الكآبة من بعدها ليعيش الصراع النفسي الرهيب واقترانه ببعده عنها وإعراضها عنه. وظلت هي دون زواج حتى موتها في عام 1091م، تاركة وراءها فراغ ثقافي امتدت طويلا، وكان شاهدا على بداية عصر زوال دولة الخلافة في الأندلس (6).

توارى اسم ولادة في التاريخ الأدبي على حين علا نجم ابن زيدون. ولكن مجموعة من الشواعر الإسبانيات في ثمانينات القرن الماضي شرعن ينشرن قصائدهن في مجلة اسمها "ولادة". وبذلك عادت إلى الأذهان ذكرى المرأة التي سحرت أدباء عصرها وساسته. ومع تصاعد الحركة النسوية أصدرت الشاعرة الإسبانية ماجدالينا لاسلا في 2003 رواية عن ولادة. وأعدت الشاعرة السورية مرام المصري ديوانا شعريا ثنائي اللغة (بالعربية والفرنسية) عنوانه "عودة ولادة". واليوم يقوم في أحد أحياء قرطبة عمل نحتي، يمثل يدين تتلامسان في محبة ورفق، تكريما لذكرى ولادة وابن زيدون، عاشقي قرطبة اللذين غدت قصتهما أسطورة (7).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

1-ربهام فؤاد الحداد: عشق ولادة بنت المستكفي وابن زيدون، جريدة الوطن، 12:44 م | الثلاثاء 12 ديسمبر 2017.

2- شوقي ضيف، ابن زيدون، القاهرة:دار المعارف، صفحة 23.

3-علي دياب: ولادة بنت المستكفي في عيون الباحثين والمستشرقين، التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، مج 31 ،ع 128، 2013، ص 101.

4- يوسف مكي: ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، جريدة أخبار الخليج، العدد: ١٥٨٤٨ - الجمعة ١٣ أغسطس ٢٠٢١ م، الموافق ٠٥ محرّم ١٤٤٣هـ..

5- د. ماهر شفيق فريد: ولادة بنت المستكفي.. عودة مع تصاعد الحركة النسوية، جريدة الشرق الأوسط، الثلاثاء - 17 جمادى الآخرة 1436 هـ - 07 أبريل 2015 مـ

6- محمد الماطري صميدة: من قصص العشاق .. ولاّدة بنت المستكفي وابن زيدون:حب خالد على مر القرون !، نشر في الشروق يوم 21 - 07 – 2018.

7- د. ماهر شفيق فريد: المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم