شهادات ومذكرات

جواد عبد الكاظم: د. سعد العلّوش.. قدوتي في الحياة وأستاذي في الأخلاق

جواد عبد الكاظم محسنعرفته مبكراً بحكم العلاقة الطيبة التي كانت تربط بين عائلتينا، فبعد أن باع جدي (محسن) أرضه وغادر قريته، عمل فلاحاً في أراضي الحاج حمود العلّوش (جد الدكتور سعد) في قرية حصن البيكات من قرى سدة الهندية، وأخلص في عمله واشتهر بأمانته وصدقه، فأطلق عليه لقب (أبو المحاسن) من قبل الحاج حمود العلّوش والآخرين، وعلى إثر ذلك نشأت وتوطدت علاقة حميمة بين الجدين فكانت أكبر من علاقة صاحب أرض بفلاح إذ عرف قدره وحظي باحترامه وقرّبه إليه واعتمد عليه في العمل، بل وعلمه قراءة القرآن الكريم وحفظ العديد من آياته، وشاءت الأقدار أن يختارهما الله تعالى إلى جواره الكريم في عام واحد ولم يفصل بين رحيليهما سوى أقل من ثلاثة أشهر.

وانتقلت هذه العلاقة الطيبة إلى والدي وأبناء الحاج حمود العلّوش، ثم ورثها فيما بعد الجيل اللاحق لهما، ومن آثارها المباركة إني حظيت بمعرفة ورعاية واحترام ومودة هذه الأسرة الكريمة جميعاً، ومن ابنائها خاصة، ومنهم الدكتور سعد عبد الجبار العلّوش الذي سرعان ما نمت بيني وبينه علاقة أخوية وأدبية مميزة، فقد رأيت فيه من الخلق النبيل والعلم الغزير والصفات الحميدة الأخرى ما شدني إليه، وجعلني حريصاً على التواصل معه والاقتداء به، إذ كان كما قال صديق له من الأكاديميين العراقيين الكبار في وصفه: (ممن تزهو بهم صحائف الأسفار وتفخر بذكرهم أسطرها، وتفوح بشذاهم رياضها)، فكان محل اعجابي الدائم، وصار بحق من أهم أساتذتي في الحياة والأخلاق.

ولد الدكتور سعد عبد الجبار العلّوش في مدينة المسيّب سنة 1934م، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، وواصل دراسته في الإعدادية المركزية ببغداد، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة بغداد سنة 1957م، وغادر إلى القاهرة لمواصلة دراسته العليا في جامعتها، فتتلمذ على يد كبار فقهاء وأساتذة القانون فيها وخارجها، من أمثال : محمود مصطفى، وجابر جاد عبد الرحمن، وحسين خلاف، وعثمان خليل عثمان، وكمال الجرف، ومحمد لبيب شقير، ورفعت المحجوب، وطعيمه الجرف، وأحمد كمال أبو المجد، وعاطف صدقي، وعادل سيد فهيم، والمسيو كوادري الفرنسي وهو أستاذ في جامعة السوربون انتدب للتدريس في جامعة القاهرة، ولم تنقطع علاقة الطالب الطيبة بأساتذته بعد تخرجه وعودته إلى العراق.

وكان يوم مناقشته لأطروحة الدكتوراه يوما مشهوداً في كلية الحقوق بجامعة القاهرة إذ اكتظت القاعة بالحضور، ففضلا عن أساتذته وهم من الشخصيات المرموقة فقد حضرها جمع غفير من الطلبة العراقيين في مصر وزملائه في الدراسة، وكان في مقدمة الحاضرين السفير العراقي في القاهرة آنذاك الدكتور عبد الحسن زلزلة.

وبعد عودته إلى أرض الوطن عمل في كلية الحقوق بجامعة بغداد، وألقى محاضرات في كلية الشرطة، وتسنم مناصب قانونية رفيعة، وانتقل للعمل في كلية النهرين، وتقاعد منها، ومازال الكثير من طلبتها يذكرونه بخير، وكلهم يثنون على علميته ونزاهته وإخلاصه من خلال تدريسه لهم.

نشر العديد من دراسته القانونية في الدوريات المتخصصة، وأصدر أربعة مؤلفات قيمة، هي: نظرية المؤسسة العامة وتطبيقها في التشريع العراقي (القاهرة 1968م)، ومبادى في القانون العام (بغداد 1971م)، ودراسات معمقة في العرف الدستوري (عمان 2008م)، ومقالات عبد المنعم العلوش في الصحف العراقية (الحلة 2017م)، ولديه مؤلفات مخطوطة أخرى.

حفلت حياته بنشاطات علمية ومهنية متعددة، منها اشتراكه في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الحقوقيين العرب سنة 1974م، ومؤتمر العلوم السياسية في بوخارست سنة 1974م، وكان عضو الوفد العراقي للمشاركة في أعمال مؤتمر المرأة العالمي الذي أقامته الأمم المتحدة في المكسيك سنة 1975م، وهو من المواظبين على الحضور والمساهمة في التجمعات العلمية والندوات القانونية المعقودة داخل أروقة الجامعات العراقية أو خارجها.

وذكره الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في مقطوعة من شعره، ولهذه المقطوعة الشعرية قصة رواها لي شقيق الدكتور سعد المرحوم غالب العلّوش الذي جمعته مع الشاعر الجواهري صداقة أدبية طويلة، حتى كان من رواة شعره، فقد أعلن في سنة 1977م عن رغبته في وضع صورة لوالده الحاج عبد الجبار العلّوش في غرفة الاستقبال، وكتابة أبيات مناسبة من الشعر تحتها تؤرخ ذكراه، ولما سمع الشاعر الجواهري بهذه الرغبة كتب وأرسل له أربعة أبيات من الشعر الجيد في  رسالة خاصة، والأبيات هي:

2859 سعد علوش(أبا (غالبٍ) أعززْ بأنّك غائبُ

عن العينِ، لكن ليس للموت غالب

عن العين، لا عن أنفسٍ أنتَ بينها

مقيمٌ، تناغي سرَّها، وتجاذبُ

أبا (غالبٍ) ما ماتَ مَن خُلِّدت به

مِن المجدِ، والذكرِ الجميلِ مناقبُ

ومَن زُيِّن بالسعدينِ، (سعدٌ) و(غالبُ)

كما أزَّينتْ بـ(الفرقدينِ) الكواكبُ)

كما ذكره أدباء وشعراء آخرون في كتاباتهم وشعرهم، ومنهم الشاعر الكبير الدكتور عبد الحسن زلزلة، والشاعر المسيَّبي الراحل محمد سعيد كامل.

ومن ذكريات الدكتور سعد الأدبية ما وقع عند زيارته للقاهرة في مطلع تموز سنة 2004م مع وفد كبير من أساتذة القانون في الجامعات العراقية، وكان لهم لقاء مع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي رحب بهم في مقر الجامعة، وأشاد في كلمة ارتجالية جريئة بالعراق البلد العربي الأصيل، فأجابه الدكتور سعد بكلمة ارتجالية أيضاً شكره فيها على حسن استقباله لهم وكلمته المعبرة وموقفه الشجاع، وقال ليس ذاك غريباً عليكم في الصراحة والجرأة في الرأي، فقد قالها من قبل الشاعر أحمد شوقي:

رتبُ الشجاعة في الرجالِ جلا     ئل وأجلهنَّ شجاعةُ الآراءِ

فاستوقفه عمرو موسى قائلاً أنا مثلك أحب الشعر، وطلب منه إعادة قراءة هذا البيت الشعري الجميل الذي هزّه من الأعماق ليدونه، وكانت كلمة الدكتور سعد هي الوحيدة للوفد في هذا اللقاء مثلما كانت مصافحته عند التوديع هي الوحيدة من قبل مضيفهم.

وعن شخصية الدكتور سعد المرموقة وأخلاقه الحميدة كتب الدكتور جميل موسى النجار واصفا (ويحار المرء من أية بوابة يلج هذا الصرح الشامخ، وأي جانب من جوانبه يسلط عليه الضوء قبل الجانب الآخر، بل ليصوره بالأحرى قبل الآخر، فكل جوانب ذلك الصرح مضاءة مشرقة لا تحتاج إلا لعدسة تنقلها إلى نظر الناس وعلمهم وليطمئن من تنتابه هواجس الظن بأن هذه العدسة ستكون واقعية كواقعية الراصد بها الذي يحسب أنه لا يمالئ ولا يداهن ولا يعطي الآخرين مهما كانت الأسباب والبواعث شيئاً لا يستحقونه لأنه يؤمن بيوم الحساب، ويحترم عقول النابهين الذي يدركون الحقيقة، وهو فوق هذا وذاك يتوخى الموضوعية التي يعتقد بأنه تمثلها وطبقها في كتابته التاريخية وفي سيرته العامة).

نشأت بيني وبين الدكتور سعد علاقة طيبة وحميمة منذ أكثر من خمسة عقود، إذ فضلا عما ورثناه عن الأهل من أباء وأجداد، فقد نمت وتطورت بفعل ما جمع بيننا من مشتركات عديدة لعل من أهمها ما رأبت فيه من صفات إنسانية رائعة، واهتمامات أدبية مدهشة، فهو يحفظ الكثير من عيون الشعر ومختاراته الجميلة، ويفوق بذلك الكثير من المتخصصين، وشاعره المفضل كما لمست أمير الشعراء (أحمد شوقي)، إذ يحفظ الكثير من شعره، ويلقيه بعذوبة في المجالس والدواوين، كما يحفظ لغيره من كبار الشعراء العراقيين كما سمعت منه لغرر قصائدهم.

وكانت لي زيارات متعددة له في بيته العامر ببغداد، وكان مجلسنا في مكتبته الأنيقة والحافلة بمجموعة قيمة من الكتب، وبعضها من مكتبة والده الحاج عبد الجبار العلّوش مثل كتاب (مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة) لمؤلفه جواد محمد العاملي، وكنا نقضي أغلب ساعات تلك الزيارات إن لم أقل كلها في أحاديث أدبية ماتعة لا يُمل سماعها، وكم كنت أتمتع وأستفيد مما كنت أراه من أخلاقه الرفيعة،  وأسمعه من الشعر والأحاديث وما يرويه من ذكرياته وتجاربه الحياتية، فكانت ساعات تلك الزيارات أشبه بالدروس والمحاضرات العلمية بالنسبة لي، وكم كنت أتمنى أن تطول وتتكرر!! حتى إذا ما أزفت ساعة الرحيل، ودعني إلى باب الدار، وهو يقول بوجه باسم (لا تجعل زيارتك لنا كبيضة الديك)!! أي لا تجعلها في كل سنة مرة واحدة !!

في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي كنت أستمع للقاء مع أديب عربي كبير سئل عمن يختار معه، ليكون رفيقه وأنيسه لو وضع في جزيرة منعزلة بعيداً عن الناس، فأجاب أنه سيختار الشاعر التركي الشهير ناظم حكمت (1902- 1963م) وبيَّن الأسباب، وأعدتُ السؤال على نفسي حينها، وكان جوابي مباشرة سأختار الدكتور سعد العلّوش لطيبته، ورقة حاشيته، ونبل أخلاقه، ودفء حديثه، فبمثله تأمن الروح وتأنس، ولا تستوحش ولا تشعر بالوحدة.

ومن ذكرياتي الجميلة مع الدكتور سعد عبد الجبار العلّوش زيارته لي مع شقيقه المحامي أياد مساء يوم 19/8/2018م في مستشفى الراهبات ببغداد، وهو اليوم التالي لإجرائي لعملية جراحية فوق الكبرى، وكانت جلسة أدبية ماتعة أنستني شدة آلام عمليتي، وقد شاركنا فيها الشاعر أحمد شوقي من خلال قراءات جميلة لروائع شعره قرأها لنا الدكتور سعد العلّوش في تلك الأمسية السعيدة مما خفف كثيراً من آلامي وأنساني ما أنا فيه.

وتبقى نظرتي للدكتور سعد العلوش أستاذاً كبيراً لي في الحياة والأخلاق بعد أن معايشة ورؤية عن قرب، فكان مصداقاً لمن رآه في مرآة الانصاف ومقياس الموضوعية، فقال عنه (رجل حَسُنَ غرسُه، وطابَ منبتُه، وسُقيَ من عذب سائغ، فاستقام عوده، وأينع جناه، وورفت ظلاله، عطاء مستمر للوطن ومعين لا ينضب للخير وقدوة حسنة للشرفاء)، وكان لي الشرف والفخر بمعرفته وذكر فضله واجتهادي في اقتفاء أثره وإن كنت مازالت دون ذلك بكثير..

ومازالت أكرر دعائي له ولمن معه من الأهل والأولاد بالسلامة الدائمة والعافية التامة والعمر المديد ..

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

 

في المثقف اليوم