شهادات ومذكرات

سعد جاسم: إضاءات على السياب ومشروعه الشعري الحداثوي

 3146 sayabتمرُّ هذه الايام الذكرى الـسابعة والخمسون على رحيل الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب (2021-1964)، حيث ان السياب العملاق شعراً والنحيل قامة، كان قد اختطفه الموت وهو في قمة شبابه الزمني وابداعه الشعري، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض والفاقة والفقر. السياب الذي كان له قصب السبق في تحديث الشعر العربي والبسالة في ايقاد وحمل شعلة الحداثة في الشعرية العربية مع مجموعة من الشعراء العراقيين والعرب من أمثال:نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وغيرهم من الشعراء الحقيقيين.

ان السياب كان ومنذ حداثة عمره، قد تأثر بالشعراء القدامى وذلك من خلال قراءاته العميقة لمعظم الشعر العربي في كل عصوره وازمنته وانؤماطه واشكاله المتعددة وكان قد تعمق بالقراءات الاسطورية والميثيولوجية والتوراتية والانجيلية والقرانية التي كان لها اثرها الكبير وتاثيرها العميق في بناء ثقافته الشاملة ووعيه الشعري المتوهج، ثم أولع بالثقافة الغربية وتأثر أشد الأثر باعمال وليام شكسبير الشعرية والمسرحية.

 وحرص على قراءة اعمال اهم الشعراء الغربيين مثل: ت. أس. إليوت وكيتس ووردزورث وكولردج وغيرهم.وقد استفاد منهم واستثمر نتاجاتهم الابداعية المدهشة في تعزيز خبرته الشعرية والجمالية واثراء رؤيته الفكرية ولغته وصوره الشعرية. وويمكننا ان نشير الى مدى تاثره واستفادته من الشاعرة الانكليزية "إيدِث سِيتوِيل" التي كانت قد فتنته بقصائدها المتفردة وبنصوصها الثرية بالاستعارات والمجازات والإيقاع الشعري العالي.  وذلك من خلال تآلف الألفاظ وموسيقى الكلمات...3147 sayab

وقد انعكس كل هذا في شعره الحديث شعر "التفعيلة" بتنويع طول الأبيات وقصرها أحياناً، مع محافظته على تفاعيل القصيدة الخليلية العربية. ولكنه لم يلتزم بشكل بيت الشعر العربي المعروف والموروث منذ قرون سالفة. وقد أبدع في ذلك، وتعلم التكرار، من قصائد "سِيتوِيل" كما يظهر هذا في معظم قصائده خاصة في "أنشودة المطر" تكرار: مطر... مطر... مطر.. وكأنَّ كلمة مطر عنده هي رمزٌ للخصب وللمرأة وللوطن في آن معاً.

كان منتفضاً ضد الأنظمة الاستبدادية، وكان ينشد للثوار وهم يحتجُّون ضد الطغيان والظلم والجوع.

كانت قصائده تلحَّن وتغنَّى في السجون والمعتقلات، لتزرع الأمل والعزم والصلابة في نفوس المحتجين، من خلال قصائده الخالدة: "المومس العمياء وحفَّار القبور وأنشودة المطر"

وقد تميزت قصائد السياب بالخروج عن القصيدة التقليدية وبكثافة الأَلم الذي يسكنها، بسبب ظروفه الصعبة التي عاشها وبسبب الداء العضال الذي أودى بحياته في سن مبكرة.

3148 sayab أهم مميزات شعر السياب هي: ويُمكنني القول ان منها:

أولاً: استخدام المجاز بكثرة: فهو يعرِّف الصورة الفنية بأنها صياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته؛ وفق تعادلية فنية بين طرفين هما: المجاز والحقيقة.

ثانياً: توظيف الأسطورة: ويعتبر السياب من أهم الشعراء الذين جعلوا الأسطورة رموزاً في اشعارهم.  وقد اجتهد السياب في استثمار هذه الرموز من حضاراتٍ مختلفة كالبابلية والسومرية والأشورية واليونانية والرومانية والفرعونية، حيث انه قد استطاع بثَّ ثيمات وشفرات تلك الرموز في طبقات قصائده فزادتها عمقاً وجمالاً وبهاء.

ان شعر السياب ثريٌّ بالإيحاءات والدلالات، وقصائده مشحونة بالعاطفة المتوهجة والثورة والألم والشجن الموجع وقد ساعدته ثقافته الواسعة كي يُجسّد معاناته الجسدية والنفسية أعمق تجسيد في شعره الفسيح الفضاءات والابعاد والغزير الثيمات والرؤى.

ولقد تعدَّدت موضوعاته الشعرية، وفاحت منها رائحة الموت والمنايا، والاحزان والفجائع وإرهاصات وهواجس الغربة الروحية والزمكانية، ومن أهم تلك الموضوعات:

 ثالثاً: الحب والفقد: وقد كان فقده لأمه فقداً لأقوى حبٍّ في الوجود

 وهو القائل:

" أماهُ ليتك لم تغيبي خلف سورٍ من الحجارة "

رابعاً: الغزل: وجد السياب في حبه للمرأة تعويضاً عن حبِّ الأم المفقود وهو في الرابعة من عمره، كما ان دمامته جعلت معظم النساء اللواتي أحببنه يتركنه، لكن َّ الخيبات العاطفية التي لاحقته في حياته، قد كانت ينبوع إلهام فجر شاعريته ورصَّع قصائده بالألق الشعري والابداع الحقيقي.

خامساً: الشعر الوطني؛ حيث ان السياب قد كان ثائراً في وجه الظلم والاستبداد فأحس بالغربة وهو يعيش في وطنه العراق، ولا يمكننا نسيان او تناسي مواقفه ذات البعد القومي والانساني، حيث انه قد قام بنظم العديد من القصائد للقضية الفلسطينية، وحيَّا نضال التونسيين والجزائريين والمصريين ضد الاستعمار والطغيان والدكتاتورية.

سادساً: انشغاله الاستثنائي بفكرة الموت بوصفها واحدة من القضايا الجوهرية والموضوعات الكبيرة الاهمية التي منحها السياب عناية خاصة، حيث انه قد تناول الموت كحقيقة ومفهوم وجودي متعدد الاسباب، ولكنه في المحصلة النهائية يبقى واحداً. وهذا ما طغى في الكثيرمن قصائده على كل ماعداه في عموم شعره، فهو مثلاً يقول:

 أهكذا السنون تذهب)

أهكذا الحياة تنضب؟

أحسُّ أنني أذوبُ... أتعبْ

أموتُ كالشجرْ

يا أَيّها الاله

 (أريدُ أَنْ اموت3149 sayab

وخلاصة القول: أَرى ان السياب والحداثة كانا تؤامين وصنوين ومتداخلين حدَّ التوحد والتماهي بما لا يقبل الانفصال والاختلاف على هذه الحقيقة على الإطلاق. ولا يُخفى علينا ان السياب كان قد تفوق على ذاته وأَصبح: شاعراً نسيج نفسه، والرائد الحقيقي لحركة الحداثة الشعرية العربية،

وحداثته لم تأتِ بمحض مصادفة أو مجرد نزوة من نزوات حب الاختلاف والاستعراض والادعاءات الفارغة، لا بل انها كانت نتيجة مخاض عسير ومعاناة حياتية في غاية القسوة وذروة الالم.

 

سعد جاسم

 

 

في المثقف اليوم