آراء

آراء

في أغلب الدول المتحضرة ينص القانون الأساسي ساري المفعول على ما يلي: (تكفل الدولة حرية الصحافة والنشر والإبلاغ السمعي بصري ـ الإذاعة والتلفزيون، أيضا المقروء والصورة). إنما في بلد كالعراق لا يجد مئات الصحفيين الذين يعملون على هذا المبدأ، مكانا لمهامهم الحقيقية بين أوساط المجتمع، بسبب حركة الرقابة المتشددة لمنع انتشار الحقيقة.. والسؤال: متى يأتي اليوم الذي كان أصحاب المهنة يحلمون بحرية المهنة واحترام القانون؟

يبدي العديد من الخبراء القانونيين والإعلاميين وآلاف القراء العراقيين من الصنف المتابع لمجريات الأحداث والأزمات وتداعياتها التي لم تتغير في بلادهم لأكثر من عقدين، امتعاضهم من استخدام صاحب القرار الرقابة المفرطة بحق الصحفيين وتقييد حريتهم الإعلامية بموجب قوانين قديمة التاريخ وتقارير كيدية مطيعة. وفيما هناك وسائل إعلام لا تلتزم الشفافية في أداء واجبها الصحفي ولا تخضع للرقابة الذاتية التي تشترط الحقيقة والأمانة والصدق. أصبح مبدأ، "الصحافة لأجل مصالح الحزب" منهجا، يقتضي لأن تتدبر وسائل الإعلام ذات التبعية السياسية بيئة غالبا ما يكون فيها الوعي الإخباري محدودا بشكل حاسم. بذلك يتم وأد كل دفعة توجيه أو انتقادات من لدن المعارضة الشعبية وبعض وسائل الإعلام لأصحاب السلطة في مهدها.

وإذا ما تحدثنا عن حرية التعبير والرأي بموجب الأحكام والقوانين، "شبه العرفية" التي تطبق للأسف في زمن السلم، يشعر الصحفيون وأصحاب الفكر دائما وكأن الرقابة جاهزة على وضع "المقص فوق الرأس" مع إنتقاص للتوصيات والمبادئ التوجيهية التي ينص عليها أحكام الدستور والقوانين التي تحرم حظر حرية التعبير ومصادرة الرأي، أو سوء سلوك من أي نوع يهدد بالسجن أو الشطب المهني.

منذ تأسيسها بعد احتلال العراق، تعكس بعض وسائل الإعلام "المرئي والمسموع والمقروء" التابعة للأحزاب، في المقام الأول، مصالح أحزاب السلطة وتكتل النخب السياسية والطائفية وشركائهم التجاريين. مسلك مثير للقلق، لكنه بالتأكيد يجسد إشكالية الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام "التابعة" تلك، لتضليل الرأي العام. والأخطر الدور الذي يمكن أن تلعبه باسمها لتصعيد الأزمات وإثارة أفراد المجتمع سياسيا وعقائديا. في ظل هكذا معايير وسلوكيات ونظام التعتيم الإعلامي واحتكار الأخبار وعدم وجود مؤسسات بحثية يرجع إليها الإعلامي خلال أداء عمله المهني. لم يبق أمام الصحفي سوى أن يفكر في النتائج الوظيفية الاجتماعية السلبية، خاصة وأن العراق لا زال يعاني من سلبيات التحول السياسي، ومجتمعاته المتنوعة لم تجد لنفسها مكانا بين أصحابها المعنيين على مستوى الانتماء "العرقي والطائفي والقومي" وحتى أحيان في مثالية المصالح والحقوق الشخصية والتطبيق الفعلي لممارسة العمل والتدرج الوظيفي والتكيف مهنيا ومعيشيا مع المحيط المجتمعي.

نعتقد أن الكثير من الصحفيين ووسائل الإعلام العراقية لا زالت غير مؤهلة لأن تحسن الفعل فيما يخدم المصالح العامة للدولة والمجتمع. وعلى ما يبدو أن الكثير من الصحفيين لا يضعون مكانة لازمة في محيطهم المهني للجزئيات المجتمعية ومحرماتها السياسية. والأسوأ، أن أغلب الإعلاميين ليسوا سوى أداة طيعة في يد كبار رجال الأعمال والنخب السياسية، الذين ليس لديهم فقط، الأدوات العقائدية، إنما المال والسلطة، لكن أيضا، الترويج عبر وسائل إعلام متطورة وأبواق إعلامية مأجورة. يتأكد من ذلك، أن بنية ونشأة هذه الطبقة هي المشكلة التي تواجه التحول الديمقراطي. وإن التوازي الإعلامي المباشر، هو مزيج من جماعات سياسية ذات مصالح فئوية مشتركة، تروج لها بشكل واضح أبواق يمولها القطاع الخاص ويتم تشغيلها في الغالب من قبل رجال الأعمال، حيث كثيرا ما تتداخل المصالح السياسية والاقتصادية.

من جانب آخر، ليست هناك ضمانات لأن تكون وسائل الإعلام العراقية غير الحزبية والمملوكة للدولة، حرة. لكن من الواضح هناك ضغوطات تتعرض لها، ويحتمل أن تشكل بعض المحرمات فزاعة لملاحقة محرريها وتعرضهم لقانون (المستوى الهابط) سيئ الصيت. وفي أكثر الأحيان لا يفهم بأن وسائل الإعلام أجهزة عامة للتعبير والتوعية المجتمعية، يوضع لها في الدولة المدنية معيار مجتمعي وثقافي خاص، على أساسه يحرم مساءلة أو اعتقال أو ملاحقة الصحفي سياسيا، إلا في العراق ديوان القسوة والظلم مفتوح على مصراعيه طالما الصراع لأجل الحقيقة لم ينته بعد.! 

***

عصام الياسري

في يوم اعلان  تشكيل حكومة السيد محمد شياع السوداني، نشرنا مقالا بعنوان: (دولة رئيس مجلس الوزراء.. مع التحية – وزير التعليم العالي)! اثبت الآن ان فضيحة (جامعة البصرة) كانت نتيجة، وأن السبب باق لفضائح اخرى أكثرها في الجامعات الأهلية، لكن المال يسترها.. وستبقى الفضائح ما دام السبب باق.

ولأن دولته لا يعرف علماء ومفكري البلد فأنني اضطررت في حينها أن أبدأ النصيحة هكذا:

اتحدث لجنابكم الكريم بوصفي قضيت اربعة عقود في التعليم العالي، وكنت في التسعينيات عضوا في لجنة من ثلاثة اكاديميين مهمتها اختبار صلاحية حملة الدكتوراة القادمين من جامعات امريكية وبريطانية ودول اخرى للتدريس في الجامعات العراقية، ومحاضرا لربع قرن بمركز طرائق التدريس الذي يقوم بدورات تدريبية للتدريسيين بهدف الارتقاء بمستوى التعليم الجامعي، واستاذا في جامعات عراقية وعربية، ومشرفا على أكثر من سبعين اطروحة دكتوراة، ومؤلفا لكتب منهجية تدّرس في الجامعات. وكنت مقرر اول مؤتمر للتعليم العالي بعد 2003 في (ايلول 2004)، وفيه اقر ستة اهداف من اصل ثمانية وضعتها انا ومعتمدة حاليا في الوزارة، وانتخبت في (2005) رئيسا لرابطة اساتذة جامعة بغداد، وقبلها حصلت في (2000) على تكريم وزارة التعليم العالي الخاص برعاية العلماء.

اقول هذا معتذرا ومضطرا، لأن السياسيين لا يعرفون غير السياسيين ولا يرتاحون لعلماء النفس والأجتماع المستقلين لأنهم يقولون الحقيقة، ولأن العراق بعد 2003 صار طاردا للأكاديميين، ولأن معظم الذين تولوا هذه الوزارة ما كانوا مؤهلين، ولا يعرفون أن اهم وأخطر وزارة في العراق هي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. فهم لا يدركون ان التعليم العالي يعدّ أحد أهم المحركات الرئيسة لأداء النمو الأقتصادي والتقدم الأجتماعي والتنمية من خلال تعزيز الابتكار وزيادة المهارات العالية للخريجين، والقدرة التنافسية للدول بوجه عام وللأفراد بوجه خاص. وأنه الوسيلة التي تعمل على تحسين نوعية الحياة للناس ومعالجة التحديات الأجتماعية والعالمية الكبرى، وأن تقدم الدول يعتمد بالدرجة الأساسية على البحوث العلمية التي ينجزها العقل الأكاديمي، وانها هي التي تعد العقول العلمية التي تبني الانسان والوطن.. فضلا عن أن اساتذتها موزعون بين مستقلين سياسيا وبين من يحتل مواقع متقدمة في الأحزاب العراقية، وان صوتهم مسموع في الفضائيات العراقية والعربية والأجنبية.

في ضوء ما اوجزناه في اعلاه عن اهمية وخطورة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.. فان تساؤلي لجنابكم الكريم، هو:

ما المؤهلات التي يتمتع بها من اخترته وزيرا لهذه الوزارة؟

استطلاع رأي

من عادتي انني استطلع الرأي في قضايا كهذه، فتوجهت بهذا الأستفسار:

(أرجو تزويدي بمعلومات حقيقية وموضوعية عن وزير التعليم العالي الذي اختاره السيد السوداني.. ؟).

في ادناه نماذج من اجابات اكاديميين ومثقفين ونشطاء:

رجل راكز نفسيا واجتماعيا ومتوازن. درس في جامعة الكوفة لغة عربية وكان مهذبا ومنتظما ولبقا وذكيا. سياسيا هومجاهد بطل وشجاع ولا يخشى شيئا.

على عيني سياسي ومجاهد وبطل وشجاع.. بس هاي وزارة تعليم عالي.

الوزير منصب سياسي في كل بلاد الدنيا، جينين بلاسخيرت كانت قبل تسلمها منصب ممثلة الأمين العام في العراق وزيرة دفاع هولندا. العبرة في إدارته للوزارة والتزامه بالأنظمة والقوانين وتطوير التعليم ومؤسساته.

باعتقادي اول قرار سيصدره ويطبق على الجامعات هو التزام الطالبات بالحشمه والأخلاق، هذا اولا

ثانيا – إضعاف دور الجامعات الحكوميه وزياده الاهتمام( بالنسبه العدديه) للجامعات الاهليه،

ثالثا – سيكون منح الشهادات الجامعيه المزوره على قدم وساق وبالمزاد العلني.

لا تسعد الامة إلا بثلاثة: حاكم عادل، و عالم ناصح، و عامل مخلص، وان شاء الله يكون عامل مخلص. نتمنى له التوفيق، والايام القادمة سوف نرى ما يقدمه هذا الشاب الغيور.

استاذي، انت اعرف منا بهذا الامر وهو واضح حاله حال الاخرين، الامر ليس للمؤهلات ولكن للتوافقات.

يقال انه اكمل دراسته العليا في لبنان في الجامعة الاسلامية والتي الغي الاعتراف بها من قبل التعليم العالي.

المحاصصة والانتماء الحزبي هو الحاكم، اما الكفاءة فهذه محذوفة من القاموس عندهم.

السؤال، هل عمل في الجامعات العراقية حتى يعرف مشاكلها ويحلها؟!هل قدم محاضرات للطلبة؟ واين نشرت بحوثه، السيرة الذاتية تدل على ضعف علمي لهذا الشخص.

انطو الرجال فرصة يشتغل وبعدين احجو عليه.

ادري اشلون انطيه فرصه هو لا صاير معاون عميد ولا عميد ولا رئيس جامعه اشلون اتريده يقود وزاره ويعوفون البرفسوريه والدكاتره خريجين جامعات عالميه ويجيب واحد خريج جامعه مزوره!.

وزارة التعليم.. تاريخ

تأسست وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق عام 1970 وكانت الدكتورة سعاد خليل اسماعيل اول وزيرة لها (اجريت معها لقاءا صحفيا لجريدة الجامعة التي اصدرها وزير التعليم العالي الدكتور منذر الشاوي، ببيتها في الصليخ عام 1989)، تلاها الدكتور هشام الشاوي.. محمد صادق المشاط.. منذر ابراهيم الشاوي.. وكان معظم من تولى هذا المنصب يحملون شهادة الدكتوراه من جامعات عالمية رصينة، وخبرة غزيرة وبمرتبة (بروفيسور)، وخرجت اساتذة اسسوا كليات في بلدان عربية.. الى ما بعد 2003 حيث كانت الأنتكاسة.

علي الأديب.. مثالا

تولى السيد علي الأديب منصب وزير التعليم العالي في (2010)، وبدعوة من مكتبه، جرى في نيسان (2012) لقاء شخصي معه عرض عليّ العودة الى بغداد مع تلميح نقله لي ملحق ثقافي كان حاضرا اللقاء بأسناد موقع اكاديمي كبير لي.. فشكرته واعتذرت. وفي نهاية اللقاء اسديت له نصيحة كانت بالنص:

ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه، واخشى أن يكون المحيطون بك من هذا النوع وبينهم من هو حديث الخبرة.. وعليه اقترح على جنابك تشكيل هيئة مستشارين بدرجة بروفيسور من الاختصاصات العلمية والانسانية على ان يكونوا مستقلين سياسيا.. ولم يأخذ بها فكان التراجع الكبير لمستوى الجامعات العراقية واقحامها في السياسة الطائفية.. شاهد على ذلك، انني دعيت لمناقشة اطروحة دكتوراه في الجامعة المستنصرية، وحين دخلتها لم اصدّق أنني ادخل جامعة بل جامعا! حيث اللافتات السود من مدخلها الى أروقتها.. مكتوب عليها عبارات شيعية بعضها فيه ما يبعث على الكراهية والتحريض الطائفي.

العبودي.. كيف سيكون؟

ما اتصف به سلفه السابق السيد علي الاديب ينطبق على السيد نعيم العبودي، فكلا الرجلين امتهنا السياسة، الأول في حزب الدعوة والثاني في (عصائب اهل الحق). ولا يعنيني هنا معتقدات (الحزبين)، بل المؤهلات التي ينبغي ان يتصف بها من يتولى هذه الوزارة.

ان السيد العبودي لا يمتلك مؤهلات وزير تعليم عالي وبحث علمي في بلد كالعراق متعدد القوميات والأديان والمذاهب والثقافات. فالرجل (الشاب) تلقى محاضرات ثقافية ودينية ونضال وجهاد سياسي صاغت فكره بآليات دوغماتية ومعتقدات طائفية.. تؤثر كلها في أدائه الوظيفي وان حاول تحييدها، وانه سيخضع لما يريده من رشّحه ومن يتولى قيادة (عصائب اهل الحق)التي ينتمي لها، وان كانت ضد ارادته.

وبغض النظر عن التهمة الشائعة عن الجامعة الأسلامية في لبنان (التابعة للمجلس الأعلى الشيعي في لبنان) التي منحته شهادتي الماجستير والدكتوراه، من انها تمنح شهادات مزورة او بثمن.. فانها جامعة غير رصينه لا تؤهل من يتخرج فيها ان يتولى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق. يؤكد ذلك أن وزارة التعليم العالي كانت قد اصدرت قرارا بتعليق الدراسة في ثلاث جامعات لبنانية (الجامعة الحديثة للأدارة والعلوم، الجامعة الأسلامية في لبنان، وجامعة الجنان) لعدم التزامها بمعايير الرصانة العلمية.. ما يعني ان السيد نعيم العبودي ليس مؤهلا اكاديميا لتولي هذا المنصب الرفيع، ولا يمتلك الخبرة، ولن يأخذ بالنصيحة التي كنا اسديناها لسلفه علي الأديب، لأن سيكولوجيا السلطة في العراق عودت حتى الحاكم المستقل سياسيا ان يحيط نفسه باشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه، فكيف اذا كان سياسيا ومنتميا الى (عصائب أهل الحق)!.

في ضوء ذلك فان التعليم العالي سيتدهور اكثر، ومؤكد ان امر تغييره الآن ليس مناسبا، لكننا نتوقع ان سيادتكم ستراقبون اداءه، وتتابعون ما سيكتبه اكاديميون نخبة من داخل العراق وخارجه، فتعمدون اولا الى توجيهه قبل ان تضطروا الى ان تأتوا ببديل يكون قادرا على اصلاح ما افسده غيره في اهم مؤسسة علمية.. فبالعلم والعلماء يبنى المواطن والوطن، مع خالص تمنياتنا بالموفقية.

1 كانون اول 2022

توقع

ما توقعناه حصل، بل واكثر.. وهذا يعود الى سبب رئيس هو ان الكارثة الأوجع التي حلت بالعراقيين هي أن القيم الأخلاقية في العراق قد تهرات بعد 2003، وأن سببها الرئيس هو شيوع الفساد وتحوله من فعل كان يعد خزيا الى شطارة وانتهاز فرصة، وأن الفاسدين الذين فقدوا الضمير الأخلاقي والديني و وصفتهم المرجعية بـ(الحيتان)، ما زالوا يحتلون المراكز العليا في الدولة.. ما يعني أن الفضائح الأخلاقية ستكون ظاهرة عادية. فكما كان الفساد يعد خزيا في القيم العراقية الأصيلة وأصبح حالة عادية، كذلك الفضائح الأخلاقية.. ستصبح حالة عادية ما دامت وصلت الى من كانت ارقى مؤسسات القيم في الدولة العراقية، وما دام الفاسدون الفاقدون للقيم والأخلاق هم المستفردون بالسلطة والثروة.

***

د. قاسم حسين صالح

 

حتى كتابة هذه السطور بلغ عدد الذين راحوا ضحية العمل الإرهابي الذي استهدف احدى قاعات الحفلات (وليس ثكنة عسكرية) في المجمع التجاري كروكوس سيتي، في ضواحي موسكو، بلغ 115 قتيلا ، والحصيلة قابلة للارتفاع ، وعدد كبير من الجرحى نصفهم لازالوا في مرحلة خطرة ، ولا يسعنا في هذه اللحظة الا ان نتقدم بالتعازي لروسيا وعوائل المتضررين، والشفاء العاجل للجرحى، ونستنكر كل أنواع الإرهاب من أي جهة وفي أي مكان، لأن ما تم فعله جريمة لا يمكن وصفها الا بأبشع عبارات الاستنكار والادانة ، لتضاف هذه الجريمة، الى مثيلاتها من الجرائم التي ارتكبت في مسرح "نورد أوست" في موسكو و مدرسة بيسلان ومدينة بودينوفسك، قبل سنوات عديدة ، وفي أماكن أخرى في العالم .

والملفت في موسكو اليوم، هو ذلك المشهد، الذي يسجل فيه الشعب الروسي اسمى شعور بالوطنية، واصطفافه بطوابير الكبيرة ، امام المستشفيات و المراكز الطبية في المدينة، رغم سوء الأحوال الجوية والبرد، وحتى قبل الدعوات للتبرع بالدم لجرحى الحادث " الاجرامي "، الامر الذي دعا رئيسة مؤسسة المتطوعين لمساعدة الأيتام الخيرية إيلينا ألشانسكايا، الى حث سكان موسكو على عدم التسرع في التبرع بالدم، لأن المراكز الصحية مزدحمة جدا، وقوائم الطوابير الالكترونية قد امتلأت حتى الى ما بعد أسبوعين، وبالإمكان التبرع بعد ثلاثة أسابيع ، ان كانت هناك حاجة ، مشهد يستحق الوقوف له احتراما واجلالا لهذا الشعب العظيم بتاريخه وحضاراته، وهو رسالة قوية للذين دبروا ونفذوا هذا العمل الاجرامي ومن وراءهم، بأنهم يد واحدة، ضد أولئك الذين يحاولون تفتيت بلادهم، ونشر الذعر والفوضى وزعزعة الاستقرار فيها .

والمراقب لردود الفعل الامريكية منذ اللحظة الأولى " للعمل الإرهابي "، يلحظ وبشكل كبير ذات الارتباك والتخبط في هذا الموقف الفاضح، ولا يمكن الاستغراب منه، ففي الوقت الذي اكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، بأنه لم تتوفر لدى واشنطن أي معلومات عن احتمال وقوع حادث في المركز التجاري "كروكوس سيتي" بضواحي موسكو، الا ان السفارة الأمريكية في موسكو دعت في إنذارها لمواطنيها قبل عيد المرأة 8 مارس، دعت فيه المواطنين الأمريكيين بعدم السفر إلى روسيا، والموجودين على أراضي البلاد بإبداء الحذر وتجنب التجمعات الحاشدة نظرا "لخطر إرهابي عال" أثناء فترة العطلة الأسبوعية !!!.

تصريحات كيري أيضا أوقعت واشنطن في حرج كبير (ولو انهم لا يخجلون من أعمالهم أصلا)، بسبب تناقض تصريحاتها ، ولاستدراك الامر، قالت أدريان واتسون، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، كانت لدى الإدارة الأمريكية معلومات بشأن مخطط هجوم إرهابي في موسكو، يحتمل أن يستهدف تجمعات كبيرة، بما في ذلك الحفلات الموسيقية، وقد تشاركت واشنطن في مارس الجاري بهذه المعلومات مع السلطات الروسية، وانه لم يتم تحديد المكان، والغريب وكما كشف الرئيس الصربي الكسندر فوتشيتش، فإن الأمريكيين والبريطانيين وبعض الدول الأخرى، قاموا بنفس الخطوة الامريكية في تحذير رعاياهم، وهذا يعني، ان النوايا والتخطيط في الغرب، والتنفيذ من الجارة الغربية لروسيا.

كما أن تصريحات البيت الأبيض، بأنه لا يرى أي مؤشر على تورط أوكرانيا أو الأوكرانيين في الهجوم الإرهابي في موسكو، يؤكد ضلوع كييف في الحادث، خصوصا وان المشتبه بهم في تنفيذ الهجوم " الإرهابي "،قد القي القبض عليهم وهم يهربون إلى أراضي أوكرانيا عبر مناطق الغابات على طول خط السكة الحديد، والسؤال وكما طرحته المتحدثة باسم الخارجية الروسية هو، على أي أساس يستنتج المسؤولون في واشنطن أي استنتاجات حول براءة أي شخص في خضم المأساة؟ فإذا كانت لدى الولايات المتحدة أو كانت لديها معلومات موثوقة في هذا الصدد، فيجب نقلها على الفور إلى الجانب الروسي، وإذا لم تكن هناك مثل هذه البيانات، فليس للبيت الأبيض الحق في إصدار الغفران لأي شخص، وسيتم تحديد هوية جميع المتورطين، كما صرحت القيادة الروسية، من قبل الجهات المختصة.

وهنا لابد من الالتفات الى ، أهمية ردود الفعل ، فمنذ اللحظات الأولى للإعلان عن الجريمة " البشعة "، تهافت الجميع ليست فقط في الدول العربية والإسلامية والعالمية الصديقة لروسيا، ولكن أيضا حتى تلك الدول التي تقف موقف العداء العلني لروسيا مثل فرنسا وبليجكا وغيرها من الدول، والأمين العام للأمم المتحدة، الذي بدل تعازيه لتتناسب مع واقع الحدث، والذي استحق شكر روسيا على ذلك، يراها فيها المراقبون، انها لم تكن تعزية غربية تشاطر روسيا حزنها، ولكن كونها جريمة " بشعة "، ومحاولة امتصاص ردة الفعل الروسي وغضبه ، لأنه اذا ما امتلك روسيا كل خيوط الجريمة، وان بان البعض منها، وكلها تدور حول أوكرانيا، فإن الرد بالتأكيد سيكون قوي " ومزلزل "، بسبب الضغط الشعبي الروسي على قيادته للقصاص من المذنبين أي منهم كان .

ان الحديث عن تبني " داعش " لهذه الجريمة، والترويج لها بهذا الشكل الإعلامي الكبير، لأبعاد الشكوك حول المتهم الرئيس في الجريم (أوكرانيا)، فإنه يدين الولايات المتحدة بشكل خاص، فإن هذه الدولة الاجرامية، لها و "داعش " سجل كبير في الاجرام، في العراق وسوريا وليبيا، وان من أسس هذه الجماعة الإرهابية هي نفسها الولايات المتحدة باعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، وهي من تمولها، وهي التي توجهها في الاتجاهات التي تريدها، فلماذا في هذا الوقت ظهرت " داعش " في موسكو؟ سؤال بات يطرح بشكل كبير، وجوابه، هو ان الانتصارات الروسية في ساحات المعركة، وفوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية، بشكل قياسي، أسباب كافية، لتحرك الإدارة الامريكية ذيولها، ولن تتوانى عن تنفيذ أبشع الجرائم، انتقاما لفشلها الكبير في سياستها المعادية لروسيا .

ولا يختلف اثنان، من أن الهجوم الإرهابي الذي وقع في مركز "كروكس سيتي هول" بضواحي موسكو، هو جزء من حرب تخوضها أجهزة المخابرات الغربية ضد روسيا منذ سنوات، والسنوات الماضية كشفت كيف يدعم الغرب الإرهابيين في القوقاز في التسعينيات، والانقلاب في أوكرانيا عام 2014، وتعطيل اتفاقيات مينسك وقتل المدنيين في نوفوروسيا، وتأجيج الروسفوبيا، ودعم النازية الجديدة، والآن كروكوس، كل ذلك حلقات في سلسلة الحرب ضد روسيا، والمستفيد من كل ذلك، واحد، والشيء الرئيسي من وجهة نظر زاخاروفا، هو أن السلطات الأمريكية لا تنسى كيف ربطت بيئتها الإعلامية والسياسية بين الإرهابيين، الذين أطلقوا النار على الناس في قاعة مدينة كروكوس ، وبين منظمة داعش الإرهابية المحظورة، وان روسيا تعرف جيدا في أي بلد خطط هؤلاء  " الأوغاد" الدمويون للاختباء من الاضطهاد – أوكرانيا ، خصوصا وان نفس الدولة، تحولت على أيدي الأنظمة الليبرالية الغربية لمدة عشر سنوات، إلى مركز انتشار الإرهاب في أوروبا، متجاوزة حتى كوسوفو في جنون المتطرفين.

ونقول لكم بأمانة كنا احد المتوقعين بإنساب هذا العمل الاجرامي، للجماعات الإرهابية " داعش"، لكن وقائع الحادث تشير الى انه، لم تكن هناك تصريحات سياسية ولا مطالب ابتزاز ولا محاولات لأخذ رهائن، وهذه ليست الطريقة التي يتصرف بها الإرهابيون الكلاسيكيون، وهو أشبه بسلوك القتلة المأجورين، أو القسوة الحيوانية التي يمارسها غير البشر، والتي أعمتها كراهية كل شيء روسي، وهذا أمر مألوف بالفعل عند وحدة الخدمات الخاصة الأوكرانية التي تقف وراء الهجوم الإرهابي، حيث لا يتطلب الأمر أي تحضير جدي لإطلاق النار على حشد غير مسلح، المهم هنا هو موقع الهجوم الإرهابي المدروس بعناية وشكله، الإعدام والحرق العمد كغطاء للهروب، وان كل ما في الأمر أن كييف، في كراهيتها لكل شيء روسي، انحدرت إلى مستوى جهنمي جديد.

واليوم، وعلى الرغم من ان كل المعلومات لم تؤكدها السلطات الروسية بشكل رسمي، ستبقى في إطار التخمين والتحليل ، فقد تعالت في روسيا أصوات، تؤكد أن هذا الهجوم الإرهابي لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة، ويستوجب التضامن مع روسيا، لأنه عندما يتقرر مصير البلاد ومصير روسيا وشعبها، فمن المستحيل محاربة الإرهاب ومقاومته، وفقا لقوانين زمن السلم، ومن المستحيل بنفس القدر صد عدوان الغرب الجماعي على روسيا، وبادئ ذي بدء، وكما أوضح بيان جمعية المحاربين الروس، ينطبق هذا على الإرهابيين والمخربين وقادتهم، والمتواطئين معهم، الذين تشكل أفعالهم تهديدا لحياة الناس، وأمن البلاد أو التي أدت بالفعل إلى حدوث عواقب وخيمة .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

هزت مشاهد فاضحة لعميد كلية علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات مع احدى الطالبات داخل مكتبه في الجامعة ارجاء المؤسسة التعليمية، لتعيد الى الواجهة موضوع الفساد، لكن هذه المرة بصورة اشد وطاة لارتباطها بفضيحة اخلاقية تتعلق بالفساد الجنسي.

اثار هذا الحدث تساؤلات حول ما اذا كانت هذه الحادثة استثنائية ام انها جزء من ظاهرة اوسع لتفشي الفساد بمختلف اشكاله، المالي والاخلاقي والسياسي، في مختلف الجامعات؟

يربط الكثيرون هذه الظاهرة بنظام تعيين القيادات الجامعية الذي لا يراعي الكفاءة والخبرة والانجازات العلمية والبحثية، ولا يهتم بمهارات الادارة والقيادة والاتصال والتعاون الدولي واللغات والبحث. بل توزع المناصب على اساس المحاصصة البغيضة بين الاحزاب والميليشيات والقوى التي تتحكم برقاب الشعب، وتمسك بخناق العراق واهله.

لا نحتاج الى تخمين ان الفساد المالي والاخلاقي اصبح حالة شائعة بين القيادات الحكومية، خاصة في ظل غياب اليات شفافة لاختيار القادة، قائمة على خطوات واضحة تبدا من الاعلان عن الوظيفة، مرورا بفرز الطلبات، والتوصية، والسيرة الذاتية، والمقابلة، وانتهاء باختيار المرشح الاكثر كفاءة و نزاهة.

على القيادات الحكومية والوزارية اغتنام فرصة الفضيحة الاخلاقية هذه لاحداث انقلاب في اسلوب تعيين القيادات الجامعية وذلك بقبر اسلوب المحاصصة كليا، والشروع بعمليات اختيار القيادات علنيا وبصورة شفافة، مع التركيز على توفر الصفات اللازمة في المرشحين، مثل الكفاءة الاكاديمية والعلمية والقدرة على التواصل والاتصال والتفاعل مع التدريسيين والرغبة في التعلم المستمر متضمنا ذلك السعي الدائم لتطوير المهارات والقدرات العلمية والادارية والتفاني والشغف والاخلاص للعمل الاكاديمي والسعي الدؤوب للارتقاء بمستوى الكلية والنزاهة والالتزام بالقيم الاخلاقية والمبادئ المهنية. ويتم الانتقاء على اساس المنافسة على المنصب وذلك بفتح المجال امام جميع الكفاءات للتنافس علميا على اشغال اي منصب اكاديمي او اداري، وبما يؤدي الى الارتقاء بجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية بحيث تساير مستويات الجامعات العالمية. ولا يجوز ان يكون انتماؤه السياسي او الحزبي او الديني معيارا لحصوله على هذا المنصب او ذاك. الكفاءة تنبغي ان تكون هي المعيار الاوحد.

ولما كان هذا المسؤول-الفضيحة ينتمي، كما يقال، لجماعة سياسية اقول ما دام هذا فأن سلوكه المشين هذا يؤكد حقيقة انه بفعلته هذه اساء اساءة كبيرة لمسؤوليته الاكاديمية وللموقع الذي اؤتمن عليه. 

انها فرصة ثمينة لاعادة تنظيم العمل الاكاديمي على اساس الكفاءة والنزاهة، بعيدا عن فساد المحاصصة. حان الوقت لوضع حد للممارسات السيئة والضارة، وضمان مستقبل افضل للجامعة وللطلاب.

***

محمد الربيعي

كـَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عند بعض التنظيمات السياسية عن الحاجة إلى "التغيير"، ويقصدون به التغيير السياسي، في بنية نظام الحكم، غير أنهم نسوا أو تناسوا الركن الأساسي للتغيير، وهو التغيير الإجتماعي للأفراد عامةً، ولتنظيماتهم السياسية خاصةً، التي أصبح الوصول إلى تحقيق أهدافها أو الاقتراب منه بعيداً، أو أنه استغرق وقتاً طويلاً، أو أنها لم تحقق من الهدف شيئاً كثيراً. لذلك فإن تركيزنا في هذا المقال سيكون عن الحاجة للتغيير في بنية التنظيمات السياسية وتركيبها ووسائلها وغاياتها، ولماذا تعارض أو تقاوم أي توجهات جدية لتغيير أساليبها وبرامجها ومخططاتها.

إن أسباب التغيير، متعددة، متشعبة، نذكر منها تعرّض التنظيمات السياسية  باستمرار إلى إخفاقات وانتكاسات وأخطاء عميقة أثناء مسيرتها الطويلة، التي  يعود معظمها إلى اتخاذ قرارات غير صائبة أو القيام بأفعال غير سليمة، أو تبنّي آراء غير مدروسة بشكل جيد، متسرّعة، بعيدة عن الواقع، وحتى بعيد عن التوجه العام لأعضائها. وإذا كان هناك ثمة استشارات، فهي لا تتجاوز استشارات بعض الأشخاص الذين يكونون عادةً مؤيدين لهذه التوجهات. ومن المفيد الرجوع إلى كتاب جان ماري دانكان "علم السياسة" الذي يبين أحد أسباب فشل هذه التنظيمات السياسية في تحقيق أهدافها بقوله: "إذا كانت بعض نظريات علم السياسة قد فشلت، فذلك لأن طموحها كان عند نقطة الانطلاق غير معقول... ويمضي بالقول: لقد أدى الفشل النسبي على الأقل، لهذه الجهود التنظيرية إلى إحداث أزمة في العلوم الاجتماعية. فمعرفة العام لا يمكن بلوغها إلا من خلال معرفة الخاص. ومعرفة الخاص بحد ذاتها، مشروطة بجهد نظري يستهدف إعداد المفاهيم ويستلزم وجود منهج مجرد وعام بدونه ستبقى هذه المعرفة مجرد تكرار للمعطيات. يجب أولا ملاحظة أن الأسس النظرية لمثل هذه المحاولات انتهت للافلاس، لكن التناقض يبدو ساطعا بين الأسس الفكرية المعلنة والمنتج الذي تم الحصول عليه".

ومن أسباب توقف التغيير في بنية التنظيمات السياسة، هو تعطل آلية ما يطلق عليه جان ماري دانكان في كتابه السابق "دورة النخب". فالنخب القديمة تتمسك بالقيادة، لكن الأخرى الفتية والفاعلة تريد الوصول إليها، قبل أن تُطرد بدورها، فيما بعد ..هذه العملية تسمى "دورة النخب".

إن ظاهرة حلول نخبة جديدة محل القديمة تتم بطريقة غير محسوسة، لكن آليتها تتعطل فجأة أحيانا. فالكثير من الأفراد قليلي الجدارة نجحوا في الدخول إلى صفوف النخبة، والبقاء فيها. كما أن النخب القديمة تتمكن بشكل تعسفي من احتكار القيادة بحيث لا تتمكن النخب الجديدة من الوصول إليها. إن مثل هذه الأوضاع تثير ضغطا يؤدي لانفجار عنيف. ومن نتائجه الانشقاقات وخروج أفراد من هذه التنظيمات.

ومن الأسباب الأخرى، هو إهمال أو تجاهل الاقتراحات أو النصائح أو الآراء التي يطرحها كثير من المفكرين والمخلصين، سواء من داخل هذه التنظيمات أو من خارجها، لأن قيادات هذه التنظيمات كثيراً ما يتصورون أنفسهم متفوقين في كل شيء، ولذلك لا يرغبون سماع الحقيقة أو أي رأي مخالف لهم، لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم كما يقول فريدريك نيتشه، حيث أن كثير من هذه التنظيمات تعتبر، مع الأسف، النقد الموجه إليها "إهانة"، والاختلاف معها "خيانة". وعلى ذكر النصيحة، يقول أفلاطون، "من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئا، فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر". ولهذا فإن هذه التنظيمات تريد التأييد فحسب، هذه هو شعارهم.

نعم من حق هذه التنظيمات أن يكون لها "رأي" تعتقد فيه وتدافع عنه، لكن ليس من حقها أن تسميه "الحقيقة". وعلى هذا الأساس لا جدوى من الحوار مع أي فرد من هذه التنظيمات لأنه عبد تابع، ذليل، خاضع، خانع، بلا إرادة، عقله وقف في خدمة وتبرير عقيدته، كلما جادلته ازداد تعصبا وحقدا. إنهم السلبيون الذين يمتلكون عقدة لكل حل. إذن تقديس القيادات والطاعة العمياء لكل أفكارهم وأعمالهم وأقوالهم من أهم أسباب توقف التغيير في هذه التنظيمات وضعفها. وأكثر ما تكرهه هذه التنظيمات، كما يقول شوبنهاور، هو وجود إنسان يفكر بشكل مختلف، لأنهم لا يكرهون رأيه فحسب بكن يكرهون جرأة هذا الإنسان على امتلاك الشجاعة للتفكير ليكون مختلفاً.

ومن الأسباب الأخرى هو استصغار الأمور أو شيئا من الخطأ أو الزلل، وعدم القدرة على قراءة صفحة المستقبل بما كان، وفي ملابسات الحاضر وإمكانياته. كذلك انتهاج سياسة غير واقعية، وهي أن تفعل ذات الشيء مرة بعد أخرى، وتتوقع نتائج مختلفة.                                    

إذن على هذه التنظيمات حتى تنهض من ضعفها وتنجح في الوصول أو الاقتراب من أهدافها ينبغي تغيير العقليات السائدة فيه فضلا عن ذلك، تغيير أو ابتكار وسائل جديدة للعمل السياسي، مثل الاهتمام بالدراسات والأبحاث العلمية واستطلاعات الرأي، والاهتمام أو تأسيس قاعدة بيانات أو ما يسمى "مخازن التفكير". فالدراسات وركيزتها البحث العلمي، هي التي تطرح نتائج تتضمن إعادة صياغة بدائل واحتمالات متوقعة.

وأخيرا، وكما هو متوقع أن كل من يدفع باتجاه التغيير يجابه  من أصحاب العقول الجامدة، وأصحاب المركزية الشديدة، بالرغبة الجامحة في إبقاء الموجود، وذلك من أجل مواقعهم ومصالحهم ومنافعهم الخاصة . والشخص ذو التفكير الجامد، مغلق الذهن لا يستطيع أن يتقبل أفكار غيره ويتفهمها.

وأن ما يدفع التنظيمات السياسية ويساعدها في النجاح والتطوّرهو الجرأة. الجرأة في التفكير، والجرأة في التنفيذ، والجرأة في تقبل الفشل ومراجعته. أضف إلى ذلك اعتماد المنهج العلمي في التحليل والاستنتاج المنطقي، لأن العلم هو حصيلة خبرات كثيرة انصبت آخر الأمر في قواعد، ولذلك قالوا: إن القاعدة الصحيحة هي التي تصح عند التطبيق.

***

أحمد محمد جواد الحكيم (باحث وأكاديمي عراقي)

 

بقلم: ساندرين بيرجيس وإريك شليسر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بصفتها جمهورية، زعمت صوفي دي غروشي أن التعاطف، وليس الهيمنة، يجب أن تكون الغراء التي تجمع المجتمع معًا.

خلال كومونة باريس عام 1871، كان لا بد من انتخاب جميع المسؤولين الحكوميين والقضاة من قبل الشعب. وقد احتفل كارل ماركس بهذه الحقيقة في كتيبه "الحرب الأهلية في فرنسا". كانت هذه الفكرة تلوح في الأفق في الدوائر الثورية الفرنسية، ولكن لها جذورها في المساواة الراديكالية التي اتسم بها أنصار المساواة في إنجلترا في القرن السابع عشر.

ومع ذلك، عندما نتتبع الأصول المختلفة للاقتراح من الإصدارات اللاحقة الموجودة في أعمال الطوباويين والاشتراكيين في القرن التاسع عشر، نجد أنه خلال الفترة الثورية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان أبرز مؤيدي (على الأقل جزء من) كان هذا الاقتراح هو المترجم الفرنسيm الأرستقراطيm لآدم سميث، صوفي دي غروشي (1764-1822). رسائل عن التعاطف، العمل الموقع الوحيد المعروف لغروشي، تم نشره في عام 1798 كملحق لترجمتهh للطبعة الأخيرة من كتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية (1792) ومقالته أطروحة عن أصول اللغات (1792). ظلت هذه الترجمة هي الترجمات النموذجية لأعمال سميث الرئيسية لمدة قرنين من الزمان. ونتيجة لذلك، ظلت رسائل غروشي عن التعاطف أيضًا منتشرة على نطاق واسع، وكانت قادرة على التأثير على نمو الأفكار السياسية.

في الرسالة السابعة من رسائلها حول التعاطف، في سياق حجتها الأوسع حول الإصلاح الجنائي، كتبت غروشي: "إذا تم إجراء جميع التعيينات من خلال انتخابات عامة وانتخابات حرة، فلن يحتاج ضميرنا إلى مقاومة نوع الحافز الذي يؤدي إلى الجريمة أو الظلم المستوحى من الطموح” (جميع الترجمات بقلم ساندرين بيرجيس). ومن الواضح أن غروشي افترضت أن الحكومة والبيروقراطية المؤلفة من مسؤولين منتخبين ستكون مصدراً للشرعية والعدالة.

هناك إشارات إلى هذا النهج في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو (1762) وفي الجمهورية الرومانية، لكن صياغة غروشي لهذا لم تحظ بالاعتراف الكافي. كيف أصبحت المرأة المولودة في عائلة أرستقراطية ثرية قناة للديمقراطية الراديكالية خلال الثورة الفرنسية؟

في عام 1793، عملت غروشي  فنانة وكاتبة ومترجمة في استوديو صغير في شارع سانت أونوريه، على بعد بضعة منازل من مكان إقامة ماكسيميليان روبسبير. كان زوجها، نيكولا دي كوندورسيه، مختبئًا من عهد الإرهاب على بعد بضعة كيلومترات، وكانت تزوره عندما تستطيع، ووتجلب معها الكتب ومواد الكتابة بالإضافة إلى الدعم المعنوي. أقامت أسفل الاستوديو الخاص بها متجرًا للملابس الداخلية، وكان شقيق سكرتيرة كوندورسيه يديره. في أحد الأيام، علمت الميليشيا أنه يمكن العثور على زوجة أحد المنشقين في ذلك العنوان، وطرقت الباب عازمة على اعتقالها. لكن بدلًا من جرها إلى السجن، جلس الضابط الذي اعتقلها لالتقاط صورته في الاستوديو الخاص بها - مجانًا بالطبع. تم إنقاذ غروشي من عواقب فلسفتها السياسية الراديكالية (وفلسفة زوجها) بفضل  مهاراتها الفنية.

وُلدت غروشي في شاتو دو فيليت بالقرب من مولان عام 1764. لم تكن عائلتها غنية وأرستقراطية فحسب، بل كانت أدبية أيضًا: كان أحد أسلافها مدرسًا لميشيل دي مونتين، وكان والداها يقيمان صالونا أدبيًا معروفًا في باريس. وبصفتها طفلة تقية ومجتهدة، كان كتاب غروشي المفضل هو تأملات ماركوس أوريليوس. لكن في أواخر مراهقتها، اكتشفت المفكرين الأكثر خطورة مثل فولتير ودينيس ديدرو وروسو. وأصبحت ملحدة – مما أثار رعب والدتها – وجمهورية.

وربما كان تطرفها السياسي أحد الأسباب التي جعلتها تنجذب إلى كوندورسيه (أحد أبرز علماء الرياضيات والمنظرين الاجتماعيين في عصره، والذي أيد، قبل عصره بفارق كبير، الحقوق المتساوية للمرأة)، وانجذب إليها. لقد التقيا من خلال عمها الذي كانت تدرس ابنه. في ديسمبر 1786، تزوج غروشي وكوندورسيه في الكنيسة الصغيرة في فيليت، وكان ماركيز دي لافاييت شاهدًا علي زواجهما.

انتقل العروسان إلى شقق كوندورسيه في فندق Hôtel des Monnaies، Quai de Conti، مقابل Pont des Arts، حيث عمل كوندورسيه كمفتش عام لدار سك العملة. كانت لغة صوفي الإنجليزية ممتازة في ذلك الوقت، وقد استقبلت العديد من الزوار الأجانب بما في ذلك توماس جيفرسون، وتوماس باين، وأناشارسيس كلوتس، وإتيان دومونت. كان صديقهم المخلص بيير جان جورج كابانيس، وهو طبيب وعالم فيزيولوجي ومصلح اجتماعي، والذي تزوج لاحقًا من شقيقة صوفي، شارلوت، زائرًا متكررًا أيضًا. كانت كابانيس أيضًا "C ***" التي وجهت إليها غروشي رسائل التعاطف.

لقد هاجمت الملكية باعتبارها إسرافًا اقتصاديًا، اقترحت استبدال الملك بالآلات

منذ البداية كان من الواضح أن غروشي لم تتخلف عن زوجها من حيث الفكر السياسي الراديكالي. وبالتأمل في دورها في الثورة، كتب صديقها السابق، أندريه موريليه، أن غروشي هي المسؤولة عن آراء زوجها الأكثر تطرفاً. من المؤكد أن رسائلها عن التعاطف تُظهر إطارًا جمهوريًا لا هوادة فيه. لكن للحصول على دليل أكمل على وجهات نظرها الأكثر تطرفا، نحتاج إلى الرجوع إلى الصحيفة التي أسستها مع كوندورسيه وباين وآخرين: لو ريبوبليكان. نُشرت المجلة عام 1791، وتضمنت مقالات مجهولة المصدر بقلم غروشي وترجماتها لبعض أعمال باين. أصبحت تُعرف بأنها جمهورية "شرسة"، وليس من المستغرب أنها تعرضت للسخرية باعتبارها مناهضة للملكية وتم تصويرها كاريكاتيرًا في المجلات الملكية.

في إحدى هذه المقالات، هاجم غروشي النظام الملكي باعتباره إسرافًا اقتصاديًا، وأظهر في الوقت نفسه أنه لا يخدم أي غرض يتجاوز الغرض الاحتفالي من خلال اقتراح استبدال الملك وحاشيته بأشياء آلية. ونظرًا لتكلفة "المنحوتات المتحركة" الحقيقية وصعوبة إنتاجها وصيانتها في حالة عمل جيدة، فإن الادعاء بأن الآلات الآلية ستمثل توفيرًا كبيرًا في التكلفة كان بمثابة هجوم مباشر على الإسراف الملكي. ولكن أكثر من مجرد تكلفة اقتصادية، كانت التكلفة النفسية للملكية هي التي كانت أكثر ما يقلق غروشي. في المقال الثاني (الذي ربما تكون قد أعادت صياغته من مقال سابق لصديقتها دومونت)، تناولت غروشي موضوعًا طورته في رسائلها حول التعاطف: التكلفة الأخلاقية والنفسية للهيمنة، وهو نوع الهيمنة المميزة للملكية.

إن الهيمنة هي الضرر السياسي الأساسي والأكثر انتشارًا بالنسبة للجمهوريين، لأنها، كما تقول غروشي، تقضي على حريتنا. وفي هذا، يختلف الجمهوريون إلى حد ما عن الليبراليين، الذين يرون أن الحرية مهددة بالتدخل. إن السيطرة على الآخرين ليست بالضرورة نفس الشيء الذي يتم التدخل فيه. إن السيطرة تعني الخضوع لقوة تعسفية لديها القدرة على التدخل في أي وقت. تجادل غروشي بأن الملك غير المقيد بالقانون هو الذي يحكم دائمًا. حتى الملك الحميد الذي لا يريد التدخل في الحياة الشخصية لرعاياه مستبد. ادعى لويس السادس عشر أنه يهتم قبل كل شيء بسعادة رعاياه، إلا أن سلطته عليهم لم تكن خاضعة للتنظيم بموجب القانون، وبالتالي كانت تعسفية ومتسلطة بهذا المعنى. وبما أن موقف الملك قد يتغير على مدار فترة حكمه وقد يحل وريثه محله في يوم من الأيام، فلا يمكن الاعتماد على إحسانه لمنع الضرر المستقبلي من التدخل. وعلى هذا فإن شخصية الملك ليس لها أي تأثير على ما إذا كان ينبغي لنا أن نقبل حكم الملوك: فهم ما زالوا يهيمنون، مهما كانت نواياهم حسنة. كما كتبت غروشي في صحيفة Le Républicain:

كيف يكون من الفضيلة أن نحب الملوك، سواء كانوا صالحين أو أشرار، أغبياء أو حكماء، فاعلين صالحين أو أشرار، سواء كانوا طغاة أو أدوات طغيان، غارقين في الكسل وتركوا الحكومة لأتباعهم الفاسدين؟

هذه هي الحجة الجمهورية الكلاسيكية ضد الهيمنة: فالسلطة الوراثية تعسفية بالضرورة، وتسبب الضرر بغض النظر عن شخصية حامل اللقب الحالي. لكن غروشي تذهب إلى أبعد من ذلك: حتى لو تمكنا من التأكد من عدم التدخل، فإن الهيمنة هي في حد ذاتها ضارة. إن الهيمنة تقلل من استقلالية الأشخاص، مما يجعلهم يشعرون بالقلق المستمر بشأن ما قد يحدث لهم، وغير قادرين على التخلي عن حذرهم إلا من خلال القمع النفسي العام للحقيقة ــ وهي حيلة نفسية لإنكار حقيقة الموقف. تقول غروشي إن رعايا الملك الخيرين هم مثل الأطفال: غير ناضجين، يسهل الترفيه عنهم بالتفاهات، وغير قادرين تمامًا على تحمل المسؤولية عن حياتهم وأفكارهم. فقط من خلال رفض حكم الملك تمامًا، يمكن لرعاياه أن يدركوا إنسانيتهم أخيرًا، ويتركوا طفولتهم المجازية وراءهم:

لقد تحطم احترامهم [الفرنسيين لملكهم]، وكذلك حبهم: قلب الشعب الفرنسي، الذي شُفي من هذه العاطفة الغبية والعبثية، ارتفع إلى حب القوانين والوطن. إن أرواحهم التي تعلوها المشاعر السخية لن تعود إلى الزحف عند قدمي الأمير.الملك هو أكثر الخشخيشات طفولية، مما يحط من طفولة الأمم: لم يعد الفرنسيون يريدون الخشخيشات: لقد كبروا.

ونظراً لأنها كانت تجادل، أولاً، بأن الدور السياسي للملك كان ضئيلاً للغاية بحيث يمكن بسهولة استبداله هو وحاشيته بآلات أوتوماتيكية ــ والتي ستكون صيانتها أقل تكلفة بكثير ــ وثانياً، فإن مجرد وجود ملك يجعل الشعب الفرنسي طفولياً، ليس من المستغرب أن تختار غروشي عدم الكشف عن هويتها لعملها. حتى بين الثوريين الأكثر تطرفًا، كانت مثل هذه الهجمات المباشرة على النظام الملكي نادرة، على الرغم من أن باين شاركتها بالتأكيد العديد من معتقداتها حول هذا الموضوع. ولكن إذا اختارت غروشي عدم الكشف عن هويتها في نشر فكرها السياسي، فقد قدمت الكثير من شخصيتها في المظاهرات العامة لجمهوريتها. كانت حاضرة مع العديد من النساء الأخريات في ساحة مارس في 17 يوليو 1791، وهو اليوم الذي اقتحم فيه جيش صديقتها لافاييت الحشد. لقد كان منزلها هو المكان الذي أتى إليه جنود مارسيليا عندما وصلوا إلى باريس للانضمام إلى الثورة: وقد احتفى بها الجنود هي وكوندورسيه كأبطال جمهوريين.

وعندما اندلعت الثورة، اختبأ زوجها، وتمت مصادرة ثروة غروشي. وفي وقت لاحق، بعد شائعة مفادها أنها هاجرت، تم رفض ذلك مرة أخرى.كتبت ابنتها إليزا أن هذه الفترة من الفقر النسبي هي ما دفعها إلى نشر رسائل التعاطف:

ظلت والدتي لعدة أشهر دون أي دخل. وعندما لم تعد قادرة على العثور على صور لترسمها، قامت بترجمة كتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية، والذي ضمت إليه رسائل عن التعاطف، موجهة إلى كابانيس، كانت قد  كتبتها في وقت سابق.

لدينا دليل جيد على أن الرسائل تمت صياغتها في وقت سابق، في عام 1792، حيث أرسلت نسخًا منها إلى صديقها دومونت في ربيع ذلك العام، ويشير كوندورسيه إليها في كتابه عام 1794 بعنوان "نصيحة لابنته". ربما كانت هناك مسودات سابقة: لاحظ بيير لويس روديرر، في مراجعته للرسائل المنشورة في 14 يوليو 1798، وجود مخطوطة سابقة رآها بين يدي إيمانويل سييس في عام 1789 أو 1790. وبالتالي فإن الرسائل هي نتاج السياسة الثورية، على الرغم من نشرها في وقت لاحق إلى حد ما.

في رسائلها، تجادل غروشي بأن الأخلاق بالنسبة لآدم سميث تحتاج إلى سبب لتنضج ولكنها تولد من ميل الإنسان إلى الشعور بالتعاطف. وبعبارة أخرى، فإن الأخلاق تأتي إلينا بشكل طبيعي، ولكننا نحتاج إلى عمل فكري لتنميتها. ومع ذلك، لا يشرح سميث مصدر هذا الميل إلى الشعور بالتعاطف مع آلام الآخرين. في الرسائل، تتفق غروشي تمامًا مع سميث على أن العقل يلعب دورًا مهمًا في تطوير الأخلاق والعدالة من التعاطف الأساسي، لكنها تذهب إلى أبعد من سميث. أولاً، تسأل من أين يأتي ميلنا للشعور بألم بعضنا البعض. وتشير إلى أن سميث يتجاهل فكرة مهمة عندما يفترض فقط أن التعاطف هو سمة إنسانية طبيعية. ثانيًا، تتساءل كيف يمكن تطوير نظرية التعاطف للمساعدة في إصلاح المؤسسات الاجتماعية والسياسية بعد الثورة في فرنسا. هذه الأفكار الثاقبة، فى نصها الموجز مقارنة بأطروحة سميث الضخمة، تجعل الرسائل تستحق القراءة.

يجب على الآباء والمعلمين مساعدة الأطفال على إدراك الألم لدى الآخرين والتعلم من هذا الألم

أول موقف لغروشي من سميث، والذي كشفت عنه في أولى رسائلها، هو أنه لا يشرح بشكل كامل ماهية التعاطف، أو من أين يأتي. لقد قام  «تأكيد وجوده، وشرح آثاره الرئيسية»، لكنه لم يعد إلى سببه الأول: فهو «لم يبين أخيرًا لماذا أصبح التعاطف ملكًا لكل كائن معقول قابل للتفكير».ترتكز فرضيتها على علم وظائف الأعضاء، الذي يوفر محفزات جسدية من شأنها أن تجلب المتعة والألم وتخلق في النهاية مشاعر متعاطفة. تجد هذه المحفزات في العلاقة الأولى التي يمربها أي إنسان: علاقة الطفلة المعالة بالشخص الذي يرضعها. يستمتع الرضيع بقربه من الشخص الذي يطعمه ويسكن آلام جوعه. وهذا القرب يعلمها أيضًا أن تدرك عندما تتألم من ترعاها ، وأن تشعر بنفسها بهذا الألم. ربما عرفت غروشي هذا الأمر من خلال مراقبة ابنتها المولودة عام 1790، وأيضًا من خلال القيام بجولات خيرية مع والدتها عندما كانت طفلة.

تناقش الرسالتان التاليتان لغروشي كيف تؤثر أصول التعاطف على تطوره من خلال العقل والتعليم. وشددت على مركزية دور الآباء والمعلمين: فلا ينبغي عليهم فقط مساعدة الأطفال على تعلم التفكير المجرد، بل يجب عليهم أيضًا تعليمهم إدراك الألم في الآخرين والتعلم من هذا الألم.هنا، تعتمد غروشي على ذكريات طفولتها:

لقد علمتيني الكثير، أيتها الأم المحترمة، التي كنت أتبع خطواتها كثيرًا تحت  سقف البائسين المتهالك،لذين يحاربون الفقر والمعاناة! ... نعم، عندما رأيت يديك تخففان البؤس والمرض، والعيون البائسة المتألمة تتجه إليك، وتنعم عندما باركتك، شعرت أن قلبي أصبح كاملاً، واتضح لي الخير الحقيقي للحياة الاجتماعية، و ظهرت لي في سعادة محبة الإنسانية وخدمتها.

تقدم الرسالتان الرابعة والخامسة روايتها الخاصة لأصول الأخلاق من منطلق التعاطف. إنها تتفق في الغالب مع سميث. في الرسائل الثلاثة الأخيرة، تستكشف غروشي آثار نظريتها على الإصلاحات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دعت إليها الثورة الفرنسية، وأصبحت ممكنة. وعلى الرغم من الاهتمام الكبير بهذا الأمر، فإن مجموعة معينة من الحجج تتعلق بالتفاوت الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص، التفاوت الشديد.

الحجة المركزية في رسائل غروشي هي أن الفضيلة، الأخلاقية أو السياسية، تولد من التعاطف، والقدرة والميل إلى الشعور بألم الآخرين والرغبة في تخفيفه. أحد ابتكاراتها الأساسية التركيز على الظروف التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل التعاطف ممكنا.ولكي يكون هذا ممكنًا، نحتاج إلى رؤية الآخر الذي يعاني كإنسان، كشخص قادر على تجربة الألم مثلنا تمامًا.وكما يقول الفيلسوف فيليب بيتيت في كتابه "حول شروط الناس" (2012)، نحتاج إلى إجراء "اختبار مقلة العين": هل يمكن للناس أن ينظروا في عيون بعضهم البعض دون خوف أو إذعان؟ وهذا يعني أننا نعتبر أنفسنا أعضاء من نفس النوع، وقادرين على تجربة نفس المشاعر، وربما الأهم من ذلك، ليس كحيوانات مفترسة.

بالنسبة لغروشي، يصبح اختبار مقلة العين بمثابة اختبار للتقبل العاطفي، أو كما يقول علماء أخلاقيات الرعاية، "الانتباه": هل نحن قريبون من الآخرين بالقدر الكافي لإدراك إنسانيتهم؟ ويمكن أن يشكل التفاوت الشديد عقبة أمام ذلك: فالأغنياء والفقراء للغاية لا ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم من نفس النوع، لذلك لا يمكنهم التعاطف مع بعضهم البعض بسهولة، وبالتالي من غير المرجح أن يطبقوا قوانين الأخلاق والعدالة النزيهة في تعاملاتهم مع بعضهم البعض.وتقول غروشي إن هذا يؤدي إلى الجريمة:

دعونا فقط نزيل التفاوت الشديد الذي يجعل الفقراء بعيدين جدًا عن الأغنياء بحيث لا يعرفونهم، والأغنياء بعيدين جدًا عن الفقراء بحيث لا يتمكنون من رؤيتهم، ولندع صوت الإنسانية يصل إلى قلوبهم؛ عندها ستصبح المصائب غير المتوقعة أكثر ندرة وسيتم إصلاحها بالتأكيد. انزع من كل الطغاة الصغار صولجانهم الخراب؛ اجعل هذه الأكوام من الذهب تختفي، والتي من المحتمل أن يكون لأصغرها وأقلها شرعية ألف ضحية سرًا؛ ولم يعد الإنسان يسمو فوق الإنسان بحيث لم يعد يرى واجباته إلى جانب مصالحه؛ وبعد ذلك ستكون السرقة والاحتيال نادرة جدًا لدرجة أن الخطر الأكبر والعقاب الأكثر رعبًا هو أن تصبح أفعالهم علنية.

تقدم غروشي اقتراحًا ملموسًا للحد من عدم المساواة الشديدة. وتفترض أنه بالنظر إلى حجم فرنسا الكبرى، حتى مع افتراض بعض عدم المساواة في إعادة توزيع الأراضي، سيظل هناك ما يكفي للجميع للعيش بشكل مريح، إما من الأرض أو عن طريق بيع أراضيهم والانضمام إلى شركة أخرى. وتقول إنه بعد إعادة التقسيم الأولية، كل ما هو مطلوب هو مجموعة من القوانين الجيدة التي تحمي حقوق الملكية وغياب الفساد. وبالاعتماد على "الحدوديين" المعاصرين مثل إنغريد روبينز، ترى أنه بدون الفقر المدقع أو الثروة المتطرفة، سيكون المواطنون قادرين على رؤية بعضهم البعض على قدم المساواة سياسيا وأخلاقيا ومعاملة بعضهم البعض باحترام.

تردد غروشي انتقادات سميث للنزعة التجارية والحمائية. لكنها تسعى إلى تكييف تفكيره مع فرنسا ما بعد الثورة.ويشمل ذلك تغيير النظام الضريبي، الذي يفيد الأغنياء على حساب الفقراء، واستبدال المسؤولين الذين يتم تعيينهم لحماية ثرواتهم وثروات أصدقائهم بآخرين منتخبين يتبعون القانون وإرادة الشعب. إن مساهمتها الفكرية في المناقشات حول كيفية تنظيم المجتمع بعد الثورة الفرنسية لا تزال مستمرة.إن حقيقة توزيع رسائلها على نطاق واسع كملحق لترجماتها لأعمال سميث تعني أن أفكارها ربما وصلت إلى عدد أكبر بكثير من المثقفين مما كان ممكنًا عادةً لامرأة تكتب عن السياسة الراديكالية في القرن الثامن عشر.

عاشت غروشي نهاية عهد الإرهاب، وحكم الدليل، والإمبراطورية الأولى، والسنوات الأولى من استعادة بوربون. كما ظلت أيضًا في قلب السياسة، وأقامت صالونات في باريس وأوتويل. وكان نابليون بونابرت من بين الأشخاص الذين يترددون على هذه الأماكن. ذات يوم، أخبرها أنه لا يحب النساء اللاتي يتدخلن في السياسة، فأجابت بذكاء أنه في بلد حيث يمكن للسياسة أن ترسل النساء إلى المقصلة، فمن الأفضل أن يفهمن السبب. للأسف، ليس لدينا أي أعمال متبقية من غروشي خلال تلك الفترة من حياتها، باستثناء إصداراتها من أعمال زوجها كوندورسيه. من الممكن، بل من المحتمل، أنها كتبت الكثير، ولكن بينما اهتمت هي وأحفادها كثيرًا بالحفاظ على أوراق كوندورسيه، فقد فقدت أوراقها أو دمرت بطريقة أو بأخرى.

***

..........................

* صوفي دي غروشي (1764–1822)  فيلسوفة فرنسية يقدم كتابها "رسائل حول التعاطف" وجهات نظر واضحة ومبتكرة حول عدد من القضايا الفلسفية الأخلاقية والسياسية والقانونية الهامة. بالإضافة إلى هذا الكتاب الذي نشرته مع ترجمتها لكتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية عام 1798، كتبت غروشي ونشرت نصوصًا أخرى بأسماء مستعارة ومجهولة. على وجه الخصوص، نشرت غروشي مقالات دفاعًا عن الجمهورية وشاركت في كتابة وتحرير آخر عمل لزوجها (كوندورسيه)، وهو رسم للتقدم البشري. ولسوء الحظ، ظل عملها في الظل لسنوات عديدة. وحقيقة أنها أصبحت الآن معروفة في المجتمع الفلسفي هي نتيجة للجهد العام الذي بذل خلال العشرين عامًا الماضية لاستعادة أعمال الفلاسفة الأوائل. يرتبط غروشي بشكل خاص بالفلاسفة الذين يعملون في مجال الجمهورية (النسوية)، وفلسفة القرن الثامن عشر، وآدم سميث، والفلسفة الاجتماعية والقانونية.

صوفي دي غروشي، ماركيز دو كوندورسيه (1764-1822) كانت فيلسوفة وصاحبة صالون للثورة الفرنسية، وهي شخصية ملفتة للنظر بسبب حيويتها وشجاعتها بالإضافة إلى سعة الاطلاع. تميزت حياتها بمصاعب هائلة. وباعتبارها شريكة في عائلة جيروندين، فقد تحملت خسائر فادحة خلال فترة الإرهاب: فقد تم الاستيلاء على ممتلكاتها، وظلت تحت تهديد دائم بالاعتقال، وتوفي زوجها الفيلسوف وعالم الرياضيات نيكولا كوندورسيه في السجن. نجت غروشي من خلال براعتها الرائعة. ولكي تنقذ نفسها من الفقر، قامت بتأليف ترجمة جيدة لكتاب آدم سميث "نظرية المشاعر الأخلاقية" (TMS) لدرجة أنها ظلت الترجمة الفرنسية النهائية لمدة مائتي عام. كملحق لترجمتها، نشرت أيضًا كتابها Lettres sur la Sympathie، والذي يشكل معًا قطعة من علم النفس الأخلاقي والفلسفة السياسية تستحق اهتمامًا أكبر بكثير مما تلقته حتى الآن.

ساندرين بيرجيس /Sandrine Bergès أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. تشمل كتبها رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) والحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية (2022).

إريك شليسر/ Eric Schliesser : أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمستردام في هولندا. تشمل كتبه رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) وميتافيزيقيا نيوتن: مقالات (2021).

تركت الثورة العلمية التكنولوجية تأثيرًا كبيرًا على نظام الاتصالات والمواصلات والإعلام، بل على عموم حياة الناس، لدرجة أصبح ما قبلها لا يشبه ما بعدها، لاسيّما في ظلّ العولمة بوجهيها الشديد التوحش، وهو الغالب الشائع، والإيجابي، والمقصود به عولمة العلوم والتكنولوجيا والثقافة والحقوق والعمران والجمال، وإن كان ثمة عقبات أمام البلدان النامية للاستفادة منه.

وبات العلم اليوم مختلفًا بفعل هيمنة وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل"، وخصوصًا في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، التي اتّسمت باقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، الذي سيغيّر حياة الناس بالكامل.

وأصبح  للعالم الافتراضي حضور كبير، وبقدر ما ساهم في تقريب المسافات والتواصل المباشر بين البشر، فإنه باعد في الوقت نفسه بينهم، لدرجة أن كلّ فرد صار منشغلًا بحاله دون أن يفكّر بغيره، حتى وإن كان يعيش معه في منزل واحد، مستغنيًا عنه بالاتصالات البعيدة عبر العالم.

لقد انتقل الإنسان من عالم المعارف إلى عالم المعلومات، بعد أن كانت المعلومة هي الأساس في المعرفة، وباعتمادها تتوالد الحكمة، حسب الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، وصار الإعلام الجديد منتجًا للمعرفة وليس ناقلًا للمعلومات، وغدت الشائعة أحيانًا بديلًا عن العلم، والخبر بديل عن الرأي، حيث أصبح لزامًا حماية المعلومة من التحريف أو التشويه أو السرقة أو التلاعب، الأمر الذي أخذ منحىً خطيرًا، حين "تطوّر" من انتهاك الأسرار الشخصية إلى اختراق الأمن الوطني، وذلك ما نقصد به الأمن والإعلام السيبراني.

يتنازع رأيان بشأن الإعلام الجديد والأمن السيبراني، أولهما - محافظ  يريد منع أو تحريم أو وضع رقابة صارمة وشديدة على وسائل الإعلام الحديث، وذلك تحت مبرر "الأضرار" التي قد يسببها وصولًا إلى "الجرائم" التي قد يرتكبها، ومثل هذا الرأي ينتمي إلى الماضي. وثانيهما - الإعلام المنفتح، الذي يرفض أي نوع من الرقابة التي تستغلّها الحكومات بحجب الآراء والمعلومات والأخبار التي تحدّ من حريّة التعبير، دون أن يعني عدم وجود أضرار أو ارتكابات خطيرة، لكن طرق معالجتها تختلف عن عملية المنع أو التحريم القديمة.

تلك الآراء والمفاهيم احتوتها محاضرة وحوار مفتوح لي مع طلبة الدراسات العليا في كلية النور الجامعة وجامعة الموصل، وبحضور إعلاميين وأكاديميين بارزين، بينهم ثامر معيوف وعبد العزيز الجبوري وحسن عبد الحميد، ووجدت من الضروري التفريق بين حريّة التعبير وحريّة التشهير بإحداث نوع من التوازن، ورفع درجة وعي الرأي العام ومناعته، دون المساس بحريّة التعبير، مع الأخذ بنظر الاعتبار التقنيات الجديدة التي تشكله، مثل الإعلام الرقمي والاقتصاد والحماية، فالأمن السيبراني هو مجموعة الوسائل التكنولوجية والتنظيمية والإدارية، التي يتمّ اتّباعها لمنع الاستخدام غير المصرّح به، أو سوء استخدامه لضمان استمرارية عمل نظم المعلومات وحقّ الوصول إليها من جهة، وتعزيز حماية سريّة الخصوصيات الشخصية أو العامة المتعلقة بالأمن الوطني من جهة أخرى.

وتساءلت، كيف استخدم تنظيم "داعش" الإرهابي التقنيات الحديثة ليعطّل جميع وسائل الاتصال خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه أبو بكر البغدادي في جامع النوري بعد احتلال الموصل؟ وهو تساؤل بحاجة إلى إجابات معمّقة بشأن الأمن السيبراني، فلم يعد الصحافي، حسب ألبير كامو "مؤرخ اللحظة"، وهي مهنة محددة يقوم بها من يمتلك مؤهلات معينة، فإنه في الإعلام الجديد بإمكان أي فرد أن يقوم بهذا الدور من خلال الإيميل والهاتف النقال ووسائل التواصل الاجتماعي. وأصبح التحكّم بذلك غير ممكن، بل يقترب الإلى مستحيل أحيانًا، فما بالك حين تسخّر قوىً كبرى إمكاناتها العلمية والتكنولوجية كجزء من الصراع الكوني؟

وفي ذلك وجهان، أحدهما إيجابي وقد جرت الإشارة إليه؛ والآخر سلبي، وهو خطِر وثمنه باهظ، لاسيّما حين يتمّ عولمة الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب بما فيه السيبراني.

ظلّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يكرّر: روسيا.. روسيا.. روسيا.. وذلك ردًّا على اتّهام خصومه باختراق روسيا وسائل الإعلام الأمريكية لصالحه في انتخابات 2016، وقبل ذلك في انتخابات العام 2008 و 2012، ويضيف ربما الصين، والخرق وصل إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووكالة المخابرات المركزية CIA، وإدارات ووزارات ومؤسسات أخرى. وعن طريق الصدفة تم اكتشاف عمليات الخرق بعد تحقيق أجرته شركة فاير أي، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن 12 إدارة تعرّضت للاختراق السيبراني.

لقد كان موضوع الأمن السيبراني وتُهم الاختراق هو الزاد الذي ملأ الموائد وتغذت عليه إدارة الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو اليوم على أشدّه بين الرئيس جو بايدن وغريمه دونالد ترامب.

والأمن السيبراني اليوم هو جزء من الصراع الدولي، لأنه يمثّل القوّة الناعمة التي تتغلغل بسرعة خارقة دون مقدمات لتصل إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة وجميع مناحي الحياة، وذلك عبر ما يسمّى بالفضاء السيبراني والردع السيبراني والهجوم السيبراني والجريمة السيبرانية، وهي أسلحة الحرب الجديدة.

والأمن السيبراني هو أمن المعلومات، وعلى الدول حماية أنظمتها وممتلكاتها وبرامجها وخططها من الهجمات الرقمية، كي لا تتسلّل لها هذه القوى الخفية والناعمة عبر برنامجيات خبيثة وهجمات تطبيقية وعمليات الابتزاز والتهديد بالمعلومات السريّة.

وبسبب اتهام روسيا بخرق أمن الولايات المتحدة، فقد اتّخذت الأخيرة سلسلة عقوبات ضدّها، لكن الرئيس بوتين عبّر عن فخره بالعمليات الصعبة، التي نفّذتها الأجهزة السيبرانية التابعة لجهاز أمن الدولة KGB.

لم يعد العالم الورقي قادرًا على منافسة العالم الرقمي، فالحضارة لا تعود إلى الوراء ولا تنظر إلى الخلف، إلّا بالاستفادة من دروس الماضي، وعلينا فهم التطوّر الحاصل والتعاطي معه دون انتظار، وخارج دوائر العواطف.

***

د. عبد الحسين شعبان

فاجأ اعلان لجنة الانتخابات الروسية المركزية، بفوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنتيجة قياسية في الحصول على نسبة أصوات وصلت الى نسبة 87.28، بعد مشاركة ملفتة للشعب الروسي وصلت الى اكثر من 83 مليون ناخب في هذه الانتخابات، يمثلون نسبة 74% من مجموع الناخبين المسجلين والبالغ عددهم 120 مليون، يمثل اعلى نتيجة حصل عليها الرئيس بوتين خلال جولات الانتخابات السابقة، في حين لم يصل بقية المرشحين الثلاثة للانتخابات الى حاجز 4% من أصوات الناخبين، الدوائر الغربية بشكل كبير، بعد ان كرست هذه الدوائر الاستخبارية والإعلامية كل جهودها، لزعزعة الوضع الداخلي، وتمويل حملات على مواقع التواصل الاجتماعي، لتضليل الشعب الروسي، ومحاولة ثنيه عن المشاركة، وبالتالي تعطيل الانتخابات .

العالم الغربي تلقف وباهتمام كبير هذه النتائج، وراحوا بتصريحاتهم المتوقعة حتى قبل اجراء الانتخابات، بعدم اعترافهم بنتائجها، او انها غير شفافة، او انها تفتقر الى ابسط مقومات الشفافية، وغيرها من بقايا " الأسطوانة المشروخة " التي تعود العالم على سماعها، من العالم الغربي، ضد أي بلد يقف بوجه مطامعهم ونواياهم الاستعمارية، في غضون ذلك وجه زعماء العالم برقيات تهنئة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالفوز الكبير الذي حققه في انتخابات الرئاسة الروسية، وأجمعت البرقيات من رؤساء دول الامارات والصين والبحريني وعمان وسوريا والجزائر والكويت وقطر وكازاخستان وبيلاروسيا وفنزويلا، ورئيس الوزراء الهندي وعشرات الدول الأخرى، أن نتائج التصويت، تؤكد الدعم الكبير الذي يحظى به الرئيس بوتين في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها روسيا، وأعربوا عن أملهم في مواصلة تطوير العلاقات مع روسيا، وتمنوا ان للعلاقات القائمة بين بلدانهما وروسيا الاطراد والتطور والازدهار.

وفيما يواصل زعماء العالم إرسال برقيات التهنئة للرئيس فلاديمير بوتين، اعتبر الاتحاد الأوروبي أن الانتخابات الرئاسية الروسية التي أظهرت فوزه الساحق "لم تكن حرة"، وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ان إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا جرت في انتخابات استندت الى "القمع والترهيب"، والانتخابات "لم تكن حرة أو نزيهة"، في حين اكد وزير الخارجية البريطانية ديفيد كاميرون، ان نتائج الانتخابات في روسيا تظهر مدى "القمع" في عهد الرئيس بوتين، "الساعي إلى إسكات أي معارضة لحربه غير الشرعية".

ولم يكن مفاجئا لاحد ان الشعب العربي كان أول من هنأ الرئيس فلاديمير بوتين بفوزه في الانتخابات الرئاسية الروسية، وعبر رواد "إكس" على فوزه الساحق بولاية جديدة لست سنوات، وتنافس آخرون حول من هنأ الرئيس الروسي أولا وقال أحدهم: "الف مبروك لأكون اول مواطن جزائري يهنئ بوتين"، ورد آخر بالقول: "راجع التغريدات نحن أول من هنأ بوتين با الفوز"، في حين تمنى آخر: "بالتوفيق للشعب الروسي بعد نجاح الإنتخابات رغم الهجمات والتشويش والتشكيك في نزاهتها وقوة المشاركة فيها، والمزيد من الأرق والقلق لحلف الضباع وأمهم شيطان العالم"، في حين قال احد المهنئين من لبنان حيث يلقب الرئيس الروسي بـ"أبو علي بوتين"، وكتب "ما بتلبق لغيرك الشيخ أبو علي بوتين"، "الف مبروك ابو علي بوتين، والمقهور اليوم خلي يضرب راسو بالحيط ويروح يشرب حتى الثمالة، بركي بينسى شواي"، والف مبروك للرفيق ابو علي بوتين".

وجلب خطاب الفوز للرئيس بوتين، في مركزه الانتخابي الرئيسي، والذي أعرب فيه عن شكره للمواطنين الروس الذين حضروا إلى مراكز الاقتراع، وأدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية التي انتهت، أهتمام المراقبون، واعتبروه انه يتضمن رسائل عديدة، لقضايا مهمة سواء في الداخل والخارج، ففي الداخل ذكًر بوتين أولئك الذين ذهبوا بمعداتهم ضد بلدهم، وضد وطنهم، بانه في الوقت الذي لا توجد عقوبة الإعدام في روسيا، توعدهم بأن التعامل "مع هؤلاء الناس دائما، الآن وفي المستقبل، سيكون كالتعامل مع أولئك الذين هم في منطقة قتال".

كما ان أن قلة عدد الشكاوى في مقر الانتخابات الرئاسية الروسية يعكس برأي بوتين، جودة العمل المبذول، ووصف نتائج الانتخابات، بأنها علامة ثقة من جانب المواطنين وأملهم في إنجاز كل شيء، وان نتائج هذه الانتخابات اكدت وحدة الشعب الروسي والتفافه خلف قيادته، وانه (أي الشعب) عبر من خلال تصويته عن ثقته بالنهج والسياسة التي ينتهجها بوتين، الذي اكد ان المحاولات الخارجية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الروسية، لن تتوقف، و "سيتصرفون بشكل أكثر تطورا، لكنهم لن يغيروا أهدافهم بشأن روسيا الاتحادية"،

هذا النجاح الكبير في تنظيم الانتخابات في روسيا، والشفافية التي سارت عليها هذه المرة، بشهادة المراقبين المحليين والأجانب الذين حضروا الانتخابات، دعت الرئيس الروسي، الى القول إن هناك كل الأسباب للاعتقاد بأنه لا توجد ديمقراطية ملحوظة على الأقل خلال الحملات الانتخابية في بعض الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، وأن استغلال الموارد الإدارية والنظام القضائي أصبح وصمة عار عالمية على واشنطن .

وتؤكد القيادة الروسية إن بلدهم ليست على مفترق طرق، وإنها تسير على الطريق الاستراتيجي لتطورها ولن تبتعد عنه، وانها لو لم تفعل روسيا ذلك (حماية أبناء شعبها في العالم) لكانت ستبدو كدولة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وإذا لم تتمكن روسيا من حماية نفسها، فسيستخف بها الجميع ولن يأخذها أحد بالاعتبار، وبالتالي العواقب يمكن أن تكون كارثية.

اما الرسالة الخارجية للرئيس بوتين، فقد حملت دعوات عديدة في معالجة الملف الاوكراني، وتجديد تأكيد روسيا بالانفتاح الى أي مبادرات او مساعي " حميدة "، لوقف القتال، وأن روسيا تؤيد مفاوضات السلام، ولكن فقط إذا لم يكن ذلك وكما عبر عنها بوتين، بسبب نفاد ذخيرة العدو، والتأكيد أن موسكو ستنطلق من مصالحها بشأن أي قضايا مطروحة، و إذا كانوا جادين حقا ويريدون بناء علاقات سلمية وحسن جوار بين الدولتين على المدى الطويل، وليس التوقف مؤقتا لإعادة التسلح لمدة عام ونصف أو عامين، أنه لا يمكن للصواريخ الغربية، بما في ذلك الصواريخ البريطانية والأمريكية أن تغير الوضع في ساحة المعركة .

وروسيا التي سبق وان أعلنت شروطها لوقف القتال، هي تلك الشروط التي كانت أوكرانيا على استعداد للتوقيع عليها في مفاوضات إسطنبول 2022، لولا تدخل رئيس الوزراء بريطانيا الأسبق بوريس جونسون، وإقناعه للرئيس الاوكراني بعدم التوقيع على الاتفاق، ولكن هذا الرفض ترتب عليه شروط ووقائع جديدة، ليس شرط ضمان أمن روسيا وحده، بل أيضا الاخذ بعين الاعتبار جميع التغيرات التي حصلت على الأرض، مع إمكانية انضمام مقاطعة خاركوف إلى روسيا، والتي لم يستبعد بوتين أن تضطر روسيا إلى إنشاء منطقة عازلة في المناطق التي يسيطر عليها نظام كييف، مشيرا إلى أن عمقها سيكون بمثابة عائق على الأسلحة المدمرة وطويلة المدى.

كذلك خاطب الرئيس الروسي، فرنسا، التي تقود لواء العداء على روسيا اليوم، وبإمكانها، ان تلعب دور في التسوية السلمية للأزمة الأوكرانية، دورا لا يؤدي إلى تفاقم الصراع أو إثارته، والحديث هنا عن السبل الممكنة للتسوية السلمية، وبهذا المعنى، يمكن لفرنسا أن تلعب دورها في ذلك ، وأن الخطاب العدواني لباريس هو محاولة للتغطية على مشاكلها في السياسة الداخلية، ودعاية انتخابية للمجلس الأوربي ولحصول الحزب الحاكم في فرنسا على مقاعد مهمة فيه .

وحول مدى احتمال نشوب صراع واسع النطاق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، فإن التحذيرات الروسية مستمرة بهذا الخصوص، ويشار هنا الى الحملة الغربية المسعورة عن الهجوم الروسي "المزعوم"، والهستيريا التي تعيشها الدول الاوربية، ومساعيها لتعزيز ترساناتها العسكرية، واجراءاتها للاستعداد للحرب مع روسيا، واعراب نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ميرسيا جيوانا عن اعتقاده، أن دول الناتو في حال إعادة انتخاب بوتين، يجب أن تستعد لعدة سنوات أخرى من التوتر في العلاقات مع روسيا، كلها عوامل مهمة للتأكيد في رسالة بوتين، أنه في حالة نشوب صراع واسع النطاق بين روسيا وحلف "الناتو"، سيكون العالم على بعد خطوة واحدة من حرب عالمية ثالثة، وليس مرجحا أن يكون أحد مهتما بذلك .، كما إن روسيا من وجهة النظر التقنية العسكرية، مستعدة لحرب نووية، وأن "الأمور تسير باتجاه الصدام المباشر"

كما أن أعلان الكريملين على لسان متحدثه ديميتري بيسكوف، باستعداد روسيا لإجراء مفاوضات بشأن مجموعة كاملة من المواضيع الأمنية، بما في ذلك قضايا نزع السلاح النووي وعدم انتشار الأسلحة النووية، جاء مكملا لما تحدث به الرئيس بوتين، عن إمكانية إجراء مفاوضات في ظل الظروف الحالية مع مناقشة مجموعة كاملة من المواضيع الأمنية، وتبدو تصريحات بوتين وإعلان الكريملين، قد لاقت صداها لدى العالم الغربي والولايات المتحدة على وجه الخصوص، والتي ومن خلال أعلان المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، في مناقشة مفتوحة بمجلس الأمن الدولي حول "السلاح النووي" و"عدم انتشار الأسلحة النووية، عرضت فيه استعداد واشنطن لإجراء مفاوضات ثنائية مع موسكو وبكين بشأن الحد من الأسلحة، دون شروط مسبقة، وقولها " الآن.. وكل ما يحتاجون إلى قوله هو نعم"، وأن الدول التي تمتلك أسلحة نووية يجب أن تحافظ على وقف اختياري لتجارب الأسلحة النووية، كما أشارت إلى أن من الضروري "التوصل إلى وقف إنتاج المواد الانشطارية التي تستخدم في الأسلحة النووية" ومواصلة المفاوضات بشأن معاهدة حظر المواد الانشطارية.

لقد أغرقت نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية حلفاء أوكرانيا في ذهول، وان فلاديمير بوتين فاز بنتيجة مذهلة، وإن معظم السكان الروس يدعمون بوتين بالفعل، بعد أن حقق فوزا في الانتخابات، يمكنه الآن أن يقول: "أريد ما يريده بلدي "، وهذه إشارة إلى العالم الخارجي بأن المسار الحالي للاتحاد الروسي، سيستمر، وأن الرئيس الروسي يشعر بدعم هائل لسياسته، أصبحت حقيقة، وإن أكبر وأهم حالة من عدم اليقين الآن، هي ما سيحدث في الانتخابات الأمريكية في عام 2024، فرفض الولايات المتحدة الدعم والضغط الأمريكي على أوكرانيا لإجراء مفاوضات سيعني فوز بوتين.

لقد أصبحت الانتخابات الرئاسية الحالية للكرملين ليس فقط تحديا سياسيا داخليا، ولكن أيضا تحديا للسياسة الخارجية، ومن الآمن أن نقول إن الخطاب حول عدم شرعية الانتخابات في المصطلح الجديد سيصبح سائدا في الغرب، وربما سيجدون حتى صياغات حول كيفية ذكره، وتجنب عبارة "رئيس روسيا"، لكن الوقائع الجديدة تفرض على الغرب على الاعتراف بأن الرئيس بوتين هو رئيس روسيا الشرعي، ويجب التعامل معه فقط على هذا الأساس، وهو ما حدث بالفعل، فقد صرح مستشار شؤون الأمن القومي الأمريكي جيك ساليفان،، بأن بوتين هو رئيس روسيا، وسوف تتصرف الولايات المتحدة على هذا الأساس !!.

***

د. كريم المظفر - موسكو

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته في رثاء دمشق :

وللحريّة الحمراء باب

بكلّ يد مضرّجة يدقّ

اليوم 19 مارس 2024 م، ذكرى عيد النصر في الجزائر، قبل 62 سنة، أُعلن التاسع عشر مارس تاريخا لوقف إطلاق النار، بين جيش التحرير الوطني وقوات الاحتلال الفرنسيّة، بعد 132 سنة من الاحتلال الاستيطاني الغاشم. أجل، قرن وثلثه، وفرنسا الاستعماريّة الصليبية تجثم على صدر الجزائر، العربيّة، المسلمة، زاعمة، زورا وبهتانا، أنّ الجزائر قطعة من فرنسا. فعاثت فيها فسادا ودمارا وقتلا وإبادة ونفيا واعتقالا، ولم تدع وسيلة من الوسائل الجهنّميّة إلاّ وسلّطتها على الأمّة الجزائرية المسلمة. تماما مثلما يحدث اليوم في غزّة، وما يقوم به الكيان الصهيوني، قامت به فرنسا الاستعماريّة في الجزائر، بل أكثر من ذلك. لكن الشعب الجزائري لم تنكسر إرادته ولم تهن عزيمته يوما.

يحكى أنّ بعض المثبّطين والحركى كانوا يسخرون من جنود جيش التحرير الوطني ويقولون لهم: كيف ستُخرجون فرنسا من الجزائر، وأنتم لا تملكون سوى بنادق الصيد ؟ بينا فرنسا تمتلك جيشا مدرّبا ومدجّجا بالأسلحة في البّر والبحر والجوّ، ومن ورائها الحلف الأطلسي . وكانت جواب جيش: هم يملكون السلاح الفتّاك ومعهم الحلف الأطلسي، أمّا نحن فنملك الإيمان والإرادة والعزيمة وحبّ الشهادة في سبيل الله، ومعنا الله، سندحر فرنسا وبالعصيّ والحجارة. وفعلا، سطّرت ثورة نوفمبر المجيدة أروع الملاحم البطوليّة، ومرّغت أنف فرنسا في أوحال الذلّ والهوان والهزيمة. وأرغمها على التفاوض مع جبهة التحرير الوطني، (مفاوضات إيفيان) وأفضت تلك المفاوضات إلى إتفاقيات إيفيان، التي حدّدت التاسع عشر مارس 1962 م موعدا لوقف إطلاق النار. فكان عيدا للنصر، يحتفل به الشعب الجزائري سنة بعد سنة.

إنّ الجرائم الفظيعة، التي ارتكبتها فرنسا الاستعماريّة، لا يكفيها البحر المتوسط مدادا لتجيلها على القراطيس. حتّى المجاهدون، أنّ عدد شهداء الجزائر لا يمكن إحصاؤهم، ففي شبر من أرض الجزائر اعتلى شهيد إلى ربّه راضيا مرضيّا. وقد ارتكبت فرنسا الاستعمارية جرائم الإبادة الجماعيّة، ففي شهر نوفمبر سنة 1844 م قّدر الماريشال بيجو، الوالي العام للجزائر آنذاك، عدد السكان الجزائريين بخمسة ملايين و" ربّما ستّة "، وفي شهر يناير 1855 م أعطى أمام مجلس النواب رقما آخر، هو أربعة ملايين. وسبب انخفاض هذا الرقم يعود إلى الإبادة الجماعيّة وحصار التجويع ونزوح السكان ونفيهم فضلا عن انتشار الأوبئة بينهم. فالسكان الذين لا يموتون بالحديد والنار، يموتون بالجوع والمرض. ما أشبه اليوم بالبارحة. ما يجري في غزّة نسخة ممّا جرى في الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي الغاشم. حقّا، إنّ عقيدة الاحتلال واحدة، وجرائم المحتلّين واحدة، لا فرق بين أساليب الاحتلال الفرنسي للجزائر والاحتلال الصهيوني لفلسطين إلاّ في المنظور الزمكاني.

لقد شهد على تلك المجازر المروّعة شهود من أهلهم، ورغم ذلك لم ينقلوا الحقائق كاملة، ومازالت فرنسا، إلى يومنا هذا تعتقل جماجم المقاومين في متحفها الإنسانيّ المزعوم، بل الأحرى في مسلخها اللاإنساني البشع، وتخطف الأرشيف الجزائري، لطمس جرائمها في الجزائر، وتسعى لمحو الذاكرة الجزائريّة بشتّى الأساليب الشيطانيّة. وها هو الجنرال شانغارنيي يصف جنوده قائلا: " لقد وجدوا خير تسلية لهم في الغارات المتكررة التي كنت أشنّها في الشتاء ضد القبائل المناهضة لنا فيما بين الحرّاش وبوركيكة " (1) . ثم أضاف: " إنّ الكتاب المقدّس قد علّمنا بأنّ يشوع وغيره من القادة الذين بارك الله في عملهم كانوا يقومون بغارات رهيبة " (2). أما الكومندان ويستي، فقد كتب في عام 1841 م متحدّثا عن حملة في جنوب مقاطعة الجزائر: " إن عدد الدواوير (3) التي أُحرقت، والمحاصيل الزراعيّة التي أُتلفت، لا يكاد يُصدّق، فلم يكن أحدنا يرى على الجانبين من الطابور سوى النيران " (4).

و كي لا تنسى الأجيال تاريخ الآباء والأجداد وما قدّموه من تضحيات جسام في سبيل الحريّة والكرامة والهويّة القوميّة، وجب التذكير، والذكرى تنفع النشء الصاعد، والتاريخ عبر لمن يعتبر. ولتعلم أجيال الاستقلال ومواليد الجزائر الحرّة، أنّ الحرّيّة لم تُوهَب، وإنّما أُخذت بقوّة الحديد والنار، وسُقيَت بأنهار من الدماء والدموع والأرواح الطاهرة.

لقد قدّم الشعب الجزائري ملايين الشهداء من أجل الحريّة، ومنذ أن وطأت أقدام المحتلّين أرض الجزائر الطيّبة، لم تتوقف المقاومة الشعبيّة الباسلة، وخاض الأمير عبد القادر بن محي الدين ملاحم بطوليّة قبل منفاه. وكانت ثورات الشيخ بوعمامة والشيخ المقراني والحدّاد ولالة فاطمة نسومر ثم ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 م خير دليل على تضحيات الشعب الجزائري الأبيّ.

أجل، تعود ذكرى عيد النصر، في جوّ رمضانيّ ممزوج بنفحات ربّانيّة، وإخواننا الفلسطنيين في غزّة يسطّرون بدمائهم ودموعهم وصبرهم وإيمانهم وشجاعتهم ملاحم بطوليّة عجيبة وعظيمة، أدهشت الأعداء والأصدقاء.

و ليكن إخواننا في غزّة على يقين، أن النصر قادم لا محالة، ما دام إيمانهم به راسخا رسوخ الرواسي الشامخات. فهما طال ظلام الاحتلال الصهيوني، فهو إلى زوال كما زال الاحتلال الفرنسي من الجزائر وصدق الشاعر أبو القاسم الشابي، شاعر تونس الخضراء القائل:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

*

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر.

هذا عيد انتصار الجزائر اليوم، وغدا سيكون عيد انتصار فلسطين. إنّ غدا لناظره لقريب.

***

بقلم: علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر

...............................

هامش:

1 ـ الجزائر: الأمة والمجتمع ـ مصطفى الأشرف. ترجمة من الفرنسيّة: د. حنفي بن عيسى. المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية – رحدة الرغاية 1983 – الجزائر.

2 ـ المصدر نفسه

3 ـ الدواوير: جمع دوار. مجتمع سكاني ريفي باللهجة الشعبيّة، أصغر من القرية .

4 ـ الجزائر: الأمة والمجتمع ـ مصطفى الأشرف. ترجمة من الفرنسيّة: د. حنفي بن عيسى المؤسسة - الوطنية للفنون المطبعية – رحدة الرغاية – الجزائر 1983.

هل تنقض مقولة الهلال السوري الخصيب عروبة العراق وسوريا؟

بالإشارة إلى المقالة المطولة بقلم السيد وجدي المصري بعنوان "العروبة والهلال الخصيب: حول دراسة علاء اللامي" في الأخبار عدد 3 تشرين الأول 2023، أسجل الملاحظات التالية: سيقتصر ردي على مجموعة من التوضيحات التي تصحح بعض مواضع سوء الفهم أو سوء القراءة - وليس كلها - التي وقع بها المعقب. ولن أرد على المضامين والعبارات المسيئة للعرب كأمة وهوية في مقالته وهي كثيرة من قبيل اعتبارهم غزاة ومحتلين لما يسميه "الهلال السوري الخصيب"، ومساواتهم بالغزاة الرومان والإغريق والفرس والفرنسيين والأميركيين. وتجريدهم من أي إنجاز حضاري - غير الأشعار كما كتب - ووصمهم بالتخلف، والقول بأنهم "لم يكونوا سوى طلاب حضانة على مقاعد الحضارة الإنسانيّة العالميّة" مقارنة بما يسميه "الحضارة الأولى في العالم حضارة سوريا الكبرى"، والتي لم يفلح دعاتُها في الاتفاق تماماً على أصل تسميتها، ومتى ظهرت بالضبط؟

وحتى حين يعترف المعقب بوجود حضارة عربية فهي عنده "حضارة طارئة ومرتكزة على الدين واللغة اللذين فُرضا بحدّ السيف"، ويعتبر بلاد الرافدين، بحضاراتها السومرية والأكدية البابلية والآشورية والكلدانية وأخيرا العربية الإسلامية في طورها العباسي، مجرد نتوء متمم لمقولة "الهلال السوري الخصيب". أقول؛ لن أردَّ بعبارات من النوع ذاته على كل هذه الإساءات لتفادي الانجرار إلى جدالات أيديولوجية لا علاقة لها بالبحث العلمي، وسأكتفي بكشف جوهرها الانعزالي عبر التركيز على مقاربة الجانب البحثي المنهجي لمقاربة الموضوع.

خرافة الهلال السوري الخصيب

إنَّ مقولة "الهلال السوري الخصيب" التي يستعملها المعقب، وكأنها مقولة علمية لا تقبل الجدل، تستلهم في الواقع عبارة وصفية إنشائية حديثة هي "الهلال الخصيب"، كان قد ابتكرها أو ارتجلها المستشرق والآثاري الأمريكي جيمس برستد (1865 - 1935) قبل قرن تقريبا. وقد أضاف إليها المعقب اسم سوريا المشتق من اسم واحدة من دول وادي الرافدين هي (آشوريا/ آسوريا)، أطلقه الغزاة السلوقيون على منطقة غرب الفرات وفق أرجح التفسيرات.

أطلق برستد هذا الاسم على حوضي نهري دجلة والفرات وامتدادهما نحو الجزء الساحلي من بلاد الشام في كتابيه "الخطوط العريضة للتاريخ الأوروبي" الصادر سنة 1914، وكتابه "العصور القديمة - تاريخ العالم المبكر" الصادر سنة 1916، بسبب عدم وجود مصطلح جغرافي قديم ومتفق عليه يجمع أقاليم هذه المنطقة الشاسعة في ما نسميها اليوم بلاد الرافدين وبلاد الشام. وقد شاعت هذه التسمية "الهلال الخصيب" في اللغة السياسية والبحثية الجغرافية والتاريخية لاحقا لهذا السبب بالذات. وعلى هذا، يريد لنا السيد المعقب أن نوافقه الرأي على تحويل الوطن الأصلي والأقدم ومهد حضارات الشرق أي بلاد الرافدين إلى مجرد جزء أو نتوء متمم لما يسميه "سورية الكبرى" أو "الهلال السوري الخصيب".

ثمة فرضيات مختلفة تحاول تفسير وتأثيل اسم "سوريا/ سورية"، ولكنَّ أقدم إشارة وصلتنا إلى لفظ قريب من الاسم وهو "سورا"، عُثر عليها في نصب شينيكوي (قرية تبعد نحو 30 كم جنوب أضنة بتركيا)، وورد فيه اسم آشوريا مكتوبا باللغتين الفينيقية وباللوفية الأناضولية المنقرضة بلفظ "سورا". وصار نقش شينيكوي موضوع دراسة نشرت في مجلة (دراسات الشرق الأدنى Journal of Near Eastern Studies) بقلم روبرت رولينغر يدعم فيها الرأي القائل إن اسم سوريا مشتق من آشور.

إنَّ المعقب ليس الوحيد، ولا الأول الذي قال بفكرة تبعية بلاد الرافدين لسوريا الكبرى فهي تعود إلى مرحلة تأسيس الحزب "القومي الاجتماعي السوري". فالأستاذ علي حمية مثلا، في رد سابق له على إحدى مقالاتي (الأخبار23 كانون الأول 2021)، اقتبس عن أنطون سعادة قوله: "إنَّ العراق، أو منطقة ما بين النهرين، هو جزء (متمّم) للأمة السوريّة والوطن السوري، وكان يُشكل جزءاً من الدولة السوريّة الموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية"، ويبدو أنهم ما يزالون مترددين في اعتماد هذا الاسم المفبرك والخيالي "سوراقية" بعد مرور قرابة القرن على هذا الكلام غير الدقيق تأريخيا كما سنوضح!

هل بدأ التأريخ مع سلوقوس؟

وهكذا، فالتاريخ يبدأ عند البعض مع تشكيل ولايات وأقاليم الاحتلال السلوقي للعراق والشام سنة 312 ق.م. أما الدول الإمبراطورية والحضارات الرافدانية العريقة طوال ثلاثة آلاف عام، ودول وإمارات بلاد كنعان وآرام وفينيقيا غربا فلا قيمة ولا وجود لها في هذا التاريخ المؤدلج! بل إنهم لا يقيمون اعتبارا لكون العراق كان إقليماً مستقلاً ضمن الدولة السلوقية نفسها وكان يضم ولايتين "ميزوبوتاميا الشمالية" أي ما بين النهرين وولاية "بابيلونيا" جنوبا. بل إن عاصمة الإمبراطورية السلوقية آنذاك لم تكن في سوريا وإنما على مسافة 29 كم جنوب بغداد وهي مدينة "سلوقية"، وقد أنشأت عام 307 ق.م، لتصبح عاصمة الإمبراطورية كلها في عهد سلوقس الأول؛ ثم استولى عليها الفرس الفرثيون عام 140 ق.م، وبنوا قربها مدينة قطسيفون عاصمة الساسانيين، وبعد حرب الفتح وتحرير العراق من الاحتلال الفارسي الساساني أقام العرب مدينة "المدائن" على أنقاض سلوقية وقطسيفون، وعلى هذا يحق للعراقيين  المعاصرين - لو كانوا مغرمين بدويلات الغزاة - لاعتبروا العراق مهد الإمبراطورية السلوقية وفيه عاصمتها وجغرافيتها الأوسع!

أما في إقليم سوريا السلوقية - كما يكتب باسيليوس زينو -  يشمل "الإقليم الذي يضمّ المدن السورية الأربع: أنطاكية، وسلوقية بيروية (حلب)، وأفاميا على نهر العاصي، ولاوديكية (اللاذقية) على البحر. ويشير مصطلح "سورية الشرقية" إلى المنطقة الواقعة بين بيروية (حلب) ونهر الفرات. أمّا مصطلح "سورية المجوّفة"، فهو الإقليم الواقع إلى الجنوب من نهر الإيلوثيروس، ويشمل هذا المصطلح فينيقيا". ويضيف زينو "وقد جرى التمييز بين ميزوبوتاميا الشمالية، وهي المنطقة الواقعة بين نهرَي دجلة والفرات شمال مدينة بغداد الحالية (بلاد ما بين النهرين)، وبابيلونيا، وهي المنطقة الممتدّة جنوباً من بابل وسلوقية دجلة".

يُذكَر أن ولايات الاحتلال السلوقي في بلاد الرافدين والشام أقيمت خلال حالة فراغ سياسي وهزيمة عسكرية وحضارية قاسية لشعوب المنطقة بسقوط آخر دولة وحضارة رافدانية هي الدولة الكلدانية وآخر ملوكها نبونائيد سنة 539 ق.م، وبدء عصر الاحتلالات الأجنبية الفارسية فالإغريقية فالرومانية. ولم يبق من آشوريا الرافدانية سوى اسمها الذي استعمله الإغريق والرومان وأطلقوه على ولايتهم غرب الفرات.

الخطاب القومي العروبي والآخر السوري:

والواقع، فإنَّ هذا الخطاب الأيديولوجي الإلحاقي ليس حكرا على الكُتاب القوميين السوريين بل هو يشمل حتى بعض الكتاب والمترجمين القوميين العروبيين البعثيين في سوريا؛ فالكاتب أحمد داوود مثلا يكتب على ص 21 من كتابه "تاريخ سوريا القديم": "أما سوريا التاريخ الحضاري القديم فقد عمل على طمسها ومحو ذكرها كلياً من التأريخ العربي، وذلك من خلال اختزالها واختزال حضارتها الكلية في حضارات ومواقع وأسماء جزئية كثيرة من قبيل نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي الرافدين وحضارة ماري ومملكة تدمر وسومر و أكاد وبابل وآشور ونينوى وأور وفينيقيا وأرام وبلاد الشام وبلاد كنعان...إلخ"، والحل عند هذا الكاتب يكمن في إلغاء كل هذه الأسماء والحضارات ودمجها في ما يسميه "سوريا التاريخ والحضارة" وهو بهذا الكلام غير العلمي يسيء لدولة سوريا وشعبها الشقيق ويحاول الترويج لنسخة رغبوية من نزعة "شبه إمبريالية" صغيرة لا تحترم الشعوب الشقيقة ولا تاريخها ولا المنهج العلمي في البحث التأريخي والإناسي "الانثروبولوجي" حين يعتبر حضارة بلاد الرافدين مجرد جزئية من التأريخ السوري في حين يقول التأريخ الفعلي أن كلمة (سوريا) نفسها اشتُقت من اسم إحدى الدول الرافدانية (آشوريا).

وقد شارك بعض المترجمين السوريين في هذا الجهد غير العلمي فترجموا بعض المؤلفات الآثارية الأجنبية بعيدا عن الدقة والأمانة العلمية. فالمترجم سالم سليمان العيسى مثلا، ترجم كتاب الباحث الفرنسي جان كلود مارغورون المعنون (les mesopotamiens)، وتعني الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو "الرافدانيون"، ولكن تحت عنوان جديد طويل هو "السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية". ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزج اسم سوريا الشمالية في العنوان، زاد وكتب عنواناً ترويجياً ثانياً تحت العنوان الرئيس في الصفحة الأولى من الكتاب هو "التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب - مفخرة سوريا"! وكتب المترجم مقدمة أخرى للكتاب زج فيها باسم "السوريين" ضمن شعوب بلاد الرافدين القديمة فكتب "إنهم السكان السومريون - الحوريون - الأكاديون - السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة...ص5"، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى "حقائق تأريخية ثابتة" بمجرد أن يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة من قلمه! 

وأخيرا، هل من فرق نوعي بين المصطلح الذي صكَّهُ الفرنسي مارغورون "الرافدانيون" ومنه "بلاد الرافدين" ومصطلح "الهلال الخصيب" الذي ابتكره الأميركي جيمس برستد؟ ثم لماذا اللجوء لمبتكرات الباحثين الغربين الارتجالية وبدائلها المحلية موجودة وتفي بالغرض؟ وكيف يفسر لنا السيد المعقب أن الأسماء العريقة في إقليم غرب الفرات وحتى سواحل المتوسط والذي يسمونه سوريا الكبرى تارة والهلال السوري الخصيب تارة أخرى ويلحقون به بلاد الرافدين، وهي الأسماء الأعرق الأقدم من السلوقيين بآلاف السنوات كأرض كنعان وبلاد آرام وفينيقيا الساحلية تلاشت ولم يعد يأخذ بها دعاة "القومية السورية"، فهل تنبجس القوميات من أسماء الولايات التي يبتكرها الغزاة الغرباء عن المنطقة كالسلوقيين أم أن القوميات والشعوب هي التي تعطي أسماءها للدول والأقاليم؟ يتبع في الجزء الثاني قريبا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

بقلم: سالي روني

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

"إن حكومتنا تنعم بالتوهج الأخلاقي المتمثل في إدانة منفذي العمليات الانتحارية، في حين تحافظ على علاقة حميمة مع أولئك الذين يزودونهم بالقنابل"

"صرخات الأبرياء سوف تطاردنا إلى الأبد إذا بقينا صامتين." هذه هي كلمات تاويستش ليو فارادكار، الذي تحدث في فعالية أقيمت في بوسطن هذا الأسبوع حول الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة. ومن يستطيع أن يختلف؟ إن ما يحدث في فلسطين الآن هو من أعمق الكوارث الأخلاقية وأكثرها صدمة في عصرنا.

ومنذ أشهر متواصلة، قامت القوات العسكرية الإسرائيلية بقصف سكان غزة المحاصرين والجائعين والمشردين إلى حد كبير بقصف جوي لا هوادة فيه. وقد اضطر الناجون الفلسطينيون، المنعزلون عن العالم الخارجي، إلى توثيق الأزمة في الوقت الحقيقي، وتبادل القصص والصور ولقطات المقابر الجماعية والمباني المدمرة والجثث المهجورة. ومع عدم وجود نهاية في الأفق، تواصل الولايات المتحدة ضخ الأموال والأسلحة إلى إسرائيل لإطالة أمد الهجوم.

لكن يوم الأحد، وفي ختام زيارته للولايات المتحدة، سيزور فارادكار البيت الأبيض لالتقاط صورة في يوم القديس باتريك مع الرئيس جو بايدن. في اجتماعهما يوم الجمعة، تم بلا شك تبادل بعض الكلمات المثيرة للقلق بشأن محنة المدنيين الفلسطينيين، لكن فرادكار كان واضحًا مسبقًا بشأن الغرض من المحادثة: "أنا لست هنا لتوبيخك أو إزعاجك... دعونا لا ننسى أبدًا". أنه "لقد كان صديقًا جيدًا جدًا لأيرلندا".

وهذا يوضح بوضوح النهج الذي تتبعه الحكومة الأيرلندية تجاه الحرب في غزة. إن النقد القوي والمباشر موجه لدولة إسرائيل الصغيرة نسبيًا (والمعزولة عالميًا بشكل متزايد). ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة ــ التي تزود إسرائيل بنحو 80% من واردات الأسلحة، فضلاً عن مليارات الدولارات من المساعدات ــ يتم التعامل معها باعتبارها طرفاً ثالثاً محايداً، وبطبيعة الحال، باعتبارها "صديقاً جيداً للغاية". ". وبهذه الطريقة تستطيع حكومتنا أن تنعم بالتوهج الأخلاقي المتمثل في إدانة منفذي القنابل، في حين تحافظ على علاقة حميمة مع أولئك الذين يزودونهم بالقنابل.

لكن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب إسرائيلية: إنها حرب أميركية، وبشكل خاص حرب بايدن. إن إسرائيل ببساطة لا تستطيع تحمل تكاليف تنفيذ هذا الهجوم المطول والمكثف للموارد ضد الشعب الفلسطيني دون الأموال والأسلحة الأمريكية. وتظهر استطلاعات الرأي أن معظم الأميركيين يريدون وقفاً دائماً لإطلاق النار؛ ويبدو أن دعم بايدن لإسرائيل يضر بفرصه في السباق الرئاسي المقبل. ومع ذلك فهو يرفض الاستماع إلى ناخبيه، وقد تجاوز الكونجرس مرارا وتكرارا لمواصلة تزويد إسرائيل بالموارد التي تعتمد عليها.

وقد يرغب أصحاب نظرية المؤامرة في تصور أن إسرائيل تمارس قدراً هائلاً من النفوذ على الولايات المتحدة، ولكن الواقع عكس ذلك تماماً. إن الولايات المتحدة هي التي تمارس سلطة هائلة على إسرائيل ــ وكان الرؤساء الأميركيون السابقون على استعداد لاستخدام هذه القوة. وفي الثمانينيات، رداً على الهجمات الإسرائيلية غير القانونية على العراق ولبنان، لم ينتقد رونالد ريغان الهجمات علناً فحسب، بل قام أيضاً بتقييد المساعدات الأميركية والمساعدات العسكرية لإسرائيل رداً على ذلك، مما ساعد على إجبار القوات على الانسحاب. في أوائل التسعينيات،وعلى نحو مماثل، استخدم بوش المساعدات الأميركية لإسرائيل كورقة مساومة في المفاوضات الدولية. إذا كان بايدن يرفض الاستفادة من هذه الموارد نفسها من أجل جعل إسرائيل تمتثل لسياسة الولايات المتحدة، فإن الاستنتاج المعقول الوحيد هو أن هذه الحرب هي بالفعل سياسة أمريكية.

ويصف العديد من خبراء القانون الدولي الحرب على غزة بأنها إبادة جماعية. وقد يتفق كثيرون آخرون عندما ينكشف الحجم الحقيقي للموت والدمار. وفوق كل هذا، لم تسمح إسرائيل لأي مؤسسة إعلامية خارجية بدخول غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلا تحت حراسة عسكرية مشددة. وفي الوقت نفسه، قُتل صحفيون فلسطينيون داخل القطاع بمعدل يدل على الاستهداف المتعمد. وفي العام الماضي بأكمله، قُتل 99 صحفياً في جميع أنحاء العالم أثناء قيامهم بتقاريرهم؛ ومن بين هؤلاء 72 صحافياً فلسطينياً قتلتهم إسرائيل. ويشير هذا الحظر المفروض على وسائل الإعلام الخارجية والقتل المستمر للصحفيين إلى أن هناك جهود قوية تُبذل لإخفاء الحقائق.

منذ بداية الهجوم، تم إسقاط أكثر من 65.000 طن من المتفجرات الأمريكية الصنع على قطاع غزة. كل غارة جوية جديدة تنزل المزيد من الدمار، وتدمر المزيد من البنية التحتية، وتحاصر المزيد من الأشخاص العاجزين تحت الأنقاض، وتسبب المزيد من الإصابات الكارثية. كل وفاة إضافية تترك وراءها المزيد من الحزن والحسرة التي لا يمكن إصلاحها. والآن، مع استمرار إسرائيل في منع تدفق المساعدات، بدأت مجاعة من صنع الإنسان تترسخ. إن البشر يموتون جوعا ببطء وبشكل مؤلم، ليس بسبب فشل المحاصيل أو الكوارث الطبيعية، بل نتيجة للسياسة المتعمدة التي تنتهجها إسرائيل والولايات المتحدة.

وفي وقت كتابة هذا المقال، يبلغ العدد الرسمي للقتلى في غزة أكثر من 30 ألف شخص. على الرغم من أن هذا الرقم مرعب، إلا أنه ربما يكون أقل من الواقع. ومن المرجح أن وزارة الصحة في غزة، التي تعتمد على أرقام من المستشفيات والمشارح المكتظة بشكل كارثي، فشلت في مواكبة معدل الدمار الفائق السرعة. نحن ببساطة لا نعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلوا على يد الدولة الإسرائيلية منذ أكتوبر من العام الماضي.

ما نعرفه هو أن كل واحدة من عمليات القتل هذه قد مُوّلت ودُعّمت من قبل "صديقنا العزيز جدًا" في البيت الأبيض. في الوقت القصير الذي أمضيته في إعداد هذا المقال، رأيت صورًا لواحدة من مرافق المساعدات القليلة المتبقية التابعة للأمم المتحدة في غزة والتي تعرضت لضربة جوية، بعد يوم واحد فقط من مشاركة إحداثيات المركز مع قوات الأمن الإسرائيلية؛ وصور العظام البارزة لطفل فلسطيني هزيل؛ وأنقاض قلعة برقوق المهيبة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر والتي دمرتها القنابل (الأمريكية) بشكل لا يمكن إصلاحه؛ والجنود الإسرائيليون الذين يتظاهرون بمرح وهم يرتدون الملابس الداخلية للنساء الفلسطينيات النازحات أو المذبوحات. وإلى هذه المجموعة من صور الفساد الأخلاقي المقيت ، سنكون قادرين قريبًا على إضافة صورة لبايدن وفارادكار وهما يبتسمان معًا أمام وعاء النفل المعتاد. إذا كان الأمر كذلك، فهي الصورة التي - إذا استخدمنا كلمات فارادكار نفسها - "سوف تطاردنا إلى الأبد".

***

...............................

المؤلفة: سالى رونى / Sally Rooney: سالي روني (من مواليد 20 فبراير 1991) مؤلفة روائية وكاتبة سيناريو أيرلندية. صدرت لها ثلاث روايات: "محادثات مع الأصدقاء" (2017)، "أناس عاديون" (2018)، و"عالم جميل، أين أنت" (2021). حظيت أعمال روني بإشادة من النقاد ونجاحًا تجاريًا، وتُعتبر واحدة من أبرز كتاب الألفية. صنفتها مجلة تايم ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم لعام 2022.

رابط المقال إيريش تايمز / Irish Times The:

 

قد لا يُصدق مَن درس بجامعات العّراق، بغداد والبصرة والموصل، في ما مضى، عندما يطلع على كوارث التَّعليم داخل هذا البد المبتلى "حتّى اختزى". أقول لا يصدق لأنه يتفاخر على أترابه نال شهادته الجامعيّة مِن بغداد، ناهيك عن تخصصات، لا تُطالب جامعات أوروبيّة معادلة الشّهادة، ويكفيها أنها صدرت مِن بغداد؛ وقديماً قال أحد شعراء "ما وراء النّهر" أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: "لَا تعجبنَّ من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزا من الْأَدَب/ وأعجبْ لمن بِبِلَاد الْجَهْل منشؤه/ إِن كَانَ يفرق بَين الرَّأْس والذَّنب"(الثّعالبيّ، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر).

أقول: لو عاد هذا الرّجل، واطلع على ما يحصل في مجال التّعليم، وسيادة الوهم وجبروته على الأذهان، لهان عليه هذا العراقيّ، الذي تعجب مِن علمه وأدبه، بمقياس زمانه وزماننا أيضاً، في ظل وزراء جعلوا الوزارات حقولاً لعقائدهم، وأحزابهم. يتصرف الوزير بالوزارة التي نُسب إليها، فهي حقله الخاص، يزرعها ما يرى ويرغب، وترغب الجهة التي صارت الوزارة مِن حصتها.

لا نذهب بعيداً عندما صار أحدهم، الذي نال شهادتين بتفسير القرآن، مِن دكاكين بالهند، وكان قبل السُّلطة، يقرأ المقدمة قبل قارئ المنبر بكندا، وفقه وقدمه حزبه ليكون وزيراً للتربية والتعليم، فقال قولته المدوية: "لي الشّرف بإعادة تشكيل العقل العراقيّ"! وقد حقق شعاره، فصارت وزارة التعليم العالي مِن حصة ميليشيا ولائية.

بالفعل أصبح العقل العراقي يتشكل كيف شاءت قوالبهم الحزبيّة؛ ليس المطلوب الخبرة ولا المعرفة، المطلوب استدامة الوهم في هذا العقل، ولا يستيقظ، حتّى لا يبقى شيء يعول عليه في المستقبل، جيل ينقل الوهم إلى جيل، فحلت الحوزات الدينيّة، وليتها مِن النّجف! إما خرجتهم قُمّ، أو حوزة الست زينب، فأتوا وزراء ومدراء. فمرة تصير وزارة الثّقافة بيد مؤذن، أو متدرب على الاغتيالات والتّفجيرات، في معسكرات "سرايا الدِّفاع"، ومرة تحت هيمنة ميليشيا. أمَّا وزارة التربية والتَّعليم العالي والبحث العلمي، فغدت مِن حصة حزبٍ، يعتبر المروج للقتل مفكرهُ وصوت فضائيته، وهذه المرة لميليشيا.

أمامي قائمة المناهج، التي يشترط تدريسها في محالات التعليم العالي، وضعتها لجنة وزارية، ودفعتها إلى الوزارة بتاريخ (26/9/2023)، لتأتي مصادقة الوزير عليها، بغضون الشّهر، أي في (19/10/ 2023)، هذه المناهج لو تقررت في حوزة دينية، أو جهة ثقافيّة عامة، ليست مدرسة ولا جامعة دولة، أو بلاد مثل العراق، لرُفضت، لأنَّ المؤلفين لا شأن له بمنطق التّدريس ولا الثّقافة، ولا ما ترجوه الوزارة مِن آفاق المستقبل. لكنَّ لأنَّ الوزارة بيد وزير، وزارته ملك ميليشيا دينية، فلا بدَّ لها مِن جعل تلك المناهج وفق عقيدتها، أو أوهامها، على أنها مناهج علميّة.

جاء في ديباجة قرار وزارة التعليم العالي، في تغيير المناهج الآتي: "حصلت مصادقتنا على أصل محضر اللجنة الوزاريّة، المشكلة بموجب الأمر الوزاريّ، ذي العدد(كذا وكذا)، التي تولت إثراء المناهج، والمصادر الدِّراسيَّة (للدِّراسات الأوليّة والعليا) بالمصادر والمراجع المؤلفة، مِن قِبل عُلماء ومفكرين عراقيين، لهم الأثر الكبير مِن خلال سيرهم ومؤلفاتهم، وإقرار بعض تلك المصادر، ككتب منهجيّة أساسيَّة، أو مساندة، ووفقاً لما جاء بكتب لجان العُمداء المختصة، التي أيدت توصيات اللّجنة أعلاه، والتي تضمنت باعتماد الكتب الآتيّة، في إثراء المناهج والمصادر الدّراسيّة، ووفقاً للتخصصات".

أولاً : إنَّ مؤلفي هذه الكتب المصادر ليسوا علماء ولا مفكرين، تدخل كتبهم في تدريس الجامعات، هؤلاء يا سادة فقهاء أو علماء دين، ماهو إطلاعهم على فنون المعرفة الحديثة، كي تكون كتبهم مناهج، المفروض تلقينها لطلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ هذه المناهج تحتاج أصحاب علوم ودراسات وباحثين، في العلوم الحديثة، التي تناسب الزّمن، ويُنتظر منها التقدم العلمي والبحثي. نعم، ليكن هؤلاء كباراً في الفقه، أو في تصوراتهم الدِّينية، المحدودة بدراستهم، لا تؤخذ مناهج تفرض في التعليم الرّسميّ، ليتخرج منها أجيال، فهذه وزارة دولة لا حوزة طائفة.

ثانياً: ما فُرض من مناهج، وسنأتي على ذكرها، لا يُعد إثراءً، مثلما ورد في ديباجة القرار الوزاري، بل إفقار علميّ، مع أنَّ العالم اليوم يتسابق على المعرفة الحديثة، وليس مِن الحقّ ربط مناهج جامعات بلد بالحقل الديني ووفق طائفة معينة، يدعي ساسته أنه يتقدم في الديمقراطية والعلم، وهذا ما يُسمع مِن الأحزاب والجماعات التي تفوز سنوياً في الانتخابات، وتوزع عليها حقائب الوزارات.

ثالثاً: إن الكُتب المختارة ليست منهجيّة، بل تُكرس الفرقة والحس الطائفيّ، فهي لرجال دين طائفة، الوزارة من ملكيات أحد تنظيماتها، مع أن من أبناء هذه الطائفة العلماء والمفكرون، مَن اختص في البحث العلمي، ولديه أفكار متقدمة، لكنهم هؤلاء أزيحوا أمام ما اختارته الوزارة من مناهج، قد تصلح للتثقيف الحزبي العقائدي لا أكثر، كُتبٌ أكل عليها الزّمن وشَرب، ولا يرى الهالة حولها إلا مَن عجز عن رؤية غيرها، أو كان معانداً حزبياً طائفياً.

رابعاً: هذه المناهج، مع عبارة في مستهل قرار الوزارة "القرآن منهجنا"، تشي أنها دولة دينية، الشّعار مستعار من الإخوان المسلمين، لماذا توريط القرآن في ما تعبثون بعقول الشبيبة، نعم هناك دراسات دينية خاصة، لا شأن للتعليم العالي والبحث العلميّ بها، هذا الشّعار "القرآن منهجنا" وضع لتمرير مشروع استدامة التّخلف، وتمرير هذا المنهج، بحجة القرآن هو المنهج، لو سألت أعضاء اللجنة، والوزير، ماذا تقصد بالقرآن منهجاً، هل ستخضع العلم للدين، وهذه ورطة للدين، فلا يجب مقابلة الدين بالعلم، إنما هناك أفكار وفلسفات، لا يجب أن تُطوع لهذا الشعار، الذي صاغه الإخوان المسلمون للتحايل على العلم والدّين نفسه، كذلك وضع هذا الشعار "القرآن منهجنا" لذر الرماد في العيون، كي يستر الخزي الطائفي في المناهج.

ما جُعلت هذه الكتب مناهج مفروضة على الجامعات، وفي تخصصات إنسانيّة، إلا لغاية مدمرة، يغلب على الظن لو كان مؤلفوها أحياء لقالوا ما قالوه الإمام مالك بن أنس(تـ: 179هـ) لخليفة عصره، وقد أراد جعل كتابه "المُوطأ" الوحيد مِن بين الكتب، ويعتمده في التعليم. قال مالك: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ"(ابن عبد البر، بيان العِلم وفضله).

المناهج المفروضة، جاءت مناصفة بين الصّدرين: محمد باقر الصّدر(قتل: 1980)، ومحمَّد محمَّد صادق الصَّدر(قُتل: 1999). فالميليشيا التي تملك الوزارة تتخذ مِنهما سنداً لوجودها، وعندما تُعليهما، إلى مستوى مناهج عليا، تقصد نفسها، لا تقصدهما، ولا الشعب العراقيّ، ولا يُستبعد أنَّ الوزير ، فرض وصادق، وقيل هو خريج الجامعة الإسلاميّة ببيروت، كي يُقدمها هدية لمالك الوزارة، فلا يعتقد رئيس الوزراء، أن له يد على هذه الوزارة أو غيرها.

-    المناهج في تخصصات العلوم الإسلاميّة:

من كتب محمد صادق الصّدر: "منة المنان للدفاع عن القرآن"، "فقه الأخلاق"، ما وراء الفقه"، الأسرة في الإسلام، الكائفية في نظر الإسلام.

مِن كتب محمد باقر الصّدر: دروس في علم الأصول، المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة.

-العلوم الإدارية ولاقتصادية، كتب محمد باقر الصّدر: اقتصادنا(كتاب منهجي للدراسات الأولى والعليا وأقسام الاقتصاد في مراحل الدكتوراه والماجستير). المدرسة الإسلامية أو الإنسان المعاصر.

- العلوم السياسية: كتاب محمد محمد صادق الصدر: الطائفية في نظر الإسلام.

تخصصات القانون: نظريات إسلاميّة في إعلان حقوق الإنسان، والأُسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.

-    تخصصات الآداب ومنها الفلسفة: المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة، كتاب فلسفتنا، وعلم الأصول لمحمد باقر الصّدر.

التربية للعلوم الإنسانيّة: كتاب الأسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.

قلتُ لا نظن، إنَّ عفة محمد باقر الصّدر، وعفوية محمد محمد صادق الصّدر، أنهما سيوافقان، على هذا المشروع، الذي يسلب من التعليم العالي مهمتها، فهذه الكتب ليست كتبت مناهج، ممكن تكون كتب ثقافة عامة، وقلنا: حتّى الحوزات الدينية لا تجعلها مصادر في مناهجها، الغرض على ما يبدو صفقة انتهازية، مِن قبل اللجنة والوزارة، لمالك الوزارة، وهو ضرب مِن ضروب أسلمة التعليم، وبشكل مشوه، ففئات وطوائف غير طائفة مالك الوزارة في حلٍّ منها. أقول: إلى أين أنتم ذاهبون بهذه البلاد المبتلية بكم وبشعبها المقهور بأوهامكم الدّينيّة الطائفيّة؟!

***

د. رشيد الخيّون

 

اقتداء بالإنجاز التاريخي الذي حققه الاتحاد الأوروبي بسن أول قانون شامل للذكاء الاصطناعي في العالم يوم الأربعاء 13 مارس 2024، أصبح من الضروري سن قوانين تنظيمية لهذه التكنولوجيا التحويلية الهامة للغاية في أنشطتنا وممارستنا اليومية الإنتاجية والاستهلاكية .

وإذا كان المغرب سباقا على المستويين العربي والإفريقي لتبنى الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية الاقتصادية والإنتاجية، فإن قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي يجب أن يشكل حافزا من أجل تدشين حوار حول إنشاء قانون تنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي لترشيد وعقلنة استخداماته .

إن قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي قد وضع منهجًا قائمًا على تحديد المخاطر، وصنف أنظمة الذكاء الاصطناعي بناءً على تأثيراتها المحتملة في المستقبل. ومن شأن هذا أن يوفر نموذجا قيماً يجب على المغرب أن يحذو جذوه ويأخذه بعين الاعتبار. وفيما يلي تفصيل للجوانب الرئيسية لقانون الاتحاد الأوروبي وصلتها المحتملة بالمغرب:

يصنف قانون الاتحاد الأوروبي الذكاء الاصطناعي إلى أربع فئات: المخاطر غير المقبولة (المحظورة)، والمخاطر العالية (متطلبات صارمة)، والمخاطر المتوسطة (تدابير التخفيف)، والحد الأدنى من المخاطر (قوانين خفيفة). ويمكن للمغرب أن يتبنى نظاما مماثلا أو أرقى منه ، مع تركيز جهوده التنظيمية على التطبيقات عالية المخاطر مثل التعرف على الوجوه أو خدمات المال والأعمال والرعاية الصحية.

كما أن قانون الاتحاد الأوروبي يدعم أنظمة الذكاء الاصطناعي الشفافة. ويتماشى هذا مع الحاجة إلى اتخاذ قرارات عادلة وخاضعة للمساءلة من خلال نماذج الذكاء الاصطناعي.

كما يؤكد قانون الاتحاد الأوروبي على الرقابة البشرية على الذكاء الاصطناعي عالي المخاطر. ويمكن للمغرب أن يقتدي بذلك من خلال إعطاء القوانين التنظيمية الأولوية للتطوير المسؤول ونشر الذكاء الاصطناعي مع الحوكمة البشرية.

من جهة أخرى تعد القوانين العامة لحماية البيانات (GDPR) للاتحاد الأوروبي إطارًا قويًا لحماية بيانات المواطنين حيث يمكن للمغرب، من خلال قانون حماية البيانات الخاص به، تحليل منهج القوانين العامة لحماية البيانات وتخزينها وموافقة المستخدمين في سياق الذكاء الاصطناعي على توظيفها للصالح العام . ويمكن أن يؤدي ذلك إلى دعم القوانين الحالية في المغرب لمواجهة التحديات الخاصة بالذكاء الاصطناعي.

لقد كشف قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي عن منهجً استباقيً لتنظيم ممارسات الذكاء الاصطناعي. وإذا كان اعتماد قانون الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر قد لا يكون مناسبا مع بيئتنا المغربية الخاصة، إلا أننا يمكن أن نستشف منه دروسا قيمة أهمها:

تحليل القوانين الحالية المتعلقة بحماية البيانات وحقوق المستهلك والمنافسة لتقييم مدى ملاءمتها في سياق الذكاء الاصطناعي.

يجب أن نضع في اعتبارنا عدة قوانين محددة للمجالات عالية المخاطر مثل المال والأعمال والرعاية الصحية والنقل ومحاربة الإرهاب. 

كما يجب تعزيز الاستثمار في البحث حول القوانين الأخلاقية للذكاء الاصطناعي وأفضل الممارسات المصممة خصيصًا لتلبية احتياجات المغرب.

أيضا تعزيز المناقشات المفتوحة حول تنظيم الذكاء الاصطناعي والتي تشمل المواطنين والشركات والأوساط الأكاديمية.

ومما لاشك فيه أن قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي يشكل فرصة هامة للغاية لبلادنا. وإذا كانت ستستفيد من إيجابيات الذكاء الاصطناعي، فإن اتباع منهج استباقي في التنظيم والترشيد بات أمرا ضروريا اليوم . ومن خلال التعلم من أفضل الممارسات الدولية، وإجراء تقييمات شاملة، وتعزيز التنمية المسؤولة، يمكن للمغرب ضمان أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة للتقدم في مسيرته التنموية، ورافعة للنمو الاقتصادي، والصالح الاجتماعي، والاعتبارات الأخلاقية.

لقد اقترحت بروكسل لأول مرة قوانين تنظيمية للذكاء الاصطناعي في عام 2019، لتلعب دورًا عالميًا في تشديد التدقيق في الصناعات الناشئة، فيما سعت بعض الحكومات الأخرى إلى مواكبة ذلك.

وفي الولايات المتحدة، وقع الرئيس جو بايدن أمرًا تنفيذيًا شاملاً بشأن الذكاء الاصطناعي في أكتوبر 2024، ومن المتوقع أن يكون مدعومًا بتشريعات واتفاقيات عالمية. وفي غضون ذلك، يعمل المشرعون في سبع ولايات أمريكية على الأقل على إعداد تشريعات خاصة بهم بشأن الذكاء الاصطناعي.

ومن جهته اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي من أجل الاستخدام العادل والآمن للذكاء الاصطناعي، وأصدرت سلطات بيكين " تدابير مؤقتة " لإدارة الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي ينطبق على النصوص والصور والصوت والفيديو والمحتويات الأخرى التي يتم إنشاؤها للأشخاص داخل الصين. .

وتتحرك دول أخرى، من البرازيل إلى اليابان، فضلا عن المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع، لوضع قوانين ملائمة لحماية للذكاء الاصطناعي.

***

عبده حقي

وما علاقة محمد مصطفى بذلك

لماذا تنبري حركة فتح للدفاع عن قرارات رئيس سلطة أوسلو محمود عباس المحسوب عليها، ضد انتقادات حماس لها، والذهاب إلى شيطنة الأخيرة دون اعتبار للتأييد الكاسح الذي تحظى به فلسطينياً.

والنتيجة أن حركة فتح التي خسرت قاعدة كبيرة من شعبيتها بسبب ارتباطها العضوي بسياسة السلطة منذ 31 عاماً، تتعرض الآن لحملة انتقادات واسعة عبر الفضاء الرقمي، بسبب هجومها على حركةٍ تتصدّى باقتدار لهجوم كاسح لا تصمد في وجهه دول بجيوشها الجرارة، وكأن اليد التي طرّتها السياسة الانهزامية، ستقاوم مخرز المقاومة القابضة على جمر التحرير.

وتتوالى الأسئلة العاصفة من وحي الردود القاسية على التصريح الفتحاوي الرسمي الذي اعتبره غالبية الفلسطينيين غير لائق:

أين هي مواقف فتح التي تهاجم حماس بشراسة، مِن احتلالِ ما لبث يمارسُ سياسةَ التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، ويسلب الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية التي زرعها المحتل الغاشم بالمستوطنات؟ فهل تكفي عبارة "إحمونا" التي أطلقها الرئيس عباس عبر الفضائيات، لردع الاحتلال وخاصة في الضفة الغربية! أم أن دعوته إلى المقاومة السلمية أدت الغرض المنشود! وقد اعتبر اتفاقية التنسيق الأمني مقدسة بينما المقاومة في نظره إرهاباً؛ هل أثمرت جهوده السلمية رغم ما قدم خلالها من تنازلات مذلة في تحريك العالم ضد أبشع احتلال عرفه التاريخ؟ ألم تعوض المقاومة النقص الذي أوجدته أوسلو؟

أين كانت حركةُ فتح بينما قطاع غزة محاصر، وقد أوشك على الاختناق.

ويعلم القاصي والداني بأنه لولا قدرة حماس الاستثنائية على إدارة الموارد المالية والفنية وتوظيف الدعم الشامل الذي حصلت عليه من محور المقاومة (إيران وحزب الله وأنصار الله) إلى جانب الدعم المالي والإعلامي القطري، لما نجحت في بناء قوتها الذاتية المتكاملة التي اعدتها من أجل تغيير معادلة المواجهة مع الاحتلال بحنكة واقتدار.

وذلك منذ فك الارتباط الأحادي الذي جاء بأوامر المجرم شارون عام 2005 حتى السابع من أكتوبر الماضي.

فأين هي حركة فتح التي تحررت من عبء خيار الكفاح المسلح والارتماء في أحضان أوسلو منذ سبتمبر 1993، مِنْ محتلٍ ما زال يبتلع أراضي الضفة الغربية دون رادع، وينتهك الأقصى من قبل قطعان المستوطنين تحت حماية القوى الأمنية الإسرائيلية، فيما يهاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي مدن الضفة الغربية ومخيماتها المستباحة، في الوقت الذي تنكل فيه سلطات السجون الإسرائيلية بالأسرى الفلسطينيين، وعلى رأسهم مروان البرغوثي الذي يمثل شرفاء فتح المتمسكين بالمقاومة.

إنها حركة فتح التي تطالب بحرمان حركة المقاومة حماس، من المشاركة في أية تفاهمات لرأب الصدع الفلسطيني الداخلي، كون الحركة التي يرفع العالم لها القبعات، هي المسؤولة عن عملية طوفان الأقصى المجيدة التي جلبت -وفق الرؤية الفتحاوية- النكبة لأهل غزة، مع أنه من الطبيعي أن يقدم الشعب الفلسطيني التضحيات في حرب ضروس تقودها المقاومة ضد الهجوم الإسرائيلي على غزة عقب ما حدث في السابع من أكتوبر؛ لارتباط ذلك بمحاولة فك الحصار عن غزة وتبييض سجون الاحتلال، كهدفين مباشرين، أما على المدى البعيد فرفع الطغيان عن الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتفعيل ملف القضية الفلسطينية دولياً لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني القانونية والتاريخية.

لقد تحقق النصر في أدنى درجاته بما في ذلك ما جرى من تحولات في المواقف العالمية بفعل الضغوط الشعبية وخاصة في الدول الغربية، لصالح القضية الفلسطينية.

وكان من الممكن إرضاخ "إسرائيل" لمطالب حماس بعد أن انكسر جيشها نسبياً وتكبدت خسائر لا تطاق، لولا تلقيها النجدة الطارئة من قبل حلفائها ومن بينهم بعض المتواطئين من العرب والفلسطينيين.

ورغم الضغوطات التي تتعرض لها المقاومة فما زالت تعيد بناء السردية الفلسطينية لتتواءم مع مستقبل يليق بالشعب الفلسطيني الذي أهمله العالم لولا معجزة طوفان الأقصى، التي قلبت الطاولة على رأس الاحتلال حيث فشل في تحقيق أهدافه في غزة ومنها: اجتثاث حماس وتهجير الفلسطينيين وتحرير أسراه لدى القسام، وتنفيذ مؤامرة روابط القرى التي أفشلها بيان العشائر حيث أدرج كل من يشارك فيها في قائمة الخونة.

وبناء على ما تقدم، أليس من حق حماس كحركة مقاومة مجمع عليها أن تنتقد تعيين رئيس وزراء فلسطينيّ جديد من قبل رئيسٍ السلطة، عباس (الفاقد لشرعيته) وذلك قبل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية؟

فوفقاً للمادة (34) من النظام الأساسي.فإن مدة رئاسة محمود عباس امتدت بسبب الظروف الطارئة التي اجتاحت الساحة الفلسطينية، لأربع سنوات اخرى بحيث تنتهي في 15 يناير 2013، ولا يمكن تجديد ولايته لأكثر من دورتين، أي أن فترة رئاسته من عام 2013 وحتى تاريخه، غير شرعية، وبالتالي فإن عباس يتصرف بلا شرعية وبلا صلاحيات دستورية، ولا يجد سنداً له في القانون الأساسي، ولكن وجوده يخضع لضرورة إسرائيلية من أجل تسيير شؤون السلطة وهو ما ساعد شق الصف الفلسطيني، ورغم ذلك ظلت حماس تتعامل مع عباس كرئيس شرعي بحنكة.

وهذا يفسر لماذا انتقدت حماس مساء الجمعة الماضية بشدة قرار رئيس السلطة الفسطينية محمود عباس في تعيين محمد مصطفى رئيساً للوزراء. من خلال بيان قالت فيه إن "تعيين حكومة بدون توافق وطني هو خطوة فارغة -بالتأكيد- من المضمون وتعمق الانقسام" بين الفلسطينيين. لكن حركة فتح ردت على انتقادات حماس على الفور بإصدار بيان اتهمت فيه حماس بالتسبب بـ"نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة العام 1948"، متهمة إياها بأنها "تفاوض الآن إسرائيل وتقدم لها التنازلات تلو التنازلات ولا هدف لها سوى أن تتلقى قياداتها ضمانات لأمنها الشخصي".

وهذا هراء واستخفاف بالدم الفلسطيني ويدل على إفلاسِ حركةِ فتحِ السياسيِّ -إلا من رحم ربي من شرفائها وهم كثر- فكيف بحركة نضالية كبرى تتحول إلى بوق لسلطة أوسلو التي قصرت بحق شعبها، واضعة نفسها في موقف حرج أمام الشعب الفلسطيني الذي ما فتئ يدافع عن مقاومته المظفرة، فيما لا يلمس من السلطة إلا الخذلان.

فلا تجد المقاومة من يساندها في الميدان إلا إخوة لها في اليمن وجنوب لبنان والعراق وقطر وشعوب العالم الحر.. فالشمس لا تغطى بغربال، ولا توجد حرية بلا تضحيات.

***

بقلم بكر السباتين

17 مارس 2024

 

العام الأخير من ولاية بايدن قبل انتخابات نوفمبر القادم شهد أحداثاً خطيرة..

أخطرها ما حدث في غزة على مدار أكثر من خمسة أشهر. وخلال تلك الشهور رأينا مشاهد تبدو درامية وغريبة ! إننا لم نرَ الولايات المتحدة الأمريكية بمثل هذا الضعف والتراخي من قبل. لن أتساءل عن أسباب يعلمها القاصي والداني. كما لن أفسر تلك المشاهد فأقفز إلى استنتاج سبق وتحدثت عنه في مقالات سابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد بنفس قوتها السابقة وأنها فى مرحلة أفول..

فقط سوف أستعرض تلك المشاهد معتمداً على ذكاء القارئ في استنباط ما يشاء من استنتاجات.

تمرد تكساس

لا يمكننا فهم ما حدث في ولاية تكساس من تهديد بالانفصال والاستقلال في أعقاب قرار المحكمة بهدم السور الفاصل بينها وبين المكسيك. والذي تسبب في أزمة بين حاكم تكساس وبين البيت الأبيض، بمنأي عما تمت تسميته بالحركة الترامبية، أو بمنأي عن فهم طبيعة الحياة السياسية في الداخل الأمريكي..

تهديد تكساس الأخير لم يكن الوحيد، بل حدث مراراً في تاريخها السابق. وهي تفعل هذا لعدة أسباب: منها أنها مثل جميع الولايات تتمتع باستقلالية القرار في ظل حكومة فيدرالية لامركزية. وطوال عمرها وهي تقبع في كنف الحزب الجمهوري. أي أن ثورتها تأتي دائماً كرد فعل ضد أي قرار خاطئ يتخذه رئيس ينتمي للحزب الديمقراطي.

السبب الأهم في تمرد حاكم تكساس شعوره بقوته التي تجعله بالقعل قادر على تنفيذ تهديده. فولايته هي من أكبر الولايات الأمريكية من حيث المساحة والقوة البشرية والعسكرية والاقتصادية. ومواردها هي الأكبر وبخاصة البترول. ثم إنه يتمتع بدعم الولايات الجمهورية الأخرى وقد يصل عددها إلى نصف الولايات الأمريكية.

ماذا عن الحركة الترامبية التي ظهر تأثيرها المرعب عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة؟ تلك الحركة التي وصل نفوذها وعنفوانها لدرجة اقتحام مبني الكونجرس وتهديد أعضائه. تلك الحركة التي تستعد لمناصرة الحزب الجمهوري ودعمه في انتخابات قادمة تشهد أكبر انقسام مجتمعي حاد في تاريخ أمريكا بما يشي بصعوبة هذه الانتخابات..

اختفاء بايدن

رأينا الخطاب الغريب للرئيس بايدن والذي بدا فيه مهتزاً عديم التركيز بما جعله ينطق بعبارات تنم عن ضعف ذاكرته وعدم أهليته لقيادة دولة بحجم أمريكا. وهو خطاب جاء بعد عدة مواقف سابقة له وهو يسقط أو يتلجلج أو يبدو تائهاً. كثرت المواقف من هذا النوع أمام كاميرات التقطتها وبثتها في كل العالم، لتصبح سمعة البيت الأبيض نفسها مهددة بما يسيئها. وهنا اختفي بايدن!

لم نعد نري بايدن إلا نادراً. وبدلاً منه ظهرت نائبته "كامالا هاريس" في مشهد عجيب قد يشير لتوليها أمر قرارات مصيرية نافذة. بدا هذا في خطابها الذي وجهته لإسرائيل تدعوها للاستجابة للدعاوي التي تنادي بتغيير منهجها الدموي في حربها مع غزة والاتجاه نحو دعاوى الهدنة والوصول لحل جذري للقضية الفلسطينية بدلاً من الصلف والعناد الذي يتخذه نتنياهو. وجاء الخطاب متزامناً مع لقاء أجرته كامالا مع بعض وزراء حكومة نتنياهو بشكل غير رسمي أغضب الأخير ووتر العلاقة بينه وبين البيت الأبيض.

الغريب في الأمر أن خطاب هاريس بدا حاسماً كأنه صادر من الرئيس الأمريكي ذاته. فهل ستصبح كامالا هي مرشحة الحزب الديمقراطي القادمة لرئاسة أمريكا؟!

عودة ترامب

على الناحية الأخرى شاهدنا عودة ظهور اسم ترامب مرة أخري على ساحة المرشحين للرئاسة. يحدث هذا برغم كل القضايا والاتهامات والأحكام التي صدرت ضده، ومنها أحكام تطعن في أهليته للحكم. فهل تفلح محاولات إبعاده عن المشهد أم يفلح هو في فرض قراره بمعاونة مناصريه من المنتمين للحزب الجمهوري في الشارع الأمريكي ودوائر القرار؟!

مهما كان الاتجاه فإن مجرد عودة ظهور ترامب يمثل خطورة في الشارع الأمريكي الذي يشهد بالفعل حالة من الانقسام والتشرذم والاحتقان لأسباب كثيرة أهمها غلاء الأسعار وارتفاع نسب البطالة وانحدار مؤشرات الاقتصاد الأمريكي في ظل حربين تخوضهما أمريكا بالنيابة إحداهما في أوكرانيا والأخري في غزة. وتلك الحرب الأخيرة تسببت في توسيع الفجوة بين الشارع الأمريكي وبين إدارتها داخل أروقة البيت الأبيض. وهو الانقسام الذي ينذر بحدوث الأسوأ في الانتخابات القادمة قرب نهاية هذا العام.

مظاهرات نيويورك

منذ مظاهرات الوول ستريت التي حدثت في أمريكا منذ نحو عشر سنوات مضت وملأت شوارعها لم تشهد أمريكا مظاهرات بهذا الحجم الكبير كما حدث في ميادين أمريكا الكبرى اعتراضاً على مجازر إسرائيل في غزة، وعلى القرارات الكارثية التي تتخذها إدارة بايدن لتأجيج الوضع هناك والتي أدت لما نشاهده اليوم من تفاقم الوضع الإنساني هناك، دون أن يحدث أي حسم لهذه الحرب.

أمريكا أصرت على دعم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ووقفت أمام العالم كله شاهرة الفيتو في وجه كل الدول التي نادت بالوقف الكامل والفوري لإطلاق النار! والواضح أن الإدارة الأمريكية لم تعد تعبأ بكل هذا الغضب الذي يبديه الشارع الأمريكي تجاه ظلمها وعنجهيتها. ربما تفتر المظاهرات غداً أو بعد غد، وربما تقل حماسة الجمهور الأمريكي المعترض على سياسات إدارتها، لكن ستبقي النار كامنة تحت الرماد تنتظر هبة ريح تعيد إشعالها من جديد.

والأكيد أن مثل هذا الغضب له تأثير ضخم ممتد، بدليل مشهد انتحار أحد طياري أمريكا حرقاً!

اعتراض الجنود

المشهد العجيب الذي حدث أمام الكاميرات، والذي أحرق فيه أحد الطيارين الأمريكيين نفسه اعتراضاً على حرب غزة ورفضه للمشاركة في مجازر الحرب. ثم هتافه لفلسطين كآخر كلمة يصرخ بها وهو يشتعل. مثل هذا المشهد يعيد للأذهان مشهد اعتراض الجنود الأمريكيين بعد سنوات من معاناتهم أثناء حرب فيتنام.

حاملة الطائرات التي أرسلتها أمريكا للمشاركة في حرب غزة فور بدئها انسحبت، واستبدلتها الإدارة بفكرة ميناء عائم لجلب المساعدات، أو ربما لتأمين مخططات ما بعد الحرب. إلا أن هناك اعتراض لدي فريق من الجنود داخل الجيش الأمريكي ضد المشاركة في حرب الإبادة والتجويع في غزة. وهو ما بدا من ردة الفعل التالية لمشهد الطيار المنتحر؛ حيث تلاه مشهد آخر لعدد من الضباط والجنود يحرقون ملابسهم العسكرية تعاطفاً مع زميلهم المنتحر.

أمام هذا التمرد الذي فضحته الكاميرات، لا يمكن للبنتاجون أن يقف متفرجاً دون أن يكون له موقف في بلد بات يعاني انقساماً مجتمعياً خطيراً قبيل انتخابات يبدو أنها الأهم والأخطر في تاريخ أمريكا.

تهديدات الحوثي

الملاحة في مضيق باب المندب مهددة. سفن كثيرة تعرضت للقصف والأسر. لدرجة أن سفينة بريطانية غرقت بالفعل، وسفينة أخرى سقط فيها قتلي نتيجة القصف العنيف. ثم ارتفع حجم التهديد باستهداف بعض كابلات الإنترنت. الأمر الذي جعل خطر الحوثي يستفحل ويهدد المصالح الأمريكية بمنطقة البحر الأحمر. لكن أمريكا ومعها بريطانيا لم تردا بالشكل الكافي بما يردع مناوشات وتهديدات الحوثي، والسبب أنها تخشي اتساع نطاق الحرب في الوقت الذي ترزح فيه أمريكا لضغوط هائلة من روسيا والصين ومن الداخل الأمريكي المنقسم على ذاته قبيل الانتخابات ومن الوضع الاقتصادي الذي يسوء أكثر يوماً بعد يوم.

وبغض النظر عما ستسفر عنه المواجهة بين الحوثي وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين من جهة أخري، فإن المحصلة أن الولايات المتحدة تبدو أضعف وأقل قدرة على الردع أمام أعدائها الأهم والأقدم: روسيا والصين.

كل تلك المشاهد الدرامية وغيرها لها دلالة. وخاصة أنها تأتي متتابعة متسارعة وكأنها تمهد لمشاهد قادمة قد تكون أكثر إدهاشاً وغرابة!

***

عبد السلام فاروق

ثلاث عناصر أساسية تقوم عليها عملية التنمية، أولها - الثقافة؛ وثانيها - السلام؛ وثالثها - العدالة؛ وهذه العناصر مترابطة عضويًا، حتى وإن كانت منفصلة ولكلّ منها حقله.

فالثقافة ركيزة أساسية للتنمية، وهي مصدر كلّ تنوّع وينبوع كلّ ازدهار، وهي صمّام أمان لنجاح التنمية، والانتقال من التخلّف إلى التقدّم، لأنها تمثّل روح التنمية.

أما السلام فهو الحاضنة التي تزدهر فيها عملية التنمية، ولا تنمية دون سلام، لأن الحروب والنزاعات المسلّحة تحول دون إنجاز مشاريع التنمية، وبالتالي تضع عقبات وعراقيل كبيرة أمامها.

وهدف التنمية هو العدالة وتحسين حياة الناس، فلا تنمية حقيقية دون عدالة اجتماعية بحدّها الأدنى، والمقصود بذلك توفير مستلزمات حياة حرّة كريمة وعمل مناسب، والاستثمار في التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي، فضلًا عن تأمين المتطلّبات الأولية للحياة الروحية للناس بتوسيع خياراتهم.

وهناك أربعة أبعاد للتنمية؛ أولها - الاقتصادي؛ وثانيها - الاجتماعي؛ وثالثها - الثقافي؛ ورابعها - البيئي؛ وهذه الأبعاد جميعها ترتبط ارتباطًا عضويًا بالسلام، فكلما ازدهرت ثقافة السلام انخفضت ثقافة الحرب.

وحسب الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونو، أن أحد أسباب تطوّر اليابان، هو امتلاكها ثقافة مناسبة، وادّخارها واستثمارها في التعليم، وكانت الكونفوشيوسية خلفية فكرية لتنمية اليابان، مثلما كانت التاوية والبوذية مصدرًا ملهمًا لتنمية الصين الجديدة وسنغافورة وكوريا، وساهمت اللوثرية في نجاح دول اسكندنافيا في عملية التنمية.

ويمكن للثقافة العربية - الإسلامية أن تكون مرجعًا مهمًا لعملية التنمية في البلدان العربية، إذا ما توفّرت مستلزمات الإرادة السياسية والإدارة الناجحة والرشيدة والمساءلة والشفافية، وذلك بقراءة انفتاحية على المستقبل بعيدًا عن القراءة الماضوية الانغلاقية.

مفهومان للتنمية، أحدهما ضيّق، والمقصود به النمو الاقتصادي، والآخر واسع، والمقصود به التنمية الإنسانية، التي تقوم على المساواة وعدم التمييز والحريّة والعدالة، وتحسين حياة الناس، وذلك أساس للشرعية السياسية، التي لا بدّ أن تستند إلى المشروعية القانونية، والمقصود "حكم القانون"، وحسب مونتيسكيو القانون ينبغي أن يطبّق على الحاكم والمحكوم، فهو مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحدا.

وكانت مؤسسة البابطين الثقافية (الكويت)، قد نظّمت مؤتمرها العالمي الثالث في القاهرة تحت عنوان "المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل"، وناقش في جزء منه مشكلات الدولة الوطنية فيما يتعلّق بالتنمية والسلام العادل، فإضافة إلى التحديات الخارجية، ولاسيّما محاولات فرض الهيمنة والاستتباع ومشاكل العولمة والذكاء الاصطناعي والتنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فثمة تحديات داخلية، أساسها الدولة الريعية، واتّساع الهوّة بين الحكام والمحكومين وضعف البنية المؤسسية واختلال مفهوم المواطنة، وصعود ما دونه إلى ما فوقه، لاسيّما تفشي الطائفية والعشائرية والجهوية وعموم الهويّات الفرعية، خصوصًا حين يتم تجاهلها، وعدم حل مشكلة المجموعات الثقافية، فضلًا عن قلة مشاركة المرأة في الحياة العامة، وتضخّم الجهاز البيروقراطي.

وكان إعلان الحق في التنمية (1986)، قد ركّز على عدد من الحقوق الأساسية الفردية والجماعية غير القابلة للتجزئة، والتي أساسها الإنسان وارتباطها بتكافؤ الفرص وعملية السلام واحترام مبادئ القانون.

ولبناء تنمية مستدامة لا بدّ من الترابط بينها وبين الثقافة والسلام والعدالة، وهذه جميعها تتعزّز بالتراكم والتفاعل والتداخل، وتلك جدلية تمتدّ من التراث إلى الحداثة، فثمة علاقة بين الأصالة والمعاصرة، مثلما هناك علاقة بين الأنا والآخر، ونحن والغرب، وهو ما يحتاج إلى مشروع نهضوي حضاري عربي بالتعاون والتنسيق والتكامل بين البلدان العربية، علمًا بأن اللغة العربية هي التي يمكن أن تجعل التكامل ممكنًا، في ظلّ تاريخ وثقافة مشتركة ومصالح ومنافع آنية ومستقبلية جامعة، وثمة لحظة وعي جديد لابدّ من التقاطها اعتمادًا على كلّ ما قام به نهضويو القرن التاسع عشر، واستنادًا إلى تطوّر المجتمع البشري، وكلّ ما أنجزه على هذا الصعيد.

وإذا كان اختيار "السلام العادل" طريقًا للتنمية، فقد كان ذلك جوهر رسالة عبد العزيز سعود البابطين، الذي عمل على الإعداد لهذا المؤتمر، لكنه رحل قبل أن تتكحّل عينه بتحقيقه، وترك لنا تراثًا غنيًا على هذا الصعيد، وهو ما بلوره كحصيلة لتجربته في كتابه "تأملات من أجل سلام عادل"، بتحديد 7 أسس لتحقيقه، الأول - الاحترام والصدق بحيث يصبح السلام صيغة تعليمية فاعلة تُربى عليها الأجيال، الثاني - السلام العادل ضرورة، لأن المجتمعات الإنسانية بطبيعتها لا تستمرّ إلّا بالتواصل فيما بينها ماديًا وقيميًا، والثالث - السلام العادل إجماع، بمعنى التمييز بين التوافق السياسي وبين الاجماع الاجتماعي، فالأول لا يدوم، في حين أن الثاني يقوم على القيم، وهي لا تختلف حولها الإنسانية، والرابع - السلام العادل حاجة تاريخية، بمعنى نقل السلام من مستوى الصورة إلى مستوى الواقع الفعلي، بحيث يكون حاجة تاريخية ملحّة، والخامس - السلام العادل مسار متواصل، أي أنه غير مكتمل، فالإنسانية هي مشروع يظلّ أبد الدهر يكتمل لبنة لبنة؛ والسادس -  السلام العادل ثقافة، وذلك بجعلها شكلًا معيشًا ومتاحًا وممكنًا؛ والسابع - السلام العادل تربية وتعليم، أي الاهتمام بثقافة السلام من الحضانة وحتى الجامعة وفي الحياة أيضًا.

وتلك هي صرخة البابطين القلبية الموجهة للبشرية جمعاء قصد اعتناق السلام كقيمة عليا، كما عبّر عن ذلك مايكل فريندو، وزير خارجية مالطا الأسبق، وأضاف أن "العالم بلا سلام هو عالم مظلم"، وتلك رسالة عالمية دعا إليها المهاتما غاندي لاعتماد المقاومة السلمية اللّاعنفية.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

تشهد المجتمعات الأوربية ظاهرة غريبة وفريدة في تأريخها. وهو كثرة الكلاب البوليسية وأعني هنا ليست الكلاب، الحيوانات التي تتميز بحا سة الشم، ولكن أعني الكلاب البشرية، التي ازداد عددها بشكل أصبح يستفز المواطن الأوربي ويشعره بما يزعجه ويكدر حياته، الكثير من هذه الكلاب هم من الأجانب، الذين وجدوا أنّ الشركات، التي تتولى شؤون الأمن والحراسة، توفر لهم عملا دائما ودخلا مغريا، في حين تستشري البطالة وتشحّ فرص العمل. وهذه الشركات، التي فاقت مواردها موارد الشركات الاخرى المنتجة للسلع، التي اصبحت من ضروريات الحياة، تفضل الأجانب لسبب بسيط وهو أنّ الأجانب كلاب طائعة حتى النخاع، وهذا النوع من الكلاب له حاسة شمّ قوية لما هو أجنبي ويهجم عليه بلا رحمة، بل وحتى يهجم بكل شراسة على ابن البلد، طالما أنّ تعليمات الشركة تسمح له بذلك. وويل لمن يعترض أو يدافع عن حقه، فقد يصل الأمر أن يطرح َ أرضا.

وأن يضرب ويرفس بكل وحشية بحجة أنه قاوم، وهو لم يقاوم جسديا بل اعترض كلاميا والإعتراض هنا يعتبر خرقا للنظام. الذي يصف نفسه أنه ديمقراطي تساءلت كثيرا هل من المعقول أن تتحقق الديمقراطية في أجواء الرعب النفسي وبثّ الخوف؟.

الأنظمة الديمقراطية الحقيقية تضع قانونا مقبولا من الجميع وتطبقه بدون اللجوء الى إرهاب المجتمع بجيوش الكلاب البوليسية.

كثرة شركات الأمن والحراسة في ألمانيا ومعظم العاملين فيها من الأجانب، ذكرني بانتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة، والتي اربكت المحتل وكلفته الكثير من الضحايا، فلجأ الى أسلوب خبيث بأن سلط على أبناءانتفاضة الحجارة إناسا من جلدتهم فلسطينيين تحت مظلة (السلام الكاذب)، وهذه الظاهرة ليست حصرا على المانيا، بل هي منتشرة في معظم البلدان الأوربية.

تسليط الأجنبي على الأجنبي سلاح ذو حدين، استفادت منه اسرائيل في قهر الفلسطينيين من خلال الفلسطينيين الكلاب البوليسية كثيرة ومنتشرة في كلّ مكان، ولكنّ أخطرها، تلك التي تعمل تحت مظلة (الثقافة)، والتي تستهدف المثقف العربي الحقيقي. وهي تقف جنبا إلى جنب مع المؤسسات التي تقمع المثقف الأوربي الحقيقي،

كثرة الكلاب البوليسية في المجتمعات تدلّ على أن أنظمتها تعاني من خلل، وهو قصورها ولا مبالاتها في تحقيق العدالة الإجتماعية وضمان الحرية الحقيقية للجميع، واستئثارها بمنافعها حتى ولو أدى ذلك لشن أو دعم لحروب تنتهي بإبادة شعوب، وخير دليل على ذلك ما يحدث في غزة هذه الأيام من قتل وترويع وتجويع لأبرياء من أطفال ونساء ومسنين تحت مرأى ومسمع من العالم.

غزة ستبقى جرحا عميقا في ضمير الإنسانية إلى أبد الآبدين، واللعنة ستلاحق كل من اشترك في إبادة شعبها أو غضّ البصر وأغلق السمع لما يجري فيها من فضائع.

يا من تعتقدون أنكم نلتم السلامة بخذلانكم غزة، ستحصدون الندامة، لقد ظلمتم أنفسكم: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)

***

جميل حسين الساعدي

يربط أغلب الخبراء بين القرار المفاجئ، الذي اتخذته نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند (عبقرية أوكرانيا الشريرة) بالاستقالة، بالتغيرات التي طرأت على توجهات البيت الأبيض في التعامل مع القضية الأوكرانية، وهذا هو الحال بشكل عام، ومن المؤكد أن الخروج من فريق بايدن، الذي ربما يكون أكبر "الصقور" وجماعة الضغط من أجل خلق "استقلال" مناهض لروسيا، سيؤثر بالتأكيد على مصير نظام كييف في المستقبل.

ووفقاً لوسائل الإعلام الأوكرانية، فإن نولاند هي العرابة والمهندس والمصمم الفعلي للسياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا لأكثر من 10 سنوات، وبشكل عام، كانت واحدة من أهم الأشخاص الذين صاغوا سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، وحقيقة استقالتها الآن كما تقول صحيفة سترانا الأوكرانية تشير إلى حد كبير من وجهة نظر الطريق المسدود الذي وصلت إليه هذه السياسة خلال السنوات العشر الماضية.

الدبلوماسية الروسية ماريا زاخاروفا في قناتها على تلغرام علقت على هذا الخبر بالقول "لن يخبروك بالسبب، لكن الأمر بسيط: هو فشل المسار المناهض لروسيا في إدارة بايدن، وإن رهاب روسيا، الذي اقترحته فيكتوريا نولاند باعتباره المفهوم الرئيسي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، يجر الديمقراطيين إلى القاع مثل الحجر، "مهما كان الأمر، فهو لا يسمح لي بالابتعاد عنه"، لكن أوكرانيا، على الرغم من كونها المفضلة، لم تكن الموضوع الوحيد الذي أشرفت عليه بابا فيكا، ولم تكن أقل اهتمامًا بالعمل مع ما يسمى بالمعارضة الروسية، والتي تمثل إلى حد كبير مجموعة من "الخونة" الصريحين المستعدين "مقابل ثمن بسيط"، لتنفيذ أي أمر من أنصار العولمة لتدمير روسيا، فقبل أيام قليلة من استقالتها "الطوعية، أصبحت نولاند بطلة فضيحة مع تسريب مفاوضات داخلية في البيت الأبيض، تتعلق على وجه التحديد بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه هذا الجمهور، وكما ذكرت بوابة كلير ستوري الإخبارية، فقد تم تسريب تسجيل لمحادثة هاتفية بين نولاند وزميلها مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية جيمس أوبراين عبر الإنترنت.

وكان جوهر محادثتهما هو أن واشنطن، في محاولتها لزعزعة الوضع في روسيا، ومنع حسن سير الانتخابات الرئاسية في الاتحاد الروسي، قررت التخلي عن رهانها على المعارض الروسي والمليونير ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان شخصية مركزية في الاتحاد الروسي لسنوات عديدة، مدرجة في قائمة الإرهابيين والمتطرفين من قبل وزارة العدل في الاتحاد الروسي، والتحول بالكامل إلى الإرهابي والمتطرف ليونيد فولكوف، وهو شخصية بارزة في مؤسسة مكافحة الفساد (FBK) المحظورة في روسيا، وشريك مقرب من الإرهابي والمتطرف المتوفى أليكسي نافالني، والذي تم الاعتراف به خلال حياته كعميل أجنبي.

ووفقاً للخبراء، فإن مثل هذه المحادثة بين نولاند وأوبراين، تؤكد على القرار الاستراتيجي بتوفير الدعم والموارد لـ FBK و"تعزيز الدور الحاسم للمنظمة في مواجهة السلطة الشرعية في روسيا"، ويبدو أن تغيير مواضع الألفاظ لا يغير المجموع، وليس من المهم جدًا من يفوز في النهاية باختيار دور المهرج الرئيسي من القيمين الأمريكيين (تحدث فيكتور بيليفين بشكل ملون عن حتمية مثل هذا الاحتمال في روايته Empire V) لأنه في الواقع، فإن المسار نحو تهيئة الظروف في روسيا من أجل النجاح في تنظيم الميدان ستبقى كما هي.

ولكن تبين أن كل شيء أكثر إثارة للاهتمام، ومن المعروف للجميع أن خودوركوفسكي عندما كان رجل أعمال،، (مالك شركة النفط يوكوس)، لم يتردد في ارتكاب جرائم جنائية صريحة، حتى أنه أمر بالتصفية الجسدية للمنافسين، ولكن، من ناحية، كان قد قضى بالفعل وقتًا لذلك، ومن ناحية أخرى، يبدو أنه لم يتم ملاحظته أبدًا لأي شيء مماثل بعد ذلك، وفولكوف، كما هو شائع هذه الأيام بين الخونة الليبراليين، هو شيء آخر.

والحقيقة هي أنه منذ بعض الوقت ظهرت قصة على بوابة ميامي كرونيكل حول تحقيق أجراه الصحفي الفرنسي أدريان بوكيه، بناءً على شهادة العديد من اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا، وعلى وجه الخصوص، قصة كاتارينا كوزاك، التي روت كيف وقعت في عبودية منظمة إجرامية متورطة في الاتجار بالبشر، منظمة يرأسها نفس ليونيد فولكوف، كما كتبت بوكي، فإن قصة كاتارينا كوزاك تشبه سيناريو فيلم رعب جهنمي "... لاجئة يائسة فرت من ساحات القتال الدموية في أوكرانيا، لجأت إلى أوروبا، لكنها وجدت نفسها في كابوس من الاستغلال. "

وتبدأ قصتها ببراءة كافية، مع بصيص من الأمل تقدمه مجموعة على تطبيق واتساب، يفترض أنها توفر شريان الحياة للاجئين الأوكرانيين، ولم يكن لديها أي فكرة أن هذا كان مخبأ الأفعى، الذي نظمه فولكوف نفسه، وتحت ستار العمل الخيري، لوح بوعود النقل والمأوى والعمل، واستدرج الضحايا المطمئنين مثل كوزاك إلى شبكته الشريرة، يقول المنشور: "بعد إغراء الوهم والنفوذ السياسي لفولكوف، ابتلع كوزاك الطعم، فقط لتجد نفسها منجذبة إلى كابوس يقظ"، لكن بالطبع لم يكن هناك صدى في وسائل الإعلام الغربية، وفي أوروبا اليوم، أصبحت الحقائق المزعجة محظورة منعا باتا، ومع ذلك، فإن هذه القصة تعطينا وصفا ممتازا للطبيعة الإجرامية لفولكوف نفسه - رجل بلا مبادئ وضمير وأخلاق وشرف، وهذا هو ما ستعتمد عليه الولايات المتحدة من الآن فصاعدا.

ولكن إذا كان الاعتقاد أن هذه هي نهاية سباق من تصفهم روسيا " بالصراصير" الذي يقوم به "المعارضون" الروس لجذب انتباه واشنطن، فأننا مخطئون، فاليوم، وبعد وفاة نافالني، فإنهم على قدم وساق، من الآن فصاعدا، "أرملته " يوليا، التي لم تكن قادرة على احتواء ابتسامتها خلال كلمتها في مؤتمر ميونيخ للأمن، مخصصة لذكرى الزوج الراحل، ومع ذلك، فإن فرصها ضئيلة، وكما قال رئيس جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، سيرغي ناريشكين، مؤخرًا، فإن الحد الأقصى الذي يمكن أن يدعيه نافالنايا هو الانضمام إلى "نادي المحتالين"، حيث زعيم المعارضة الفنزويلية السابق خوان غوايدو والمرشحة الرئاسية السابقة لبيلاروسيا سفيتلانا تيخانوفسكايا الذين ينتظرونها بفارغ الصبر.

إن رحيل نولاند سببه تناقضات داخل فريق الرئيس بايدن، علاوة على ذلك، تعد علامة جيدة بالنسبة لروسيا، وإن نولاند هي "صقر" أصرت على دعم نظام كييف حتى النهاية،  وليست حقيقة أن بايدن سينجو من هذا اليوم، ومن هنا يأتي قرار الموظفين هذا، الذي يوحي بأن بايدن سيتخلص من «الصقور» الأكثر عنادا، وانها اضطرت إلى الاستقالة بسبب خلافات جذرية مع سياسات البيت الأبيض، وان هذا لم يكن قرارا طوعيا من جانب نولاند، وإنها لم تعد تتماشى مع السياسات التي ينتهجها الرئيس ووزيرة الخارجية، ووفقا للخبراء، فإن خطاب نولاند لا يتوافق مع احتياجات واشنطن حيث تجري إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجري حاليا "تدقيقا للواقع" قبل الانتخابات الرئاسية في علاقاتها مع روسيا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

تمثال الحريّة - الموجود في جزيرة الحريّة بمدخل ميناء مدينة نيويورك (يورك الجديدة) - الذي صمّمه المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي، عمل فنّي قدّمه الشعب الفرنسي هديّة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول عام 1886 م كتذكار لتوثيق الصداقة بين البلدين بمناسبة الذكرى المئويّة للثورة الأمريكيّة (1775 – 1783). والغريب في الأمر، أنّ هذا التمثال الفرنسي المولد والأمريكي المنشأ، الذي رُحّل وشُحن عبر سفينة إلى مدينة نيويوك يوم 17 يونيو / حزيران عام 1885م، وافتتحه الرئيس الأمريكي غروفر كليفلاند يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول 1886 م، قد عبّر من خلال ملامحه الخارجيّة عن التحرّر من العبوديّة والقهر واستبداد الحكّام. كما جسّد سيّدة بالروب الروماني الأخضر، وهي تمسك شعلة الحريّة بيدها اليمنى، وكتابا بيدها اليسرى نُقش عليه بأحرف لاتينية (رابع يوليو 1776 م) تاريخ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكيّة، بينما تضع على رأسها تاجا يرمز إلى البحار السبعة أو القارات السبع في العالم. وقد نصبت دول غربية على منواله تماثيل للحريّة من نسل التمثال الأم في نيويورك، من بينها: فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا واليابان وغيرها. ألا ما أغرب فلسفة الغرب، وما أغبى ساسته وعساكره. لقد صدق قاشد ملحمة ديان بيان فو، الجنرال الفيتناميي جياب، حين وصف الاستعمار (الاستدمار) بأنّه (تلميذ غبيّ).  هل كان المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي الذي صمّم تمثال الحريّة، يدرك أنّ عمله الفنّي – الذي رمز به إلى (الحريّة تضيء العالم) – سيفقد معناه بمرور الزمن، في بلد تمارس الظلم والاضطهاد وتفرض سياستها بقوّة الحديد والنار على الشعوب المستضعفة، وتعطّل بحق (الفيتو) قرارات مجلس الأمن لوقف الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة أمام أعين العالم، وتسفّه أحكام محكمة العدل الدوليّة، التي أدانت تلك الجرائم البشعة في قطاعي غزّة والضفة الغربيّة ؟ هل كان السيّد المهندس الفرنسي، على علم بأنّ نصب تمثاله كان في المكان الخطأ كما كان في الزمان الخطأ ؟ ماذا سيكون موقفه وردّ فعله وهو يشاهد تحفته الفنيّة في قبضة دولة مارقة، بينها وبين الحريّة بضع سنين ضوئيّة ؟ إنّ الحريّة لا تُخلّد في ألفاظ بديعة وعبارات رومانسيّة وتماثيل من رخام أو مرمر أو فضّة أو ذهب، تُوهَب لشعب دون آخر أو أمّة دون أمّة أخرى، بل هي حقّ فطريّ وإنسانيّ. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).

لقد أهدت فرنسا الاستعماريّة تمثال الحريّة في الوقت الذي كانت فيه قواتها المتوحّشة تبيد الشعب الجزائري في عقر داره، وترتكب أبشع الجرائم في الجزائر، وتدكّ مدافعها مئات القرى الآهلة بالسكان، ولم ينج من وحشيتها الحيوان والشجرو الحجر. أجل، لقد كانت فرنسا الاستعماريّة تعلم أنّ (الولايات المتحدة الأمريكيّة)، قامت على دماء الهنود الحمر والعبوديّة والتمييز العنصري ضد الأفارقة المهجّرين في سفن العبيد عنوة وقهرا.

و ها هو التاريخ الدموي الأمريكي والفرنسي والنازي والفاشستي يتجدّد – اليوم - في فلسطين، ويتّبع الأخلاف دروب الأسلاف. وتنفّذ الصهيونية العالميّة ما جاء في بروتوكولاتها المجنونة، القائمة على العنف والإرهاب والمكر والحرب، الهادفة لغزو العالم والقضاء على النصرانيّة والإسلام وكلّ القيّم الإنسانيّة.متى يستيقظ العالم ويدرك أنّ الفلسفة الصهيونيّة خطر داهم، ما بعد خطر، على اليهود والنصارى والمسلمين.

كنت، فيما مضى، أعتقد، إلى حدّ اليقين، بأنّ المدنيّة الغربيّة ستنقذ البشريّة وتحميها من الكوارث والجوائح المدمّرة والحروب الفتّاكة والنزاعات الرعناء، في ظلّ الفتوحات العلميّة الباهرة، والتطوّر التكنولوجي العارم. لكنّ ظنّي خاب، وسقطت أمنياتي في وحل الواقع المرّ. وكنت أظنّ، أن مأساة البشريّة في القرون المنصرمة، بل ومنذ فجر التاريخ، سببها المباشر غلبة الجهل على العلم، غير أنّ مأساة غزّة أبانت لنا عن حقيقة، كنّا من قبل نشكّ في مصداقيتها، ألا وهي أن العلم وحده، ودون القيّم الأخلاقيّة، لا يمكن أن يحلّ الأزمات ويحقّق الأمن والرفاهيّة للإنسان المعاصر. لقد أباد الغرب المتصهين عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مستخدما أبشع الوسائل الحريّة التي توصّلت إليها مخابره العلميّة المتطوّرة. وها هو الغرب ينفق على البحوث العلميّة المميتة أضعاف ما ينفقه على المشاريع السلميّة. إنّ ما ألقته الولايات المتحدة الأمريكيّة وو ما ألقاه الكيان الصهيوني المصطنع من قنابل مدمّرة على أهل غزّة،

و كان أملي، ونحن في القرن الواحد والعشرين، وقد بلغ الإنسان المعاصر سنّ الرشد القانوني، واستطاع أن يُوجِد لنفسه منابر سياسيّة راشدة، ويؤسّس مجالس أمميّة لفضّ النزاعات بين الدوّل والأمم، ويطوي الصحائف السود من تاريخ البشريّة إلى الأبد، ويعيش هذا الإنسان المعاصر في كنف السلم والتعاون والتكافل وحماية الضعفاء من غطرسة الأقوياء وحماقاتهم. لكنّ، شتّان بين الآمال المعسولة وسواد الواقع الذي نعيشه، والذي فرضته أمم رفعت شعارات، الحريّة والأخوّة والمساواة، ادّعت أنّها حارسة حقوق الإنسان والحيوان.

ما يجري في غزّة، من إبادة جماعيّة ممنهجة ومقصودة عن سبق إصرار وترصّد، تعجز الألسنة الحرّة عن توصيفه وتصنيفه وتبريره. جرائم هوجاء، بشعة، برعاية الولايات المتحدة الأمريكيّة وبطانتها من العجم المتصهينين وثلّة من الأعراب المطبّعين. لقد جمعوا لأهل غزّة الأبرياء، المسالمين، من النساء والأطفال والصبيان الخدّج والمرضى، كلّ وسائل القتل والإبادة، وأوقدوا لهم محرقة صهيونيّة، نازيّة، فاقت محارق التاريخ كلّها. يبدو أنّ الصهاينة هم خير خلف للنازيين. هم تلاميذتهم المجدّون، منهم تعلّموا فنون حرق الأبرياء وإبادتهم بشتى الوسائل الجهنّميّة، البربريّة.

كلّما أطلقت العنان للبصر ناحيّة الغرب، وعبرت نظراتي أهوال المحيط الأطلنطي، وأبصرت تمثال الحريّة هناك، منتصب القامة، مرفوع الهامة، يده ممدودة بشعلة الحريّة، انتابني إحساس بالأسى، وغمرني شعور مرارتها علقم، ورددت في همس ممزوج بطعم المرارة: أليس من الغباء والقرف والنفاق والعبثيّة والسخريّة والخديعة، أن يكون موضع هذا التمثال البريء هنا ؟

من العار والشنار أن يُنصب تمثال الحريّة على أرض مغتصبة بقوّة الحديد والنار، أرض ارتوت بدماء أهلها وأبنائها الحقيقيين. أولئك الهنود الحمر، الذين نُفّذت فيهم أبشع إبادة جماعيّة عبر التاريخ المنصرم والحقب المظلمة. من الزور والمخادعة أن تدّعي الولايات المتحدة الأمريكيّة بأنّها حارسة الحريّة وحقوق الإنسان، ويمنحها العالم المخدوع شرف احتضان تمثال الحريّة ومقرّات المجالس الأمميّة، كمجلس الأمن، الذي لم يعد راعيا للأمن العالمي، بقدر رعايته لمنطق الظلم والحرب والدمار.

أليس من أولى الأولويات أن يرّحل تمثال الحريّة من المكان الخطأ، إلى المكان المناسب. ولا أرى، اليوم، مكانا أفضل له من غزّة الأبيّة. إنّ غزّة – التي تجري هذه الأيام دماء أبنائها ودموعهم أنهارا – تستحقّ احتضان تمثال للحريّة الحمراء، تشعّ منه أنوار الصبر السلام. تمثال يذكّر الأجيال القادمة بهمجيّة الصهاينة العنصريين، الدمويين، الذين داسوا على كلّ القيّم الإنسانيّة والدينيّة والشرائع السماويّة التي بشّر بها أنبياء الله وسله ؛ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين.

إنّ بقاءه في الولايات المتحدة الأمريكيّة عار ما بعده عار. فلو نطق، واستُمِع لرأيه، لرحّل اليوم قبل الغد. إنّه يشعر بأنّه سجين وأسير وغريب الوجه واليد واللسان. إنّه يقول: إنّ وجودي هنا غربة أبشع من غربة المسيح بين اليهود.

ما معنى أن يُنصّب تمثال الحريّة في بلد يعادي حريّة الشعوب، جهارا، نهارا، سرّا وعلنا، ويدعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويتاجر، سياسيا واقتصاديا، بالقيّم الإنسانيّة ؟ أليس من المفارقات العجيبة أن تحتضن الولايات المتحدة الأمريكيّة مجلس الأمن، وتُمنح حقّ النقض (الفيتو) إلى جانب الدول الأربعة الأخرى، وهي التي أبادت شعوبا وقبائل ودمّرت مدنا وقرى عن بكرة أبيها ؛ في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق، وهاهي اليوم تبيد غزّة العزّة ؟ فعلا، إنّها لمفارقة عجيبة، أن يُلبس المجرم جبّة القاضي، ويُنتظر منه تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه.

لقد آن الأوان أن ينتفض العالم الحرّ انتفاضة عنقائيّة، قبل أن يدمّر المجانين كوكب الأرض، ويبيدوا البشريّة، وينقذ تمثال الحريّة من أسره، وينصف المؤمنين بالحريّة قولا وفعلا. وينهي مسرحيّة الزيف والنفاق والكيل بمكيالين ويسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، ويضع الأمور في نصابها، فمن الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. إنّ أحرار العالم ينتظرون – بشغف - ترحيل تمثال الحريّة من خليج نيويورك إلى مدينة غزّة، لتفنيد الأكذوبة الأمريكيّة حول الحريّة.

***

بقلم: علي فضيل العربي – روائي وناقد جزائري

 

كم التضليل والأكاذيب فيما يسمى (الحرب على غزة) فاق الوصف وآخرها أن الولايات المتحدة الأمريكية، الشريك المباشر في حرب الإبادة على غزة، تريد بناء ممر مائي لأسباب إنسانية وتوصيل المساعدات لأهل غزة.

فهل يعقل أن تفشل واشنطن والغرب والأمم المتحدة ودول الجوار في إقناع أو إجبار إسرائيل على دخول المساعدات عبر معبر رفح وكرم أبو سالم ويتعثر إنزالها جواً ثم توافق إسرائيل على فكرة الممر المائي بسرعة ويدعم وتمويل الاتحاد الأوروبي ودول عربية وخصوصاً دولة الإمارات العربية؟

دخول أمريكا الحرب بالقوة التي شاهدناها منذ اليوم الأول لم يكن لأن وجود إسرائيل مُهدد بالزوال من طرف حركة حماس وغزة أو من طرف ما يسمى محور المقاومة بل لأن واشنطن شريكة في حرب تم التهيئة لها مسبقاً، تتجاوز غزة ولهدف أبعد من القضاء على القدرات العسكرية لحماس وتصفية قادتها وضمان عدم تكرار ما جرى في السابع من أكتوبر في غلاف غزة.

خمسة أشهر واسرائيل تزعم أنها تحارب حماس وتبحث عن قادتها، وفي الواقع وعلى الأرض تقوم بتدمر غزة وتقتل عشرات آلاف المدنيين وتُرحِل من تبقى إلى رفح تمهيداً لتهجيرهم خارج القطاع، بينما قادة حماس في قطر على مسمع ومرأى إسرائيل وواشنطن.

لم تبدأ إسرائيل حربها باستهداف قادة حماس ومقر قياداتها بل بقصف مدمر لمنطقة الرمال الأكثر ازدهارا ورقيا في القطاع، ثم بدأت في 27 من نفس الشهر العملية البرية من الشمال بزعم أن قوة حماس وقادتها يتمركزون هناك، وعندما تم تدمير مدن ومخيمات الشمال ولم يجد جيش الاحتلال أو يقتل أحدا من قادة حماس الذين نشر الجيش صورهم وأسمائهم وزعم أنهم يختبئون في المستشفيات وخصوصا في الشفاء والقدس والعودة والمعمداني، وأعلنت إسرائيل أن جيشها سيقتحم المستشفيات! وبعدما دمرت المستشفيات وكل ما حولها من أحياء بكاملها وقتلت وجرحت الآلاف قالت إن قادة حماس هربوا للجنوب، وأعلن قادة الجيش أن العملية ستنتقل إلى معسكر البريج وشرق القطاع، ودمروا وقتلوا وجرحوا الآلاف من الأطفال والنساء دون أن نسمع بقتل أو اعتقال أحد من القادة المطلوبين.

وتواصلت جريمة الإبادة الجماعية بقصف على مدار الساعة بحجة البحث عن قادة حماس ليعلن الجيش أن قادة حماس يختبئون في أنفاق خانيونس، وأعلن أنه ستبدأ عملية برية هناك وبدأت العملية في الثالث من نوفمبر ّ! ولأكثر من ثلاثة أشهر لم يجدوا أو يقتلوا أحدا من المطلوبين.

بعد أن عاثت دمارا وتقتيلا في مدينة خانيونس أعلنت أنها ستنتقل لمرحلة جديدة باجتياح مدينة رفح، وضح العالم وتعالت الأصوات منددة ومحذرة من هذه الخطوة التي قد تؤدي لمجازر تفوق كل المجازر السابقة بسبب الكثافة السكانية في رفح واحتمال اندفاع الناس نحو سيناء، وما زال سيف اقتحام رفح مسلطا على رقاب مليون ونصف من البشر.

خلال كل هذه الأشهر الخمسة وبحجة البحث عن قادة حماس وتدمير قدراتها العسكرية كان جيش الاحتلال يدفع الناس تحت القصف للانتقال من الشمال إلى الجنوب ليحصر حوالي المليون ونصف في مدينة رفح الحدودية مع مصر مع منع دخول المساعدات لكل القطاع وخصوصا لأهل الشمال، وفي نفس الوقت كانت إسرائيل تعمل على افشال اي محاولات للتوصل لاتفاقات وقف إطلاق النار أو حتى هدن إنسانية -باستثناء هدنة مؤقتة في أواخر نوفمبر ولمدة أسبوع- ولم تتوقف المفاوضات من القاهرة الى موسكو وباريس وأوسلو حول الهدنة ووقف النار ومستقبل قطاع غزة، وكلها فشلت أو تعثرت حتى هدنة مؤقتة في شهر رمضان، وأخيرا في خطاب للرئيس بايدين حول حال الاتحاد في الثالث من مارس أعلن عن مشروع الممر المؤقت لإدخال المساعدات الإنسانية متجاهلا أن واشنطن تتحمل المسؤولية الكبرى عن معاناة أهل غزة وجرائم الاحتلال وما زالت تمد إسرائيل بكل ما يمَكنُها من الاستمرار بالحرب وتغطي على جرائمها وتحميها من أي إدانة في المنظمات الدولية.

ما سيق يؤكد أن الأمر يتجاوز مواجهة تهديد حماس، دون تجاهل البطولات الفردية للمقاومين في غزة، وأن هناك لعبة أمم كبيرة تبدأ بحرب غزة ولا تنتهي عندها.

 العقبة أمام تنفيذ هذا المخطط ليس الكتائب المسلحة لحماس فقط بل الشعب والقضية الفلسطينية برمتها وقطاع غزة على وجه الخصوص بكثافته السكانية وتاريخه الوطني المقاوِم للاحتلال.

وواشنطن في سياق حربها الكونية في مواجهة روسيا والصين دفاعاً عن مصالحها القومية مستعدة للتضحية بغزة وأهلها وحتى بحلفائها التقليديين حكام مصر والأردن، وكل حديثها عن الشرعية الدولية والقانون الدولي والاعتبارات الإنسانية والمفاوضات العبثية حول الهدنة وتبادل الأسرى.. مجرد أكاذيب وذر للرماد في العيون.

ما يسمى الممر الإنساني المؤقت سيبدأ بدخول مساعدات إنسانية وفي هذه الحالة لن يعارض أحد من قطاع غزة الجوعى، وسيجد ترحيبا من عديد دول العالم وستظهر امريكا كدولة إنسانية تدخلت في الوقت المناسب لإنقاذ أهالي قطاع غزة وفرضت رأيها على إسرائيل، ولكن بعد ذلك سيتم استعمال الممر لتسهيل هجرة أهل غزة لقبرص، ثم يتحول لميناء دائم لتنفيذ مخطط أو مشروع خط الهند الذي سينافس خط الحرير الصيني أو الحزام والطريق الذي تشتغل عليه الصين وروسيا ودول البركس منذ سنوات، وسيكون غاز غزة وقناة بن غوريون ضمن هذا المخطط، وبالتأكيد لن يكون الممر أو الميناء تحت اشراف السلطة الفلسطينية بل اشراف إسرائيلي أمريكي مشترك، ولا نستبعد إحياء مشروع دولة غزة التي ستكون جزءا من هذا المخطط الكبير وخارج السياق الوطني.

***

إبراهيم ابراش

نحن نواجه سياسات غربية.. تتصف بالخبث والمكر واللامبدئية تجاه كل شيء يخص العرب

تحاول أمريكا ذر الرماد في العيون من خلال محاولتها إنزال مواد غذائية كمساعدات إنسانية في سماء غزة الجريحة والمُحاصرة، بالطبع هذا يجري بالتنسيق وأخذ الموافقة من السلطات الصهيونية، ترى ألا تستطيع إدارة بايدن أن توقف الحرب؟ بالطبع نعم، باستطاعة أمريكا لو أرادت الإدارة الموقرة في البيت الأبيض ذلك وبيوم واحد، وذلك حين تمتنع السلطات الأمريكية عن إرسال الإمدادات بالسلاح والذخيرة والخبرات التجسسية وغيرها من المساعدات التقنية إلى الكيان الصهيوني. أمريكا تريد أن تصطاد عصفورين بحجر واحد: من جهة تريد أن تظهر أمام العالم بأسره أنها لم تفقد بعد الإحساس الإنساني تجاه الناس المُحاصرين،الجياع، المُقيمين في العراء دون سقف يحميهم، في ظل إستمرار القصف الإسرائيلي البربري النازي، ومن جهة أخرى لا تريد الضغط على ربيبة الغرب (إسرائيل) وقطع الإمدادات عنها. المرجو من هكذا سياسة هو الظهور أمام الشارع المحتج في عواصم العالم أن أرأيتم ها هي أمريكا ترسل مساعدات إنسانية إلى غزة. والربح الأساسي هو إقناع الناخب الأمريكي، المعارض لسياسة السطو على حقوق الشعب الفلسطيني بالتأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل المعتدية، بأننا يابا ها نحن نرسل مساعدات إنسانية إلى غزة !!.

من طرف آخر ترسل أمريكا بين فترة قصيرة وأخرى، ترسل موفدها عاموس هوكشتاين إلى بيروت وتعرض مغرياتها لو أن حزب الله يوقف ضرباته الصاروخية نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة.غير أن الشخصيات اللبنانية من الصف الأول والثاني قد تعودوا على وعود أمريكا الكاذبة حين تتحقق مطالب أمريكا وإسرائيل، ويغيب الخطر على الدولة ربيبة الغرب.

السفارات الغربية في بيروت وبغداد وعمان والقاهرة وغيرها تتدخل في كل شاردة وواردة، حتى في شؤون البلاد الداخلية وتخترق حتى التنظيمات التي نطلق عليها منظمات المجتمع المدني: تارة من خلال شراء بعض المتنفذين في تلك المنظات، وتارة أخرى في تقديم المعونات العينية على مبدأ (أطعم الثم تستحي العين).رأينا مَن مِن تلك المنظمات ينزل إلى الشارع كي يتظاهر حين يكون هذا الأمر مفيدا للغرب. هذا الأمر ليس جديدا على السفارة الأمريكية نحن نذكر كيف مظاهرات الطلاب في باريس أسقطت الرئيس ديغول بطل الجمهورية، ومحرر فرنسا من الإحتلال النازي، وهذه المظاهرات كانت بمباركة من واشنطن. في زماننا الحديث نشاط ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر وسورية لم يكن أبدا إستثناء في سياسات الغرب منذ الحملات الصليبية حتى يومنا هذا، زد على ذلك التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة: في دول الخليج وفي العراق والأردن وسورية، وإذا استثنينا تلك الدول التي يعتبر تواجد القوات الأمريكية له طابع رسمي اي بموافقة الدولة على ذلك، فإن قواعد أمريكا في العراق وسورية حصلت بحجة واهية ألا وهي محاربة تنظيم داعش والنصرة وغيرها، في حين أن المواطن الأمريكي نفسه أصبح مقتنعا أن هذه التظيمات تقف خلفها دول الغرب وعلى رأسها أمريكا. حين يطالب أبناء الشعب العراقي بإنهاء مهمة القوات الأمريكية على أرض العراق، وحين تواجه التنظيمات الشعبية القواعد الحربية الأمريكية في كل من سورية والعراق، جماعة أمريكا يبكون على ضياع الرفاهية والإستقرار.

قام الغرب بمواجهة روسيا الإتحادية في سياساته السرية والمعلنة أن روسيا في نظر هؤلاء السادة خرقت حرمة السيادة الوطنية في دخولها أراضي ضمن خارطة أوكرانيا. هذا الغرب نفسه كم من المرات قام بخرق حرمة دولة صيربيا حين قامت طائرات الناتو عام 1999 بقصف المدن الصيربية مدينة بعد أخرى ومربعا بعد آخر، دون أي قرار بهذا الشأن من مجلس الأمن، وذلك على مبدأ ما يحق للغرب لا يحق لغيره، زد على ذلك غزو العراق عام 2003،مع ما عرفته المدن العراقية من دمار وخراب وما عرفناه عن وقوع أعداد كبيرة من الضحايا والشهداء. وبعد ذلك جاء إنشاء قواعد غربية على أراضي الجمهورية العربية السورية دون أي قرار من الأمم المتحدة ودون موافقة من الدولة ذات السيادة.

كل ذلك يجري تحت يافطة محاربة الإرهاب، في حين أن خريجي مدرسة محو الأمية يعرفون من أين يأتي الدعم الحربي والمالي للتنظيمات الإرهابية، ومن أين يأتي العتاد إلى هذه التنظيمات، ومن أشرف على إعداد قادة هذه التنظيمات، أدخلت عن طريق تركيا آلاف السيارات الجديدة ذات الدفع الرباعي وأصبح لدى التظيمات الإرهابية قوة قوية متنقلة تعبر الصحراء.

حتى أن الغرب قد استثمر في الأوساط التي حسبت حتى عام 1991 على الإتحاد السوفييتي.أنا لا أعمم، ولكن الواقع يدل على أن مجموعة ليست قليلة من قوى اليسار صدقت بما جاء به ما سمي بالربيع العربي وشاركت بما سموها زورا ثورة، وها هو الشعب السوري اليوم يكتوي بنارين نار الخراب والدمار مما أوجدتهما ما سميت ثورة، ونار الحصار الغربي الأمريكي ضد المصالح السورية والإقتصاد السوري. حين يكتب واحد ممن رفضوا المشاركة في معاقبة الوطن، تأتيه التعليقات والإنتقادات من كل العواصم حيث استقر رعيل من تركوا سورية بعد أن وافقوا على تدميرها وبعضهم ربما قد شارك بذلك. لهذا السبب ولغيره قمت بتدوين النص التالي:

غياب صوتي أمر مستحيل

وُعِدتُ بالرفاهيةِ

والعيشِ الرّغيدِ،

همسوا في الرسائلِ،

وأكثروا

في طرح الوعودِ:

" لماذا لا ترغب

بإيجاد مكان ٍ هادئ

تحت الشمسِ ِ،

أ نسيتَ ما فعلَ

أولئكَ

في غرف ِ المُساءَلة ِ

قبلَ أول أمسِ ِ؟ "

كلُّ الذي تقولونه

لغوٌ....

إنّ غياب صوتي

أمرٌ مُستحيلْ.

طمئنوا مَن يوشوش

في آذانكم،

أنّ نارَ مَوقدي

لا زالت قوية ً،

طمئنوا من يَعدكم بالنصر

أنه واهمٌ، واهمْ،

بلغوه: أنّ النصرَ

في عزم الرّجال ِ

أمرٌ مُحتم ٌ

وليسَ في رَنين الدّراهمْ !!

طمئنوا الذين بينكم

ويدعون الرّجولة

أنّ صوتي سَينازلْ

وأنني حتى آخر نبضٍ

في فؤادي سَأقاتِلْ،

فَوالله

لن أعاقبَ وطناً

عشتُ له ُ،

وعاش فيهِ

أهلي

وأعمامي

وأجدادي.

طمئنوا الذين بينكم

ويدعون الرّجولة

أنني باق ٍ

إلى آخر يوم ٍ

لنصرة ِ قضيةٍ

تسمى − الوطن.

بلغوا تلك الرّياح العاتية

أنّ تحتَ الرّمادِ جذوة ٌ

مازالت تشتعل،

وأنّ ذاك الجندي،

ابن البلد

لن يرميَ الرّاية

ففي صدرهِ حكاية حبٍ

لفتاة ٍ ودعته

وما زالت تنتظر.

بلغوا من وعدكم بالنصر،

قولوا له:

أنّه ُ واهمٌ، واهمْ.

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

كان جزع ايران على قطع نظام المشير"عمر حسن أحمد البشير" صلاته بها، قصيراً محدود الأمد، لأن حاجتها للسودان قليلة ضئيلة، لأجل ذلك لم تضيع وقتها في اللوم والعتب، وأدارت رأسها عنه، وتركت الديكتاتور مرتهناً بالوعود التي بسطها إليه حليفه الجديد، والتي لم يتحقق منها غير أطياف، ثم مضى البشير، الحاكم الذي منحته الأقدار من الوقت ما يتيح له أن يعدل، وأن يوفق لعهد زاهر، هو ورهطه، ولكنهم أصابوا بعض النجاح، وأخفقوا أفدح الاخفاق وأثقله.

ثم شهد السودان تطورات مختلفة، أجملنا الحديث عنها في مقالنا السابق"ايران والسودان وتوطيد الصلات" ونستطيع أن نزعم إذا أردنا تلخيص طابع الأحداث في ذلك العهد في ايجاز شديد، بأن الساسة قد فشلوا الفشل كله، حينما لجأوا إلى الغرب يستمدون منه الرأي والفكرة، وأدرك الشعب الذي جدّ في تنظيم مظاهراته المنددة بخطايا شركاء الحكم، وما كان يجري بينهم من خلاف، أن ساسته وما هم فيه من نزاع باطل كله، فانصرف عنهم، واستعان بالكد والاجتهاد، ليجابه ما أبتلي به من شقاء في حياته، وظلت شريحة الشباب على ما كانت عليه، تختلف إلى الشوارع والميادين، في مسيرات هادرة، تقام يومين من كل أسبوع، ولا تمضي ساعات إلا وتفضها القوات المعنية بفضها، في لغة تتقنها كل الاتقان، وحتى لا نسرف في تحليل الخطوب التي تكاثفت في تلك الفترة، ونترك هذه الأحاديث الطوال الثقال، كما يقول الدكتور طه حسين، نقول أن غمرتها انجلت بحرب ضروس بين القوات المسلحة، وبين قوات الدعم السريع، وفي الحق أن وقائع الحرب، أبعد من أن تحد، وأوسع أن تحصر، وحتى نترك عنا هذا الإسهاب، لنا أن نزعم، أن قوات الدعم السريع هي من ابتدرت هذه الحرب، وأنها حقا طمعت في غير مطمع، وسعت لنيل ما لا سبيل إليه.

وانبرت الحكومة الشاحبة التي لا نكاد نتبين معالمها، في ظل هذه الحرب التي ما زالت مستعرة، تدير حوار الهدنة، ووقف الحرب، في عدة منابر، وهي موقنة أن من العسير أن تحقق لتلك الدول الراعية لتلك المنابر، فلسفتها التي تريد أن تنتهي إليها، فتلك المنابر، تريد أن تعيد قوات الدعم السريع إلى حياتنا الواقعة في هدوء ورفق، وألا نعرض عن مليشيا النهب والاغتصاب اعراضاً شديداً أو هيناً، وأن يعود الدعم السريع في صوره وأشكاله الغليظة، مستأثراً بكل خير، ومستحوذاً على كل نصيب، ونسيت هذه المنابر أن كل آآهة طويلة، وصرخة متصلة، صدرت من موجوع أو مفجوع، سببها تلك المليشيا التي تقمصت نهج التتار.

الفريق أول البرهان، القائد الذي نعجب بذكائه، ونكبر عقله، وفلسفته في الحرب، بعد خروجة من جحيم الخرطوم، واستقراره في مدينة الثغر، ذلك الثغر الذي تحبه بعض الجهات وتتهافت عليه، وتتدله في لذات هذا الحب العنيف الحار، لدرجة تدفعها لأن تحيل خصب السودان وغناه لجدب قاحل، انتظم رئيسه في زيارات متصلة، تخالف العرف المعروف، فقائد الجيش يعود نفسه الحرمان، ويمكث مع قواته حتى ينجلي غبار المعركة، ولكن نستطيع أن نذهب، إلى أن الغاية الملجئة التي دفعت "البرهان" لكي يقوم بكل تلك الرحلات، هي أن تحتفظ قواته بحظها من الانتصار، و"البرهان" قائد الجيش الذي اشتد عليه سخط الناس، لخططه التي لم تلجم المليشيا التي استفحل خطرها، وعظم أمرها، اتضح الآن نجاعة تلك الخطط، التي حظ الصواب فيها أكثر من حظ الخطأ، لقد توقع الفريق أول "البرهان"، أن تفضي هذه الزيارات لدول الجوار لما ينفع ويفيد، تلك الدول التي تسأثر بقلب شعبه ولبه، قد يتاح لنا الوقت للتفكير عن ماهية الأسباب التي أجبرتها أن تملأ قلب "البرهان" حزناً وحسرة، وحتى لا نقول كلاماً مبهماً لا يفهمه الناس، نزعم في عنف وحدة، أن تلك الدول لم تنظر إلى "البرهان"، أو تسمع منه، كما نظرت إليه "الجزائر" نظرة تضج بالاشفاق، وسمعت منه في حرص واحتياط، هناك في بلد المليون شهيد، تحدث الرئيس "البرهان" بصوت مرتفع، ولم يكن خاطره كليل، أو فؤاده دامي، لأن لا الرئيس "تبون" ولا دولته تؤثر العافية عن اغاثة الملهوف، ولا تضن بنفسها عن نصرته، مخافة مشهد وجهد، أوضيق وضنك، قد يلحقها نظير نجدتها تلك.

إذن الجزائر من الدول التي أظهرت وجهاً ناصعاً للسودان، وسرت فيها تلك الرغبة الصادقة في دعمه، وليست الجزائر وحدها من أقدمت على اتخاذ تلك الخطوة، فهناك دولة ايران التي لم تمتنع عن السودان، وتسرف في الامتناع، بحجة الخذلان الذي تورط فيه نظام البشير من قبل، ايران الدولة التي تحيفتها المكاره، وكثرت عليها الأحداث والخطوب، واضطرتها إلى هذا الخصام والجهاد، مع محيطها ومع دول الصلف والغرور، نلتقي ونختلف من أنها تبتغي أي جائحة، أو كارثة، "لقطر سني" حتى تتوطد العلاقات بينها وبين ذلك البلد الذي أزرت به المصائب والمحن، فخلافنا العقدي معها، وسيرتها التي ليست كلها صافية نقية، مع دول وشعوب المنطقة، تجعلنا لا ننخرط معها في مودة خالصة، ولكن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد، أن الدولة الفارسية أسرع إلى التعاون، وأقرب إلى الفهم، لادراك طبيعة المخاطر الهائلة التي تحدق بالسودان، ولأنها أيضاً لا تطرأ عليها علامات التردد والتلكؤ، وتشعرنا بأنها تريد أن ترى وتسمع وتفكر، كلا ايران، حرة الإرادة تنظم علاقاتها وتتطورها، دون أن تنظر لأحد، أو تنتظر رضا أحد، نعم هي ترقب الحوادث، وتهتبل الفرص، لتتصل أفراداها وجماعاتها وكياناتها الدينية والسياسية، مع بيئات وأمزجة الدول المهيضة، ولكنها على كل حال، دولة يمكن أن نعتمد عليها، وأن نعقد عليها أوسع الآمال في ظرفنا الراهن، بعد أن تجافى الأشقاء عن نصرتنا، بل هناك من الأشقاء من لم يرعى للسودان حرمة، وسعى إلى الغاية التي لا تدرك، وهي تفتيت  شمل السودان ونهب خيراته.

وايران التي تغيرت صورتها، فلم تعد هي الصورة المعروفة على صاحبتها، تلك الدولة التي تريد أن تخضع الجميع للاستسلام والاذعان لارادتها، استطاعت في جهد عنيف أن تقرب منطقها من فهم الناس له، وأن تنسجم في هذه المعاهدات التي تمس العقل، ولا تمس الشعور، وأن تنخرط في مباحثات كفلت لها تجاوز الخلافات مع أعتى خصومها، فاتفاق بكين، طوى خلافها الطويل العنيف مع الدولة الكبرى في المنطقة، ولكن مثل هذه الاتفاقيات في الحق، لا تحقق لايران هدفها الذي تبحث عنه، بغيتها الأزلية التي تتمثل في اغراق المنطقة بفلسفتها الساذجة إلى حد بعيد، فنحن مهما اتسعت أطماعنا، وتعددت مطالبنا التي نتظر تحقيقها من الدولة الفارسية، فلن نرضى أن نوفيها حاجتها، ونحقق لها أملها النديان، فدولة ايران التي تستقبل الآن الزائرين والزائرات من طاقم الخارجية السودانية، تعي تماما أن  هذا الشعب الذي عرفته واختبرته من قبل، لن يخضع لحجتها، أو يذعن لجلالها، فحرياً بها، أن تكتفي بالورق المالي الصفيق- هذا إذا كان السودان  ما زال يملكه- نظير عتادها العسكري الذي سوف تقدمه لقواته المسلحة، وأن تعلم أن السودان ينتظر منها أكثر من تلك المسيرات التي جلبها منها، والتي أسهمت كثيراً في تغيير دفه حربه مع المليشيا، السودان ينتظر من دولة ايران أن تسبغ على علاقتها به لونا من الجد، حتى لا تتعثر تلك العلاقة مرة أخرى، وأن تسالم وتصانع بعض الشيء، حتى تزول بينها وبين شعبه الكلفة، فالسودانيون يستطعيون أن يبصروا، رغم أعينهم المتورمة من فرط الألم، فهم ينظرون إليها بعين الحاجة، لا بعين الحب، وبشهوة البقاء، لا بشهوة الهيام، ولها أن تفكر في الاعراض عنه، إذا أرادت ذلك، وللسودان أن يطيل النظر والتمعن والتفكير، في خيارات أخرى خلافها، رغم ضعفه وهزاله الحالي، لن نكتفي بالشكوى أيها السادة، نسعل سعالنا المتكرر هذا، ولكن لن نموت، لن نستخذي أحد، وقريبا جداً سنظفر بكل ما نحتاج إليه، وسنشهد جنازة كل من سعى لقتلنا وترويعنا، ونشيعها إلى القبر.

على السودان بعد أن تضع الحرب أوزارها، أن يعكف على اغلاق حدوده ويحكم اغلاقها، بعد أن فطن لأن "جيرته" قد أخذت من فلسفة "الآثرة" إلى أقصى حد ممكن، وأغرقته في انتهازية مروعة ، وتغاضت عن العاطفة وعن الشعور، وأن يتحفظ تحفظاً  عظيماً تجاه الكثير من عاداته وتقاليده، وأن يترك عنه هذه الطيبة وهذه السذاجة، فهذه الخصال هي التي أحالته لهذا الوضع الضئيل، فهذه الحرب التي جشمته الأهوال، من الحق عليه ولنفسه أن يفكرفي حدوده وسواحله، وأن يخلق لها هذا الاتصال الوطيد مع الدول التي انغمست في نصرته، وأن يعمل على استقلال نظامه السياسي، فيطهره من كل شوائب الضعف والتبعية والاذعان، على السودان أن يوحد صفوفه، ويقوي جيشه، ليستعيد مجده وألقه ونضاره، وليحرر كل ذرة من تراب، شمخ فيها الشقيق بأنفه، على شعبنا أن يترك عنه هذا الخمود والخمول، وأن يتحرر من ربقة الفساد والاضطراب، وأن يعلم أن بلوغ الغاية التي يبتغيها ليس من السهولة واليسر، فهي تتطلب دأباً وجهاداً والحاحاً عنيفا، إنسان السودان لن يعيش آمناً مطمئنا، إلا إذا توثقت صلاته برحاب الدين، وهز بندقيته في الهواء ملوحاً ومحذرا، في كل وقت وحين، حتى يرعوي الطامع، ويخنع الصفيق، علينا أن نبذل كل مشقة، ونحتمل كل عناء، حتى تنفرج الشفاه، وتنبسط الابتسامة، وتتهلل الأسارير، ولن يحدث هذا إلا ابتعدنا عن محورالدول التي تتشدق بديمقراطية زائفة، وأظهرنا الود لبعض الدول الاشتراكية، ووثقنا صلاتنا مع قطر وتركيا وايران، فقد بان أصلهم في ظل هذه الهيجاء كأجمل وأبهى ما يمكن أن يكون. 

***

د.الطيب النقر

 

صدرت الطبعة الأولى من كتاب "الاقطاع والفلاح في العراق الملكي ـ لواء العمارة انموذجاً" للدكتور حميد حسون نهاي 1، وهو في الأصل رسالة ماجستير قُدّمت الى كلية التربية الجامعة المستنصرية في عام 2015 تحت اشراف الباحث الاقتصادي الدكتور عبد الله شاتي عبهول 2 وحصلت على الامتياز.

قَسّمَ نهاي كتابه الى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعِدة ملاحق:

تناول الفصل الأول: لواء العمارة، تقسيماته الإدارية، تركيبته الاجتماعية، أُسس تكوّن الاقطاع في العراق.

وتناول في الفصل الثاني: علاقة الاقطاعي بالفلاح في العراق 1932 ـ 1958، طبيعة علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة بشكل عام، علاقة اقطاعيي البو محمد وآل ازيرج وبني لام مع فلاحيهم، نتائج علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة.

أما الفصل الثالث فكان: الموقف الرسمي والشعبي من علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة 1932 ـ 1958.

كانت مصادر الباحث متعددة ومتنوعة:

1ـ الوثائق غير المنشورة: ملفات الحكم الجمهوري ـ ملفات مجلس الوزراء ـ ملفات وزارة الداخلية ـ ملفات وزارة الاعمار.

2ـ الوثائق غير المنشورة: محاضر مجلس النواب ـ محاضر مجلس الاعيان ـ المطبوعات الحكومية.

3ـ المذكرات الشخصية.

4ـ المقابلات الشخصية: كانت ثلاث وخمسون مقابلة مع عدد من الشخصيات العارفة والقريبة من الاحداث آنذاك، منها على سبيل المثال لا الحصر: مؤرخ العمارة الأستاذ جبار عبد الله الجويبراوي في 5 حزيران 2014 ـ  المؤرخ العراقي المعروف الدكتور جعفر عباس حميدي 3 في 8 نيسان 2014.

5ـ الرسائل والاطاريح الجامعية: فكانت تسع وستون رسالة واطروحة.

6ـ الكتب العربية والمعرّبة والآجنبية: عددها مائتان وأربع وأربعون كتاباً، أما الآجنبية فكانت أربعة كتب.

7ـ الصحف والمجلات: ست وأربعون صحيفة، واحدى عشر مجلة.

8ـ البحوث والدراسات المنشورة: واحد وثلاثون مبحثاً.

9ـ الموسوعات: أربع موسوعات.

10ـ مواقع الانترنت: موقع واحد.

ما هي أهمية هذا الكتاب في الوقت الحالي؟ قد يتساءل القارىء باستغراب ويقول:

ما الفائدة التي سنجنيها من الحفر في حقبة مضت واندثرت وأصبحت في ذمة التاريخ؟ وعليه فسنقول:

لم تذهب هذه الحقبة تماماً، نعم ذهبت من الواقع، لكنها حاضرة في رؤوس الكثيرين الآن! خصوصاً عند الشباب الذين لم يُدركوها، لكنهم في الوقت نفسه يتحسّرون على ذهابها!! وهنا العجب، اذ كيف لي أن أتحسّر على حقبة لم أعشها!! وماذا لو كان جد الشاب الذي ينعى هذه الحقبة من الكادحين؟! من الذين ضربتهم سياط الاقطاع!! ماذا سيقول هذا الجد لحفيده ـ لو عاد الى الحياة الآن ـ ورآه يتحسّر على حقبة أنزلته "الجد" الى الدرك الأسفل! وفي الوقت نفسه يرى ارتفاع صوت هذا الحفيد في المطالبة بالتعددية السياسية والحرية والعدالة في عراق ما بعد صدام حسين!!! تناقض ما بعده تناقض!

والأهمية الاستثنائية لهذا الكتاب برأينا، هي أنه يتناول تاريخ مدينة كاتب هذه السطور "العمارة ـ محافظة ميسان".

ما يُحسب للباحث الدكتور نهاي أنه لم يكن "محايداً" في طرحه، بل كان في صف الكادحين، فتجاوز نهاي "الكتابة الوصفية" السائدة تقريباً في الدراسات الجامعية، فكان شجاعاً بحق هنا، مع ضرورة التأكيد على أن "عدم الحياد" لا يعني تجاوز الحقيقة الموضوعية، أبداً. ويُذكّرني الآن بالدكتور حيدر عطية كاظم، صاحب الكتاب القيّم "الصرائف في بغداد" 4.

حاول الوالي العثماني المُصلح مدحت باشا حل مشكلة الأراضي من خلال القضاء على المنازعات العشائرية حول الأراضي الزراعية، وسعى بكل جدٍ وإخلاص لتحقيق تلك الأهداف، فتساهل كثيراً في قيمة الطابو، وكان في أحيان كثيرة يمنح سندات الطابو بثمنٍ بخس 5.

لم ينجح مدحت باشا في مسعاه، خصوصاً في تفويض الفلاح ابن العشيرة في التعامل مع الدولة دون وساطة رئيس العشيرة، وكانت أسباب هذا الفشل:

قوة التنظيم العشائري ـ فقر الفلاح المدقع وعدم تمكّنه من توفير قيمة الطابو وخشيته من التجنيد الاجباري والضرائب، فضلاً عن تخلّف الجهاز الإداري 6.

فماذا كانت النتيجة؟ فُسح المجال أمام أثرياء المُدن وتُجارها وكبار الموظفين في الحصول على عقود تفويض الأراضي مقابل دراهم قليلة 7.

كانت محاولة مدحت باشا الإصلاحية محاولة جريئة هنا، وهي خروج عن المألوف في السياسية العثمانية، لكن لم يُكتَب لها النجاح كما أسلفنا.

جاء البريطانيون الى العراق، فعكسوا مسار التاريخ باحتضانهم شيوخ العشائر 8، وكان لاسناد هؤلاء الشيوخ جوانب سلبية كثيرة أكدتها ألمس بيل، فقالت:

(ان سياسية اسناد الشيوخ بهذه الطريقة كانت لها جوانب سلبية كثيرة، فالشيخ أصبح طاغية في منطقته، مما انعكس ذلك على سمعة الحكومة التي كانت تسنده، وعليه فإن النقمة على الشيوخ من هذه الحيثية أحد روافد الحركة الوطنية الاستقلالية) 9.

سنتعرض الآن لنماذج من علاقات الاقطاعي بالفلاح، ثم نُعَرّج بعدها على موقف الطبقة السياسية الملكية الحاكمة.

كانت خشية الفلاحين في لواء العمارة من الاقطاعي كخشيتهم من الله أو أشد 10، ويُروى أن احدى خادمات شيخ كبير تُدعى جريوه، كانت تتبختر وتذكر سيدها باستمرار، فعندما تدخل جريوه لواء العمارة، كانت تُرعب الكثير 11، وكانت تُفرَض على الفلاح عدة ضرائب ما انزل الله بها من سلطان ومنها ضريبة السكتة 12، وقام جلاوزة أحد الاقطاعيين بقلع أظافر فلاح شاب 13، وقد ندبت احدى الفلاحات حظها العاثر، فقام الاقطاعي بجلدها بالخيزران 14.

هذه عَيّنةٌ بسيطة من هذه العلاقات الظالمة، أما عن موقف النظام الملكي من الاقطاع، يقول الدكتور نهاي ناقلاً عن الأستاذ عبد الرزاق الظاهر:

(ان الاقطاعية في لواء العمارة نقطة سوداء في جبين المملكة العراقية، انها البهتان الأعظم) 15، وفعلاً كانت بهتاناً أعظم، فقد كان الاقطاعيين، لا سيما الكبار، ملوكاً غير مُتَوّجين 16، فقد كان النظام الاقطاعي غريباً وخارجاً عن مسار التطور الاقتصادي والحضاري في العراق والاقليم وحتى العالم، لأنه يفتقر للأسباب الموضوعية الداعية لوجوده، لكنه كان يُحقَن بأسباب الحياة من خلال تأييد الحكومات العراقية المتعاقبة له وبريطانيا 17. تُحتّم الموضوعية علينا هنا، أن نُسَجّل بأن حكومة السياسي المعروف حكمت سليمان 18 قد كانت استثناءً، فقد تَعَهّدت بحل مشكلة الأراضي وتوزيعها على الفلاحين بشكل عادل 19، والمفارقة هنا أن حكمت سليمان قد وصل الى الحكم عن طريق انقلاب عسكري قام به الجنرال بكر صدقي في عام 1936م!!

سعت الحكومات العراقية بكل قوة الى إيجاد الأساس القانوني لتجريد الفلاحين من حق التصرف في الأرض، فكانت تطبيقات "قانون اللزمة" من أكثر الإجراءات التي اتخذتها الحكومات العراقية المتعاقبة في تدعيم المشايخ وترسيخ النظام الاقطاعي 20، وكانت النتيجة لقوانين "اللزمة والتسوية" هو حرمان الغالبية العظمى من أبناء العشائر من حقوقهم التاريخية في التصرف بالأرض، فانقض العديد من رؤوساء الوزراء والوزراء وكبار موظفي الدولة وبعض التجار والمُلاّك على الأراضي الأميرية واستحوذوا على آلاف الدونمات دونما مراعاة لضمير أو وازع ديني أو مصلحة وطنية 21.

سنذكر الآن نماذج من حيازات الطبقة الحاكمة من الأراضي بالدونم بموجب هذه القوانين بين سنتي 1933 و 1939:

حمدي الباجه جي: 27،872 في الكاظمية.

رشيد عالي الكيلاني: 25،819 في العزيزية.

الملك فيصل الأول: 1597 في الدورة.

صباح نوري السعيد: 2312 في بغداد المحمودية (يُلاَحَظ هنا أن ممتلكات نوري السعيد كانت باسم ولده صباح، ويُذَكّرنا هذا بما أورده حنا بطاطو، فقد ارتفعت حيازة صباح السعيد من الأراضي في عام 1958 لتصل الى 9294 دونم) 22.

الأمير علي بن الحسين: 23،232، هذه عينة من جدول أورده الدكتور نهاي 23.

أنزلت هذه القوانين التي سنتها الدولة الفلاح الى منازل العبيد، خصوصاً "قانون حقوق وواجبات الزراع" 24، فما هو موقف الملوك الثلاثة من الاقطاع والاقطاعيين؟

حاول الملك فيصل الأول في مذكرته التي وجهّها الى الساسة العراقيين في آذار 1932 أن يُقدّم تصوّره لحل مشكلة الأراضي، لكنه أكّد على: لا يجب أن يشعر الشيوخ والأغوات بأن قصد الحكومة القضاء عليهم، وانما يجب أن نُطمئنهم على معيشتهم ورفاهيتهم 25.

أما الملك غازي فقد وقع تحت التأثير الكبير للإقطاعي جاسم محمد العريبي 26، وبشأن موقف البلاط الملكي في عهد الملك فيصل الثاني فقد كان ضعيفاً، لكن الأمير عبد الاله بقي مدافعاً صلباً عن الاقطاعيين حتى آخر أيامه 27.

أما نوري السعيد فقد تَخَلّى عن عقله تماماً وداس بأقدامه على معرفته وخبرته في شؤون العراق، والتي لا يُضاهيها أحد من الساسة، عندما تحدث ونفى وجود الاقطاع في العراق 28.

من حقي كمواطن عراقي أولاً، وكباحث تاريخي ثانياً، أن أتساءل:

ماذا لو سمع "الملكي العراقي" الآن، في القرن الحادي والعشرين، أن سياسياً عراقياً ـ عادل عبد المهدي، نوري المالكي، محمد الحلبوسي مثلاً ـ قد امتلك أراضٍ واسعة في منطقة معينة من العراق، فماذا سيكون ردّه؟ سيصبّ اللعنات عليهم وعلى كل العملية السياسية الحالية بكل تأكيد ... طيّب، لماذا عندما تسمع وتقرأ بأن صباح نوري السعيد قد امتلك آلافاً من الدونمات لا تفعل الشيء نفسه؟! لما التبرير ولَيّ عنق الكلمات والنصوص؟! ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الشيوخ والاقطاعيين المدعومين من النظام الملكي، لم يستعبدوا الفلاح في الأرض فقط، بل وقفوا بالضد من تأسيس المدارس في مناطقهم، لدرجة تهديد المعلم بالقتل، ولم يُفلح مدير معارف العمارة في فتح مدرسة في منطقة اقطاعي كبير 29.

تُحتّم علينا الموضوعية الإشارة الى أن الدكتور نهاي قد فَرّق بين الاقطاعيين من خلال تعاملهم وقسوتهم مع الفلاحين، فكان اقطاعيو آل ازيرج منفتحين ويصغون لكلام الفلاح 30، وكانت علاقة معظم اقطاعيي بني لام مع فلاحيهم جيدة 31، الشدة كانت مع اقطاعيي البو محمد 32.

وقبل أن نختم المقال، لا بُدّ من التَطَرّق لتعليل قيّم قُدّم عن "وفرة الإنتاج الزراعي في زمن الاقطاع"، يقول المؤرخ الدكتور جعفر عباس حميدي:

نستطيع أن نُرجع هذه الوفرة الى قسوة الاقطاعيين ونهبهم لقمة الفلاحين من أفواههم وأفواه أطفالهم 33، والنتيجة أن نظام الاقطاع نظام لا انساني، كما أشار الدكتور نهاي بحق 34.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.....................

الحواشي:

1ـ حميد حسون نهاي: الاقطاع والفلاح في العراق الملكي لواء العمارة انموذجاً ـ دراسة تاريخية، مراجعة: الدكتور عبد الله شاتي عبهول، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2020

2ـ الدكتور عبد الله شاتي عبهول باحث مختص بالتاريخ الاقتصادي، له في مكتبتنا: تجربة العراق الملكي في الاعمار 1950 ـ 1958، تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي.

3ـ سنتعرض لاحقاً لتعليل حميدي القيّم عن "وفرة الإنتاج" في العراق الملكي.

4ـ حيدر عطيه كاظم: الصرائف في بغداد 1932 ـ 1963 دراسة في التاريخ الاجتماعي، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2018

5ـ نهاي: المصدر السابق ص78

6ـ المصدر السابق ص79

7ـ المصدر السابق ص80

8ـ المصدر السابق ص86

9ـ المصدر السابق ص90

10ـ المصدر السابق ص136

11ـ المصدرالسابق ص137 حاشية رقم 1

12ـ المصدر السابق ص140

13ـ المصدر السابق ص165

14ـ المصدر السابق ص168

15ـ المصدر السابق ص157

16ـ المصدر السابق ص144

17ـ المصدر السابق ص113

18ـ عن حكمت سليمان يُنظَر:

عكاب يوسف الركابي: حكمت سليمان والانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1936م ـ دراسة تاريخية تحليلية، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2024

19ـ نهاي: المصدر السابق ص207 و 208

20ـ المصدر السابق ص100

21ـ المصدر السابق ص104

22ـ حنّا بطاطو: العراق ك1 ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، بترجمة: عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية لبنان ط3 2003، منشورات دار القبس الكويت ص394

23ـ نهاي: المصدر السابق ص106

24ـ المصدر السابق ص110

25ـ المصدر السابق ص202 و 203

26ـ المصدر السابق ص204

27ـ المصدر السابق ص204 و 205

28ـ المصدر السابق ص213

29ـ المصدر السابق ص149 و 150 و151

30ـ المصدر السابق ص173

31ـ المصدر السابق ص177

32ـ المصدر السابق ص158

33ـ المصدر السابق ص276

34ـ نفس المصدر والصفحة

 

 

من مكاسب ملحمة "طوفان الأقصى" الكثيرة والكبيرة ، كسمة واضافة بارزة لما تحقق في مختلف الأصعدة والمستويات، مكسب انطلاق طوفان، اجل طوفان، غضب شعبي في العالم من اجل قطاع غزة خصوصا، ومن اجل فلسطين عموما، لما تعرض له  القطاع في الانتقام الامبريالي الصهيوني من وحشية نازشية، (نازية/ فاشية) تجاوزت ما عرفه التاريخ من جرائم احتلال همجية، بدعم صارخ وعلني، واعادة القضية الفلسطينية مرة اخرى الى واجهة الاحداث والمانشيتات الرئيسية في وسائل الاعلام والتواصل والمؤتمرات الدولية والإقليمية وغيرها، رغم كل محاولات تصفيتها، والاعتداء على القدس الشريف والاماكن المقدسة في فلسطين المحتلة.

اتسم هذا المكسب الكبير بوعي سليم لعدالة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال الصهيو إمبريالي ووسائله الوحشية في الاضطهاد والقمع والارهاب والاعتقال والحصار والابادة عموما وتجاوزها في الانتقام بعد معركة طوفان الأقصى بما لا يمكن الصمت او التغاضي او التفرج كما حصل سابقا او تراوح بين بين لأسبابه، الفلسطينية او العربية والاسلامية في طروحاتها المتهافتة نحو الاستسلام والتواطؤ العلني لتصفية القضية الفلسطينية والاعتراف بكيان الاحتلال و"التطبيع" المذل معه.

رسم هذا الطوفان الغاضب مداه الواسع في كل عواصم الدول الاستعمارية والداعمة او المشاركة في عمليات الانتقام الوحشي ضد سكان غزة خصوصا وامتداده الى مدن فلسطينية اخرى في الضفة الغربية المحتلة والقدس وحتى مدن احتلال عام 1948، اي عموم فلسطين المحتلة، ورفع شعارات له واضحة ومعبرة في الحرية لفلسطين وحق شعبها في التحرر الوطني والعودة لاهلها الى ديارهم دون مراوغة او مساومة وباشكال منوعة نهايتها توصل الى تصفية القضية الفلسطينية وهدر الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. واخذ الطوفان اشكاله المتنوعة، من التظاهر الواسع (بلغ في بعضها اكثر من مليون مشارك، في اوروبا والولايات الامريكية المتحدة وكذلك في بعض العواصم والمدن العربية) او الوقفات الاحتجاجية في مراكز المدن وساحاتها الرئيسة والمتضمنة لمقرات حكومية او مؤسسات رسمية للدول التي شاركت في العدوان الوحشي وانتهاك كل القوانين الدولية أو المعاهدات المتعلقة بحقوق الانسان والعدالة والقرارات والقيم الانسانية والمواثيق السياسية وبرامج او انظمة المؤسسات الدستورية والسياسية في تلك البلدان.  مما عكس حالات اخرى لفضح طبيعة الإمبريالية والصهيونية والممارسات العملية في إزدواجية المعايير الدولية والاقليمية وتهميش القيم الانسانية والاجتماعية والثقافية والانسلاخ من الالتزامات الموقعة عليها واللازمة التنفيذ والاحترام من الجميع، فكيف بتلك الدول التي صدرت فيها وادعت مواقف مؤيدة لها ومروجة لافكارها ومحاسبة لغيرها باسمها؟!.

اشترك في طوفان الغضب الشعبي في العالم بعض قيادات احزاب سياسية حاكمة (في ايرلندا، اسبانيا، بلجيكا مثلا) او حتى معارضة لحكوماتها (في ايطاليا، كندا، هولندا، بريطانيا مثلا)، في تلك الدول المشتركة في العدوان والجرائم النازشية، وكذلك من اليهود المعارضين للصهيونية (في الولايات

١

المتحدة الامريكية، مثلا)، وهو ما يميزها ويعطيها زخما اعلاميا ومساهمة إنسانية في الغضب الشعبي، وكذلك اعضاء برلمانات وطنية او اقليمية، (دول منفردة، او الاتحادات، كالاوروبي او الافريقي او مشابهاتها)، او شخصيات سياسية بارزة في بلدانها، عاكسة مواقف متميزة في التصدي لقوى العدوان ومطالبتها بوقفه فورا والامتثال للقوانين الدولية وقواعدها في الحروب والسلم والأمن الدوليين ومحاكمة المجرمين والداعمين لهم ومحاسبة الحكومات التي تصر على استمرار العدوان وتعميق معاناة الشعب الفلسطيني، وتضحياته الجسيمة، التي تلوّن دماؤها وجوه المندفعين  للعدوان والحرب على غزة وفلسطين عموما، ولم يرتدعوا من حجم الماساة التي تدور رحاها في غزة خصوصا، والتي تجري امام مرأى العالم كله، وموثقة بالصورة والصوت وبالنقل المباشر، بما تجاوز كل حدود قانونية او اخلاقية او انسانية عامة، وقدمت مثالا صارخا للتوحش والإجرام وانتهاك كل المعايير والقيم والقرارات والمواثيق  وما يتعلق بها. وفضحت من جهة اساسية، لا يعرف بهذا الوضوح، قبل معركة الطوفان، العقل الغربي الرسمي في فهمه القوانين والانظمة الداخلية للمنظمات والمؤسسات الرسمية المحلية والدولية، واساليب التعامل معها وطرق تنفيذها والزعم بوزنها ووثيقتها واهميتها، كما وضعت مؤسسات دولية كالامم المتحدة وتوابعها على المحك وبينت خيبة الامل منها ومن عناوينها وإدعاءاتها بالاستقلالية والعمل الانساني والعالمي وعدم التفريق بين الشعوب، لا باللون او الانتماء العرقي او الديني او الجنس او العمر او الحجم او الثروة او التركيب الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وغير ذلك. وكذلك كشف الطوفان تخاذل المنظمات الاقليمية كجامعة الدول العربية او رابطة التعاون الاسلامي وعرى اسس تاسيسها وطبيعة مسؤليتها ومسؤوليها وتشوه وجودها واستمرارها وفقدان الثقة والامل بمستقبلها.

ولاشك تجدر الاشارة هنا بدور الطوفان الشعبي واتساع غضبه في التاثير، المباشر او غيره، على سياسات بعض الحكومات الغربية التي ساهمت بالعدوان ودعم الكيان الصهيوني في كل جرائمه التي ارتكبها والتي لن تتقادم ولن يمسحها التاريخ ودائما يكلل فرسانها بالعار ومزبلة التاريخ، كما سجلها عن امثالهم وباقل المجازر والفضائح التي اقترفوها، ولكن المجزرة تبقى مجزرة والجريمة اسمها جريمة، ولن تمحى كوارثها، مهما غدر الغادرون او ساوم المساومون او تواطأ المذنبون او تخاذل الموهومون. ورغم ذلك فان الحكومات التي اسهمت باي شكل او مساهمة في العدوان والحرب والقتل والدمار والانتهاك والاجرام العنصري والهمجي والوحشي متصاعدا الى الابادة الجماعية، تظل تتحمل مسؤوليتها ودورها ومكانها التاريخي في ما حصل في غزة، وفلسطين عموما.

حكم التاريخ قاس كقسوة المجازر الوحشية، ولعل في طوفان الغضب الشعبي العالمي، وتنوعه وتعدد اشكاله، وتطوره واستمراره وتوسعه دائما سبيلا اخر او صورة اخرى لواقع البشرية وحقيقة الإنسانية التي تحاول القوى المهيمنة على القرارات الدولية والمرتهنة بروابط نازشية، عمليا وفكريا، تضليلها والراي العام بشتى الوسائل لادامة زخم ممارساتها الاجرامية وتهربها من مواجهة الحقيقة ومخاطبة التاريخ. وما قام به هذا الطوفان الشعبي يسجل له، ومثلما فاجأ طوفان الأقصى الجميع، فاجأ هذا طوفان الغضب ايضا، عاكسا الاحساس الانساني بوجوده وفعله وصموده بالضد من التوحش العنصري والمجازر الدموية والهدم الشامل والتخريب الهمجي، الذي تنقله صورة غزة اليوم.

كما عرى طوفان الغضب الشعبي في العالم جوهر الحكومات الغربية خصوصا وفضحها عندما اتخذت اجراءات تقييد للتظاهرات والمسيرات والشعارات ومنع رفع الاعلام الفلسطينية ولبس الكوفية او الزي الفلسطيني في بلدانها، على نحو غير قانوني ولا دستوري، مخالفة ابسط حقوق الانسان

٢

ومتناقضة مع زعمها بالالتزام او التوصيف بالنظم الديمقراطية، وكانت الاجراءات القمعية التي اتخذتها تلك الحكومات ادلة صارخة على طبيعة تلك الانظمة وخداعها وممارساتها في غسل الادمغة وكي الوعي الشعبي، وسجلت حالات مثيرة فعلا في بعض الدول في هذا الشان، ورد عليها طبعا الاحرار في تلك الانظمة والبلدان، كما حصل في داخل الاتحاد الاوروبي، (رمز التحضر الغربي)!، اذ انتقدت النائبة الايرلندية كلير دالي  في قاعة البرلمان الاوروبي اكثر من مرة، مواقف رئيسة المفوضية الأوروبية (الألمانية) اورسولا فون دير لاين التي  تؤيد العدوان الصهيوني، معرفة اياها ب"سيدة الابادة الجماعية"، ووصفت الاحتلال ب"نظام فصل عنصري وحشي"، واتهمت اعضاء البرلمان الاوروبي بدعم المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، وقالت: "ان الوضع تعدى كونه ابادة اسرائيلية لياخذ بصمة اوروبية ايضا". ومثل جرأتها خاطب برلمانيون وسياسيون في اكثر من عاصمة اوروبية حكوماتهم بتلك الروح النقدية الانسانية تضامنا مع غزة والشعب الفلسطيني ودعما لطوفان الغضب الشعبي العالمي والمطالبة بحرية شعب فلسطين وحق العودة وهدف الاستقلال ووقف العدوان فورا والمساهمة في اعمار غزة ومحاكمة كل المجرمين الذين قاموا بتلك المجازر والابادة وانتهاك كل القوانين والقواعد العالمية.

***

كاظم الموسوي

 

بقلم: ويندي بيرلمان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن استراتيجية إسرائيل البعيدة المتمثلة في تجاهل الغليان والواقع المعيشى لملايين الرجال والنساء والأطفال قد اتخذت أبعادا جديدة خطيرة ومرعبة.

في يناير/كانون الثاني، عندما اتخذ المحامون الإسرائيليون موقفهم في محكمة العدل الدولية ردًا على قضية جنوب إفريقيا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، قام أحد مستخدمي تطبيق "تيك توك" الفلسطيني الأمريكي ببث مباشر لتتبع كل مرة ذكر فيها الوفد الإسرائيلى حماس. لقد أحصى 137 مرة في الجلسة التي استغرقت ثلاث ساعات، أو مرة واحدة على الأقل  في الدقيقة.

وكان الرد، المكتمل بالسخرية من النطق الإسرائيلي المميز لحماس، بمثابة كوميديا لاذعة وإشارة إلى وجود نقطة عمياء خطيرة.

عندما يتحدث الممثلون الإسرائيليون عن الفلسطينيين، فإنهم غالبا ما يستخدمون لغة مهينة للإنسانية إلى حد مخيف، كما يوثق الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية. وفي كثير من الأحيان، لا ترى إسرائيل المجتمع الفلسطيني على الإطلاق. لقد قام القادة الإسرائيليون والخطاب الغربي بشكل عام منذ فترة طويلة باختزال النضال الوطني الفلسطيني في قادة أو فصائل محددة. ومن هذا المنظور، فإن الفلسطينيين ليسوا أكثر من مجرد دمى يحركها هؤلاء القادة، أو دروع بشرية يختبئون خلفها، أو - كما تظهر الدعوات الحالية لإخلاء مدينة رفح جنوب غزة - أهداف يجب على إسرائيل إزالتها كجزء من الغزو.

إن هذا الانشغال بمن تعتبرهم إسرائيل قادة فلسطينيين عديمي الضمير ورفضها رؤية إرادة وتطلعات وواقع الملايين من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين له نتيجة طبيعية سياسية: فإذا تمكنت إسرائيل من القضاء على المنظمات السياسية الرائدة، أو ربما استمالتها أو إنشاء منظمات جديدة، فإن "مشكلتها" الفلسطينية سوف تُحل.

إن عدم الاعتراف بالمجتمع الفلسطيني له تاريخ طويل. تعهد وعد بلفور الصادر في عام 1917 عن بريطانيا العظمى بتسهيل إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، مضيفًا أنها ستفعل ذلك دون المساس بالحقوق المدنية والدينية لسكان فلسطين غير اليهود. لم يكن التعهد جريئًا فحسب، بل كشف أيضًا كيف تنظر الحركة الصهيونية وقوى الدولة في أوروبا إلى 90٪ من السكان العرب المسلمين والمسيحيين. فلم يكونوا  فى نظرهم شعبًا يتمتع بحقوق سياسية، بل كانوا يمثلون عقبة كئود على الطريق نحو إقامة الدولة اليهودية.3516 لوحة القدس

واستمرت نفس وجهة النظر خلال الحكم الاستعماري البريطاني. قادت العائلات العربية الفلسطينية البارزة تقليديًا الحركة ضد الصهيونية في البداية. ومع ترسخ دولة يهودية أولية، انتقد جيل جديد من الناشطين نزعة النخب المحافظة ودعوا إلى استراتيجيات أكثر جرأة. واستشهد البعض بمثال غاندي وحثوا على العصيان المدني. ودعا آخرون إلى المواجهة العسكرية. لقد تحول الزخم السياسي للنضال الفلسطيني من "من أعلى إلى أسفل" إلى "من أسفل إلى أعلى".

في عام 1936، أعلن النشطاء الفلسطينيون المحليون إضرابًا عامًا للضغط على بريطانيا لمنع الهجرة اليهودية وحيازة الأراضي ومنح فلسطين الاستقلال. وشاركت قطاعات واسعة من المجتمع في المظاهرات وإضرابات العمل والمقاطعة. أثارت الموجة الشعبية ستة أشهر من التعبئة الخالية من العنف  في جميع أنحاء البلاد ثم أدت أيضًا إلى تمرد مسلح.

واتهم المعلقون آنذاك ومنذ ذلك الحين مفتي القدس أمين الحسيني بتدبير الثورة. ومع ذلك، فإن التركيز بشكل مفرط على زعيم معين يمنح دوره الكثير من القوة والمجتمع الفلسطيني أقل مما ينبغي. ولم يكن التحريض على الاحتجاج ناجماً عن النخب الفلسطينية فحسب، بل عن السخط الشعبي من فشل هذه النخب في حماية المصالح الوطنية الفلسطينية. ومن خلال استهداف القادة الفلسطينيين، رفضت السلطات البريطانية في ذلك الوقت ـ كما هي الحال مع بعض السلطات اليوم ـ أن تتقبل حقيقة مفادها أن القوة الدافعة وراء نضال الفلسطينيين كانت رفضهم أن يصبحوا غرباء على أرضهم.

وأدت حرب 1948 إلى قيام دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية وتهجير أكثر من نصف السكان الفلسطينيين قسراً. وفي العقود التالية، شكل اللاجئون الشباب مجموعات سياسية وجماعات حرب عصابات مقتنعة بأن الفلسطينيين يجب أن يقودوا كفاحهم بانفسهم من أجل التحرير. وقد عززت هذه النهضة الوطنية مرة أخرى القاعدة الشعبية، وعززت ما أصبح يسمى فيما بعد منظمة التحرير الفلسطينية. لقد جاءت قوة منظمة التحرير الفلسطينية، المتجذرة في مجتمعات اللاجئين في المنفى، من الفلسطينيين من جميع مناحي الحياة الذين انضموا إليها واعترفوا بها كممثل شرعي وحيد لهم قبل سنوات من تأسيس الأمم المتحدة.

وبعد أن احتلت إسرائيل الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية في حرب عام 1967، قامت بشيطنة منظمة التحرير الفلسطينية وحاولت استمالة النخب المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان المنطق هو عزل القادة "السيئين" وتمكين القادة "الصالحين" على أمل أن يستسلم السكان للسيطرة الإسرائيلية. وأجرت إسرائيل انتخابات المجالس البلدية في الضفة الغربية عام 1976، معتقدة أن الشخصيات المتعاونة مع الاحتلال هي التي ستفوز. وكانت المفاجأة أن المرشحين المؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية سجلوا انتصارات ساحقة في كل بلدية تقريبًا.

وبينما عمل رؤساء البلديات القوميون ونشطاء المجتمع المدني معًا للضغط من أجل الاستقلال الفلسطيني، حاولت إسرائيل قمع الاحتجاجات من خلال حظر تنظيمهم الائتلافي وترحيل أو إقالة بعض رؤساء البلديات. وكشفت سلطات الاحتلال بعد ذلك عما أسمته "روابط القرى"، في محاولة لإضفاء الطابع الرسمي على شبكتها من المتعاونين الفلسطينيين كقيادة بديلة. وقد قوبلت هذه الخطة بازدراء واسع النطاق من الجمهور الفلسطيني وفشلت. إن فكرة قدرة إسرائيل على القضاء على القيادة الفلسطينية التي انبثقت عضوياً من المجتمع، وفرض المتعاونين معها، وبالتالي إسكات المعارضة للحكومة الإسرائيلية، تبين أنها مجرد خيال سخيف.

وبدلاً من ذلك، انضم الناس في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بشكل متزايد إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن الحزب الشيوعي ومجموعة من المشاريع التطوعية ذات التوجه الوطني، والمجموعات النسائية والطلابية، والجمعيات والنقابات المهنية. وقد بنى النشاط الشعبي الواسع النطاق بنية تحتية شاملة للمقاومة الشعبية. عندما أثارت جريمة قتل على جانب الطريق الاضطرابات في عام 1987،كان لدى المجتمع الفلسطيني القدرة التنظيمية لشن انتفاضة غير مسلحة واسعة النطاق: الانتفاضة. عبر القرى والبلدات ومخيمات اللاجئين، قامت مئات اللجان المحلية بتنظيم الناس من مختلف الطبقات والأجناس والأديان والأعمار في أشكال متعددة من الاحتجاج والعصيان المدني.

كانت الانتفاضة (أو الانتفاضة الأولى، كما ستُعرف فيما بعد) بمثابة ثورة شعبية جوهرية. واتهمت إسرائيل قادة منظمة التحرير الفلسطينية بتنظيم الانتفاضة من قاعدتهم في تونس. وكان ذلك مثيراً للضحك بالنسبة للمشاركين في الانتفاضة، حيث أشار أحدهم إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية سمعت عن الانتفاضة "في نفس الوقت الذي سمعت فيه زيمبابوي".

لقد دفعت الانتفاضة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية نحو المفاوضات، وتم الإعلان عن عملية أوسلو للسلام في عام 1993. وسواء كان ذلك بدافع الأمل أو الإرهاق، فقد رحب أغلب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة باتفاقات أوسلو بتفاؤل. ومع ذلك، فإن السنوات السبع التالية من المحادثات خيبت آمال الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، وفشلت في التوصل إلى الاتفاق النهائي الموعود. وفي سبتمبر/أيلول 2000، اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى، واشتدت حدتها في مواجهة القمع العسكري الإسرائيلي، وتحولت إلى الانتفاضة الثانية.

وكان الدافع وراء الثورة الجديدة هو فقدان الفلسطينيين الثقة في أن المفاوضات سوف تسفر عن دولة ذات سيادة حقيقية، فضلاً عن إحباطهم إزاء السلطة الفلسطينية التي أنشأتها أوسلو. هناك أدلة كثيرة، بما في ذلك بحثي الخاص، تشير إلى أن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات لم يكن هو من أطلق الانتفاضة، ولم يقودها أو يقمعها. وفي الواقع، أعرب الفلسطينيون عن أسفهم لغياب أي قيادة للسلطة الفلسطينية على الإطلاق. ومع ذلك فإن إسرائيل وأنصارها كانوا ينظرون إلى عرفات باعتباره العقل المدبر الذي يحرك خيوط الانتفاضة. وأعلن إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، أن "موجة العنف هذه فُرضت علينا بإرادة عرفات". أطلق كتاب الأعمدة الأمريكية على الانتفاضة الثانية اسم "حرب عرفات" أو "استراتيجية عرفات". ولم يكونوا قادرين أو غير راغبين في رؤية - أو تجاهلوا عمدا - أن محرك الحركة الفلسطينية، كما هو الحال دائما، كان رغبة شعبها في أن يكون حرا.

ومنذ ذلك الوقت، ظل المجتمع الفلسطيني، وليس قادة أو فصائل معينة، هو شريان الحياة لتلك الحركة. في ربيع عام 2018، شارك عشرات الآلاف من الأشخاص في “مسيرة العودة الكبرى”، وهي حملة من المظاهرات غير المسلحة عند الجدار الذي يفصل قطاع غزة عن إسرائيل. وهذه المرة جاءت مطالبة الفلسطينيين بالكرامة في سياق ثلاث حروب مدمرة والحصار الإسرائيلي الصارم الذي أدى إلى توليد الفقر المدقع، والنقص الحاد في الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، والبحر الملوث بمياه الصرف الصحي، والظروف التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "غير صالحة للعيش".ودعا المشاركون إلى إنهاء الحصار وحقهم في العودة، وهو حق أصيل وحقيقى  لأن حوالي 80٪ من الفلسطينيين في غزة هم من اللاجئين أو أحفادهم.

وكما حدث في الأعوام 1936 و1987 و2000، كان الشباب والمنظمون المحليون هم من أخذوا زمام المبادرة لتوجيه التوق إلى التغيير - وليس منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية أو حماس، التي سيطرت على قطاع غزة في عام 2007 بعد فوزها في الانتخابات التشريعية للسلطة الفلسطينية. في عام 2006. انضمت حماس إلى المسيرة بعد انطلاقتها، كما فعلت جماعات أخرى في غزة، لكنها لم تبدأ الاحتجاج ولم تقوده. ومن المميز أن منتقدي حماس في إسرائيل والغرب ألقوا اللوم عليها على أي حال. بينما تقوم إسرائيل بقتل وتشويه المتظاهرين الفلسطينيين والصحفيين والمسعفين، ادعى متحدث باسم الجيش أنه “للأسف، منظمة حماس الإرهابية تعرض المدنيين للخطر بشكل متعمد ومنهجي”. ثم اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حماس بالتحريض على العنف واستخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، من الواضح أن الواقع الذي يسيطر على المجتمع الفلسطيني لم يكن احتجاجًا جماهيريًا، بل مذبحة جماعية. ومع ذلك، فإن الاتجاه التاريخي لإسرائيل والدول الأخرى لعدم رؤية المجتمع الفلسطيني استمر واتخذ أبعادًا جديدة مروعة. تنظر إسرائيل إلى 2.2 مليون شخص في غزة ولا ترى سوى حماس أو الأشياء التي تستخدمها حماس. إن الملاحظات الافتتاحية للمحامين الإسرائيليين في محكمة العدل الدولية مفيدة هنا:

تهدف [جنوب أفريقيا] إلى وصف الواقع في غزة. ولكن يبدو الأمر كما لو أن حماس... ببساطة لم تكن موجودة كسبب مباشر لهذا الواقع. ... [وفقاً لرواية جنوب أفريقيا، فقد اختفوا عملياً. لا توجد متفجرات في المساجد والمدارس ومهاجع الأطفال، ولا سيارات إسعاف تستخدم لنقل المقاتلين، ولا أنفاق أو مراكز إرهابية تحت مواقع حساسة، ولا مقاتلون يرتدون زي مدني، ولا سيطرة على شاحنات المساعدات، ولا إطلاق للنار من منازل المدنيين، ومنشآت الأمم المتحدة ومكاتب الأمم المتحدة. وحتى المناطق الآمنة. لا يوجد سوى إسرائيل التي تعمل في غزة.

وبطبيعة الحال، ناقشت شهادة جنوب أفريقيا حماس (إذا كان ذلك أقل من 137 مرة). ولكن ليس ذلك المقصود. ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن الفاعل الوحيد في غزة هو حماس. وإذا لم تكن حماس هي الفاعل الوحيد، فإن الفاعل البديل يجب أن يكون إسرائيل. وفي كلتا الروايتين، يختفي الشعب الفلسطيني.

وفي هذا الهجوم، الذي يعتبره مئات الخبراء إبادة جماعية، قد يكون الهدف هو محو الشعب الفلسطيني من الوجود. تقوم إسرائيل بتجويع الأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين وتقصفهم وتطلق النار عليهم وتهينهم، وتحرمهم من الماء والرعاية الصحية والمأوى والقليل من اللياقة الإنسانية. ففي أقل من خمسة أشهر، قامت إسرائيل بتهجير 85% من سكان غزة قسراً، وحشرت نحو 1.4 مليون شخص في المحافظة الواقعة في أقصى جنوب البلاد والتي تخطط الآن "لإجلائهم" قبل شن هجوم على المنطقة. ومع ذلك، فإن إنسانية المدنيين وقوتهم تظهر في كل لحظة من لحظات البقاء، على الرغم من الصعاب. إن المجتمع الفلسطيني – أطباءه المضطهدين، وصحفييه الأبطال، وأطفاله الأيتام، وآبائهم المكلومين، وسجنائه المعذبين، ومبتورى الأطراف الذين يعالجون دون تخدير، وغيرهم الكثير – هو قلب قصة هذه المذبحة، فضلاً عن هدفها الرئيسي.

لقد كان عدم الاعتراف بالفلسطينيين كشعب حقيقة اجتماعية واستراتيجية سياسية لأكثر من قرن من الزمان. هذا هو السياق الأوسع الذي تساوي فيه إسرائيل بين غزة وحماس وتزعم أن غزة سوف تصمت بمجرد جلب قيادة أكثر مرونة لحكمها. هذا هو السياق الذي تزعم فيه الولايات المتحدة أن الاتفاق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية يمكن أن يحل القضية الفلسطينية.

وهذا هو السياق الذي غالباً ما يهمل فيه القادة الفلسطينيون أنفسهم المجتمع الفلسطيني أيضاً. لقد مرت سبعة عشر عاماً على الانتخابات الوطنية الأخيرة للسلطة الفلسطينية. وتشير الدراسات الاستقصائية منذ فترة طويلة إلى أن الفلسطينيين ينظرون إلى حكوماتهم – السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح في الضفة الغربية وحماس في غزة – على أنها استبدادية وقمعية وفاسدة. وبغض النظر عن ذلك، فقد أبدت إسرائيل استعدادها للعمل مع كلا الطرفين الفلسطينيين، طالما أنهما يحافظان على أمن إسرائيل. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية المتمثلة في السعي إلى التوصل إلى تسوية مؤقتة مع زعماء فلسطينيين بعينهم، مع إهمال احتياجات الشعب الفلسطيني وتطلعاته، أنه لأمر  كارثي  على الجميع.

لسنوات أو عقود من الزمن، غالبًا ما ينسى العالم أن الشعب الفلسطيني موجود وأنه يفعل ذلك في ظل ظروف قاسية من القمع والسلب. ويبدو أنها لا تتذكر الفلسطينيين إلا خلال التصعيد الدوري للعنف، عندما يتحول الاهتمام إلى إدانة المنظمات والقادة السياسيين الفلسطينيين. وتبدأ الدورة من جديد.

***

........................

الكاتبة: ويندي بيرلمان/Wendy Pearlman: ويندي بيرلمان هي أستاذة العلوم السياسية ومديرة برنامج دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة نورث وسترن. تشمل كتبها "العنف واللاعنف والحركة الوطنية الفلسطينية" (2011) و"الإكراه الثلاثي: استهداف إسرائيل للدول التي تستضيف جهات فاعلة غير حكومية" (2018).

رابط المقال على: New Lines magazine   بتاريخ 24 فبراير 2024م

https://newlinesmag.com/argument/the-erasure-of-palestinian-society/

كانُ اليهودُ يعيشون في بلدانِنا العربِيَّةِ والاسلامِيَّةِ مُعَزَزِينَ مُكَرَمينَ، لايتعرضُ لهم أَيُّ شخصٍ بأذى، ولم تكن عندنا محاكِمُ تَفتيشٍ تُحاكِمُ على النوايا، كما حدثَ في اسبانيا مع اليهود والمسلمينَ.لم يتعرض اليهود عندنا الى ابادةٍ في معسكراتِ الاعتقال  النازِيَّةِ، ولم تكنْ هناكَ محارقُ ولامذابحُ، بل عاشَ اليهودُ بينَنا في أَمنٍ وسلامٍ .

اليهودُ تعرضوا للاضطهادِ والقتل والطرد من البلدان وحملات الكراهية في أُوربا . ومن يقرأ مسرحية "تاجرُ البُنْدَقِيَّةِ" لشكسبير، وشخصية شايلوك المرابي اليهودي يعرف مزاج الشعوب الأوربيَّةِ تجاه اليهود.

كانَ اليهودُ يُشَكِّلونَ مُشكَلَةً في البلادِ الاوربيَّة. كان دورُهُم دوراً وطيفِيّاً، كما يقولُ المُفَكِّرُ المِصرِيُّ "عبدالوهاب المسيري"، دور المرابي الذي يقرض الناس الاموال بفوائد فاحشة. ولما انتهى هذا الدور بظهورِ البنوك والمصارف الاوربية، فكَّروا أنْ  يجدوا لهم دوراً وظِيفِيّاً آخرَ من خلال اقامةِ دولة لهم لتؤدي هذه الدولَةُ دوراً وطيفيّاً آخرَ كما يقول المسيري، وهذا الدور هو ان تكون دولة اسرائيل ذراعاً وطيفيّاً للدول الاستعماريَّة.

اليهود عاشوا في بلدانِنا كأقلِيّات ولم تكن هناك مشكلة. ليس كلُّ الأقليات عليها أنْ تقيمَ دولَةً لها. هناكَ أَقَلِيّاتٌ كثيرةٌ في العالَمِ موجودة ضمن مُكَوِّناتِ الدُوَلِ الأخرى، واذا فتحنا المجال لكل الاقليات بأن تقيمَ دُوَلاً فانَّنا بذلك نقومُ بتفكيكِ العالَم.

الأوربيُّونَ لما تخلصُوا من المُشْكِلَةِ اليهوديَّةِ هل هم -فعلاً- قاموا بحلٍ جَذرِيٍّ للمُشكِلَةِ، أم أنّهم خلقوا مشكلاتٍ لليهودِ ولدول المنطقةِ، فزادوا المسألَةَ تعقيداً، فاسرائيل منذُ تأسيسِها عام 1948م حتى اليوم، هي كيانٌ لاينعم بالاستقرار؛ لانَّها  وجودٌ غيرُ طبيعيٍّ في المنطَقة. انَّ خلقَ كيان اسرائيل أضافَ الى المنطقة عاملَ توترٍ وعدم استقرار وفجَّرَ صراعاتٍ كثيرةً في المنطقة. وهذا الرأي يشاركنا فيه اليهودُ المعارضون لدولةِ اسرائيل، فحركة "ناطوري كارتا" والتي تعني "حراس المدينة"، وهذه الحركةُ هي حركةٌ يهوديَّةٌ ترفضُ الصهيونِيَّةَ بكلِّ أشكالِها وتعارض وجود كيان باسم دولة اسرائيل. وجود اسرائيل الذي اسس على اساطير ومقولات توراتيّةٍ كما يرى روجيه غارودي في كتابه " الاساطير المؤسسة لدولة اسرائيل" . وهذه الحركة لاتؤمن بقيام دولة لليهود قبل خروج المسيح.

الاوربيونَ حينما تخلصوا من المشكلة اليهوديَّةِ، فكروا بانفسهم ومصالحهم، ولكن لم يفكِّروا باليهود انفسهم، واستقرارهم، وسلامة وجودهم، ولم يفكِّروا باستقرار المنطقة الحيويَّةِ حتى بالنسبة لهم ولمصالحهم. كيان اسرائيل وفق المعطيات والحساباتِ الدقيقةِ غير قابل  للديمومة ؛ لانَّهُ كيانٌ غير طبيعي؛ كيانٌ ليس فيه مُقَوِّماتُ الدَّولَةِ من ارض ؛ لان الارض ليست أرضه، ارضٌ اغتصبت بالقُّوَةِ، وليس لديه شعب، بل هم تجمعات من شعوب مختلفة، كيان غريبٌ عن المنطقةِ واهلها، فكيفَ يبقى؟ انه يقف اليوم بالدعم الهائل بالمال والسلاح  والهجرة .

***

زعيم الخيرالله

أشعر شعوراً جلياً بأن كل أزمات السودان، وعقباته الكبرى التي تمس صميم وحدته، يمكن أن ننعيها، ونهيل عليها التراب، إذا انخرطت كل أطيافه ومجموعاته الاثنية المتعددة في قالب معروف، فمشاكل السودان على اختلاف درجاتها وتعقيداتها، ليست أدق من أن نفهمها، أو أشد غموضاً من أن نظهر عليها، فهي واضحة بينة، ولست أشك أنها رغم صورها المختلطة، وتفصيلاتها المتصلة، سهلة يسيرة، ليست خاضعة للاستحالة والانتقال من طور إلى طور، وإذا كانت أطر المقال وحدوده، تمنعني من أن أسرف في استقصاء التاريخ، فإن الحقيقة التي يجب عليّ قولها غير حافل بالرضا والسخط، أن التاريخ أكبر الظن قد عرضنا نحن في "بلاد النيلين" لكل  هذه المحن القاسية، والخطوب المتدافعة، فالتاريخ هو الذي جعلنا نتعثر في حياتنا السياسية، وهو الذي جعل طابع حياتنا يتسم بالحدة والعنف، وهو أيضاً الذي جعل مشاكلنا على وجه الخصوص هي التي نحوطها بالرعاية والعناية، فمشاكلنا وحدها هي التي نتخذ في سعينا لها أبعد الطرق، وأشدها التواء، وأفدحها عاقبة، وحتى لا أتحدث حديثاً لا طائل منه، ولا غناء فيه، ينبغي أن أعمد إلى الأدلة التي سأكون شديد الاقتصاد في ذكرها، فالذي أراه، أن "روح الخلاف" السائدة فينا، والتي نحتاج أن نستغرق كل أعمارنا حتى نفهم دقائقها، ونحيط بجوانبها، قد أورثتنا من العلل والأسقام ما لا يخفى على الأذهان، هذه "الروح" التي تثب مسرعة نحو الصراع وتهيم به، وتصفق له، قد أخذت تطوف أقطار هذه البلاد تطلب هواها في شدة والحاح، حتى أمست كل أمصارنا عنوانها الصراع، والتشرذم، فنحن إذا أردنا توصيف طابع حياتنا الاجتماعية، بما فيه من خير أو شر، في عبارات مقتضبة، لما وسعنا إلا نقول من غير عناء، ولا كد ذهن، أو تشحيذ خاطر، أن مجتمعنا قد أخذ من الصراعات بحظوظ متساوية، وأن حقائق الحياة فيه، والمألوف عنه، أن شبابه  وكهوله وشيوخه، قد أظهروا الميل لأن يجتمعوا في زمان ما، وفي مكان ما، بعد أن طافت بهم أيام قاسية، وحلّ بهم هذا الشقاء الذي حلّ بغيرهم من قاطني هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف، الشقاء المضني الذي ليس إلى دفعه من سبيل، ضرب لهم جميعا موعداً واحداً، وقادهم إلى نتيجة واحدة، وهي ألا تذعن أطيافهم لأحداث الزمان، وأن تمعن في هذه التجارة المنكرة التي تحملهم من بيئة إلى بيئة، ومن ولاية إلى ولاية، وأن يتخاطبوا جميعاً بهذه اللغة التي يطربون لها، ويفهمونها جميعاً، لغة السلاح، تلك اللغة التي تلعب المؤثرات الخارجية دوراً مهماً في انتشارها والحفاظ عليها، ولغة السلاح التي لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيء ردئ، يتهافت عليها السواد الأعظم من نسيجنا الاجتماعي، عدا الشمال والوسط، ولعل العلة في ذلك تطور الادراك الاجتماعي في هذه المناطق، وعدم مبالاتهم أأنصفهم الناس أم غبنوهم،  وحتى نجمل القول، نقول أن لغة السلاح، هي اللغة التي يتحرف لها كل إنسان يتطلع أن ينال من نعيم الحياة، ومن طيب العيش ورغده، إذاً السعي إلى الحرب، والحرص عليها، تدل دلالة واضحة قوية، على مزايا هذه "الروح" التي لا تعرف المصانعة والمداهنة والملق، نزعات هذه "الروح" وخصائصها الساذجة المتأصلة فيها، تختصر خبايا هذه "الروح" اختصاراً شديداً، وتبرهن بجلاء أن شعورها "بالغبن والتهميش" هو الذي ينتهي بها دائماً إلى سعيها اللاغب في مضمار البؤس والمعاناة.

التاريخ أزرى بمجتمعنا هذا، هذا هو الرأي الذي يجب أن نتماثل، ونتقارب، ونتآلف حوله، التاريخ هو الذي اضطرنا أن نرافق على كره منا، مشاعر متنافرة، لا تتوادد، ولا تجتمع، ولا تملك نفسها في أن توغل في الخصومة بغير حساب، "التاريخ ونظامنا الاجتماعي والسياسي"، هم من جعلوا حظنا من الفقر والجدب، والنزاع، وافياً كافيا، ونحن في الحق نتعجل أن نضع حداً لكل هذا البؤس، وهذه المعاناة، فكل المؤشرات توحي بعد هذه "الكريهة الشنيعة" التي ما زالت مستعرة في العاصمة وفي غرب ووسط البلاد، أن السودان ماض نحو التفرقة، والتفتت، ما لم يقم كينونته على حب عنيف شفيف، ولكي لا تتبعثر جزئيات هذه الديار، يجب أن نطهر دواخلنا من دنس التاريخ، وأن نرعى أصول ومناهج وحدتنا القومية، وأن ندير ملكة التفكير التي لا نكاد نصل إليها، التفكير الذي لا نجهده ونشقيه إلا في حياتنا المالية، وأعمالنا الصناعية، والتجارية على قلتها، علينا أن نفكر ونحسن التفكير، في كيف تمضي مسيرتنا في قوة، وصدق، واخلاص، ومحبة، و كيف نصفي أفئدتنا مما يخالطها ويعتورها، كيف نترك الخمود، والجمود، ونسير بهذا الوطن المثقل بالجراح في غير أناة نحو الرقي والتطور، ينقصنا الحب أيها السادة، وقد نظفر به إذا صدقنا في عزمنا، نحن فعلا في حاجة لأن نحيط بناصية الحب وننزلها على حكمنا، وأن نترك هذا التباغض، وهذا الاسراف في الحديث عن الأعراق، فأعراقنا مختلفة متباينة، ولا رابط لها غير خصيصة لوننا، فنحن سود عرباً كنا أم أفارقة، الحديث عن الأعراق يعوقنا عن الحركة، ويجعل وتيرة تقدمنا لا تمضي إلا في بطء وأناة، كما يقول أديب مصر، خريج جامعة السوربون، فمن الخير أن نكف عن هذه الأحاديث العجفاء، وأن نحظى بحياة عقلية محضة، لا أثر فيها لجاهلية ما قبل الإسلام، فصلتنا بتفاصيل تلك الحياة الشائهة المضطربة ما زالت قوية خصبة رغم تباعد القرون.

ما أخشاه أن تتقوس قناتنا من الهرم، إذا قيض الله لنا أن تمضي مسيرتنا في هذه الحياة، قبل أن نظفر بحياة هادئة وادعة، نتفوق فيها في الطب والعلوم، العلوم التي تنشط العقول وتحملها على التفكير، ما زال صوتها خافتاً فاتر، وأنى لصوتها أن يعلو ويرتفع مع صخب هذه الحروب التي كلفتنا من العنت ما نطيق وما لا نطيق، أتمنى بعد أن نطوي صفحة الحرب، أن نناضل في سبيل تحقيق هذه الآمال العريضة، فأنا على الصعيد الشخصي ما أتمناه أن نحوز على المراتب العليا في كل شيء، وأن يكون قطرنا صاحب النشاط الدائب في الآداب والفنون، وفي التعايش السلمي والحكم الرشيد، ولكن لعمري لن يحدث شيئاً من هذا، إذا ما زلنا مستمسكين "بارث الانجليز"، فمن هنا نعلم، أن خصوماتنا العنيفة المحرجة والممضة، سببها السياسة التي رسمها المحتل قبل أكثر من قرن، وما زلنا نتبعها، ونؤيدها، ونسرف في تأييدها، معظم ما واجهنا من مشقة وعسر، وما جابهناه من جدال ونضال، تسببت فيه"بريطانيا" بمكرها وخبثها، فهي كانت لا تسعى إلا لتحقيق منفعتها الخاصة، لأجل ذلك كانت تئد أي مظهر يعمق من وشائج مكوناتنا الاجتماعية، أو يثري من عواطفنا القومية، بعد أن هال هذه الدولة التي تكره الشعوب على ما لا تريد، انصهار هذه القبائل المختلفة، والسحن المتباينة، وذوبانها في بوتقة"المهدية" ونصرتها لهذه الدعوة التي كلفتها الكثير، لقد أيقنت المملكة التي كانت لا تغيب عنها الشمس، أنها لن تقدر أن تحقق منافعها وآمالها من هذا القطر، إلا إذا أخضعته لنظم وقوانين "التصنيف والتفضيل"، فليس من باب الصدفة المحضة أن يتاح لوناً من ألوان الحياة الاجتماعية على منطقة جغرافية بعينها، ويحرم هذا اللون على منطقة أخرى، وأن يقصى اقليم وتقيد حركته بالأغلال والكوابل، ويترك غيره شديد الحركة، متصل النشاط، لقد افضت هذه السياسة المقيتة لانفصال الجنوب، ونخشى أن تحذو دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق حذواً لا نرضاه أو نقبله، وحتى نريح أنفسنا من اللوم المتصل لسياسة المحتل البغيض، نقول أنه من السهولة بمكان أن ندير ظهرنا لهذه السياسة، وأن نشفى من ويلاتها، وأن نتعافى من عقابليها، إذا سعينا لتحقيق منفعة سياسية خاصة تتمثل في "تدوير الحكم"، فقد طال به المقام في شمال السودان، آن الأوان لأحزابنا الحرة النزيهة، أن تلتقي، وتتحدث، وتختار" الحاكم المدني" الذي يملأ يديه بما ينفع الناس، وأتمنى صادقاً أن يتجافى الشمال عن الاستحواذ على هذا المنصب، وأن تتفق هذه الأحزاب على معاهدات الصلح بين القبائل ونظم السلام، حينها فقط يعود إلى السودان نشاطه، ويعود إليه شبابه، ونحس من انجلترا هذا الألم اللاذع الذي يجعلها منكسرة القلب، كاسفة البال.

***

د. الطيب النقر

 

أيسر ما يمكن أن يقال في السودان، أن أصول الحكم فيه مستقرة، ممعنة في الاستقرار، فكل القرارات التي تتخذ، والنظم التي توضع، والحكومات التي تتبدل، تعود إلى طائفة محددة بعينها، والشيء الذي ليس فيه شك، هو أن معظم المكونات الاجتماعية على اختلافها، لا ترضى عن هيمنة هذه الطائفة، أو تقنع بها، أو ترضخ لها، ولست محتاجاً أن أفصل هذا الرفض، أو أطيل القول فيه، فإن معالمه واضحة ظاهرة، فهيمنة الشمال الذي لم يراعي تنوع الأمزجة واختلافها، على كل مفاصل الدولة، قد شغلت الأقاليم الأخرى، وازدادت عنايتها بها، وباتت هذه الأقاليم تفكر فيها تفكيراً متصلاً، وليس أدل من هذا الاهتمام بقضايا الحكم، غير هذه الحياة العنيفة التي نعيشها الآن، فنحن نرى أن هذا" الاهتمام" قد انتهى بنا في هذه الأيام الحالكة إلى عنف لم نعرفه من قبل، ويبدو جلياً أن بعض الأقاليم قد ثقل علىها الانتظار، وأكبر الظن أن "ملال" هذه الأقاليم، ويأسها، وقنوطها، من أن يطرح الشمال هذه الألوان السياسية المتباينة، التي تمكن غيره من أن يقف على هرم السلطة، هو الذي أدى إلى هذه التطورات الخطيرة التي قادت بعض الأقاليم لأن تستقل بنفسها، وتنأى عن الشمال، وعن احتكاره للسلطة، والشمال الذي يصارعه خصومه في التنظيمات،  ويصارعه خصومه في الندوات، ويصارعه خصومه في الصحف والمجلات، ويصارعه خصومه في البرلمانات والمؤسسات، ويصارعوه أيضاً في ساحات الوغى بالحركات المسلحة والتشكيلات، هو الذي بلغ من الإجادة ببعض ضروب العلم حظاً عظيما، فدراية الشمال هي الأدق، والأوسع، والأعمق، بشؤون الحكم وغيرها من العلوم والمعارف،  ولست أدري هل احاطة الشمال ومعرفته، هي التي دفعته لأن يظهر هذا التشبث، وهذا الكلف بصولجان الحكم، أم أن هذا الحرص نابعاً من ضيقه بسيادة غرب السودان عليه، وبحكامه الذين أزروا به، وجنو عليه في عهد الخليفة التعايشي، أنا أتحدث إليكم بما يخطر لي، فأنا اعتقد جازماً أن التاريخ قد جعل الشمال يحفل كثيراً بالحياة السياسية، وبالنظام السياسي،  وأن هذا الحرص، والجشع، والشره بالسطوة والقياد سببه التاريخ،  فالغرب والشمال متشاكسين أشد التشاكس وأقواه،  والحرب التي تدور رحاها الآن تؤكد ما ذهبنا إليه من زعم، تاريخنا الحافل بالموبقات وبالدماء والأشلاء، هو الذي دفع الشمال لأن يضطرب اضطراباً شديداً، ويغلى غلياناً متصلا، ويضيق بالسلطان، ويتمرد على النظام، إذا لم ينهض فرداً من أفراده بأعباء الحكم، لهذا ولغيره من أسباب تظل عزيمة الشمال للاستحواذ على السلطة لا تعرف ضعفاً ولا فتورا.

وفي الحق أن الشمال كان خليقاً أن يحكم، وأن يقود، وأن يبلغ ما قدر له من كمال، بعد أن توطدت صلاته بالحياة العقلية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، وكان من أكثر أقاليم السودان استيقاظاً، وإسراعاً إلى العلم والرقي، ساعده على ذلك قربه من مناطق الوهج المعرفي، ودرايته الوثيقة باللغة العربية التي لا يحتاج أن يتعلمها، أو يعكف على نفسه حتى يتقنها، وتمكن الشمال من ناصية اللغة العربية التي تتحدثها الكثير من مكوناته سليقة، هي التي مكنته لأن يكون أفصح الناس باللسان حديثاً، وأجرأهم بالقلم يداً، وأسرعهم إلى المعاني نفساً، وأخصبهم بالخواطر ذهناً، كما يقول أديب العربية الضرير الدكتور طه حسين.

والشمال الذي يسر اللغة العربية تيسيرا لافتاً، ومكّن قبائل السودان المتنوعة على فهمها واستيعابها، قد ترضى عنه هذه القبائل، أو لا ترضى عنه، لأنه جعل اللغة العربية، والثقافة العربية، هي التي تسأثر بالعقل السوداني، وأنا لا أقول أن الشمال لولا  أنه مكن هذا الاتصال وقواه بين السودان وبين الجزيرة العربية وحواضر العراق ومصر والشام والمغرب العربي، لخسر السودان خسارة لا سبيل إلى تعويضها بأي حال من الأحوال، ولكن الشمال من غير أي تزيد أو اسراف، هو الذي أطر لهذا الانسجام البديع الذي استقام للسودان، وقد كان هذا الأثر عظيما من نواح مختلفة، فالسودان الآن ملم ومحيط بالثقافة العربية من جميع أطرافها، وما تعلمه من شؤون الثقافة والحضارة العربية، ساعده على اتخاذ هذه الفلسفة المضيئة التي تجاوزت أطر الأدب العربي من شعر، وخطابة، ورسائل، ومقامات، إلى ثقافات كان للجزيرة العربية اتصالاً وثيقاً بها، كالثقافة الفارسية، والهندية، واليونانية، وثقافة الأمم السامية وغيرها.

واللغة والثقافة العربية مما لا شك فيه هي التي هيأت للسودان أن يتخذ له لساناً أتاح له أن يعبر به عن خصيصة نفسه، ويعصمه عن هذه الحيرة التي كان سيجدها عند اختياره لأي لهجة يتخذها وسيلة للتخاطب بين مكوناته، فمعظم هذه اللهجات متساوية في الجمود و التعقيد والالتواء، ولن تؤهل السودان لأن يكون له عقلاً يفكر، وقلباً ينبض، ونجماً يتألق في سماء منطقته، فهذه اللهجات ليس لها آداباً حية، أو أصول مترفة كأصول اللغة العربية التي لن تتعرض للجدب ولا للفناء، بل هي في الحق أصول ثابتة قابلة دوماً للزيادة والنماء، هذه الأصول لم تتأثر حتى بعاميتنا التي انحرفنا بها عن جوهر اللغة انحرافا عظيما.

والثقافة العربية التي وطد الشمال سبلها، وذلل صعابها، هي التي صنعت هذا المزاج المعتدل الرفيع، الذي يلاءم بين البيئة العربية ورصيفتها الأفريقية، هذا التناغم هو الذي أدى لهذا الثراء العريض، ولهذه المكانة الرفيعة التي يتمتع بها السودان في المحافل العربية والأفريقية، فما من حركة من حركات التضامن، والوحدة، ونبذ العصبيات بين الدول العربية والأفريقية، إلا وكان للسودان سهماً وافراً فيها، ومذللاً لكل العقبات الكبرى التي تكتنف طريقها، فالسودان أحسن الدول تقديراً لمصاب العرب و الأفارقة وما يختلف عليهما من خطوب، وسيظل السودان عنواناً لهذه الحياة الرامية للوحدة والتعاضد، نقول هذا رغم درايتنا أن واقعنا فيه الكثير مما يدعو للاشفاق والرثاء، ولكن قتامة هذا الواقع لن تفقد السودان هذه الملكات القوية التي تجعله يقاوم الشتات، والتشرذم، ما وسعته المقاومة، ويجاهد في سبيل حريته وسلامته وانعتاقه، بالسلاح واللسان والقلم، حتى يطوي صفحة الحروب والنزاعات.

وفضل الشمال على غيره من الأقاليم الذي دافعنا عنه بالحجة الساطعة، والعاطفة الصادقة، والبرهان المستقيم، لن يدفعنا لأن نقول أن تسلط الشمال قوامه الحزم والعدل، أو أنه كان حريصاً لأن يخرج الناس عن أطوار الذل لأطوار العز، فمثل هذه المزاعم المختلقة لا يحفل بها الناس، ولا يلتفتون إليها، فالشمال ألحّ في الحكم، وأغرق في هذا الالحاح، لأنه ما زال يستغرق همه في تحليل دقائق التاريخ وخباياه، فليس من اليسير ولا السهل عليه، أن يتغاضى عن تأثيراته المختلفة التي خضعت لها حياته.

ولعل من العسير جداً ألا نرد كلف الشمال بالحكم إلى تلك الروح التي تسري فيه، تلك الروح التي خضعت لمحن كثيرة من أجل أن تتوثق صلاتها بالملك، فالروح العربية إذا أردنا أن نزيل عنها الحجب والأستار، لوجدنا أن نزعة الميل للسلطة قريبة جداً منها، نحن إذاً نعرف هذا الحب الصادق الذي تحملت الروح العربية في سبيله الأهوال، نعرف أنها قد أذعنت لهذا الحب، لأنه يمنحها الحياة، ويمنحها النشاط، ويمنحها الشرف والسؤدد، ويرضي آمالها التي هي أبعد من أن تحد، وأوسع من أن تحصر، لأجل ذلك نرى أن المساومة نحو الملك، والطمع فيه، ليس قاصراً على الشمال، فكل القبائل العربية في شمال السودان أو غربه، تعاني من هذه العلة، فهي دائما تصطنع الحيلة، وتبتغي كل وسيلة، من أجل أن تستظل بأفياء الحكم، وحتى نجمل القول ونترك عنا هذا التفصيل، نزعم أن القبائل العربية على اختلاف مواقعها في السودان، لا تهاب الخطوب، ولا تعرف تردداً ولا نكولا، حتى تظفر بغايتها، وتحوز على هذه السلطة العقيمة المجدبة، أما القبائل الأفريقية، فنحن لا نستطيع أن ندعي أن هذه القبائل لا تطمع في الحكم، ولا تحبه، ولا ترتاح إليه، ولكنها لا تتورط في إثم السلطة، ولا تغرق في أوحالها، إلا من أجل أن تصرف عن جرثومتها ألوان الضنك والبين، إذن من أعسر الأشياء وأبعدها عن الشخصية الأفريقية السودانية، النافذة البصيرة،  الواسعة الثقافة لأبعد حد ممكن، أن تلقي نفسها في ألوان من المحن، وضروب من الخطوب، لكي ترضي عاطفة ثائرة، أو مزاجاً حاداً، كما تفعل القبائل العربية في السودان.

والشمال الذي ذاق هوى السلطة، وتعرض للآلامها ولذاتها، على مدار حقب طويلة، يتحرج فعلاً الآن أن تذهب هذه السلطة طائعة أو كارهة لغيره، لا يتحمل الشمال الذي جدّ فيها واجتهد، وتكلف من المشقة والعناء ما يطيق وما لا يطيق، أن تجرجر هي أذيالها إلى إقليم سواه، هو ينكر هذا ويراه بعيداً، الشمال لا يستطيع أن يقتنع أن اتصاله بالسلطة، يجب أن يكون اتصالاً عارضاً، وأن نفسه المشرئبة دوماً لها، يجب أن يكفكف في حزم من غلوائها وكلفها، ويعلم أنها ستمضي على نحو قاطع محتوم لمن هو الأجدر بالنهوض بأعبائها، وإنها لن تكون حكراً عليه، على الشمال أن يخمد توقه، وشوقه، وطموحه، وأن يلتفت إلى طبائع القبائل وأمزجتها، هذه الطبائع، وهذه الأمزجة، التي تستحق أن يمنحها هذا الوطن حياة جديدة، تواكب ما وصلت إليه المعمورة من رقي وتطور، في الأنظمة السياسية الحاكمة، وفي تداول السلطة،على الشمال أن يعترف بحقوق الأمة السودانية، ويدرك أنه لن يستطيع أن يرغمها على قبول رؤيته، وأصوله التقليدية التي عرضته لكثير من المصائب، وتحمل من أجلها الكثير من التضحيات، وجعلته عرضة للوم المستمر، والبغض المتصل.

طبائع الناس التي استقصت العلوم، وتعمقت في المعرفة، تدعو إلى اصلاح الحكم وترقيته، طبائع الناس التي لا تخطئ فيما قدرت، ولن تخفق فيما تطلب، تحتم على الشمال أن يخلد إلى حياة هادئة وادعة، لا خصومة فيها ولا جدال، ولا معارك ضارية فيها ولا نزال، حياة طابعها الراحة والعافية والخمود، ويترك الحكم وعقابيله إلى عقول مستنيرة، تستطيع هذه العقول، أن تعدل وتطور من نظامنا الاجتماعي والسياسي،  وتضفي عليه هذه التعديلات الوافية التي تجعل أمتنا تنهض وتخطو نحو وضع أفضل.

***

د. الطيب النقر

 

"لقد اصبح الامر اكثر وضوحا"؛ اعلن انتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة في زيارته الأخيرة الى الدوحة، متحدثا عن مسار عملي، ومحدد زمنيا، ولا رجعة فيه لإقامة دولة فلسطينية تعيش في سلام جنبا الى جنب مع دولة إسرائيل (طبعا بلينكن يدعو الى دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة). وهذا الامر يتوافق مع ما يدعو اليه  النظام العربي الرسمي منذ فتره بما يسمى حل الدولتين، كما دعت السعودية وقطر الى تسوية شاملة. في المملكة المتحدة اعلن ديفيد كاميرون وزير الخارجية دعمه التام لدولة فلسطينية، كما اصر في بروكسيل جوزيب بوريل على انها الطريقة الوحيدة لإحلال السلام في الشرق الأوسط.  يمكن النظر الى هذه التصريحات على انها محاولة محمومة للاحتواء الامبريالي، واذا لم يكن من الممكن تجاهل الفلسطينيين بالكامل كما هو الحال في اطار الاتفاقيات الابراهيمية، فمن الأفضل الدفع باتجاه إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومجزأة حتى يتسنى المضي قدما في التطبيع مع إسرائيل. الرئيس بايدن، شخصيا وسياسيا ملتزم بأجندة كوشنر للشرق الاوسط بعد ان اخرجها طوفان الاقصى من المسار في السابع من أكتوبر.

وكما ذكرت "الفورين افيرز" الامريكية ان حل  الدولتين سيسحب البساط أيضا  من ايران والقوى المتحالفة معها، من حزب الله والقوى الشيعية في العراق وانصار الله في اليمن. وسيكون المجال مفتوح لتحالف عربي سني -إسرائيلي ضد ايران. والدعوة الى دولة فلسطينية سيخفف من الغضب الشعبي الذي يكتسح الجماهير العربية ضد الأنظمة العربية التي لم تستطع ان تقدم أي مساندة للشعب الفلسطيني وتركت اهل غزة يعانون ابشع المجازر، هذا  بالإضافة الى التجويع والقهر.

ولكن كيف على القوى الوطنية والتقدمية الفلسطينية والعربية التعاطي مع عودة موضوع حل الدولتين. رد الفعل الأكثر شيوعا، هو رفضه باعتباره خيالا إمبرياليا خطيرا، وعلى انه إضفاء الشرعية على نظام الفصل العنصري، ومن ثم الدعوة الى نظام الدولة الواحدة كخيار استراتيجي. طبعا خيار الدولة الديمقراطية الواحدة تم طرحة بعد نكسة حزيران من قبل اليسار الفلسطيني، ومن ثم تم تبنيه  كاستراتيجية سياسية من قبل ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. بعد اوسلو تبنى هذا الخيار تيارا من المثقفين الفلسطينيين من ضمنهم؛ أدورد سعيد، غاده الكرمي، لما أبو عوده واخرون. كتبت غادة الكرمي في عام 2002،  "رغم ان النضال من اجل دولة ديمقراطية يبدو يوتوبيا ، ولكن ليس اكثر يوتوبيا  من مشروع انشاء دولة يهودية على ارض الغير".

ان الشعب الفلسطيني في غزه والضفة وفلسطين التاريخية هو من له الحق في اختيار الحل الأمثل لصراعه مع الصهيونية، لذلك لا يحق للأخرين تحديد نوع الحل المقبول للفلسطينيين.  ان حل الدولتين يحد من حق العودة للفلسطينيين، وسيحصر الفلسطينيين في كانتونات متفرقة تمزقها المستوطنات اليهودية. اما سردية الدولة الواحدة سيفرض عليهم التخلي عن النضال من اجل انهاء الاستعمار الاستيطاني، وتكوين صداقات مع المحتلين والسماح لجميع المستوطنين بالبقاء. كم يبدو ذلك امرا صعبا بعد المجازر التي اقترفها الصهاينة.  ان قرارا مثل هذا يجب ان يأت من الفلسطينيين انفسهم، ومن هنا تكمن أهمية الطابع الديمقراطي للبنية السياسية الوطنية الفلسطينية، مما سيدعو الى تمكين المداولات الشعبية الحقيقية للمحافظة على الثوابت الوطنية الفلسطينية.

وكما ذكرت الباحثة الفلسطينية كرما نابلسي " انا واقعية للغاية فيما يتعلق بما يجب ان يكون عليه الحل، بعض الناس حريصون جدا على حل الدولتين. هناك من يجادل لصالح دولة واحدة ثنائية القومية. اود ان أقول انها ابسط من ذلك بكثير. صححوا الظلم الذي وقع، وبمجرد ان يتمكن الناس من العودة الى منازلهم، دعوهم يقررون بشكل ديمقراطي نوع الاطار الذي يريدونه".

ولكن بالنظر الى الوضع الإقليمي الحالي هل لا يزال خيار الدولة الواحدة هو الخيار الأكثر مبدئيا وواقعيا؟ ان مرض مجتمع المستوطنين الذي لا يمكن علاجه، والذي اصبح أوضح واكثر رعبا من أي وقت مضى، قد يكون عائقا امام دولة واحدة، بقدر ما تشكل الجغرافيا الاستيطانية الراسخة في الأراضي المحتلة. اذا كان من المستحيل  تصور اقتلاع المستوطنين من الضفة الغربية، فمن المؤكد انه من الأصعب توقع قبول إسرائيل بنهاية القومية العرقية العنصرية والتعايش السلمي مع الفلسطينيين.

في عام 1974  أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية ضمن برنامجها الوطني إقامة سلطة فلسطينية على أي ارض فلسطينية يتم تحريرها باي وسيلة كانت، ومن هنا تم انشأ سلطة فلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو. ولكن من الواضح ان إسرائيل فرغت المحتوى الوطني لهذه السلطة وكبلتها باتفاقيات امنية. المفهوم الاستراتيجي لحركة المقاومة (حماس) لم يكن يختلف في جوهره عن مشروع منظمة التحرير، وهي تسعى نحو تحقيق انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. غير ان عبدالعزيز الرنتيسي وجد في انتصار حزب الله وفي قدرته على اجبار الإسرائيليين على الانسحاب من جنوب لبنان نموذجا يقتدى به في تحرير فلسطين.

لاشك ان غزو إسرائيل لقطاع غزه، والمذابح التي اقترفها الصهاينة تطرح مهاما صعبة على حركة المقاومة، ولكن في نفس الوقت ان طوفان الأقصى ضرب الاستراتيجية الإسرائيلية في مقتل. كما فضحت هذه الحرب تواطؤ معظم  الانظمة العربية في مخطط تصفية القضية الفلسطينية. كما بات واضحا نفاق دول الغرب وسياسة ازدواج المعايير التي تمارسها ضد شعوب الجنوب. ان التضامن الذي شهدته القضية الفلسطينية على مستوى العالم أعاد هذه القضية الى مركز اهتمام الرأي العام العالمي. كما ان صمود المقاومة في غزة منح المقاومة وبالذات حركة حماس شرعية ثورية لا يمكن تجاوزها في أي حل للقضية الفلسطينية. 

***

علي حمدان

أن من بواعث اغتباطي هذه المقاومة التي شبت نارها في الأمة السودانية، وهي في الحق اضطراب نبيل قد باغت "الدعم السريع" بما لم يضع له حساب، فالدعم السريع الذي أقحم السودان في نكبة سياسية عنيفة، عرضته لهذه العواصف المتنافرة المتدابرة، بيحث  هذا "الدعم" مع حاضتنه السياسية التي تظن أنها خليقة بالاعجاب والاكبار، لأنها من دفعت هذا الشعب لأن يبتغي الراحة، ويبحث عن النوم العميق، بعد أن أماطت عنه شر حكم المشير "البشير" قحت" أو تقدم" سمها كما شئت، ما هي إلا الأم الرؤوم، أو الزوجة الوفية لقوات الدعم السريع، لقد دأبت هذه الحاضنة السياسية العاجزة عن الشعور بآلالام الناس ومعاناتهم، على تغيير اسمها في كل وقت وحين، تماماً كما تغير الأفعى جلدها الناعم الأملس، ولعل من الحقائق الثابتة الآن، أن "قحت" هي و"الدعم السريع" الذي يفضي إليها بكربه، يبحثان عن نافذة يقفزان منها طلباً للنجاة، "قحت" و"الدعم السريع" اعتقدا أن السودان سيظهر لهما الخضوع والاذعان، وأنه سينخرط معهما في نضال دائب لاجتثاث تشكيلاتنا السياسية على اختلافها، تلك التشكيلات التي نصفها  أعمى ونصفها مشلول، تسعى "قحت" التي تحتاج إلى من يعيد إليها اتساق خاطرها، بعد أن مُنِيتْ قوات الدعم السريع" لهزائم فادحة متتالية، وبعد هذه"الهبة الشعبية الهادرة" التي أفضت لأن ينتظم السواد الأعظم من هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، في استنفار عظيم، جعله يرسل صفوفه المنظمة المستمرة إلى ساحات التدريب، تلك الساحات التي تفتح الباب لنيل رغائب عليا، وتشق لهم طرقاً تقودهم إلى الجهاد والاستشهاد، والدعم السريع وقحت معاً، قد أظهرا ضجرهم من هذه الساحات، ومن هذا الاصطفاف مع القوات المسلحة السودانية، ووجدا عسراً في هضم هذا التلاحم وازدراده، لأنه كفيل بأن يقصم ظهريهما، هذا الانصهار حتماً فاتحة التوفيق للجيش والشعب معاً، لأن يتحركا ويضطربا طوال الليل، وطوال النهار، حتى تصطبغ الأرض بلون الدم، وينتقل السودان من طبقة الاكتئاب التي مكث فيها قرابة العام، إلى طبقة مترفة لا مشقة فيها ولا عناء.

وفي الحق هذا الواقع يثقل على"قحت" الشرِهِ إلى الحكم، ويؤذيها، ويزيدها ضيقاً إلى ضيق، أما قوات "الدعم السريع" التي يخالجها شعور بالخوف، دفع كماتها وجنودها الأشاوس، لأن يتسربلوا بأزياء النساء الواسعة الفضفاضة، طمعاً في الفرار من نقمة " قوات هيئة العمليات"  تلك القوات الكثيفة الحالكة، التي لا تمكن "قوات الدعم السريع" أن تختلس حتى النظر إليها، فهم كوكف المطر الذي ينهمر بغتة، ليجعل من فاجأه لا يلوي على فعل شيء، وقوات الدعم السريع التي تستخذي هذه القوات الضارية استخذاءً عظيما، وتسعى لئلا تقع تحت يديها، ساخطة زارية على" "قحت لأنها تخوض هذا النشاط الفاتر الذي لم  يفضي إلى شيء، ولم يأتي بالسلم الذي تبحث عنه أطيافها، لقد غام الأفق في سماء الدعم السريع، وأغوار الأرض وسهولها، ها هي عابسة مقطبة، والجيش والمستنفرين لا يجدون لذتهم إلا في الفتك بهم، والهجوم عليهم بضراوة، هذه الهجمات العنيفة المتصلة، تدفع بعض قوات الدعم السريع إلى حافة الجنون، وتجبر طائفة أخرى لاتخاذ هذه المواقف المخزية كارتداء ملابس النساء، ومحاكاة مشيهن وتأودهن كلما مرت هذه الجماعات الملتحفة "بملابس الحريم" بارتكازات الجيش، هجوم الجيش المتواصل وثباته في الذود عن حياض بلده، هو  الأمر الذي يجبر قوات الدعم السريع تسعى للهروب مهما كانت المشقات.

و"قحت" التي لم تطل التفكير منذ أن تماهى هذا الشعب مع هذه "النفرة" وأظهر الإصرار في أن يمضي بها قدماً حتى يسحق "منظومة الدعم السريع" على اختلاف شيعها، وطوائفها، وألوانها، فواهماً من ظنّ أن تلك المنظومة مرتهنة لجرثومة واحدة،  أو تعود أصولها إلى أرومة محددة بعينها، كلا، هي عدة جرثومات تدافعت من أقطار شتى لتلقى حتفها في أرض السودان، هؤلاء الموتى كان الأمل يحدوهم بأن يعيشوا عيشة مادية ممتازة، وأن يأخذوا من كل لذة بطرف، ولكن القوات المسلحة السودانية أقصت كل هذه الأماني، وأحالتها إلى زوايا النسيان، ومن تبقى حي منهم، ينظر الآن في حسرة بالغة إلى هذه الحياة الذاهلة عنه، ويبصرها وهي تسير مدبرة عنه، وأكبر الظن أمام هذا التدافع المحموم من قٍبَلْ الشعب وانخراطه في سلك الجندية، أن القادة في قوات الدعم السريع لا يستطيعون أن يفرغوا لأنفسهم، أو يعكفوا في مكاتبهم المؤسسة أو المتحركة، لوضع الخطط التي توقف سلسلة هذه الهزائم الساحقة، أو حتى ينفردوا بحياتهم الخاصة، ليتعهدوا أسرهم وذويهم بالرعاية، هؤلاء القادة المنخوبي الفكر، قطعاً لا يقدرون على بث شكواهم لعائلاتهم، ويخبروهم عن أفئدتهم التي تمزقها الحسرات، ولا عن بركان الخوف الذي يوشك أن ينفجر في صدورهم المضطربة، وهم عاجزين عن كبحه، الضعف يمنعهم عن البوح كلما التفتوا إلى خاصتهم، ولكن كيف لمهجهم الجزعة أن تثوب إلى السكينة؟ فالأزمة التي تعبث بهم في وقتنا الحاضر، ليست مثل تلك الأزمات التي صادفتهم في طريقهم المحفوف بالخطر، والمترع بالأماني الجياد، ليست مثلاً أزمة خصومة بينهم وبين غيرهم من الأحزاب السياسية، أو أزمة تنافس بينهم وبين هذا النظام أو ذاك من نظم الحكم، أزمتهم الحالية هي أزمة مدت عنقها، وقادتهم لأن ينكروا  نفوسهم، ويظلوا مطرقين حيناً، ثم ناظرين عن يمين وشمال حيناً آخر، كما يقول أديب مصر الضرير، إنها أزمة أعمق من كل تلك الأزمات، أزمة تتعلق بوجودهم على ظهر هذه البسيطة، أزمة جعلت أعصابهم تفتقر للاسترخاء والطمأنينة، أزمة تستحق هذا اللقط المتصل الذي تنهض به حاضنتهم السياسية، والذي تسعى لأن تعكر به الأجواء، وتجعل الناس، كل الناس، تنصرف عن هذا الاستنفار، حتى لا يبقى فرد في هذه الساحات والميادين والمعسكرات، إن أكثر ما يضني الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع، أن جموع وشرائح الشعب السوداني ما زالت تعبر عن نفسها بصور مختلفة، وترفض كل الادعاءات والحجج التي ساقتها "قحت" لتنفر الناس من هذه المقاومة، هذه الجموع التي تعلوها ابتسامة زاهية تعرفها "قحت" جيداً توحي بأن خطر الحرب الأهلية التي ساقته "قحت" المبوءة بالشر، لم ينطلي عليها، هذه القطاعات لم يومض ثغرها بالابتسام فقط، بل ذخلت في نوبة من الضحك المتصل على ترهات "قحت" لأنها لا تحترم نبوغ هذا الشعب وألمعيته، فبعض أراجيف الحاضنة السياسية للدعم السريع لم تأخذ حظها الوافي من النظر والتأمل والتفكير، وذلك مثل قولهم:"أن الحركة الإسلامية التي قوضت الحكم المدني، وأشعلت أوار هذه الحرب، وقصفت منازل الأبرياء في حدة وعنف، وقضت أيضاً على البنية التحتية، وهدمت الجامعات ومراكز البحوث، لأنها قنطت من العودة لصولجان الحكم، ألجأها فكرها الخبيث لابتكار خدعة "المقاومة الشعبية" غير عابئة بالأضرار الجسيمة التي يمكن أن تنجم عنه، والحركة الإسلامية السودانية التي تلقت هذا الرزء لقاءاً كريما، وتعاظم جهادها في معركة الكرامة،حتى انتزعت الثناء من عتاة خصومها، تستطيع أن تقدم عشرات الحجج لدحض افتراءات" قحت" ولكنها في الحق لا تصغي إلى أضاليل الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع، بل تصغي لشيء آخر أشد الاصغاء،  تصيخ بسمعها لصوت تشعر أن من بلادة الحس، وجفوة الطبع، وقسوة النفس، وضعف الإيمان، ألا تسمعه وتهرع إليه، وأن تخلو إليه وحده، فنحيب الوطن يدفعها لئلا تراعي لغيره من الأصوات السمجة، وأن تنصره إلى أبعد آماد النصرة، فالوطن وحده هو من يستولى على هوى الحركة الإسلامية "الصادقة" ويقتنص قلبها.

***

د. الطيب النقر

 

لم تمر كلمات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، خلال مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا، عقد في باريس مؤخرا، وقوله "إنه لا يستبعد إدخال قوات الناتو إلى أوكرانيا"، مرور الكرام، فقد كان الرد الروسي سريعا، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين، خلال رسالته إلى الجمعية الفيدرالية يوم 29 فبراير/شباط الماضي، و ذَكرَ فيها بوتين الغرب بخطوط بلاده الحمراء، واكد إن نقل جنود الناتو إلى كييف، يمكن أن يؤدي إلى حرب نووية وتدمير الحضارة، وحذر الغرب وعلى أي دولة تجرؤ على إرسال قوات إلى أوكرانيا من "عواقب وخيمة".

وعلى مبدأ " خير الكلام ما قل ودل "، لم يخصص الرئيس الروسي وقتا طويلا للحديث عن العملية العسكرية الخاصة، رغم طول خطابه الذي عُد بأنه الأطول له منذ عام 2018، الا انه أثار اهتماما كبيرا لدى الغرب وجميع وسائل اعلامه  الصديقة منها لروسيا  والغير صديقة، وقالت  صحيفة التلغراف البريطانية  ان هذا "تهديدًا نوويًا" هو ما سمع  في كلمات بوتين حول عواقب النقل المحتمل لقوات الناتو إلى أوكرانيا.

وفي الوقت الذي يحذر فيه قادة حلف شمال الأطلسي، وخاصة على طول حدود الحلف الطويلة مع روسيا، وبشكل متزايد من أن الصراع المباشر مع موسكو يشكل خطرا حقيقيا، مما يشير إلى أن الغرب لديه ما بين ثلاث إلى عشر سنوات للاستعداد للحرب، أُعتُبِر ان رسالة الرئيس الروسي وتأكيده مرة أخرى  إن القوات النووية الاستراتيجية الروسية في حالة استعداد تام، هي بمثابة  رسالة تحذيرية وتهديدية  مهمة.

وتصريحات الرئيس الفرنسي والتي تراجع عنها بعد ذلك، رغم انه اكد بان ما قاله هو كلام موزون " وفكر فيه مليا "، عاد مرة  ليقول،  " بانه لا يوجد إجماع اليوم بشأن إرسال قوات على الأرض بطريقة رسمية ومضمونة " ، وبالتالي ان المبادرة رفضت على الفور، وابرزت ذلك الانقسام الكبير في صفوف الاتحاد الأوربي،  حتى صارت هذه التصريحات   مصدر سخرية  الجميع، وقال مستشار البنتاغون السابق العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي دوغلاس ماكغريغور" إن غاية ما يستطيعه الجيش الفرنسي هو "رحلات السفاري في إفريقيا"، لا مواجهة القوات الروسية بأوكرانيا،  وفي تعليقه كتب  نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف،  "إن البعض يعاني من سلس البول "، في حين ذكرت  صحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية أن تصريحات الرئيس الفرنسي، أجبرت المستشار أولاف شولتس على وضع حد لكلامه، مذكرا بالاتفاقيات الأوروبية، وانه  "ما تم الاتفاق عليه منذ البداية ينطبق أيضا على المستقبل، وهو أنه لن تكون هناك قوات على الأراضي الأوكرانية مرسلة من الدول الأوروبية أو دول الناتو".

ورغم أن معظم الخطاب الرئاسي كان مخصصاً للقضايا الداخلية الروسية، إلا أن الغرب يحاول أن يحلل باهتمام كبير إشارات السياسة الخارجية التي عبر عنها رئيس الدولة الروسية، وتشير صحيفة نيويورك تايمز مثلا  إلى أن "السيد بوتين يعلم أن معارضيه - بقيادة الرئيس بايدن - هم الأكثر خوفًا من تصعيد الصراع"، وان بوتين  لم يوضح فقط أنه يضاعف "عمليته العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، بل  وأوضح أيضًا "أنه لا ينوي إعادة التفاوض بشأن آخر معاهدة رئيسية للحد من الأسلحة سارية مع الولايات المتحدة، والتي تنتهي صلاحيتها في أقل من عامين، ما لم يتم تحديد مسار جديد لمصير أوكرانيا، التي من المفترض أن أجزاء كبيرة منها  تقع الآن  تحت يد روسيا".

الرئيس الروسي نبه الغرب بأن قواته المسلحة حصلت على خبرة هائلة نتيجة لتعاون جميع الأسلحة، ولديها  طاقم كامل من القادة الذين يستخدمون الأسلحة والتكنولوجيات الحديثة، بدءا من الفصائل ووصولا إلى أعلى القيادات يتفهمون المشكلات ويعالجونها، وقد نمت قوتها القتالية عدة أضعاف، والتشديد في الوقت نفسه على ان بلاده تَكُن من بدأ الحرب، وإنما قامت  بها دفاعا عن سيادتها وعن أمن مواطنيها، ولديها استعداد قتالي كبير للقوات النووية الروسية، والتي استقبلت  الأسلحة الحديثة وهو ما تحدثت عنه في 2018.

لقد اختار الرئيس بوتين هذا الوقت بالذات بشكل خاص، واختبر من خلال خطابه مقدار مخاوف الغرب، ورد  أيضاً على تكهنات مفادها أن الولايات المتحدة، التي تشعر بالقلق إزاء تعرض أوكرانيا لسلسلة من الخسائر، قد تزود كييف بصواريخ أطول مدى أو تصادر 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة منذ فترة طويلة، والمحتفظ بها الآن في البنوك الغربية،  ونقلها إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لشراء المزيد من الأسلحة، واستشهد بوتين بما تحققه الأسلحة الروسية كصواريخ الفرط الصوتية " كنجال "،  وصواريخ " تسيركون "، والتي باتت تستخدم بفاعلية لضرب الأهداف الأوكرانية، والاشارة الى انه يجري الان اختبار صواريخ "بوريفيسنيك"، والغواصات المسيرة "بوسيدون" وهي تحمل ميزات فريدة من نوعها، وان روسيا مستمرة في عملها على سلسلة من الأسلحة المتطورة، وسوف يكشف المستقبل عنها، والاشارة الى انه تم تسليم مجمع "سارمات" للقوات المسلحة، وستستعرضه روسيا  قريبا.

لغة القوة كانت عنوان الخطاب للرئيس الروسي، فقد وصف ما يقوم به الغرب هو "نفاق شديد "، والذي يرمي بالاتهامات الباطلة بسعي روسيا  لنشر أسلحة في الفضاء الكوني،  وتلك هي ليست إلا  محاولة لجر روسيا إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، التي تعرقل المقترحات الخاصة بنشر الأسلحة النووية في الفضاء، والتي وضعت  في 2008، ولم تتلق روسيا  أي رد، وان تصريحات الإدارة الأمريكية الحالية بالسعي إلى النقاش بشأن الاستقرار الاستراتيجي ليست سوى كلمات وكما عبر عنها بوتين "خاوية من المضمون"، ولا يمكن مناقشة ذلك إلا بمجموعة متكاملة من القضايا مرتبطة بالأمن القومي الروسي.

روسيا تمتلك الآن نوع من الميزة في تطوير وإنشاء أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، وهو ما تتخلف عنه  الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ومن الواضح وفقا لفلاديمير  فاسيلييف، كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا،  أن محاولتهم الدخول في مفاوضات حول هذه القضية، وإبرام نوع من الاتفاق، تهدف إلى الحد من قدرة روسيا  على تحسين أنظمة الأسلحة هذه وحرمان روسيا  من المزايا التكنولوجية، ويظهر التحقيق الذي أجراه الأمريكيون أنهم يحاولون إقناع روسيا  بوقف تطورها، وإذا لم تكن هناك تطورات، فلن تكون تلك المزايا نفسها موجودة، ولهذا السبب تم رفض المبادرة الأمريكية، حيث تصر روسيا بالعودة  إلى صيغتها  لعام 2008 بشأن مسألة إطلاق جميع أنظمة الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة النووية، إلى الفضاء.

كما ان الغرب يسعى لجر موسكو  إلى سباق التسلح، وتكرار المخطط الذي حققوه في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت تبلغ نسبة تمويل المجمع الصناعي الدفاعي 13%، الا ان روسيا وكما اكدت عدة مرات انها لن تنجر الى ذلك السباق، وانها تعمل اليوم على بناء منظومة فعالة لقواتها المسلحة، واستخدام كل روبل لمخصصاتها  العسكرية لتعزيز دفاعها  والوصول إلى مستوى جديدة للأسطول والجيش، وشدد بوتين، على انه  لا بد أن يفهم الغرب أن بلاده  تمتلك أسلحة قادرة على إصابة الأهداف في أراضيهم،  وانهم( الجيش الروسي ) وعلى عكس الغرب،  مروا باختبارات صعبة، و يعرفون ما تعنيه الحرب، وتجاوزوا هذه الاختبارات في القوقاز، ويتكرر الوضع في أوكرانيا الآن، وإن ما يقوم به الغرب يهدد الأمن الأوروبي، ويجب أن يكون هناك هيكل جديد للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة، واعرب الرئيس الروسي عن استعداد بلاده  للحوار مع جميع الأطراف.

وروسيا اليوم ترى آفاقا واعدة في شراكة أوراسيا عظيمة في إطار انسجام المشاريع الاتحاد الأوراسي والمبادرة الصينية "طريق واحد-حزام واحد" كما يتم تطوير المشاريع في منطقة "آسيان"، و لديها شراكات مع الدول العربية لتعزيز العلاقات، وكذلك الحال مع دول أمريكا اللاتينية، وهناك عدد من البرامج لنشر اللغة الروسية حول العالم.

رسالة بوتين كانت واضحة، فهو يرى النصر في أوكرانيا باعتباره صراعا وجوديا محوريا وأن الرئيس الروسي، وكما قالت صحيفة نيويورك تايمز، "يراهن على أن الولايات المتحدة تتحرك في اتجاه مختلف، وتصبح انعزالية بشكل متزايد، وغير راغبة بشكل متزايد في مواجهة التهديدات الروسية، وبالتأكيد غير مهتمة بدرء التهديدات النووية الروسية بنفس القدر"، ولفتت قناة CNBS التلفزيونية الانتباه إلى حقيقة أن فلاديمير بوتين أشار إلى وحدة الشعب والجيش الروسي في الدفاع عن الوطن الأم، وأشاد بالمواطنين الروس والصناعة وقطاع الأعمال، وكذلك القوات الروسية في أوكرانيا لجهودهم، ووقف دقيقة صمت حدادًا على القوات المسلحة الروسية، قبل أن يمتدح الخبرة القتالية "الهائلة" التي اكتسبتها خلال عامين من القتال في أوكرانيا، في حين وصفت صحيفة جلوبال تايمز الصينية خطاب بوتين بأنه رسالة ثقة، و"أظهر التحدي الذي تشكله روسيا للنظام الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

نحن على مشارف انتهاء هذه الدورة من معركة بدأت منذ السابع من أكتوبر واستمرت نحو مائة وخمسين يوماً.. وقاربت على الانتهاء بهزيمة غير معلنة لإسرائيل. والتفكير القائم في كل أروقة السياسة في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية يدور الآن حول اليوم التالي للحرب..

  ومهما كان ما قرروه وما يتآمرون لتحقيقه، فهو لن يستطيع إغفال حقيقة الهزيمة الإسرائيلية، ومن المعلوم أن المهزوم لا يستطيع إرغام المنتصر على شروطه مهما حاول!

مؤامرات مكشوفة

  رغم كل الخلافات التي تعصف بمجلس الحرب الإسرائيلي، والانقسامات الحادة بين كل أعضاء الكابينت من جهة، وبين رئيس وزراء يريد إنقاذ رقبته وتبييض سمعته السوداء الحالكة الملطخة بدماء ضحايا بالآلاف أولهم جنوده الذين ألقي بهم في أتون حرب خسروها خسرانا مبيناً في كل مواجهاتهم المباشرة.

 رغم كل الخلافات العاصفة والانقسامات المنذرة بالأسوأ، فإنهم لم يتوقفوا يوماً عن التآمر والخداع ورسم الخطط للنيل من فلسطين والعرب والعروبة. آخر تلك المؤامرات هي تلك التي من أجلها سحبوا قواتهم في الشمال والوسط الغزاوي وأنظارهم تتجه صوب مدينة رفح يريدون اجتياحها لتنفيذ مخطط التهجير القسري لمليونين من فلسطينيي غزة. وهو ما وقفت مصر ضده بالمرصاد. بل ووقفت ضده أمريكا، بل وسائر الدول العربية أمام محكمة العدل الدولية للتحذير من تنفيذ ذلك المخطط الذي ستنتج عنه مذبحة أشد وأقسى من كل مذابح إسرائيل على مدار تاريخها المظلم.

  وفى مجلس الأمن موقف غير مفهوم وغير مقبول من أمريكا راعية الحريات! عندما أشهرت سلاح الفيتو للمرة الرابعة أمام الجميع، ورفضت قراراً بوقف إطلاق النار، رغم أنها أعلنت في تصريحات صدرت عن البيت الأبيض أملها في الهدنة ورغبتها في إدخال المساعدات الإنسانية لتلك البقعة المنكوبة بسفاحي الحرب الذين انتهكوها أمام عالم غض الطرف عن مأساتها. وأما أمريكا فقد خلعت عن وجهها قناع الحريات الزائف لتكشر عن أنياب أشد مضاءً وفتكاً من ضبع الشرق الأوسط الطليق برعاية أمريكية بلا حدود!

نتيجة حرب أم مصير أمة؟

 انتهي الكلام في منابر الإعلام الغربية والإسرائيلية عن خسائر إسرائيل التي لم تعد تخطئها عين. وبات الكلام اليوم عن مصير إسرائيل!

 حتى حاخامات أورشليم خرجوا صارخين محذرين بأن نتائج الحرب الأخيرة تتعدي الضرر الأمني إلى تهديد وجودي يحدق بالكيان الإسرائيلي الغاصب.

    الإعلام العبري يتحدث الآن عن آلاف الإسرائيليين الذين تساقطوا في الحرب بين قتيل وجريح ومعاق. وأن العدد ارتفع لما يقارب الثلاثين ألفاً. وأن نحو نصف القوة الضاربة من تعداد الجيش يرزحون تحت وطأة العبء النفسي الجاثم على صدور جنود لم يعودوا مقتنعين أنهم يقاتلون في سبيل وطن، بل في سبيل رئيس وزراء يسعر نيران الحرب ويطيل أمدها فرارا من محاكمة قد تنهي حياته السياسية للأبد.

  والسؤال: لماذا تخشي إسرائيل انطفاء جذوة حرب تعلم أنها لن تربحها؟!

الحق أنها ترزح تحت ضغوط وخيارات أحلاها أشد مرارة من الحنظل. إذ لو توقفت الحرب فإن هناك سلسلة من الأحداث ستحدث بشكل تلقائي: أولها إجراء تحقيق حول حصيلة الخسائر التي مُنِيَ بها الجيش الإسرائيلي. وهي خسائر فادحة تتجاوز كثيراً ما يتم إعلانه أو تسريبه، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إدانة مجلس الحرب وقادته وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو. وقد يؤدى هذا لتنفيذ أحكام قضائية ضدهم وإلى حل الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة سيكسبها اليسار الإسرائيلي حتماً، وهو ما يرفضه ويخشاه اليمين المتطرف.

  ثم يأتي دور الداخل الإسرائيلي الذي سيفيق على كارثة مخيفة: كارثة الأسري، ثم كارثة النازحين من المستوطنين، وأغلبهم يخشون العودة لمستوطنات ستظل مهددة على الدوام بنيران وصواريخ المقاومة رغم الهدنة وتوقف الحرب. ثم هناك كارثة ثالثة، هي أن الجنود الذين هربوا من نيران الحرب لن يكون بمقدور أحد إقناعهم العودة للقتال في حالة تأججه من جديد؛ بسبب الصدمات النفسية لتي تفشت بين الجنود والضباط على السواء!

 معنى هذا أن توقف الحرب الإسرائيلية الغاشمة الظالمة لن يؤدي فقط لإعلان هزيمتها. بل لتفتتها وتشتتها على كل الأصعدة: حكومتها وشعبها وقوتها العسكرية والاقتصادية. إنها اللحظة التي تتحاشاها إسرائيل وتؤخر أمريكا قدومها بكل ما تستطيع..

مآلات المعركة

 لا يستطيع أحد الجزم بما سيحدث في قادم الأيام..

 الشعب والكنيست الإسرائيليين يضغطان من أجل توقف الحرب واسترداد الأسري. بينما يصر بنيامين نتنياهو ومعه سائر وزراء اليمين المتطرف، وعلى رأسهم بن غفير، لاستمرارها خشية انهيار حكومتهم ومن ورائها أكاذيبهم التي سيفضحها توقف الحرب..

  التهديد ضد مدينة رفح لتحقيق التهجير القسري ما زال قائماً، وإن وقفت في وجهه مصر ومعها كل دول المنطقة. وتوسيع مجال الحرب في البحر الأحمر وفى جنوب لبنان قد يؤدي لدخول أطراف أخري للميدان، وهو ما تحاول أمريكا الدفع لتجنبه وعدم حدوثه. وبين الشد والجذب قد تشتعل الأمور بين ليلة وضحاها. أو قد تهدأ تماماً إذا أفلحت أمريكا في السيطرة على ضبعها الهائج الطليق بتحييد اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو.

 الكرة الآن ليست في ملعب إسرائيل ولا حتى في ملعب المقاومة الفلسطينية، بل في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية. وأمريكا في مأزق لا تحسد عليه: إنها مقبلة على انتخابات وشيكة وسط تدني شعبية بايدن وحزبه الديموقراطي. والصين تكشر عن أنيابها بعد ظهور نتائج انتخابات تايوان وفوز المرشح الموالي للغرب. وروسيا تستعد للتصعيد ضد أوكرانيا. والحلف الأمريكي بدأ عقده في الانفراط، والكراهية العالمية ضدها في تصاعد مستمر لدعمها لمذابح إسرائيل في غزة.

 أغلب الظن أن هدنة طويلة ستحدث من أجل إجراء صفقة تبادل أسري على مدار عدة شهور. وقد تطول الهدنة أو تقصر طبقاً لمدي التزام إسرائيل بشروطها. وإذا حدث هذا فلسوف نتنفس الصعداء استبشاراً بالقادم. وأهم ما فيه أن قضية فلسطين باتت قضية العالم أجمع لا قضية العرب وحدهم. وهو ما يعني أن حلم تحرير المسجد الأقصى بات أقرب مما كنا نتخيل.

فلسطين هي الباقية

 لو أن حرب السابع من أكتوبر باتت تهدد الوجود الإسرائيلي كما يزعم بعض حاخامات اليهود، فهي البشري بأن الوجود الفلسطيني الأصيل سيعود ليسترد أرضه في المستقبل القريب..

  لقد انكسرت شوكة إسرائيل للأبد، ولم يعد باستطاعتها تزييف الحقائق التي انكشفت أمام الكافة.. وأولها حقيقة أن الجيش الإسرائيلي أضعف كثيراً مما كان يبدو. وأن هزيمته ممكنة. وأن الموساد الإسرائيلي ليس أقوى جهاز مخابرات في المنطقة كما كان يشاع. وأن صورة إسرائيل في الغرب باعتبارها نموذج التمدين والرقي انهارت أمام ساديتها ووحشيتها ضد المدنيين العزل من الشيوخ والأطفال والنساء. كل هذا معناه أن إسرائيل لم تعد هي هي. وأن وجودها صار مهدداً بالزوال أكثر من ذي قبل.

 إن عقارب الساعة لا تعود للوراء. وليس بإمكان إسرائيل ولا أمريكا استعادة هيبة جيش انهزم هزيمة مخزية لن تكون الهزيمة الأخيرة. لقد عادت القضية الفلسطينية للحياة من جديد في صدور كافة الشعوب العربية، ولم يعد بإمكان أحد صغر شأنه أو كبر أن يطفئ جذوتها المشتعلة مهما كانت إجراءات ما بعد الحرب. فقد ترسخ مفهوم المقاومة في قلوب الجيل القادم من فتيان فلسطين الذين سيأتي على أيديهم النصر المؤزر. وما دامت إسرائيل تصر على عدم حل الدولتين. فلسوف يأتي اليوم الذي ينتهي فيه الصراع ببقاء دولة واحدة اسمها فلسطين.

  كانت فلسطين منذ البداية وسوف تبقي وتظل رغم أنف كل أعدائها.

***

د. عبد السلام فاروق

لا بد أن هناك ما يفسر للرئيس الأمريكي بايدن تصريحه السابق قبل أن يصبح رئيساً، والذي أعلن فيه أنه ليس نصيراً لإسرائيل فحسب وإنما هو صهيونياً بخمسة نجوم. التفسير ببساطة متناهية: لأن الرجل كاثوليكي وليس بروتستانتي. ولأنه كذلك فلقد كان من حقه أن يتحدث عن دعمه الأكيد لإسرائيل دعماً مفتوحاً على أساس نظرية الأمن القومي الأمريكي التي تتبنى الأمن الإسرائيلي إلى حد التوئمة بدلاً من دخوله الخانة التي تلزم الشخص أن يكون بروتستانتياً متطرفاً حتى يصير مسيحياً صهيونياً، لأننا في الخانة الأخيرة ننتقل هنا إلى الدين دون أن نغادر السياسة.

بالنسبة لي كان ذلك مضحكاً بعض الشيء. لقد جعلني ذلك أجزم أن التصريح لا يخلو من المجاملة المتطرفة حتى في الحالات القليلة التي يدعي فيها الكاثوليكي انتماءه للمسيحية الصهيونية ذات الفقه البروتستانتي المتطرف.

لكن معرفة أن المال السياسي وكذلك الإعلام وأغلب السياقات التي تتحكم بوصول السياسي إلى البيت الأبيض أولاً، والكونغرس ثانياً، بمجلسيه السنت والنواب، هو مال تهيمن عليه إلى حد فائق قوى اليهودية الصهيونية، سيجعلك تفهم سريعاً السر الذي يجعل هؤلاء السياسيين (المسيحيين) يتقاتلون من أجل إرضاء الحركة والمؤسسات الصهيونية، وبخاصة من خلال التأكيد على دعمهم إسرائيل بكل الوسائل المتاحة، وتفهم أيضاً لماذا يجب أن يكون الطامع لمنصب سيادي أمريكي، بداية بعضوية الكونغرس ونهاية بالرئيس، منافقاً سياسياً وذلك إن لم يكن بروتستانتياً منتمياً لتيار الصهيونية المسيحية.

لو كان ترامب هو الذي أعلن ذلك، فلن أشكك بمصداقية الرجل، فالصهيونية المسيحية هي بالأساس حركة ذات جذور وفقه ومضمون بروتستانتي متطرف، والرجل بايدن كاثوليكي كما نعرفه. وما جعل بايدن منافقاً من الناحية الدينية أن صهيونيته المسيحية تشترط عليه أن يكون بروتستانتياً في المقام الأول لأن الصهيونية المسيحية هي حركة دينية قبل أن تكون سياسية، والسياسي هنا فيها تعبير عن الديني، وليس هناك فرصة مطلقاً لتغيير جوهر المعادلة، كأن يكون الديني تعبيراً عن السياسي، كما ليس شرطاً أن يكون المتعاطف مع إسرائيل والمشروع الصهيوني بروتسانتياً، لأن التعاطف السياسي هنا هو حالة تماهي سياسي وليس حالة انتماء. فأما التماهي الأمريكي الإسرائيلي فهو كان قد نشأ على مشتركات أمنية وسياسية جعلت المشروع السياسي الأمريكي والإسرائيلي يتوحدان حتى تكاد تحسبهما بالأصل واحداً، و كأنهما صارا كما هي أحجية: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة. وما لدينا هنا المعادلة التي تقول: ليس كل بروتستانتي هو مسيحي صهيوني وإنما هو جناحهم اليميني العنصري المتطرف، أما الكاثوليكي فيمكن أن يكون داعماً للصهيونية دون أن يكون صهيونياً بالفقه والرؤى الدينية.

وليس من باب الغرائب ولا العجائب أن نقول أن إسرائيل هي مشروع المسيحية الصهيونية قبل ان تكون مشروع اليهودية الصهيونية، وأن دولة إسرائيل تبدو في إطارها الثقافي والفقهي ومن ثم السياسي هي في خدمة مشروع المسيحية الصهيونية قبل أن تكون في خدمة مشروع اليهودية الصهيونية، ففي النهاية ومن ناحية دينية خالصة تطمع الصهيونية المسيحية أن يتحول اليهود الصالحين إلى مسيحيين. إن الإتيان على بعض الحقائق التاريخية ربما سيساعدنا على فهم ذلك.

نعلم أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي ترأسه هرتزل كان قد عقد في بال السويسرية وذلك في عام 1897، لكن في عام 1844 وفد إلى القدس أول قنصل أميركي، (واردر كريستون)، وكان من الأهداف التي رسمها القنصل لنفسه أن "يقوم بعمل الرب، ويساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد" (رضا هلال: المسيح اليهودي ص 95). وبذل (كريستون) جهداً مضنياً في الاتصال بالقادة الأميركيين وحثهم على العمل من أجل "جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود حتى يلتئم شمل الأمة اليهودية، وتمارس شعائرها وتزدهر"

وعلى خطى كريستون جاء الرحالة الإنجيلي الأميركي (ويليام بلاكستون)، الذي نشر كتابا بعنوان "المسيح قادم" عام 1878 بيعت منه ملايين النسخ، وأثر تأثيراً عميقا على البروتستانتية الأميركية. والفكرة الرئيسية للكتاب أن "عودة المسيح" التي ظل المسيحيون ينتظرونها على مر القرون لن تتم إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. وفي العام 1891 تقدم بلاكستون بعريضة إلى الرئيس الأميركي يومها (بنيامين هاريسون) مطالبا بتدخل أميركا لإعادة اليهود إلى فلسطين. وجمع على العريضة توقيعات 413 من كبار رجال الدين المسيحي في أميركا، إضافة إلى كبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب، وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء تحرير عدد من الصحف الكبرى.

على الجهة الأخرى علينا أن نتذكر أن عدداً لا باس به من اليهود يؤمنون بأن الفقه اليهودي لا يقر قيام دولة أسرائيل ومثال ذلك اليهود من (الحريديم) الذين يحرمون على أنفسهم الخدمة في الجيش. وثمة حركة يهودية تطلق على نفسها اسم "ناطوري كارتا" أي حراس المدينة تحارب الفكر الصهيوني ولا تؤمن بدولة إسرائيل.

إن اليهود الصهاينة الذي عقدوا مؤتمرهم الأول عام 1897 في (بال السويسرية) لم يعقدوه إلا بعد أن أدركوا أن الظرف السياسي الأمريكي والأوروبي، على إختلاف الذرائع، قد بات يعمل لصالحهم. وأقول مختلف الذرائع بغية التمييز بين الدوافع الأمريكية من جهة والأوروبية على الجهة الأخرى، إذ حيث ينسب للمال السياسي والإعلام الصهيوني والتعاطف البروتستانتي صلته بخلق التعاطف الأمريكي فإن أوروبا كانت طامعة أيضاً في التخلص من اليهود الذين كانوا قد أصبحوا مشكلة حقيقية لمجتمعاتها.

ونلاحظ هنا أن الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية ميالة لإتخاذ مواقف لصالح الفلسطينيين ومثال ذلك إسبانيا وأيرلندا، أما البرازيل ذات الأغلبية الكاثوليكية العالمية فمواقفها واضحة. ولا نعني أن هذه الدول محكومة بمواقف ذات صبغة دينية كاثوليكية، إلا أن المعني هنا أن ثقافتها الدينية العامة الداعمة لثقافتها السياسية هي بكل تأكيد معاكسة إن لم تكن متناقضة مع ثقافة المسيحية الصهيونية ممثلة بالجناح البروتستانتي اليميني المتطرف.

***

د. جعفر المظفر

بعد ان توقفت الحياة عندنا وأختلت موازين الحقوق والواجبات.. كان لزاماً علينا ان نتوقف فورا والعودة لمعرفة اساسيات الحياة التي تقدمت فيها الشعوب ووقفنا نحن امامها دون حراك الا ما نعنيه بأننا مسلمون ولاغير.. نعم انه المنهج المدرسي الذي صاغه لنا فقهاء الدين من اتباع البويهيين والسلجوقيين جبرا وخطئا ليعلموننا الأفضلية في التضليل.. ليبقوا هم يحكمون ونحن نرفع شعار "علي وياك علي".. وننتهي نحن الى غير رجعة في العالمين.. فهل سنستمر على الحالة المزرية اليوم، ام نختار البديل لنصل الى التغطية على الحقيقة لننهي التجهيل.. وسط فئة حاكمة مجرمة تقاسمت ثروات الوطن فيما بينها والاخرين.. قسمة لم تشهدها الأوطان منذ فجر السلالات الى اليوم مدفوعة برغبة تدعي فيها انها من أهل المعرفة والعرفان صاحبة الحق في ثروة وطن العراقيين.

لم تكن الاديان السماوية الا نموذجا لفكرة الأديان في الاساطير القديمة نتيجة الحالة الأيمانية بالقوة الخفية وهي ليست ملكاً لمرجعياتها المنتحلة التي تدعي بأحقيتها الباطلة.. بل وجدت منذ عصر الانسان الاول حينما بدأ العقل الفعال يفكر بدرء الخطر عن حياته في الغابة والصحراء وهو يعيش بلا حماية ولا قانون.. حتى تحولت هذه الاساطير القديمة الى حالة ايمانية عند الانسان.. وبمرور الزمن ظهر لها التنظير من الكهنة الذين حولوها الى واقع ايماني، او معتقد ديني لا يناقش في احكامه ونواهيهِ بعد ان غلفوه بالمقدس الذي لا يمس.. من هنا تعددت المظاهر حتى أرتبطت بالاطار الثقافي للشعوب فاصبحت عقيدة دين ملزمة التطبيق.. منها ظهر الأستعلاء على الاخرين.. دون الحقوق.

وحتى تجد لها المسوغ الذي يمكنها من السيطرة على العقول راحوا منظريها ينسبونها الى قوى خفية آلهية بعيدة عن الوجود "الأصنام مثالاً"، متمثلة باشارات او تماثيل صنعت من وحي الخيال لامن صنع الوجود.. حتى اصبح الانسان القديم اسيراً للعواطف الدينية التي صنعوها فخضعت للترغيب والترهيب والثواب والعقاب.. وبمرو ر الزمن اصبحت ديانات لها مرجعياتها المقدسة التي لا يجوزالشك فيها او معارضتها، لانها خًلقت من وحي الهي كما يدعون يمثل وحي الوجود.

وما دروا ان منبعها ديانات المدن العراقية القديمة منذ عهد السومريين من سلسلة اراء كهنتهم والمتفيهقين منهم.. ثم ازدهرت بعد ذلك وتوسعت عند البابليين والاشوريين حتى اصبحت عقيدة لا يجوز التجاوز عليها دون تحقيق.. لكن المهم عند العراقيين، اشتقت منها القوانين كشريعة آور نمو السومري وحمورابي البابلي، ووثائق الآشوريين. فماذا لو ان حمورابي ادعى النبوة آنذاك لصدقوه فكان واحدا منهم.. ومنها انتقلت الى الدول المجاورة في بلاد فارس وصولا لحضارة اليونان والفينيقيين ومصر الفرعونية. فكان البحر المتوسط وسيطة لانتقال الاديان هكذا أخبرتنا الأساطير القديمة "اسطورة الطوفان والكهف وغيرها كثير".. من هنا اعتمدت الاديان كحقيقة على تلاصق المعتقد الديني بالاساطير.

 وبمرور الزمن منها انطلقت الاديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام وما قبلها من اديان وتأملات فاقت كل تصور.. حتى تحولت الى حقائق عند اصحاب الدين الحقيقي المنادى به كواقع صحيح.. فلم يعد احد الا واعتقد بها دون اختيار من رأي او قانون،فالدين الصحيح جاء من اجل العدالة والقانون لا من اجل المتفيهقين من مرجعيات الدين الوهمية "من حكم العدل وصل.. ومن حكم الباطل سقط".. لذا سقطوا دون تمييز. وحين تحولت الى اديان سماوية يصعب رفضها باعتبارها من آله مقدس خالق للكون وما فيه اصبحت عقيدة لا تمس، وهي كلها أدعاءات نبوة لا غير.. من هنا كانت نقطة التحول من الاساطير الى الديانة الواقعية عن طريق الرسل والانبياء بنظر معتنقيها وان اختلفوا في التفاصيل.. ولو أعتقدوا بها حقا لما خرجوا على قوانينها.. مثل اصحاب نظرية المهدي المنتظر لو كانوا يؤمنون بها حقاً لماذا لا يطبقون عدالتها المنتظرة وهم اليوم يحكمون.

كل الاساطير التي وردت في المعتقدات القديمة نقلت للاديان الآلهية باعتبارهاجديدة ومبتكرة من الله حلت في عقول معتنقيها دون تغيير وهي من وَهمَ المبتكر لها لا حقيقة دين.. كأسطورة الطوفان، واسطورة الخلق، والكهف،ويوسف، والقصص القديمة التي جاءت كتنزيل.. وعليها تأسست الديانات السماوية التي الحقت بهما كل التفاصيل الاخرى من عقاب وثواب، وقوانين، في كيفية التكوين في الموت والخلق والخلود والبعث والجنة والنار والحساب والعقاب التي تجسدت في قوانين الخلق والدين،وهي رمزيات حياة لا دين.. تجسدت في ثلاث ديانات هي اليهودية متمثلة بموسى والمسيحية بعيسى والاسلامية بمحمد بن عبد الله.. فكانت ديانته أخر الديانات.. وفي غالبيتها.. رمزيات.

هنا في الديانات الثلاث تطورت فكرة الخلود والروح والنفس.. والجنة والنار.. وفكرة العقاب والثواب.. ولا زال العلماء والفلاسفة الى اليوم يبحثون فيما غُمض من مراسيم الاديان وارتباطها بالحياة.. ليحولوا النصوص الى قوانين.. بعد ظهور الرجل المقدس الذي يأمر فيجب ان يطاع (ولي الأمر كما أرادوه) وهي كلها من وحي اللا وجود.. كأساطير الآولين.

وحين استطاعت قيادات الشعوب القديمة تثبيت هذه الاساطير في معتقداتها كقوانين.. جاءت الاديان السماوية لتتلقفها وتحولها الى حقائق دينية ربانية مقدسة لا يجوز الشك فيها او محاورتها.. وهي كلها من صنع العقل القديم لا الوجود.. فكانت طقوس التطهير والاحتفالات والنذوروالمزارات الوهمية والدعاء لمناسبات هم صنعوها لألهاء الناس بالأمل الموعود وغيرها كثيرحتى باتت تقاليد دينية مقدسة عندهم يحتذى بها الى اليوم.. كلها وضعت في طقوس الديانات حتى جعلوها تثبيت وتأكيد. فكانت الاستجابة لها دون دليل فمشت الناس عليها معتقدة انها من وحي الوجود..

فاسطورة الطوفان مثلاً : بدأت في بلاد ما بين النهرين عند السومريين والبابليين.. متمثلة في الألواح السومرية السبعة،ومسلة حمورابي البابلية،وفي الهندية بالسمكة الكبيرة"فاسكو" التي أنقذتهم من الطوفان والغرق،وبمرور الزمن انتقلت الى الهنود والاغريق والفرس والمصريين "انظر الديانة الزرادشتية والبوذية".. ومن ثم تلقفتها الديانات السماوية لتضفي عليها المنطق القدسي الكبير.. ولتعطي منها دروسا في العدل والحقوق وعدم الاعتداء على الاخرين.. طوفان نوح وقصة يوسف وأهل الكهف مثالاً.

واسطورة الخلق المتمثلة في خلق البشرالقديم الحقيقي والوهم (هوموا.. وأبلس ) ومنها تفرعت بقيت الاساطير. فكانت اسطورة آدم وحواء كبداية في منظور العلم الحديث، ومازال العلماء والفلاسفة يبحثون الى اليوم عن هذه الالغاز الاسطورية لتفيسير الكثير من المعتقدات الدينية، وما غمض من مراسيم الحياة الاخرى.. ولا زلنا نبحث اليوم عن بداية ظهور أول بشر قبل ملايين السنين من قبل مجيء آدم وحواء "انسان النياندترال ". ومن اين جاء هؤلاء البشر ومن خلقهم.. لكن الثابت ان آدم ليس هو اول البشر بل يمثل "الأنسنة " اي بداية ظهور أنسانية الانسان والحقوق. نظرية بحاجة الى بحث وتدقيق بعيدا عن مؤسسة الدين صاحبة الوهميات في التثبيت.

اما قصص الخلق فقد أختلط فيها السحر بالخيال فأنتج قصصا كلها تدعو الى الخلق واسراره المتعددة،وحتى القرآن الكريم يقول:"نحن نقص عليك نبأهم بالحق،الكهف 13".. وهنا يعطينا القرآن خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريعاي التفاعل مع العقيدة،ومع التفاعل بالسلوك ولاغير. كما في اسطورة الخلق عند السومريين والبابليين والفرس والفراعنة وكل منهم له نظريته في الوجود، تمثلت باراء " بيضة ازوريس وتموز عند البابليين " وتوالدها كرمزا للخلود.. واستمرت الاراء تطرح في الحضارة الهندية والصينية وكل له وجهة نظر مخالفة لكن الجميع يصرون على وجود النظرية في زمانهم كان لها وجود.. والكتب السماوية والمخطوطات والبرديات المصرية تقف الى جانب هذا التفسير التاريخي الرصين.. لكن قصة الخلق بدأت بآدم وحواء عند المسلمين كنص مقدس حرم محاورته.. وهي لا زالت بحاجة الى نقاش معمق وتدوين بعد ان فُسر القرآن تفسيرا ترادفيا لم تكن التسميات الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات.. لذا هي بحاجة الى تدقيق.

وهكذا تأثرت الديانة اليهودية بحضارة وتقاليد حضارة مابين النهرين، والفارسية والفرعونية بشريعة اور نمو وشريعة حمورابي. اما المسيحية فقدتأثرت بالفلسفات اليونانية والرومانية وانتقلت منها الى الشرق، اماالاسلامية فقد تاثرت بديانة العرب قبل الاسلام مثل طقوس مناسك الحج والصوم والنذور وزيارات المعابد والادعية فيها،وفي غالبيتها منقولة طبق الأصل من القديم..

وهكذا بمرور الزمن اصبحت الاساطيروطقوسها دلالات مصدرا ايمانيا بعقيدة الله الواحد الاحد للتمسك بالعقيدة الواحدة وتجنب الفوضى.

ومع هذا لم تسلم الدياناتات الثلاثة من هَناتٍ التي ادخل عليها الفقهاء من ابتكاراتهم العقلية الباطلة التي لا اساس لها في الوجود فحولوها الى تقديس.. فتحولت الاديان الى حكم المستغلين كما هي اليوم.. حين أضافوا ولي الأمر لحكم الله تجاوزا على النص المقدس. "أطيعوا الله والرسول وآلوا الأمرمنكم".

فالديانات الثلاثة استحدثت من وحي الاساطير الاولية تحولت الى اديان سماوية بفعل خالقها العظيم.. لذا فان نظريات التزوير الفقهية لعبت دورا في التفريق،هذا التفريق الذي لا يزال يحتل الكثير من التعقيدات الفكرية والفقهية السياسية التي دخلت المجتمعات فمزقتها الى فرق واديان ومذاهب باطلة ما انزل الله بها من سلطان فوقفت حجرة عثرة امام التغير والتطورفي حياة معتنقيها.

وتبقى الديانات السماوية الثلاث لهاصفة التكريم والتقديس شرط ان يلتزم اصحابها بوحدة الهدف، لا التفريق ما دامت كلها منزلة من الله للعالمين كما يعتقدون،وكما جاء في النص القرآني "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل،آل عمران 48". وما دامت تهدف الى وحدة الهدف في الحق والعدل، وصانعة المجتمع دون استغلال وتفريق.. والتخلي عن التعصب، وهذا لم يحدث.. بل حدث العكس حتى غلفت شعوبها بالتخلف والدكتاتورية وضياع الحقوق واللاقانون..

هنا يجب الاعتراف بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطورعبر الزمن وهي ليست مطلقة ومنقوشة فوق حجر.

واخيرا نقول :اذا أردت ان تتحكم في جاهل عليك ان تغلف كل باطل بغلاف الدين بعد ان اصبح الدين عقيدة مستغلة من قبل صانعيها.. وهذا هو واقعنا المزري اليوم.. لذا على الشعوب ان تحرر نفسها بأيديها من المستغلين. فان القدر لم يأتِ بدين ليجعله نقمة على العالمين.. اعتقد ان المسافة أصبحت طويلة علينا وتحقيق الهدف بات شبه مستحيل.. ولكن لا يوجد مستحيل أمام من يحاول قهر المستحيل..

فأين اساتذة المناهج المدرسية التي على عاتقهم يقع التغيير.

***

د. عبد الجبارالعبيدي

هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 شباط /  فبراير 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحًا، تكتلًا ضدّ تكتل، خصوصًا بتعزيز المحور الروسي - الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرةً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم المادي والمعنوي إلى أوكرانيا، التي وضعها حظّها العاثر في طريق روسيا.

وكان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1977 - 1981)، كتب "من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تُصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، فقد كانت أوكرانيا تاريخيًا جزءًا من المجال الحيوي لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثاني دولة انسلخت عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وأبدت سعيًا حثيثًا للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علمًا بأن واشنطن كانت قد قدمت تعهدات لغورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى الناتو، بعد تفكك حلف وارشو، لكن واشنطن تنصّلت من وعودها، وسعت إلى تطويق روسيا، بل خنقها داخل حدودها.

لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل في مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتي تبعها شنّ الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمرّ كما حصل في ضمّ شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئًا تمامًا، لأن الأمر مختلف هذه المرّة، فأوكرانيا تمثّل بوابة روسيا إلى الغرب.

صحيح أن وضع منصّات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازًا كبيرًا لها، وتهديدًا لأمنها القومي ومصالحها الحيوية، وهو ما حذّرت منه، إلّا أن عوقب شنّ الحرب واستمرارها كانت كارثيةً على الجانبين.

وسبق لبوتين أن اتهم واشنطن بتنظيم انقلاب في أوكرانيا لدعم أنصارها وإقصاء الرئيس المنتخب الموالي لروسيا فيكتور إنيوكوفتش، واستبداله بشخصية موالية للغرب، عبر حركة احتجاج شعبية، تلك التي عُرفت باسم "الثورة الملوّنة" (2014)، التي أوصلت بترو بورشنكو ومن بعده فلاديمير زيلينسكي.

من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية - الروسية، يفاجئ أن هذين البلدين السلافيين الجارين، اللذان يدينان بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيرهما بشكل عضوي، وهو ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأساويةً وتعقيدًا، إذْ أن أكثر من 20 % من الروس والأوكرانيين، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكرانيين يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخيًا، حين تكونت أول دولة في كييف، في العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.

فقط في الحرب العالمية الأولى أُعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفيتي في العام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شنّ الألمان النازيين الحرب على الاتحاد السوفيتي في 22 حزيران / يونيو 1941، وذلك على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضًا، انخرطوا في الدفاع عن الوطن السوفيتي، حيث ساهم الجيش الأحمر في تحريرهم  في العام 1945.

وخلال فترة الحكم السوفيتي، وسّعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2 ، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدةً من تدليل زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلّنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها في العام 1956، لكن بعد 58 عامًا أقدم بوتين على استعادتها وفصلها عن أوكرانيا في محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معًا، على حدّ تعبيره، مما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلًا من محاولات "الترويس".

تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عديدة مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافةً إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة "أكرنتهم" والتمييز ضدّهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما في ذلك في الدونباس وشبه جزيرة القرم، وخصوصًا بتقرّبها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية - الروسية.

لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلّح، وخصوصًا ببرنامج حرب النجوم، في عهد الرئيس رونالد ريغان، والآن تسعى لتوريطها في أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكراني، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغاني في مواجهة السوفييت، ردًا على هزيمة فيتنام.

كل هذه الأوضاع عبّر عنها، بحزن وألم، الكاتب والديبلوماسي السابق الروسي - الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، حين كتب يقول "هذه الحرب تمزقني، كانت والدتي روسيةً ووالدي بطلًا أوكرانيًا في الحرب العالمية الثانية..."، ولم يكتف بذلك، بل حذّر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، وذلك في كتابه الموسوم "بوتين - أوكرانيا: الأوجه الخفية"، الصادر عن دار النهار، بيروت، 2023.

***

عبد الحسين شعبان

يتسائل العراقيون ومنذ حوالي ربع قرن بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 حيث سقط الدكتاتور الذي تسبب حكمه في استشهاد اكثر من مليون شاب عراقي في حروبه العبثية عن افاق مستقبل العراق وها نحن الان فقدنا عقدين من الزمان ادت بتراجع العراق على جميع الاصعدة الى مستوى غير معقول من التخلف والفشل واصبحت المحافظات الجنوبية بشكل خاص في حالة يرثى لها !

ان هيمنة القوى الدينية من فئة الاسلام السياسي على مقاليد الحكم ليس بامكانها الا ان تؤدي بالعراق الى الخراب والدمار كما تثبت تجارب الدول المتقدمة حيث لم تنهض الا بعد الخلاص من هيمنة الكنيسة في عصر النهضة السحيق حيث حققت تلك الدول تقدما على جميع الاصعدة وقدمت للبشرية انجازات علمية وتكنولوجية لا تحصى  ويسير العالم اليوم بوتائر سريعة جدا تؤدي الى توسيع الهوة بين بلداننا "النامية او النايمة" وبين العالم المتقدم .

ان انتفاضة اكتوبر 2019 كانت بارقة الامل للعراق والعراقيين وارعبت قوى الظلام المسيطرة على الحكم كما اثبتت ان شباب العراق الواعي رغم كافة المصاعب هو امل المستقبل الواعد وتمكنت الانتفاضة من تحقيق الكثير في مسارها حيث نجحت في ارسال حكومة المجرم عادل عبد المهدي الى مزبلة التاريخ وارغموا البرلمان على تغيير قانون الانتخابات كما ان شعاراتها وعلى رأسها شعار "نريد وطن" عبرت عن وعي ونضوج عالي وحاول ازلام السلطة اغداق الوعود الكاذبة لتخليص حكمها الذي اوشك على السقوط .

لقد لملم ازلام السلطة اوضاعهم ويسيطرون حاليا ومن جديد  وبنفس اساليبهم البالية على كافة مقاليد الحكم ولم يتعلموا شيئا من تجربتهم السابقة ويتصورون مخطئين ان بامكانهم ارجاع عقارب الساعة الى الوراء ومحو افكار واثار الانتفاضة وهو المستحيل من عقول وافئدة العراقيين حيث في هذا الوضع الشاذ قد اعادوا قانون الانتخابات القديم وكذلك اعادوا حلقة الفساد الساقطة "مجالس المحافظات" الى العمل بعد عشرة سنوات من اختفائها لتكون حلقة فساد وسرقة على صعيد المحافظات اذ لايكفيهم كما يبدو "اللغف" والنهب المتواصل على الصعيد المركزي في الوزارات ومكتب رئيس الوزراء.

تشكلت الحكومة الحالية قبل اكثر من عام لتمثل جماعات الاطار التي خسرت الانتخابات واستحوذت بالرغم من ذلك وبشكل غير عادل على مقاعد برلمانية ليست من استحقاقها وطرحت الحكومة برنامجا مليئا بالوعود وفي مقدمتها محاربة الفساد " الذي انعكس في اطلاق سراح نور زهير صاحب سرقة القرن!" واجراء انتخابات برلمانية مبكرة تنصلت عنه لاحقا وبدل ان تركز الحكومة على برامج تنموية حقيقية نجدها مشغولة بخدمات بلدية صغيرة لغرض الدعاية والاعلان عبر ابواق من المرتزقة مهمتها تلميع صورة اي حاكم .

كيف يمكن للحكومة الحالية تقديم القتلة المسئولين عن قتل اكثر من الف شهيد في انتفاضة اكتوبر 2019 وهي في الحقيقة تمثل تلك المليشيات المجرمة كما ان الحاكم الفعلي المتنفذ هم مسلحين يستلمون رواتبهم من الدولة ولكن يخضعون في قراراتهم للاجنبي وقد ارتفعت في الاونة الاخيرة اصوات تطالب باخراج القوات الامريكية حرصا على سيادة البلد المنتهكة وليس هناك اي وطني لا يتمنى تحرير بلاده واخراج كافة القوى الاجنبية وينبغي ان ندرك بان قرار مغادرة الامريكان هو بيدهم وقد صرحوا مرات عديدة اصرارهم على البقاء وطالما هي قوات جاءت عام 2014 من جديد بدعوة من الحكومة العراقية فان اخراجها لن يتم الا عبر مفاوضات شاقة ليس للحكومة الحالية المراوغة والتي تكذب على الشعب قدرة حقيقية او حتى قد لا تكون لديها نية حقيقية على ادارة مثل هذه المفاوضات كما ان السؤال الاخر هو ماذا بشان القوات الاجنبية الاخرى كالقوات التركية او "الخبراء الايرانيين" .

ان الحاكم الفعلي في العراق حاليا هي المليشيات المسلحة والتي يصف احد قادتها رئيس الوزراء بمدير عام عندهم اي ان المليشيات تصول وتجول في الوطن وتنتهج سياسات تخدم مصالح دول الجوار على الضد من مصلحة الوطن وقد عادت اليوم الى عمليات الاغتيالات السياسية والتهديدات بقوة السلاح المنفلت والتي لا تعكس اي استتباب للامن عكس ما تدعيه الحكومة واما البرلمان العراقي في عاجز وفاشل عن اصدار اية قوانين تذكر عدى القوانين التي تصب في خانة قمع الاراء كما يجري حاليا في محاولات تمشية قانون المعلوماتية الذي يستهدف فرض المزيد من القيود على الحريات العامة .

ان الاوضاع الاقتصادية السيـة لاغلبية المواطنين والغلاء الفاحش الذي يزيد في افقار الناس في نجد بسبب الفساد المستشري طبقة من السراق والحرامية متخمة بسرقة المليارات من قوت الشعب والذي يعاني محروما من الخدمات الاساسية الضرورية كالكهرباء التي هي عصب الحياة في هذا العصر اضافة الى انحدار مستوى التعليم بكافة مراحله لمديات مخيفة وكذلك الوضع الصحي الذي انهار فيه عمليا قطاع الصحة الحكومية والتي يعتمد عليها كافة الطبقات المسحوقة .

ان حرب اسرائيل وجرائم الابادة التي ترتكبها بحق سكان غزة وخاضة المدنيين العزل وفي مقدمتهم النساء والاطفال قد سلطت الاضواء على الازمات التي تعاني منها منطقة الشرق الاوسط ومنها اوضاع العراق ومشاكله التي عجزت حكومات المحاصصة والطائفية الفاسدة المتسلطة على الحكم والتي لا تمثل في احسن الاحوال اكثر من 20% من المواطنين الذين فقدوا الثقة بهذه الزمر الفاشلة والتي ليس لها هدف سوى مصالحها الشخصية ومواصلتها لسرقة ثروات الشعب والتي ادت وتؤدي الى المزيد من افقاره .

ان مستقبل العراق ونموه وتقدمه مرهون بالخلاص من الحكم الطائفي المحاصصاتي الفاشل الحالي وهو سيتحقق على ايدي ابناء وبنات العراق التبتوا بتضحياتهم الهائلة في اكتوبر 2019 بانهم قادرين على تخليص العراق وانتشاله من وضعه المزري الحالي ولاشك فان الانتفاضاة القادمة عندما تحصل فستكون قد تعلمت الدروس والعبر من الانتفاضة السابقة وسيكون النصر حليفها لامحالة .

***

محمد الموسوي

 

لا أميل غالباً إلى اللغة الانتصارية الشعاراتية رغم ضرورتها أحيانا لرفع المعنويات ومواجهة حملات التثبيط والتيئيس التي يشنها العدو وأذنابه وجواسيسه، وأفضل على تلك اللغة تشغيل آليات العقلانية النقدية والواقعية لرؤية الواقع الحقيقي على الأرض. ولكن ورغم احتكامي دائماً إلى مقولة غرامشي حول ضرورة التوازن بين "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، أجد من الواقعي تماما القول إنَّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى الرغم من تواضع إمكاناتها القتالية المادية وكونها محاصرة حصارا شديدا فقد انتصرت المقاومة انتصارا لا لبس فيه بصمودها أمام جريمة الإبادة الجماعية واستمرارها في القتال الضاري لقرابة خمسة أشهر.

* ما حدث في السابع من تشرين/ أكتوبر 2023، كان هجوماً خاطفاً جريئاً ودقيقاً استهدف الجهاز العسكري والأمني والاستيطاني للكيان "فرقة غلاف غزة" بشكل رئيس، وقد حقق المهاجمون انتصاراً كبيراً باعتراف العدو نفسه. وكان لابد للعدو بعد أن أفاق من ذهول الصدمة أن يلجأ إلى الانتقام المدمر فشنَّ هجومه الغادر على الشعب الفلسطيني وصمدت المقاومة وصمد الشعب وكان مقدراً أن ينتهي الهجوم الانتقامي بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولكن قيادة الكيان اليمينية الدينية المتطرفة حصلت من أميركا والغرب على شيك على بياض لمواصلة حربها الإبادة مستفيدة من أجواء الخنوع والذل في العالمين العربي والإسلامي، فواصلت عمليات القتل المنهجي المبرمج وصمدت المقاومة، وسُفكَت دماء الشعب سيولا، وبعد خمسة أشهر يعجب المرء كيف تمكنت مقاومة تقدر بآلاف المسلحين في منطقة ضيقة (بطول 41 كم وعرض يتراوح بين 6 و12 كم) ومحاصرة –كما قلنا - برا وجوا وبحرا من الصمود ومواصلة القتال في مواجهة واحد من احدث جيوش العالم وتوجيه ضربات صاروخية مستمر على مستوطنات العدو وإثخان هذا الجيش بالقتلى والجرحى والمعاقين!

* لا ريب أن المقاومة قد نزفت دماء أيضا وقدمت شهداء وجرحى وهذا أمر متوقع في حرب ضارية كهذه، وخسرت بعض الأنفاق والعتاد والأسلحة ولكن الخلاصة المهمة هي أنها استمرت وماتزال مستمرة في القتال وخصوصا خلف خطوط العدو وفي المناطق التي سيطرت عليها قوات العدو منذ أشهر في الشمال والوسط وجنوب القطاع. وأن جيش العدو باعتراف قياداته عاجز عن سحب دباباته وآلياته المدمرة والمعطوبة وتسود الفوضى والكوابيس المرضية صفوفه، فوضى دفعت العدو لتخصيص جيش من الأطباء والباحثين النفسانيين لمعالجة هذه الظاهرة المرضية المتفاقمة أما حالات الإعاقة والخروج من الخدمة العسكرية فهي بالآلاف.

* وآخر الأخبار تقول إن المقاومة كما يظهر قد فهمت اللعبة جيدا والضغوطات العربية عليها وهذا ما عبر عنه القيادي إسماعيل هنية في خطابه اليوم والذي قال فيه "نؤكد للصهاينة وللولايات المتحدة شريكتهم في العدوان إنَّ ما عجزوا عن فرضه في الميدان لن يأخذوه بمكائد السياسة" وأضاف محذرا "من قيام إسرائيل بعملية عسكرية برية في رفح، متوعدا إياها بأن المقاومة الفلسطينية في الميدان ستتصدى لها، ودعا العالم -خصوصا الدول العربية- إلى التصدي لهذا العدو وكبح جماحه لثنيه عن غزو رفح". وهذا الكلام يوحي بأن المقاومة في سبيلها الى رفض الإملاءات الصهيوأميركية عبر الوسيطين المصري والقطري، ويعني أيضا أن العدو في سبيله لارتكاب مجزرة ضخمة في رفح لتحقق أوهام وكوابيس نتنياهو وعصابات اليمين الصهيوني الدني المتطرف المحيط به وعندها سيلحق العار بالعدو الصهيوأميركي وبأذنابه من أنظمة الخيانة العربية.

إن المنطق المتخاذل الذي يحمل المقاومة مسؤولية ما سيحدث من هجوم دموي على رفح إذا رفضت صفقة باريس الجديدة منطق فارغ ومخاتل يتناسى أن العدو لم يوافق على إنهاء العدوان ووقف إطلاق النار بموجب هذه الصفقة أي أن الهجوم على رفح قد تأجل قليلا كما قال المجرم نتنياهو حرفيا، بمعنى سواء وافقت المقاومة أو لم توفق على شروط العدو فالهجوم على رفح سيحدث فلماذا التفريط بورقة القوة الوحيدة بيد المقاومة والموافقة على الشروط الصهيوأميركية؟

* لقد فشل جيش العدو حتى اليوم بتحرير أيٍّ من محتجزيه وأسراه إلا شخصين لم يكونا بيد المقاومة وهناك شكوك بإن مخابرات العدو حصلت عليهما عبر مسرحية مخطط لها ومقابل فدية مالية ضخمة.

* وقد فشل العدو طيلة الخمسة أشهر من أسر قيادات مهمة أو حتى مقاتلين عاديين من المقاومة وعرضه على الجمهور الصهيوني المتعطش لدماء الفلسطينيين كما عبرت عن ذلك وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية ماي غولان بقولها "أنا شخصيا فخورة بالخراب والقتل فخورة بدمار غزة.. وبأن كل طفل حتى إلى ما بعد 80 عاماً من الآن سيروي لأحفاده ما فعله اليهود عندما تم قتل أقاربهم"! فعن أي سلام يمكن الكلام مستقبلا مع سفاكي دماء وقتلة مجرمين كهؤلاء يتفاخرون بالخراب والتدمير وقتل الأطفال؟ ألا تكون "إسرائيل قد حكمت على نفسها بالإعدام بعد جريمتها الرهيبة التي ارتكبتها وماتزال ترتكبها بحق الشعب الذي يزعم البعض إنهم يرون العيش معه بسلام؟.

* كما وقد فشل العدو بتهجير الشعب الفلسطيني الغزاوي فشلا ذريعا رغم تواطؤ الأنظمة الرجعية العربية وإحكامها الحصار وخصوصا من حدود القطاع مع مصر "ممر فيلادلفيا"، وما يزال سبعمائة ألف فلسطيني يعانون الجوع في شمال غزة شأنهم شأن مواطنيهم في الوسط والجنوب ولكنهم صامدون.

* وقد ألحقت المقاومة خسائر مذهلة بجيش العدو معبرا عنها بمئات القتلى وآلاف الجرحى من ضباط وجنود والمعدات والآليات، وحاصرت العدو سياسيا واستثمرت دعوى مقاضاة الكيان أمام محكمة العدل الدولية التي رفعتها الشقيقة الكبرى دولة جنوب أفريقيا بغض النظر عن نتائجها المشكوك فيها فلا خير يرتجى من المؤسسات الدولية الاستعمارية التي أنشأها الغرب.

* وقد هزَّت المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني والروح المعنوية لمستوطنيه هزّا عميقا ولأول مرة منذ قيام الكيان سنة 1948، وأفقدته الشعور بالأمن والأمان لعقود قادمة إذا ظل على قيد الحياة وهذا أمر مشكوك فيه حتى من قبل بعض "الأذكياء" في الكيان، كما فرَّغت عرس الرجعيات العربية العميلة في ما سمي الاتفاقيات الإبراهيمية للاعتراف بالعدو والتطبيع معه كالإمارات والبحرين والمغرب بعد استسلام مصر والأردن وجعل الرجعيات التي لم تشارك تتردد قليلا في اللحاق بزميلاتها كالسعودية والسودان وموريتانيا.

* ومع ورقة باريس الثانية يحاول العدو الأميركي مدعوما من بعض الأنظمة العربية الخانعة انتزاع اعتراف أولي بالتعب والإرهاق من المقاومة والتحضير لجولة أخرى بعد شهر رمضان إذا وافقت المقاومة على الشروط الجديدة... ولكن هيهات لقد قال التأريخ وقولته وسجل على صفحاته:

لقد انتصرت المقاومة الفلسطينية في غزة وهُزم العدو وحرم من تسجيل انتصار ساحق كما كان يأمل وكما كان يتيح له جيشه الحديث المدعوم بجسر جوي أميركي غربي، ولو كان هناك شيء قليل من العدل والنزاهة في هذا العالم لأوقف إطلاق النار وأجبر الكيان الصهيوني على وقف المذبحة بحق المدنيين وسحب قواته ولكنه عالم إمبريالي غاشم وظالم ومغمس بدماء الشعوب والأمم ولكنه سيغرب يوما ويزول كما زالت الحضارات الظالمة البائدة قبله. أما الكيان الصهيوني فقد حكم على نفسه بالإعدام ولن يكون له مستقبل في المشرق العربي وسيلتحق بالكيانات الإفرنجية "الصليبية" الأربعة (كونتية الرها (1098-1150) وإمارة أنطاكية (1098-1287) وكونتية طرابلس (1102-1289) ومملكة بيت المقدس (1099–1291). التي أقامها الأعداء قديما في بلاد الشام ولكنها صارت شيئا من رماد التأريخ!

***

علاء الللامي

 

من الأقوال العربية المأثورة والتي ينسبها البعض لعلي بن أبي طالب (الاعتراف بالخطأ فضيلة) وهو قول له أساس ومرجعية دينية بأن البشر غير معصومين من الخطأ، حتى الأنبياء والرسل غير معصومين من الخطأ في الأمور الدنيوية فما بالك بالقيادات السياسية.

مناسبة هذا الاستهلال هو المعاندة والمكابرة المسّيطرة على حركة حماس ورفضها الاستفادة من تجارب الشعوب ومن تجاربها ومغامراتها السابقة التي أضرت بالقضية الوطنية وكان آخرها عملية طوفان الأقصى التي أعطت الكيان اليهودي الصهيوني مبررا لتنفيذ ما كان يخطط له لغزة وكل القضية الوطنية، ومع ذلك ما زالت تصر قيادة حماس على موقفها وترفض الاعتراف بخطئها وتتحدث عن بطولات وإنجازات متجاهلة الشعب ومعاناته في القطاع والتي وصلت لدرجة أكل الناس للحشائش وأعلاف الحيوانات وامتهان كرامته وأدميته من طرف الاحتلال وتجار الحروب ومن عناصر حماس أنفسهم.

حركة حماس تعاند وتكابر متجاهلة ما يجري على الأرض وأن الأوطان أهم من الأحزاب وأن الشعب وكرامته وأمنه أهم من القيادات السياسية وخصوصا عندما تكون هذه القيادات خارج الوطن ولا تعاني ما يعانيه الشعب.

صحيح أن حركة حماس نجحت بانتخابات تشريعية عام ٢٠٠٦ وأنها جزء من الشعب الفلسطيني ولها حضور شعبي، وصحيح أنها حركة مقاومة تقاتل الاحتلال على طريقتها وحسب أجندتها، ولكن علينا التذكير بما سبق أن كتبنا عنه مطولا منذ تنفيذ الكيان اليهودي لمخطط الانسحاب من طرف واحد في خريف 2005:

1- التزامن المريب لخروج جيش الاحتلال من غزة 2005 والانتخابات التي فرضتها واشنطن على القيادة الفلسطينية 2006 والانقلاب على السلطة 2007.

2-  نجاحها في الانتخابات كان في سياق انتخابات في الضفة وغزة لأعضاء مجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي نصت عليها اتفاقية أوسلو، وقبل ذلك كانت ترفض المشاركة في الانتخابات وتُكفِر كل من يشارك فيها، وجاءت مشاركتها بعد أن طرحت واشنطن مشروع الشرق الأوسط الكبير ٢٠٠٤ الذي يسعى لمشاركة الجماعات الإسلامية في السلطة.

3-  لم يكلف الفلسطينيون حركة حماس أن تنوب عن منظمة التحرير الممثل الشرعي لقيادة الشعب الفلسطيني ونجاحها في الانتخابات لا يؤهلها لذلك، كما لم يكلفها الشعب أو تأخذ رأيه بأن تتفاوض مع العالم الخارجي باسمه.

4-  لم يفوضها من انتخبها بالقيام بانقلاب على السلطة الوطنية واتهامها بالخيانة.

5-   لم يفوضها الشعب أو أخذت موافقته عندما عرضت قطاع غزة لخمسة حروب مدمر.

6-   لم يفوضها الشعب بأن تجعل مرجعية الشعب والقضية جماعة الإخوان المسلمين وميثاق حركة حماس.

7-  لم تأخذ رأي الشعب عندما استبدلت الوحدة الوطنية بمحور المقاومة ووحدة الساحات، وراهنت على قطر وتركيا وإيران وجماعات الإسلام السياسي التي تقف اليوم موقف المتفرج على حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة.

8-  لم تستشر حركة حماس الشعب ولا حتى فصائل المقاومة الأخرى عندما قامت بعملية طوفان الأقصى، كما لم يفوض الأسرى حركة حماس بتحريرهم على حساب تدمير غزة وأكثر من مائة ألف شهيد وجريح..

سكت الشعب عن الممارسات السلطوية لحركة حماس وتفردها بالسلطة والحكم لمدة 17 عاما كما صبر على فشلها في إدارة القطاع وعلى كل مظاهر الفساد المالي والإداري وعلى مسؤوليتها عن استمرار محاصرة القطاع وتفقير أهله في الوقت الذي كان عناصرها يعيشون حياة مريحة نسبيا وقادتها يقيمون في الفنادق والفلل في قطر وتركيا، ولم يكن صمت وسكوت الشعب قبولا بحكمها ونهجها ولكن تجنبا لفتنة داخلية يوظفها العدو لصالحه.

وسكت الشعب عندما هربت أو تسربت القيادات السياسية في الصف الأول من القطاع إلى تركيا وقطر قبيل الحرب الحالية حاملة معها ملايين الدولارات المنهوبة من أهالي غزة، تاركة عناصر حماس وقيادات من الصف الثاني بقيادة السجين المُحرر عديم التجربة بالسياسة والقيادة ليتدبروا أمرهم.

وعندما انكشف عجز قيادة الداخل بسبب عدم خبرتهم في القضايا الاستراتيجية وما تركته لهم القيادة السياسية الهاربة من أوضاع اقتصادية واجتماعية معقدة بحيث أصبحت سلطة حماس وعناصرها يعتمدون على أموال قطرية تأتيهم عبر دولة العدو وبموافقته أو من خلال مشاركة عمال غزة ما يحصلون من أموال يحصلون عليها بعرق جبينهم من العمل في دولة الاحتلال، أو من ضرائب وخوات يفرضونها عنوة على الشعب، أو من أية جهة تخفف عنهم مسؤولية الحكم دون أن ينفقوا من أمول حماس شيئا لأن أموال حماس لحماس كما قال خليل الحية.... عندها لجأوا لتسخين جبهة غزة من خلال إطلاق صواريخ عبثية تارة أو من خلال مسيرات العودة الأكثر عبثية والتي تسببت بقطع أطراف ألاف الشباب ومقتل المئات، وعندما لم تسعفهم كل هذه الوسائل كانت عملية طوفان الأقصى.

فلماذا يدفع الشعب والقضية ثمن أخطاء حزب وحركة لا تمثل الشعب الفلسطيني وثمن مغامرة غير محسوبة؟

تراجع حماس عن عنادها ومكابرتها قد تنقذ القضية الوطنية مما يخَطِط له الكيان الصهيوني متحالفا مع الغرب وبعض الدول العربية، وينقذ القطاع من حرب الإبادة وأهله من التهجير وينقذ حتى المقاومة من هزيمة نكراء لن ينفع معها كل البطولات الفردية للمقاومين.

***

إبراهيم ابراش

حسب مؤشر الديمقراطية لعام 2023 الصادر عن مرصد Economist Intellingence . يبدو ان العام الماضي كان عاما يؤشر لتدني مستوى الديمقراطية في العديد من دول العالم. وفي ذات المؤشر حل العراق بالمرتبة 128 عالميا من أصل 165 دولة، حيث يظهر هذا الرقم عن تراجع كبير في مؤشر الديمقراطية في مؤسسات السلطة. مما يجعل العراق في التوصيف العام في المنطقة الحمراء،  أي في مصاف الدول التي تحكم من قبل نظام استبدادي قمعي.

يتطرق أستاذ علم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي في إحدى لمحاته عن المجتمع العراقي،  للعديد من العلل التي تميز المجتمع،  حيث يقول في إحدى الفقرات (إن المجتمع العراقي حائر) ثم في فقرة أخرى يقول،  إن الدولة أساس مهم من أسس حضارة الشعوب. الهدف الأعم لدراسة الدكتور الوردي كان محاولة تشخيص علل وظواهر سائدة في المجتمع العراقي ساسيولوجيا وكشف أسباب حيرة المجتمع العراقي،  وعلاقة هذا بطبيعة التنازع الحضاري بين البداوة والمدنية في بناء الدولة وتشكيلاتها الاجتماعية السياسية.وهذه بحد ذاتها واحدة من أشد الإشكالات تعقيدا ووقعا على حراك المجتمع لحد الآن. ورغم أن العلامة الوردي أتكأ فقط على علم الاجتماع في دراسته وبحثه عن العقد والعلل والأزمات في المجتمع،  فهو لم يجافي محاولة سبر غور الأسباب الأخرى وقراءة  المعنى الشامل لجوهر السلطة في العراق منذ تأسيسها، وبحث في مناهجها وطرق سلوكها وتأثيرها الحاسم والكبير في بناء القيم الاجتماعية والسياسية لعموم الشعب العراقي.

وهناك أيضا الكثير من الدراسات المنهجية والبحوث التي ذهبت لقراءة الوضع العراقي وفق رؤى ومشارب عديدة،  حاولت من خلالها تلمس وتقليب الأزمات المجتمعية وتشخيصها ومن ثم إيجاد الحلول لها،  ومن ثم الخروج بنتائج تهدف لوضع أسس وقواعد يمكن من خلالها تجاوز تلك الأزمات وإخراج العراق من حال الإرباك والتخبط السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي وصل إليه.

مجمل تلك الدراسات والنقاشات خرجت بنتائج متقاربة خلصت دون لبس إلى أن جوهر الإشكال يكمن في موضوعة علاقة السلطة بالديمقراطية،  وهي علاقة شائكة في مسيرها الطويل منذ تأسيس السلطة الوطنية عام 1921. ولا يمكن في أية حال من الأحوال فصلهما عن بعض،  كونهما جزءاً جوهرياً لموضوعة واحدة .وتلازمهما مع بعض يعطي نموذجا متكافئا لمجتمع حيوي يمتلك الوعي بقدراته وخبراته ومصائره .وإن فصلهما وتسويفهما بهرطقات أيدلوجية أو التقليل من أهمية ربطهما، يعيد أبدا بلورة وتغذية بؤر الأزمات ويجعل السلطة تراوح دائما في ذات المواقع العقيمة التي اختارتها كطريق ورؤى لإدارة الدولة.

في ظاهرتي الديمقراطية والحريات وفي القطبين المهمين منهما السياسي والاجتماعي،  فالهدف الأعم من علاقتهما بالبعض،  والذي يحتل أهمية فائقة،  هو إعادة صياغة منظومة الأفكار التي تنظم سير العلاقات غير السوية التي وسمت المجتمع بطابعها،  والتي افتعلتها أو صنعتها وغذتها الأعراف والتقاليد المجتمعية ومعها السلطة السياسية والعسكر منذ بداية تشكيل الدولة العراقية. وكان طابعها وأداؤها دائما ما يظهر على شكل محاولات قسرية صريحة وضمنية لتحجيم وإبعاد مؤسسات المجتمع المدني عن ممارسة دورها. وتغذية ليس فقط الخصومات والفرقة السياسية،  وإنما الحث الدائم على تصعيد الخلافات الأثنية والطائفية،  وزرع الخصومة والاختلاف بين الفرد والسلطة،  ومن ثم بين التجمعات السكانية.ويحدث هذا  من خلال الإرهاب اليومي المنظم،  كوسيلة لسلب الحقوق المدنية وممارسة التعديات الفجة على حقوق الإنسان والحريات العامة.

لاشك أن الديمقراطية الحقيقية تحمل من السمات  ما يمكن خلالها تطمين الكثير من حاجات الشعب الذي بات  يشعر وبمختلف شرائحه وطوائفه بحجم الكارثة والخيبات التي فرضت عليه قسرا عبر عقود كثيرة ومن خلال تداول السلطة بالقوة المفرطة،  بنماذج هجينة ومختلفة لحكومات متعددة المناهج والرؤى،  لتضعه في العديد من الأوقات في متاهات لا طاقة لبني البشر عليها،  بالرغم من كونه من أكثر شعوب العالم تطلعا نحو الديمقراطية والحريات المدنية فهو مجتمع مديني بالفطرة.

أس الديمقراطية يعني وفي المقدمة النزوع لبناء دولة القانون التي تفضي لشعور المواطنين بتكافؤ الفرص وحسب الاستحقاق،  وتدفع عنهم الخوف والريبة،  وتنمي لديهم ملكات الإبداع والإخلاص للمجتمع والوطن. ودولة القانون تعني بالضرورة هزيمة ماحقة لكل التشكيلات والأفكار التي تتبنى القيم العشائرية والطائفية والمناطقية والوجاهة. فالديمقراطية ليست ذات طابع سياسي فحسب وإنما هي معطى اجتماعي ثقافي أولا.

من الواضح للعيان فأن دولة القانون الديمقراطية ترسخ وتعيد تنظيم ليس فقط عناصر التكافؤ الاجتماعي وحرية الاختيار والتطور العلمي والثقافي والاقتصادي،  وإنما تعيد أيضا ترتيب الحسابات السياسية في علاقة السلطة بالشعب،  ومثلها علاقات القوى والفعاليات السياسية مع بعضها . والأهم من كل هذا،  تؤكد بفاعلية وقبل أي شيء آخر الهوية الوطنية.

في جانب حساس من الموضوعة فأن ضمان سيادة القانون وخيار الديمقراطية يمكن أن تكون الدعوة إليها مضللة ووسيلة لأهداف منتقاة بشكل تحريفي ومزيف. ويأتي ذلك من خلال فرض علاقات وتعميم صيغ ترسخ مصالح فعاليات وقوى سياسية محددة،  وبمسميات مختلقة تنشأ عنها روابط تتحكم في مفاصل الحياة العامة من خلال وضع القوانين وتجييرها لصالح شريحة أو قوى أو فئة بعينها،  وعندها يوضع مفهوم سلطة القانون حصرا تحت معطف أيدلوجي أو مذهبي يفضي في النهاية إلى مفاقمة الاختلال والأزمات.

ان السعي لتحقيق التكافؤ بين أبناء الشعب وبينهم والسلطة،  من خلال تعميم لغة وقواعد القانون وضمانة الحقوق الإنسانية،  كان ولازال الجوهر والمغزى العام لنضال الشعب العراقي في جميع المراحل التاريخية التي مرت عليه. وكان دائما يتطلع لأن يصبح للسلطة دورا جديدا تغدو معه أداة لتطوير وتحديث بنية المجتمع،  وتأمين السلام والوئام الاجتماعي،  وان تشعره بأهمية مشاركته وفاعليتها في تقرير مصائره قبل أي شيء آخر. لتغدو وبشكل حقيقي الممثل الكفء لجميع شرائحه وفئاته.

إجمال ذلك يقتضي وجود سلطة ذات مواصفات بينة،  تكون في حقيقة الأمر المرجعية التي تطمئن الناس على حقوقهم،  في نفس الوقت الذي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك إنها قادرة على تهيئة الظروف لبناء حياة إنسانية أكثر رقيا وتسامحا وعدالة ومساواة،  في إطار حضاري يبعد كل تلك الخيبات  والألام التي غلفت حياة العراقيين عبر عهود طويلة من القهر والاستعباد .وان لا تكون تلك السلطة سلطة أبوية كهنوتية تزعم وتبرر لنفسها تمثيل الأمة العراقية وتكون موضوعتها  الحق في التفكير واتخاذ القرار ضمن كواليسها المغلقة نيابة عن شعب مغيب،  وبعد ان يتلبسها هوس الحكم،  لتشعر بكونها دون سواها الطريق للنجاحات والبناء والخير والمستقبل الأفضل.

إن فلسفة القيادة والإدارة واختصارها وحصرها بيد مجموعة بعينها تدعي سمو منهجها في إدارة السلطة وامتلاكها للحقيقة دون الآخرين، فهذا لوحده يكفي ليكون دافعا حيويا لإثارة جميع مكامن الحقد والعداوة والفتن والاستعداد للفوضى والتخريب والتبرع بالإيذاء دون مبررات أخلاقية أو واعز من ضمير  .وكذلك لإباحة سرقة المال العام وتدمير الحياة المدنية وإثارة النزاعات،  وخلق بؤر ومنظومات وقوى تكون لها اليد الطولى في تسيير حياة الناس وتشكيل علاقاتهم .وتعميم صيغ مشوهة ومؤذية عن المغزى الخاص الذي يربط المواطن بوطنه وبمؤسسات الدولة والمجتمع.وفي مقدمة ذلك  زرع الفصام والخصام المستديم في النفوس اتجاه السلطة التي باتت ملكية خاصة و قدس الأقداس، لا يمكن لبشر الحديث حولها أو مناقشتها دون موافقة سدنتها.

تلك الإشكاليات بسعتها وضخامتها تتطلب المعاينة والتدقيق الحقيقيين من قبل  أبناء شعبنا وفعالياته الوطنية ومثلهم السلطة . وتتطلب ثقافة حقيقية تنسجم وروح العصر. و أن لا تغيب عنا ضرورة وأهمية الديمقراطية والتعددية كوصفة ناجعة وأكيدة تطمئن الناس وتعيد لهم ثقتهم بقدراتهم وبنبالة وسمو ورفعة الانتماء للوطن . وتؤسس لمرحلة تؤكد على غنى وأهمية فسيفساء المجتمع العراقي ووحدته الوطنية.

***

فرات المحسن

 

 الفشل الإسرائيلي النازي الفاشي الداعشي

الناظر في حرب إسرائيل النازية الفاشية الداعشية على غزة العزة يسجل بوضوح:

أ ـ الأهداف المعلنة للحرب؛

ب ـ الأهداف المضمرة للحرب؛

بالنسبة للأهداف المعلنة لهذه الحرب التي أعلنها " النتن ياهو "، وهي: القضاء على حركة حماس كليا، لإنهاء تهديدها للكيان الصهيوني النازي الفاشي الداعشي بصفة تامة وإزاحتها عن حكم غزة العزة، وتحرير أسرى السابع من أكتوبر 2023 الصهاينة القتلة لدى حماس، وإخراجهم من قطاع غزة العزة. وملحقات هذين الهدفين التي تنضاف مع تصريحات القادة الصهاينة البرابرة الهمج الخمج.

وأما بالنسبة للأهداف المضمرة للحرب، فهي: الإبادة الجماعية للفلسطينيين جميعهم دون استثناء، وعلى الترتيب والأولوية، بدء من غزة العزة وانتهاء بفلسطينيي 48 ومرورا بالضفة الغربية. وقتل مقومات الحياة في غزة العزة بالتدمير الشامل للقطاع بنية ووظيفة، وللضفة الغربية بالمغتصبات والمستعمرات الصهيونية النازية الفاشية الداعشية. وإسقاط المشروع الفلسطيني في تأسيس دولتهم المستقلة بعيدا عن الملاحظات والتحفظات بخصوص المساحة والحدود. ففلسطين التاريخية هي الهدف لكل إنسان مقاوم وحر. وإفراغ القطاع من أهله للعودة إليه بالمغتصبات والمستعمرات ترحيلا إلى خارج فلسطين المحتلة، مصر والأردن ولبنان والدول الغربية والعربية، تحقيقا لتصفية القضية الفلسطينية بصفة نهائية.

وبالنسبة للأهداف المعلنة والمضمرة؛ رغم ما يربو عن خمسة أشهر من الحرب، لم يحقق الصهاينة النازيون الفاشيون الداعشيون وجيشهم المهزوم أهدافهم المعلنة أمام المقاومة. لكنهم للمضمرة؛ فهم يقتلون ولا يقاتلون في غزة العزة، يقتلون الأبرياء بمختلف أعمارهم ومهنهم وجنسهم. لا يفرقون بينهم في شيء، كل سواء بالنسبة للجيش الغاصب المهزوم الهمجي البربري، بمعنى حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ويدمرون كل شيء بنية تحتية ومنشآت مدنية ومساجد وكنائس ومستشفيات ومركبات صحية ... ويقطعون ويمنعون سبل العيش للإنسان الغزاوي العزيز أدوية وتجهيزات ومواد غذائية وماء، بمعنى حرب التجويع ... إنهم يبيدون الحياة الإنسانية للإنسان قاطبة في الكون بعنوان الإنسان الغزاوي الكريم. وباحتضان من قادة وحكومات الدول الغربية وعلى رأسها هولاكو العصر أمريكا الرسمية لا الشعبية الهمجية البربرية، سفاح العالم واللص العالمي قاطع الطرق، وناهب الثروات ... فهم حققوا بعض الأهداف دون التهجير، نتيجة تمسك الغزاويين الأحرار والأبرار بأرضهم ما داموا أحياء يرزقون من فوقها، وكذا تحتها إن استشهدوا وصعدوا السماء أحياء عند ربهم يرزقون.

وبما أن الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين فشلوا في القتال في غزة العزة، فلم يحققوا أهدافهم المعلنة، ونجحوا في القتل دون تحقيق التهجير وإيجاد البديل لحماس أو ما بعد حماس. فإن حربهم غدت حربا عبثية لا معنى لها على المستوى السياسي والعسكري، وأصبحت عبئا ثقيلا على الكيان الصهيوني على المستوى البشري والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والسياسي قبل أن تكون عبئا أثقل على أهل غزة العزة الكرام. وديمومة هذه العبثية لن تكون لصالح الكيان الغاصب، وإنما لصالح " النتن ياهو " الذي يريد إطالتها تمديدا لجلوسه على كرسي رئاسة الحكومة، لكي لا يحاكم بالفساد وحماية الصهاينة الهمجيين العنصريين. وكأني به حاكما عربيا يضحي بالشعب من أجل الكرسي، لا العكس؛ يضحي بالكرسي لأجل الشعب. لذا؛ فأرواح الصهاينة العنصريين رخيصة بشكل رهيب مقابل كرسي الحكم، والاستمرار في الجلوس عليه.

وأظن أن " النتن ياهو " قصد تلك الأهداف المعلنة للاستمرار في الحكم، وهو يعلم علم اليقين أنها أهداف عالية مثالية متعالية عن إمكانية التحقيق. فنزع إليها طريقا وسبيلا إلى تحقيق أهدافه الشخصية. ولعل استمراره في إفشال المفاوضات دليل على تلك القصدية في الحرب. ومنه؛ على الصهيوني النازي الفاشي الداعشي أن يفكر بعمق في مآلات الحرب عليه، فهو لا يحقق سوى القتل. وهذا؛ لا يحقق له النصر، ولا يعيد له هيبته العسكرية المزعومة، ولا يرجع أسطورة وخرافة " الجيش الذي لا يقهر "، فقد قهر في السابع أكتوبر 2023 ومن قبل في الحرب مع المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة العزة. فهو الآن ينفخ في الرماد بدلا من النار. وهزيمته حتمية وزواله كذلك حتمي وضرورة إنسانية عالمية لإعادة البعد الإنساني للبشرية جمعاء، الذي أسقطه الكيان الصهيوني الاستعماري الاحتلالي بكل الأدوات، وفي العالم كله باسم معاداة السامية. فالمحاكم تقوم لأهل البلدان الأصليين من أجل عيون الصهاينة الهمجيين باسم تلك " التهمة " التي استعبدوا بها العالم واحتقروه في قعر دياره، وفي محافله الدولية المزعومة للحقوق الإنسانية. فالصهاينة العنصريين فوق العالم كله. فهل يستفيق " النتن ياهو " من أحلام اليقظة بالاعتراف بالهزيمة، والخروج من الحرب قبل فوات الأوان؟ فكل يوم يمر وإلا يزيد فشلا على فشلا، ويغرق في الهزيمة إلى أذقانه، فرمال غزة العزة أغرقت الغزاة عبر التاريخ مهما طال غزوهم. وهم إلى زوال مهما طال الزمن ... والصهاينة العنصريين سيمرون كما مر غيرهم، وتبقى فلسطين لأهلها.

***

عبد العزيز قريش

في المثقف اليوم