آراء

اليتم السياسي العربي والتيه بين تركيا وإيران.. العروبة أولاً

محمد عمر غرس اللهبعدما تم إستهداف الدولة القائدة للعمل العربي (مصر) وإزاحتها عن قيادة الإرادة السياسية العربية، وبعدما تم تشويه كل ما يتعلق بــ(عبد الناصر) طوال خمسون عاماً، وفي ذلك تم إستهداف الدول والأنظمة السياسية التي كانت تحاول أن تكون في مسار أرداة الإستقلال العربي بعيداً عن الإستعمار القديم، والتي وصل للسلطة فيها تنوع التيارات القومية والعروبية، تفتقد الأمة العربية - اليوم - رافعة العمل العربي، والإستناد إلى ألإقليم القاعدة الضرورة الحيوية للعمل العربي، حيث كانت قد لعبت القاهرة مركزاً حيوياً لحركة التحرر العربي، ثم تلتها رفيقاتها بغداد ودمشق وطرابلس، والجزائر وصنعاء، التي وصل للسلطة فيها تنوع التيارات القومية والعروبة، هذه الدول التي كانت تحاول أن تكون في مسار أرداة الإستقلال العربي وبعيداً عن نفوذ الإستعمار والارتباط به والدوران في فلكه، حيث تفتقد الأمة العربية اليوم، الدولة رافعة العمل العربي، وألإقليم القاعدة الضرورة الحيوية للعمل العربي (كما يصفه المفكر نديم البيطار).

أننا نرى الأمة اليوم مستباحة، لفقدانها المشروع الذي تم التحالف عليه ومهاجمته وتشويهه، وحرقه معنوياً، وهذا المشروع يفتقد اليوم أيضاً الدولة القاعدة (الرافعة)، بفعل حروب دول الهيمنة وأدواتها في المنطقة، هذا المشروع العروبي كانت قد أضرت به أيضاً معاركه البينية القاتلة وخصوماته الإنفعالية، والتي وصلت إلى حد، أن قاتل بعض القوميين العرب في معارك ليست واجبة، وقاتلوا مع شوارزكزف على العراق عام 1990م، ثم مع منذ عام 2011 م يقاتلوا صفاً واحداً مع الناتو يد بيد، ومع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، والقاعدة وداعش، والجماعات الإسلامية لإسقاط ليبيا، وتدمير سوريا، وتحالف البعض منهم مع الحرب الظالمة على اليمن، وهم بتحالفون اليوم مع تركيا على سوريا وليبيا وفي إستهدافها مصر ، ويصمتون على تمدد الأذرع التركية في المغرب العربي

اليوم وبسبب التيه واليتم السياسي، تتقسم قوى الأمة بين (العباءة الإيرانية)، و(العباءة التركية)، العرب الغساسنة والعرب المناذرة الجدد، وها هي إيران اليوم تناصر تركيا في هيمنتها على ليبيا، بعدما ناصر تركيا عرب أخرون وجيران وأشقاء، يعقدون التحالفات مع أردوغان عشية إعلانه ليبيا أرث عثماني وإرسال قوات تركية للحرب على شعبها، وظهر أشقاء يأتمرون بأمره، بل ويتبجحون بأن تركيا هي التي حررت العرب (كما يقول راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي ورئيس حزب النهضة).

أنه التيه، واليتم السياسي الذي وصلت له الإرادة السياسية العربية ووقعت فيه اليوم، فلا رؤية عربية ومشروع لمقاومة مايجري، والتنظيمات التاريخية غارقة في وهم كيل المديح للماضي وجعل ذلك برنامج عمل، وغارقة في خصوماتها البينية التاريخية الناتجة عن صراعات الحكم والسلطة وخصومات الحكام.

وفي هذا اليتم والتيه، ظهرت حالة مستفحلة ضد العرب والعربية والعروبة، فبمجرد أن تكتب جملة (الأمة العربية) أو تذكر  (القومية العربية)، تنبري لك الخلايا النائمة، تترك الداعي والمدعي وكل ما يجري، وتصب جام غضبها عليك وعلى العروبة والأمة والعربية، تنكرها وتجرمها وترفضها، وكأن أردوغان التركي ليس قوميا وكمالياً تركياً، وكأن إيران ليست أمة لها مركزيتها تبحث عن مصالحها وتعبر عنها بإرادتها السياسية.

أن ما يجري - في أمتنا اليوم - تجليات ونتيجة لحرب شعواء على عواصم الفعل العربي طوال سبعون عاماً من الإستقلال ومحاولات إقامة إرادة عربية موحدة، فالدول والأنظمة والعواصم العربية التي ناصبت عبد الناصر العداء - وشنت عليه وعلى تيار العروبيين الحروب تاريخياً، والتي عملت بمعية الغرب ووفق إستراتيجياته، وساهمت على تدمير سوريا وتشريد شعبها وعملت على تدمير ليبيا وإسقاطها ونهبها،  والتي تشن للعام الخامس حربا ظالمة على الشعب اليمني - تقف اليوم عاجزة أما تركيا وإيران، مبحوحة ضعيفة تراقب طائرات تركيا تسرح وتمرح من شمال العراق الي حدود ليبيا الغربية.

لقد أُكلت هذه الدول والأنظمة يوم أكل الثور الأبيض، لم تستطع اليوم أن تقوم بالدور الذي كانت تدعيه وتقول إنها أولى به، هي أعجز من تقدم خطاب سياسي وفكري او تظهير مشروع عربي الإرادة، وهي اليوم أقل من أن تدير إرادة سياسية مستمدة من الإرادة العربية ومركزيتها القومية يلتف حولها العرب، وهي أقل بكثير من أن تعبر عن مصالح الأمة، وتكون صوتها وسلاحها، وكرامتها، فهي مرتهنة بيد الغرب نفط وأرصدة وارادة سياسية، ومستباحة الجغرافيا.

وهكذا نتيجة لفقدان العرب - كأمة - النظام السياسي القائد والرافد للعمل العربي والمشروع المدرك، حيث تم تجريد الأمة من هذا المعامل الحيوي، حتى صارت الأمة بين خيارين، أما تركيا، أو إيران، حتى المقاومة لم تعد تنهل من مداها العربي، بسبب غياب المشروع، والأقليم القاعدة، والعاصمة العربية الملاذ، وبسبب غياب الدولة التي تكون مركز إنطلاق للعمل العربي وحاضنته، كما فعلت القاهرة طول منتصف القرن الماضي، وكما فعلت بقية عواصم التيار العروبي في طرابلس ودمشق وبغداد.

كما تفتقد الأمة اليوم، القدرة على المبادرة والمبادئة في التنظم للعمل للعمل العربي لإستعادة مركزية إرادة المقاومة ببعده العربي (بقت التنظيمات حبيسة الماضي وما علق بالمربعات الحزبية والتنظيمية القديمة التي أُستهلكت)، رغم وضوح ما يجري ومجاهرة أعداء الأمة بمشروعهم، وإستئساد قوى الهيمنة الدولة، وأذرعها وأدواتها من جماعات إسلاموية بتنوعاتها من أخوان مسلمين وداعش، وقاعدة، وجماعات قبلية وشعوبية، التي تسيطر على عواصم عربية اليوم، تحت إشراف المخابرات الدولية ومبعوثي الأمم المتحدة.

أنه اليُتم وتيه، الفردي، واليُتم والتيه الحزبي والتنظيمي، حيث لم تنبري النخب لمواجهة الواقع بالتنظيم عربياً بالآليات جديدة تتعامل مع الواقع الجديد وتواجه تحدياته، وتتعامل مع المستجد من حروب الجيل الرابع، هذه الحرب الجديدة التي جعلت من المواطن العربي جندي في جيش العدو يتقدم صفوف الغزاة (مطلينين وباندا و زواف) جدد، جنود يقاتلون أهاليهم أخوتهم، ويمسحون ويفتحون الطريق أمام هيمنة الدول الأخرى وتحقيق مصالحها.

إنها دعوة لقوى الأمة العربية، الحية والفاعلة للتنادي، والتنظم، وتجاوز المربعات القديمة، وإعتبارها أرث يستفاد منه فكر وتجربة سياسية ونضالية، وهي دعوة ضرورة ومُلحة لبناء وتنظيم أشكال مقاومة جديدة عصرية تتعامل مع عصر الهيمنة الجديد وفق التحدي الوقتي اليوم (بكل أنواع أسلحته الفكرية والإعلامية والقتالية)، بالإستفادة من التجارب السابقة التي يجب التحرر من سلبياتها وخصوماتها وتقاطعاتها، والتحرر مما علق بها من جمود وتخشب، وتطوير أليات النضال والكفاح، بما يتناسب والعصر والمرحلة والتحدي الذي يواجه الأُمة اليوم.

أننا كحركة تحرر عربي قادرون على ذلك، والأمة لم تعدم الرجال الأفذاذ الأذكياء المخلصين المدركين، كما فعل رجال الأمة في بداية مواجهة الإستعمار الأوروبي، وكما فعل الرجال منتصف القرن الماضي، أولئك الرجال الذين قدموا العمل الفكري والتنظيمي، وقاوموا، حتى تم الإستقلال وتم إجلاء الإستعمار وإجتثاثه وطرد قواعده العسكرية، فأمموا النفط وقناة السويس، وطردوا الغزاة والمستوطنين، بل وأجبروا هذا الإستعمار على الإعتذار، وتقبيل يد ابن الشهيد الشيخ المجاهد عمر المختار، الرجال الذين تنظموا وأداروا معركة طرد فرنسا من الجزائر بعد إحتلال ظالم دام 133 سنة، الرجال الذين فاجأوا القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية، الرجال الذين فاجأوا الأنظمة العربية النائمة في أحضان وزارات المستعمارات الأُوروبية، وقوضوها.

أنها دعوة -  لحركة التحرر العربي -  للعمل بطريقة جديدة وتمثل الحالة النضالية في زمنها ووقتها ويومها بالفعل المطلوب والمناسب والمكافيئ، فالتنظيمات القديمة أدت ما عليها، وإستنفذت مداها، وهي لها ظروفها، وعلينا - كحركة تحرر عربي - أن نبقيها أرث وتجربة يستفاد منها ونتعلم منها، وعلينا اليوم أن نتحرر مما علق بها مع الزمن الذي إستهلكها وحول نضالها لمجرد حنين للماضي ونشر للصور والخطابات، وعلينا اليوم كحركة تحرر عربي واحدة في أطار الأمة العربية، أن ننتقل لطور جديد من التنظم والتنظيم وأسلوب العمل والفعل، علينا أن نبني تصورنا الجديد للمقاومة الفكرية والسياسية من مخاض واقعنا اليوم وما يجري، وعلينا أيضاً أن  نبني ونؤسس تصورنا أيضا حتى للحالة القتالية ونوع المقاومة وطرقها،  وعلينا أن نتحرر من قيود تنظيماتنا القديمة التي ظهرت وعملت في ظروف مختلفة، ووجب تجاوزها، والإنتقال لطور تنظيمي جديد يتناسب مع ما يجري اليوم.

إننا - كحركة تحرر عربي -  بحاجة لنوع جديد من الحيوية والتنظم والعمل، لمواجهة المستجد التاريخي، الذي جد علينا كحلقة جديدة من حلقات الإستعمار الجديد، فها هي تركيا تسرح وتمرح من العراق حتى طرابلس الغرب في ليبيا، وها هي القواعد الأجنبية تبنى على أرضنا من جديد جهاراً نهاراً، وها هي الوصاية والتدخل الجنبي والهيمنة، وها هي المهانة تلحق بنا حتى تم وصفنا بأننا أرث للأمبراطوريات التي إنهارت على الأشهاد.

اللهم أشهد أللهم قد بلغت ..

للمزيد في هذا الموضوع، أنظر مقالي: (في إنتظار المجهول: بنيوية العجز ووهم النضال بالنوستالجيا)

 

د. محمد عمر غرس الله

 

 

في المثقف اليوم