شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: عبد الناصر ياسين.. العالم الأثري الكبير والإداري البارع

محمود محمد عليالحياة هي رحلة مجهولة الهوية، تحمل معها منعطفات لا نعرف وجهتها.. الحياة هي المساحة الجميلة في أعمارنا، والتي تحملنا معها من بين السنوات الكثير من المناسبات، والكثير من الرائعين منهم من يترك في كل مساراته وسنينه هوامش كبيرة ومؤثرة تشكل بصمة لهذا الإنسان وتجعل منه ضمن مجرات الحياة وعطاءاته إضاءات متلألئة، كل شكل منها يكوّن إضافة متميزة لا يحملها إلا القليل من هؤلاء النخب العظيمة.

والأستاذ الدكتور عبد الناصر محمد حسن ياسين – أستاذ علم الآثار الإسلامية ونائب رئيس جامعة سوهاج لشؤون التعليم والطلاب واحد من هؤلاء النخب العظيمة، وقد عرفته كصديق وزميل منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنت أدرس بقسم الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج، وكانت تتبع جامعة أسيوط قبل أن تستقل، وكان معي في نفس الدفعة بقسم الآثار، وكنا نلتقي بالمكتبة ونتحاور معا في قضايا عديدة، كان طالبا نابغا، وباحثا موهوبا.

ولتفهم سيرة الدكتور عبد الناصر ياسين لا بد أن نتحدث قليلا عن علم الآثار الإسلامية، حيث حرص المسلمون بدورهم على جمع التحف الثمينة، إذ كانت قصور الأمويين والعباسيين والفاطميين والأندلسيين وغيرهم تزخر بالكثير من الآثار والتحف الثمينة والنادرة، فليس أدل على ذلك مما ذكره المؤرخون عما أخرج من قصر الخليفة الفاطمي من الكنوز والتحف. ولم تقتصر عناية المسلمين بالتحف المنقولة فقط، بل امتدت إلى العمائر القديمة على مختلف أنواعها من دينية ومدنية وعسكرية، وحظيت المباني الدينية بأكبر نصيب من الصيانة والحفظ. ومن ثم كان معظم ما وصل إلينا من آثار معمارية قديمة عبارة عن مبان دينية من مساجد ومدارس وزوايا وخانقاوات وأضرحة ومكاتب وأسبلة وتكايا.. وغيرها، إلى جانب ما وصل إلينا من تحف منقولة مثل التحف الخشبية والزجاجية والعاجية والمعدنية والخزفية والجصية والبلور الصخري والمنسوجات والمخطوطات المصورة وغيرها.

وقد شهدت علم الآثار الإسلامية سير جمهرة من الأعلام الكبار الذين جابوا أطلال مدن الحضارة العربية – الإسلامية في مصر، والعراق، وتونس، والمغرب، ودول عربية كثيرة، أو نقبوا فيها، واستخرجوا نفائسها، وصنفوا المئات من الكتب والمعاجم والخرائط والأطالس والمخططات والصور التي تمثل آثار وحضارات كثير من دول وعواصم عربية وإسلامية.

إن معرفة ما قام به أمثال هؤلاء الرجال واطلاع الجيل الحاضر علي سير حياتهم وما صادفوه من عقبات لواجب مقدس، يمليه علينا صوت الحق والعدل ويحتمه الوفاء والعرفان بالجميل.

والدكتور عبد الناصر ياسين يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع في علم الآثار الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

لقد جمع الدكتور ” عبد الناصر ياسين ” في شخصه الكريم، نزعة دينية أخلاقية نابعة من خلال تبنيه الاتجاه الوظيفي في علم الآثار الإسلامية المرتبط بتصور وظيفي شامل لعلوم الآثار الإسلامية إلي جانب البحث الدقيق العميق، وقد تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي المستنير الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد لعلم الآثار الإسلامي بجانبيه النظري والعلمي، وعند المتخصصين في الآثار الإسلامية وعلومها هناك علاقة قوية بين الجانبين. فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي، محتذيا بأساتذته الأجلاء من أمثال الأستاذ محمد عبد الستار وغيره.

والدكتور عبد الناصر ياسين من خيرة الأثريين المصريين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي لعلم الآثار الإسلامية أن يتغافل عن دورة وجهوده في الارتقاء بالبحث العلمي والعمل الإداري بجامعة سوهاج ؛ فهو كما وصفه الأستاذ الصحفي عاطف حنفي في مقال له بعنوان عبدالناصر ياسين أهم رموز إعلام جامعة سوهاج صاحب الأخلاق والعلم والهيبة والوقار، عالم جليل ورمز من الرموز العلمية في مجاله علي مستوي مصر بأكملها، يتخذونه جميع الطلاب قدوة لهم ورمز للكفاح والعمل والعلم، ونموذج مشرف لجامعة سوهاج، وصل بالكفاح والاجتهاد والإبداع والتفاني في عمله إلي عميد كلية الآثار بجامعة سوهاج.

والحديث عن الدكتور عبد الناصر ياسين هنا إنما يتناول صورة مشرقة لمصري أستطاع أن يقتحم ميدان الكشف والتنقيب عن الآثار الإسلامية – الذي كان وقفا عن الأجانب من قبل – بشجاعة وجرأة نادرتين، والذي أثبت أن المصريين لا يقلون عن غيرهم من الأثريين إذا ما أتيحت لهم الفرص ويسرت لهم الإمكانيات .

