آراء

ثورة 23 يوليو المصرية 1952.. أيقونة الاستقلال في زمن الاحتلال (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن ثورة 23 يوليو ودورها في تحرير مصر من الاحتلال، وفي هذا المقال نتساءل سؤال آخر : ما أهداف تنظيم الضباط الأحرار؟

كان الهدف الأساسي هو تحرير مصر من الاحتلال، كما كان هذا هو الهدف الأساسي الذي تركزت عليه أفكار الضباط الوطنيين، إلا أنه نتيجة تعرض الجيش المصري منذ بداية الأربعينات لعدة عوامل سياسية جعلت ضباطه الوطنيين؛  وخاصة من جيل الشباب يلجأ إلي العمل السياسي، وهذه المؤثرات هي : معاهدة 1936 التي لم تؤد إلي استقلال حقيقي للبلاد، وحادث 4 فبراير 1942 الذي أرغمت فيه الدبابات البريطانية الملك فاروق أن يعهد بتشكيل الوزارة لمصطفي النحاس بدلاً من "حسين سري"، ويعد ذلك عدواناً علي استقلال مصر، مما جعل الضباط يشعرون أن كرامتهم قد أهينت، فعقدوا عدة اجتماعات لبحث الموقف واتجهت ميولهم لكل من يعادي الاحتلال الإنجليزي،  سواء من اليمين الإسلامي، مثل جماعة الإخوان المسلمين، أو اليسار الإسلامي، مثل حزب مصر الفتاة .

علاوة علي أن هزيمة الجيش في فلسطين وفضائح النظام الملكي كانا يمثلان سبباً مؤثراً في لجوء الضباط الأحرار للعمل السياسي ؛ نعم لقد كان لتلك الهزيمة وكذلك فضائح الملك في لجوء الضباط الأحرار إلي العمل علي خلق رابطة فكرية بين الضباط، كما كانت الأساس الذي بني عليه البكباشي جمال عبد الناصر تنظيم الضباط الحرار في سبتمبر 1949، واستطاع أن يضم إليه الضباط الوطنيين، الذين آمنو بأن خطورة المستعمر لا تكمن في جيوشه، وإنما في العملاء الذين ارتبطت مصالحهم ببقائه وعلي رأسهم الملك، ولذلك كانت خطة الضباط الأحرار انتزاع ولاء الجيش للملك ليكون ولاء الجيش للشعب؛ وقد عبر عبد الناصر عن ذلك بقوله " كنا نحن الشبح الذي يؤرق به الطاغية أحلام الشعب وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلي الطاغية ليبدد أحلامه هو "...وكنا نقول غير هذا كثيراً، ولكن الأهم من كنا ما نقوله أننا كنا نشعر شعوراً يمتد إلي أعماق وجودنا بأن الواجب واجبنا، وأننا إذا لم نقم به فإننا نكون قد تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها ...ذلك أن الحال الذي ساد بعد ثورة 1919، والذي حدد دوره في الصراع الكبير لتحرير الوطن.

وكلام عبد الناصر لم يأتي من فراغ، وإنما جاء من خلال تأثر الضباط الأحرار أثناء إعدادهم لحركة الجيش في 23 يوليو 1952 بما كان يدور حولهم في الحياة السياسية، وبما تعرضوا له أثناء حرب فلسطين عام 1948، وقد ظهر ذلك واضحاً في منشوراتهم، وفي أهدافهم الستة التي تبلورت حولها أفكارهم ؛ فقد تركزت المنشورات التي كانت تورع علي ضباط الجيش، في المكاتب أو بالبريد، علي مهاجمة الاستعمار وأعوانه، ومثال ذلك هذه الفقرات الذي نقتطعها من منشور صدر عقب حريق القاهرة يوم 26 يناير (كانون الثاني) 1952 جاء فيه : إن الخونة المصريون يعتمدون عليكم وعلي جيشكم لتنفيذ أهدافهم. وهم يظنوكم أداة طيعة في أيدهم للبطش بالشعب وارغامه علي قبول ما يكره .. فليفعم هؤلاء الخونة . إن مهنة الجيش هي الحصول علي استقلال البلاد وصيانته .. وأن وجود الجيش في شوارع القاهرة، إنما هو لإحباط قرارات الخونة التي تهدف إلي التدمير والتخريب.. ولكننا لا نقبل ضرب الشعب ... ولن نطلق رصاصة واحدة علي مظاهرة شعبية ... ولن نقبض علي  الوطنيين المخلصين ... يجب أن يفهم الجميع أننا مع الشعب الآن ... ومع الشعب دائما ... ولن نستجيب إلا لنداء الوطن .

ومن منشور آخر صدر أثناء وزارة أحمد نجيب الهلالي (باشا) جاء ما يلي : توالت مؤامرات الاستعمار الأنجلو امريكي، في الفترة الأخيرة في مصر، لمحاولة القضاء علي الحركة الوطنية، ولصرف أنظار الشعب عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار في القناة إلي مشاكل داخلية في القاهرة ... ثم مضي المنشور يفسر ذلك إلي أن انتهي بالقول : إن ما أهداف الضباط الأحرار الكفاح ضد الفساد وضد الرشو والمحسوبية واستقلال النفوذ.. ولكن يجب ألا نتجه إلي ذلك إلا بعد القضاء علي الاستعمار.

هكذا كانت منشورات الضباط الأحرار تحمل هم تحرير مصر من الاستعمار والاحتلال البريطاني، باعتباره القضية الرئيسية التي يمكن بعدها إصلاح المجتمع . ولم تنطلق أفكار الضباط الأحرار إلي بعد ذلك . ولم تتحدث عن القومية العربية . ولم تشر إلي حيوية التضامن العربي . وجاءت الاهداف الستة بمثابة برنامج عام يطلب القضاء علي ثلاثة: الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين، والاقطاع، والاحتكار وسيطرة رأس المال علي الحكم؛ والعمل علي اقامة ثلاثة : عدالة اجتماعية، وجيش وطني قوي، وحياة ديمقراطية سليمة . ولا شيء عن القومية العربية أو الكفاح المشترك ضد الاستعمار.

وبعد أن تم تشكيل هذا التنظيم أراد جمال عبد الناصر أن يقيس قوة التنظيم فبدأ يدخل وبدأت تتجه الأنظار بدخول نادي الضباط بالزمالك الانتخابات لقياس مدي قوتهم وبالفعل كانت هذه الانتخابات تمثل صراعاً بين الضباط الوطنيين، وبين قادة الجيش من عملاء القصر، وعلي رأسهم حسين سري عامر، الذي عينه الملك مديراً لسلاح الحدود بدلا من اللواء محمد نجيب الذي عين قائدا لسلاح المشاة، وهنا قرر الضباط الأحرار خوض معركة الانتخابات، لاختبار مدي قوة تنظيمهم وتأثيره علي ضباط الجيش، لذلك اختاروا اللواء محمد نجيب لترشحه لرئاسة مجلس إدارة نادي الضباط، كما وضعوا اسمه علي قائمة مرشحي الضباط الأحرار، وذلك عندما قاموا بتوزيع يوم 31 ديسمبر عام 1951  بسينما العباسية وذلك عندما اجتمع فيها حوالي 455 ضابط، وهذه الانتخابات أثارت الرأي العام في داخل الجيش وخارجه، حيث لم يكن صراعاً فقط بين محمد نجيب وحسين سري عامر؛ لا وإنما كان صراعاً بين الملك والضباط الأحرار، فالذي يمثل الملك هنا "حسين سري عامر" ؛ أما الذي كان مثل الضباط الأحرار "محمد نجيب"، وفوزه يمثل فوز الضباط الأحرار والعكس صحيح .

ومن هنا كانت الانتخابات شديدة، وقد أسفرت نتيجة الانتخابات عن فوز اللواء محمد نجيب وفوز قائمة الضباط الأحرار، وكان هذا أول انتصار يحققه تنظيم الضباط الأحرار، وبسبب إصرار الملك فاروق علي ضرورة تمثيل سلاح الحدود بعضو في مجلس الإدارة عقدت الجمعية العمومية للضباط اجتماعا مساء يوم 16 يونيو 1952 في حديقة نادي الضباط الأحرار بالزمالك، ويعد أخطر اجتماع عسكري منذ الثورة العرابية ؛ حيث ما قيل فيه يدل علي أن الملك فقد سيطرته علي الجيش، حيث رفضت الجمعية العمومية أن يمثل سلاح الحدود (موالي الملك) في مجلس إدارة النادي، وبذلك خرجت الثورة من الإطار السري إلي حيز العلانية.

