نصوص أدبية

مزهر جبر الاسدي: ليلة محتشدة بالخسارات

في الليلة السادسة لعودتي، كما في كل ليلة من الليالي السابقات، وبعد ان انقضى وطرا كبيرا من الليل، جافاني النوم ولم يغمض لي جفن. إنما في هذه الليلة؛ حطت امامي كل حياتي بما فيها من ألم وخيبات وخسارات؛ كسرت قلبي ونفسي في هذه الليلة، كسرا عنيفا لا رحمة فيه. رغم محاولاتي المتكررة، كي أخلد الى النوم حتى أخذ قسطا من الراحة التي كنت بحاجة ماسة لها، فقد كنت متعبا جدا، لأني أمضيت النهار، أتجول في شوارع ودروب المدينة. كانت الوحشة تسود في البيت حتى اني تخليت ان الجدران في هذا الليل الحزين تتكلم معي عن حبيبتي التي غادرت هذه الدنيا ولم أتمكن من رؤيتها في ايامها الاخيرة أو على أقل تقدير من توديعها.

عندما تأكدت من أني لن استطيع النوم؛ نهضت من على السرير، وخطوت خطوات قليلة لقطع مسافة مترين تفصل غرفة نومي عن غرفة المكتبة خاصتي، وقفت امام رف الروايات. اخذتني صفنة، تآملت خلال ثوانيها، كعوب الروايات التي صفت بعناية فائقة، هنا تذكرت اقوال زوجتي، من زمن بعيد، وكيف كانت تحثني على اهمية تنظيم الكتب في المكتبة. فقد قالت لي ذات مساء بعيد :- حسان يجب تنظيم المكتبة بشكل جيد، تبويبها؛ الروايات في رفوف خاصة بها، وكتب السياسة وكتب الفلسفة، كل صنف في جهة من المكتبة؛ حتى لا تتعب في البحث عن اي كتاب تروم الرجوع إليه او تريد أعادة قراءته. في هذه اللحظة التي تذكرت فيها اقوال زوجتي، التي كانت حينها كما المفتاح الذي تم به فتح قفل باب خزان ذاكرتي.. وجدتني، استعيد ما لحق بي من حيف وظلم وألم، وبما نتج تاليا، عنه من تيه وضياع..

 عندما اطلقوا سراحي كنت حينها كما التائه، سرت في شوارع المدينة، شارع تلو شارع؛ اروم الوصول سريعا الى هناك، حيث تنتظرني زوجتي، منذ سنوات، كنت حينها اتصور في خيالي؛ كيف يكون وقع المفاجأة عليها، عندما اطرق الباب، وتفتح الباب، واكون عندها قبالتها تماما. فقد كنت في شوق ولهفة لرؤيتها بعد غياب استمر لسنتين. اتذكر وقفتها الآن على عتبة الباب، وأنا امشي سريعا إليها في المساء، قبل مساءات ستة، مرت بألم لايطاق؛ وهي تبغك في مثل هذا الليل المسكون بالصمت والخوف، عندما ايقظوني من نومي، واقتادوني مكبل اليدين، وادخلوني الى داخل سيارة كانت تقف على مقربة اشبار من باب بيتي. كانت زوجتي بدرية تشكل لي الحضن الدافىء الذي ألوذ به حين تحاصرني الحياة بإخفاقاتها و ألامها التي تحدث في نفسي الكثير من الاحباط، أغتسل فيه، مما علق في روحي من الخيبات. حتى بعد أن لمّنا سقف واحد، لم يكن يطيب لي الا النوم في حضنها، اغمض عيوني على ترنيماتها التي تداعب خيالي واشعر بالمتعة الفارطة. ظلت عيناي تنظرها وأنا مطوق بالرجال الذين لم يتكلموا حتى ولو كلمة واحدة؛ فقد كنت أسألهم عن سبب اعتقالي في هذا الليل، لكنهم لم يجبوا، كانت وجوهم مكفهرة، وهم يضعون في احضانهم البنادق القصيرة. كنت واثقا من أني لم أت بأي شيء، يستدعي اعتقالي في هذه الساعة من الليل، في فجر ليل لم ينجلِ بعد. ومن الجهة الثانية، كنت على يقين تام من أني لن اخرج بسهولة او بعد فترة قصيرة. كنت أجلس لصق الباب الكائن في مؤخرة السيارة، الباب مفتوح، الشرطي الذي يجلس قبالتي، كان قد غفا. داعبت خيالي فكرة الهروب، سرعان ما ابعدتها، عندما رأيت الأخرين، يحضنون بنادقهم التي شُرعَوا فوهاتها نحوي. قلت مع نفسي:- لماذا أهرب وأنا لم أقترف اية جريمة أو أي فعل يمس الدولة أو يخل بالأمن العام؟!..هؤلاء الناس لا يوجد في الدنيا، من يحوَل بينهم وبين أن يُطلقَوا الرصاص، عند الضرورة، من فوهات بنادقهم الصغيرة هذه، وهي تحمل ألي؛ رسل الموت او الاعاقة على ظهري في احسن الاحتمالات، أن سولت لي نفسي بالهروب. استمرت على وقفتها لا تحرك ساكنا حتى غابت عني عندما ابتعدت السيارة كثيرا وغارت في دورب المدينة النائمة على ضياع، وفزع سببه الاعتقال في ظلمة الليل، او في  فجر احمر؛ ينذر بالعذاب، أو ربما بموت ينتظر البعض منهم على الابواب، وهم لا يعلمون ساعة وجوده. على هذه الصورة كنت افكر في اعتقالي بلا سبب..

طرقت الباب طرقة، طرقتان، ثلاث ولا احد يجيب، ومن ثم اخذت اطرق الباب بكل ما بي من قوة او بقايا قوة في جسدي الذي اخذ منه الاعتقال الكثير من قوته. ومن ثم لفني الحزن بثوب التوجس والخوف. انصت لا صوت في البيت إلا زقزقة البلبل الذي كنت ابتعته صغيرا، قبل فجر اعتقالي بأشهر.لا احد يجيب على الرغم من طرقاتي المتواصلة. جلست لأخذ شئيا من الراحة، بعد ان اتعبني كثرة ضرباتي على الباب. فقد قلت مع نفسي:- ربما هي عند صديقتنا المشتركة، وجارتنا. لكني استعبدت هذه الزيارة، في اللحظة التالية؛ لأن صديقتنا تعمل مدرسة في الثانوية المسائية القريبة من المنطقة. أعطيت ظهري الى الباب، اخذت على الرغم مني، ابحلق في الشارع الفارغ من البشر ومن اي صوت او حتى من اي نأمة في هذا الوقت من المساء الذي فيه لم تغادر الشمس بعد، لتفسح الطريق الى الليل. كان الشارع حينها غارقا في الصمت المطبق. سألتني:- هل زوجتي نائمة في الوقت من المساء، ربما تكون غارقة في النوم على غير عادتها التي عرفتها بها خلال سنوات، فقد كانت لا تستمر ابدأ، في النوم، عندما كانت تأخذها سنة النوم في القيلولة، حتى هذه الساعة من المساء، هذا أمر بعيد الاحتمال. في هذه اللحظة انتابتني الشكوك والخوف. قلت لنفسي :- أتكون قد غادرت البيت في غيابي؟!.. وسكنت عند اخيها في الجانب الثاني من المدينة، كلا فهي قد زارتني قبل اسبوعين، لو كانت قد غيرت سكنها، كانت وقتها، حين زارتني؛ قد اعلمتني. لكن الأمر الذي بدأ يخيفني كثيرا، كما سبب لي القلق في ذلك الوقت؛ فقد كانت عندما زارتني قبل اسبوعين، وهي اخر زيارة لها لي؛ شاحبة جدا، كان وجهها بلون الشمع، كنت حينها، خائفا عليها وعلى صحتها وحياتها، فقد بدت لي، من أنها لا تمتلك من الحياة إلا الصوت الواهن وحركة الجسد الأكثر ضعفا. كنت أود أو كانت بي رغبة حينها، بسؤالها عن احولها وعن صحتها، لكنها عرفت حين حدقت مليا في وجهها؛ من اني سوف أسألها عن صحتها واحوالها؛ لذا، قطعت عليَ طريق النطق بالسؤال، عندما أخذت بمطئنتي، وهي تقول لي في حينها:- بأن كل شيء في البيت على ما يرام، وصحتي على احسن الاحوال، حتى البلبل؛ فهو مستمر في ممارسة حريته التي عودته أنت عليها قبل اعتقالك. مما زاد في ريبتي وخوفي في زيارتها الأخيرة تلك، هو أنني اعرفها وأعرف عادتها في سهر الليل، تلك العادة، كانت قد تعودتها بعد ان مات طفلنا الاول، ذات يوم، مات بعد ان شب وصار صبيا يافعا، يسر الناظر إليه. تعلقنا به، وكان آملنا الوحيد في الدنيا، كنا نبني عليه، المستقبل، فقد نبغ في المعرفة في وقت مبكر، كان يحقق أعلى درجات التفوق في مواد العلم وينبغ في سبر الكلمة وما تحمل من معاني تحت سطوح حروفها. في ذلك اليوم الذي مات فيه، زوبعة الدنيا واندفعت الرياح كما الاعصار، تهاطل المطر حتى فاضت الشوارع والازقة والدروب، كان مطر كالطوفان، لم تشهد المدينة مثيلا له، كما في هذه الليلة التي دلهمت فيها، الدنيا بالخطوب، حتى خيل لنا ونحن نبكي على الأبن الميت، بيننا؛ أن الساعة قد حلت في هذه الليلة. كنت بين الفينة والفينة، افتح النافذة وانظر الى السماء السوداء، التي صارت كتلة من العتمة التي اقتربت من الارض حتى بت لا افرق بينهما. الرياح تصفر في الشارع، لم يكن صفيرا، كان حزنا مموسقا بصوت الريح الذي أخذ يشتد شيئا فشيئا. يُسمعني خيالي في صمت المساء هذا؛ نواح بدرية، في هذه اللحظة التي يجللها الخوف والانتظار، علها تستيقظ وتفتح الباب مع أن في قرارة نفسي، أنها لا تنام في هذا الوقت، خيالي يُسعفني في تلبية حاجتي، للاطمئنان عليها وعلى وجودها، أقول لي:- أنها نائمة. إنما في اعماق نفسي، هناك قلق وخوف وتوجس؛ من ان امرا ما، قد حدث لها. وراء الباب زقزقة العصفور على انغام نواحها، الذي زرع في نفسي الامل الضعيف، بوجودها في البيت، لكنها نائمة. الشيء الذي اثارني هو صوت العصفور، كانت صوتا يتيما، يزقزق بصوت اقرب الى النواح منه الى الزقزقة. نهضت.

طرقت الباب بقوة أو بكل ما في ذراعي من قوة، تابعت ضربي على وجه الباب بلا هوادة وبقوة تزداد مع كل ضربة. :– من؟!.. حسان.. التفتُ، كانت تقف فوق رأسي، الست صفية، زميلة بدرية في مهنة التعليم وصديقتنا المشتركة وجارتنا. :- نعم.. قلتها بصوت خفيض به خنة وبحة، ملؤهما وجع اللحظة في الواقع والمتخيل، التي احسست بثقلها على نفسي.. دخلنا أنا وهي الى داخل البيت.. حدسي المخيف، جعلني، لم أسالها عن صاحبة البيت وعن هذه الفوضى فيه، فقد عرفت ما حل بها؛ كان كل شيء في البيت، وسحنة صفية، والحزن الظاهر بوضوح على جميع ملامح وجهها، على عكس ما كان يجب ان تكون عليه، من فرح يفرضه اطلاق سرحي ومجيئي الى بيتي بعد غياب لسنتين، كل هذا يشير الى ان زوجتي، قد غادرت هذه الدنيا الى الحياة الاخرى. العصفور لم يخرج من القفص مع ان الباب كان مفتوحا، ظل واقفا، فيه، على العارضة التي تتوسطه، وكف عن الزقزقة، يحدق فيَ، نفس تلك التحديقة قبل سنتين، التي كان بها ينظرني، عندما ينتظر مني ان افتح باب القفص كما هي عادتي منذ ربيته ولم ينبت الريش بعد على جسده؛ لينطلق طائرا الى الحرية في فضاءات شارعنا، وربما يحلق طائرا ومتنقلا في بين النخيل والاشجار في الحديقة القريبة من شارعنا، كنت في ذلك الوقت اتخيله على هذه الصورة التي بها؛ يمارس الحرية بطريقته الخاصة؛ فهو لم يعد كما في كل مرة الا بعد فترة ليست بالقليلة. كانت كلمات جارتنا وهي تشرح لي ما حل بصديقتها، في السنتين الماضيتين الى أن ماتت ذات ليلة، قبل ايام. كان صوتها ينأى عني، كأنه قادم نحوي من وادي عميق الغور. لم يلتقط مسمعي مما كانت تشرح بنبر مختنق بالعبرة التي تكسرت مع كلماتها، في حلقها، سوى؛ بدرية، العصفور، باب القفص المفتوح، ووصايا بدرية، وماء وطعام العصفور الذي لايزال ينظرني مرة ومرة اخرى الى اناء الماء والطعام على ارضية القفص، الى أن ودعتني وخرجت على ان ترجع بعد قليل. رجعت بعد اقل من نصف ساعة، وهي تحمل اقراص الخبر والشاي وعدد من البيض المسلوق. رغم الجوع الذي ألم امعائي، وقرصني بشدة، والحاح صديقتنا، صفية؛ لم اتناول أي شيء مما احضرته. غرد البلبل الذي هو ايضا لم ينم؛ لأني لم اطفأ مصباح الصالة. حاولت ان اغماض عيوني، للهروب والتخلص من حصار اوجاعي التي تتدفق من خزان ذاكرتي التي توقف سيلها الآن. نزولا لرغبتي في التحرر مني، كي أمنح جسدي، قليلا، من الاستراحة ومساحة من الزمن للراحة ولو لدقائق، لكني، على الرغم من التعب والانهاك الذي هد جسدي من كثرة الدوران في طرقات واسواق المدينة، وما اشعر به من نعاس، لم اتمكن من النوم، إنما على الرغم مني؛ بدأت ابكي. وأنا مستمرا بالبكاء؛ واصلت تآملي في العصفور والسقف والجدران. كأن بكائي كان عونا لذاكرتي