والدكتور عبد الناصر ياسين واحداً من كبار المتخصصين في الآثار الإسلامية الذين حددوا مجاله، ورتبوا موضوعاته، وكشفوا النقاب عن شخصياته، وصاغوا الأطر النظرية له، وأبان عن تاريخه وأبعاده النظرية والعملية، وعرف مصطلح الآثار وخصائصه، وأوضح المنهج العلمي لدراسته. أما تلامذته فقد صرف الشيخ حياته المباركة في بذل العلم وإفادة الطلاب، ولذلك كثر طلابه والآخذون عنه بفضل تميزه بفكر نيّر، متفتح، ناقد، بعيد عن التقليد أو التعصب .

ولد الدكتور عبد الناصر ياسين في الحادي عشر من شهر مايو لعام 1966 بمحافظة سوهاج، جمهورية مصر العربية، حيث علي ليسانس آداب، قسم الآثار، شعبة الآثار الإسلامية، كلية الآداب بسوهاج، جامعة أسيوط سنة 1987، بتقدير عام “جيد جدا”. ثم خدم بالقوات المسلحة كضابط احتياطي لمدة ثلاث سنوات، ثم خرج ليعين معيد بكلية الآداب بسوهاج، قسم الآثار الإسلامية، في عام 1991م، ثم حصل علي ماجستير في الآثار الإسلامية، قسم الآثار الإسلامية، كلية الآداب بسوهاج، جامعة جنوب الوادي، 1996م، بتقدير "ممتاز" مع التوصية بالطبع على نفقة الجامعة، وتبادلها مع الجامعات الأخرى، وحصل علي الدكتوراه في الآثار الإسلامية، قسم الآثار الإسلامية، كلية الآداب بسوهاج، جامعة جنوب الوادي، 1999م، بتقدير “مرتبة الشرف الأولى”، مع التوصية بالطبع على نفقة الجامعة، وتبادلها مع الجامعات الأخرى.

وفيما يخص العمل الإداري وخبراته الوظيفية، فقد حصل علي درجة أستاذ مساعد بكلية الآداب بسوهاج، قسم الآثار الإسلامية، في عام 2005م، ثم أستاذاً بكلية الآداب بسوهاج، قسم الآثار الإسلامية، في عام 2010م، وعقب ذلك تم تعيينه وكيلاَ لكلية الآداب- جامعة سوهاج لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة في عام 2011م، ثم وكيلاً لشئون التعليم والطلاب، في عام 2014م ؛ وعندما أنشئت كلية الآثار- جامعة سوهاج، بالقرار رقم (1036) الصادر بتاريخ 1/ 8 /2016م، عُين مشرفا على الكلية لفترتين، ثم عُين عميداً لها في عام 2018، ثم نائب رئيس جامعة سوهاج لشؤون التعليم والطلاب في عام 2021م.

وخلال تلك الفترة قام الدكتور عبد الناصر ياسين بإعداد مقررًا دراسيًا عن “الفخار الإسلامي” لبرنامج التعليم المفتوح بجامعة الخرطوم، ثم صار بعد ذلك منسقاً ومستشارا عام الأنشطة الطلابية بكلية الآداب، ثم مستشارا علي النشاط الرياضي بكلية الآداب، ثم رئيساً للجنة شئون الطلاب بكلية الآداب، ثم نائباً لرئيس مجلس المشاركة الطلابية.. الخ

ويذكر أن الأستاذ الدكتور عبد الناصر ياسين، يشغل منصب عميد كلية الآثار- جامعة سوهاج، وأستاذ الآثار الإسلامية بالكلية، ثم نائبا لشؤون التعليم والطلاب، وله العديد من المؤلفات والأبحاث ؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : دراسة عن الرمزية الدينية في الزخرفة الإسلامية (دراسة في "ميتافيزيقا" الفن الإسلامي)، ودراسة عن الأسلحة الهجومية في العصر الإسلامي (بالتطبيق على زخارف الفنون التطبيقية والعمائر)، ودراسة عن الأسلحة الدفاعية في العصر الإسلامي (بالتطبيق على زخارف الفنون التطبيقية والعمائر)، ودراسة عن الأعلام في العصر الإسلامي (أنواعها، صفاتها، خصائصها، مع دراسة للأعلام المنفذة على الخزف الإسلامي)، ودراسة عن الأعلام البحرية في تصاوير المخطوطات الإسلامية، ودراسة عن الدبابيس ذات الرؤوس غير التقليدية في تصاوير المخطوطات الإيرانية خلال الفترة من ق 8- 12هـ/ 14- 18م، مع دراسة مقارنة لمثيلاتها في تصاوير المخطوطات الإسلامية المعاصرة”، ودراسة عن مقدمات السفن ومؤخراتها المشكلة على هيئة رؤوس كائنات حية وخرافية في تصاوير المخطوطات الإسلامية خلال الفترة من ق 6- 12هـ/ 12- 18م، ودراسة عن أثر المنشآت المعمارية في تشكيل الفنون التطبيقية الإسلامية وزخرفتها.. وهلم جرا.

والدكتور عبد الناصر ياسين من الأساتذة المحترمين الذين قدموا لنا درسا لا ينسي، وهو أن الأستاذ الجامعي، ليس هو من يجيب الطالب بمعلومات جاهزة لديه، بل هو من يرشده إلي المنهج العلمي الذي يصل به إلي المعرفة، ويحدد مصادر موضوع بحثه ولم تختلف هذه الصورة منذ بدأت حياته العلمية: وإلي الآن معرفة دقيقة بموضوعه؛ لغة علمية محددة، حجة منطقية دقيقة، رحابة صدر، قدرة علي التعليم والتوجيه .

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور " عبد الناصر ياسين " لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم