شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: ماذا نقول في ذكري خالد الذكر "طه حسين"؟

محمود محمد عليتحل علينا هذه الأيام ذكرى رحيل الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي  28  أكتوبر، ورائد التنوير بالعالم العربي، تولى وزارة المعارف عام 1950 في الحكومة الوفدية بقيادة مصطفى باشا النحاس في عهد الملك فاروق الأول، قائلا: "لم أختار أن أكون وزيرا ولكنه قضاء الله"، وقد أخذ طه حسين على عاتقه مهمة رسم مستقبل الثقافة والتعليم في مصر بعد سقوط حكومة النحاس عام 1952، بسبب حريق القاهرة الذي ظل في وجدان جميع المصريين.

طه حسين الذي ولد في محافظة المنيا الذي كان ترتيبه السابع بين 13 طفلا لأسرة من الطبقة المتوسطة ليصيب في سن مبكرة جدا من عمره بعدوى في العين، بسبب سوء التعامل مع حالته وعدم تلقي العلاج اللازم ليصاب بالعمى في سن 3 أعوام، ورفع طه حسين شعار العلم حق للجميع كالماء والهواء ليساهم في تحقيق العديد من الإنجازات في الأدب العربي، كما أسس في مدريد المعهد المصري المتخصص في الدراسات الإسلامية.

ولا يخلو بيت عربي، ولا مكتبة في أغلب دول العالم من أحد مؤلفات رائد التنوير والتجديد في الأدب العربي طه حسين، الذي استطاع بشجاعة ومثابرة هزيمة عمى البصر الذي عانى منه، وأيضا عمى البصيرة الذي عانت من الأمة العربية طويلا، واستطاع بثقافته واطلاعه إخراج العقول العربية من أثر الجهل والتخلف.

وقد عاش طه حسين في فترة من أهم فترات مصر الليبرالية، حيث نشأة الروح القومية، والأحزاب السياسية المعاصرة، وروح النهضة المنطلقة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتحول مصر الليبرالي بعد ثورة 1919. وخروج المرأة إلى الشارع، وانتشار الجرائد والمطابع ودستور 1923، وغير ذلك، فقد كانت تلك الفترة بمثابة فتح جديد لمصر على يد كثيرين من أبنائها تلاميذ الإمام محمد عبد

بل إن شهرته التي طبقت الآفاق جعلت أديبًا من وزن الفرنسي أندريه جيد يرشحه، عام 1949 لنيل جائزة نوبل للآداب. تناول شيَّاع بالدراسة والبحث سيرة مفكرٍ مجددٍ مثل طه حسين الذي فرض حضوره المتميز على الحياة الثقافية والعلمية والسياسية في مصر طيلة نصف قرن.

و" طه حسين"، خالد ومتجدد كما النيل، وأعماله كالآثار المصرية القديمة تزداد قيمة كلما مرّ عليها وقت، وما زالت في حاجة إلى من يكتشف المزيد منها، صنع العظيم أسطورته الشخصية بما يملكه من فكر صدّره إلى العالم وكان سببا في الهجوم عليه، لكنه كان يعرف حقيقة وجوده وجوهر رسالته التي لا بدّ أن تصل إلى الجميع في جميع أقطار الأرض، بينما تحتفظ بهويتها المصرية، وذلك في آن واحد.

ولد عميد الأدب العربي طه حسين، ابن الصعيد في قرية تابعة لمركز مغاغا محافظة المنيا، في 15 نوفمبر 1889، وقد ذاق طه حسين مرارة فقدان البصر وهو طفلًا لم يبلغ الرابعة من عمره، بسبب الجهل السائد في تلك الفترة؛ فقد أصيبت عيناه بمرض الرمد، وبدلًا من الذهاب به إلى الطبيب، عالجه «الحلاق» بدواء أفقده بصره للأبد، ولم يقف فقدان البصر حائلًا أمام تلقي طه حسين للعلم، حيث أرسله والده إلى كُتاب القرية ليتعلم فيه اللغة العربية، وأساسيات الحساب، وقد حفظ القرآن كاملا وهو في سن صغيرة.

وقد قال عنه نزار قبانى : ضوءُ عينَيْكَ.. أم حوارُ المَـرايا أم هُـما طائِـرانِ يحتـرِقانِ؟ هل عيونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ أم عيـونُ الأديبِ نَهرُ أغاني؟ آهِ يا سـيّدى الذى جعلَ اللّيلَ نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ.. اِرمِ نظّارَتَيْـكَ كي أتملّى كيف تبكى شـواطئُ المرجانِ اِرمِ نظّارَتَيْكَ... ما أنتَ أعمى إنّما نحنُ جـوقةُ العميانِ أيّها الأزهري... يا سارقَ النّارِ ويا كاسراً حدودَ الثوانى عُدْ إلينا.. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ ذهبي.. ونحنُ عصرٌ ثانى سَقَطَ الفِكـرُ في النفاقِ السياسي وصارَ الأديبُ كالبَهْـلَوَانِ يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ ويدعو بالنّصرِ للسّلطانِ.. عُدْ إلينا.. فإنَّ مـا يُكتَبُ اليومَ صغيرُ الرؤى.. صغيرُ المعاني.

وقد جاهد صاحب "الأيام" من أجل الدراسة بالجامعة المصرية، وكان من أوائل المنتسبين لها في بدايتها عام 1908، وحصل على الدكتوراه عام 1914 في دراسة عن الشاعر "أبي العلاء المعري"، سافر بعد ذلك إلى فرنسا وهناك تعرف على الفرنسية "سوزان بريسو" وتزوجا، وكان أول المصريين الحاصلين على الدكتوراه من جامعة السوربون عام1918.

ثم تعرض مؤلف "في الشعر الجاهلي" ورائد التنوير في مصر، لحملات هجوم، وخاض الكثير من المعارك بسبب أراءه التحررية، ودعوته لتغليب صوت الفكر والعلم فوق الأصوات المنادية للجهل، مما أدى إلى فصله من التدريس بالجامعة المصرية1933، وعمل مؤلف "المعذبون في الأرض" في الحقل الصحفي بإشرافه على جريدة "كوكب الشرق"، وتحرير "جريدة الوادي"، لكنه لم يكمل الطريق وعاد مرة أخرى للجامعة، وعمل أستاذاً للأدب، حتى أصبح عميداً لكلية الآداب، وفي عام 19، 50شغل منصب وزير المعارف في الحكومة المصرية، وأثناء منصبه أبدع أشعاره "التعليم كالماء الذي نشربه، والهواء الذي نتنفسه"، وحارب الأمية وجعل التعليم الأساسي متاحا للجميع.

وأبدع طه حسين الكثير من الموروث الفكري والثقافي في مختلف صنوف الأدب وأشكاله ولا يسعنا هنا سوى أن نذكر بعض من أعماله، منها «على هامش السيرة، الفتنة الكبرى عثمان، الفتنة الكبرى على وبنوه، حديث المساء، مع أبي العلاء في سجنه، من لغو الصيف، حافظ وشوقي، قادة الفكر، الحب الضائع، شجرة البؤس، جنة الشوك، بين بين، صوت باريس، والوعد الحق"، وفارق محارب الجمود والظلام الدنيا في أكتوبر 1974، تاركا للإنسانية تراث امتد أثره ليعبر حدود اللغة من خلال الترجمة للعديد من اللغات ليغزو عقول الكثير من سكان الكرة الأرضية.

ولذلك حين تقرأ بتمعن المشروع الفكري والإبداعي لطه حسين، تشعر وكأنه كان معنيا بالتأثير الفعلي فى حياة أمته، فنصوصه الإبداعية بدت تأسيسا ملهما للسرد في بواكير علاقة العرب بالرواية الحديثة، ونصوصه المكتملة مثل "دعاء الكروان"، و"الحب الضائع" تمثل نقلة نوعية فى مسار السردية العربية، وأعماله النقدية وفى المتن منها "حديث الأربعاء"، و"من أدبنا المعاصر" بدت زوايا نظر عميقة للنص العربي قديمه وحديثه، وأحيانا تأسيسا مبكرا للغاية لطروحات فى نقد النقد، أو درسا تطبيقيا رفيعا في الأدب المقارن من زاوية التأثير والتأثر بين نصين ينتميان لثقافتين وأدبين مختلفين. وفى مناخات العتامة والتطرف الديني تصبح استعادة طه حسين واجبة، ويصبح استكمال ما بدأه أمرا لا غنى عنه فى استئناف مشروع التحديث المصري والعربي من جهة، وتكريس فكرة الدفاع عن العقلانية بوصفها جوهر التنوير من جهة ثانية.

في كتابه (قراءات في الفكر العربي الإسلامي) تحدث الباحث العراقي كامل شيَّاع عن مكانة طه حسين الفكرية التي هي موضع إجماع الداني والقاصي. وإن طه حسين (1889 - 1973) الذي سجل في الجزء الثالث من سيرته الذاتية (الأيام) استياءه لعدم إشارة سعد زغلول اليه كواحدٍ من أعمدة يقظة مصر الحديثة، حين اكتفى الأخير، في كلمة له ألقاها في ذكرى وفاة الشيخ المصلح محمد عبدو، بذكر ثلاثة أسماء فقط: محمد عبده "الذي أحيا الحرية العقلية"، مصطفى كامل "الذي أذكى جذوة الحرية السياسية»، وقاسم أمين "الذي أحيا الحرية الاجتماعية". فمن المؤكد، كما يقول شيّاع، أن طه حسين ما كان يحتاج آنذاك ولا في أي فترة لاحقة الى الاعتراف بمكانته الفكرية كأحد أبرز رموز النهضة الحديثة في مصر والعالم العربي.

ولقد أراد "طه" الرمز المشع أن يحرك الجمود الفكري، الذى أصاب مصر بعد الاحتلال العثماني، الذى كان يرى أنه ردها إلى الانحطاط بعد الرقي، وإلى الجهالة بعد العلم، وقطع الصلة بينها وبين أوروبا دهرا، فكان المنطق الذى أراده عميد الأدب والثقافة والفكر العربي، أن تتجه مصر نحو أوروبا، وتتخذ منها أسباب الحضارة، مدخلا لنهضتها الحديثة، استئنافا لحضارتها القديمة، فيرى أن مصر حمت العقل الإنساني مرتين، حين آوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من 10 قرون، وحين آوت الحضارة الإسلامية وحمتها إلى العصر الحديث، فما شخصه "بول فاليري" للعقل الأوروبي كأساس النهضة الحديثة بأنه يرجع إلى عوامل ثلاثة، هي نفسها أسس العقل الإسلامي، وهى حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه، والمسيحية وما فيها من دعوة للخير وحث على الإحسان، ولا يرى "طه" الإسلام إلا متمما ومصدقا للتوراة والإنجيل، من خير وإحسان، وليس هناك تناقض بين العقل الأوروبي والمصري، يمنع التواصل واللحاق بركب الحضارة الحديثة، بكل أوجهها الثقافية والعلمية، وتعويض ما فاتنا بالتوجه إلى القبلة الحضارية بالغرب .

وفى ذكرى رحيل العميد تحضرنا صور العميد من عدة زوايا تبرز فضله ودوره وعلمه وإنسانيته، الصورة الأولى للكاتب الذى لا يغريه منصب حكومي مهما كان عظيمًا، ذلك أنه عام ١٩٥٠ استدعى مصطفى النحاس العميد وعرض عليه منصب وزير المعارف، فرفض طه حسين إلا إذا أقرت الحكومة برنامجه في التعليم المجاني وتعهدت بتنفيذه، فوافق النحاس، ولأول مرة أمسى التعليم الثانوي والفني بفضل العميد متاحًا بالمجان لأبناء الشعب، وكان ذلك الموقف متسقًا مع ما كتبه طه حسين من أن "التعليم مستقر الثقافة"، ولا ثقافة من دون إتاحة التعليم للجميع؛ والصورة الثانية تجسد موقف العميد المدهش من قضية الطائفية، فقد كتب في "مستقبل الثقافة في مصر» يقول: «لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذى يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن وإنما يقويها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالًا"، وهنا يرى العميد أنه لا تعارض بين جوهر الديانات السماوية وربما يرى الكثيرون ذلك أيضًا، لكن أحدًا لن يمضى إلى الأمام أبعد وأجمل مما مضى العميد حين يقرر أن الديانات تكتسب بهجة وجمالًا بتجاورها وحياتها المشتركة، ويضيف إلى ذلك قوله: "عندما يمنح الله العدالة للناس فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط أو المسلمين فقط، وإنما لجميع الناس".

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول: إن الكلمات لا تستطيع أن توفي رائد التنوير طه حسين الذي كان يمثل لنا نموذجاً فذاً للفيلسوف ديكارت .. رحم الله  طه حسين، قاهر الظلام، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

هوامش

1- فهد المضحكي: طه حسين رائد من رواد التنوير، مقال بالأيام.. العدد 11830 السبت 28 أغسطس 2021 الموافق 20 محرم 1442.

2- محمد بلال: في ذكرى وفاته.. سطور من حياة رائد التنوير طه حسين,, الشروق المصرية.. نشر في: الأحد 27 أكتوبر 2019 - 10:47 م | آخر تحديث: الأحد 27 أكتوبر 2019 - 10:47 م.

3- د.يسرى عبد الله: طه حسين وروح مصر المتجددة.. مقال بالأهرام المصرية .. تشر في الأثنين 17 من صفر 1439 هــ 6 نوفمبر 2017 السنة 142 العدد 47817.

4-رانيا عوض: "طه حسين".. رائد التنوير والعدل المعرفي، مقال منشور بالبوابة نيوز، منشور بتاريخ الخميس 30/يناير/2014 - 11:11 ص.

5- وفاء محمود: عنوان “طه حسين” فى مصر الجديدة.. مقال بالأهرام المصرية .. تشر في الثلاثاء 4 من ذي الحجة 1437 هــ 6 سبتمبر 2016 السنة 141 العدد 47391.

6- د. أحمد الخميس: طه حسين.. صور متجددة.. مقال بالدستور، منشور بتاريخ   السبت 30/أكتوبر/2021 - 07:40 م.

 

 

 

في المثقف اليوم