التي تحتشد بكم هائل من الخسارات والاوجاع. فقد تذكرت تلك الليلة المشحونة بالأوهام التي سيطرت كليا على زوجتي في تلك الليلة، التي كانت فيها؛ دوامة المطر الغزير والريح العاصف، تضرب زجاج النوافذ وخشب باب الدخول، وأنا ابكي بصمت قبل سنوات كما في هذه الساعة. وبدرية كانت في تلك الليلة البعيدة؛ تنوح نواحا يفطر القلب وهي تحضن الصبي. فجأة من دون سابق انذار او مقدمات، دنت مني وقالت:- ألم أقل لك ان شروق، لم يمت، أنظرإليه، كيف فتح عيونه، أنه يتبسم. :- شروق ميت، لقد شبع موتا منذ المساء، قبل ساعات، يا بدرية، قلت لها. لكنها ظلت تولول ولم تقتنع، كانت تصر وتعاند الموت الذي يخيم على البيت بثقله الثقيل في تلك الساعات التي كنا فيها، ننتظر ان تهدأ عاصفة الريح والمطر وتشرق الشمس. حتى بعد ان دفناه في المقبرة القريبة من باب الطلسم، وعدنا الى البيت، نحمل على كتفينا الخذلان والخيبة. فقد خسرنا رجلا أو مشروع رجل، يحمل في رأسه وعلى ساعديه، مستقبلا، انتظرناه طويلا، لم يعمر سوى بضعة سنين. واصلت بإصرار، وهي تحاول ان تقنع نفسها بأن شروق حيا، لم يمت. عيناي تبحلق بقوة مني، أدفعها على البحلقة في السقف والجدران والعصفور الذي خلد منذ ساعة الى النوم، بعد أن اغلقت عليه، باب القفص الذي غطايته قبل اغلاق الباب. عندها حل على البيت وعليَ صوت السكون الكوني المهيب والمشحون بشتى الخيالات التي ما انفكت تتوارد امامي كما شريط سينمائي، وأنا بين الغفوة واليقظة. عيناي جفناها ضعفا امام زحف جحفل النعاس، صارا ينطبقان اكثر بكثير مما ينفتحان. عندما فُتحَ الباب، مددت عنقي لأرى من ولج في هذا القطع الاخير من الليل، قبل ان ابصر من جاء، كان صوت بدرية يسبق ضرب اقدامها على ارضية المدخل:- أنظر لقد جاء معي، شروق. تقدمت نحوي بسرعة، كان برفقتها، شاب وسيم، لم يكن منظره وشكله غريبا عني.:- انه شروق، لقد عاد بعد غياب طويل، شابا مكتمل الرجولة. تقدم هو بخطوات وئيدة وثابته في آن، حتى اصبح على مقربة مني، انحنى وقبلني في رأسي، وهو يقول يا أبي لقد ألمني فراقكم، كنت خلالها، أجهز نفسي، كي يكون في وسعي، خدمتكم. نهضت لأحضنه. رن صوت السقطة كضربة مطرقة الحداد في ظهيرة قيظ الصيف. سقطت على وجهي. نظرت الى ساعة يدي، كانت عقرباها تؤشران؛ أن الوقت قد تجاوز الساعة العاشرة صباحا. على المنضدة الصغيرة عند رأس السرير، رأيت عليها؛ بيضتين مسلوقتين وقرص من الخبز وكوب مملوء بالشاي. القفص قبالتي، فارغ، لقد غادره البلبل. اثناء ما كنت اغسل وجهى، عاد البلبل، حط على كتفي، استمر على هذا الوضع وهو يغرد، الى أن جلست لتناول فطوري الذي احضرته صفية، قبل حين من الآن؛ نزل واخذ يشاركني، الطعام والماء..

***

مزهر جبر الساعدي

في نصوص اليوم