وهناك أسباب مباشرة أدت إلي ثورة 23 يوليو 1952 ؛ حيث كما هو معروف أن تنظيم الضباط الحرار تم تشكيله في سبتمبر 1949 وبعد تشكيل التنظيم تم تحديد ميعاد للثورة  عام 1955 . والسؤال لماذا تم اختيار هذا الميعاد لإشعال الثورة ؟

وذلك حتي يستكمل تنظيم الضباط الأحرار بناء هياكله وهذا ليس سهلا حيث وجود أجهزة متعددة للأمن، مثل المخابرات الحربية والبوليس السياسي إلي جانب المخابرات البريطانية والأمريكية . ولكن بسبب حريق القاهرة في 26 يناير 1952 فكر الضباط الأحرار في تقديم ميعاد الثورة 3 سنوات، واختير شهر نوفمبر 1952 موعدا لقيامها، خاصة بعد أن أجبرت حالة الفوضى التي أعقبت حريق القاهرة الملك علي تشكيل أربع وزرات كان رؤساؤها من المستقلين، آخرها وزارة أحمد نجيب الهلالي، ولم تعمر فلم يكد يمضي علي تشكيلها سوي بضع ساعات، حتي قامت الثورة وأذيع بيانها الساعة السابعة والنصف صباحا باسم اللواء محمد نجيب .

وهنا نتساءل : ما العوامل التي عجلت بقيام الثورة قبل أربع شهور؟  لقد عجلت تصرفات الملك فاروق قيام الثورة قبل الاتفاق المعلن عنها في نوفمبر لتكون في يوليو؛ أي قبل أربع شهور والسبب هو إصدار الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة، وذلك إرضاء للملك قراراً بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 16 يوليو 1952 وإعادة الانتخابات. كما وصل إلي أسماع الضباط الأحرار بأن أجهزة الأمن الخاصة بالملك توصلت إلي معرفة 12 ضابطا من بينهم أعضاء لجنة التنظيم، وأنه تم تعيين اللواء إسماعيل بك شيرين وزيرا للحربية لاعتقالهم أو طردهم من الخدمة، ولذلك قرر الضباط أن تكون ليلة 23 يوليو موعداً لقيام الثورة، وذلك حتي لا يتم القبض عليهم بل يتم القبض علي الوزارة الجديدة، وهي وزارة نجيب الهلالي بمن فيها وزير الحربية إسماعيل "بك شيرين"، وبالتالي قامت الثورة في صباح 23 يوليو، وليتخيل عزيزي القارئ لو أن هؤلاء الضباط قد تأخروا ماذا يحدث !! الذي يحدث أنه سيتم القبض عليهم .

وننتقل للحديث عن خطة الثورة، في يوم 22 يوليو 1952 وكان هذا اليوم يوم الثلاثاء الساعة الثالثة بعد الظهر، اجتمع الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر لمناقشة المرحلة الأولي من الخطة والتي تبدأ الساعة الواحدة صباحا وذلك علي النحو التالي، حيث يقوم الفريق الأول من الوحدات المشتركة في الثورة بالتحرك لغلق مداخل القاهرة الشرقية والشمالية وكل الطرق المؤدية إلي المعسكرات وإلي رئاسة الجيش في كوبري القبة . وأما الفريق الثاني من الوحدات فيقوم باحتلال دار الإذاعة والاستوديوهات التابعة لها في شارع الشريفين وشارع علوي، وذلك لإذاعة البيان الأول للثورة الساعة السابعة صباحا . ثم تقوم المجموعة الثالثة من الوحدات مكونة من مجموعة من الضباط القيام بعمليات واسعة لاعتقال كبار قادة الجيش والطيران، وهم في منازلهم لضمان عدم ذهابهم إلي وحداتهم، ومنعهم من إصدار أي أوامر لتحريك أي قوات عسكرية لتتصدي الثورة .

وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم