آراء

آراء

ذكرت الأنباء أن مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان "الحشاشين" قيد الإنجاز وربما سيعرض خلال شهر رمضان القادم والمسلسل من إخراج بيتر ميمي وقصة وسيناريو عبد الرحيم كمال وبطولة عدد من نجوم التلفزيون المصري من بينهم كريم عبد العزيز بدور البطولة. هذه وقفة استباقية في هيئة لمحة تأريخية مكثفة عند موضوع هذا المسلسل ألا وهو الحركة الإسماعيلية النزارية التي دأب خصومها وأعداؤها على تسميتها "حركة الحشاشين".

"الحشاشون" اسم تشنيعي أطلقه خصوم الفرقة الإسماعيلية النزارية وأعداؤها عليها وعلى مقاتليها وجمهورها كما قلنا. والإسماعيلية النزارية فرقة مسلحة ومعارضة للحكومات في العالم الإسلامي وللغزاة الفرنجة "الصليبيين" معا، نشأت في غضون القرن الحادي عشر الميلادي، ولم تتحول إلى طائفة دينية لاحقا حيث قُضيَ عليها وتمت تصفيتها بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي وتدمير بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعد أن صمدت الفرقة النزارية في القتال طويلاً أمام جميع خصومها من الإمارات والدول السنية العباسية والأموية، والشيعية "الفاطمية/ بمصر"، وحتى الإمارات الإفرنجية "الصليبية" الأربع؛ كونتية الرُّها (1098-1150)، وإمارة أنطاكية (1098-1287)، وكونتية طرابلس (1102-1289)، ومملكة بيت المقدس (1099–1291)، التي كانت قائمة في بلاد الشام. فهل سيتحول هذا المسلسل - كما تحولت مسلسلات تأريخية تجارية عديدة - إلى "مجزرة فنية" للحقائق التأريخية ووقائع الماضي التي طالما كتبها المنتصرون والمشتغلون في خدمة المنتصرين، أم أن نوعية الكاتب المرموق - عبد الرحيم كمال - الذي تصدى لكتابة القصة والسيناريو وصفاته الإيجابية العديدة ستنحو بالمسلسل منحىً موضوعياً آخر؟

 سأكون صريحاً مع القارئ فأقول؛ بصراحة، لا أدري إلى أي درجة سيظل مؤلف المسلسل الكاتب عبد الرحيم كمال، وهو كاتب متميز بين زملائه كتاب السيناريو المصريين والعرب عموما، وقد كتب عددا من الأعمال التلفزيونية النوعية والجيدة كـ "الخواجة عبد القادر" و"ونوس" و"شيخ العرب همام" ومسلسل "دهشة" المستوحى من مسرحية "الملك لير" لشكسبير. وقد تولى بطولة هذه المسلسلات كلها الممثل القدير يحيى الفخراني، أقول؛ لا أدري إلى أي درجة سيظل المؤلف وفياً للحيثيات والوقائع التأريخية الحقيقية، وينظر إليها بعينين نقديتين ومحايدتين مضمونياً ليكون هدفه الأول مقاربة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولن تدفعه مغريات الشاشة ومتطلبات الرقابة الحكومية في الدول العربية المشترية للمسلسل إلى الإخلال بتلك الحيثيات والوقائع والميل إلى النوادر والطرائف الملفقة من قبل خصوم هذه الفرقة ضدها!

ولهذا، سننتظر إذن حتى يعرض المسلسل ونرى، على الرغم من أن اختيار اسم "الحشاشين" للمسلسل وفي حالة النصب والجر وليس بالرفع "الحشاشون"، وهو الصحيح، لا يبشر بالخير! ومع ذلك سأقدم للقارئ هذه البسطة أو اللمحة التاريخية حول هذه الفرقة من باب العلم بها قبل مشاهدة هذا المسلسل وقد تكون لنا وقفة أخرى بعد عرض المسلسل إذا كان ذلك ضروريا:

- انشقت الفرقة النزارية عن الفاطميين ودولتهم في مصر. وجاء اسمها نسبة إلى زعيمها وإمامها نزار المصطفي لدين الله أحد أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/ 1094م). والأمر الذي يجهله عامة الناس في عصرنا، وحتى ممن يسمون أنفسهم مثقفين هو أن الإسماعيليين النزاريين لم يكونوا يسمون أنفسهم باسم "الحشاشيين"، بل أن هذه التسمية أشاعها ضدهم خصومهم "الفاطميون المستعلية" وأعداؤهم من المذاهب والدويلات والفرق الأخرى، أما هم فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "الدعاة الجدد" أو أصحاب "الدعوة الجديدة".

ولدت هذه الفرقة بعد الانشقاق الذي حدث داخل الحركة الفاطمية الإسماعيلية وشقَّها إلى شقين أو فريقين الأول هم "المستعلية" نسبة إلى المستعلي بالله والثانية النزارية نسبة إلى نزار وهما ابنا الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. حيث رأى المستعلية أن الإمامة لا يستحقها إلا المستعلي بن المستنصر، أما الفريق الثاني فقد رأى أن نزار، الابن الأكبر، هو الأحق بالإمامة السياسية والعَقَدية، وهو الأجدر بخلافة أبيه لأنه الأكبر سناً. وقد انحاز الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي وعن سابق قصد إلى المستعلي لضعفه ليسهل عليه استغلاله والتلاعب به، فقبض على نزار وقتله؛ فاضطر الهادي بن نزار إلى الهرب ففر إلى بلاد العجم "إيران"، والتحق بالخلايا والمجموعات الاسماعيلية لهذه الدعوة هناك، وكان على رأس هذه المجموعات آنذاك داعٍ داهية وشجاع هو الحسن بن الصباح الذي سيغدو زعيم الفرقة الإسماعيلية النزارية ومركزها قلعة "ألموت" في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/ 1090م.

كان ظهور النزارية عاملاً مهما من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين، كما خاضت الفرقة صراعات دموية الطوائف والإمارات الأخرى كالزنكيين والأيوبيين والخوارزميين.

بحثياً، يُعتقد أنَّ أول وثيقة ورد فيها استعمال اسم الحشاشين كوصف تشنيعي لهم كان في رسالة كتبها الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله سنة 517هـ/1123م وأرسلها إلى الإسماعيليين في بلاد الشام بعنوان "رسالة الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية: ويتلوها إيقاع صواعق الارغام في إدحاض حجج أولئك اللئام". وكان الهدف من هذه الرسالة التبرؤ من النزاريين ونقض مزاعم إمامهم وأخيه نزار المصطفي لدين الله بالإمامة والتأكيد على شرعية الخط الفاطمي الرسمي الذي يمثله هو، وقد استُخدم فيها مصطلح "الحشيشية" وهي كما أرجح ليست فصحى بل من عامية مصر والشام وكانت تعني الحشاشين ربما بقصد استصغارهم والإساءة إليهم ونفي انتسابهم إلى الإسماعيلية. ومن الجدير بالذكر أن الفاطميين أنفسهم كانوا ضحية لهذا الفعل التشنيعي ونفي النَّسَب الفاطمي من قبل خصومهم المذهبيين والفُرقيين الذين أطلقوا عليهم اسم "العُبيديين - نسبة إلى شخص قالوا إنه يهودي واسمه عبد الله بن ميمون القدّاح (طبيب العيون)، ونفوا أن تكون لهم أية صلة بفاطمة الزهراء كريمة النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله؛ فيما أكد مؤرخون آخرون من الشيعة وبعض المحايدين صحة نسبهم الفاطمي.

وقد نسبوا إلى مؤسس هذه السُلالة الإمام عُبيد الله المهدي بالله قوله "إنَّ الفاطميين يرجعون بنسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وعليه فهُم عَلَويّون، ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء". وبحسب أبحاث المؤرِّخ الروسي فلاديمير ألكسيفيتش إيفانوف في تُراث الإسماعيليَّة والفاطميين، فإنَّ اسم الفاطميين هو الذي أُطلق على الإسماعيليَّة في بداية الأمر. ويبدو أن خصومهم وأعداءهم أطلقوا عليهم اسما آخر للتشنيع عليهم حين اشتد ساعد حركتهم وأسسوا لهم دولة في بلاد أفريقية التي كانت تعني "تونس" حصرا.

ويذكُرُ المؤرخ المعروف محمد بن جرير الطبريُّ - وهو من السُّنة - أنَّ "بدو بني الأصبغ في بادية الشَّام، اتخذوا هذا الاسم "الفاطميين" تحت زعامة القُرمطي الإسماعيلي يحيى بن زكرويه". ومما أشاع الغموض في موضوع أسماء أئمة الإسماعيليين الفاطميين ودولهم عموماً أنهم كانوا يخشون التصريح بالأسماء الحقيقية لأئمتهم مخافة أن تبطش به السلطات العباسية وتقتلهم.

وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مفردة "الحشيشية" مرتين في رسالته سالفة الذكر من دون تقديم سبب واضح لهذا الاستخدام من قبله. وأعتقد أنه جاء تكرارا لاسم أطلقه عليهم العامة ممن شهدوا عملياتهم الفدائية الجريئة إلى درجة مذهلة حتى شكَّ الناس في أنهم لا يخافون الموت لأنهم يتناولون عقار الحشيشة فقد كانوا يقدمون على الموت الأكيد إقدام المستميت. وهذه طريقة يلجأ إليها العامة لتفسير ما يعتبرونه من خوارق المألوف من قبيل أن يقترب المقاتل النزاري المتنكر من ملك أو أمير حتى "المسافة صفر" وهو بين خواصه وحرسه المدربين ويعاجله بطعنة قاتلة من خنجره دون أن يتمكن أحد من منعه أو تفاديه. 

ثم شاع استعمال الاسم من قبل الكتاب الغربيين المرافقين للغزاة الفرنجة والذين يسمون أنفسهم "الصليبيين" وهم الذين أشاعوا هذا الاسم عليهم في الغرب. وكان النزاريون إذا فشلوا في الهرب بعد تنفيذ عملياتهم الفدائية يقتلون من قبل أعدائهم قتلاً شنيعاً ولكنهم لم يتوقفوا عن قتالهم وكفاحهم حتى الاجتياح المغولي. وقد اغتال النزاريون عددا كبيرا من الزعماء وقادة الجيوش من العباسيين والسلاجقة والصليبيين ومنهم الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفتين العباسيين المسترشد والراشد وملك بيت المقدس الإفرنجي كونراد. ورغم أن قائمة أعدائهم طويلة وتشمل جميع معاصريهم ولكنهم لم يسلموا من الاتهام بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك!

 وقد قضى المغول بقيادة هولاكو على هذه الفرقة في بلاد فارس سنة 1256م. حيث قام هذا القائد المغولي بمهاجمة الحشاشين واستطاع - بعد معارك ضارية ودموية خاضها النزاريون المستميتون -أن يستولي على عاصمتهم في قلعة ألموت وعلى أكثر من 100 قلعة أخرى من قلاعهم وإحراق للقلاع والمكاتب الإسماعيلية قبل أن يتجه - هولاكو - لمهاجمة العباسيين وعاصمتهم بغداد وتدميرها. أما في الشام فسرعان ما تهاوت الفرقة النزارية على يد الظاهر بيبرس سنة 1273م. وبهذا كفت عن الوجود التأريخي وتحولت الى أرشيف التراث الضخم للحركات المعارضة المسلحة في القرون الأخيرة من العصر الإسلامي قبل أن تبدأ شعوب أوروبا بالخروج من القارة العجوز وتجتاح العالم كله بأساطيلها وأسلحتها الحديثة.

هؤلاء هم الإسماعيليون النزاريون الذين يسميهم خصومهم وأعداؤهم "الحشاشين" أو "الحشيشية"، فهل سيكون المسلسل الذي سيتصدى لقصتهم منصفا وموضوعيا ومحايدا في مقاربة الحقيقة؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024.

أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والديبلوماسية.

وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطلاع على حيثياته، التي تلزم "إسرائيل" باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب "إسرائيل" بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب "الإسرائيليين" واعتبارهم رهائن.

لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007 ، وهو ما أعطى انطباعًا سلبيًا لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول:

أولًا -  إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أولي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علمًا بأن المحكمة رفضت طلب "إسرائيل" ردّ الدعوى.

ثانيًا - إن المحكمة أصدرت قرارًا أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة "إسرائيل" بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.

ثالثًا - يمثل القرار تقويضًا لشرعية "إسرائيل"، خصوصًا حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الديبلوماسية والقانونية، استكمالًا لجوانب المعركة الأخرى.

رابعًا - إن طلب المحكمة توفير الخدمات الاساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار "الإسرائيلي" المفروض عليها بقرار قضائي.

خامسًا - صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى "إسرائيل" في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي "الإسرائيلي" صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.

كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابيًا، وعلى نحو كبير جدًا، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات "الإسرائيلية" بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004، فلم تكن ملزمة، وإن كانت ذات قيمة معنوية مهمة، ويمكن البناء عليها. والقرار يطالب "إسرائيل" بتوفير وسائل الحماية المدنية لسكان غزة، بما يعني رفض القتل والتهجير وتدمير المرافق العامة.

يُعتبر القرار سندًا شرعيًا وقانونيًا لدعم الحق الفلسطيني في المعركة الديبلوماسية والدولية، كما أن تنفيذ هذا القرار التاريخي يتطلّب، أولًا وقبل كل شيء، وقف إطلاق النار حتى وإن لم ينص عليه، إذْ كيف يمكن وقف الإبادة الجماعية دون أن تكون الخطوة الأولى في ذلك وقف إطلاق النار.

وهو وإن كان قرارًا احترازيًا مؤقتًا، إلّا أنه سيكون مدخلًا لإصدار قرار بات واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت "إسرائيل" من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم "حق الفيتو" من جانب حلفاء "إسرائيل"، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون "متّحدون من أجل السلام" الصادر بخصوص كوريا العام 1950، وتلك مسألة يمكن مناقشتها في حينها.

***

عبد الحسين شعبان

سورية الجريحة، التي ما زالت تخضع لنظام سياسي واحد، لم يتغير أو يتبدل، هو نظام العائلة، الذي نستطيع أن نشخصه تشخيصاً صحيحاً، إذ زعمنا في جموح وإسراف، أنه قد أزرى "بسورية"، ووأد طموحها العاتي في التحرر، والرقي، وتداول السلطة،  فمثل هذه الأنظمة كما نعلم، لا تستطيع أن تحكم على كنه الأشياء، أو تقدرها، وتفكر فيها، إلا على النحو الذي يعظم أمرها، ويعلي من صيتها، ويستأنف وتيرتها في الحكم،  هذه العائلة-عائلة الأسد-  تستحوذ على الحكم، منذ سبيعنيات القرن المنصرم كما نعلم، ببهرجة زائفة، وزيف مبين، آخرها كان في شهر مايو عام 2021م، إذ حصد حينها الدكتور "بشار الأسد" أكثر من 95% من أصوات الناخبين، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن سادتنا في هذه المنطقة العربية، التي ما فتئت تستمسك بركاكة الماضي، ونحن هنا لا نلتمس عيبا، أو نبحث عن زلة، لا سمح الله، ولكننا نقول أنها ظاهرة لا يكاد يكون لها حد، وهي من مخلفات إرثنا السياسي، فنحن رغم هذا التطور البديع الذي يشهده العالم من حولنا، ما زلنا نرسف في أغلال وقيود "التوريث"، الذي لا تجد أحزابنا ونخبنا السياسية، مشقة ولا عسرا، في الهتاف له، والتماهي معه، فأحزابنا، ونخبنا، وحياتنا العقلية، تجتهد في أن تخلص لأصحاب السمو والرفعة، و تتملق بدورها كذلك كل من يزين بزته العسكرية بأوسمة، وأنواط، ونياشين، لا ندري كيف نالها، ومن هو الذي ثبتها على صدره المكتنز، وهو في الواقع لم يدحر عدواً قط، أو ينتصر في معركة ضارية كانت أو فاترة، لم ينتصر هؤلاء البهاليل السادة، والحماة الذادة، والملوك القادة، حتى في تلك الألعاب الالكترونية، التي استشرت في أوساط  هذا الجيل، والأجيال التي سبقته، فقد ألقوا أنفسهم عليها، وأظهروا لها هذا الود، وهذا الهيام،  لأنها تسليهم، وتنسيهم فهم الحقائق وتفسيرها، لهذا مالوا إليها كل الميل، ولا زال أثرها في الحق قوياً باقياً، حتى في نظمهم السياسية، وفي رؤاهم، وخططهم التي ينشدون تحقيقها، تلك الرؤى التي تبتغي تنشيط العقول، وحملها على التفكير، وتنشيط العقول لا يتأتى إلا برسم صورة رشيقة خلابة، هذه الصورة تخضع للترفيه، وتكلف الزينة، وجلب "المشخصاتية" وتكريمهم، والاحتفاء بهم، وكأنهم اجتهدوا في أن يخلصونا من أصار الذل، وأغلال الفقر، ورسف العبودية، لأنظمة فاسدة طائشة، هذه الفئات المترفة، التي تدمن التكلف والتصنع، وتجيد التنصل عن قيم مجتمعنا الشرقي، لم تنتهي بنا إلى حيث يقف الغرب -الذي تعشقة وتقتفي أثره- إلى حيث هو الآن من حرية وانعتاق، وعوداً على بدء، نزعم أيها السادة أن معظم حٌكامِنا الأماجد، الذين استمدوا حياتهم  الصالحة الخصبة من أبائهم وذويهم، قد أكملوا  هذه "العملية الانتخابية" التي تسبغ عليهم النعمة، وتنزههم عن صغائر تعافها الديمقراطية، فهم لم يبتهجوا بهذه النتيجة المشرفة، إلا لأنها ظاهرة يضيقون بها، ويتأففون منها،  ظاهرة  تستحدثها عائلاتهم لاسئناف راكد الحركة والحياة، ولاقناع دول الصلف والغرور، أن بلادهم تتكلف هذه الألوان التي فيها حرية، وفيها اجتهاد، لاختيار القوي الذي يطمح الشعب إلى تقليده وتنصيبه، "الأمين" الذي ينهض بوطنه ويبعده عن معرة التخلف والابتذال ها هو يستأثر بالحكم من جديد، والغرب الذي يعلم  أن الفوز حظاً مقصوراً على هذه الناجمة، يظهر الفرح والرضى، لأن دولنا العربية حافظت على قديمه وإرثه السياسي، الذي يغضبه أن تسعى دولنا لمحو آثاره،   يظهر الغرب الغبطة لأن المرشح الفائز، قد ناضل في سبيل تحقيق فوزه المستحق، وحتى لا أطيل وأسرف في الإطالة، أقول أن هذه النتيجة، لا تعني إلا أن السلطة قد جاءت قانعة راضية لصاحبها الذي لم يكن يتخلى عنها وإن أزهق أرواح نصف شعبه، بينما الشعب الذي لم يحسب لمثل هذا الاقتراع حساباً، أو يقدر له وجوداً، لأنه يعرف النتيجة مسبقا، يعي هذا الشعب أن حاكمه الذي يبغضه أحيانا، ويضيق به أحيانا أخرى، سيعود لا محالة، وأن هذه الانتخابات الممعنة في الكذب والتضليل،  لن يظفر منها إلا بهذا الكم الهائل من الاستياء، والكدر، لأجل ذلك نرى دائما هذا الوجوم الذي يلوح على محيا الشعوب العربية، بعد كل عملية مزيفة تجرى في محيطه، فالشعوب التي تزداد حياتها تعقيداً بعد إعلان مثل هذه النتائج، قد دأبت تختار غير هذا الحاكم، الذي  تفرضه عليهم النظم والأعراف، وحكامهم الذين قلّ أن تجد فيهم أثر للشعور والقلوب، يتناوبون عليهم مرات ومرات، وفي كل مرة يخيب حدس الشعوب، وتخيب ظنونها، لتستقبل خبر انتصارهم، بهذه اللوعة والحسرة، لتدفعها هذه الحسرة بعد حين، لأن تسلك سلوكا يلائم الكرامة،  بعد أن لاذت بالصمت عقودا  طوالا،  فهي أيقنت أن صمتها هذا لن يضيف إليها شيئا، فما هو الشيء الذي في مقدورها أن تفعله حيال هذا النوع من الحُكام؟  ذلك الصنف من أرباب الحكم والتشريع، الذي يجد في نفسه غضبا وحنقا، إذا التمس شعبه الخلاص من ويلات حكمه، هذه الطائفة ما أن تسمع بنبأ خروج الناس عليها، وتتحسس وقع خطواتهم، وهم مسرعين نحو قصورها المترعة بالجيوش والعتاد، حتى تتبدل عواطفها وأهواؤها، وتسقط قناع الديمقراطية الزائف عن وجهها، وتنتهج هذه الطرق التي تدفع نيران الثورات إلى الخمود، والرئيس بشار الأسد، كان واحداً من أفراد هذه الطائفة، فهو يقضي نصف ليله، وأكثر نهاره، يخامره احساس كأن شيئا ينقصه، هذه المشاعر الغامضة تتحدث إليه، وتدعوه أن يلجأ إلى الخشونة والعنف، في أبشع مظاهرها، وأن يظهر مخايل بربريته، ووحشيته، واضحة جلية، وأن يشقي شعبه بهذه العزلة التي تركها نصف من عاش من  شعبه، وفضل أن ينصرف عنها هائما في المحيطات والقارات، تركت هذه الجموع من شعبه وطنهم الذي تركض فيه المصائب وتتسابق إليه النكبات، "سورية" التي يحملونها معهم بين طيات قلوبهم، ليستقبلوا حياة لم يكن يعرفونها، حياة عظيمة الحظ من العناء، حياة كلها استعطاف وتضرع، وكل شيء فيها منكر و قبيح.

والدكتور بشار الأسد، مؤلم جدا هذا الشعور الذي نجده بين حنايانا، حينما ندرك أنه طبيب، والطبيب هو الذي يعالج هذه اللفائف البالية التي تعوقنا عن عن الاحساس بالعافية، ويبث فيها الحياة باذن المولى عزّ وجلّ، لتعود للعمل كسابق عهدها وسيرتها، الرئيس بشار الأسد طبيبا إذن، والطبيب كما نعلم هو الذي يطلق الإنسانية من قيودها، ويرسلها على سجيتها، حتى تتصل بمعان البرء، والسلامة، والتعاف، اتصالاً  قوياً، ولكن في الحق أن هذا الرئيس الطبيب، قد انحرف عن هذه المعاني انحرافا حادا، ولسنا نقول هذا الكلام من باب التزيد والافتراء، على سيرة الرجل، أو نطلقه هكذا جزافا من غير دليل، ولكن هذه النتيجة، هي خلاصة تتبع ذلك النشاط الحركي الذي انطلق في "سورية" عام 2011م، والذي اندفعت فيه جموع الشعب السوري اندفاعا عنيفا، حتى ترد الحرية والعدل إلى أقطارها وأمصارها، ولكن الطبيب استطاع أن يأخد شعبه والناس جميعا، بعادة  موروثة في أسرته، تلك الأسرة التي تقتصد في العدل، وتسرف في الظلم، لقد أفاض "بشار الأسد" على شعبه، من معين هذه العادة، التي حافظ عليها حفاظا شديدا، "فبشار" مثل والده تماما، يكره أن ينحيه أحدا عن منصبه، أو تناله آفات هذا التنحي، لأجل ذلك عمد إلى القسوة التي لم تكن موقوفة عليه، فالقسوة شيء تحبه أسرته، التي لا حياة لها، إلا بفضل هذه الوصمة، التي تسرف فيها ولا تقتصد، إذاً ليس من المصادفة في شيء أن هذا "الطبيب" الموغل في الوحشية أن يجعل حمم طائرته تلهو وتعبث بشعبه، فقائدها ما زال جذعاً فتياً، فيه بقية من شباب، والشباب يقتضي الميل للهو والمرح، والرئيس بشار كما عهدناه شديد النشاط، متصل الحركة، مع شعبه الأعزل،  الذي لم يتردد أو يتمهل من بقى منهم على قيد الحياة في الهجرة وترك "سورية" لسراة الناس، وأصحاب التملق العريض، والفئات المتعبة المكدودة، التي ألجئتها الفاقة، وصروف الحياة، لأن تبقى في معقل هذا الجحيم، الذي يجرعه إياها كل يوم "الطبيب الإنسان"، أدرك "بشار" أنه يحتاج إلى كثير من الوقت حتى يصل إلى الغاية التي تروقه، فالأجندات الدولية، وأصحاب العواطف الثائرة، الذين يقاتلون جنده في عزم وثاب، يتطلب منه ألا تحيا "سورية" حياة هادئة وادعة، وتكتفي فقط ببراميله المتفجرة، التي يقذفها على شعبه بوجدان شاحب، وقلب متقد، عليه أن يخرج كل العفاريت من مستقرها التي كانت عليه في مهاد الأرض، حتى يطمئن إلى حكمه، ويثق في مستقبله، فلا يشفق ولا يخاف، لأجل ذلك أضحت "سورية"، نهبا لكل طامع، وانتهى بها الحال، أن العدو الصهيوني البغيض يمطرها بصواريخه الموجهة في كل يوم، وشهر، وسنة، فيتغاضى "طبيبها الإنسان" عن حق الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع، فاسرائيل التي تزلزلها بطولات غزة الآن، ترى أن من حقها أن تؤذي "سورية" طالما أن حباً آثماً قد جمعها بايران، هي تزعم أنها تدافع عن نفسها، لأجل ذلك تضرب مذعورة أهدافاً لها في دمشق وغيرها، وواجب الدفاع عن النفس، سيظل مهيضا في "سورية" فما أكثر الأنظمة والدول التي تنتاش "سورية" الآن، فالكل ينتهز حالة الضعف والهزال التي تعصف بهذا البلد العظيم، ويسعى ولا عذر له في ذلك، أن يمتد ويستطيل، وبعد كل هذه السنوات من الإذعان والذل، بات واضحا أن "الطبيب الإنسان" لا يستطيع أن يخضع "سورية" لإرادته، فقد باتت مرتهنة للدب القطبي، ونظام الملالي، ووقاحة العم السام، وتدخل تركيا السافر، "سورية" تخضع لاملاءات متعددة الأقطاب، ولانتهازية الدول العظمى، "سورية"حقا في محنة منكرة، وهي عرضة لأن تمسي ضئيلة رغم ضخامتها، وغير صالحة للبقاء، في ظل هذه الحروب التي تعيشها في شتى بقاعها، فهذه الدول المتناحرة في سهول سورية وأراضيها، شديدة الطمع، شديدة الازدراء لشعبها، وهي تبذل كل ما تملك من جهد، حتى تظفر بمتغاها، ولا يعني روسيا أو الولايات المتحدة، أو إيران، أو حتى تركيا "الحانية" أن تلتصق"سورية" التصاقاً مريرا بالمعاناة، يعنيهم أن يلقوا أممهم مبتسمين، ويعلنوا لهم أنهم أذاقوا خصومهم صنوفا من الذل في الأراضي السورية، هذا ما يفعلوه غداة كل يوم، ولكن من ذا الذي يسرع إلى "سورية" ويأخذها بين ذراعيه ويسعى لتضميد جراحها؟ ويطلب إليها أن تنصرف عن هذا الخلاف، ولا ترضى بهذه الحياة، التي سخطت عليها وثارت،  ما زلنا نأمل في ظهور جهة تدرك أن "سورية" مظلومة مهضومة، وتسعى لانتشالها من هذه الحالة التي فيها الآن، وتجنبها نذر الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، فكلتا الدولتين تخضع لاضطراب ، عقلي، ناتج عن الآثرة والغرور والتكلف.

***

د. الطيب النقر

من 425 الى 1701

يتحدث البعض في لبنان والمنطقة عن الشرعية الدولية والتي تستمد شرعيتها من الامم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها الذي لا "يجلس" الأمن الا بما يتناسب مع من يملكون حق النقض الفيتو.

بين الحين والآخر يطل علينا رجال دين ودنيا في لبنان بدعوات لتطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان وتحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة وكان لبنان هو المعتدي وليس المُعتدى عليه.

اصحاب الدعوات تلك لهم أسبابهم السياسية، لكن يبدو ان بعد النظر احادي الجانب، ويجانب الواقع لان لبنان لم يجتاح اراض الكيان عشرات المرات، لا بل على العكس فإن إسرائيل هي من يعتدي دائما وكان من اكثر اجتياحاتها عمقا داخل الاراضي اللبنانية عام 1982، حيث وصلت قوات الاحتلال الى بيروت. بعد ذلك الاجتياح خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان والتي لم تكن لتتواجد في لبنان أصلاً لولا تهجير الاحتلال الفلسطينين من ديارهم ورفض عودتهم اليها.

وكان قد سبق ذلك اجتياحان الاول عام 1972 والثاني عام 1978 وقد صدر بعد هذا الاجتياح عن مجلس الامن القرار الاممي رقم 425 والذي نص صراحة الى سحب الاحتلال قواته من الجنوب دون قيد او شرط.

لم ينفذ الاحتلال القرار 425  رغم ارسال قوات تابعة للأمم المتحدة للأشراف على تنفيذه، ولم يتوقف العدوان على لبنان فكان عدوان 1993 الذي استمر لمدة 7 أيام، وفي العام 1996 شن الاحتلال عدوان آخر لمدة ستّة عشر يوم بحجة وقف صواريخ المقاومة التي كانت تسعى لتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب او ما عرف ب"الشريط الحدودي" والذي كانت تديره وبأشراف مباشر من قوات الاحتلال القوات المتعاملة مع أسرائيل جيش لحد "جيش لبنان الجنوبي".

بسبب عدم تنفيذ القرار425 استمرت عمليات المقاومة من أجل تحرير المناطق المحتلة حتى تم إخراج المحتل الاسرائيلي من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة في25 ايار عام 2000 دون قيد او شرط.

في العام 2006 شنت أسرائيل عدواناً كبيراً على لبنان بهدف القضاء على المقاومة وعامودها الفقري حزب الله انتهت الحرب التي استمرت33  يوماً بهزيمة الاحتلال الذي لم يتمكن من تنفيذ أي اهدافه المعلنة وغير المعلنة من تلك الحرب.

بعد ذلك العدوان صدر القرار الأممي 1701 الذي دعى الى وقف الاعمال القتالية دون وقف شامل لاطلاق النار، وتم تعزيز وزيادة عديد قوات الطوارئ الدولية بالاضافة الى دخول قوات أضافية من الجيش اللبناني للعمل على تنفيذ القرار.

 يدعو القرار إلى وقف كامل للأعمال الحربية يرتكز خصوصاً على وقف فوري من قبل حزب الله لكل هجماته ووقف فوري من جانب إسرائيل لكل هجماتها العسكرية.

يؤكد القرار انه من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كل الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل.

إسرائيل كعادتها لم تفي بالتزاماتها أمام القانون الدولي، ووقف خروقاتها للقرار1701 والتي تجاوزت 34 ألف خرق حسب إحصاءات السلطات اللبنانية قوات الطوارئ الدولية.

رغم أن إسرائيل تأسست بقرار من الأمم المتحدة، ما تقدم يظهر كبف تتعامل أسرائيل مع القرارت الدولية والامر ينطبق كذلك على كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لم تنفذ أي منها، لا بل تمادت في التوسع واحتلال المزيد من الاراضي الفلسطينية والعربية ضاربة بعرض الحائط كل القرارت الدولية والتي بلغت أكثر من 900 قرار خلال الـ 75 عاماً الماضية لصالح الشعب الفلسطيني، واولها واهمها قرار تقسيم فلسطين رقم 181 للعام 1947والقرار رقم 242 الذي تلا حرب 1967والذي ينص على رفض احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية وطالب إسرائيل بسحب قواتها.

هذا التجاهل الاسرائلي للقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لم يقابله أي ضغط من المؤسسات الدولية او يما يسمى بالمجتمع الدولي، الذي يتعامى لا بل يدعم أسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

أن الاطماع الاسرائلية في ثروات لبنان المائية والنفطية ليست خافية وما الاجتياحات التي نفذتها داخل الاراضي اللبنانية الا خير دليل على ذلك.

إذن، لماذا المراهنة على المجتمع الدولي والدعوة الى الحياد في الوقت الذي أثبتت فيه المقاومة الوطنية والأسلامية ان أسرائيل اندحرت من لبنان ليس بسبب القرارات الدولية او الدبلوماسية انما بسبب المقاومة التي ما زالت تشكل عامل ردع قوي لاٍسرائيل لعدم التفكير في غزو لبنان مجدداً؟

نعم، من مصلحة لبنان تنفيذ القرار 1071 لكن ليس من طرف واحد، لكن بقى السؤال ما هي الضمانات ان تلتزم اسرائيل يتنفيذه في الوقت الذي تقف فيه قوات الطوارئ كشاهد زور على عدم تنفيذه، كما فعلت مع القرار 425 لمدة 22 عاماً؟

***

عباس علي مراد

 

دخل العِراقيون، منذ 1979، في لُجةِ الحَيرة، ومازالوا في اللُّجةِ، فالنّظام السّابق لم يترك منطقةً وسطى، بعد إفراغ البلاد من العقل السّياسيّ. فهل تجدون دولةً تستغني عن عقلٍ قانوني وسياسيّ مثل رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز(ت: 1973) مثلاً، يُسجن ويُهان، داخل المعتقل الرّهيب «قصر النّهايّة».

كان مِن الصَّعب، على المغلوبين، مِن معتقلين وذوي معدومين ومهجرين، اتخاذ موقفٍ بين النّارين، نار النّظام وطغيانه ونار الحروب مع الخارج. بالمقابل، هل يُلام مَن يحن على النِّظام الكاسر نفسه، بعد الخديعة الكبرى، وما أثمرت إطاحته بالغزو، وتشكيل فصائل الموت، تتحكم بالعراق؟! فما حصل، بعد (2003)، يعطي كلّ الحقّ لمن ينسى موجعات السَّابقين، لأنَّ بأُفول الأمل يسود اليأس، لا يُلام ذوو المخطوفين والمغتالين والمشردين، إذا رأوا السّابقين أرحم وأخف، ففي الظّلام تتساوى الأشياء. أقول: مَن يتجاهل الحَيرة، وحده المستفيد من النِّظامين، فهناك طبقة تسبغها النّعمة، قبل وبعد 2003. غير أنَّ النّوادر، مَن استشعر الخديعة، واعتزل ما سيقطفه مِن ثمار معارضته.

كان المحامي والدّبلوماسيّ العِراقيّ رياض اليَّاور(1940-2024)، مِن النّوادر، ما إنْ شم المحاصصة الطّائفيّة، حتى ترك المعارضة والسّلطة اللاحقة جميعاً. فإذا كان أحمد الجلبيّ (ت: 2015) رأساً للشيعة في المعارضة، ولعب الدّور، مشيداً «البيت الشّيعيّ»، ولم يشعر بخطئه الفظيع إلا بعد «خراب البَصْرة»، وتجاهله مِن قِبل مَن أتى بهم، فكان الآخرون يرون برياض اليّاور رأس السُّنة في المعارضة، لكنَّ الأخير لم يحسب هذا الحساب، ولم يُشيد بيتاً سُنيَّاً.

كان يتوقع إزالة نظام، لم يعد يصلح محلياً ودوليّاً، وبزواله ستشرق شمس العمران، لكنه استشعر خديعة وراثة هذا النّظام مبكراً، ورثته حكومات لا حكومة واحدة، وجيوش لا جيش واحد، وإلا كان رياض اليّاور رئيساً بلا منافس، لو تغاضى عن الخديعة.

عندما طُلب مني العمل في «المؤتمر» (جريدة المعارضة)، محرراً لملفها الثّقافيّ (نهاية التِّسعينيات)، أشعرني الصّديق مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء فيما بعد، لمقابلة قطبيّ الشّيعة والسّنة، الجلبي واليَّاور، ففوجئت باستفساراتهما عن مقالات المعتزلة، ومسألة «خلق القرآن»؟ دون الإشارة إلى الجريدة، فسرني ذلك، وأنا أمام سياسيين مثقفين لإدارة العراق الجديد، وكان الياور يلح بالاستفسار، وتمنى استمرار الجدل في الأفكار، ولما قلتُ: سأعمل في الثّقافة لا السّياسة، كان جوابه: «هذا ما نريده».

لكنها فترة وجيزة، ويغيب اليّاور، بعد إعلان مظلوميات الطَّوائف، فالمحاصصة بدأت حتى داخل الجريدة نفسها، ما لا يتفق مع ثقافته العابرة للطوائف والقوميات. فلم يبق ذلك القوميّ حريصاً على شعارات ساهمت بتدمير العراق، إنما تحول كليةً إلى الوطنيّة الخالصة.

كان اليَّاور يعلم أن معارضته وغيره لا تُسقط الخصم، وإذا كانت المصلحة الدّوليّة، مِن وجهة نظره، تتفق لتحقيق الهدف، ليكن استثمارها عراقيَّاً، بهذا يدرك أكذوبة: إنَّ الشّهداء، والمحاربين للجيش العراقي، خلال حرب السنوات الثماني، هم من أزاحوا النّظام، بينما دخلوا خلف الدّبابات، رافعين صوراً ورايات مستوردة، مطالبين العراق بدفع خسائر الحرب.

كان إسقاط النّظام أميركيّاً خالصاً، لا فلان وفلان، هذه حقيقة، والقول لصاحب قصيدة: «أتيتُ بمنطق العربِ الأصيلِ»، أبي الطَّيب (قُتل: 354ه): «وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ/ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ»(العَرف الطّيب).

عندما قُضي على ثورة الزَّنج بالبَصْرة (255-270هجريّة)، وكادت تعصف بالخلافة العباسيّة، ادعى الكلّ، هو صاحب الانتصار، فقيل: «كيف ما شئتم قولوا/ إنما الفتحُ للولو» (المسعودي، مروج الذَّهب)، ولؤلؤ كان غُلامَ والي مصر، وقائد الجيش القادم مِن هناك، لمواجهة صاحب الزّنج مع الجيش العباسيّ. أقول: لا كتائب ولا دُعاة ولا آيات ولا عصائب «إنما الفتح للولو»! لا تكذبوا، فإن للتاريخ بصراً وسمعاً. ليت اليّاور ترك شهادةً، ولم يكتف باستشعار الخديعة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يتدهور مفهوم الوطن أو يغيب مادام الوجود والمرجعية تظلان للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، إنها حالة حصار للمواطن داخل البلدان العربية، تفرض علية هذه الوضعية أحد الأسباب الكبرى التي تحول دون تحوّل الدول الى أوطان بمعنى الكيان والمرجعية اللذين يتجاوزان الانتماءات الضيقة،ويظل الوطن الذي لم يتكوّن رهينة تصارع العصبيات على غرار تصارع القبائل في البادية على الكلأ والماء.

على أن الاستبداد حين يصل حد الطغيان، وحين تحيط الآجهزة الأمنية والسيادية بالمواطن العربي من كل مكان وتُحصى عليه أنفاسه، وحين يُعتبر السلطان أي سلطان بأنه مالك للأرض وما عليها، وبالتالي مَن عليها، وأن كل مصيبة وهم وبلاء يصيب المواطن ما هو إلا إحسان ومكرمة أو منّة منه، وأن له حق التصرّف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر وحتي قرار الموت، وهو بذلك يُهدر حق انتماء الإنسان ويُصادر حقه البديهي بالمواطنة، وقد اشار الي ذلك المفكر وعالم النفس اللبناني مصطفي حجازي / في دراسة تحليلية نفسية "

من كتاب بعنوان "الانسان المهدور" يقول: يصبح الإنسان غريبًا في وطنه فاقدًا للسيطرة على مجاله الحيوي وبالتالي محرومًا من الانطلاق الواثق في هذا المجال الى مجالات أرحب، ومحرومًا من الإنغراس الذي يوفر الثقة القاعدية بالكيان والاحساس بالمنعة . تتحوّل المواطنة من حق أساس إلى منّة أو هبة يمكن أن تُسحب في أي وقت. وبالتالي يُسحب من الانسان الحق في أن يكون ويصير من خلال ممارسة الإرادة والخيار وحق تقرير المصير وهذا ماحدث في عهد الرئيس المصري/حسني مبارك /في إجراء إستفتاء علي بعض مواد الدستور بشأن المواطنة.

وكانت لعبة سياسية أمام الغرب فقط،، كذلك إستبعاد طوائف وفيئات من المجتمع في منعهم من دخول كليات عسكرية وشرطية وفي القضاء بحجة أنهم فقراء أو أهاليهم من الطبقة الفقيرة اوالمتوسطة، إنها كارثة وجودية أخرى تجعل من أي مشاريع تنمية أو إنماء وعمران وكفاءات حديث خرافة، ذلك أن الإنسان المُستلب في وطنه ومجاله الحيوي لا يمكن أن يُعطي، وبالتالي أن يبني، ويقنع في أحسن الأحوال بالتفرُّج السلبي في حالة من الغربة، كما ينحدر الوجود إلى مستوى الرضى بمكسب مادي يغطي الاحتياجات الاساسية . وقد يستجيب الإنسان لهدر مواطنيته وانتمائه في أن يتصعلك مُتنكرًا لشرعية السلطان لمذهبة الديني وعرقة، وصولاً إلى التنكر للوطن ذاته في نوع من الهدر المُضاد،وهذا النموذج موجود في بلدان العرب من وجود عرقيات ومذاهب واقليات، إلا أن أشد درجات الهدر المضاد قد تتخذ طابع هدم الهيكل عليه وعلى أعدائه فيما بدأ يشيع من سلوكات تطرف جذري داخل المجتمعات العربية من حروب اهلية في{العراق وسوريا واليمن ولبنان،والسودان}والباقي تحت براكين خامدة من الإنفجار.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري ومتخصص في علم الجغرافيا السياسية

 

يعتبرقرار محكمة العدل الدولية منعطف تاريخي؛ وذلك عندما أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة، وصوتت أغلبية أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من سبعة عشر قاضيا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا باستثناء توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة، هذا القرار هو الافتراض الصحيح أمام انتهاكات إسرائيل ورسالة مختلفة بأن العالم يجب أن يستند إلى مبادئ أخلاقية يتم تطبيقها على الجميع، لأن العالم عاش مع انتهاكات إسرائيل المتواترة لما يقارب من ثمانية عقود.

إسرائيل وخلال ما يقارب من ثمانية عقود مضت لم تكن مستعدة للخير؛ بل على العكس من ذلك، لذلك حظي التاريخ بالكثير من القضايا التي وصلت إلى محكمة العدل الدولية خلال العقود الماضية ضدها ولكنها لم تصل إلى تحقيق العدالة التي يجب أن تكون موجودة في كل دول العالم دون استثناء، إسرائيل ارتكبت خطأ كبيرا عندما ذهبت في صراعها مع غزة إلى أبعد مما يجب وجعل العالم يفسر تصرفاتها رغبة نحو الإبادة الجماعية لسكان غزة التي يسكنها أكثر من مليوني إنسان، وليس من المنطق أن يكونوا جميعا هدفا في الحرب الدائرة.

إذا كانت إسرائيل بإعلانها الحرب على غزة ترى أنها مخولة في ذلك وفق معايير الدفاع عن النفس، فإن الواجب عليها أن تثبت للعالم أن وراء ذهابها لتلك الحرب قضية عادلة وليس هجوما على الإنسانية في مجتمع غزة دون تفريق في المعايير، إسرائيل التي باشرت الحرب على غزة عملت على استغلال الموقف لتحقيق أهداف متفرقة رفضتها محكمة العدل الدولية التي أثبتت بالأدلة والبراهين أن ما حدث في غزة تجاوز فكرة الحرب الطبيعية، فالتدمير والتهجير اللذان حدثا والقتل الشامل مشهد يصعب تصوره في الواقع الإنساني

اليوم نشهد بداية اصطدام إسرائيلي مع مواقف دولية جديد ومفاجئة لإسرائيل التي لم تعتد عليها، فما حدث في غزة هو ضد كل المعايير الإنسانية، وتدمير غزة وسكانها بهذه الطريقة لم تستطع إسرائيل تبريره إلا وفق معادلة هشة وغير مقبولة، لأن عدد من قتل من الفلسطينيين كان مسارا محتملا نحو الإبادة الجماعية بلا أدنى شك، وهذا ما أدركته محكمة العدل الدولية ونطقت به في حكمها، فرص إسرائيل الفعلية هي التخلي عن أحلام بعيدة والعودة إلى الواقع وقبول مشروعات السلام التي تمنح الفلسطينيين حقهم، وإلا فالنتيجة المنتظرة انقلاب دولي تدريجي تجاه أفعال إسرائيل وسيفرض عليها مستقبلا ما يريده العالم وليس ما يريده نتنياهو.

محكمة العدل الدولية معنية، منذ تأسيسها عام 2002، بمحاكمة ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو تطهير عرقي، فقد امتنعت واشنطن عن التوقيع على اتفاقية الانضمام إليها، وعندما وصل الأمر لاتهام الجيش الأمريكي بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد معتقلين في أفغانستان عام 2018 هددت واشنطن القضاة العاملين في المحكمة بالمنع من دخول الولايات المتحدة وبتجميد أرصدتهم البنكية وبمحاكمتهم، وذلك لأن محاكمة جنود أمريكيين، كما قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها، «تعد خرقا لسيادة بلاده,, ورغم ذلك من الناحية القانونية، فإن خيبة الأمل الانسانية لا يجب ان تحجب الأنظار عن الانجاز الهام لقرار المحكمة ولأسباب عدة. فالمحكمة، وبأغلبية كبيرة، قررت ان ما تقوم به اسرائيل يشكل سببا معقولا للظن بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ولذا فالمحكمة أقرت بصلاحيتها النظر في القضية المرفوعة من قِبَلِ جنوب أفريقيا. يجب هنا ان نُفرق بين الإدانة الشعبية التي لا تحتاج إلى مرافعات ومداولات، وبين الإدانة القانونية التي تتطلب دراسة كل الحجج والبيّنات قانونيا ومن مختلف الأطراف، الأمر الذي يأخذ حكما، وقتا طويلا. إذن، فان مجرد قبول الدعوى وضع إسرائيل قانونيا في موضع الاتهام من أعلى سلطة قضائية دولية.

***

نهاد الحديثي

يبدأ حلف شمال الأطلسي قريبا، أكبر مناورة عسكريه له منذ الحرب الباردة باسم مناورات "المدافع الصامد 2024"، وهو اسم الدورة التدريبية القتالية للجيوش الغربية، وتستمر حتى مايو 2024، ومن المقرر أن يشارك في التدريبات نحو 90 ألف فرد وأكثر من 50 سفينة ونحو 80 مقاتلة ومروحية وطائرة بدون طيار وما لا يقل عن 1.1 ألف مركبة قتالية، منها 133 دبابة و533 مركبة قتال مشاة.

وكانت آخر مرة أجرى فيها حلف شمال الأطلسي مناورات بهذا الحجم في عام 1988، حيث شارك فيها 125 ألف جندي، وفي القرن الحادي والعشرين، جرت آخر مناورات واسعة النطاق يمكن مقارنتها بالتدريبات الحالية في عام 2018، وشارك فيها حوالي 50 ألف جندي، وقد يتساءل البعض، لماذا يقوم حلف شمال الأطلسي بمناورات "المدافع الصامد 2024" الضخمة والمكلفة للغاية؟ في ظل وجود أزمة اقتصادية في أوروبا، واحتجاجات المزارعين، ومشاكل مالية في أوكرانيا، علاوة على ذلك، فإن روسيا لن تهاجم أي دولة من دول الناتو.

ولا يختلف اثنان اليوم في الرأي، من إن البرنامج الأقصى لقيادة الناتو هو تخويف القيادة الروسية وإجبارها على الاستسلام، ومع ذلك، هذا أكثر من إشكالية، ولكن سيتم ضمان اكتمال الحد الأدنى من البرنامج، لأقناع المواطن الأوروبي في الشارع بأن حلف شمال الأطلسي "من التايغا الفنلندية إلى البحار البريطانية" ، هو "الأقوى على الإطلاق"، وسيحصل الأفراد العسكريون في القوات المسلحة الأوكرانية، وسكان أوكرانيا على ضمانة "النصر".

ليس سراً أن القوات المسلحة الروسية، هي أدنى بكثير من الناتو في الأسلحة التقليدية في البر والبحر والجو، ومع ذلك، يعيش العالم في العصر النووي منذ أكثر من 70 عامًا، ولولا الأسلحة النووية، لكانت مسألة وجود حلف شمال الأطلسي قد تم حلها في الخمسينيات من القرن الماضي ، في ظروف التفوق الكامل للجيش السوفيتي على القوات المسلحة لجيوش أوروبا والولايات المتحدة، وإن الطريقة الوحيدة الممكنة لوقف تأثير مناورات الناتو ، هي إجراء تدريبات في موقع اختبار"نوفايا زيمليا" (أرخبيل نوفايا زيمليا، المدرج في حدود منطقة أرخانغيلسك- تم إنشاؤه في عام 1954 لدراسة الآثار الضارة للانفجارات النووية على المنشآت البحرية)، بتفجيرات نووية حقيقية، علاوة على ذلك، يمكن دمج هذه التدريبات مع تجارب الأسلحة النووية.

بالإضافة الى ذلك انفجرت وسائل الإعلام الغربية الرائدة بوابل من التعليقات على تقرير جديد صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) ومقره لندن، بعنوان "الفكر والعقيدة العسكرية الروسية فيما يتعلق بالأسلحة النووية غير الاستراتيجية: التغيير والاستمرارية، والمعهد ، هو مركز تحليلي عسكري غربي رائد متخصص في تقييم الإمكانات العسكرية للدول حول العالم، ويحدد التقرير الجديد بشكل أساسي العقيدة النووية الجديدة للاتحاد الروسي، والتي تم وضعها بموجب مرسوم أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتاريخ 2 يونيو 2020، وجاء فيها بالأبيض والأسود: “إن الاتحاد الروسي يحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية رداً على استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضده و(أو) حلفائه، وكذلك في حالة حدوث ذلك”. العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة في حد ذاته مهددًا ...

ويرى المراقبون الروس ان مؤلف التقرير هو المحلل العسكري البريطاني الشهير ويليام ألبيرك، شغل سابقًا منصب مدير مركز الناتو للحد من الأسلحة ونزع السلاح وعدم الانتشار (ACDC)، والذي عمل لمدة 25 عاماً في مجال الحد من التسلح ونزع السلاح وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، ويحلل إمكانية استخدام روسيا "الأسلحة النووية غير الاستراتيجية" (Nonstrategic Nuclear الأسلحة) وهذا ما تشير إليه اللغة العامية العسكرية الغربية بالأسلحة النووية التكتيكية والعملياتية، المجهزة بشكل خاص بصواريخ كروز، انه من الواضح أن ألبيرك يشوه "الحقائق والحقائق" عندما يزعم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "ينظر إلى NSNW باعتبارها سلسلة من الأدوات المرنة التي يمكنه استخدامها... لمنع القوى الخارجية من التدخل في أي صراعات تعتبرها روسيا حاسمة لمصالحها، وإجبار المعارضين على الموافقة على إنهاء الحرب بشروط تمليها روسيا، ومنع تصعيد أي صراع محلي في المسرح المحلي (على سبيل المثال، أوروبا) من خلال تدخل الناتو، ومنع تصعيد أي صراع محلي إلى المستوى الاستراتيجي للحرب (أي التصعيد إلى هجمات مباشرة على الأراضي الأمريكية والروسية).

ولم يسبق لفلاديمير بوتين، ولا أي شخص آخر من القيادة العسكرية السياسية لروسيا، أن شارك في مثل هذا الابتزاز، وما يمنع الجهات الفاعلة الخارجية من بين القوى العسكرية الرائدة، هو وجود ترسانة روسية قوية من الأسلحة التكتيكية والتشغيلية التكتيكية، وإمكانية استخدامها منصوص عليها بوضوح في الطبعة الجديدة للعقيدة النووية للاتحاد الروسي، وفي تقريره، يدرس ويليام ألبيرك بشكل رئيسي، التدابير الممكنة للسيطرة على القوات النووية الروسية، و"إن إحدى الأدوات لفهم سيناريوهات NSNW الروسية هي تتبع تحركات قوات الدفاع الإشعاعية والنووية، وخاصة مراقبة كيفية تفاعل قوات الدفاع الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CBRN-D) مع القوات النظامية وعالية الاستعداد التي يمكن أن تعمل في بيئة إشعاعية، ويقترح المحلل البريطاني أيضًا ، مراقبة أي تغييرات في منشآت التخزين النووية الروسية - عددها وحجمها ومستوى نشاطها الداخلي وأي تحركات مرتبطة بها داخل وخارج البلاد، بالإضافة إلى التغييرات في موقع أنظمة التسليم ذات الأغراض الخاصة أو ذات الاستخدام المزدوج"، تدريبات نووية أو تدريبات تقليدية بمرحلة نووية وأي عمليات نشر يمكن اكتشافها [للأسلحة النووية]”.

ودعونا نتذكر أنه لم يتم إجراء تجارب نووية كاملة في الجو والفضاء وتحت الماء لمدة 62 عامًا (!) - منذ عام 1962، ولم يتم إجراء اختبارات مصطنعة في المناجم تحت الأرض منذ عام 1996، أي 28 عامًا، ولكن أي سلاح يخضع للتفتيش المنتظم، وقد تم الآن إنشاء العشرات من الأنواع الجديدة من الأسلحة، ولا أحد يعرف كيف ستعمل في حرب نووية، وأن الجنرال النمساوي ويرثر، كان يشارك في النمذجة الرياضية للعمليات القتالية عشية معركة أوسترليتز، وبالتالي فإن استئناف التجارب النووية يشكل ضرورة ملحة، سواء من دون تدريبات حلف شمال الأطلسي أو من دون نشوب صراع في أوكرانيا.

وقدتم تنفيذ أول انفجار نووي في موقع اختبار نوفايا زيمليا (الاسم المستعار للموقع هو   "Spetsstroy-700" ) في 21 سبتمبر 1955، وفي 30 أكتوبر 1961، تم إسقاط قنبلة القيصر، المعروفة أيضًا باسم أم كوزكا، بسعة 50 ميغا طن، من طائرة من طراز Tu-95-202 في ساحة التدريب، بالإضافة إلى ذلك، في عام 1961، أسقطت طائرات Tu-16 وTu-95 22 قنبلة أخرى على " نوفايا زيمليا" ، وفي عام 1962، بدأت وحدات الطيران القتالية بعيدة المدى التدريب في نوفايا زيمليا، وأسقطت قاذفات القنابل Tu-95 وTu-16 و(3M إجمالي 20 طاقمًا) 35 قنبلة تتراوح قوتها الإنتاجية من 6 كيلو طن إلى 21 ميغا طن، وفي 8 فبراير 2023، صرح المدير العلمي للمركز النووي الفيدرالي الروسي - معهد أبحاث عموم روسيا للفيزياء التجريبية، فياتشيسلاف سولوفيوف، ان هناك برنامج خاص معمول به للحفاظ على جاهزية موقع الاختبار وأن موقع الاختبار جاهز لبدء الاختبار.

وبات معلوما، ان المملكة المتحدة أصبحت مؤخرًا أول دولة من دول مجموعة السبع التي وقعت اتفاقية بشأن الضمانات الأمنية مع أوكرانيا، ومدة صلاحيتها عشر سنوات، وكما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن أكبر حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 3.2 مليار دولار، وتتكون الوثيقة من تسعة أجزاء إن لندن ملتزمة بتزويد أوكرانيا بالمساعدة الشاملة لاستعادة ما تسميه لندن سلامتها الإقليمية داخل الحدود المعترف بها دوليا، فضلا عن استعادة الاقتصاد وحماية المواطنين الأوكرانيين، في غضون ذلك قال رئيس مكتب رئيس أوكرانيا، أندريه إرماك، إن الضمانات الأمنية ستساعد في تهيئة الظروف "للتنفيذ الكامل لحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس" وستساعد أيضًا كييف على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، حسبما ذكرت صحيفة الغارديان.

فهل سيحدث التلوث الإشعاعي في القطب الشمالي بعد التجارب النووية؟ بالتأكيد سيحدث، ولكن ليس كثيرا، فقد أظهرت العديد من الدراسات الخاصة لمستوى التلوث في مياه بحر بارنتس وساحل "نوفايا زيمليا"، أنه بعد توقف التجارب النووية في الغلاف الجوي، بدأ النشاط الإشعاعي في الانخفاض بسرعة، ثم زاد مرة أخرى، لماذا؟ بسبب إلقاء نفايات المحطات النووية في إنجلترا في المحيط الأطلسي، فإن طبيعة واتجاه التيارات في هذه المنطقة تجعل الجزء الشرقي من بحر بارنتس والساحل الغربي لنوفايا زيمليا يتحولان إلى مكب نووي .

ألم يحن الوقت لكي نشرح للعالم أجمع أن "الخضر" الأوروبيين في حكومات دول الاتحاد الأوروبي، قد نسوا كل ديماغوجيتهم ويقومون بتدمير البيئة علانية من خلال تشغيل مشاريع تعمل بالفحم، وإنهم يرسلون المزيد والمزيد من أنواع الأسلحة المدمرة لتحويل الأراضي الأوكرانية إلى صحراء، والأهم من ذلك أن الوزراء "الخضر" يدفعون العالم نحو حرب نووية حرارية، وفي ضوء التصريحات العديدة للمسؤولين الغربيين حول احتمال النشر المحدود للقوات في أوكرانيا تحت رعاية دول فردية، وليس تحت رعاية الناتو بأكمله، يبدو تصريح الجنرال الأوكراني على خلفية النقص المتزايد في الموارد البشرية والعسكرية، بتصريحات من هذا النوع (مطالبات إقليمية ومراجعة للوضع النووي لروسيا)، مثيرًا للقلق للغاية .

وقد يتساءل المرء، لماذا كل هذه الضجة حول التهديد النووي الروسي الوهمي تماما؟، وتم توضيح الوضع من خلال مقابلة أجراها نائب وزير الدفاع الأوكراني إيفان غافريليوك مع صحيفة دير شبيغل الألمانية، حيث قال: “كل الحروب تنتهي على طاولة المفاوضات بتوقيع وثائق معينة، وأعتقد أن الشيء نفسه سيحدث في "حالتنا"، وسيتم التوقيع على الاتفاقيات من قبل تحالف الدول التي تدعم أوكرانيا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، ويجب أن تتضمن هذه الوثيقة بندا بشأن تخلي روسيا الاتحادية عن الأسلحة النووية، لأن هذه الدولة تشكل تهديدا للعالم، كما ويؤيد الغرب إن الأسلحة النووية الروسية تطارد الغرب الجماعي، وهو ما يعني أن على روسيا أن تحافظ على مسحوقها النووي جافاً، ولكن أيضاً ألا تستسلم للاستفزازات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

التطبيع مع الاحتلال المستمر هو احتلال آخر تمت مناقشته على نطاق واسع في سياق احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. يشير مفهوم التطبيع إلى فكرة أنه من خلال تطبيع العلاقات مع قوة الاحتلال، يكون السكان المضطهدون متواطئين في قمعهم. يهدف هذا المقال إلى التعمق في الحجج المحيطة بهذا الموضوع، وتسليط الضوء على تأثير التطبيع على النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.

إحدى الحجج الرئيسية ضد التطبيع هي أنه يضفي الشرعية على الاحتلال ويديم اختلال توازن القوى. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يقبلون الوضع الراهن ويتغاضون بشكل فعال عن الاحتلال. ويمكن أن يظهر هذا التطبيع بأشكال مختلفة، بما في ذلك التبادل الأكاديمي والثقافي والتعاون في المشاريع الاقتصادية، وحتى المشاريع الحكومية المشتركة. ويرى النقاد أن هذه التفاعلات تساعد في الحفاظ على الاحتلال، حيث تستفيد قوة الاحتلال من تطبيع العلاقات بينما تستمر معاناة السكان المضطهدين.

ويشكل التطبيع أيضا خطر تحويل الانتباه بعيدا عن القضية الأساسية المتمثلة في إنهاء الاحتلال وتحقيق تقرير المصير الفلسطيني. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتحول التركيز من المظالم التي تحدث في ظل الاحتلال إلى بناء الجسور مع قوة الاحتلال. يتيح هذا التحويل لدولة الاحتلال أن تبدو أكثر خيرا واستعدادا للبحث عن حلول سلمية، بينما يبقى واقع الاحتلال دون تغيير. ويكمن الخطر في تطبيع العلاقات في احتمال أن يصبح النضال الفلسطيني غير مسيس، مما يؤدي إلى تآكل الدعم لقضيتهم وإعاقة الجهود الرامية إلى إحداث تغيير حقيقي.

 يمكن أن يؤدي التطبيع إلى تهميش وإسكات الأشخاص الأكثر تضررا من الاحتلال. وفي سعيهم إلى الحياة الطبيعية، غالبا ما يتم تصنيف الفلسطينيين الذين يتحدثون ضد الاحتلال على أنهم متطرفين أو إرهابيين. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتم تجاهل مظالمهم ويتم قمع أصواتهم. ويخلق هذا التهميش بيئة تصبح فيها الآراء والروايات المعارضة غير مرئية، مما يساهم في إدامة الاحتلال.

و يرى المؤيدون أن التطبيع يمكن أن يكون أداة فعالة للمقاومة والتغيير. ومن خلال التعامل مع الإسرائيليين على منصات مختلفة، يستطيع الفلسطينيون تحدي التحيزات والقوالب النمطية، وتعزيز التفاهم، وتعزيز السلام. يرى البعض أنه من خلال التفاعلات الطبيعية، يمكن للفلسطينيين إضفاء الطابع الإنساني على أنفسهم وتقديم واقع تجاربهم الحياتية، وكشف ظلم الاحتلال. في ضوء ذلك، يمكن النظر إلى التطبيع على أنه شكل من أشكال المقاومة، مما يوفر فرصا لتغيير العقليات وتعزيز الوعي.

ومع ذلك، يؤكد المنتقدون أن التطبيع دون إطار سياسي واضح هو أمر معيب بطبيعته. وفي غياب حل شامل وعادل للصراع، يصبح التطبيع لفتة فارغة لا يستفيد منها سوى المحتل. وبدون معالجة الأسباب الجذرية للاحتلال وتحقيق العدالة السياسية والإقليمية، فإن أي محاولات للتطبيع قد تصبح متواطئة في إدامة الاحتلال.

إن التطبيع قضية معقدة وليس لها إجابات سهلة، ولكن من الأهمية بمكان دراسة الأبعاد المختلفة لهذه المناقشة. عند مناقشة التطبيع مع الاحتلال المستمر، من الضروري إجراء تحليل نقدي لديناميكيات القوة المؤثرة والنظر في الآثار المترتبة على مثل هذه التفاعلات. وينبغي أن يكون الهدف النهائي التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يحترم حقوق وكرامة جميع الأطراف المعنية.

التطبيع مع الاحتلال

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يديم ويضفي الشرعية على وجود قوة احتلال بينما يقوض حقوق وكرامة السكان الخاضعين للاحتلال. ويشير مصطلح التطبيع إلى العملية التي يتم من خلالها قبول الوضع القائم كمعيار أو قاعدة، مما يعني في كثير من الأحيان أن الاحتلال هو واقع دائم ولا مفر منه. ومع ذلك، فإن هذه الأيديولوجية تتجاهل المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة وتقرير المصير التي ينبغي أن توجه الصراعات التي تنطوي على احتلال أجنبي.

أولا، يؤدي التطبيع مع الاحتلال المستمر إلى تطبيع الاحتلال بشكل خطير باعتباره وضعا راهنا مقبولا، مما يضعف الحاجة الملحة إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراع. ومن خلال قبول الاحتلال كحالة طبيعية، تكتسب قوة الاحتلال الشرعية وتعزز سيطرتها على الأراضي المحتلة. وهذا يقوض جهود الشعب المحتل والمجتمع الدولي لتحدي الاحتلال والبحث عن حل عادل.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يؤدي إلى تطبيع المظالم اليومية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها سلطة الاحتلال ضد السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق شعورا بالرضا عن النفس، مما يسمح لقوة الاحتلال بمواصلة ممارساتها القمعية دون عواقب وخيمة أو ضغوط للتغيير. وهذا يؤدي إلى إدامة دورة من الانتهاكات المنهجية والتمييز وتجريد السكان الخاضعين للاحتلال من إنسانيتهم.

 يشكل التطبيع مع الاحتلال المستمر تهديدا لحياة ومعيشة السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تفرض سلطة الاحتلال قيودا على الحركة، والوصول إلى الخدمات الأساسية، والفرص الاقتصادية، مما يعيق تنمية وازدهار الأراضي المحتلة. وهذا لا ينتهك حقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال فحسب، بل يعيق أيضا قدرته على بناء اقتصاد ومجتمع مستدامين ذاتيًا.

كما أن التطبيع يقوض مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال واحترام حقوق الشعب المحتل. إنه يبعث برسالة مفادها أن الدول القوية يمكنها تجاهل القانون الدولي مع الإفلات من العقاب، وتجاهل حقوق وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال. وهذا يشكل سابقة خطيرة يمكن استغلالها من قبل قوى الاحتلال الأخرى في جميع أنحاء العالم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التطبيع مع الاحتلال المستمر يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات بين السكان الخاضعين للاحتلال، حيث قد يقبل البعض الاحتلال بينما يستمر الآخرون في المقاومة. إنه يخلق انقسامًا يضعف قوة النضال الجماعي من أجل العدالة والتحرر. وهذا الانقسام يخنق إمكانية الوحدة والتضامن الضروريين لحركة تحرير ناجحة.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يضعف دعم المجتمع الدولي لقضية السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق ارتباكا وغموضا بين الجهات الفاعلة العالمية، مما يخفف الضغط على قوة الاحتلال لإنهاء الاحتلال والامتثال للقانون الدولي. إن هذا الافتقار إلى الضغط الدولي يسمح لقوة الاحتلال بالتصرف دون عقاب وتعزيز سيطرتها على الأراضي المحتلة.

 يؤدي التطبيع إلى إدامة مناخ من الخوف وانعدام الأمن بين السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تستخدم قوة الاحتلال جهازا أمنيا متشددا لقمع أي مقاومة أو معارضة، مما يؤدي إلى انتشار ثقافة المراقبة والاعتقالات والعنف. ويخنق مناخ الخوف هذا أي تطلعات إلى الحرية والعدالة وتقرير المصير بين السكان الخاضعين للاحتلال.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يعيق إمكانية إجراء حوار ومفاوضات هادفة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ومن خلال قبول الاحتلال كأمر طبيعي، فإن قوة الاحتلال ليس لديها أي حافز للانخراط في عملية حقيقية لبناء السلام وحل الصراعات. وهذا يديم دائرة العنف والقمع، ويمنع أي مناقشات بناءة تهدف إلى إيجاد حل عادل ودائم.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يتجاهل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لقوة الاحتلال في معالجة المظالم التي لحقت بالسكان الخاضعين للاحتلال. وبدون الاعتراف بأخطاء الماضي والحاضر ومعالجتها، تصبح المصالحة مستحيلة، ومن المرجح أن تستمر دائرة العنف والصراع.

التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يضفي الشرعية على الاحتلال الظالم والظالم ويديمه. يقوض هذا التطبيع القانون الدولي وحقوق الإنسان والنضال المستمر للسكان المحتلين من أجل الحرية وتقرير المصير. ومن الضروري تحدي ومقاومة التطبيع، والمطالبة بإنهاء الاحتلال، والعمل على إيجاد حل عادل ودائم يحترم حقوق وكرامة جميع الأشخاص المتضررين من الاحتلال.

التطبيع مع العدو

التطبيع مع العدو يختلف عن التطبيع مع الاحتلال المستمر. يشير التطبيع مع العدو إلى عملية إقامة علاقات طبيعية مع عدو سابق بعد فترة من الصراع أو الاحتلال. ويمكن فهم ذلك على أنه تحول في الموقف تجاه المصالحة والتفاهم المتبادل بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ومن الأهمية بمكان أن نعترف بأن التطبيع بعد الاحتلال يختلف عن أشكال الاحتلال الأخرى، لأنه يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى العملية. سنتناول في هذا المقال مفهوم التطبيع مع العدو من زوايا مختلفة، ونناقش دلالاته وتحدياته وفوائده المحتملة.

أولا وقبل كل شيء، من المهم أن نفهم أن التطبيع مع العدو لا يعني التغاضي عن صراعات الماضي أو نسيانها. وبدلا من ذلك، يشهدف إلى بناء الجسور وخلق بيئة مواتية للسلام والاستقرار. أحد الجوانب الرئيسية للتطبيع هو إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف المعنية. ويشمل ذلك تبادل السفراء، والمفاوضات بشأن اتفاقيات ثنائية، وفتح قنوات للحوار. تسمح مثل هذه التفاعلات بالحل السلمي للنزاعات وخلق فرص للتعاون بشأن التحديات المشتركة، مثل التنمية الاقتصادية أو القضايا البيئية.

التطبيع مع العدو يمكن أن يحقق فوائد هائلة لكلا الطرفين المعنيين. ومن خلال الانخراط في العمليات الدبلوماسية والحوار البناء، يصبح من الممكن معالجة مظالم الماضي وإيجاد أرضية مشتركة للمصالحة. على سبيل المثال، في حالة الولايات المتحدة وكوبا، أدت عملية التطبيع إلى رفع الحظر التجاري وقيود السفر، مما أدى لاحقا إلى تحسين الظروف الاقتصادية لكلا البلدين. علاوة على ذلك، يمكن للتطبيع أن يعزز الروابط بين الناس، والتبادلات الثقافية، والتعاون التعليمي، وكلها تساهم في فهم وتقدير أكبر لتاريخ وقيم كل طرف.

لكن التطبيع مع العدو ليس دائما مسعى سهلا. ويتمثل أحد التحديات الرئيسية في العداء العميق وانعدام الثقة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ويتطلب التطبيع التغلب على هذه الحواجز وبناء أساس من الثقة، وهو ما قد يستغرق سنوات، إن لم يكن عقودا، لتحقيقه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يواجه التطبيع معارضة من داخل البلدين. على سبيل المثال، قد تقاوم الفصائل المتشددة أو مجموعات المصالح بشدة أي شكل من أشكال التعاون أو التطبيع، خوفا من أن يشكل تهديدًا لمصالحها السياسية أو الاقتصادية.

نوع آخر من الاحتلال يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى عملية التطبيع مع العدو. وفي مثل هذه الحالات، تكون الأراضي المحتلة تحت سيطرة قوة أجنبية، منفصلة عن الدولة المعادية. وتطرح هذه الديناميكية المعقدة عقبات إضافية أمام عملية التطبيع، لأنها تتطلب التنسيق وإشراك جهات فاعلة متعددة. إن إيجاد توازن بين مصالح وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال، وقوة الاحتلال، والدولة المعادية يمكن أن يكون مهمة حساسة، ولكنها ضرورية.

أحد الأمثلة التاريخية لنوع آخر من الاحتلال هو الوضع في فلسطين، حيث تحتل إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. يواجه التطبيع مع إسرائيل تحديات عديدة بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد، والتفسيرات المتباينة للتاريخ، والعقبات السياسية. ومما يزيد من تعقيد الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات الانقسامات الداخلية داخل المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني وتأثير الجهات الخارجية المشاركة في الصراع. لكن رغم هذه التحديات، تظل إمكانية التطبيع ضرورية لتحقيق التعايش السلمي وحل الصراع في المنطقة.

وفي الختام، فإن التطبيع مع العدو، خاصة بعد فترة من الاحتلال، هو عملية معقدة ومتعددة الأوجه. إنها تنطوي على إقامة علاقات دبلوماسية وتعزيز الحوار وبناء الثقة بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ورغم أن هذه مهمة صعبة، إلا أن التطبيع يمكن أن يحقق فوائد هائلة من خلال تعزيز المصالحة والتعاون والتفاهم. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن ندرك التحديات الكامنة في هذه العملية، بما في ذلك العداوات العميقة الجذور، والمعارضة من الفصائل المتشددة، والتعقيدات التي يفرضها نوع آخر من الاحتلال. ومع ذلك، يظل السعي إلى التطبيع مع العدو ضروريًا لتحقيق السلام الدائم والاستقرار والازدهار.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني،  لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري  في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي  في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا  لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات  الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى،  حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة،  والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.

وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.

ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم،  ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة  تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا  نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.

نصيحتي لأي  شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه،  عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.

***

د. الطيب النقر

نشر السيد نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي - والذي تقول أوساط إعلامية وأكاديمية عراقية إنه يعمل مستشاراً اقتصادياً لدى رئيس مجلس الوزراء - مقالة على مواقع التواصل الاجتماعي -الحوار المتمدن، ثم تداولت مواقع مقربة من إعلام الحكومة هذه المقالة وهي بعنوان (فلاي بغداد: إنذار اقتصادي أمريكي للعراق). ويبدو أن الكاتب، وفي غمرة حماسته في الترويج للعقوبات الأميركية المتوقعة ضد العراق، فيما إذا تصدى للهيمنة وحاول استرجاع سيادته واستقلاله المنتهكين، نسيَ موضوع "فلاي بغداد" ولم يذكره بكلمة واحدة. و"فلاي بغداد" لمن لا يعرفها هي شركة للخطوط الجوية - قطاع خاص تملكها زعامة أحد أحزاب الفساد ضمن المنظومة الحاكمة هو حزب "حزب الحكمة" والتي عاقبتها وزارة الخزانة الأمريكية بإدراجها هي ومديرها التنفيذي، في لائحة العقوبات وسرعان ما نفذ البنك المركزي العراقي تلك العقوبات الأميركية وقام بتجميد حسابات الشركة في ثلاثة مصارف عراقية رئيسية، ولكن المرسومي لم يذكر شيئاً عن هذا الحدث في سطور مقالته كما أسلفنا.

يبدأ الكاتب مقالته بمعلومة أراد لها ان تكون جرس إنذار وتهديد للقارئ تقول: "يتمتع كل من رئيس الولايات المتحدة والكونغرس بسلطة إصدار عقوبات اذْ يسمح قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977 للرئيس بفعل ذلك بسهولة كبيرة وقد دفعت واشنطن بالأمم المتحدة الى فرض عقوبات على جماعات واشخاص في 180 دولة". ثم يفصل الكاتب في أساليب فرض تلك العقوبات وهي كالآتي ذكره باختصار:

1- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج وتجميد حسابات مؤسسات الدولة والأفراد.

2- القيود المالية: الاستبعاد من نظام التحويل المالي (سويفت) لإرسال الأموال عبر العالم.

3-الاستبعاد من مقاصة الدولار: حظر المعاملات المالية التي تنطوي على استخدام الدولارات الأمريكية.

4- منع الوصول لأسواق الديون العالمية.

ولكي يتخذ الإنذار والتهديد والوعيد الأميركي المعادي للعراق حجمه الحقيقي لا ينسى المرسومي أن يذكر احتمال "توسع العمليات العسكرية في العراق"، وربما يقصد توسع عمليات مقاومة الاحتلال ومحاولة طرد قواته بقوة المقاومة أو تلك العمليات الهادفة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة والذي يتعرض للإبادة الجماعية والتخفيف عنه، فيقول: "وإذا ما توسعت العمليات العسكرية في العراق فمن الممكن ان يتعرض العراق للعقوبات الآتية". ثم يقدم المرسومي تشكيلة جديدة (سيكرر بعضها كالحرمان من استعمال نظام سويفت) لعقوبات أميركية ضد العراق هي كما يلي:

1- التوقف عن تسليم الدولار الى العراق اذ ان القوانين الامريكية مثل قانون معاقبة أعداء أمريكا تتيح لها عدم تسليم الدولار الى بعض الدول مما سيخفض كثيرا من سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار وقد نشهد انهيار اكبيرا للدينار يؤدي بالنتيجة الى تضخم جامح سيذكرنا بالحصار الأمريكي على العراق. وقد يتم تجميد احتياطات العراق النقدية في البنوك الامريكية وقد يمتد الامر الى استثمارات العراقي الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار.

2- الامتناع عن التعامل مع البنك المركزي العراق وهو ما يؤدي الى فقدان ثقة العالم به.

3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي ويحد من تمويل التجارة الخارجية.

4- منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت). مكرر.

5- إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للعراق إذ أن هاتين المنظمتين تتحكم بهما الولايات المتحدة

6- التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران ما سيؤدي الى انهيار المنظمة الكهربائية فيه.

7- ستؤثر العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط إذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا وربما ستتطور العقوبات الى فرض عقوبات أمريكية على الجهات التي تشتري النفط العراقي.

8- التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين وبشكل خاص ما يتعلق بالشركات العاملة في مجال النفط الامريكية منها والأجنبية.

سنناقش أدناه هذه الشبكة من العقوبات "السِّياط" الأميركية التي تولى المرسومي الترويج لها وهزّها في وجوه الاستقلاليين والوطنيين العراقيين. وأقول إنه تولى الترويج لها ليس من باب الاتهام المرسل، فلو كان يتحدث كخبير اقتصادي قريب من الخط الوطني، أو في الحد الأدنى كخبير مستقل محايد لا يعني له استقلال العراق شيئاً، لطرح هذه العقوبات بحيادية وناقشها بموضوعية، وطرح العوامل التي تقلل من تأثيرها على الاقتصاد العراقي، أو في الأقل لذكر تجارب الشعوب التي وقفت في وجه هذه العقوبات وقاومتها وانتصرت عليها أو حدَّت من تأثيرها كما سنفعل بعد قليل.

1- ولنبدأ من التجربتين اللتين ذكرهما المرسومي في معرض التلويح بالعقوبات الأميركية للعراق لا في سياق مقاومتها بل في سياق التيئيس والترهيب حين كتب وكأني به يحذر العراقيين (وقد تم استخدام هذه العقوبة من قَبل ضد إيران وروسيا بعد حربها ضد أوكرانيا). والحال فإن روسيا - يا حضرة المستشار - في طريقها بعد أن عوقبت بكل هذه العقوبات وفي مقدمتها قطع اقتصادها عن نظام (سويفت) ضمن حصار محكم أشمل، لأن يتربع اقتصادها في غضون أربع سنوات في المرتبة الرابعة عالميا بعد أن يتفوق على الاقتصاد الياباني، وبعد أن تقدم فعلا سنة 2022 على الاقتصاد الألماني.

وتذكر تقارير اقتصادية أجنبية "أن روسيا تقدمت على أوروبا بأكملها من حيث مؤشر القوة الشرائية، مع مواصلة جهود الارتقاء بنصيب الفرد من الدخل القومي".

وإذا كانت هذه المقارنة بين الاقتصادات العالمية القائمة على ما يسمى تعادل القوة الشرائية (PPP) غير مفهومة للقارئ، فيمكن، لتبسيط المعنى، الإشارة إلى ما أورده الرئيس الروسي بوتين عن نمو الناتج القومي الروسي بنسبة (3,5%) ونمو الأجور الحقيقية نسبة (7.7) بالمئة في ظروف الحصار الشامل الذي فرضته أمريكا ومن ورائها أوربا، في حين أن نمو ألمانيا هو حوالي صفر.

أما بخصوص ما ذكره الكاتب بقوله "وقد يمتد الأمر الى استثمارات العراق الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار"؛ فالواقع أن غالبية الدول التي لها أرصدة من سندات الخزانة الأميركية في حالة تراجع وسحب لأموالها بما في ذلك الدول الحليفة لأميركا كالسعودية. فقد تخلصت هذه الأخيرة من ثلاثة مليارات دولار في العام الماضي من سنداتها. والعراق نفسه، وبعد هبة شراء كبيرة خلال حكومة الكاظمي وما قبلها، تخلص من 400 مليون دولار من سنداته. ويمكن للعراق أن يتخلص من المزيد منها بالتدريج، إضافة إلى أن أموال السندات - في حالة العراق - تعتبر أموال شبه ميتة وهي أشبه بـ "الخاوة" تأخذها واشنطن من العراق مقابل حماية نظام الحكم فيه. وعموما يمكن الوصول إلى حلول عملية وعلمية لهذه المشكلة. ثم إنَّ إقدام واشنطن على تجميد أو مصادرة 34 مليار دولار عراقية ستهز ثقة العالم كله بالاقتصاد الأميركي وستسارع الدول الأخرى والتي تملك سندات بأكثر من تريليون (مليون مليون) دولار كاليابان وأكثر من 800 مليار كالصين و330 مليار كبلجيكا إلى بيع سنداتها والتوقف تماما عن شراء المزيد منها وهذه كارثة حقيقية للاقتصاد الأميركي الدولاري.

إضافة إلى ما سبق، تقول تقارير اقتصادية مستقلة "إنَّ الصين ليست الدولة الوحيدة التي باعت ديون الولايات المتحدة. فباعتبارهما أكبر حائزين للديون الأمريكية في العالم، فقد خفضت اليابان والصين حيازاتهما من السندات بمقدار 224.5 مليار دولار و173.2 مليار دولار على التوالي في عام 2022. وباعت فرنسا والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى كميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية العام الماضي، بينما باعت بلجيكا ولوكسمبورغ وإيرلندا - جزءا من سنداتها - في شهر شباط/ تقرير لصحيفة تشاينا ديلي بالإنكليزية".

ولا أعتقد أن الأميركيين حمقى إلى الدرجة التي يدمرون فيها اقتصادهم الهش بإجراءات عقابية من هذا القبيل ضد العراق أو غيره!

2- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج. وكنت قد توقفت عند هذه العقوبة في الفقرة السابقة. فهذه العقوبة، لم تتجرأ أميركا على اتخاذها حتى ضد روسيا، وماتزال تهدد باتخاذها ولكنها مترددة لأنها لو فعلت ذلك وصادرت أموال روسيا التي تفوق ثلاثمائة مليار دولار فدول العالم كلها ستفقد الثقة بالاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية وسينهار الدولار نفسه قبل غيره من العملات.

 3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي. الوضع الاقتصادي العراقي هي في أسوأ حالات الارتباك ومثلما قاوم الفوضى والارباك في الماضي فسيقاوم القادم وخصوصا إذا وضعت خطة مقاومة وطنية شاملة على المستوى الاقتصادي الوطني وتم تفعيل نقاط قوة هذا الاقتصاد فالعراق ليس جمهورية موز فقيرة أو دولة تعيش على المساعدات الأجنبية أو على واردات السياحة إلى جانب قناة مرور دولية. وأعتقد أن خطة مالية مصرفية وطنية ممكنة التنفيذ وبعناصر قوة معقولة جدا.

4- إن منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت)، سيؤثر فعلا، ولفترة محدودة، ريثما يتم تفعيل بدائل قائمة فعلا ومتمثلة بالنظام الصيني البديل (سيبس) أو الروسي البديل (إس بي إف إس)، وحتى إيران ابتكرت نظاماً محلياً خاصاً بها هو (سيبام) وربطته بالنظامين الروسي والصيني. إذن، فبعبع نظام سويفت لم يعد مخيفاً جداً وخاصة لدولة غنية بالاحتياطات الهيدروكاربونية من نفط وغاز كالعراق!

5- أما (إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدوي والبنك الدولي للعراق) فهو جائزة رائعة للعراق لأنه سيتخلص أخيرا من التبعية لأخطر جهازين اقتصاديين غربيين.

6- وبخصوص عقوبة "التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران"، التي يذكرها المرسومي فإيران نفسها في طريقها للخروج من العقوبات الأميركية، وبالتالي فلم تعد هناك حاجة إلى هذه الاستثناءات المهينة للكرامة الوطنية العراقية والتي دأبت حكومات المحاصصة الطائفية التابعة على طلبها من واشنطن.

7- أما تأثير (العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط اذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا) فالعراق يصدر ما بين ثلاثة وأربعة ملايين برميل يوميا، ولن تحدث كارثة إذا نقصت هذه الكمية أقل من نصف مليون برميل وخصوصا في ظروف استقرار سعر البرميل النفطي عند حدود معقولة حول ثمانين دولار صعودا ونزولا! وفي المناسبة هل يعلم المرسومي أن الولايات المتحدة، ورغم كل صخب العقوبات التي فرضتها على النفط الروسي، ما تزال تستورد سرا هذا النفط كما قال مسؤول روسي قبل فترة؟ تقرير صحافي 13.01.2024.

8- أما قول المرسومي أن العقوبات الأميركية سيكون لها (التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين) فهو قول نافل ولا أهمية له، فالاستثمارات الأجنبية في العراق وطوال عشرين عاماً من عمر النظام لم تتقدم خطوة واحدة وهي تعيش فوضاها الخاصة وليس من المنتظر أن تنتظم هذه الفوضى وليس من المفيد "تهديد الدب بهراوة لم تصنع بعد"!

إن السيد الخبير نبيل المرسومي وبعض أمثاله يتوعدوننا بفتح أبواب الجحيم أمامنا إن نحن تمادينا في "استفزاز" السيد المحتل، ويبينون الهشاشة الكاملة لوضعنا المالي والاقتصادي وتحكم أمريكا المطلق به؛ نقول شكرا لكم إيها الخبراء وقد وضحتم المخاطر، ولكن طوال هذه السنوات وأنتم تعلمون بها وتراقبونها، أما كان الأجدر بكم أن ترسموا من خلال خبرتكم سياسات اقتصادية ومالية سليمة وتقترحون طرق الخروج من هذا المأزق وعدم ارتهان عائداتنا في الفيدرالي الأمريكي والتنبيه على ضرورة التقليص المستمر لحيازات سندات الخزانة الأمريكية، وغيرها من تنويع طرق دفع مبيعاتنا من النفط وإمكانية تبني سلة من العملات؛  والتنبيه وبإلحاح على الحكومة التي أنتم مستشارون لها وبيان استحالة بناء البلد والتحكم بقراره الاقتصادي والسياسي بدون التخلص من هذا النير الاحتلالي والهيمني بدلا دور تثبيط الهمم الذي تقومون به، كي تأكدوا صدق منطلقاتكم؟

ونختم هذه الوقفة بطرح السؤال التالي: هل أن إخراج القوات الأمريكية من العراق كبداية لاستعادة استقلاله وسيادته الوطنية يستلزم أن تعاقبه واشنطن بالضرورة وبكل يقين بمثل هذه العقوبات؟ أليس فرض مثل هذه العقوبات سيعني أن أمريكا ستخسر ثقلها السياسي في العراق وتقدمه بطبق من ذهب إلى معسكر خصومها، إيران والصين وروسيا؟ ثم ما الفائدة التي ستجنيها واشنطن من توحيد الامتداد الجغرافي لخصومها ومن دون أي عائق من البحر المتوسط إلى الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر قزوين، وأين سيصبح وضع دولة الاحتلال الصهيوني ضمن هذا الطوق الهائل، والتي أصبحت تشكل عبئا على من زرعها بعد أن كانت قلعة متقدمة. وبالأمس كشفت مجلة "فورن بوليسي" عن قرار تناقشه الإدارة بالانسحاب النهائي من سوريا والعراق. ألا يعني هذا الانسحاب إعادة ترتيب أوراق أمريكا في المنطقة باتجاه أقل تورطاً وأقل استفزازاً للتركيز على الساحة الأهم أي المحيطين الهادي والهندي؟

والسؤال الآخر الذي يطرح هنا، ترى لو استجابت أية حركة وطنية تحررية جادة لمثل هذه التهويلات والتهديدات بفرض العقوبات الاستعمارية ففي أي عالم عبودي كنا سنعيش الآن؟

ترى، ألا يساعد فرض مثل هذه العقوبات الغاشمة غير المبررة على التعجيل بكنس نظام المحاصصة وكل مؤسساته ووضع قدمي العراق على المسار الصحيح لحركة التاريخ بعد هذه السنين العجاف المدمرة؟ أليس هذا هو ما يثير ذعر ورعب أحزاب وزعامات المنظومة الطائفية العرقية الحاكمة ومن يشتغلون في خدمتها اليوم؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

....................

**رابط يحيل إلى مقالة نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818221

نص بيار بيستلوتي

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

الديمقراطية في أصلها الاغريقي تعني"سلطة الشعب". وفي كلمتي "ديمقراطية" و"شعبوية"توجد لفظة الشعب le peuple ا المستمدة من الإغريقية ثم من اللاتينية. فالشعبوية هي أيضا، تطالب بسلطة الشعب. الديمقراطية والشعبوية كلمتان من المفروض أنهما مترادفتان لاشتراكهما في الأصل الايتيمولوجي ألا أن الأمر غير ذلك، فالشعبوية هي بالاحرى شكل كاريكاتوري إن لم نقل انحراف الديمقراطية كما عبر عن ذلك مارسال غوشيه، Marcel Gauchet حين كتب: " الشعبوية هي شكل الديمقراطية فائدة تحاول أن توهمنا بطريقة خادعة بوحدة الشعب الطيب الذي تخلص من طفيلياته والذي تدافع عنه سلطة جيدة"(1) تزدهر الشعبوية في الاراضي البور الديمقراطية منهكة. فالحاجة إلى الامن والرغبة في سلطة حامية تبدو اليوم لها الاولوية على أشواق الحرية فازاء التهديدات الارهابية والمخاوف المتوهمة في معظمها من هجرة كثيفة تزيح ثقافتنا. ففي فرنسا بلد الحريات أجري بحث استقصاءي أنجزه معهد ابسوس Ipsos لفاىءدة جريدة لوموند نشر في 7 نوفمبر 2016. كشف أن فرنسيا على خمسة مستعد لاختيار نظام تسلطي بدلا من نمط ديمقراطي حالي وخلال الانتخابات التشريعية الأخيرة كان الامتناع عن التصويت هو الغالب فمن هو في عالمنا الغربي القديم مازال مستعدا للموت في سبيل الحرية؟ كثيرون يفضلون الانزواء بكل أمان في فقاعتهم، يحتمون خلف شاذتهم حيث يصبحون فراىءس للتجار الطامعين الذين يتلاعبون بهم. إنهم يشبهون السجناء المصفدين داخل كهف أفلاطون بصدد التأمل في لعبة الظل المبرمجة منها قبل عراءسيين مهرة (2)

* إن مسألة شراء هذا النوع أو ذاك من آخر صيحة في مجال التكنولوجيا تحجب العقول إلى درجة أنها تنسيها خطورة الحرية التي تشع في الهواء النقي خارج الكهف. باختصار يمكننا أن نتحدث عن " ترهل الديمقراطية" (Dominique Reynie) أو على " ديمقراطية في حالة تبخر").

* Gilles Finchelstein ثمرة مرة لحالة عميقة من فقدان السحر un désenchantement. لقد انصرفت ديمقراطيتنا الليبرالية إلى مواجهة ذئاب الليبرالية الجديدة، عبدة الثور الذهبي. من يتحكم ؟ الدولة أم المال العابر للدول ومتعدد القوميات؟. إن الشعبوية تنتعش من الاحساس بالاستلاب وبالعجز ولا يمكن مواجهتها بنجاعة إلا إذا اعدنا المعنى المكتمل لفكرة " الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية". سنحلل الاعمدة الاربعة للشعبوية وهي: إطلاقية مفهوم الشعب، الهوية المقصية، اختفاء السلط المضادة والانزياح العاطفي

1- عبقرية الشعوب؟

* بالنسبة إلى الشعبويين يمثل الشعب هوية واحدة، إنهم يمتدحون " فكر الأمة" أو " عبقرية الشعب". الفولكسجات volksgeist ا الالماني ذاىع الصيت هذا النص لفيذت Fichteيعود إلى بداية القرنالتاسع عشر يوضح جيدا هذا المفهوم:" بالنسبة إلى قدماء الجرمان، تتمثل الحرية في أن تبقى ألمانيا (....) إنها لهم وللغتهم ولجريقتهم في التفكير، نحن مدينون لكل ماضينا القومي طالما بقيت في عروقنا قطرة من دمائهم ولهم الفضل في ما سنؤول إليه في المستقبل" (3) نحن نعرف الاستغلال الفاحش لمثل هذا التصور من قبل النازيين ورغم ذلك لا ينبغي حينىءذ الخلط بين الشعبوية والنازية التي هي انحراف متطرف وإجرامي.

* هل للشعوب روح؟ ربما، ولكن ليست متراصةmonolothique وخصوصاً أنها لا تلغي روحا أخرى. في التنظيرات الشعبوية يميل الفرد إلى تعريف نفسه في علاقة ب"الكل القومي" le tout nationlا الذي ينتمي إليه. قبل أن تكون بيار أو جاك أو جان أنت فرد واحد وحرألماني، فرنسيأو بولوني. الآخر هو أيضا محدد وموصوف انطلاقا من " كل إثني" un tout ethniqueأ أو ديني. وفي كثير من الأحيان يوصم بصفة ادق بأنه عربي أو يهودي أو مسلم. فتبعية الفرد لكل ما تنمحي فيه خصوصيته هي مندد بها بشدة من قبل الفيلسوف إيمانويل لو فيناس Emmanuel Levinas في رسالته الراىءعة: الكلية واللامتناهي Totalité et Infini حيث يسعى لفهم جذور " الرعب النازي" في عالم في عالم تسيطر عليه الكلية La Totalité. مثلما هو الحال عند الشعبويين. الشخص لا يوجد إلا في علاقة بمجموعة س) الفرد) لا يصبح له معنى إلا من خلال (س) (الكل) بحيث توجد كيانات أخرى فريدة (س،، س،،،....) والتى تتحدد بالعلاقة مع (س) مثال على ذلك: بيار فرنسي وأيضاً ماري ومارك هم أيضاً فرنسيون وكأن وحدة ذاتي أنا (الطابع الوحيد) ليست إلا ب" اسم" (س). كأن خصوصيتي – التي تميزني عن غيري - لم تمنح لي إلا على أن لها الأسبقية طبقا لخلفية مشتركة ومحددة سلفا. فالفرد ليس له من معنى بنفسه. فالمعنى يكتسبه من علاقته بالكل le Tout الذي يسبقه ويحتويه (س): الفردية (الشخص) لا توجد إذن بما هي en tant que tel يستتبع ذلك أن الوجوه تختفي " الكائن المفكر يبدو أنه يحظى بنظرة تتصوره كمندمج في كل intégré dans un tout ا. " يكتب لوفيناس Levinas. في الحقيقة إنه لا يندمج إلا عندما يموت، الحياة تترك له راحة أو تأجيلا والذي هو تحديدا داخليته son intériorité " (4) نفهم حينىءذ أن " عالم الكلية" le monde de la totalité يحضر الأرضية للكليانية سواء عند اليسار أو عند اليمين. هذه المقاربة المرفوضة من قبل لوفيناس Levinas. تقع على النقيض تماماً من الرؤية اليهودية والمسيحية للشخص والتي هي أيضاً الأساس الذي بنيت عليه الأنوارLes Lumières. (روسو، فولتير، كانط،...) والتي تولدت منها الديمقراطية. قبل أن تكون عضوا في أمة أو شعب، الكائن البشري شخص فريد خلق " على صورة الاله وعلى شبه به " (سفر التكوبن، 1, 26). العبقرية الخاصة بالإنسان متأتية مباشرة من الاله الأعلى وهي تسبق عبقرية الشعب والتي، إضافة إلى ذلك، لا توجد من دون عبقرية الأفراد التي تكونها وثم تتالف فيما ببنها لتبني حضارة. الكنيسة كانت دوما تؤكد على أسبقية الفرد والذي له قيمة في ذاته، كما يردد ذلك البابا فرنسوا: "الصالح العام يفترض احترام الذات الإنسانبة، كما هي، بحفوقها الأساسية وغير القابلة للتصرف والمرتبة لتطورها الشامل" (5). بالنسبة إلى إبمانويل كانط الذات إلإنسانبة ينبغي" النظر إليها دوما على أنها غاية في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة" (6). أما بالنسبة إلى إيمانويل مونيي Emmanuel Mounier فإنه يلخص فلسفته الشخصانية la philosophie personnaliste. في هذه الصياغة:" الفرد هو المطلق إزاء كل حقيقة مادية"(7). الديمقراطية قائمة على هذا المطلق المتصل بالإنسان وعلى احترام حريته. نحن إزاء تصورين سياسيين متقابلين: الشعبوية والديمقراطية الليبرالية. ااأولى تدافع على مقاربة تصميمية organiciste للمجتمع مشبهة إياه بجسم كبير تكون فيه الخلايا خاضعة للسلطة المركزية كما يقول عالم السياسة جان ايف كانو Jean Yves Camus : " الأمة لم تعد قمؤسسة على عقد un contrat ولكن على قانون الطبيعة وعلى جماعة الإرث والمصير اللتين لا مهرب منهما" (8). ااديمقراطيات الليبرالية تتأسس على العكس من ذلك على مفهوم العقد بين ذوات مستقلة كما نراه عند روسو أو كانط. ٱنها منظمات des associations. لكاىءنات مستقلة. فيما يتمثل هذا العقد الاجتماعي؟ إنه يعني أن أتخلى عن " حريتي المجنونة " التي لها نزوع لتطأ حرية الاخر ولكن أيضا تكون مهددة بمن هو أقوى مني لنكون على تخوم " تعايش الحريات " المحمي من الدولة. إن دور الدولة هو ضمان الحد الأقصى من الحرية للجميع. فحريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الاخر. ها نحن إذن على نقيض الليبرالية الجديدة حيث القوي يسحق الضعيف وحيث الدولة محمولة على أن لا تتدخل إلا في الحد الأدنى. وهي النقيض أيضاً للشعبوية حيث الرجل القوي، الأب الصغير الشعب يريد أن يفرض على الجميع هذه الأديولوجيا للسعادة أو تلك باسم الإرادة الشعبية المنحوتة في رخام التقاليد التي يزعم أنه يجسدها. إن مثال الديمقراطية الأصيلة ومنوالها يجد نفسه وقد وصف برؤية رائعة عهد الغايات Règne des fins عند كانط، إنها جماعة إنسانية تتالف فيما بينها في ظل نظام من القوانين المنبثقة من العقل المحض القاىءم على استقلالية الإرادة المتحررة من عبودية الانفعالات. إنه مثال بعيد منال التحقق ولكنه يظل على الأقل البراديغم لكل ديمقراطية كما يوضح جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy : " الديمقراطية، هي فكرة الإنسان الذي يعتبر نفسه مستقلا تماما "(9).

2- هوية الإقصاء:

تلعب الشعبوية لعبة السلحفاة فتنطوي على نفسها داخل قوقعتها وهي أيضاً تلعب لعبة القنفذ حين يغضب بشدة ويظهر شوكه متصديا للمخاطر الخارجية. هذه التهديدات مشار إليها بالبنان: العولمة والهجرة المتولدة عنها. إنهما تضعان معا ما بلغناه من رفاهية (الإغراق في الأجور le dumping salarial (ونمط عيشنا – حيث تضعف تقاليدنا - في خطر. إن المسألة الهوياتية تتجه اليوم لتهيمن على كل شيء بما في ذلك الطابع الإقتصادي في علاقة خاصة بالهجمات الإرهابية. إزاء ذلك يرغب الشعبويون في إعادة تأكيد الهوية الوطنية أو الدينية للدفاع عن قيمنا ضد كل ما يعتبرونه اجتياحا مدمرا يؤدي إلى خسارة فادحة لثوابتنا وأيضاً إلى" الإستبدال الكبير" لثقافتنا من قبل الإسلام، بفضل الديمغرافيا المتسارعة للجاليات المهاجرة. لأجل ذلك تكون الدعوة للعودة إلى جذورنا إلى" سويسرا الحقة" إلى" فرنسا الأصيلة" ذات العرق الأبيض وصاحبة الدين المسيحي. لنبرز حينىءذ تفوق الحضارة الأوروببة القادمة من القدس ومن أثينا، مهد الديمقراطية. المشكلة هنا ليست طبعا التجذر في القيم المسيحية أو الإنسانية والتي من الواجب إعادة اكتشافها بل الخطر هو في إعادة التأكبد على تلك القيم ضد قيم أخرى داعية إلى صدام الثقافات والهويات إن لم نقل حربا بين الحضارات، من أجل الترويج لتقليد وحيد يكون هو الوحيد المقبول ويصبح هو قانون المواطنة الوحيد. هذا ااموقف القنفوذي أليس هو تنكر للمسيحية وانحراف عن النزعة الإنسانية للانوار؟ فالثقافة لا تختزل في ثقافة واحدة une monoculture والتجذر لا يستبعد بأي حال من الأحوال الأنفتاح مثلما تجسده صورة الشجرة: كلما كانت جذورها عميقة في تربتها انفتحت على نطاق واسع في الاتجاهات الأربعة ونحو السماء، فالانفتاح إذن يكون بقدر التجذر وثقافة تنغلق على نفسها محكومة بالتلاشي كشجرة تصاب بالضمو. الأسوء من ذلك: هوية تنغلق وتضع نفسها في مواجهة الآخر يمكن أن تصبح قاتلة، في استعادة لعنوان كتاب مشهور لأمين معلوف، زميلي في إعدادية جمهور بلبنان: " يكفي أن يطرح كل فرد بعض الأسىءلة ليكتشف أنه معقد، فريد من نوعه ولا يمكن استبداله، إذا ألححت إلى هذا الحد فذالك بسبب هذه العادة المنتشرة إلى حد كبير وضررها قوي فمن خلالها ومن أجل التأكبد على هويته، ينبغي أن يقول ببساطة:(أنا عربي)، (أنا فرنسي), (أنا أسود),(أنا مسلم) أو (أنا يهودي). " (10). لقد شهدت بنفسي صعود " الهويات القاتلة" في لبنان والتي أفضت إلى حرب مروعة. الانغلاق داخل انتماء ما يصبح مصدر عنف، نشاهده في المشاجرات التي تحصل ما بين الفرق الرياضية. باختصار، قبل أن تكون سويسرا، فرنسيا أو محبا لهذا الفريق أو ذاك أنت فرد مميز، أنت مكون من هويات متعددة، ولكن أيضاً أنت كاىءن بشري ذو عقل، مواطن كوني مرتبط بكل إخوانك وأخواتك في الإنسانية.

تسعى الشعبوية إلى شد وثاقنا إلى انتماء واحد، وهي بهذا إنما تقع أيضاً في تضاد مع المسيحية التي ترفض كل هوية منغلقة وكل قومية متعصبة كما كتب القديس بول عن ذلك بطريقة رائعة:" لا يوجد يهودي أو إغريقي، لا عبد ولا حر، لانكم جميعا واحد في يسوع ". ( Gal,3,28)

3- الإنسان، الشعب: اضمحلال السلطات المضادة

مخكل ديمقراطية جديرة بهذا الإسم تتضمن سلطات مضادة. في القرن التاسع عشر كان توكفيل Tocqueville قد حذر مما سماه " استبداد الأغلبية " La tyrannie de la غmajorité المنبثقة من رأي عام متلاعب به. في ظل نظام ديمقراطي حقيقي السلطة لا ينبغي أن تكون مركزة في أيدي شخص واحد أو عند هيىءة وحيدة. وإن ادعت أنها منبعثة من" الشعب الأصيل ". من ذلك الفكرة التي صاغها لوك Locke (16329-1704) ثم بعد ذلك مونتسكيو Montesquieu (1689-1755. والمتمثلة في الفصل بين السلط للتصدي إلى كل التجاوزات. نفرق حينىءذ بين السلطة التشريعية التي تصادق على القوانين وتقترحها، السلطة التنفيذية التي تحكم والسلطة القضاىءية الممارسة من قبل القضاة. ونضيف إليها اليوم سلطة الإعلام القاىءم على الصحافة والذي من المفروض أنه يقدم نظرة نقدية لعمل الدولة. يعمد الشعبويون، من أجل تدعيم سلطتهم، إلى إفقاد السلطات المضادة مصداقيتها، ولاسيما القضاء والإعلام من أجل إضعافها. إن مبدأ التفريق بين السلطات مهدد. فحالة دونالد ترمب حالة نموذجية: فعلى امتداد حملته الانتخابية وأيضا بعد تسلمه الرىءاسة، لم ينفك عن التهجم على الإعلام وعلى القضاة وأيضاً على المشرعين، كلهم وبدرجات متفاوتة فاسدون! لكن ولحسن الحظ، السلطات المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت موجودة وصامدة، فعلى سبيل المثال، قضاة عاديون نجحوا في إحباط المراسيم الأولى السيد ترمب والمتعلقة بالهجرة. ينبغي الإشارة إلى أن هذه التجاوزات الشعبوية تلوث الآن أغلب الأحزاب، فعلى سبيل المثال في فرنسا قضيتا فيون Fillon وفرانFerrand كلاهما متهم باستغلال موقعه السياسي للإثراء وتكشفان في وضح النهار محاولة انتهاك النظام القضاىءي للاعتماد على تصويت الشعب الشجاع:" الإعلام والقضاة، يريدون خسارتنا والناخبون هم وحدهم من سيحسمون الأمر. " ولكن هل الشعب داىءما على حق ولاسيما هل هو مؤهل لفهم المساىءل القضاىءية ؟ في هذه اللعبة الشعبوية الصغيرة خسر فيون Fillon فلم ينتخب في حين أن فران Ferrand أعيد انتخابه في داىءرته وذلك بركوبه موجة إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron الذي ربح الرهان وخرج منتصرا. أليس ذلك شكلا من أشكال الظلم ؟ نحن، من جديد، إزاء مفهومين ديمقراطيين حيث يكون الثاني شكلا كاريكاتوريا للأول: الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية من ناحية والشعبوية التي تطالب بديمقراطية مباشرة كالتي كانت في العصور القديمة والتي تتحول إلى ديماغوجيا سلطوية. في القديم، وعلى سبيل المثال، الشعب في أثينا كان قليل العدد ولم يكن منشغلا بأعمال متعددة كالتي تشغلنا اليوم، كان لهم متسعا من الوقت يسمح لهم بالإجتماع في الساحة العامة وباختيار قوانينهم وبانتخاب من يحكمهم مباشرة. فعلى هذه الصورة الأسطورية والمثالية يستند بعض الشعبويين، إلا أن الملايين من المواطنين، اليوم، منشغلون جدا لا يجدون الكثير من الوقت للاهتمام بصفة مباشرة بالشؤون العامة، حيث تقتضي الضرورة تفويض السلطة الشعبية إلى مؤسسات تمثيلية كالبرلمانات. منظرو الليبرالية فهموا ذلك جيدا منذ القرن التاسع عشر. و قد أكد ذلك الفيلسوف فلوران قيران François Guenard :" المفكرون الليبراليون يستبدلون النموذج هالقديم للديمقراطية المباشرة بالحكم التمثيلي: المواطنون يركزون على شؤونهم الخاصة ويقبلون بتفويض سلطتهم إلى ممثلين عنهم ينتخبونهم" (13). في غياب مبدأ التفويض سيكون هناك توجه نحو اعتبار الشعب كتلة واحدة في حاجة إلى" ترشيد" ثم إلى استفتاىءهم، يتم ذلك، في كثير من الأحيان، تحت تأثير الشعارات المبسطة.

4 – الانحراف العاطفي: كبش الفداء ونظريات المؤامرة

يستدعي الشعبويون باستمرار، العواطف أكثر من العقل ومفاهيمه الكونية. فبالنسبة إلى الشعبويين يتحدد الكائن البشري، قبل كل شيء، كمجموعة من الرغبات التي ينبغي استغلالها بطريقة أفضل للوصول إلى السلطة. فالمواطنون مدعوون إلى التصويت بحدسهم كرجل واحد. هذه العبارة الأخيرة معبرة لأن الفرد يصهر في نفس المجموعة المندمجة تحت وطأة انفعال ما أو عاطفة ما مثل الغضب على الغرباء أو الحماس لزعيم ما. إنه يتجرد من إنسانيته حين يكف عن التفكير، وينخرط دون تحفظ في تطبيق التعليمات. كيف يتصرف الشعبويون لتمتين اللحمة بين جنودهم/ أتباعهم ؟ إنهم يعينون كبش فداء نزولا عند رغبة الشعب ثم يستثيرون غراىءزنا السيئة كالغيرة، الأنانية أو الكراهية ليوجهوها ضده. كبش الفداء هذا يتخذ وجه المهاجر أو المسلم المصنف إسلاميا أو النظام المالي الدولي، مجهول الهوية والذي يترك الشعب ينزف. إن الذات الإنسانية تختزل في دور الخروف داخل القطيع حيث توجد بعض الخرفان السوداء المدانة من قبل الراعي والذي يشعل كراهية بقية القطيع ضدها. فمن الواضح أن الصورة ستظل كاريكاتورية، صورة الخرفان السوداء التي يجب طردها ظهرت في ملصق لأهم حزب في سويسرا، إنه حزب الوحدة الديمقراطية للوسط (Union Démocratique du Centre) البعض الآخر يتحدث عن مؤامرة مدبرة من قبل وسائل الإعلام، " رجال بروكسل", المسلمين أو اليهود. ففرنسوا فيون نفسه تحدث على " غرفة سوداء" بصدد العمل ضده وضد مناصريه. يجعل الشعبوي من نفسه ومن أتباعه ضحايا لتحشيدهم حوله وذلك من خلال توليد الشعور بالثورة في أنفسهم، يضاف إلى ذلك أن هذه المؤامرة تنسج خيوطها دوما ضد" البلد الحقيقي" مثل فرنسا العميقة المتجذرة في تقاليدها العلمانية.

في الختام، الشعبوية هي الإسم اللاتيني الذي يحيل على الديماغوجيا أكثر من إحالته على الديمقراطية. هي نداء لشعب مثالي/ متخيل وهي ثقافة الزعيم وهي استجداء للعواطف الرخيصة. كل ذلك يبعدنا عن الديمقراطية أشواطا. الشعبوية هي تشويه وانحراف عن الديمقراطية ولمفهوم الذات الإنسانية.

***

......................

الهوامش:

[1] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 9.

[2] Voir notre ouvrage Imagine-toi dans la caverne de Platon, Paris, Payot, 2015.

[3] Fichte: Discours à la nation allemande, 8ediscours, 1807-1808.

[4] Emmanuel Levinas, Totalité et Infini, Martinus Nijhoff, La Haye, 1972, p. 26.

[5] Pape François, Laudato Si, 156

[6] Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs, trad. V. Delbos, Paris, Delagrave, 1979, p. 150.

[7] Emmanuel Mounier, L’engagement de la foi, Paris, Seuil, Livre de Vie, 1968, p. 34.

[8] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[10] Amin Maalouf, Les identités meurtrières, Paris, le Livre de Poche, 2001, p. 28.

[11] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[12] Ibidem, p. 54.

[13] Ibidem, p. 46.

* المصدر:

revue-sources. cath. ch

* العنوان الأصلي:

Le populisme est- il démocratique? Par Pierre Pistoletti

قرار محكمة العدل الدولية يومه الجمعة 26 يناير بشأن الحرب على غزة والذي ينص على " إلزام إسرائيل اتخاذ كل التدابير لمنع التحريض لارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة... وأنه على إسرائيل اتخاذ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع الإبادة الجماعية في القطاع... وأمرت إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد... كما دعتها إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية اللازمة على قطاع غزة".

هذا القرار لم يكن مرضياً تماماً للفلسطينيين ولمن كان يتوقع من المحكمة أن تصدر قراراً بوقف الحرب. وفي واقع الأمر ومنذ تقديم جنوب إفريقيا طلباً لمحكمة العدل الدولية في 29 ديسمبر 2023، لم نكن نتوقع أن يصدر عن المحكمة قراراً غير ما صدر وذلك لثلاثة أسباب:

1- محكمة العدل جزء من منظومة الأمم المتحدة:

بالرغم من الدور القانوني وخصوصية تركيبة المحكمة بعيدا عن الولاءات السياسية فإن المحكمة جزء من الأمم المتحدة التي تتحكم فيها واشنطن والغرب منذ تأسيسها عام 1945 ولا يمكن تصور أن يترك الغرب ثغرة في منظومة الأمم المتحدة لتنفِذ من خلالها الشعوب المستضعفة وخصوم الغرب، ومنذ تأسيس الأمم المتحدة لم يتم إصدار أي قرار أممي سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل أو أي من المنظمات الدولية الأخرى، كما لم تنجح الأمم المتحدة في حل أي نزاع دولي سواء في الصراعات الدولية الحالية أو عبر التاريخ. وهناك سوابق في قرارات وآراء استشارية لمحكمة العدل الدولية لم يسمح لها بالوصول لنهاية تدين الغرب أو إسرائيل ومنها الرأي الاستشاري للمحكمة بشأن جدار الفصل العنصري لعام 2004.

2- صيغة الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا:

طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة "من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح" بموجب الاتفاقية ولضمان "امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها".

كما تشير الدعوى إلى أن سلوك إسرائيل - "من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها" - يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وذكرت الدعوى أيضا أن إسرائيل، "ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية". كما أشارت إلى أن إسرائيل "تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة".

فالطلب كان دعوى ضد إسرائيل بشأن انتهاكات مزعومة من جانب الأخيرة، لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة.

وبالتالي كان طلب جنوب افريقيا مركزاً على ما يجري في قطاع غزة وما يرتكبه الاحتلال من جرائم وابادة جماعية ولا يتطرق للأبعاد السياسية للصراع ولم يتضمن الطلب رأياً أو قراراً سياسياً حتى لم يتضمن الطلب قراراً من المحكمة بوقف الحرب.

3- التباس طرفي الصراع أو الدعوى:

المحكمة نظرت في حرب بين دولة (إسرائيل) التي هي عضو في الأمم المتحدة وحركة حماس التي ليست دولة ولا حكومة معترف بها ولا حركة تحرر وطني في نظر كثير من الدول وأعضاء المحكمة، ولو نظرت المحكمة في الحرب أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام أو كانت (دولة فلسطين) طرفاً مباشراً في الحرب وفي الدعوى المقدمة لكان قرار المحكمة مغاير.

مع أن الرئاسة الفلسطينية رحبت بالقرار كما هو الحال بالنسبة لجنوب افريقيا ودول أخرى لأنه لا يمكنهم إلا الترحيب على أمل أن يتم البناء عليه لاحقاً ولأن مجرد تداول مجريات الحرب وجرائم إسرائيل في منبر دولي يفضح إسرائيل ويرد على أكاذيبها بشأن ما يجري في غزة، فإن الكيان الصهيوني وبالرغم من ادانته للقرار واتهامه للمحكمة وقرارها بمعاداة السامية، إلا أنها فهمت القرار كترخيص لها بمواصلة الحرب ما دام لم يطلب منها وقف الحرب، كما أنها رأت في مهلة الشهر فرصة لمواصلة الحرب وتهيئة ردودها على ما طُلب منها.

وتستموتستمر الحرب وجرائم العدو ويستمر تقاعس المنتظم الدولي ومؤسساته إلا بما يجودون به من مساعدات إنسانية يسمح الجلاد بمرورها للضحية، وتبقى الأمور على حالها إلى أن يستكمل كيان العدو مخططاته أو تحدث معجزة في الأمتين العربية والإسلامية مع إدراكنا أن لا معجزات في السياسة.

***

د. ابراهيم أبراش

تمخض أخيراً "الجملُ" فولد أرنباً وهو أكبر من "الفأر" المدرج في أصل المثل بقليل.. لأن النتيجة ليست صفراً بل أقل من التعادل أو يزيد! هكذا يراه كثيرون خلافاً لمن يؤمنون بنظرية "الجانب الممتلئ من الكاس".

فأنصار الحق الفلسطيني في العالم، والذين يطالبون بإيقاف حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة يريدون ما يتناسب وهذا المخاض الذي هز المحكمة واستشعر العالم الحر بارتداداته وتعاظمت الآمال للقصاص من دولة مارقة ك"إسرائيل".

لأن جهود مؤازري الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة الجنايات الدولية ب"(لاهاي) بتهمة ممارسة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة صدرت منقوصة إلى درجة أن القرار بدا وكأنه متواطئ- نسبياً- مع الجناة الإسرائيليين.

ومن شأن ذلك -في نظرهم- أن يرفعَ عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي عيونَ الرقابةِ من خلال التملص من تبعاتها، كما حدث في (لاهاي) وفق من يقدره مناوئو "إسرائيل" ومؤيدو حقوق الإنسان في العالم كأنها خسارة فادحة أو حتى أقل من التعادل.

ففي حساباتهم يُعَدُّ هذا القرار الذي عجز عن الدعوة لإيقاف الحرب؛ تمكيناً غير مباشر لجرائم الاحتلال، كون الحربُ إذا ما شَبَّتْ نيرانُها، لا تُضْمَنُ مساراتُها في أتون المواجهات؛ لأنها ستخضع لمن يقفُ وراءَها. فما بالك ومشعلها في غزة احتلالٌ إسرائيليٌّ غاشم!.

لذا فجيش الاحتلال سيتوغل أكثر في الدم الفلسطيني دون رادع لأنه سيكون خاضعاً لسيطر العقيدة الصهيونية التي تتضمن في جوهرها سياسة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، ويُعْتَبَرُ احتلالُه لأرض الضحيةِ حقاً دينياً مكتسباً، كونها في عرفه أرضاً للميعاد، فيما تخضع العلاقة بين الطرفين لمعايير تلمودية تقضي بالتنافر ما بين الشعب "الذي اختاره الله" متمثلاً باليهود، و"الجويم" المتمثل بالفلسطينيين.

مع أن صمود المقاومة في غزة أثبت استحالة هذا الوجود القهري القائم على مبدأ الاحتلال والتطهير العرقي، وسوف يفشل في مساعيه الشيطانية كما فشل نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا صاحبة الدعوى التي اعتبرت "القرار منصفاً" وهو أقصى ما تستطيع العدالة تحقيقه ما دام الخصم يتمثل ب"إسرائيل" التي تعتبرها الولايات المتحدة إحدى ولاياتها الأثيرة.

اليوم الجمعة وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، صدر قرار محكمة الجنايات الدولية النهائي بعدم وقف الحرب ولكن مع اتخاذ الإجراءات اللازمة بعدم ممارسة ما يقع في دائرة الشبهات بارتكاب افعال تتوافق وجرائم الإبادة الجماعية.

فهل يندرج في سياق ذلك قصف المستشفيات والأماكن التي يلوذ إليها اللاجئون والسماح بوصول المواد الإغاثية إلى أهل غزة دون تعريضها للقصف.

القرار رغم كونه منقوصاً وفق مراقبين، ولا يحقق إيقافاً ملزماً لحرب الإبادة على غزة؛ الإ أن جنوب افريقيا أعتبرته قرارأً أصاب معظم أهدافه لذا فهو في نظرها يشكل انتصاراً للعدالة ضد أخر كيان في العالم يمارس التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن حقوقه المشروعة.

وتتذرع صاحبة الدعوى في أن قرار محكمة الجنايات احتوى على إجراءات تمنع "إسرائل" من التحريض على الإبادة الجماعية.. والالتزام بكل ما يتجنب القتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة.

لكنه لم يتضمن المطالبة بوقف الحرب التي يصر نتنياهو على المضي قدماً فيها رغم الخيبة التي يُمَنّى بها والفشل الذريع في تحقيق اهدافه.

محكمة العدل صوتت على قرارها بتأييد 16 صوتاً ضد صوت واحد.. وقد وافق إيضاً 15 صوتاً ضد اثنين على قرار يلزم الطرف الإسرائيلي المُدَّعَى عليه في التعهد بعدم إتلاف الأدلة في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.. ولا أدري كيف تَأْتَمِنُ المحكمةُ خصماً مراوغاً اعتادَ صيدَ المواقفِ وقلبَ الحقائقِ دون رادع.

وقد تضمن طلب جنوب أفريقيا في سياق الدعوى المرفوعة ضد "إسرائيل"، فرض إجراءات طارئة ضدها، بسبب ارتكابها جرائم إبادة جماعية بسبب حربها على قطاع غزة.

وفي الملف الذي يتكون من 84 صفحة، تقول جنوب إفريقيا إن “قتل "إسرائيل" للفلسطينيين في غزة، والتسبب في أذى نفسي وجسدي جسيم لهم، وتهيئة ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً، يُعّدُّ إبادةً جماعيةً لهم”.

وتقول الدعوى إن "إسرائيل" تتقاعس عن توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة خلال الحرب التي تشنها عليهم، وتشير أيضا إلى حملة القصف المستمرة التي دمرت جزءا كبيراً من القطاع، وأجبرت حوالي 1.9 مليون فلسطيني على النزوح، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 25 ألف شخص، وفقاً لمسؤولي قطاع الصحة في غزة.

وتطلب الدعوى من محكمة العدل الدولية، فرض تدابير طوارئ لوقف الانتهاكات التي تواجه "إسرائيل" اتهامات بارتكابها. مع أن المتوقع أكثر من ذلك كما أسلفنا آنفاً.

وهذا إقرار ضمني بجرائم الاحتلال يمكن توظيفه إعلامياً لصالح المقاومة وإن بدا في الشكل أقل وضوحاً، إذْ لا بد من التركيز على الجزء الممتلئ من الكأس كما تراه صاحبة الدعوى.. وبالتالي تَصَيُّدْ جرائم الاحتلال وإدراجها بما يتناسب وقرائن التطهير العرقي وفق تعريف محكمة الجنايات في المادة السادسة (أ،ب) من مقدمة المبادئ.

وياتي ذلك بغية تعميق جوهر القرار وتوضيع معالم الإدانة للاحتلال وجرائمه، التي يدركها حتى الطفل في القماط.

وأخيراً يسدل الستار على محاكمةٍ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في لاهاي ضِدَّ عدوِّ إسرائيليٍّ أثبت من خلال قرار المحكمة الذي يراه كثيرون منقوصاً ولم يحقق أهم غايات الدعوى المتمثلة بإقاف الحرب؛ بأنه يُحْكِمُ قَبْضَتُهُ على مواقفِ الدولِ الغربيةِ وعلى رأسِها أمريكا التي تكيل بمكيالين.

وفي المحصلة فالضمير العالمي يقرُّ بجرائم الاحتلال، والشعوب تناصر الحق الفلسطيني، والمقاومة تحقق انتصاراتها في الميدان، والشعب الفلسطيني يقبض على الجمر ويرفض مؤامرة التهجير.

بقي على الدول التي شاركت في الدعوى ضد الاحتلال أن تتخذ مواقف جريئة بشأن العلاقات مع "إسرائيل" أسوة بجنوب أفريقيا التي تسير على نهج رئيس "المؤتمر الأفريقي" التاريخي الراحل نلسون مانديلا الذي أورث بلاده هذا التأييد المطلق للقضية الفلسطينية الذي ظل يدعمها مبدئياً حتى وافته المنية عام 2013 .

فيما دُشِّنَ له تمثالٌ في رام الله بالضفة الغربية عام 2016 تكريماً لمواقفه الخالدة إزاء القضية الفلسطينية التي مات وهو يوصي الأفارقة عليها.

***

بقلم: بكر السباتين

26 يناير 2024

 

مصر في الذكرى الثالثة عشرة للثورات العربية، وفي ظل الأوضاع الراهنة في دول الربيع العربي،، ما هي نتائج هذه الثورات...؟!

تعلمنا من التاريخ لكل ثورة لها أسبابها ونتائجها، المهم نتائج الثورات العربية علي المواطن، لقد خلقت وصنعت سيكولوجية اجتماعية جديدة، أُطلق عليها علماء الاجتماع\" بالمواطن المستقر \"أو المواطن العاقل من خلال مسلسل طويل من المطاردة والرعب والخوف والنهب، المواطن المستقر، في الحقيقة المتبلد والمستسلم والعاجز عن أن يقول لا، لم يعد يحتج على الظلم ولا يريد العدالة بل كل ما يريده الغفران عن ذنوب هذه الحقبة التاريخية الوهمية،، وهي أفضل طريقة للسيطرة على شعب بجعله يشعر بالإثم عن ذنوب وأخطاء التاريخ لكي يحصل على الغفران لا على العدالة،،، ولا يحتاج الحرية بل النجاة مثل أي طريدة هاربة من القتل.،، والمواطن المستقر المتكيف مع الاستبداد العام والفردي هو مريض لأنه يعمل ويفكر ويحلم ويتكلم بشخصية طارئة عليه عكس حقيقته، ويخرب ذاته على مراحل من خلال معاناة صامتة طويلة، والمواطن\" المستقر \"، يقول، (المفكر الفرنسي إتيان بواسيه) في كتابه {العبودية الطوعية} عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر...!! إن الذين اغتصبوا السلطة في دول الربيع العربي بقوة السلاح يتصرفون الآن كأنهم في بلاد قاموا بغزوها...،، فالذين ولدوا وترعرعوا في عصور أنظمة سلطوية وفي أحضان الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيًّا ، عندما يتداخل الطغيان العام والتسلط الفردي مع تقاليد وقيم وقواعد وقوانين، تصبح ممارسته من الأخلاق والآداب والطاعة وحسن السلوك والتمرد عليه  نوعًا من الجريمة أو الانحراف أو العدوان... إلخ. لقد شابت الرؤية كل الفاعلين في الميادين في ترك الميادين، في الصراع على السلطة، إلى عملية تحويل شعوبهم إلى طريدة ومسخه في رعب الموت، وهاجس النجاة، وجعله يركض النهار والليل لكي يتخلص من حقول الألغام، وحقول السياسة، والفخاخ، والعبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، والانتحاريين، والبلطجية والتلوث ونقص الخدمات والماء الصالح للشرب، والهواء الصالح للتنفس،،، والمنزل الصالح للسكن، والسيارة الصالحة للنقل، حتى يتصور أن مجده الكبير ونصره العظيم هو النجاة من موت يومي وشيك.،، هذه العملية ليست عفوية أبدا، بل هو مخطط لتحويل الشعوب إلى ذئب وحشره في خانة الحاجات والغرائز والوصول به إلى حالة اليأس التام، ودفنه داخل جلده وتخفيض أحلامه. هو الأسلوب الوحشي مع شعوب عربية أخرى من التخريب البطيء،،، التدرج في الدمار والتفسخ الهادئ، لان الانهيار السريع يبقي على قيم أخلاقية في إدارة الأزمات وليس حلها، نقل المعارك من مكان إلى آخر، لكي يصل الفرد والشعب درجة الإنهاك التام واليأس العاجز، وعندها يبدأ تنفيذ الجريمة الأكبر وهي توزيع الأرض على قبائل وأعراق ومذاهب، وتوزيع الثروة، كل ذلك حدث ويحدث في (اليمن وسوريا والعراق وليبيا).

لقد تم ضرب البنية التحتية من محطات كهرباء بعد سقوط كل نظام وإعادة المواطن العربي إلى مرحلة الكهوف من أجل بناء هوية جديدة من البياض العقلي كما تقول الباحثة (نعومي كلاين) في كتابها المرجعي:\" عقيدة الصدمة: رأسمالية الكوارث \"الغرض من قطع الهواتف مع الظلام والقصف هو حشر الشعب في وضع الرعب البدائي الأول حيث تنعدم المعرفة تمامًا بالمحيط،

وتنشط الهواجس والخيال، وفي هذه الحالة، تقول الباحثة، يتم إفراغ الإنسان من هويته الأصلية تحت الرعب حالة البياض التام ثم فرض هوية جديدة بالقوة، إن هذا المخطط الإجرامي لم ينجح كُليًّا في بعض الدول،، نحن أمام شعوب من دول الربيع العربي المواطن هارب ومطارد وملاحق ومشغول بفكرة النجاة والإنقاذ والطعام والنوم الآمن وليس العادل. الانشغال بفكرة النجاة كل يوم يعني إلغاء العقل والنظام والأمل والمستقبل، والأخطر من كل هذا المخطط هو وقت إملاء الشروط على الشعوب المنهكة وحشر الناس بين خيارات أحلاها أكثرها مرارة، ورفع راية اليأس والتسليم بالأمر الواقع. والصمت وتسليم السلطة والثروة والفرح بالنجاة وقضاء الوقت في التفكير في الأشياء الخاطئة بدل تجاوزها... أو خلق الأزمات لكي يضيع في دوامة البحث عن الحاجات الضرورية للإبقائه علي قيد الحياة. لا خيار آخر أمام اليائس غير الاستسلام وهو الهدف المركزي، لأن العالق في دوامة ومتاهة وخوف طويل لا يرى البندقية في يده أو السيجارة بين أصابعه، أو الحقيقة المشعة أمامه عندما يداهم.

الرعب يلغي الحرية والعدالة، واليأس يلغي طاقة المقاومة وتتحقق الهزيمة النفسية والغريق يبحث عن منقذ بصرف النظر عن أخلاق المنقذ،، لأن الفكرة للإنقاذ فحسب. تحت الرعب يتم إلغاء الإنسان بكلام أدق، وجعله يفرح بين وقت وآخر لأنه فلت ونجا من هذا الانفجار ليس إلا النجاة،، وهي لا تختلف عن تفاصيل حيوان هرب من مطاردة قاتلة، بعدها سيتم توزيع الأدوار بصورة مختلفة عن السابق لأن سيكولوجيا المواطن المستقر ليست الوطن والحرية والعدالة بل المرعى والأمن والطعام. شعوب دول الربيع مثل الطريدة اليائسة لن تحتج على الظلم بل تخاف الموت، سعيدة بالنجاة لا بالحرية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

إن لغة العصر هي القوة والاستكبار الذي حاولت الاطراف المعنية طمس حقيقتها من خلال التلاعب بالذاكرة والتاريخ الجماعي. غير ان الاعلام الرقمي كشف الستار عن حقيقة هذا العالم المتكاذب في اخلاقه وقيمه واهدافه التنويرية والكشوفات العلمية الذي يخفي خلفها كل اشكال الهيمنة والسيطرة والتزوير التاريخي. نحن هنا لسنا بصدد ادانة الغرب بقدر ادانة انفسنا الذي لا يقل تاريخنا سوءا عن الاستعلاء الغربي والمركزية الغربية. إن اخفاقات العرب والمسلمين لا تقل شأنا في حروبهم على السلطة وتقاسم النفوذ ونشر الخلافة القومية والدينية باسم الاسلام والعرب وهذا ما عبرت عنه المعارضة في ما عرفت انذاك بموجة الربيع العربي وانتشار الحركات المتطرفة وتكفير الاخرين على اعتبارهم من جماعة الكفار كما يفعل اليوم نتنياهو عبر توصيف العرب بالحيوانات البشرية وكل التوصيفات الدونية الاخرى. ولا ننسى تجربة وسيطرة الخلفاء الراشدين والفترة الاموية والفاطمية في مصر اضافة الى مرحلة العروبة والقومية العربية التي كان احدى اسباب فشلها اعلاء قيمة الاسلام على باقي الثقافات والهويات المتواجدة في المنطقة. فنزعة الامبراطورية تقاسمتها جميع الامم والشعوب. لكن، ما يهمني ان اشير اليه في هذه المقالة الاختلافات والتباينات التاريخية والثقافية بين الحضارتان العربية الاسلامية والغربية.

لا شك، أن ما قام به الطرفان مدان انسانيا واخلاقيا لان مسألة القتل والعنف هي مسألة يمكن تجاوزها في المفاوضات والحلول الديبلوماسية والسياسية لكن، الاشكالية في الصراع الفلسطيني –الاسرائيلي، هو ان صبر المفاوضات والتنازلات قد نفذ بفعل عدم الاعتراف الطرف الاسرائيلي بالشراكة الفلسطينية وهذا بطبيعة الحال مشروع قديم جديد يعاد احيائه في المنطقة وفق مخططات جديدة اكثر استحكاما وتدميرا من زي قبل.

إن مأساة القرن اليوم هي في انك فقدت ثقتك بامكانية تحقيق العدالة وأن من يمسك بها غير قادر على تطبيقها لانه مدان بفضائح جفري ابستين التي ظهرت لتهدد جميع من يعترض على مشيئة اسرائيل ومقرراتها وهذا واضح في طريقة تعامل نتنياهو مع الرئيس الامريكي جو بايدن والاوامر التي يتلقفها يوميا بشأن مطالبته بتكثيف الدعم العسكري ومشاركة الولايات المتحدة في حرب اوسع في المنطقة وهذا تفسره طبيعة الصراع اليوم في البحر الاحمر وعمليات القرصنة والتصعيد المتبادل بين اسرائيل والحوثيين وتعريض الملاحة الدولية للخطر ونقل الصراع بشكل اوسع الى اربيل وباكستان في محاولة لاستنزاف ايران في عمقها الجغرافي وتبادل الرسائبل الاقليمية  ردا على حادثة كرمان الاخيرة في ايران.

ربما من يراقب المشهدية من بعيد تتضح له الصورة بشكل ادق واوضح، أن الصراع بريء من شبهة المعيار الاخلاقي والانساني والوطني، بل إنها حرب مصالح ونفوذ وامبراطوريات تاريخية تحاول استرجاع حقها المغتصب تاريخياً غير أن السؤال الكبير اليوم، العرب ماذا هم فاعلون من اجل استرجاع كبريائهم المغتصب والمستباح؟ وهل يكفي موسم الرياض للتأكيد وتفعيل رسالة التي مفادها نحن بخير طالما نحن مطبعون وبالرعاية الصينية؟

فقط تخيل ذلك لبضع ثوان، إذا لم تلتزم ايران بتعهداتها، واستمرت تل ابيب باستفزاز ايران في عمقها الجغرافي او، عبر جماعات ارهابية مثل البلوش وغيرهم بهدف استنزافها واحتوائها امنيا وسياسي؟ وماذا سوف يحصل ان لم ينجح مشروع اكسبو 2030 وبخاصة أن الغرب لن يسمح باستقرار هذه المنطقة والتجارب التاريخية خير دليل على عدم التزام بريطانيا اتجاه شريف حسين ووعدها له بشأن الدولة العربية والتصدي للاحتلال العثماني انذاك وسياسة التتريك فضلا الى خلفيات مؤامرة سايكس بيكو وغيرها من الوعود التي قدمتها اسرائيل لمصر بعد اتفاقية كامب دايفد. ماذا تحقق من ذلك، اين مصر اليوم من عمقها الاستراتيجي في القرن الافريقي؟ أين السودان اليوم بعد التطبيع مع اسرائيل والربيع السوداني؟ أين لبنان بعد ثورة 17 تشرين؟ اين سوريا بعد حرب دامت اكثر من 11 عاما؟

واقعياً، نحن شاهدون على العصر وحقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون والمستعربون، ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل. والذخائر والتغطية الدبلوماسية، والمبررات التاريخية والاخلاقية في المقابل قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين والإبادة الجماعية لهم عبر توصيف اسرائيل بالضحية واعادة استئناف الهولوكوست اليهودي وتوظيفه اعلاميا لتبرير جرائم الحرب والتلاعب بالذاكرة الجماعية وتزوير السردية المعرفية للتاريخ.

لماذا دائما يتم التعاطف مع الابادة اليهودية اكثر من الابادات الاخرى التي لا تقل سوءا مثل رواندا، و ابادة الايغور والارمن والاكراد والهنود الحمر والموريكسيين والاوكران والمسلمين السنة في دارفور والبوسنة ولا ننسى امريكا اللاتينية اي المكسيك البيرو وافريقيا الجنوبية وبنغلادش والعراق ونيجريا وو..

 ومع وجود البلطجة العسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا خلف إسرائيل بالكامل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي؛ كما أنها وثيقة الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للانوار والنهضة والتي تطلق على نفسها اسم العالم الحر والديمقراطي، والانساني وحقوق الانسان هم الحلقة الاكثر تعرضا للتداعيات والأثار ما بعد حرب غزة بفعل التغيرات الديمغرافية وانظمة الحكم الجديدة. فهل الغرب اليوم قادر على الابداع وابتكار خداع جديد يوهم بها العالم بحجة نشر العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان.

فبعض المستشرقون أو فلاسفة الغرب اليوم، امثال إيمانويل كانط، وجورج فيلهلم، وفريدريش وهيغل، واستمراراً مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، التي تحاكي شذوذات، وأشياء معروفة كلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين لاننا باعتقادهم، مجرد تجارب بشرية الهدف منها، تحقيق التفوق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من اجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الابيض وتسيده على باقي الشعوب، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديا اكثر منه سياسيا لان عدم استقرار منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص هو بفعل هذا الصراع الديني –القبلي –العرقي الذي يجد مصوغاته وفق نصوص دينية تبرر اعماله وافكاره العنصرية.

 وإذا كان العالَم يطرحُ أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر، وهو مارتن هايدجر، في ضوء انتماءاته الخبيثة إلى النازية. في رأيي، يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله؟

إذ لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية - بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟

 وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه "يناقض أفكاره" عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل احترامي يقول: " أرجو أن أختلف، أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماماً مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشراً بالكامل، أو أنهم "حيوانات بشرية"، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت علناً..

إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. والحكمة السائدة هي أن الألمان، وبسبب ذنب المحرقة، طوروا التزاماً قوياً تجاه إسرائيل وهذه فاجعة القرن لجهة كيفية تحسين مسار هذا الاستكبار في حين لم يجري مصالحة ذاتية والاعتراف بجريمته والاعتذار عنها وهذا ينطبق ايضا على واقع فرنسا مع الجزائر ومستعمراتها في افريقيا، فجميع الامم تعتذر وتتصافح الا النزعة الاوروبية لا تزال تكابر وترفض الاعتذار.

 ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله الآن خلال حقبتها الصهيونية.

 أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه "اليسار الألماني"، مع كراهيته العنصرية وكراهية الإسلام والأجانب للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية..

 ويتعين علينا أن نغفر إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم لم يكن ذنب المحرقة، بل الحنين إلى الإبادة الجماعية، كما انغمست بشكل غير مباشر في المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس فقط في المائة يوم الماضية).

وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء. فهو مكتوب بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه.

وهنا، يجب أن نلخص عبارة الشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزار: "نعم، سيكون من المفيد أن ندرس سريريًا، بالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف للبرجوازية المسيحية المتميزة جدًا والإنسانية جدًا القرن العشرين، دون أن يدرك ذلك، ما يعتري هتلر بداخله، وما يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو غير متسق، وهذا، في جوهره، ما لا يمكنه أن يغفره هتلر، ليس الجريمة في حد ذاتها، أي جريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حد ذاته، بل الجريمة في حق الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مخصصة حصريًا لـ الشعوب العربية والهندية والإفريقية لذلك من الصعب تقديم اعتذار.

بالختام، فلسطين هي اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا المقطع. ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية هيريرو وناماكوا في افريقيا، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم.

في النهاية، من وجهة نظري، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسقه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ موقفًا عالميًا.

 لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية وبدأ يبحث عن كينونته وكرامته وفق خطاب مقاوم وسردية جديدة يخاطب بها المستعمر بلغة اليوم. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله.

 في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائفة. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، التي أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها الحضارة الغربية.

***

كتابة: أورنيلا سكر

صحافية لبنانية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية

 

بعيدا عن لغة المناكفات المستمرة بين مكونات الطبقة السياسية وخصوصاً جماعة حماس ومحور المقاومة من جهة ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية من جهة أخرى وهي حالة لم تتوقف بالرغم من الحرب التي تستهدف الكل الفلسطيني، فإن مقاتلي حركة حماس وفصائل المقاومة عملوا ما يستطيعون وأبلوا في المواجهات المباشرة مع جيش العدو بلاءً حسناً، ويعطيهم العافية بالرغم مما لحق بغزة والوطن من ضحايا يزيدون عن مائة ألف ما بين شهيد ومفقود وجريح، والدمار الذي طال كل مناحي الحياة.  

ومنظمة التحرير والسلطة بذلوا جهوداً دبلوماسية وسياسية في فضح العدوان وتحريض العالم على الكيان الصهيوني ومحاولة تجنيب الضفة ما تعرض له قطاع غزة، وفي تحركاهم كانوا يتجنبون المس بخطوط حُمر إن تجاوزتها ستفقدهم وجودهم، كما أنهم غير مقتنعين بجدوى الحرب في غزة ومتخوفين من نتائج الحرب أي كانت هذه النتائج بل ومتخوفين بأن تنتهي الحرب بتسوية ما بين حماس وإسرائيل.

 وما يسمى محور المقاومة بقيادة طهران ناوش وهاوش انطلاقاً من جبهات بعيدة عن إيران التي كانت تحرك هذه الجبهات بالريموت كنترول، ولا يمكن انتظار مزيد من التصعيد من أطراف هذا المحور لأن حساباتهم الوطنية الداخلية أهم من غزة ومن كل القضية الفلسطينية.

 ومصر وقطر عملوا ما يستطيعون في الهامش المسموح لهم بالتحرك فيه كوسطاء، ولم ينجحوا في وقف العدوان حتى على مستوى هدنة إنسانية، وشكرا على جهودهم.

والأمم المتحدة ومنظماتها بما فيها محكمة العدل الدولية لم يستطيعوا تغير الواقع القائم أو إجبار إسرائيل على تنفيذ أي قرار دولي حتى دورهم الإنساني مشكوك بنجاعته .

كما انكشف مستور جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومحدودية تأثير التحركات الشعبية العربية والدولية بالرغم من أهميتها.

كما سقطت مبكراً كل المراهنات على خلافات إسرائيلية داخلية يمكنها اسقاط نتنياهو ووقف الحرب، حيث تُجمِع كل القوى السياسية في دولة الكيان على استمرار الحرب حتى بدون نتنياهو.

كما لا تنتابنا أي أوهام بتحرك صيني أو روسي أو من أي صديق أو حليف أجنبي لوقف الحرب على غزة ومساندة الشعب الفلسطيني حتى على مستوى التحرك السياسي حيث كل التحركات في هذا المجال تأتي من واشنطن والغرب.

فعلى ماذا يعول الشعب الفلسطيني وماذا ينتظر؟ وهل مطلوب من الشعب أن يستمر في تلقى الضربات وتقديم الضحايا ويتعرض للدمار في غزة والضفة تحت وهم أنه يدافع عن القدس والمسجد الأقصى وأن الحرب التي يخوضها تأتي في سياق الدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية !!ولماذا مطلوب من الفلسطينيين أن يدافعوا عن الأمتين وليس العكس؟.

هل سيستمر الشعب الفلسطيني في انتظار مبادرات الآخرين وما يخطط له نتنياهو؟ ولماذا لا يستعيد الفلسطينيون زمام المبادرة ويطرحوا رؤية وطنية وموقف وطني يعبر عن الكل الفلسطيني في كل ما يجري بدلاً من أن تنتظر حماس انهيار السلطة في الضفة وتنتظر السلطة انهيار حماس في غزة؟

ولماذا لا توجد تحركات شعبية فاعلة تأخذ زمام المبادرة بدلاً من انتظار تحرك من طبقتين سياسيتين مأزومتين في الضفة وغزة؟ وأين هو المجتمع المدني الفلسطيني الذي طالما تشدق رواده بدورهم المجتمعي والسياسي والحقوقي في الدفاع عن الشعب؟.

***

د. ابراهيم ابراش

 

في ايار/ مايو 1983، بعد نحو عام من اندلاع حرب لبنان، وبعد مقتل نحو 500 جندي فيها، قررت مجموعة من المواطنين تأسيس حركة "آباء ضد الصمت". والتقى ممثلوها بوزير الدفاع آنذاك، موشيه ارنتس، الذي أوضح لهم أنه يعارض بشدة انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.

لم يقنع آرنس الآباء الذين واصلوا نضالهم حتى يونيو/حزيران 1985، ولم تقرر الحركة حلها إلا عندما انسحب الجيش الإسرائيلي من معظم أنحاء لبنان، لأنها اعتقدت أنها بذلك حققت أهدافها. ولم يكن هناك شيء أبعد من ذلك واستمرت الحرب، وقُتل جنود، وبلغت ذروتها بكارثة المروحية في فبراير/شباط 1997، والتي قُتل فيها 73 جندياً.

وبعد ثلاثة أشهر، تأسست حركة "الأمهات الأربع". النشاط العلني للأمهات والآباء الذين طالبوا بالانسحاب من لبنان لم يمر بهدوء. وقال قائد لواء جولاني العقيد شموئيل زكاي للجنود: "اتركوا كل الأوغاد الذين يتحدثون ضد البقاء في لبنان، اتركوا الخرق الأربعة، نحن جنود جولاني". وقُتل بعد ذلك بعامين بعبوة جانبية، حيث ادعى أن الحركات التي تؤيد الانسحاب الأحادي الجانب تعرض الجنود للخطر، لأنها تشجع السكان المحليين وحزب الله على حد سواء على العمل ضد الجيش الإسرائيلي. وستمر 13 سنة أخرى، والمئات المزيد من القتلى قبل أن تقرر الحكومة الانسحاب.

ومن المهم جداً أن نتذكر الخطاب العام المرير الذي دار في إسرائيل خلال حرب لبنان الأولى، لأن تصريحات مماثلة تُسمع اليوم ضد أفراد عائلات المختطفين الـ 136، الذين يطالبون بإعادة أحبائهم إلى ديارهم. كما بدأت التحركات العسكرية تبدو وكأنها تكرار لتلك الحرب. مرة أخرى يتم الحديث عن "حزام أمني"، هذه المرة بين إسرائيل وغزة، عن الاستيلاء على محور فيلادلفيا، ومرة أخرى يدوس مطلب "النصر الشامل" كل علامة استفهام وكل تشكك، بدعوى أنها لا تزيد إلا زيادة. وهو الثمن الذي تطالب به حماس مقابل إطلاق سراح المختطفين.

وسبق أن اتُهم أهالي المختطفين بـ "تزويد حماس بالأسلحة"، وأنه "ليس من حقهم الانتقاص من الحكومة التي تعمل ليل نهار لقيادة الحرب وتؤدي إلى عودة المختطفين"، كما تقول تالي غوتليب. تقول الكلمات. من المتوقع أن يصبحوا خلال فترة قصيرة أعداء للشعب، "أسمالاً" تمنع الجيش الإسرائيلي من الانتصار، أو على الأقل استكمال حملته الانتقامية في غزة. إنهم بالفعل يسيرون على الطريق الآمن الذي سينقلهم من غزة. من حالة "هدف حرب" إلى حالة الهجوم المعنوي الذي يقتل بسببه المزيد من الجنود.

أمس ، وبعد الحادث المروع الذي قُتل فيه 21 جندياً، قفز عدد جنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا منذ بداية "المناورة البرية" إلى 219، وإلى 556 منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. في حرب لبنان الأولى، التي استمرت من عام 1982 إلى عام 1982، في عام 2000 قُتل 1216 جندياً، كما ورد أنه على مدار 107 أيام، قُتل 44% من إجمالي عدد الجنود الذين قتلوا في الحرب التي استمرت 18 عاماً في غزة وإسرائيل، وهي أرقام مثيرة للقلق وتنتظر رداً مدنياً مناسباً، مثل ما حدث في عام 2000. التي اندلعت خلال حرب لبنان.

لكنها تتردد. لأن إسرائيل انغلقت سريعاً، من دون فحص وتدقيق، من منطلق الثقة الكاملة بالقيادة التي قادتها إلى الكارثة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بمفهوم جديد، ذلك الذي يضمن لها القضاء على حماس، والأمن للمستوطنات المحيطة بها. إطلاق سراح المختطفين. نفس إسرائيل التي "خيبت أملها" في تشرين الأول (أكتوبر)، دخلت الآن في حالة سبات، وفي يدها مشروع قانون أمني مشكوك فيه. علمتنا حرب لبنان الثانية أنه لا يجوز للحركة الاحتجاجية أن تنتظر حتى تتوقف النار. لقد استوعب أهالي المختطفين هذا الدرس جيداً. والآن حان الوقت لكي يطرح أهالي الجنود أسئلة محددة ويصرون على الحصول على أجوبة حقيقية.

***

ياسر حسين احمد -  كاتب وباحث سياسي

 

برزت مؤخرا بعض الأفكار وغيرها التي تصب في تفكيك هذا المرفق العمومي وتحويل جزء من اختصاصاته إلى جهات أخرى بالرغم من الطابع التقني الذي يطبع هذا الاقتطاع، فإنه يحول جزءا من ذاكرة الوطن نحو المجهول ويبعث على القلق ويثير أكثر من علامة استفهام في بلد لا زال يشق طريقه نحو النماء والحداثة والانتقال الديمقراطي، وهي بالفعل مؤشرات لا يمكن تحقيقها عمليا على أرض الواقع إلا بجدلية الثقافي والديمقراطي بحيث لا يمكن لأي أحد أن يجادل  في أن عملية الانتقال الديمقراطي وتصالح المؤسسات الرسمية إلا بولوج عوالم التعبير الحر وشفافية التدبير ومصداقية الخطاب وتعدد الاختيارات، ولا شك أن المجتمعات الموجودة في مصاف التقدم والنماء سلكت منهج الانتقال في شروط تاريخية ومقدمات موضوعية واضحة كان للشق الثقافي الفاعل الرئيسي في ردم فجوات التخلف والانتقال نحو الانبعاث، فالثقافي هو التعبير عن كيان ووجدان الأمة وحاجاتها الذاتية وأنماط عيشها وأسلوب التواصل  والتلاقح والتجانس بين متناقضاتها الداخلية والتفاعل مع محيطها الخارجي دون إلغاء أو تعسف.

فالإيمان بمكونات المجتمع ومجالات تعدده واختلاف أنساق تفكيره وطرق تدبيره هو الذي يصيغ عملية الانتقال السلس نحو الديمقراطية، لأنها تركيب معقد لأفكار ومفاهيم مجتمعية يؤطرها الفاعل الثقافي. وفي بلد كالمغرب ظل المؤشر الديمقراطي لفظا لغويا تتناقله الألسن وتدبجه الأحزاب السياسية في مقرراتها التنظيمية وأوراقها السياسية دون أن يكون له أثر أو مس بجوانبه النضالية أو مساره التدبيري، كما تستغله المؤسسات الرسمية بمختلف تشكلاتها وتلاوينها بترويض خطابها وتسويق صورتها تاركة المجتمع يعيش في فوضى مفاهيمية غامضة حول الديمقراطية، لا سيما وأن الحلقة  الثقافية ظلت مفقودة بفعل عوامل متعددة منها ما هو سياسي وآخر نفسي.

فالمجتمع المغربي عبر حقبه التاريخية ومراحله الصعبة ظل متماسكا فكريا وعقائديا ولم تتمكن التيارات الواردة شرقا وغربا من التأثير في نسيجه الثقافي بل استطاع تذويبها وصياغتها وفق ميكانيزماته وأنساقه الفكرية وتمثلاته التعبيرية، بل عُرف عنه قدرته في تمطيط كل التناقضات وتصريفها في أشكال تنسجم وعمق هويته وخصوبة سهوله وانتصاب مرتفعات جباله وهضابه وصحاريه.

لكن المعطيات الجيوستراتيجية في بداية القرن لم تكن في صالح البلد خاصة بعد أن عجلت معركة إسلي 1844 بأن تعري كما قال المؤرخ الناصري عن ضعف البلاد عسكريا واقتصاديا ولم تكن الاتفاقيات السياسية التي تلتها إلا وجه آخر من الاختراق الكولونيالي للمغرب خاصة وأن معاهدة الجزيرة الخضراء جاءت لتكرس واقعا جديدا أملته ظروف دولية عجلت تطور الأحداث ما بين 1906 و معاهدة الحماية 1912   لتضع المغرب بكل بنياته الفكرية والسياسية أمام منعطفات وهزات قوية شكل النسق الثقافي والعمق الديني للشعب المغربي وحدة متكاملة ومتجانسة في مواجهة المد الاستعماري ومحاولاته لاختراقه أيديولوجيا فيما أصبح يعرف بالظهير البربري وبلاد السيبة والمخزن، لكن في خضم النقاش السياسي أو مشروع الإصلاح الذي تقدمت به الحركة الوطنية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي ظلت الأرضية الثقافية ناقصة تتجاذبها أفكار وقراءات متعددة بحكم المحور الطبيعي الذي تشكلت منه نخبها السياسية (الرباط – فاس – سلا -)، ولم يكن بإمكانها في ظل القضايا الوطنية المستعجلة بلورة وصياغة خطاب فكري وسياسي مبني على مشروع ثقافي يؤمن بالتعدد والاختلاف حيث تجلت معالمه على الميدان ما بين مسار المقاومة واختيارات جيش التحرير وما أفرزته من تناقضات وصراعات في كيفية تدبير مغرب ما بعد الاستقلال كما أن المؤسسة الرسمية بحكم مشروعيتها الدينية والتاريخية ظلت تعتبر الميدان الثقافي مجالها الحيوي وامتدادها الطبيعي، لكن الصراع الأيديولوجي في مطلع الستينات والسبعينات من نفس القرن أجهض المشروع الثقافي الوطني ولم يكن قرار إحداث مرفق عمومي بالخيار الصائب في حكم التوجهات الرسمية التي حصرت مضامين تدخله وضيقت على هامش تحركه في صنوفه المتعددة (التراث الكتاب، الإبداع، التعدد، الفنون الشعبية، تأهيل الأنسجة والأنساق التعبيرية) ولم يشفع التدبير الحزبي من إنقاذ المؤسسة الرسمية (وزارة الثقافة) من طابعها التوثيقي بل أسهم في تعميق الهوة بين المشروع الوطني لتدبير الثقافة والاختيارات الحزبية الضيقة.

لذا، المطروح بعد هذا التوضيب التاريخي لمسلكيات الفعل الثقافي وأدواره الطبيعية في عملية الانتقال الديمقراطي أن نطرح وبدون عُقد تاريخية هل لنا فهم واحد للثقافة وهل الشأن الثقافي في حاجة إلى مؤسسة رسمية لاحتضانه وما الجدوى من قيامها وهي مشلولة الاختيار ومحدودة التأثير ولم تعد قادرة على أن تؤدي دورها كما جاء في التقريرين الأخيرين تقرير المجلي الاعلى للحسابات وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتهافت بعضهم لتشجيع التفاهة والميوعة وإقصاء الفاعل النقابي الجاد (النقابات الجادة) كما جاء في خطب صاحب الجلالة .والذي تحول إلى مسمى النقابات الأكثر تمثيلية لخدمة الحزبيين الحكوميين كما أن هذه المؤسسة غير قادرة على التدخل في الوقت الذي أصبح فيه جزء من ذاكرتنا يفوت ولا يعي 12 قرنا من الوجود.

ألم يآن الأوان لتفعيل المجالس الجهوية العليا للثقافة تماشيا مع تنزيل مشروع الجهوية الموسعة لتحيين وجرد ورد الاعتبار للصناعات الثقافية المحلية التي انقرضت أو في طريق الإنقراض من أجل الحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة والأصلية والإسراع في إنقاذ جزء من ذاكرة وطن ومخططات تفكيك هويتنا وتسليعها.

***

حسن الأكحل - فاعل ثقافي

 

منذ احتلاله عام 2003 يتابع المواطن العراقي باهتمام مواقف الأحزاب والكتل السياسية العراقية وتحركات قادتها. على وجه الخصوص الشخصيات التي يعتقد قياسا بما هو موجود على الساحة السياسية العراقية من بعد سقوط النظام السابق، أن لديها نفسا وطنيا واضحا ورغبة صادقة في تغيير الأوضاع العامة وبناء مؤسسات الدولة وتوجيه بوصلة العراق نحو التجديد والبناء، سيما في الشأن الاقتصادي والسياسي والمعيشي للمواطنين دون تمييز. لكن الأمور لا زالت تسير خلاف ما كان المواطن يتوقع. فحال الفرد العراقي على كافة الصعد الاجتماعية والمعيشية والصحية والأمنية، لا يختلف اليوم عن حال من عانوا زمن دكتاتورية النظام السابق حيث وصل بهم الأمر بيع الكتاب والباب والشباك لسد رمق أبنائهم. فضلا عن شدة القلق والهواجس التي يعانون نتيجة فساد وسوء إدارة السياسيين الجدد، التي يكتنفها الكثير من النفاق والانتهازية الشعبوية في مسألتين: منسوبيه الأفضلية الشعائرية لغسل الأدمغة. والثانية: الادعاء كطبقة سياسية لطائفة كما يزعمون كانت تعاني دون سواها زمن النظام السابق.

على أساس هذين العنصرين والدور السلبي الذي لعبته بعض الأطراف السياسية ومنها قوى المجتمع المدني والأحزاب الوطنية التقليدية بطريقة لا تخلو من الساذجة والمجاملات على حساب مصالح الأمة، لم تتمكن هذه الطبقة في المقام الأول من سحب مشروع السلطة لصالحها دون رجعة وحسب. بل على الرغم من أنها لا تمثل في أفضل الأحوال حسب نتائج الانتخابات الخمس السابقة أكثر من مليون ونصف مواطن من مجموع أكثر من 40 مليون عراقي، تهيمن دون وجه حق على القرار الجمعي للمجتمع العراقي ومصادرة حق الشعب كمصدر للسلطات للبت في القضايا المصيرية للعراق ومنها مصالحه الجيوديموغرافية وثرواته الوطنية ووحدة أراضية وأمن مجتمعاته.

وعلى صعيد آخر تمكنت من عسكرة الأحزاب وتطبيع وجود مسلحيها في الحياة العامة بشكل منظم... التفريط بمركزية الحكم ووحدة العراق وفقا لمبدأ التوافقية والمحاصصة الطائفية التي جاءت بـ "الفيدرالية" بعيدا عن أي منهج عقلاني يضمن حقوق الجميع بواقعية وحكم القانون. إشاعة الفساد وهدر المال العام والإثراء والنهب والسرقة المنظمة على أعلى مستويات الهرم السلطوي دون عقاب أو مسائله، وفق مبدأ من أين لك هذا؟. توزيع الموارد المالية المتأتية عن صادرات النفط وعائدات الكمارك الحدودية بين الأحزاب وقادتها على أسس طائفية وعرقية وقومية من باب المجاملة السياسية على حساب المواطن والمحافظات الفقيرة. القصور في بناء مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والشرطة والأمن وتقاسم الولاءات فيها على أسس طائفية شلت أداء العاملين، وتفضيل الوصوليين والمنتفعين والجهلة والمحتالين على المخلصين منهم. البون الشاسع بين معيشة المواطنين من ناحية المرتبات والسكن وسوء الخدمات، قياسا بأصحاب النفوذ ومنتسبي أحزاب السلطة في بلد غني لم يعد يوفر للمواطن أبسط مقومات الحياة وأهمها الطعام والأمن والسكن.

معضلات واسعة وكثيرة معالجتها تحتاج إلى الجدية والإخلاص والصدق والتعاون، وفق برنامج جبهوي معاصر تجتمع على أرضيته جميع الأطراف والقوى الوطنية العراقية المعارضة، التي تشعر بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية لإنقاذ البلد ومستقبل أبنائه.

إن ما يثير الاستغراب عدم إدراك العراقيين، سيما الأغلبية الصامتة ومنتسبي الأحزاب التقليدية وما يسمون بالمستقلون، حقيقة تناغم رأي الإدارة الأمريكية مع تمنيات أصحاب السلطة الطائفيين لتقييد المجتمع العراقي وعدم ضبط إيقاع مصالحه الوطنية، بهدف تأمين مصالح الطرفين على مستوى العراق والمنطقة. فضلا عن المبالغة في حصر الأمور في نطاقها الضيق، والميل إلى عدم النظر بجدية لتوسع دائرة الاحتمالات المتعلقة بتفكيك الدولة العراقية وأسبابها المعقدة... وما يدعو للقلق أيضا، تعامل القسم الأكبر من السياسيين العراقيين مع أمور بلدهم المصيرية بشكل غير مسؤول. ولمن الغرابة بمكان انقلاب المثقفين واليسار العراقي على مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم حد قلب المعادلة والالتحاق بركب المطبلين لتجميل صورة ما يسمى بالعملية السياسية والدفاع عن مظاهرها الأيديولوجية الزائفة. الأمر الذي جعل الأزمة تتأرجح بين العودة للنهج القديم أو الانهيار الكامل.

إن الطبقة السياسية التي أصبحت صاحبة نفوذ ومال وسلاح، لم تعد ماسكة بالسلطة فحسب، إنما شد قبضتها على السياسة والدولة معا. فيما يشاع عن أحزاب المعارضة خلف كواليس السياسة ودهاليزها العلنية والسرية، لا يعبر عن الحقيقة لتغيير نظام الحكم وإحلال العدل، بقدر ميلها للمشاركة في السلطة والجاه والمال. إن قناعتنا مهما قيل: التغيير لا يمكن أن يجد طريقه ما لم يطرد المنافقون والانتهازيون، المتقلبين والمنقلبين، من لدن أي حركة سياسية تطمح لاستقطاب الناس وتحقيق أمانيهم في العيش والسعادة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والأمني. وما لم ينهض المجتمع برمته ليتحمل مسؤولياته ونزع البراءة الساذجة والتفكير العاطفي الذي لا جدوى منه عن كاهله. إذ لم يعد مجالا لاستمرار هذه الطبقة في حكم البلد بهذه الطريقة السافرة دون أن يزعزعها أحد.

لا نظن أن أحدا يجهل أحوال العراقيين ونمط صراعاتهم النفسية والمجتمعية التي سببها المعارضة السابقة والمتسلطة اليوم على رقاب العراقيين لأكثر من عقدين، لم ينتج سوى زيف ادعاءات كاذبة. ولا نظن أن "الموقف": إذا ما سيطرت أحزاب الإسلام السياسي على المجالس المحلية في أغلب المحافظات، وأصبحت أكثر تفردا وتأثيرا في البرلمان الاتحادي سيتغير!. لكن نتساءل: كيف ستكون المعادلة السياسية للمعارضة باتجاه تحقيق الدولة المدنية بدل نظام التوافقية الطائفية الشوفينية في قادم الأيام؟. السؤال موجه هنا إلى جميع القوى السياسية المعارضة.

ننتظر الجواب على مهل، وسيختبر التاريخ كل طالب صيد، وظن العاقل خير من يقين الجاهل.!!

***

عصام الياسري

الشّعبويّة وصف يطلق على نمط التّفكير السّياسيّ الذي يميل لتقديس الشّعب باعتباره يمثّل الحقّيقة المطلقة، وتشتقّ كلمة الشّعبويّة من الشّعب، والقدرة على إقناع أوسع قدر ممكن منه؛ ومثل هذا الوصف يعتمد على الدّيماغوجيا التي تقوم على دغدغة عواطف أكثريّة النّاس والتّأثير في مشاعرهم بخطابٍ موجّه إليهم مباشرة ويدّعي تمثيلهم والنُّطق باسمهم. وبشكلٍ عامّ تميل الشّعبويّة إلى الانعزاليّة وذلك للحفاظ على تماسكها وعلى أتباعها.

ولا يمكن تحديد تاريخ دقيق لنشوء الشّعبويّة، ولعلّها كانت موجودة في كُلّ العصور، لكنّ ظهورها يختلف من مجتمعٍ إلى آخر، وأمّا التعبير المعاصر عنها، فإنه يمكن إرجاعه إلى نشوء حركة شعبويّة في روسيا والولايات المتّحدة في أواخر القرن التّاسع عشر، وإنْ كان كلّ خطاب يوجَّه إلى "العامّة" ويدّعي النطق باسمها هو خطاب شعبويّ، لكنّها بالأصل عُرفَت في روسيا حين نشأت حركة فلّاحيّة رفعت بعض التوجُّهات ذات الصّلة بالعدالة الاجتماعيّة ونشطت هذه الحركة في عهد القياصرة الرّوس، ولا سيّما في عام 1870، وهي الفترة ذاتها التي شهدت فيها الولايات المتّحدة حركات احتجاج في الرّيف ضدّ المصارف وشركات سكك الحديد. ويحيل "جان فيرنر مولر" مصطلح "الشّعبويّة" إلى العواطف والأمزجة أكثر ممّا يمثّله أيّ مضمون (1).

وعلى الرّغم من ارتباطها بالعمل السّياسيّ، ولكنّنا لا ننكر أنّ الشّعبويّة تسرّبت إلى كلّ أنماط السّلوك والعمل الاجتماعيّ، ويلعب وعي الجماهير دوراً كبيراً أيضاً في توجيه السّياسيين والدّينيين وغيرهم من المعنيّين في السّاحات الاجتماعيّة.

ولو انتقلنا بالفكرة من بُعدها السّياسيّ إلى بُعدها الدّيني والثّقافيّ، لوجدنا أنّ الشّعبويّة هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطوّر الفكر الدّينيّ والثّقافيّ.

في العراق، ولا سيّما بعد عام 2003، نزعت بعض الخطابات والبرامج إلى محاباة رأي العامّة بأسلوبٍ يُحاكي ما يحبُّ الجمهور أن يسمعه ويقرأ عنه، وكذلك التّنفيس عن همومه على طريقة بيع الأحلام، دون أيّة محاولةٍ جدّية للدّخول في مناطق النّقد والتّحليل وإعادة النّظر في الإشكالات الأساسيّة التي تتجذّر منها أكثر المشكلات القائمة اليوم، كإدخال النّاس في متاهات الهويّات والطّائفيّة والإبقاء على النّزعة القبليّة والتّعصّبية.

وبسبب الخطاب الشّعبويّ وتعاطيه مع الكثير من الأحداث، فَقَدَ أكثر النّاس القدرة على التّمييز بين السّبب والنّتيجة، والتّفريق بين الأمور الجوهريّة والثّانويّة والسّبب في تسطيح بعض جوانب الخطاب الثّقافيّ وفق مبدأ "ما يريده الجمهور"، حيث أن بعض الفئات المُثقّفة أخذت تتبنّى الآراء الشّعبويّة في شكلٍ مُستنسخ عن ثقافة الفئات المهيمنة على الرّؤى الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة وأساليب خطابها، لكنّ الفارق بينهما في طريقة التّقديم المبنية على الأساليب المنهجيّة والفلسفيّة والأدبيّة ذات الطّراز الرّفيع، وبذلك أصبح الخطاب الثّقافيّ في بعض جوانبه يخدم أطروحات وقضايا الثّقافة الشّعبيّة، ما يعني انحسار دور بعض المثقّفين اليوم في تبرير آراء تلك الأطروحات والقضايا ومجاملة الوعي العامّ ذي التّناقض الفكريّ من الأساس.

في كُلّ الأحوال تتكوّن الشّعبويّة من عنصرين شبه متساويين في القوّة، يتمثّل أوّلها في استعادة وتكرار الشعارات التي تدغدغ أحلام الجماهير من قبل المثقّف الشعبوي، كالدفاع عن الفقير، والمطالبة بحقوقه والسّيادة الوطنيّة، وغيرها من الشّعارات الرّنانة وفق المرحلة التّاريخيّة ومقتضياتها. ويتمثّل ثانيها في الإصرار على الكثير من اللّغو الذي يفقد الخطاب أو النّهج من أيّ مضمونٍ فكريّ، أيّ يتمُّ إفراغ الشّعارات من معانيها ومقاصدها.

خلاصة القول أنّ الشّعبويّة هي حالة تهبّ كـ(الموضات) في لباس المراهقين، لكنّها تتلاشى مع أوّل موضة جديدة. والجماهيرية: هي متطلّبات شعبية عميقة في وجدان الناس. وإنّ إنتاج الوعي الثّقافيّ الجماهيريّ - وليس الشّعبويّ -، ضرورة لبناء أيّ مجتمعٍ ترسخ فيه الثّقافة والإبداع، كما يرسّخ الفلكلور الشّعبيّ والعرف الاجتماعيّ في الوجدان، لمئات السّنين وأكثر.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

....................

1- جان فيرنر مولر": ما الشّعبويّة؟ ترجمة: رشيد بو طيب، منشورات منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، ط1 2014 وط2 2017، ص 43.

 

الرواية كلها تتعلق بتفصيل ثانوي حدث في صحراء النقب يوم 13 آب / اغسطس عام 1949، وضحيته فتاة عربية تعرضت للاغتصاب والقتل بالرصاص على أيدي قائد كتيبة إسرائيلية وجنوده، لكن التهمة، أو الأكذوبة السخيفة القديمة الجديدة، تهمة " العداء للسامية " أُلصقت بهذه الرواية وكاتبتها الفلسطينية المقيمة في برلين عَدَنيَّة شِبْلي، لتقرر إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي يعد واحداً من أكبر معارض الكتب في العالم، الغاء حفل تكريمها بجائزة أدبية منحتها إياها الجمعية الأدبية الألمانية.

حدث ذلك والحرب البشعة على غزة مستمرة منذ أسبوعين قبل افتتاح دورة المعرض للعام الحالي من 18 إلى 22 تشرين الأول / اكتوبر، بعد أن انساق منظموه مع موجة تبني الخطاب الصهيوني الذي يسوغ حرب الإبادة الجماعية ضد سكان غزة المدنيين، وسرعان ما أعلنوا عن تضامنهم المطلق مع إسرائيل، وعزمهم "جعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في معرض فرانكفورت للكتاب"، مما حدا باتحاد الناشرين العرب إلى مقاطعة هذه الدورة بسبب ازدواجية المعايير، والزج بالثقافة في المجال السياسي، فيما أعلن مئات الكتاب والأدباء المعروفين عالمياً عن تضامنهم مع شِبْلي، ومنهم الحاصلون على جائزة نوبل في الآداب أمثال الروائية الفرنسية آني إرنو، والتنزاني من أصول عربية عبد الرزاق قرنح، والبولندية أولغا توكارتشوك.

" تفصيل ثانوي" رواية لم تهتم بالأحداث الكبرى، بل قل الجرائم الكبرى التي رافقت وأعقبت نكبة العرب في فلسطين، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، إنما تكمن فرادتها في القدرة على توظيف حدث شخصي مأساوي تعرضت له فتاة عربية على أيدي الصهاينة، رمزاً لاغتصاب الأرض والإنسان، وتجسيداً للسلوك الوحشي الحيواني الذي اتسم به المحتلون منذ تدنيسهم لأرض فلسطين، إذ تبدأ الرواية حين " يخيّم قائدُ كتيبة عسكريّة مع جنوده في بقعة من صحراء النقب، يُشتبه في أنها ممرُّ يسلكه المتسلّلون العرب. بعد أكثر من خمسة عقود، تطلق فتاة موظفةٌ فلسطينيّةٌ في رحلة صوب النقب ساعيةً إلى كشف ملابسات حادثة جرت في ذلك المعسكر، مستعينةً بتفاصيل ثانويّة شتّى".

موقف معرض فرانكفورت للكتاب ضد الكاتبة الفلسطينية عَدَنيَّة شِبلْي، لم يشذ عن موقف الحكومات الغربية المنحاز دوماً للكيان الصهيوني، على الرغم من المشاهد اليومية لمجازره الدموية التي أبادت عوائل بأكملها وشطبتها من الحياة، ودمرت أحياءً سكنية عن بكرة أبيها، وغيرت اتجاهات الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد أن انكشفت الحقائق بالصوت والصورة والنقل المباشر. لكن خرافة " العداء للسامية " بقيت تعشش في عقول صناع القرار السياسي، وتمنع عنهم ابصار تفاصيل ثانوية مأساوية، تكررت آلاف المرات في مشاهد الحرب على غزة، وأمام أنظار العالم " المتحضر" برمته.

***

د. طه جزاع

 

هل تبقى للبرلمانات مصداقيّة، وللديمقراطيّات قيمة، إذا دخلت فصائلُ مسلحة، تنافس فيها، وتخصص لها حصة مِن الوزارات؟ نعيد السُّؤال بوجهٍ آخر، في مثل هذه الأنظمة، هل للانتخابات معنى، إذا كانت السّياسة حامية لمحاصصة الفصائل؟ فيصبح البرنامج برنامج السّلاح الانتخابي؟! نعم، تجري انتخابات، وتمارس ديمقراطيّة، لكنَّ شريطةَ ألا تمس فاسداً وقاتلاً، له فصيل مسلح، محمياً مِن خارج الحدود، لهذا توهم الواهمون بالدّيمقراطيّة الزّاهيّة، كلما تكررت دورات الانتخابات.

لم يفهموا أنهم يتحدثون عن كوكبٍ آخر، لا عن بلادٍ صار فيها الفاسدون والقاتلون أسياداً، وأنَّ المشاركة في كلّ انتخابات، بوجود الفصائل المسلحة بالاعتقاد والبارود تضفي الشّرعيّة عليهم، وتحقق مقالة مَن قال: «ما ننطيها»! تكلم عمّا شئت ببلدان تديرها، في الحقيقة، فصائل بشعارات المقاومات والممانعات، إلا الأولياء، فالحديث عنهم، بغير تمجيد، الاغتيال والاختطاف ينتظرك، وينتظر القاضي الذي يحكم لك، والمحامي الذي يدافع عنك، فعن أي ديمقراطيّة تتحدثون، وفي أي وهم تعيشون.

أشهد أنّ الفضلَ في هذا المقال، لأحد رؤساء الفصائل، المسؤول عن اختطاف واغتيال، سمعته، وكان وديعاً، يتحدث كأنه إمامٌ صوفي، مِن أتراب: معروف الكرخي أو الجنيد البغداديّ، أو شيخ مِن شيوخ «المندايين المسالمين»، الذين لا يرون القتل حتّى دفاعٌ عن النَّفس، ويعتذرون للحيوان والطَّير المذبوح بترتيلة معروفة.

سمعتُ صاحبنا يستشهد بالمقولة الذَّائعة السّائرة: «الاختلاف في الرّأي لا يفسد للود قضية». قالها صادقاً لا مدعياً، وأقول لا مدعياً، لأنه يعتبر نفسه على حقٍّ، وهل سمعتم مجنوناً اعترف بجنونه؟! فمال الدولة عنده مجهول المالك، بهذا يتصور الفساد فضيلة لا رذيلة، والمقتول بيده قصاصاً، لأنّ القتيل عميلٌ كافرٌ، لذا أنَّ كلَّ قتيلٍ بسلاح فصيل ديني، نُفذ بفتوى. لذا تجده يستغرب ممن يتهمه بالعمالة، وهو يرفع علم غير بلاده، فتلك راية مقدسة تعبر عن بيعةٍ في عنقهِ.

دعونا نبحث قليلاً، بمقولة أو حكمة: «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، لا يُعرف ناحَتها على وجه الدّقة، فقد نُسبت إلى أكثر مِن أديب وسياسي وشاعرٍ، ولستُ مصدقاً أحداً، لكنّ الثَّابت وردت ضمن ممارسات وأشعار قديمة، في التُّراث العربيّ. روى الجاحظ(ت: 255هجرية) عن أحوال الخطباء والشُّعراء: «ولم ير النَّاس أعجبُ حالاً مِن الكُميت والطِّرماح. وكان الكُميت عدنانيا عصبياً، وكان الطّرماح قحطانياً عصبياً، وكان الكُميت شيعياً مِن الغاليَّة، وكان الطِّرماح خارجيا من الصِّفريَّة، وكان الكُميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطّرماح يتعصب لأهل الشَّام، وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قطٌ»(البيان والتَّبيين).

كذلك روى الجاحظ: «كانت الحال بين خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، الحال التي تدعو إلى المفارقة، بعد المنافسة والمُحاسدة، للذي اجتمع فيهما من إتفاق الصِّناعة والقرابة والمجاورة، فكان يقال: لولا أنهما أحكم تميمٍ لتباينا تباين الأسد والنّمر»(نفسه).

بيد أنَّ المقولةَ جاءت مطابقة لبيت عمرو بن امرؤ القيس(380ميلادية) وقيل لقيس بن خطيم(ت: 2 هجريّة)، ونُسب لآخرين، نَحنُ بِما عِندِنا وَأَنتَ بِما/عِندَكَ راضٍ وَالرَأيُ مُختَلِفُ«(سيبويه، الكتاب، والمَرْزُباني، معجم الشّعراء). مِن قصيدة مطلعها:«يا مالُ وَالسَيِّدُ المُعَمَّمُ قَد/ يُبطِرُهُ بَعضُ رَأيِهِ السَرِفُ». ذكرها الجاحظ في حديثه عن العمائم وأصحابها. على كلّ حال، صارت تلك المقولة الرّائعة، والخياليّة في الوقت نفسه، في متناول الصّادقين والمُدعين، تمثل بها الأخيار والأشرار، مَن يجادل بالكلام والسَّلام، ومَن يجادل ويده على السّلاح، كصاحبنا، وقضيته هلاك البلاد وإخضاع العباد، ووجدتُ متشددين تكفيريين تمثلوا بها عن قناعة. أقول: سفكتم وخطفتم وأفسدتم، لكنّ رحمة بعقولنا، لا تكثروا علينا، فنحن أمام قضية وطنٍ، سلامته لا تقبل سلاحكم رأيَّاً يفسد قضايا.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

مقدمة: كانت فترة ولاية دونالد ترامب كرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة من عام 2017 إلى عام 2021 فترة تميزت بالجدل والانقسام. ويثير احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة تساؤلات كبيرة حول التأثير الذي ستحدثه سياساته وأسلوب قيادته على كل من الولايات المتحدة والساحة العالمية. في هذا المقال، سوف نستكشف العواقب المحتملة لرئاسة ترامب، وندرس جوانب مختلفة مثل السياسة الداخلية، والعلاقات الدولية، والاهتمامات البيئية، والديناميات الاجتماعية.

السياسة المحلية

إذا عاد ترامب إلى الرئاسة، فمن المرجح أن يتم إحياء بعض السياسات التي تم تنفيذها خلال فترة ولايته الأولى، مثل التخفيضات الضريبية للشركات وإلغاء القيود التنظيمية. ومع ذلك، ونظرا للديناميكيات المتغيرة والاستقطاب العميق في المجتمع الأمريكي، فمن غير المؤكد مدى نجاح هذه السياسات في حشد الدعم من كلا الحزبين السياسيين. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت سياسة "أمريكا أولا" التي ينتهجها قد تؤدي إلى تفاقم الانقسامات وإعاقة التعاون بين الحزبين أو تؤدي إلى التوسع الاقتصادي المتجدد.

العلاقات الدولية

اتسم نهج ترامب في السياسة الخارجية بالتحول نحو تدابير الحماية، وإعادة التفاوض على الصفقات التجارية، والتشكيك في التحالفات القائمة منذ فترة طويلة. وإذا عاد إلى الرئاسة، فمن المرجح أن يكون هناك استمرار لمثل هذه السياسات، مما قد يؤدي إلى توتر العلاقات مع الحلفاء الرئيسيين مثل الناتو. علاوة على ذلك، فإن سياساته المثيرة للجدل المتعلقة بالهجرة يمكن أن تزيد من توتر العلاقات الدولية وتؤثر على سمعة الولايات المتحدة كزعيم عالمي في مجال حقوق الإنسان.

المخاوف البيئية

أثار انسحاب ترامب من اتفاقية باريس وتشككه تجاه علم تغير المناخ مخاوف عالمية بشأن التزام الولايات المتحدة بالاستدامة البيئية. وإذا استعاد الرئاسة، فمن المرجح أن يتم إعاقة الجهود الرامية إلى عكس التقدم الذي أحرزته البلاد في القضايا البيئية، مثل العودة إلى اتفاق باريس. إن تأثيرات مثل هذا الموقف التراجعي بشأن تغير المناخ سوف تمتد إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية وتلحق الضرر بالجهود العالمية لمكافحة هذه القضية الحاسمة.

الديناميكية الاجتماعية

اتسمت رئاسة ترامب بالانقسامات العميقة والتوترات الاجتماعية المتزايدة في الولايات المتحدة. غالبا ما أدى خطابه وأفعاله إلى استقطاب المجتمعات على أسس عرقية وإثنية ودينية. وإذا عاد إلى الرئاسة، فمن المحتمل أن تتفاقم هذه الانقسامات، مما يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية أكبر. إن الحاجة إلى التعافي والوحدة في المجتمع الأمريكي قد تأخذ مقعدا خلفيا لمزيد من الانقسام السياسي، مما يؤثر سلبا على نسيج المجتمع الأمريكي.

الأثر الاقتصادي

وفي ظل رئاسة ترامب، شهدت الولايات المتحدة فترات من النمو الاقتصادي، لكنها واجهت أيضا تحديات مثل الحروب التجارية وفجوة الثروة المتزايدة. وإذا عاد إلى الرئاسة فإن سياساته الحمائية العدوانية قد تخلق المزيد من التقلبات في الأسواق العالمية، مما يعطل التجارة الدولية وربما يؤثر على الاستقرار العام للاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك، فإن عدم التركيز على عدم المساواة في الدخل ودعم اقتصاد السوق الحرة قد يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاقتصادية داخل الولايات المتحدة.

الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية

خلال فترة ولايته السابقة، حاول ترامب إلغاء قانون الرعاية الميسرة، المعروف شعبيا باسم أوباماكير، دون توفير بديل قوي. وإذا عاد إلى الرئاسة، فإن مستقبل إصلاح الرعاية الصحية في الولايات المتحدة سيظل غير مؤكد، مما قد يترك الملايين من الأميركيين غير مؤمنين. بالإضافة إلى ذلك، فإن نهجه في برامج الرعاية الاجتماعية قد يفضل التخفيضات والتخفيضات، مما يضع عبئا متزايدا على المجتمعات الضعيفة.

الأمن القومي

تميزت رئاسة ترامب بالتركيز على أمن الحدود وسياسات الهجرة الصارمة. وإذا عاد إلى السلطة، فمن المرجح أن تعود هذه المواضيع إلى الظهور. ورغم أن الأمن القومي يشكل أهمية لا يمكن إنكارها، فإن السؤال يظل كيف يمكن موازنة هذه السياسات مع احترام حقوق الإنسان والتزام الولايات المتحدة التاريخي بقبول اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن حياة أفضل.

التكنولوجيا والابتكار

خلال رئاسته الأولى، بذل ترامب الحد الأدنى من الجهود لمعالجة الآثار المترتبة على التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة. وإذا عاد إلى منصبه، فلا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت هذه القضايا ستصبح ذات أولوية. وقد تتأثر قدرة الولايات المتحدة على البقاء في طليعة الابتكار التكنولوجي وقدرتها التنافسية في السوق العالمية إذا لم يتم تنفيذ تدابير استباقية.

خاتمة

ويثير احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة مخاوف كبيرة بشأن الاتجاه المستقبلي للولايات المتحدة وتأثيره على العالم. من السياسة الداخلية إلى العلاقات الدولية، ومن المخاوف البيئية إلى الديناميكيات الاجتماعية، والعواقب المحتملة لأسلوب قيادته وسياساته

***

محمد عبد الكريم يوسف

من الواضح تمامًا للأغلبية الساحقة من الخبراء غير المتحيزين أن العامل الرئيسي الذي يعيق البحث عن طرق لحل الأزمة الأوكرانية سلميًا، هو دعم الغرب المستمر لنظام كييف، على الرغم من معاناته الواضحة وعجزه عن تحقيق مهمته التي يمليها عليه، وهي إلحاق الضرر بالنظام في روسيا، و "هزيمته استراتيجيا"، أو كما بدأوا يقولون في الآونة الأخيرة.

مرة أخرى يعقد مجلس الامن الدولي جلسته المخصصة لمناقشة الأوضاع حول أوكرانيا، تلك الأوضاع التي تسوء يوم بعد آخر، لسبب بات معروفا " للمجتمعين "  قبل غيرهم، حيث الاستمرار بإمداد هذا البلد بالأسلحة الغربية، وإرسال مرتزقتهم  إلى هناك، وكشفت الإجراءات التي اتخذتها روسيا  مؤخرًا لتدمير المرتزقة الفرنسيين في خاركوف، والحقيقة كما عبر عنها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في كلمته امام المجلس، هي أنه على الرغم من الفشل الكامل للقوات المسلحة الأوكرانية في ساحة المعركة، فإن أنصار نظام كييف الغربيين يواصلون بإصرار مهووس دفعه إلى مواصلة المواجهة العسكرية التي لا معنى لها.

ويحاول الغرب وتحت شعارات كاذبة مفادها أن انهيار نظام زيلينسكي يشكل "تهديدًا وجوديًا" للأوكرانيين الذين تريد روسيا "استعبادهم"، فبالنسبة لأولئك الذين يفهمون أصل الأزمة الأوكرانية، فمن الواضح أنه لا يوجد ذرة من الحقيقة في هذه الادعاءات، فروسيا التي  أطلقت عمليتها العسكرية الخاصة في فبراير 2022، لم تكن ضد أوكرانيا،  وليس ضد الشعب الأوكراني، الذي لا تزال تربطه والشعب الروسي  علاقات أخوية، فليس من قبيل الصدفة أن ما يقرب من 7 ملايين أوكراني وجدوا الخلاص في روسيا بعد عام 2014.

وإن السبب وراء تصرفات الغرب بهذه الطريقة الساخرة والإجرامية  بات واضحا، ففي واشنطن وغيرها من العواصم، ترددت مؤخراً أصوات علنية مفادها أن الغرب يشن حرباً ضد روسيا بمساعدة الأوكرانيين، دون أن يخسر أرواح جنوده، وهي حرب لا بد من "وضعها في مكانها"،  حتى أن الرئيس الأميركي جورج بايدن وصف هذا الوضع بأنه «استثمار ممتاز»، وقد أعرب عن أفكار مماثلة مسؤولون أمريكيون آخرون وزملاؤهم من فوجي ألبيون.

لقد اضطرت روسيا إلى شن عملية عسكرية خاصة  ضد النظام  في أوكرانيا، الذي  ذهب بعيداً جداً عن الشعور بالإفلات من العقاب، على الرغم من الجهود العديدة التي بذلتها موسكو على مدى سنوات عديدة، أن يتخلى عن الحرب ضد مواطنيه في الجنوب والجنوب الشرقي لأوكرانيا، وسياسة التمييز التام ضد الأوكرانيين الناطقين بالروسية، الذين لا يزال هناك أغلبية في هذا البلد، فقد تم ذلك من قبل نظام فلاديمير زيلينسكي،  في انتهاك ليس فقط لاتفاقيات مينسك التي وافق عليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكن أيضًا للمبادئ الأساسية لعمل مجتمع متحضر وفي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك حقوق المواطنة الوطنية.

إن القيمين الغربيين على نظام كييف، الذين وقفوا وراء الانقلاب المناهض للدستور في كييف قبل 10 سنوات، خلال كل هذا الوقت لم يكبحوا جماح قادة زمرة كييف فحسب، بل قاموا أيضًا بهدوء، تحت غطاء حزمة مينسك من التدابير، تسليح أوكرانيا وإعدادها للحرب ضد روسيا، وهذا ما نعرفه اليوم يقيناً من خلال اعترافات الشخصيات التي شاركت بشكل مباشر في ذلك، وصياغة وتوقيع اتفاقيات مينسك، وعرضها على مجلس الأمن الدولي للموافقة عليها.

وفي محاولة لإقناع المعارضين في الكونغرس بالموافقة على حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا، يبدو ممثلو الإدارة الحالية أكثر تشاؤماً، ووفقا لخطاباتهم، على وجه الخصوص، أن 90٪ من الميزانية العسكرية التي خصصها الأمريكيون لنظام كييف، تظل في الولايات المتحدة وتذهب إلى تطوير القطاع الصناعي العسكري في البلاد، وتجديد الأسلحة، يتم التخلص من "الخردة" القديمة في أوكرانيا، وتم بيع معظم المصانع والشركات الأوكرانية الكبيرة، بما في ذلك إنتاج الليثيوم، لنفس الأمريكيين، وتم أيضا تأجير الأراضي الخصبة لهم مقابل إيجار رخيص ودائم، وأحد الأمثلة البارزة هو استلام هياكل جيه سوروس لتربة "تشيرنوزيم"  للتخلص من النفايات من الصناعة الكيميائية الغربية، ويؤكد وزير الخارجية الأمريكي إي. بلينكن، أن استمرار المساعدة لأوكرانيا هو ضمان لخلق فرص عمل جديدة في الولايات المتحدة، وكما يقول الوزير لافروف " وكأننا لا نتحدث عن تمويل حرب أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص في أوكرانيا، بل عن نوع من المشاريع التجارية المربحة".

ربما حان الوقت لكي يستيقظ الأوروبيون ويفهموا أنه بمساعدة نظام فلاديمير زيلينسكي، فإن الولايات المتحدة لا تشن حربًا ضد روسيا فحسب، بل إنها تحل أيضًا المهمة الإستراتيجية المتمثلة في إضعاف روسيا بشكل حاد، وأوروبا كمنافس اقتصادي، فقد قوضت واشنطن أمن الطاقة لديها، مما أثار اتجاهات أزمة خطيرة في الاقتصاد الأوروبي والمجال الاجتماعي، ناهيكم عن موضوع الهجمات الإرهابية على خطوط أنابيب نورد ستريم، حيث تمنع الولايات المتحدة بشدة أي محاولة لإجراء تحقيق دولي نزيه، ويظل الزعماء الأوروبيون الحاليون، وخاصة في ألمانيا، صامتين مطيعين، مستسلمين للإذلال العلني، وفي الوقت نفسه، يواصل غالبية أعضاء الاتحاد الأوروبي الوفاء بطاعة  خمسة أوامر من واشنطن لتزويد كييف بالمزيد والمزيد من دفعات الأسلحة، وإفراغ ترساناتها، والتي، بالطبع، سيتم تجديدها من خلال شراء منتجات من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وسيضطر الأوروبيون إلى إيجاد المال لهذا الغرض.

إن تجار الموت وكما أوضح وزير الخارجية الروسي،  لا يشعرون بالحرج على الإطلاق من أن أسلحتهم، بما في ذلك الذخائر العنقودية وقذائف اليورانيوم المنضب، والتي تضرب أهدافاً مدنية بحتة بشكل منهجي وبلا رحمة ومتعمد، كما كان الحال خلال الهجمات على المناطق السكنية في بيلغورود في 30 ديسمبر/كانون الأول 2023 و الاحد الماضي  21 يناير من هذا العام، في أسواق ومحلات دونيتسك، لتسفك  دماء العشرات من المدنيين القتلى لتلطخ أيدي وضمير أولئك الذين يسلحون نظام V. A. زيلينسكي ويعلنون في الوقت نفسه رسميًا أن سلطات كييف نفسها لها الحق في اختيار أهداف للضربات، وقد وصل هذا الوضع الفاضح إلى أبعاد لم يعد من الممكن السكوت عليها، وحتى الولايات المتحدة كان عليها أن تعترف رسمياً بالمشكلة، ويشير تقرير حديث للبنتاغون، إلى أن الأسلحة المخصصة للقوات المسلحة الأوكرانية قد تسربت بما يزيد عن مليار دولار،  وأربعون ألف قطعة سلاح، بما في ذلك الطائرات بدون طيار وقاذفات القنابل اليدوية، ببساطة "لم يكن لديها الوقت لأخذها في الاعتبار"، حيث لم يتم الاحتفاظ بالمخزونات.

لقد سمعنا أكثر من مرة، ويرددها الغربيون في كل المحافل حتى داخل مجلس الامن، فرضية ماكرة تتلخص في حقيقة مفادها أنه "إذا توقفت روسيا عن القتال، فسوف تنتهي الحرب، وإذا توقفت أوكرانيا عن القتال، فسوف تنتهي أوكرانيا"،  حتى أن أعلى المستويات في الولايات المتحدة، اتفقت على أنه بعد ذلك ستهاجم روسيا بولندا ودول البلطيق وفنلندا، وهي محاولة  كما قال عنها الوزير لافروف،بانها لن تفضي الى شيء سوى  ابتزاز الأموال من الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، وإقناعهم بضرورة الاستمرار باستمرار في مساعدة أوكرانيا على حساب مواطنيها حتى آخر دولار ويورو.

وفي الوقت الذي يطالب الغرب فيه روسيا بوقف العملية العسكرية الخاصة، فهم يفهمون جيدًا أنه إذا حدث هذا فجأة، فإن نظام كييف،  وبعد أن لعق جراحه، وكما أكد الوزير لافروف في كلمته، سيواصل مسار إبادة كل الهوية الثقافية والتاريخية والدينية الروسية، والتي كانت موجودة على هذا الكوكب لعدة قرون، وسيواصل نظام زيلينسكي، الترويج للقومية المتطرفة الكارهة للبشر والغريبة عن غالبية السكان، وتمجيد أولئك الذين دمروا، مع النازيين، مئات الآلاف من اليهود والغجر والروس والبولنديين والأوكرانيين خلال الحرب الثانية.

وزير الخارجية الروسي خاطب الشعب الأوكراني في كلمته باعتبارهم "وقودًا للمدافع"، بالتوقف  عن الموت من أجل المصالح الجيوسياسية الغربية، وكما يقولون، "من أجل القيم الديمقراطية"، فلم تكن هناك مصالح للشعب الأوكراني في الحرب ضد روسيا، ولا يوجد سوى مصالح الأنغلوسكسونيين وأتباعهم والنخبة الإجرامية الفاسدة في كييف، المرتبطة بالغرب بالمسؤولية المتبادلة والتي تخشى أن يتم جرفها في اليوم التالي لنهاية الحرب، وقاموا معًا بتخريب اتفاقيات مينسك وداسوا معًا  على فرصة شهر أبريل 2022، عندما منعت الولايات المتحدة وبريطانيا،  كييف من إبرام معاهدة سلام، لانهم لا يريدون السلام اليوم، على الرغم من أن نظام كييف لم يتمكن من البقاء إلا بفضل المساعدات الغربية.

لقد بدأ غالبية الأوكرانيين يفهمون من هو عدوهم الحقيقي،  ومن كان يخدعهم لسنوات عديدة، ويخيفهم بروسيا، وينشر الأكاذيب حول روسيا  و"يلغي" تاريخ البلدين  المشترك، فالتغييرات في وعي الأوكرانيين أصبحت  واضحة للعيان حتى على الشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من الرقابة الشديدة، بدأت الحقيقة في الظهور حول كيفية عيشهم في شبه جزيرة القرم وغيرها من المناطق التي انضمت مؤخراً إلى روسيا، وعلى النقيض من توقعات مروجي الدعاية في كييف، فإن الروس والأوكرانيين وغيرهم من الجنسيات يعيشون هناك في سلام، والحكومة الجديدة تحل مشاكل الناس وتحسن حياتهم وتطور البنية التحتية ولا تفكر في كيفية ملء جيوبها، وإن التناقض واضح للغاية لدرجة أنه من غير المجدي إنكاره، لذلك يحاولون في أوكرانيا والغرب إسكات هذه المعلومات، وهذه الحقيقة، بأي وسيلة، لأن هذا الأمر بالغ الخطورة بالنسبة لهم، لأنه يوضح كيف يستطيع الروس والأوكرانيون، بل وينبغي لهم، أن يعيشوا في ظروف حيث لا يُسمح للغرب بالتدخل في العلاقات بين شعبين شقيقين، وتأليبهما وفقاً للمنهجية الاستعمارية القديمة.

وفي كلمته في اجتماع المجلس شدد وزير الخارجية الروسي،  على موقف بلاده  واستعداده للمفاوضات، ولكن تلك المفاوضات التي  لا تدور حول كيفية إبقاء قادة نظام كييف في السلطة والانغماس في أوهامهم، بل حول التغلب على إرث النهب المدمر الذي دام عشر سنوات للبلاد، والعنف ضد شعبها، وحول القضاء على أسباب الوضع المأساوي لأوكرانيا، وان جميع الخطط والمنصات و"الصيغ" الأخرى التي يُفترض أنها سلمية، والتي لا يزال نظام كييف وأسياده يديرونها بلا جدوى، لا علاقة لها بالسلام،  ولا تخدم بحسب رأي لافروف،  إلا كغطاء لمواصلة الحرب وضخ الأموال من دافعي الضرائب الغربيين، وعبر لافروف عن اسفه من أن الأمانة العامة للأمم المتحدة، تخاطر بسمعتها من خلال المشاركة في "صيغة كوبنهاغن" السريالية للغاية.

كل هذه "الصيغ" هي طريق إلى اللامكان، وكل ما أسرعت واشنطن ولندن وباريس وبروكسل في إدراك هذه الحقيقة، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لكل من أوكرانيا والغرب، حيث خلقت "الحملة الصليبية" ضد روسيا بالفعل،  مخاطر واضحة على سمعتها ووجودها، ونصح الوزير الروسي الجميع الى الاستماع جيدًا لهذا، بينما لا يزال هناك وقت.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

* أشار بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاردينال لويس ساكو في رسالة  له بمنسبة العام الجديد، إلى ان ما يقارب من المليون ونصف المليون من المسيحيين العراقيين قد هُجر أو هاجر من العراق خلال العشرين عام الماضية.

* سبق ورفضت الحكومة الألمانية 31000 حالة طلب لجوء لعراقيين في النصف الأول من عام 2023  .كما رحّلت أكثر من 250 طالب لجوء، منهم 43 إلى العراق والباقي إلى دول أخرى ،والآن تفكر الحكومة الألمانية بترحيل أكثر من 30 ألف من الذين تم رفض طلبات لجوئهم.

* أما في السويد  فيتم ترحيل المزيد من المواطنين العراقيين قسراً، وفقا لقرارات مصلحة الهجرة السويدية، وهناك 70 شخصا ينتظرون حاليا الإبعاد القسري، وتم بالفعل ترحيل 26 شخصا إلى العراق وهناك المئات غيرهم بالانتظار.

* بلغ عدد العراقيين من طالبي اللجوء الذين دخلوا بريطانيا عبر بحر المانش وباستخدام القوارب ما يقارب 3000 عراقي أي ما يبلغ 9% من المهاجرين إلى الجزر البريطانية، وهم اليوم مهددون وبعد الاستقبال السيئ بقرار حكومة المحافظين بترحيلهم إلى ريف رواندا في أفريقيا.

وهنا يرد السؤال المحير عن السبب الذي يجعل بعض أطراف في السلطة العراقية تمتنع عن دراسة مثل هذا الوضع الخطر والمزري لحال المواطن العراقي، لا بل بعضها يناشد بلدان اللجوء للإبقاء والامتناع عن إعادة المواطن العراقي لوطنه، لا بل هناك إصرار متعمد على الامتناع عن إيجاد حلول لهذه الهجرة الكبيرة التي تستنزف قوى شعبنا العاملة في شتى المجالات ، مع عدم رغبة ظاهرة لتوفير حياة أمنة وعيش كريم يساعد على عودة المهاجرين إلى وطنهم.

على عهد دكتاتورية حزب البعث بدت الهجرة عن العراق واحدة من أبواب الخلاص من الجحيم. فوسائل العنف ضد المناوئين وحتى الحلفاء والتي دشنتها الدكتاتورية بعيد تسلمها السلطة، دفعت بالكثيرين للهروب من العراق حفاظا على حياتهم. أيضا كانت الحروب الداخلية والخارجية سببا منطقيا لهروب آلاف الشباب الذين زج بهم ليكونوا وقودا لمعارك خسروا فيها زهرة شبابهم مثلما ضاعت منهم فرص الحياة العلمية والمهنية، فبات الحال هذا سببا وجيها لترك العراق، يضاف لذلك النتائج المدمرة لتلك الحروب والتي انعكست على حياة الأفراد والعوائل اجتماعيا واقتصاديا، وتمثل هذا بالبطالة الواسعة وبالذات بين أوساط الشباب الذين سرحوا من الجيش دون مصدر رزق، ثم أعقب ذلك الحصار الاقتصادي الذي ضرب في الصميم جميع أبناء الشعب العراقي وحاصرهم بالفقر والجوع باستثناء صدام وزبانيته.

كل تلك الوقائع كانت حافزا للجميع للهروب من الجحيم الذي صنعته الدكتاتورية ومحاولة للوصول إلى بر أمان حتى وإن كان نسبيا ولكنه يحفظ للمرء شيئا من إنسانيته وقبل كل شيء حياته، وحين نذكر كل تلك الأسباب التي دفعت الكثيرين للهروب من العراق لا ننسى قطعا ما قامت به الدكتاتورية من تهجير قسري لأبناء العراق من الكرد الفيلية وغيرهم.

بعد الإطاحة بصدام وحزبه واحتلال العراق عام 2003 كان العراقيون على موعد مع جحيم جديد حيث الانفلات الأمني وبداية الحرب الطائفية والتهجير والقتل على الهوية. فما كان من سبيل للنجاة والإفلات من خانق الموت غير الهجرة بعيدا عن الديار، وقد دفعت الكثير من الأسر العراقية أموالا طائلة لغرض إنقاذ أبنائها من جحيم الصراعات والسلاح المنفلت. لا بل البعض منهم فقد حياته في حومة متاهات التهريب ومحاولات الحصول على ما يضمن الوصول إلى بر الأمان وهو الحلم الذي راود ويراود الجميع.

ولم تكن البطالة والتهميش غير حافز  للعديد من الشباب وبالذات أصحاب المهن والشهادات للتفكير بالهروب من بلدهم الطارد للبحث عن حياة تمنحهم فرصة الحصول على عمل وحياة جديدة تساعد على توظيف مؤهلاتهم الدراسية والمهنية.

ومثلما أصبحت الهجرة مشروعا للكثير من الشباب والعوائل العراقية، نشأت تجارة عراقية للتهريب فاقت بأعداد ممارسيها ومستويات عملها مافيات التهريب المعنية بالبلدان الأخرى مثل أفغانستان والصومال والبوسنة ووسط أفريقيا، وكانت أرباح تلك العصابات تغريها للتمادي في ابتداع العديد من طرق التهريب، دون اهتمام بالمخاطر التي تتعرض له تلك الجموع من البشر، والتي دفعت لهم أموالا كثيرة. وقد تعرضت تلك الحملات وفي العديد منها لمخاطر شتى، راحت جراءها أعداد ليست بالقليلة من العراقيين ضحايا ملأت جثثهم البحار والغابات، وطمرتهم الثلوج والسيول دون أن يتحقق الحلم المرجو. وعبر عمليات الهروب وطلب اللجوء تكدست أعداد مليونية من العراقيين في دول العالم قاد حظ البعض منها نحو جزر نائية في عمق المحيطات لم يكن ليخطر في بال العراقي أن يلتفت لها حتى في خرائط الأطلس المدرسي.

وفق معاهدة جنيف الخاصة بأوضاع اللجوء طرح مفهوم اللاجئ الذي يستحق الرعاية والعون من منظمات غير حكومية، وكذلك من سلطات البلدان التي يلجأ إليها، حيث تشير المعاهدة إلى كون اللاجئ هو من وجد نفسه في بلد أخر غير وطنه نتيجة لتعرضه للاضطهاد بسبب الجنس، القومية، الانتماء الديني أو السياسي على أن يكون ذلك الاضطهاد المعروض من قبل طالب اللجوء مبني أساسا على دلائل ووقائع لا شائبة عليها. واللجوء حسب اتفاقية جنيف يمنح للشخص الذي تتوفر لديه مبررات عن نوع الاضطهاد الذي تعرض أو يتعرض له في بلده، ويجب أن يكون اللاجئ شخصا لا يتمتع بحماية داخل بلده.

ولكون أوضاع العراق في عهد الدكتاتورية وكذلك إثر الانفلات الأمني بعد الاحتلال كانت تؤشر لحالات غير عادية من العنف والقسوة المفرطة ترافقها الظروف الاقتصادية السيئة التي تكتنف أوضاع العوائل العراقية، لذا فقد رعت وضمنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون للاجئين ( HCR ) ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية ( BCAH/ OCHA) وأيضا العديد من دول العالم الحق الطبيعي لطالبي اللجوء من العراقيين وفقا للمواثيق والمعاهدات الدولية، ومنها معاهدة جنيف الخاصة بأوضاع اللاجئين، والتي نصت على مساعدة اللاجئين من البشر الفارين من الاضطهاد والحروب والمجاعات، وحمايتهم ومساعدتهم لإيجاد نمط حياة مستقر وطبيعي عبر تطبيق المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بقوانين اللجوء.

ولكن هذا الحال تغير كثيرا بعد عام 2008 وتدخلت فيه عوامل جديدة ساعدت على تحجيم أعداد القبول لطالبي اللجوء من العراقيين، استنادا لما تفصح عنه بعض الوقائع على الأرض، وكذلك ما تعرضه وتدلل عليه تصريحات أقطاب الحكومة العراقية عن استتاب الأمن ووجود الظروف المناسبة لعودة المهاجرين والمهجرين، وعن قدرة السلطات المحلية على حماية المواطنين وضمان عدم تعرضهم للاضطهاد والمطاردة، أو التهديد نتيجة الاختلاف بالرأي السياسي أو التمييز العرقي والطبقي أو الديني أو القومي وغيرها من الحقوق الإنسانية الخاصة والعامة، ودائما ما عبرت لهجة الكثير من ممثلي السلطة العراقية عن مثل هذه المشاهد، التي تصف الأوضاع في العراق بالتحسن والباعثة على الطمأنينة. وقد ساعدت تلك التصريحات وغيرها على تغيير نمط الأفكار عند بلدان اللجوء حول الأسس والكيفية التي يتم فيها التعامل مع طلبات اللجوء. حيث اتخذت صياغات لقرارات عمل جديدة، تفترض ممارسة نمط جديد من المساعدة،  حيث تقوم بلدان اللجوء بأعمال مسؤولة داخل الوطن الأم للمهاجر، ويتضمن هذا الحل حزمة من الأعمال تساعد على إعادة التوطين والتأهيل في بلدانهم دون الحاجة لقبول طلبات لجوئهم، وتمثل ذلك بالاعتماد على مكتب تنسيق للشؤون الإنسانية وأيضا مساعدة منظمات وحركات المجتمع المدني غير الحكومية، عبر تقييم الحاجات ودعم المعالجات الإنسانية داخل بلدان طالبي اللجوء، ومحاولات إيجاد فرص عمل هناك وبذل الجهود لأجل استتاب الأمن وتوفيره وإرساء السلم الاجتماعي.ورغم التصريحات المشجعة للسلطات العراقية فإن الدراسات المقدمة لدول اللجوء عن الأوضاع الحقيقية وعلى ارض الواقع، ما كانت تشجع على مشاركة مؤسساتها وهيئاتها في مشاريع وأعمال داخل العراق لصالح العائدين من طالبي اللجوء أو المهاجرين. فالصورة المنقولة عن الداخل العراقي تشير لمشاكل معقدة وغير عادية في مقدمتها الوضع الأمني غير المستقر والنزاعات المجتمعية والسلاح المنفلت وتفشي البطالة.

وفق ما تقدم يجب أن تتعرف سلطات ودوائر الهجرة في دول الاتحاد الأوربي على حاجة طالب اللجوء وبيان حقيقة تمتعه بفرصة البقاء كلاجئ، على اثر تقديمه لما يظهر حقه في اللجوء وتامين الحماية له من الاضطهاد والعقوبات القاسية أو تعرضه للتهديد والقتل أو فقدان حريته الشخصية أو مصادر العيش. وعند نقطة إثبات مثل هذه المتعلقات بشخص طالب اللجوء يكمن الالتباس والتفسير الخاطئ من قبل بعض المسؤولين العراقيين لبنود معاهدة جنيف وما أشارت له اتفاقيات الأمم المتحدة ومعاهدة دبلن، وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حول طالب اللجوء وحاجته للحماية. فالمادة رابعا من الفقرة الثانية من مذكرة التفاهم العراقية السويدية التي عقدت على عهد زيارة السيد المالكي للسويد في شهر أيار من عام 2008 ،  منحت الحق للسلطات السويدية بتفسيرها وفق شروط معاهدة جنيف وإعادة طالب اللجوء العراقي الذي ليس لديه مبرر وأدلة يرتكن إليها للبقاء كلاجئ، ليمنح الإقامة في السويد، على أن تتم عودته لوطنه وفق الخيار الطوعي ولكن المادة الرابعة أشارت أيضا لحق السلطات السويدية إجبار طالب اللجوء على المغادرة كخيار أخير إن امتنع عن المغادرة.

الغريب إن البعض ممن يمارس السلطة في العراق ويشارك في إدارة الدولة يصر على استخدام لغة بعيدة كل البعد عن الصيغ المهنية والقانونية، ويحاول من خلال إطلاق التصريحات مغازلة الشارع العراقي الذي يعتري الكثير من عوائله القلق على أبنائها من المهاجرين. فنجد هناك من يرفع صوته مطالبا الدول الغربية من بلدان اللجوء بالامتناع عن ترحيل طالبي اللجوء من العراقيين، ومنحهم الإقامة حتى وإن خلت جعبتهم من مبرر معقول لبقائهم، وهؤلاء المسؤولون في تصريحاتهم ونداءاتهم يبدون إما غير مطلعين على فحوى مذكرات التفاهم العراقية مع بعض دول اللجوء ومثلها المعاهدات الدولية المعنية بقضايا اللجوء، أو هم في خضم المزايدات السياسية يحشرون أنفسهم في شأن لا يعرفون فحواه لأغراض انتخابية أو حزبية. وفي تقولاتهم تلك إنما يضعون الناس في حيرة من الأمر لذا يطرح التساؤل عن السبب الحقيقي الذي يدفع مسؤولين كبار للمطالبة بإبقاء أبناء بلدهم كلاجئين في بلدان أخرى .

من الجائز القول إن بعض البلدان الفقيرة أو ذوات الدخل المحدود والتي تعتمد كثيرا في اقتصادياتها الداخلية على ما يرد إليها من عائدات يقوم بإرسالها أبنائها من المهاجرين وأيضا تحاول من خلال تشجيع الهجرة التقليل من الزيادة السكانية الانفجارية ولخفض معدلات البطالة، ولكن حال العراق غير ذلك على الإطلاق، فهو بلد غني وربما إيراداته السنوية تغطي ميزانية بلدين من مثل السويد وهولندا، ولذا فالعجب العجاب وبدلا من أن تقوم الحكومة العراقية بتأمين عودة كريمة لأبنائها من المهاجرين والمهجرين،وإيجاد فرص عمل لهم والاستفادة من ملكاتهم، تقوم بالطلب من دول اللجوء بإبقائهم لديها  وعدم إرجاعهم إلى العراق، وهذا الشيء يدفع لإثارة الشكوك حول نوايا مثل تلك المساعي الذاهبة نحو تصعيد الهجرة والتهجير، وهل إن القصد من حث الحكومات الغربية على قبول طلبات لجوء العراقيين يختص بشريحة أو قومية أو مكون ديني محدد يراد له عدم العودة أو إبعاده كليا عن وطنه، وهناك مافيات تريد الإبقاء على هؤلاء خارج الوطن للاستحواذ على ممتلكاتهم وتركاتهم، أو هناك من يريد زرع ولو نطفة صغيرة له في بلدان أوربا ضمانا لمستقبل، مثلما حال البعض من قادة العراق اليوم.

***

فرات المحسن

 

الحرب المعممة على كل الشعب الفلسطيني وخصوصاً جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وصمود الشعب وما يعانيه القطاع من أوضاع مأساوية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، وصمود المقاتلين التي أثبتت أن الكيان الصهيوني ما كان له أن يستمر دون دعم وحماية واشنطن والغرب... كل ذلك يبرر أية كتابة أو حديث عن عظمة الشعب وصموده وعن الإجرام الصهيوني بل يعتبر الحديث والكتابة بهذه القضايا واجب وطني وقومي وإسلامي وأممي حتى وان كان ذلك في سياق أضعف الإيمان.

لكن في نفس الوقت وحتى لا تجرفنا العواطف بعيدا ونترك للآخرين تحديد مستقبل قضيتنا الوطنية ومستقبل قطاع غزة ويمرروا علينا مفاهيم ومصطلحات وتصورات لوقف العدوان ومستقبل غزة  تشتت انتباهنا وتعيشنا في حالة تيه وفقدان البوصلة، يجب التعالي على الجراح وكبح العواطف وإعمال العقل في كل ما يجري وتطبيق (فقه الأولويات)، وفي الحالة الراهنة فإن الأولوية هي كيفية وقف العدوان وإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة شعباً وأرضاً وإفشال مخطط التهجير، دون أن يكون في ذلك أي مساس بشرعية المقاومة أو تراجعا عن الأهداف الوطنية الاستراتيجية كتحرير فلسطين  وتحرير كامل الأسرى في سجون الاحتلال ووقف الاستيطان وما يتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات، فهذه أمور يمكنها التأجيل في هذه المرحلة، ووقف العدوان وتثبيت الشعب على الأرض وتعزيز صموده يبقي القضية الوطنية حية ويفتح آفاقا لتسوية سياسية عادلة توظف حالة التفاعل الإيجابي الدولي مع فلسطين .

كثير من التغطية الإعلامية العربية وكتابات المحللين السياسيين وخصوصاً خارج قطاع غزة يغلب عليها الخطاب العاطفي والانفعالي دون طرح رؤية عقلانية واقعية لكيفية وقف العدوان ومرحلة ما بعده، بل يعتبر البعض أن الحديث في هذه الأمور الآن يعتبر خذلانا للمقاومة وتشكيكا بقدرتها على الانتصار وحسم المعركة لصالحها! حتى الطبقة السياسية في المنظمة فهي وإن كانت تدين العدوان وتطالب بوقفه وترفض التعاطي مع الموقف الأمريكي إلا أنها تفتقر لرؤية عملية لمرحلة ما بعد الحرب ومترددة ومتخوفة من تحمل مسؤولية القطاع وحدها دون توافق عربي ودولي وموافقة حركة حماس التي ما تزال تسيطر على أجزاء مق القطاع،  أيضا القيادة السياسية لحركة حماس في قطر تقوم بدور الوسيط وتقدم مقترحات لصفقات هدنة ولكن القرار النهائي يبقى في يد الجناح العسكري في غزة، وفي جميع الحالات لا توجد رؤية أو موقف وطني مشترك ولا يسأل أحد الشعب الفلسطيني في غزة عن رأيه سواء في مجريات الحرب أو ما بعدها، وفي كل مقترحات وقف العدوان لا أحد يأخذ في الاعتبار أو يحسب حساب عشرات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى وما تعرض له القطاع من تدمير شامل! 

 أكثر من مائة يوم مرت على الحرب العدوانية ولا يبدو في الأفق نهاية لها ولا أخد يعرف ماذا يريد نتنياهو، حتى التوصل لصفقات تبادل أسرى لا يعني نهاية الحرب التي يريد نتنياهو أن تطول الى حين تنفيذ ما يخطط له. وقد سبق أن كتبنا بأن هذه مجرد جولة من حرب ممتدة منذ 1948 ولم يقطعها إلا سنوات معدودة ( 1994-2000) بعد توقيع اتفاق أوسلو سادت فيها حالة ألا حرب وألا سلم، وبالتالي حتى لو أعلن العدو وقف إطلاق النار ووقف الحرب على غزة فالحرب والصراع سيستمران بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة والضفة والقدس وخارجهما بل سيشتد أوزار الحرب والصراع بعد ما جرى في غزة لأن ما جرى أضفى على الصراع  بعداً دينياً وثقافياً واجتماعياً وولد أحقاداً لن تزول قريباً.

بعد أكثر من مائة يوم لا يستطيع الكيان اليهودي الصهيوني الزعم أنه انتصر ولا تستطيع حركة حماس وفصائل المقاومة القول بأنها انتصرت، والنصر هنا بمعني تحقيق الأهداف الاستراتيجية لكل منهما وهي أهداف مبهمة عند كليهما، وهناك فرق بين الانتصار في جولة أو معركة في الحرب والانتصار بمعنى إخضاع الطرف الثاني واستسلامه.

يمكن للعدو أن يتحدث عن إنجازات حققها كتدميره 80% من المساكن وتخريب البنية التحتية والمدارس والمستشفيات وقتل حوالي 25 ألف و8 آلاف مفقود و60 ألف جريح فلسطيني وإضعاف القدرات العسكرية لحماس وتجويع الشعب الخ، ولكنه لا يستطيع الزعم بأنه حقق أهدافه التي أعلنها في بداية هذه الجولة من الحرب، اطلاق سراح أسراه عند حماس وإضعاف قدراتها العسكرية والقضاء على قياداتها وفي اعتقادنا أنها أهداف دعائية ولإرضاء الشارع اليهودي المتعطش للانتقام وهناك أهداف غير معلنة، حنى وإن حقق الأهداف المعلنة فهذا لا يعني أنه انتصر على الشعب الفلسطيني بالمفهوم الاستراتيجي للانتصار،  لأن حماس ليست وحدها المقاومة وليست الشعب الفلسطيني وإن كانت جزءاً من كليهما، وهذه الإنجازات المزعومة لا تساوي شيئاً أمام الإهانة التي تعرض لها الكيان على يد المقاومين واهتزاز صورته أمام العالم وانكشافه ككيان إرهابي يمارس الإبادة الجماعية ضد شعب فلسطين ،وبالتالي فقدان التميز الذي كانت إسرائيل تخدع به العالم بأنها دولة ديمقراطية تسعى للسلام وأن اليهود وحدهم تعرضوا  للهلوكوست، وخصوصاً أن محكمة العدل الدولية تسعى لاتهام إسرائيل بممارسة (الإبادة الجماعية).

 أيضاً يمكن لحركة حماس أن تتحدث عن إنجازات كاقتحامها الحدود في السابع من أكتوبر وقتلها واختطافها لعشرات الجنود والمدنيين وصمودها في الحرب لمائة يوم وإيقاعها الخسائر في صفوف العدو وأنها استطاعت تحريك الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية ... ولكن حتى لو تمكنت من إطلاق سراح أسرى من سجون الاحتلال فإن أي حديث لها عن الانتصار بعد الحرب سيكون بعيداً عن الواقع.

إنها حرب غامضة في الأهداف وغير معروفة نتائجها لأن هناك كثيراً من التساؤلات حول ما جرى يوم السابع من أكتوبر، سواء فيما يتعلق بهدف حماس من اقتحام غلاف غزة، هل هو تحرير أسرى أو وقف العدوان في القدس والضفة أو أن العملية خطوة نحو تحرير فلسطين؟ أم أن ما جرى يوم 7 أكتوبر خرج عن كل التوقعات وفلتت الأمور من يد حماس، أم أن هناك ما هو خفي وستكشفه الأيام؟ ... أيضا هناك غموض والتباس في  هدف الكيان الصهيوني من إعلان الحرب بل أيضاً هناك شكوكاً حول دور لنتنياهو فيما جرى في السابع من أكتوبر، فإن كان هدف الكيان  القضاء على قيادة حماس فهذه موجودة في قطر ويستطيع استهدافها كما استهدف العاروري في لبنان أو خطف الطائرة التي يستعملونها في تنقلاتهم الدائمة بين الدوحة والقاهرة وله سوابق في ذلك، وإن كان هدفه تحرير أسراه فإن قصفه العشوائي يفند ذلك حيث لا يعير اهتماماً لهم ومستعد للتضحية بهم من أجل أهداف استراتيجية أكبر، أم يهدف لفصل الشمال عن الجنوب ودفع الناس تحت القضف للهجرة لجنوب القطاع تمهيدا لترحيلهم لسيناء، وهناك تصريحات لقادة صهاينة عن تهجيرهم لسيناء أو لقبرص والتواصل مع دول عدة لاستيعاب أهالي غزة كما أن مخطط دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء مطروح منذ سنوات عند المخططين الاستراتيجيين الإسرائيليين وسبق أن تحدث عنه مستشار أمني إسرائيلي كبير وهو أيغورا أيلاند؟ أم يهدف نتنياهو لإقامة منطقة أمنية عازلة يكون كل شمال قطاع غزة بما فيه مدينة غزة جزءا منه؟  كل ذلك يزيد المشهد تعقيداً. 

للأسف عندما تكتب أو تتحدث بعقلانية وواقعية بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات والعواطف الجياشة والحسابات الحزبية الضيقة ستجد كثيرين يقدرون ما تكتب ويتقبلون الانتقادات، ولكن في نفس الوقت ستفتح على نفسك نار جهنم من بعض مكونات الطبقة السياسية بكل أطيافها في غزة والضفة عندما تكشف ضعفهم وحالة التيه التي يعيشونها وغياب الرؤية واستغلالهم جميعا معاناة الشعب في القطاع لمحاولة الحفاظ على مصالحهم السلطوية وزعم كل منهم أنه يمثل الشعب والأحق بحكم غزة بعد الحرب، ونكرر ما سبق أن كتبناه قبل أشهر (هل تستحق سلطة في غزة كل ما جرى) وما نخشاه في هذا السياق أن يكون كيان غزة هو دولة حل الدولتين وصراع فلسطيني داخلي على من يحكمها .

***

د. ابراهيم ابراش

بقلم: مايكل باسكو

ترجمة: عباس علي مراد

The outrage over Gaza killings but we do it, too

Michael Pascoe, The new Daily, Jan 19, 2024

***

ليس من المستغرب أن تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوفياء، أستراليا والمملكة المتحدة، صامتين إلى حد ما في احتجاجاتهم على مقتل المدنيين في غزة، حيث ان احتجاجاتهم تقتصر على دعوات ليست أكثر من "هل يمكنكم أن تهدأوا قليلاً وحاولوا ألا تقتلوا العديد من الأطفال، من فضلكم، هل من الممكن ان يكون هناك وقف لإطلاق النار لبعض الوقت".

سبب عدم وجود المفاجأة بما يحصل إلى أننا نفعل ذلك أيضاً: نقتل الأطفال، ونفجر المستشفيات، ونقصف المناطق المدنية، ونقطع المساعدات والإمدادات الطبية.

إن الاحتجاجات القوية الآن، بدلاً من المرافعات الناعمة، من شأنها أن تؤدي إلى اتهامات بالنفاق من جانب الحكومة الإسرائيلية الأصولية.

عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قال نفس الشيء بالفعل: "سوف تتعامل إسرائيل مع هذه الدولة (غزة) بنفس الطريقة التي عاملتم بها اليابان عندما هاجمتكم في بيرل هاربور، وبنفس الطريقة التي عامل بها الحلفاء ألمانيا في الحرب العالمية الثانية".

دريسدن، طوكيو، هيروشيما، ناغازاكي وغيرها.. فقد تم ذبح مئات الآلاف من النساء والأطفال وإحراقهم وتعريضهم للإشعاع بشكل مروع، لكن ليس علينا  العودة إلى ذلك الحد للحصول على أمثلة، أو إلى القصف الشامل لمساحات واسعة من الهند الصينية.

حرب العراق

لقد فعلنا ذلك في حرب العراق غير الشرعية التي شنها بوش/ بلير/ هوارد، ولا نريد أن نحقق فيها، ولماذا شنت تلك الحرب.

هناك جملة بقيت عالقة في ذاكرتي قالها ضابط مدفعية أمريكي حيث يعترف ببعض القلق بشأن الجهة التي قد تصيبها القذائف التي كان يطلقها على بغداد، في خضم التقارير الصحافية التشجيعية العامة للصحفيين المرافقين لقوات الغزو تلك.

كانت معركة الفلوجة ذات شبه كبير بما يحدث الآن في غزة، هذه المعركة التي أدارها إلى حد كبير لواء أسترالي قائد عمليات القوة المتعددة الجنسيات، الذي انتخب نائباً لاحقاً السيناتور جيم مولان.

وبعد وفاة السيناتور مولان العام الماضي، أعاد الصحافي جون مينادو نشر مقال "لآلئ ومضايقات" من عام 2018، والذي كان مهتمًا في المقام الأول بالفشل العام لتغطية وسائل الإعلام الأسترالية في الشرق  الأوسط وخاصة دور مؤسسة (نيوز كورب) التي لم تعتذر أبدًا عن أخطائها الفادحة ولوبخجل كما كتب الصحافي مينادو.

"في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام الاسترالية الرئيسية نائمة أوتغض الطرف عمداً بتشجيع من العلاقات العامة لقوات الدفاع الأسترالية حول ما كان يحدث في العراق والفلوجة، كانت وسائل الإعلام الخارجية تنشر تقارير على نطاق واسع.

في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2004، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن "الكهرباء والمياه انقطعت عن المدينة مع بدء موجة جديدة من الضربات والغارات ليلة الخميس، وهو الإجراء الذي اتخذته القوات الأمريكية أيضًا في بداية الهجمات على النجف وسامراء".

كما مُنع الصليب الأحمر ووكالات الإغاثة الأخرى من الوصول لتقديم أبسط المساعدات الإنسانية  كالماء والغذاء والإمدادات الطبية الطارئة للسكان المدنيين.

في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة نيويورك تايمز في صفحتها الأولى تقرير مفصل كيف بدأت الحملة البرية للتحالف من خلال الاستيلاء على المستشفى الوحيد في الفلوجة: "تم نقل المرضى والعاملين في المستشفى من الغرف بواسطة جنود مسلحين وأمروهم بالجلوس أو الاستلقاء على الأرض وتم تقييد أيديهم خلف ظهورهم من قبل العسكريين".

وكشف التقرير أيضًا عن الدافع وراء مهاجمة المستشفى: "لقد أدى الهجوم أيضًا إلى إيقاف ما قال الضباط إنه سلاح دعائي للمسلحين: وهو ان مستشفى الفلوجة العام يقدم سيلاً من التقارير عن سقوط ضحايا من المدنيين". ولم تكتفي القوات المهاجمة بذلك بل قامت بقصف وتدميرالعيادتان الطبيتان في المدينة.

الفوسفور الأبيض

في افتتاحية نوفمبر/تشرين الثاني 2005 استنكرت نيويورك تايمز استخدام الفوسفور الأبيض، ووصفت الصحيفة  تاثير الفوسفور الأبيض وكيف يطلق: "معبأ في قذيفة مدفعية، تنفجر فوق ساحة المعركة في وهج أبيض يمكن أن يضيء مواقع العدو. كما أنها تمطر كرات من المواد الكيميائية المشتعلة، التي تلتصق بأي شيء تلمسه وتحترق حتى ينقطع إمدادها بالأكسجين. ويمكن أن تحترق لساعات داخل جسم الإنسان".

عندما استخدم صدام حسين الفوسفور ضد الأكراد، استنكرت مؤسسة نيوز كورب الأعلامية الهجوم وأعلنت عن غضبها لكنها التزمت الصمت عندما استخدمته الولايات المتحدة في الفلوجة.

في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2004، إلى جانب تقارير صحيفة نيويورك تايمز التي تفيد بأن المستشفى الرئيسي في الفلوجة قد تعرض للهجوم، أشارت مجلة ذي نيشن إلى "تقارير تفيد بأن القوات المسلحة الأمريكية قتلت عشرات المرضى في هجوم على مركز صحي في الفلوجة وحرمت المدنيين من الرعاية الطبية والغذاء والماء".

في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية ما يلي: "بدون الماء والكهرباء، نشعر بأننا معزولون تماماً عن العالم الخارجي... هناك قتلى من النساء والأطفال جثثهم ملقاة في الشوارع. أصبح الناس هزلاء بسبب الجوع. ويموت الكثيرون متأثرين بجراحهم لأنه لم يعد هناك أي مساعدة طبية في المدينة على الإطلاق.

في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، ذكرت صحيفة الغارديان أن "الظروف المروعة لأولئك الذين بقوا في المدينة بدأت في الظهور خلال الـ 24 ساعة الماضية حيث أصبح من الواضح أن ادعاءات الجيش الأمريكي بشأن الاستهداف "الدقيق" لمواقع المتمردين كانت كاذبة ... لقد ظلت المدينة بدون كهرباء أو ماء لعدة أيام".

وفي تقرير آخر تدعمه صور بي بي سي في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 وهو أن قوات التحالف منعت توزيع إمدادات المساعدات على المدنيين.

وأشارت صحيفة الإندبندنت إلى فيلم وثائقي إيطالي يزعم أن مدنيين عراقيين، بينهم نساء وأطفال، لقوا حتفهم متأثرين بحروق ناجمة عن الفوسفور الأبيض أثناء الهجوم على الفلوجة.

في الفلوجة تمكن معظم السكان المدنيين، وليس كلهم، من الفرار من المدينة قبل الهجوم. وعلى عكس سكان غزة، حيث لا مكان لديهم يهربون إليه.

في النهاية لا يوجد نصر

كانت النتيجة النهائية أن تحالف بوش/ بلير/ هوارد "تحالف الراغبين" دمر الفلوجة، لكن ذلك لم يحقق نصراً ولم تقضي على المتمردين، حيث كتب أحد مراسلي الغارديان أنها ببساطة نشرت المقاتلين في جميع أنحاء البلاد وزادت من فرصة نشوب حرب أهلية في العراق لأن التحالف استخدم الحرس الوطني الجديد من الشيعة لقمع السنة.

هناك تشابه مذهل بين بعض تكتيكاتنا في الفلوجة وما يحدث في غزة. لا عجب أننا لا نقول أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب. من السهل إدانة الهجمات العسكرية والإرهابية التي شنتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لأنها تختلف عن مشاريعنا العسكرية. والأطفال الذين قُتلوا بطريقة أو بأخرى هم أموات واموات فقط، وتستمر دورة الموت.

ليس لدى أستراليا أي تأثير على حكومة نتنياهو أو حماس. لكن من المشكوك فيه مدى تأثيرنا على حكومتنا عندما يتمكن رئيس الوزراء من إرسال أستراليين ليَقتُلوا ويُقتَلوا بناءً على مكالمة هاتفية رئاسية (عادة يبلغ الرئيس الاميركي رئيس الوزراء الاسترالي بمكالمة هاتفية  بطلب ارسال قوات الى مناطق النزاع،المترجم) ومعلومات استخباراتية مزورة وإحاطة شفهية لمجلس الوزراء، ومنذ ذلك الحين ولم يكن لدى أي حكومة أي مصلحة لوضع حد لهذه التصرفات الحمقاء.

لجنة تحقيق ملكية؟

ختم جون مينادو مقالته بالإشارة إلى أن توني أبوت (رئيس وزراء اسبق من حزب الاحرار) أنشأ لجنة تحقيق ملكية لملاحقة كيفن رود(رئيس وزراء سابق من حزب العمال) بشأن الخفافيش الوردية ( حادثة قُتل فيها أربعة رجال أثناء تركيب عوازل حرارية على أسطح المنازل في عهد حكومة راد).

وتساءل مينادو: "ماذا  نحتاج أكثر من ذلك لتشكيل لجنة تحقيق ملكية لفحص غزونا للعراق على أساس معلومات كاذبة؟"

ويضيف "يجب على تلك اللجنة الملكية أيضاً أن تحقق في أداء وسائل إعلامنا في تغطية الأحداث التي أدت إلى إرسال قواتنا والكوارث اللاحقة التي تلت ذلك في العراق، بما في ذلك الفلوجة".

إن عمل المراسلين الحربيين في فيتنام، ونقل رعب الحرب الفيتنامية وعدم جدواها إلى صالونات البيوت الأمريكية والأسترالية، ساعد في إنهاء تلك الحرب.

لا يبدو أن رؤية رعب السابع من أكتوبر وغزة حتى الآن قد أنهت هذه الحرب، بل أدت فقط إلى مقتل عدد كبير للغاية من الصحفيين.

أخيراً، فنحن لسنا على استعداد للنظر بما فعلناه بأنفسنا ومن المسؤول عنه..

***

مقدمة: حظيت قضية التحرش في السياسة باهتمام كبير في السنوات الأخيرة، حيث كشفت العديد من الحوادث البارزة عن الواقع المزعج الموجود داخل المجال السياسي. يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الموضوع من خلال مناقشة أمثلة مختلفة لسياسيين تعرضوا للتحرش، وتسليط الضوء على الانعكاسات السلبية على الحياة الشخصية والخطاب العام والأنظمة الديمقراطية.

1. جلسات الاستماع لتأكيد أنيتا هيل وكلارنس توماس:

أحد أشهر الأمثلة على التحرش في السياسة حدث خلال جلسات استماع كلارنس توماس في عام 1991. أدلت أنيتا هيل، أستاذة القانون، بشهادتها حول تجاربها مع التحرش الجنسي على يد توماس. سلطت هذه القضية الضوء على غياب المساءلة والبيئة السامة التي يعمل فيها بعض السياسيين.

2. سارة بالين وكراهية النساء على الإنترنت:

أثناء ترشحها لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري في عام 2008، واجهت سارة بالين وابلا من المضايقات عبر الإنترنت، والتي غالبا ما كانت تستهدف جنسها. أظهر حجم الهجمات استمرار الهياكل الأبوية داخل السياسة وآثارها الضارة على الخطاب العام.

3. نظرية المؤامرة "بيتزاغيت":

وفي عام 2016، استهدف انتشار نظرية المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة والمعروفة باسم " بيتزاغيت " السياسيين الديمقراطيين وأدى إلى مضايقات شديدة. زعمت النظرية أن مطعم بيتزا في واشنطن العاصمة متورط في الاتجار بالأطفال. سلطت هذه الحادثة الضوء على مخاطر المعلومات المضللة واحتمالية أن تنبع المضايقات من نظريات المؤامرة السياسية.

4. إلهان عمر والإساءات العنصرية:

وتواجه النائبة إلهان عمر، وهي واحدة من أوائل النساء المسلمات المنتخبات لعضوية الكونغرس، إساءة عنصرية مستمرة منذ توليها منصبها. وتوضح تجربتها التحديات التي يواجهها السياسيون من الأقليات والحاجة الملحة لمعالجة التعصب في السياسة.

5. كارولين كريادو بيريز والتهديدات عبر الإنترنت:

واجهت كارولين كريادو بيريز، وهي صحفية وناشطة بريطانية، حملة مضايقة لا هوادة فيها عبر الإنترنت بعد نجاحها في الحملة من أجل تمثيل المرأة على الأوراق النقدية. وقد سلطت هذه الحادثة الضوء على ضعف الأفراد الذين يتحدون الأعراف الراسخة في السياسة ومخاطر عدم الكشف عن هويتهم على الإنترنت.

6. أنتوني وينر وفضيحة الرسائل النصية:

في عام 2011، واجه أنتوني وينر، عضو الكونجرس الأمريكي السابق، تدقيقا ومضايقات مكثفة بعد تسريب صور صريحة أرسلها إلى النساء عبر الإنترنت. تجسد هذه الحالة العواقب الشخصية المترتبة على انخراط السياسيين في سلوك غير لائق واحتمال التعرض للمضايقات.

7. شريط "امسكها من...":

خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، أدى إصدار تسجيل أدلى فيه المرشح آنذاك دونالد ترامب بتعليقات مهينة حول النساء إلى إدانة واسعة النطاق. سلط الحادث الضوء على قضية التحيز الجنسي داخل السياسة وتأثيرها المحتمل على السياسيين الأفراد.

8. ماريا بيلي وجدل مطالبات التأمين:

في عام 2019، واجهت السياسية الأيرلندية ماريا بيلي رد فعل عنيفا ومضايقات عامة كبيرة بعد أن تبين أنها رفعت دعوى إصابة شخصية بعد سقوطها من أرجوحة في أحد الفنادق. سلطت هذه القضية الضوء على العواقب المحتملة للسياسيين الذين ينخرطون في سلوك غير أخلاقي والتدقيق الذي يواجهونه من قبل الجمهور.

9. كامالا هاريس والهجمات ذات الدوافع العنصرية:

باعتبارها أول امرأة من أصول جنوب آسيوية وإفريقية تتولى منصب نائب رئيس الولايات المتحدة، تعرضت كامالا هاريس للإهانات العنصرية ونظريات المؤامرة. يوضح هذا المثال استمرار العنصرية في السياسة وتأثيرها على السياسيين من الأقليات.

10. مارجوري تايلور جرين ونظريات المؤامرة:

واجهت مارجوري تايلور جرين، عضوة الكونجرس الأمريكي، انتقادات ومضايقات لترويجها لنظريات المؤامرة، بما في ذلك تلك المتعلقة بهجمات 11 أيلول وإطلاق النار في المدارس. وتسلط قضيتها الضوء على التأثير المدمر للمعتقدات الهامشية على المشهد السياسي وضرورة الخطاب المسؤول.

خاتمة:

توضح الأمثلة العديدة المقدمة هنا مدى انتشار التحرش داخل السياسة. إن مثل هذه الحوادث لا تلحق الضرر بالسياسيين الأفراد فحسب، بل تؤدي أيضا إلى تآكل ثقة الجمهور، وإعاقة التقدم، وإعاقة الخطاب الديمقراطي الصحي. ومن الأهمية بمكان أن تعمل المجتمعات ككل بنشاط على خلق بيئات سياسية شاملة وداعمة تمكن الأفراد من المشاركة في الخدمة العامة دون خوف من المضايقات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

في سبعينيات القرن المنصرم، احتدم الجدل في العديد من البلدان العربية، أيهما له الأسبقية، القومية ورديفاتها الإثنية والعرقية، حسب الاستخدامات الأوروبية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، أم الطبقية ورديفاتها الأممية والبروليتارية؟ والنقاش يقوم على أساس المنافسة السياسية، ومحاولة كلّ فريق الترويج لعقيدته وأيديولوجيته وحزبويته.

القوميون اعتبروا أن القومية هي الأساس، وهي الهويّة الجامعة لأبناء الأمّة، وهي رابطة وجدانية طبيعية، لكنهم بالتطبيق العملي، وحين وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية، حولوا شعارات القومية العربية أو "العروبة" إلى أيديولوجيا شمولية استعلائية للأنظمة الإستبدادية.

أما الماركسيون والشيوعيون الكلاسيكيون، اعتبروا الأممية أسمى وأرفع منزلة إنسانيًا، وهي تتجاوز ما هو محلي وقومي إلى ما هو كوني وشامل، لدرجة أنهم نظروا إلى القوميات والهويّات الفرعية باعتبارها تعبيرًا للبرجوازية وامتدادًا للنظرة الأوروبية، ولم يتوقفوا عند الانتماء الطبيعي والوجداني لها، بل ازدروا في الكثير من الأحيان مثل تلك الانتماءات، وبأحسن الأحوال أسبغوا عليها وصف البرجوازية الصغيرة، وعدم التشبّع بالنزعة الأممية.

والجدير بالذكر أنني وجدت في علاقاتي  مع الكثير من الماركسيين واليساريين في الغرب والشرق، أنهم يقدّمون ما هو وطني وقومي على ما سواه، دون أن يعني ذلك التحلّل من انتماءاتهم الأممية، وهو على عكس نهج الماركسيين والشيوعيين العرب، الذين قدّموا المصلحة الأممية على حساب ما هو وطني وقومي.

وعلى الرغم من أن الصراع بين القومية والأممية خفت إلى حدود كبيرة، إلّا أن آثاره المعقّدة ما تزال مستمرة، وتُستخدم أحيانًا للتنابز السياسي، ليس فقط في المشاريع السياسية والبرامج الحزبية، بل على الصعيد الأكاديمي، وفي دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية.

الأيديولوجيات القومية تشدّد على التماثل الثقافي، بل وترسم الحدود في مواجهة الآخر ممّن يُصبح خارجًا عليها، ويشير مصطلح "العرقية" إلى العلاقة بين الجماعات ممّن يعتبر أعضاؤها أنفسهم مميّزين على أساس الانتماء القومي، اللغة والمشتركات التاريخية، في حين أن أدبيات علم الاجتماع تُعرّف الطبقية وفقًا لمفهومين؛ الأول – اشتقاقًا من كارل ماركس؛ والثاني – من ماكس فيبر، وإن كان هناك تداخلًا بينهما أحيانًا.

وفي الوقت الذي يركّز تعريف ماركس على الجوانب الاقتصادية وعلاقة الطبقة الاجتماعية بالعملية الانتاجية، ولاسيّما في المجتمعات الرأسمالية، إذْ يعتبر أن البرجوازية هي التي تمتلك وسائل الانتاج (المصانع والمعامل...إلخ)، في حين، أن الطبقة العاملة (البروليتاريا) تملك قوّة العمل، التي تبيعها إلى البرجوازية من أجل لُقمة العيش، وثمة فئات أخرى يتراوح موقعها بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين. وهكذا ينشأ الصراع الطبقي في فكرة مبسّطة عن العلاقات الاجتماعية، استقاها ماركس من صعود الثورة الصناعية في أوروبا، والتطوّر الكبير الذي حصل في هذا الميدان.

أما ماكس فيبر، فإنه ينظر إلى الطبقات الاجتماعية في إطار تراتبية، تجمع عددًا من المعايير، من ضمنها مستوى التعليم، الدخل والمشاركة السياسية. وهذه تقود إلى أنساق من التراتب الاجتماعي وتوزيع القوّة، ولاسيّما في ظلّ التفتت الحاصل في موقع كلّ فئة من السلّم الاجتماعي، والأمر ينسحب على العرقيات أيضًا، حيث تجري الإشارة إلى الثقافة المنسوبة واختلافاتها الموروثة.

ثمة تماثل أحيانًا يحدث بين الأشخاص الذي يتحدّرون من جماعات إثنية محددة، وبين موقعهم الطبقي والاجتماعي، وذلك بالتداخل، الذي يُضفي على العلاقات الطبقية بُعدًا إثنيًا، وتكون المراتبية هنا معيارًا للقومية وللطبقية، بحيث يمكن للانتماء العرقي أن يكون عاملًا مهمًا في الموقع الطبقي.

لم تكن مصطلحات مثل "العرقية" و"الإثنية" و"القومية" متداولةً كثيرًا في الدراسات الاجتماعية الماركسية، وعلى العكس، كان محلّها مصطلحات مثل "البناء الفوقي" و"البناء التحتي" و"الصراع الطبقي" و"الأممية البروليتارية" و"التضامن الأممي"، ولكن هذه التعبيرات بدأت تنحسر في الدراسات الماركسية في أواخر الثمانينيات، ودخلت المصطلحات "العرقية" و"الإثنية" و"القومية" محلها.

ولعلّ ذلك يعود للتطوّر الحاصل على المستوى العالمي، وتحلّل الكتلة الاشتراكية، وتفكك المنظومة السوفيتية ومركزها الأممي، وكذلك لانتشار الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، التي لم يعد بالإمكان تجاهلها أو إغفالها، وارتفاع نسبة المطالبات بالهويّة الفرعية والحقوق القومية بالانعتاق والتحرّر، بعد كبت واضطهاد وشعور بالغبن، في ظلّ العديد من الأنظمة الاشتراكية السابقة، وبعض البلدان النامية، فضلًا عن تصاعد الشعور بالانتماء والهويّات الخاصة في العديد من بلدان العالم.

وبالمقابل ازداد استخدام مصطلحات قريبة من الماركسية والصراعات الطبقية والاجتماعية في أدبيات الحركة القومية العربية، ولاسيما في الستينيات والسبعينيات. وعلى الرغم من التقاربات الفكرية، إلّا أن الصراعات السياسية ظلت حادة وإقصائية بين الفريقين، القومي والأممي. مع أن ثمة محاولات جرت للمصالحة بينهما عبر حوارات شاركت فيها أطراف أساسية من التيارين.

لم تعد الهويّات الفرعية والإثنية والقومية ظاهرة انفصالية أو انقسامية تريد تفتيت الدول، وإن قادت إلى ذلك أحيانًا، بسبب عدم تلبية الحقوق، إلّا أنها في حقيقة الأمر، هي تعبير عن رغبة في المواطنة المتكافئة والمتساوية، والحق في تقرير المصير، دون أن يعني ذلك عدم مراعاة حقوق الشركاء في الوطن الواحد.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

في 29 كانون الأول / ديسمبر 2023، تقدمت دولة جنوب أفريقيا بدعوى إلى محكمة العدل الدولية، اتهمت فيها "إسرائيل" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان غزّة، بما يُعدّ انتهاكًا سافرًا للاتفاقية الدولية بشأن منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت الاتفاقية المذكورة بالإجماع في 9 كانون الأول / ديسمبر 1948، ودخلت حيّز النفاذ في 12 كانون الثاني / يناير 1951.

ثمة التباسات وخلط يحدث أحيانًا بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فالأولى هي الذراع  القضائية للأمم المتحدة، وتتألف من 15 قاضيًا، يتم انتخابهم لمدة 9 سنوات من قبل الجمعية العامة، وهي مختصة بحل النزاعات بين الدول وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية؛ أما الثانية، فقد تأسست في روما العام 1998 ودخلت حيّز النفاذ في العام 2002، وهي تختص بمحاكمة الأفراد الذين يقومون بارتكابات جسيمة لحقوق الإنسان. وسبق لي أن زرت المحكمتين وأكاديمية القانون الدولي في المجمّع الذي يضم المؤسسات الثلاثة في لاهاي (هولندا).

مارست جنوب أفريقيا واجبها القانوني والإنساني، حين توجهت إلى محكمة العدل الدولية، استنادًا إلى الاتفاقية الدولية المشار إليها، فيما إذا اعتقد أحد الأطراف أن طرفًا آخر فشل في الامتثال لالتزاماته، فيمكنه إقامة دعوى ضدّه لتحديد مسؤولياته، علمًا بأن المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، تنص أن على جميع أطراف النزاع الامتثال لقرارات المحكمة، وإذا لم يمتثل أحد الأطراف، فيجوز للطرف الآخر اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار، وبالطبع فإن من واجب المحكمة البت في استكمال هذا الطلب للشروط القانونية، وبالتالي الحكم بما يُلزم الأطراف الامتثال إليه، كما حصل في قضية النزاع بين البوسنة وصربيا (العام 1996).

انعقدت المحكمة يومي 11 - 12 يناير / كانون الثاني 2024، وقدّمت جنوب أفريقيا لائحةً مؤلفةً من 84 صفحة و240 فقرة، قامت فيها بتوصيف الجرائم المرتكبة بالاستناد إلى توفر الركن المعنوي (النية في ارتكاب الجرائم وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع "الإسرائيلي"  وعدد من المسؤولين الآخرين)، إضافةً إلى توفر الركن المادي، الذي يتلخّص بطلب السلطات "الإسرائيلية" من السكان المدنيين الرحيل إلى جنوب القطاع، ثم قامت بإنزال العقاب الجماعي بهم، الذي يندرج في إطار الإبادة الجماعية لمجموعة بشرية عرقية باستهداف وجودها.

وحيثيات ذلك: القتل، والتسبب في إلحاق أذى عقلي وجسدي بالسكان، والإجلاء القسري، وانتشار المجاعة والجفاف، وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية، وقطع الماء والكهرباء والوقود عن القطاع، والفشل في توفير ما يكفي من النظافة والصرف الصحي، والرعاية الطبية، والتسبب في تدمير الحياة بتهديم البنية التحتية للمدارس والجامعات والمكتبات والمرافق العامة، وتعريض النساء إلى العنف الإنجابي، وما يتعرض له المواليد الجدد والرضع والأطفال، حسب ما ورد في لائحة الدعوى.

وتكمن أهمية دعوى جنوب أفريقيا في أنها رسالة إلى الطرف المنتهك، بأن المجتمع الدولي لن يتسامح مع تلك الأفعال التي قام بها، وسيعمل على مساءلته، لذلك كان رد الفعل "الإسرائيلي" غاضبًا ضدّ جنوب أفريقيا، باتهامها الدفاع عن عنصريين يريدون "إبادة اليهود"، لاسيّما بعد عملية طوفان الأقصى، كما قالت الدفوعات "الإسرائيلية" في المحكمة.

ودعوى جنوب أفريقيا هي غير لجنة التحقيق، التي شكلتها المحكمة الجنائية الدولية في العام 2021، والتي رفضت "إسرائيل" التعاون معها، زاعمةً عدم شرعية التحقيق، في حين أن دعوى محكمة العدل تستمد سلطتها من معاهدة انضمّت إليها "إسرائيل" العام 1950، وبذلك لا يمكنها رفضها، لكنها سعت بكل الوسائل لكي لا تقبل المحكمة الدعوى، كما تنكر "إسرائيل" أنها ارتكبت جرائم إبادة، وإن ما تقوم به إنما هو "دفاع عن النفس"، ولذلك فإن هدفها أن تثبت أنها ليست مسؤولة، بل تلقي بالاتهامات على حماس وحركة المقاومة.

ومن المتوقع أن تصدر المحكمة أمرًا قضائيًا عاجلًا بوقف إطلاق النار (ربما بغضون الأسبوعين المقبلين) لحين البتّ في القضية، الذي قد يستغرق عام أو أكثر (كما حصل في قرار المحكمة بشأن عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري 2004)، مما يشكل ضغطًا دوليًا كبيرًا على "إسرائيل"، وهذا سيربك مخططها الهادف إلى شنّ حرب طويلة الأمد لتمشيط غزة، وفصل شمالها عن جنوبها، على أمل التحضير لترتيبات جديدة بما فيها احتلال القطاع مجددًا.

وإذا افترضنا صدور قرار من المحكمة يحمّل "إسرائيل" المسؤولية، فإن الاحتمال الأكبر هو عدم امتثالها له، وعند الطلب من مجلس الأمن إلزامها بتنفيذه، ستقوم الولايات المتحدة باستخدام حق الفيتو، ومع ذلك فإن الأثر القانوني سيكون بالغ الأهمية من حيث تداعياته الاقتصادية والأمنية، ناهيك عن جوانبه النفسية والمعنوية، والتي ستُظهر "إسرائيل" باعتبارها دولة مارقة خارج القانون، فضلًا عن ذلك سيكون مقدمةً لإلزامها بتوفير المساعدات الإنسانية ودفع تعويضات، وسيكون نقطة تحوّل في الصراع القانوني والديبلوماسي الذي أهمله الفلسطينيون والعرب طويلًا.

***

د. عبد الحسين شعبان

في تقليد سنوي، ومع بداية كل عام جديد، يحرص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ومنذ توليه منصبه في الوزارة، على ان يكون أولى لقاءاته في السنة الجديدة، مخصصا للصحفيين العرب والأجانب، وعدد من وسائل الاعلام الروسية المهمة، وفي لقاءه لهذا العام الذي استمر لأكثر من ساعتين ونصف، وبحضور المئات من الصحفيين، استعرض لافروف الأحداث الرئيسية المتعلقة بالدبلوماسية الروسية في عام 2023 وملاحظاته، وتحديد الخطوط العريضة لخطط العام الجديد 2024، وكشف إنه سيتوجه الأسبوع المقبل إلى نيويورك للمشاركة في اجتماع خاص لمجلس الأمن الدولي، حول التسوية في الشرق الأوسط والحل الجماعي للصراعات الدولية، بالإضافة إلى ذلك، يخطط الوزير الروسي لزيارة البرازيل في نهاية فبراير، حيث سيعقد الاجتماع الوزاري لمجموعة العشرين، وبشكل عام، وفي معرض حديثه عن أهداف وغايات السياسة الخارجية الروسية، أشار رئيس وزارة الخارجية إلى أن الاتحاد الروسي “سيواصل تعزيز مُثُل الحقيقة والعدالة في الشؤون الدولية”.

وبالتأكيد فان مثل هذا اللقاء، لم يمر مرور الكرام، دون التطرق الى أهم القضايا الدولية المهمة، وفي المقدمة منها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والاحداث والجرائم التي ترتكب في غزة ضد المدنيين، وتطورات المساعي الدبلوماسية والسياسية حول أوكرانيا، ناهيكم عن موضوع  العلاقات الروسية – الامريكية، والمحاولات الامريكية " للمراوغة " فيها، لمناقشة قضايا، مع تجاهلها لقضايا أخرى مهمة، وما إذا كانت هناك فرص لاستئناف الحوار الاستراتيجي مع الغرب، وما هي الأولويات التي تحددها روسيا الاتحادية لعام 2024، و "بريكس " وتطوراتها   بالإضافة الى الاحداث بين أذربيجان وأرمينيا واليمن، وقضايا أخرى مهمة، ووعد  لافروف، بان بلاده ستبذل قصارى جهدها  لجعل العلاقات الدولية" أكثر ديمقراطية".

وحاول الوزير لافروف شرح طبيعة العلاقة بين روسيا والصين حاليا، والتي وصفها بأنها  أقوى وأكثر موثوقية من الفهم الكلاسيكي لمصطلح "التحالف العسكري" الذي ظهر خلال حقبة الحرب الباردة، وأعلن ا عن الأجندة الثنائية الواسعة لبلديهما  لعام 2024،  وأضاف  أن "العلاقات الروسية الصينية، كما أكد قادتنا مرارا وتكرارا، تمر بأفضل فترة في تاريخها بأكمله"، واعترف رئيس الخارجية الروسية بوجود نقاط تتطلب المناقشة، إذ يسعى كل طرف للحصول على المعاملة الأفضل في مسائل التفاعل الاقتصادي، وقال "لكن دائما، وفي جميع الأحوال، فإن مصالح روسيا والصين نتيجة للمفاوضات تنتهي إلى قاسم مشترك"، لافتا الانتباه  إلى الاتصالات الشخصية بين فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، وكذلك إلى النتائج المحددة للتعاون، حيث وصلت حصة استخدام العملات الوطنية في التسويات المتبادلة إلى 90٪، وخمس لجان حكومية دولية تابعة للجمهورية الروسية، وإن الاتحاد وجمهورية الصين الشعبية يعملان، ومثل هذه المؤشرات لا توجد إلا في العلاقات الثنائية بين موسكو وبكين.

ومن بين الدول الأخرى التي يعتبرها الاتحاد الروسي "الدائرة القريبة منه"، ذكر سيرغي لافروف إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، بالإضافة إلى ذلك، تحدث عن اهتمام روسيا بتطوير العلاقات مع دول ومجموعات الدول في مناطق أخرى من العالم - مع جامعة الدول العربية والآسيان والاتحاد الأفريقي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وغيرها، وتحدث لافروف عن تعزيز العلاقات مع حلفاء روسيا الآخرين، وفي المقام الأول مع بيلاروسيا في إطار دولة الاتحاد، وأن الاتحاد الروسي ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي الأخرى تنفذ بنشاط مهام ضمان الاستقرار والأمن بجميع أبعاده، كما أشار إلى دور الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في تعميق العلاقات الاقتصادية.

ففي الملف الأوكراني ،  تم إيلاء الكثير من الاهتمام في المؤتمر الصحفي للوضع في أوكرانيا والعلاقات بين روسيا والغرب، ففي الوقت الذي شكك فيه مجتمع الخبراء الروس في إمكانية بدء مفاوضات السلام بشأن أوكرانيا في عام 2024، يظل أحد الأسباب هو استمرار مطالبة كييف بعودة حدود البلاد إلى حدود عام 1991، لم يرى رئيس الدبلوماسية الروسية، ان هناك  استعداد للدول الغربية وكييف للتفاوض مع روسيا، بل هم مهتمون بتصعيد الصراع، وشدد على أن المفاوضات مستحيلة حتى تعيد القيادة الأوكرانية النظر في مواقفها أو تغيراتها، ويمكن للغرب أن يدفع أوكرانيا نحو مفاوضات السلام عندما يرى أن جيشها قد تعرض لهزيمة كاملة في ساحة المعركة وأن المزيد من مسار العمل لن يؤدي إلا إلى تعقيد.

ويرغب القيمون الغربيون على تحقيق قدر أكبر من المرونة من كييف، لأنه على ما يبدو قد أدرك بالفعل أن الحرب الخاطفة، التي تم الإعلان عنها بهدف نهائي هو إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، كلها مجرد وهم وأن الوضع قد تغير بشكل كبير، قال لافروف "لقد أدركوا خطأهم، ومن الصعب الاعتراف به"، ويتم التعبير عن ذلك في حقيقة أنهم يبحثون الآن عن نوع من الإشارات الخارجية التي يبدو أنها تسمح لهم بدعم أوكرانيا، ومن ناحية أخرى، تسمح لهم بدفع كييف لتصبح أكثر استيعابًا والبدء في طاعة رؤسائها الغربيين.

إن نبرة الغرب تتغير الآن، من تقديم المساعدات لكييف "طالما تطلب الأمر"، إلى "بقدر ما نستطيع"،  وإنه ذات التطور الذي حدث في أفغانستان، حينما خرج الأمريكيون، وعبر لافروف عن أسفه لأن  مصير أوكرانيا سيكون  مشابها، لأنها لا تفهم أن القيمين يفكرون في مصالحهم وليس في مصلحة أوكرانيا أو مصلحة الشعب الأوكراني، لذلك فتوفير أسلحة بعيدة المدى واستهداف المناطق الداخلية في روسيا يدل على أن الغرب يسعى فقط إلى التصعيد.

وفي إشارة إلى مسألة الصراع في الشرق الأوسط، أكد سيرغي لافروف على موقف الاتحاد الروسي الذي لم يتغير: ضمان الأمن المستدام والطويل الأمد للمنطقة بأكملها، بما في ذلك "إسرائيل "، ولن يتسنى إلا من خلال إنشاء دولة فلسطينية، كما تقتضي قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة،  ومن دون حل هذه القضية الأساسية، سيكون من المستحيل منع انتكاسات التصعيد العسكري، وقال لافروف إن موسكو مستعدة للعب دور نشط في حل الصراع.

كما يفهم الغرب  ذلك أيضًا،  وحقيقة أن بايدن وبلينكن والأوروبيين يتحدثون الآن عن الحاجة إلى البدء في التحرك نحو إنشاء دولة فلسطينية، فإنهم يفهمون أنه بدون ذلك سيكون من الصعب جدًا تهدئة الوضع، لكن البدء بالحركة لا يكفي، كما يقول الوزير الروسي "  نحن بحاجة إلى أن نجتمع ونخلق، نحن بحاجة إلى جمع الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات”، في حين أكد يقول أندريه بيستريتسكي، رئيس مجلس إدارة مؤسسة التنمية والدعم في نادي فالداي الدولي للحوار، انه  لا يزال من الصعب الحديث عن حل سريع للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالصراع في الشرق الأوسط مستمر منذ فترة طويلة، وهناك فترات من التفاقم أكبر وأقل، وفي الوضع الحالي، من الصعب أن توقع تسوية سريعة، فهي تتطلب موافقة جميع الأطراف ونوعاً من التسوية المعقولة، ومع ذلك، هناك أمل في عدم حدوث تصعيد آخر، لأنه لا أحد مهتم بصراع كبير.

وحول محاولات استئناف الحوار الاستراتيجي  بين روسيا مع الغرب، فقد أوضح الوزير لافروف انه في ديسمبر 2023، تبادلت روسيا والولايات المتحدة مقترحات مكتوبة بشأن الاستقرار الاستراتيجي، وواصلت موسكو، في وثائقها، الدفاع عن مبادئ تنظيم نظام أمني في القارة الأوروبية، المطروحة نهاية عام 2021،  ثم،  ردت الولايات المتحدة برفض دعوة للحوار من الاتحاد الروسي، والآن لم يتم أيضًا استئناف الحوار بشأن الاستقرار الاستراتيجي، واعتبر لافروف نعتبر الأفكار الأمريكية (المنقولة إلى موسكو)  غير مقبولة، ولا تخفي الولايات المتحدة نواياها عند الحديث عن الاستقرار الاستراتيجي - العنصر غير النووي في المواجهة العسكرية، والقوات غير النووية التي يجب إخراجها من الأقواس، وبالتالي تعزيز الميزة الكمية الخطيرة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، ولا يتضمن نهج واشنطن مناقشة تدابير مشتركة إضافية في مجال الحد من الأسلحة، وبالتالي لا ترى موسكو أي سبب لنفسها “لأي محادثة مع الولايات المتحدة حول الاستقرار الاستراتيجي”.

وتقاوم الدول الغربية بنشاط التحول إلى عالم متعدد الأقطاب،  ومع ذلك، أكد لافروف أن روسيا الاتحادية لم تسمح بانتهاك مصالحها كقوة عظمى، ومع ذلك، قد يتغير هذا الوضع في عام 2024، حيث ستجرى الانتخابات في العديد من البلدان هذا العام ومن المرجح حدوث تغيير في النخب، كما يقول نائب الأمين العام السابق للأمم المتحدة والنائب السابق لوزير الخارجية  الروسي سيرغي أوردغونيكيدزه  "لكن بشرط أن يتخلى القادة الغربيون عن فكرة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وقبل ذلك لا أرى أي فرص للعودة إلى الحوار الاستراتيجي".

وفي الملف الأرميني الأذري،  لم تكن موسكو أبدًا هي البادئة بتوتر  العلاقات مع يريفان، ومع ذلك، فالاتحاد الروسي  يسجل أن العديد من المسؤولين الحاليين في أرمينيا، وبينما كانوا لا يزالون في المعارضة، يقومون بحملات خلال الحملات الانتخابية، دعوا  فيها إلى الانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، ونشأت المناقشات حول انفصال يريفان المحتمل عن منظمة معاهدة الأمن الجماعي بعد العملية الخاصة التي قامت بها أذربيجان على أراضي ناغورنو كاراباخ، ونتيجة لذلك عادت منطقة كاراباخ الاقتصادية إلى ولاية باكو .

وأكد رئيس وزارة الخارجية الروسية أنه في الوقت نفسه، فإن عملية تطبيع العلاقات بين أذربيجان ويريفان متوقفة بسبب موقف القيادة الأرمينية،  والسبب في ذلك يظهر في نصيحة الدول الغربية، فقد رأت روسيا  كيف أن الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، بمجرد أن أدركوا أن العملية الروسية الأرمنية الأذربيجانية تسفر عن نتائج في فتح الطرق، وتحديد الحدود، وإعداد معاهدة سلام، "أصبحنا على الفور بدون دعوات للمشاركة في هذه العمليات"، وأشار لافروف الى أن أذربيجان مستعدة لتوقيع معاهدة سلام مع أرمينيا على أراضي الاتحاد الروسي، لكن موقف يريفان بشأن هذه القضية لا يزال غير واضح، وخطوات الدول الأخرى لا تساهم في ذلك أيضاً: “لدي كل الأسباب للقول إن الغرب لا يريد السماح بالاتفاقيات التي تم التوصل إليها بوساطة روسيا بين يريفان وباكو”.

والحدث الأبرز لعام 2024، هو ترأس روسيا مع بداية العام الحالي ، ولقاء  قمة مجموعة قادة بريكس ، المقرر عقدها في أكتوبر/تشرين الأول في العاصمة التتارستانية كازان، ومنذ يناير/كانون الثاني، أصبحت مصر وإيران والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإثيوبيا أعضاء جدد، وشدد الوزير على أن "بريكس ترمز إلى ثروة عالم متعدد الأقطاب"، و روسيا،  ستولي بالطبع اهتمامًا خاصًا لضمان توافق القادمين الجدد بشكل عضوي مع عملها المشترك ، وبالتالي المساهمة في تعزيز الاتجاهات الإيجابية ليس فقط داخل البريكس في حد ذاتها، ولكن أيضًا وأيضا على الساحة الدولية لصالح الأغلبية العالمية، والاشارة الى ان  قرار انضمام الدول الجديدة إلى مجموعة "بريكس"  في جنوب إفريقيا يجسد أهمية الهياكل الإقليمية والدولية الجدي، فهناك 20 أو 30 دولة مهتمة بالتقارب مع "بريكس"، وبالتالي فإن هذه المجموعة بأعضائها الدوليين سيكون لها دور كبير على الساحة الدولية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في عالم السياسة الدولية، غالبا ما تشكل الدول تحالفات وتقيم علاقات مبنية على المصالح والأيديولوجيات المشتركة. ليس سرا أن هولندا، المعروفة أيضًا باسم نيدرلاند (الأراضي المنخفضة)، حافظت على ارتباط وثيق وطويل الأمد بالولايات المتحدة. وفي الأمور السياسية، وقف الهولنديون في كثير من الأحيان إلى جانب الولايات المتحدة، مما يدل على التزامهم بالقيم الديمقراطية المشتركة، وحقوق الإنسان، وتاريخ عميق الجذور من التعاون. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالمساعي الاقتصادية، فقد أقامت هولندا شراكة استراتيجية مع الصين، حيث أصبحت القوة الاقتصادية لاعبا أساسيا في التجارة والاستثمار العالميين. سوف يستكشف هذا المقال هاتين العلاقتين المتميزتين، ويسلط الضوء على الأسباب الكامنة وراء ولاء هولندا للولايات المتحدة في السياسة والصين في المجال الاقتصادي.

وفي عالم السياسة، يمكن إرجاع التحالف القوي بين هولندا والولايات المتحدة إلى قيمهما المشتركة المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان. يتبنى كلا البلدين التزامًا بالحرية والمساواة وسيادة القانون. وقد أدى هذا الأساس الأيديولوجي المشترك إلى تشكيل علاقات دبلوماسية قوية وتعاون وثيق في مجموعة من القضايا العالمية. غالبا ما تنحاز هولندا إلى السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وتدعم مبادرات مثل جهود حفظ السلام الدولية، وعمليات مكافحة الإرهاب، وتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

علاوة على ذلك، ساهمت العلاقات الثقافية والتاريخية بين هولندا والولايات المتحدة أيضا في التوافق السياسي القوي. هاجر العديد من المواطنين الهولنديين إلى الولايات المتحدة الأمريكية على مر السنين، وشكلوا روابط عائلية واجتماعية أدت إلى تعميق الروابط بين البلدين. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الولايات المتحدة دورًا مهمًا في تحرير هولندا خلال الحرب العالمية الثانية، وضمان الحرية والديمقراطية للشعب الهولندي. وقد عزز هذا الحدث التاريخي شعورا دائما بالامتنان والصداقة الحميمة بين البلدين.

ومن ناحية أخرى، عندما يتعلق الأمر بالمجال الاقتصادي، فإن الشراكة الاستراتيجية بين هولندا والصين تضرب بجذورها في صعود الأخيرة كقوة اقتصادية عالمية عظمى. لم يكن النمو الاقتصادي الذي حققته الصين على مدى العقود القليلة الماضية أقل من رائع، وهو ما يعكس ظهورها كلاعب رئيسي في التجارة العالمية، والاستثمار، والإبداع. واعترافا بالقوة الاقتصادية للصين، سعت هولندا إلى إقامة علاقات تجارية متبادلة المنفعة والاستفادة من النمو السريع للصين.

علاوة على ذلك، يلعب موقع هولندا الجغرافي دورا هاما في خياراتها الاقتصادية. باعتبارها واحدة من أكبر الموانئ وأكثرها ازدحاما في أوروبا، يعد ميناء روتردام بمثابة بوابة مهمة للبضائع الصينية التي تدخل أوروبا. ويعمل هذا الطريق التجاري الحيوي على تعزيز الترابط الاقتصادي والتعاون، حيث تستفيد هولندا من موقعها المميز لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين.

فضلا عن ذلك فإن القرار الاستراتيجي الذي اتخذته هولندا بالوقوف إلى جانب الصين في الساحة الاقتصادية من الممكن أن يُعزى إلى الفوائد المحتملة المستمدة من التعاون مع قوة عالمية متنامية. ومن خلال التحالف مع الصين، تتمكن هولندا من الوصول إلى سوق واسعة تضم أكثر من 1.4 مليار مستهلك، وهو ما يمكن أن يعزز الشركات الهولندية بشكل كبير ويدفع النمو الاقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التقدم التكنولوجي والخبرة الصينية في مختلف القطاعات يوفر فرصا لنقل المعرفة والتعاون، وبالتالي تعزيز القدرات الصناعية والتكنولوجية لهولندا.

ورغم أن شراكات هولندا الاستراتيجية تختلف من حيث السياسة والاقتصاد، فمن الضروري أن نلاحظ أن هذه التحالفات لا يستبعد بعضها بعضا. إن ارتباط هولندا بالولايات المتحدة في السياسة لا يمنع البلاد من الانخراط في تعاون اقتصادي مع الصين. وباعتبارها دولة صغيرة، تدرك هولندا أهمية الحفاظ على التحالفات وتشكيل الشراكات لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية.

في الختام، فإن التحالف السياسي لهولندا مع الولايات المتحدة والشراكة الاقتصادية مع الصين ينبع من دوافع ومصالح مختلفة. وفي السياسة، تقف هولندا إلى جانب الولايات المتحدة بسبب القيم الديمقراطية المشتركة، والروابط التاريخية، والمواقف المماثلة بشأن القضايا العالمية. وعلى العكس من ذلك، في الاقتصاد، تحتضن هولندا براعة الصين الاقتصادية، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، والفوائد المحتملة المستمدة من التعاون مع قوة عالمية سريعة النمو. ورغم أن هذه التحالفات قد تبدو متناقضة، فإن هولندا تدرك قيمة التعامل مع كلا البلدين لحماية ازدهارها السياسي والاقتصادي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

كتب الدكتور بيير رازو كتاباً ضخماً بعنوان "الحرب العراقية ـ الإيرانية"، وقد نُقل الى الإنجليزية من قِبَل الأستاذ نيكولاس أليوت، ثم تم نقله الى العربية من قِبَل الدكتور فلاح حسن الأسدي، طبعة دار ومكتبة عدنان الأولى بغداد 2023. ورازو باحث مختص بالحرب العراقية الإيرانية والصراعات العربية الإسرائيلية.

كتب رازو مقدمة للطبعة العربية، أعرب فيها عن فخره وسعادته بنقل كتابه الى اللغة العربية وفي بغداد.

بعد قراءتي الدقيقة والعميقة للكتاب، أستطيع أن أقول بأن المؤلف كان "حيادياً" فعلاً في كتابه، يتعامل مع الوقائع والحقائق بمهنية عالية، لا يميل الا مع ما تُثبته الوثائق المتوفرة والمدروسة بعناية من جانبه، واستطيع أن أقول وبثقة عالية، أنه يصلح أن يكون على قائمة الكتب التي تناولت هذه الحرب المدمرة، لشموله واحاطته التامة بالعمليات العسكرية.

يتكوّن الكتاب من اهداء ومقدمة وواحد وثلاثين فصلاً وخلاصة، مع ملاحق غنية فيها تفصيل مدهش عن عدد القوات العسكرية والمعدات التي امتلكها العراق وايران، مع خسائر الطرفين ... يحفل متن الكتاب أيضاً بخرائط تفصيلية عن المعارك الكثيرة.

أما مصادر الباحث فكانت طازجة، تعددت بين:

1ـ الأرشيفات، الأمريكية والألمانية انموذجاً، والتسجيلات الصوتية لصدام حسين، يقول رازو:

(وخلال سير بحثنا تمكنت من الوصول الى "تسجيلات صدام الصوتية" المعروفة جيداً التي استولى عليها الجيش الأمريكي في بغداد عام 2003. كان الدكتاتور العراقي يعلم أنه خطيب وليس كاتباً، وادراكه هذا جعله لم يترك أية كتابات للأجيال المقبلة التي ربما ستُذكّر الناس به) ص19 و 20

2ـ المقابلات، فقد قابل الباحث عدداً من الجنرالات العراقيين والأجانب وعدد من الباحثين أيضاً.

3ـ التقارير والدراسات.

4ـ الكتب.

5ـ السير الذاتية والمذكرات.

6ـ الأفلام الروائية والوثائقية.

7ـ شبكات الإنترنت.

ما سنخرج به اجمالاً بعد قراءة هذا الكتاب:

أولاً: يتحمل الرئيس العراقي صدام حسين اشعال هذه الحرب، فهو من قام بالإعتداء على ايران.

ثانياً: لا توجد أدلة حقيقية ـ وهذا مخالف للتصور الشائع في الذاكرة الشعبية العراقية ـ تؤيد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من دفعت صدام لشن حربه على ايران، فصدام لم يكن بحاجة لذلك، وكان مستعداً للقيام بعمل ما بعيداً عن الدفع الأمريكي. وما يقوي هذا الاعتقاد، أن حكومة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر كانت تعمل على فتح خطوط اتصال مع طهران من أجل تحرير رهائنها هناك، وقد فتح "جورج كيف" ـ وهو من أفضل خبراء المخابرات الأمريكية حول ايران ـ قنوات الاتصال مع قادة طهران لاخبارهم بالاستعدادات العسكرية العراقية.

فإن صح ذلك، فكيف يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد دفعت صدام لضرب ايران، ونراها تُخبر طهران باستعدادات صدام العسكرية؟!

ثالثاً: تتحمل القيادة الإيرانية مسؤولية استمرار هذه الحرب العبثية، فقد أظهر الدكتاتور العراقي استعداده للتفاوض وعقد الهدنة باستمرار، ولكن النظام الإيراني لم يتنازل عن شرطه الأول، وهو تنحي دكتاتور بغداد عن السلطة، وهو شرط قد يفرض نفسه في بداية سنوات الحرب بعد الانتصارات الإيرانية والتراجع العراقي، لكن ان يبقى هذا الشعار للنهاية، فهو أمر غير واقعي وسبّب دماراً للبلدين، بل وصل الأمر بآية الله الخميني الى القول بعد قبوله الهدنة:

ان اتخاذ هذا القرار كان اكثر ايلاماً وقاتلاً لي من تجرّع كوب من السم. ان ايماني بالله وتجرّع كوب السم تلبية لارادة الله لوقف حمام هذا الدم، فقد أقمست ان اقاتل حتى آخر رمق، وسيكون ذلك أكثر تحمّلاً لي من قبول الموت أو الشهادة، ولكن يجب عليّ أن أقبل بالرأي المتنور لكل الخبراء العسكريين ص576.

رابعاً: كان صدام حسين "بطل السلاح الكيمياوي"، وقد وصل  لدرجة أن أعلن على لسان الجنرال عدنان خير الله، بأن العراق فعلاً قد استخدم هذا السلاح للدفاع عن النفس! بل وصل استهتاره لحد التضحية بكتيبة عراقية من خلال اختبار فعالية غاز التابون عليها! ص376. أما النظام الإيراني فلم يمارس هذا النوع من السلاح، فقد أعلن القادة هناك ـ الملالي بحسب رازو ـ أن هذا السلاح يتعارض مع مبادئ القرآن الكريم، ولم يخرج النظام الإيراني عن هذه القاعدة باستثناء مرة واحدة: فقد خرج النظام الإيراني عن مبادئه ـ يقول رازو ـ واستخدم الأسلحة الكيميائية في 9 و 12 نيسان 1987 في البصرة، ولكن كانت الخسائر طفيفة بالجانب العراقي ص493.

هذه مجرد اطلالة سريعة على هذا الكتاب القَيّم، وطبيعي أن كلمة قصيرة كهذه لن تفي الكتاب حقه.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

انعقاد المؤتمر الأول لمكافحة الفساد في العراق.. معالجة علمية ام اسقاط فرض؟

توطئة: اختتم المؤتمر الأول لمكافحة الفساد الذي انعقد في بغداد (14 كانون الثاني 2024)، بإصداره سبع توصيات تخص التصدي لهذه الآفة في العراق.وقال رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني ان الحكومة وضعت ملف مكافحة الفساد على رأس أولوياتها، وان الحكومة خاطبت الدول التي تتواجد فيها أموال الفساد، ودعا الى تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة.

وفي ختام اعماله اصدر المؤتمر سبع توصيات بدأها بـ(الإسراع في حسم وإنجاز الإخبارات والشكاوى والدعاوى الجزائية ضمن المدد المحددة قانوناً، وخصوصاً القضايا المتعلقة بالرأي العام ومبالغ الفساد الكبيرة، وكبار موظفي الدولة؛ بغية فرض الجزاء القانوني بحق المدانين وتعزيز الثقة في إجراءات المساءلة والمحاسبة لضمان تحقيق الردع العام)، وانهاها بـ(تشريع قانون لاستحداث هيئة الرقابة، استناداً إلى أحكام المادة 108 من الدستور؛ تعزيزاً للرقابة الداخلية في المؤسسات الحكومية، وتنظيم إجراءات الرقابة الوقائية السابقة واللاحقة، ورفع مستويات المسؤولية والنزاهة والشفافية؛ حماية للأموال العامة).

الفساد في العراق.. اكبر من سبع توصيات!

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد ثم اعترف علنا في(27 /11/ 2017) بأنه غير قادر، لأن الفساد (مافيا.. يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذي يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد)، ختمها رئيس هيئة النزاهة السيد حيدر حنون بتصريح في (3 /5 / 2023) بان الفاسدين (قادة، وجنود، ومشجعين يدافعون عنهم، وانهم يتسابقون على سرقة أموال الدولة)، ليؤكدوا حقيقة ان الفاسدين اصبحوا دولة داخل دولة.. تخيف أي رئيس وزراء يحاول التحرش بهم، وآخرهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي حصلت في زمانه سرقة القرن بمليارات الدولارات! وتكتم عن كشف الحقيقة كاملة.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار شجاع وحازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا، وهذا ما كنا نتمناه للسيد محمد شياع السوداني، وللاسف فان المؤتمر الذي رعاه ما كان بمستوى هذه الظاهرة التي وصفها رئيسا وزراء (المالكي والعبادي) ورئيس اعلى هيئة مسؤولة عن الفساد.. النزاهة.. فضلا عن ان المرجعية بح صوتها بالدعوة الى محاسبة (حيتان الفساد)، وأن العراقيين هزجوا في تظاهراتهم منذ شباط 2011 (باسم الدين باكونه الحراميه).

تجارب العالم

في الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي عقدت في 12 ديسمبر 2023 أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "أن الفساد لا يسرق الموارد فحسب، بل يسلب الأمل من الناس".. .(وقد سرق آمال العراقين لعشرين سنة!).. ودعا في رسالته "جميع الأطراف إلى اغتنام هذه الفرصة لتعزيز التعاون الدولي لمنع الفساد وكشفه ومحاكمته - بالشراكة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص".

ويعد كتاب: (الفساد.. مبادرات تحسين اﻟﻨـﺰاهة في البلدان النامية) الصادر عن الأمم المتحدة بعنوان (برنامح الأمم المتحدة الأنمائ ومركز التنمية الأقتصادي في منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية) افضل مصدر عن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد ومنها:الهند، المكسيك، الولايات المتحدة. ومع ان تجربة ماليزيا تعد الأنجح في (الدور التنموي للدولة في مكافحة الفساد)، فأن تجربة سنغافورة تعد الأنجح والأنسب للأستفادة منها في العراق، وكان أهم عوامل نجاحها هو:

- إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد،

- انشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" وقيامه بمهامه على الوجه الأمثل،

واتخاذ اجراءات ذكية لتنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد" اهمها:توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد، وتأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع، وتأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء، واشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي، وقد فصلنا في ذلك بمقال سابق في (الزمان).

وكان اهم درس بتجربة سنغافورة، أنها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم. ولا يحق لأي مسئول بالدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات (Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والأجابة على اية اسئلة او استفسارات.مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا راتبه الشهري 500 دولارا ولديه سيارة BMW ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟. فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرته وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.

فهل تستطيع حكومة السيد السوداني محاسبة او مساءلة (36) ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وفقا لمركز البحوث الفرنسي؟

وهل يستطيع تنفيذ ما قاله في المؤتمربانه سيتم (تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة) ولو مساءلة رؤساء الوزراء من السيد نوري المالكي الى السيد مصطفى الكاظمي، بوصفهم الرجل الأول في الدولة؟

اسقاط فرض.. وامتصاص نقمة

مع توفر النوايا الحسنة للمشاركين بمؤتمر مكافحة الفساد (الذي استثنى علماء نفس متخصصين في هذا الشأن)، وصدق نوايا السيد محمد شياع السوداني، فان المؤتمر كان اسقاط فرض صيغ بمسكنات سياسية مطعمة بفيتامينات علمية، لأن ما خرج به من توصيات ليست بمستوى ظاهرة خطيرة شرسة جعلت العراق ضمن الدول الثلاث الأكثر فسادا في العالم.آملين من مكتب السيد رئيس الوزراء اطلاع فخامته على مقترحنا بما يعزز تنفيذ نواياه الصادقة في مكافحة الفساد الذي سرق آمال العراقيين لعشرين سنة!.. وسيبقى يسرقها لعشرين اخرى ما لم يضف ويعتمد ما اقترحناه الى وصاياه التي نأمل ان يطلع عليها فخامة رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني.. مع خالص تمنياتنا بالموفقية.

***

أ‌. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يستغرب البعض من ردة فعل الكيان الصهيوني المبالغ بها تجاه ما حدث يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر، حين بدأت عمليات طوفان الأقصى، ومعها بدأت حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل التي لم تستثنِ طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا مريضاً ولا حجراً ولا بشراً. وعلى الرغم من السجل الاجرامي للصهاينة في تاريخ حروبهم مع العرب، وما احتواه هذا السجل من مجازر جماعية مروعة منذ الإعلان عن تأسيس إسرائيل وقبلها، وبعدها على امتداد 75 عاماً من الحروب والمعارك والمنازلات، إلّا أن ما حدث خلال 35 يوماً من الحرب المستمرة على غزة قد فاق كل التصورات، لاسيما في اعداد الأطفال الشهداء حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة السيد انطونيو غوتيريش قال أن غزة تتحول إلى مقبرة للأطفال.

لكن من يتمعن في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، والأساطير والخرافات التي قامت بموجبها إسرائيل، يجد أن يوم السابع من أكتوبر قد حطم الكثير من تلك الأساطير والأوهام الزائفة، لعل في مقدمتها أسطورة الجندي الذي لا يُقهر، والمقصود به الجندي الإسرائيلي الذي اعتاد على أن يكون هو الطرف الرابح في الحروب مع العرب، وبالأخص في حرب العام 1948 التي سميت بيوم النكبة العربية حين ضاعت  فلسطين، وفي حرب العام 1967 التي سميت بنكسة حزيران التي فقد فيها العرب ما الضفة الغربية والقدس حيث مسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، فضلاً عن احتلال واقتطاع أراضٍ واسعة من مصر وسوريا وجنوب لبنان، لذلك فإن الصهاينة قد جنَّ جنونهم حين تهاوت اسطورة جنديهم السوبرمان بين ليلة وضحاها، إذ ظهر على حقيقته أثناء المواجهة المباشرة، وحتى حين حاولوا أن يصححوا الموقف فإنهم تعرضوا للمزيد من المقاومة الشرسة التي تابعها العالم أجمع في محاولات الجيش الإسرائيلي لاقتحام غزة بالهجوم البري الذي طال أكثر مما يتوقعون، وتكبدوا في محاولاتهم المتكررة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات العسكرية، من دون أن يتمكنوا من تحرير ولو أسير واحد، كما هو هدفهم من هذا الهجوم مثلما يزعمون.

إن الأمر الذي أفزع الإسرائيليين، هو عدم استيعابهم لصدمة أكتوبر، ومحاولاهم محو ذكرى فجر طوفان الأقصى من الذاكرة والتاريخ، حتى لو كان ذلك عن طريق ارتكابهم لجرائم حرب بشعة، وجرائم تطهير عرقي لم يسبق لها مثيل، وقد يقتلون المزيد من الأطفال والمدنيين الأبرياء، عبر القصف بالمدافع والبوارج الحربية والطائرات والتهجير وتهديم المنازل فوق رؤوس ساكنيها، لكنهم في المواجهة المباشرة يعلمون علم اليقين ان جنديهم السوبرمان الذي لا يُقهر هو الخاسر حين تصبح المسافة صفراً بينه وبين المقاومين. وبذلك سقطت هذه الأسطورة السمجة والخرافة السخيفة في فتحات أنفاق غزة، وبين أنقاضها ودمارها.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي عراقي

 

في الحاجة إلى الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة

تمر الجزائر اليوم في حياتها المعاصرة، دولة وشعبًا بمنعطف تاريخي مهم وهي تستعيد هويتها الحضارية وحيويتها الإبداعية بعد سبات طويل من خلال تحرير الطاقات والمبادرات التي كانت كامنة ومقموعة وتحرير العقل الجزائري الجديد بصفة عامة، إن  هذا المنعطف  التاريخي هو منعطف نهضوي بامتياز يعبر عن حركة إيجابية فاعلة في المجتمع تمس حياته الروحية والعقلية والمادية وتعكس طموحاته وتطلعاته في الحياة وتنقله من  مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة مع ضرورة الوعي بذلك، وبمعنى آخر تحول إجتماعي وحضاري من خلال بناء  إنسان   جزائري جديد، تحول يشمل فكره وعقله ومحيطه الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وبيئته المجتمعية ويكون لوجوده وحضوره الجديد في التاريخ انعكاس  متميز على المستوى الإقليمي والدولي .

إن هذا التحول الجديد والمسار الجديد الذي نتوخى منه اليوم الجزائر الجديدة أي الجزائر في حالة يقظة ونهضة أصبح يسنده ويشكله ويؤسس له وعي شعبي جديد  ذو طابع تاريخي لأنه يحمل حلم النهضة ومشروع النهضة الجزائرية الجديدة ويقطع نهائيا من حيث المبدأ على مستوى الفكر والسلوك مع قيم وممارسات  هذا الماضي، الذي أورثنا وخلف لنا تركة ثقيلة ومتشعبة  داخل المجتمع ذات طابع بنيوي.

إن هذه القطيعة مع فكر الماضي وتمظهراته السلوكية في شتى مناحي الحياة، الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية إلخ... لم تكن لتتحقق لولا الحراك الشعبي المبارك الذي كان بمثابة الروح التاريخي الجزائري الأصيل والملهم وأصبح يمثل اليوم بكل قوة معنوية وروحية البوصلة الفكرية والحضارية ونظاما أخلاقيا لليقظة والوعي وتلاحما عضويا بين الشعب والجيش ضد كل أشكال الإنحرافات التي قد تحدث في المستقبل، هذه الإنحرافات التي أخرجت الشعب الجزائري كله إلى الشارع في 22 فيفري 2019 للمطالبة بالتغيير وتصحيح المسار وتصويب الوجهة والعودة مجددا إلى حلبة التاريخ وأن  نكون من صناعه  لا من المتفرجين عليه والمتأثرين به.

1. الأسباب التي دفعتنا لتقديم هذه المبادرة:

وإن هذه المبادرة التي نقدمها ونعرضها اليوم للنقاش وهي مبادرة: الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة، هي مبادرة وطنية جزائرية خالصة نابعة من صميم المجتمع المدني المنخرط في معركة الوجود والمصير مُعبِّرًا عن ذلك كقوة اقتراح فكرية بعيدا عن المصالح الفئوية والطبقية والتجاذبات السياسية والاصطفافات الحزبية والإيديولوجية وتأمل هذه المبادرة وتعمل على ذلك بأن تكون على مسافة واحدة من الجميع، بين السلطة والمعارضة من جهة وبين االسلطة  والأغلبية الرئاسية من جهة أخرى وتطمح هذه المبادرة في جوهرها إلى فتح نقاش حر ديمقراطي وتحريك العمل الفكري والثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري وإشاعته عموديا وافقيا، أي على مستوى النخبة والجماهير وكل الفئات والمستويات الشعبية لأنه لا يمكن بناء نهضة جديدة  أو الطموح إلى مستقبل  اجتماعي وحضاري أفضل بدون فكر أساسه الحوار الحر، المسؤول والملتزم لأن  بالفكر وبالفكر وحده نستطيع أن نغير الواقع وندفع به إلى الأمام.

2. لماذا فشلت المبادرات السياسية السابقة؟

قبل شرح الخطوط العريضة والعامة لمبادرتنا، ربما يتساءل الكثيرون وهو تساؤل  مشروع :ما هو الفرق بين هذه المبادرة والمبادرات السابقة التي تعج بها الساحة السياسية الوطنية؟ ألا يمكن أن يكون مصيرها الفشل أو النسيان وفي أحسن الظروف عدم تحقيق الأهداف التي كانت مرجوة ومنتظرة منها؟

بالفعل، لقد أطلقت حركة البناء الوطني مؤخرا مبادرة سياسية بعنوان: المبادرة الوطنية لتعزيز التلاحم وتأمين المستقبل. ولقد انخرطت عدة أحزاب ومنظمات وجمعيات في إطار هذا المسعى وحاولت إثراء هذه المبادرة مع تجنيد الطاقات والإمكانيات لتجسيدها على أرض الواقع وعقدت في سبيل ذلك لقاءات وطنية ومحلية.

ولا شك أن هذه المبادرة صحيحة من حيث المبدأ الذي تقوم عليه والتطلعات والأهداف التي تحملها ولكنها فشلت في تحقيق ما كانت تنتظره، وما كان منتظرا منها وهذا يعود في نظرنا للأسباب الرئيسية التالية:

أ‌- لم تكن السلطة، أي أجهزة الدولة ومؤسساتها طرفا في هذه المبادرة وهذا ما يفقدها طابع المصداقية والإلتزام والمسؤولية والطابع العمومي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن السلطة هي التي تمتلك وسائل وأدوات التغيير الإجتماعي ( الثروة والبرامج التنموية وأدوات التنفيذ).

ب‌- تعرضت المبادرة لتجاذبات سياسية وحزبية بسبب مشكلة القيادة والتنافس (من يقود من؟) بين قادة الأحزاب السياسية وكذلك الحساسية التي تثيرها مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية وهذا ما أفضى نوعا من الضبابية والغموض على هذه المبادرة والنتيجة عدم الاهتمام وعزوف الجماهير عنها.

ج- لم تحمل المبادرة أهدافا عملية تطبيقية يمكن متابعتها وتقييمها ومحاسبة المسؤولين عنها بل طرحت أهدافا نظرية عامة هي أقرب للشعارات السياسية والاديولوجيه التي لا يخلو منها كل نظام سياسي مثل تحصين الجبهة الداخلية  و مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية.

إننا لا نقول أن مبادرتنا هي المبادرة الوحيدة والممكنة ولكنها ولا شك مبادرة من بين مبادرات كثيرة، مبادرات مضت ومبادرات قد تأتي في المستقبل لأن المجتمع الجزائري بحاجته اليوم وفورا إلى نقاش يعمق رؤيته للقبض على أسباب نهضته وهو منغرس في ماضيه ومنتبه  لحاضره ومتوقع ومتهيئ لمستقبله.

3- في معنى هذه المبادرة وأبعادها الإستراتيجية:

إن هذه المبادرة هي مبادرة سياسية وحضارية ذات بعد استراتيجي لأنها مرتبطة بقضايا النهضة والتقدم وهي لا تقتصر على طرف دون طرف آخر بل  تهم  المجتمع ككل ودرجة الوعي التاريخي لديه في مرحلة تاريخية من تطوره.

إن النهضة الجزائرية التي ننشدها ترتكز على مصطلحين أساسيين وهما الميثاق الوطني والكتلة التاريخية وكلا المصطلحين  لهما  مرجعية فكرية وسياسية   في تاريخ الجزائر الحديث  و من هنا  قدرتهما على التوصيف والتحليل والتعبئة فالميثاق  الوطني  هو تلك النصوص الأساسية التي صادق عليها الشعب الجزائري لتنظيم شؤونه  وشؤون الدولة والمجتمع سنة 1976.

أما الكتلة التاريخية فتذكرنا بثورة أول نوفمبر الخالدة حيث  تحرر  الشعب الجزائري من أحزابه السياسية  التقليدية التي كان  يناضل فيها  وانخرط في جبهة جديدة (جبهة التحرير الوطني) مشكلا  بذلك كتلة تاريخية لتحقيق الأهداف المعلنة وهي أهداف الحرية والاستقلال واستعادة السيادة الوطنية واقامة الدولة الجزائرية المستقلة.

إن مبادرتنا إذا تعتمد على مجموعة مبادئ وأهداف يكون حولها إجماع  (ميثاق وطني)  وهذه الأهداف ذات طابع نهضوي ينخرط الجميع في تحقيقها وتقييمها  من خلال كتلة تاريخية جزائرية جديدة  والتي تمثل الطاقات الحية في المجتمع  بكل أشكاله وألوانه وأنواعه وتياراته ومشاربه.

4- ميثاق وطني من أجل النهضة:

يتذكر الجزائريون الميثاق الوطني الذي اقترحه الرئيس الراحل الهواري بومدين سنة 1976 وهو مجموعة من النصوص تؤطر النظرة التاريخية للمجتمع الجزائري وتبين طرق  تطوره و رقيه و نحن   ، كذلك في هذه المبادرة ولو يشكل مختلف تقترح مجموعة من الأفكار والمبادئ والأهداف تتمتع بالقبول العام والإجماع الوطني ولكن هذه الأهداف والمبادئ ذات طابع عملي ومرتبطة بنظام الزمن وهي بمثابة أهداف مستقبلية تشمل نهضة جديدة وتنمية  وطنية شاملة تغير مصير الإنسان الجزائري والمجتمع الجزائري في مرحلة معينة من التاريخ.

إن هذا الميثاق هو بمثابة عقد اجتماعي جديد يشمل  السلطة  والمجتمع بكل مكوناته وطاقاته ويؤسس لمرحلة تاريخية  جديدة مرتبطة بالمكانة الجديدة للمجتمع الجزائري في التاريخ المعاصر ويمكن تلخيص الخطوط العريضة والعامة لهذا الميثاق في النقاط التالية:

أ- الإتفاق على أهداف مستقبلية وحتى لا تبقى هذه الأهداف نظرية ومثالية يجب تفعيلها في الميدان واختبارها في الواقع بواسطة البرامج  التنموية  المختلفة في شتى المجالات المرتبطة بحياة الجزائري وواقعه وتطلعاته ،كما  يجب ربط كل هدف بتاريخ زمني معين حتى نتجاوز  ثقافة الكلام وحتى لا نهرب  من  المسؤولية  أو نتهرب منها .

ب- ضرورة تسطير أهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة مثل تحقيق الإكتفاء الذاتي في مجال الفلاحة (هدف قصير) وخلق اقتصاد انتاجي خارج المحروقات (هدف متوسط) وتبوأ  الجزائر مكانة  معتبرة في الإقتصاد العالمي على أن تكون ضمن العشر الدول على مستوى العالم في مجال الإقتصاد (هدف بعيد).

ج- التقييم السنوي والمرحلي  لهذه الأهداف مراجعة ومراقبة  وتقييما، ما تحقق منها وما لم يتحقق من خلال المؤسسات االدستورية  والمدنية و الشعبية.

د- الخروج من الوعود الميتافيزيقية أو بالأحرى، اللغة الميتافيزيقية مثل قول المسؤولين سنحقق هذا المشروع في السنين القادمة أو الأشهر أو  الأسابيع أو الأيام القادمة    وهي كلها مواعيد لا تأتي أبدا وهي لغة تخلف بامتياز تتميز بغياب المسؤولية وصوت الضمير ولعل مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة في التأسيس  لخطاب سنوي  رئاسي أمام ممثلي الشعب والأمة يندرج في إطار هذا المسعى وهذه النظرة الرقابية والتقييمية للأوضاع الاقتصادية والإجتماعية  والسياسية للبلاد وهي نظرة إستراتيجية  تحمل مشروع نهضة حقيقية تربط الفكر بالعمل وتعطي مصداقية للغة (الواقع الموضوعي) أي ما تحقق بالفعل بعيدا عن الوعود والرغبات والتمنيات والتهويمات التي تبقى مجرد أفكار في ذهن أصحابها وأحلام مجنحة بدون ضوابط.

إن تخصيص الدولة الجزائرية ميزانية  ضخمة  لسنة 2024 وهي أكبر ميزانية  منذ استرجاع السيادة الوطنية بمبلغ قدره 113 مليار دولار من شأنه أن يكون انطلاقة لنهضة جزائرية حقيقية تكون محل اعتزاز وافتخار لكل الجزائريين والجزائريات.

5- كتلة تاريخية جزائرية جديدة:

إذا كان الميثاق الوطني للنهضة هو مجموعة من المبادئ والأهداف المشتركة والمكرسة وذات طابع استراتيجي فإن مفهوم الكتلة التاريخية هو مفهوم سياسي وفكري شائع في الأدبيات السياسية الحديثة والمعاصرة، مثل الكتلة التاريخية العربية  أو الكتلة التاريخية لأي قطر من أقطار العالم العربي وعلى العموم فإن مفهوم الكتلة التاريخية يعني أن تحقيق الأهداف المأمولة لا يمكن تحقيقها بواسطة طرف دون طرف آخر، في غيابه أو في تهميشه وإقصائه وإنما يقتضي  تحقيقها مساهمة جميع الأطراف مشتركين ومتحدين  حول أهداف محددة دون أن يذوب أحدهما في الآخر.

وفي هذا الإطار وداخل هذه الرؤية، ماذا نعني بالكتلة  التاريخية الجزائرية الجديدة؟

إن الكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هي ائتلاف فكري وتوافق وطني وإجماع داخلي محكوم برؤية إستراتيجية وفق أهداف محددة، معلنة وواضحة وتتكون  و تتشكل هذه الكتلة التاريخية من السلطة والمعارضة معا ومن كل القوى والطاقات الحية التي لها حضور داخل المجتمع كالأحزاب السياسية والنقابات والمهنيين والمجتمع المدني والشخصيات الفكرية والثقافية والدينية والفنية.

إن الكتلة التاريخية ليست بديلا عن الأحزاب السياسية  أو المنظمات الأخرى ولا يعني أن تتخلى هذه الأحزاب عن برامجها أو تجمد نشاطها أو تحل نفسها ولكنها تكتل تاريخي وطني لتحقيق أهداف النهضة الجزائرية المأمولة والتي تنقل المجتمع الجزائري من مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة نلمس فيها ومن خلالها مؤشرات التقدم والسير إلى الأمام.

والكتلة التاريخية الجزائرية هي جديدة ومتجددة لأن  الشعب الجزائري شكل  وأسس كتلة تاريخية في  تاريخه المعاصر إبان ثورة التحرير المباركة من خلال جبهة التحرير الوطني التي استوعبت جميع التيارات والأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية وانجزت بواسطة هذه الكتلة  التاريخية  أهداف الحرية والاستقلال وبالتالي فإن مفهوم الكتلة التاريخية ليس غريبا عن المجتمع الجزائري ومن هنا يمكن تشكيله وتأسيسه في أي مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا النهضة والتقدم.

إن مبادرة الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هو مشروع وطني حضاري أصيل تؤطره رؤية إستراتيجية للمستقبل  وحس   تاريخي نابع من تطلعات شعبنا الجزائري إلى تبوأ  مكانة  مهمة في التاريخ العالمي ولا شك أن المحطة  السياسية  التاريخية التي تربط بين 2024 و 2030 ستكون بلا شك محطة ملهمة وحاسمة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية .إنه مشروع وطني كبير ويستحق منا كل جهد وتضحية.

***

الدكتور قادة جليد - استاذ جامعي وباحث وكاتب ونائب سابق

 

لتعريتهم لجرائم إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

إستجابة للدعوى المرفوعة أمامها من قبل دولة جنوب أفريقيا ضد دولة الإحتلال الإسرائيلي، متهمة إياها بإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ومخالفتها لإلتزامها بإلإتفاقية الدولية لمنع جرائم الإبادة الجماعية، الموقعة عليها، عقدت محكمة العدل الدولية جلستين يومي 11 و 12 كانون الثاني الجاري، خصصت الأولى لمرافعة المدعي- جنوب أفريقيا، والثانية لدفاع المدعى عليه- إسرائيل.

إستندت جنوب أفريقيا في الدعوى المؤلفة من 84 صفحة الى "أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها التي تحمل طابع إبادة جماعية لأنها مصحوبة بالنية المحددة لإبادة فلسطينيي غزة تدميرهم كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع أي الفلسطينيين، فقتلت اَلاف المدنيين وأصابت اَلاف أخرين وقامت بتدمير كافة البنى التحتية في قطاع غزة، وهدمت البيوت والعمارات والمدارس والمساجد والمستشفيات على رؤوس المدنيين، ومنعت عنهم الماء والكهرباء والغذاء والأدوية.وهجّرت نحو مليون مدني فلسطيني من القطاع، وقتلت المئات منهم في المناطق التي أمرتهم بالإنتقال إليها.

وطالبت جنوب أفريقيا من المحكمة ان تتخذ تدابير وقائية/ إحترازية عاجلة لحماية المدنيين وأولها إيقاف العمليات العسكرية في غزة فوراً. وقدم الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، المؤلف من خبراء قانونيين، برئاسة وزير العدل، أسباب موجبة قوية- برأي خبراء في القانون الدولي، موضحاً بان الوقف الفوري للعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة، وحماية المدنيين من سكانها الذين يبلغون 2 مليون و 300 ألف نسمة، لهو أمر هام وضروري وعاجل، لأن ما يجري في غزة الآن ومنذ السابع من تشرين الأول الماضي، ونتيجته قتل إسرائيل حتى الآن لأكثر من 23 ألف مدنياً،غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وأصابة نحو 60 ألف اَخرين، هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتُرقى لمصاف جرائم الإبادة الجماعية.

وأكد الفريق القانوني بالأدلة القاطعة ان هذه الجرائم هي جزء من القمع الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدار عقود طويلة.وفي ضوء حجم الدمار في غزة واستهداف المنازل والمدنيين، أصبحت الحرب حرباً ضد الأطفال. وكل ذلك يلقي الضوء على نية الإبادة الجماعية ووضعها حيز التنفيذ، وهو ما يشير بوضوح إلى أن المستهدف من هذه الحرب هو تدمير الحياة الفلسطينية. وان القصد الواضح هو تدمير حياة الفلسطينيين. وأن السمة المميزة للقضية هي تكرار وإعادة خطاب الإبادة الجماعية في كل مجالات الدولة في إسرائيل.وهو سلوك معروف لأجهزة الدولة ووكلائها وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها. وهو ما يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وأكد الفريق فشل إسرائيل في منع الإبادة الجماعية، وفشلها في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من قبل كبار مسؤوليها. وبالمقابل، أعلنت قبولها بالمثول أمام المحكمة لمواجهة ما أطلقت عليه "الاتهامات السخيفة التي لا أساس لها، الموجهة لها من قبل جنوب أفريقيا"، متجاهلة  تأكيد معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي، مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، وأطباء بلا حدود، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) الأونروا (ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، والصليب الأحمر الدولي، للطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي هيئات الإغاثة الدولية. فعلى سبيل المثال، أعلنت الأونروا" ان الحرب الإسرائيلية على على قطاع غزة المحاصرة وجسامة الموت والدمار والتهجير والجوع والخسارة والحزن، في الـ 100 يوم الماضية، تُلطخ إنسانيتنا المشتركة".

وهكذا، كشف الفريق القانوني لجنوب أفريقيا الودجه الحقيقي البشع لإسرائيل ولتمثيلها دور الضحية.

في اليوم الثاني للمحكمة، قدمت إسرائيل دفاعها عن الإتهامات الموجهة لها في الدعوى، وقد فشل فريقها القانوني، المؤلف من خبراء قانونيين دوليين، في سعيه المحموم للإفلات من تهمة الإبادة الجماعية، مقدماً، برأي خبراء في القانون الدولي، دفاعاً ضعيفاً وبائساً وبعيد كل البعد عن الواقع والحقائق، ويتضمن ثغرات كبيرة.. دفاعا سياسياً، لا قانونياً، تارة يستجدي العطف بإسم المحرقة النازية لليهود أمام المحكمة التي تأسست من إجلها ومن أجل منع تكرارها، وتارة أخرى أراد إيصال تحذير لامحكمة. من أنها تنظر في قضية " ليست" من إختصاصها أو من صلاحيتها، محاولآ التشكيك بالإجراءات الشكلية للدعوى أمام المحكمة ببعد خطابي وليس قانونياً..

في جوهر الدعوى، لم تفلح إسرائيل بتفنيد إتهامها الموثق بالأدلة بتوفر النية في إرتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين، حيث لم تقدم أي دليل مقنع يبرر جرائمها بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة التي ترقى الى مصاف جرائم الإبادة الجماعية، بالإستناد الى أحداث الحرب على سكان غزة ووفقاً للأتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية، وللقانون الإنساني الدولي.

وفشلت إسرائيل في الرد قانونياً على طلب جنوب أفريقيا من المحكمة إتخاذها الإجراءات الإحترازية لإيقاف العمليات العسكرية على غزة وحماية المدنيين الفلسطينيين.

وفشل فريقها القانوني بالتدليل قانونيا على زعمه:" ما قامت به إسرائيل هو دفاع عن النفس، ولم توجد لديها النية لإبادة المدنيين الفلسطينيين، وإنما حماس هي من يريد إبادة الشعب الإسرائيلي". وكرر بان "الإجراءات الإحترازية  المطلوبة تريدها جنوب أفريقيا لحرمان إسرائيل من حق الدفاع عن النفس، وجعلها عاجرة عن الدفاع عن النفس"(كذا!!!). وهم يعلمون ان المحتل لا يحق له الدفاع عن النفس، وفق القانون الدولي.

وبكل صلافة وغباء قال القانونيون الإسرائيليون:" كل ما قامت به إسرائيل لا يستوجب النظر أمام المحكمة الدولية، لأن الجيش الإسرائيل هو أكثر جيوش العالم أخلاقياً، والقضاء في إسرائيل مستقل، ويمكن رفع الدعاوى المدنية أو العسكرية إليه "..

عموماً،تقييم الرد الإسرائيلي إختصره خبير قانوني دولي بانه: رد المهزوم والمذعور والمفلس والكذاب والمفتري، الذي سعى وحاول نكران إرتكاب الإبادة الجماعية اليومية التي يشاهدها ملايين البشر في أرجاء العالم على شاشات القنوات الفضائية يومياً.

وعلق رئيس الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في مؤتمر صحفي: لم تكن إسرائيل متوازنة أمام محكمة العدل الدولية، وكانت تردد أكاذيب وتوجه الإتهامات الواهية، ساعية لتبرير جرائمها، ولكنها فشلت،إذ لم تقدم أي دليل مقنع على إتهامها للفلسطينيين. وإجمالآ لم تقدم ما يبرر جرائمها التي تُرقى لمصاف الإبادة الجماعية وفق الإتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية..

وكتب الصحفي الجنوب أفريقي، توني كارون، في "الغارديان"، يقول إن شبح العزلة الدولية الذي طالما تخوّف منه قادة إسرائيل ظهر أخيرا في محكمة العدل الدولية.ورأى أن معظم هؤلاء القادة الإسرائيليين لم يكونوا يتوقعون أن يأتي ظهور هذا الشبح بموجب دعوى قضائية ترفعها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.

ولفت الكاتب إلى ما أظهرته تصويتات جرت مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة من "صدمة المجتمع الدولي من وحشية إسرائيل في غزة، ورغم تلك الصدمة لا يزال هذا المجتمع غير قادر على اتخاذ أي خطوة".

ورأى كارون أن ما يجعل خطوة جنوب أفريقيا استثنائية هو حقيقة أن "اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية يعني بالتبعية اتهام مَن يقدّم لها الحماية والتمكين الدبلوماسي -الولايات المتحدة- بالتواطؤ في جريمة هي الأسوأ بين الجرائم".

وأكد خبراء في القانون الدولي بأن الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس المختل عقليا جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ووزير دفاعه لويد أوستن، ومساعديهم، جميعهم  يُعتبرون مجرمو حرب، وذلك لدعمها السافر لحكومة مجرم الحرب الصهيوني الفاشي نتنياهو،عسكرياً، ولتزويدها بكل أنواع الأسلحة الفتاكة حتى المحرمة دوليا، وإستخدامها ضد المدنيين والأطفال،وتوفيرها الغطاء الدبلوماسي إثناء إرتكابها للفضائع بحق المدنيين الفلسطينيين، وشلها المساعي الدولية لأيقاف المجازر الإسرائلية الهمجية اليومية في غزة.وهذا ما فعلته في إجتماع مجلس الأمن الدولي، مستخدمة حق النقض/ الفيتو،ضد مشروع قرار يدعو لوقف الحرب لأسباب إنسانية، والذي عقب عليه لويس شاربونو، مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في الأمم المتحدة، قائلآ: "حق النقض الذي استخدمته الولايات المتحدة منع مجلس الأمن الدولي من القيام ببعض الإجراءات التي تطالب بها واشنطن نفسها، بما في ذلك الامتثال للقانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين وإطلاق سراح جميع المدنيين المحتجزين كرهائن"..وأكدد أنه من "خلال الاستمرار في تزويد إسرائيل بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي أثناء ارتكابها الفظائع، بما في ذلك العقاب الجماعي للسكان المدنيين الفلسطينيين في غزة،، فإن الولايات المتحدة تخاطر بالتواطؤ في جرائم الحرب"...

الى هذا، لابد من الإشارة الى تزايد الدعم الدولي بشكل متسارع لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل ولإتهامها بالإبادة الجماعية في غزة. فقد أيدت الدعوى 21 دولة، هي: تركيا وأيران  وباكستان وماليزيا وبنغلاديش وناميبيا وإندنوسيا وكوبا وبلجيكا وجزر المالديف وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا والبرازيل ونيكاراغوا وكولومبيا وجيبوتي وجزر القمر، والأردن وليبيا و العراق .

أما فرنسا وكوستاريكا ومفوضية الاتحاد الأوروبي فقد أدلت بتصريحات تفيد بأنها ستدعم عملية التقاضي في محكمة العدل الدولية وقرار المحكمة، دون الإدلاء ببيانات تدعم جنوب إفريقيا بشكل مباشر.

ومن المنظمات الدولية المؤيدة للدعوى: منظمة العفو الدولية، المجلس التقدمي الدولي، التحالف الدولي لوقف الإبادة الجماعية في فلسطين، ومنظمة االتعاون الأسلامي وجامعة الدول العربية.ونشير هنا الى ما أعلنه  مكتب حقوق الإنسان:" إسرائيل تعرض نفسها للمسؤولية عن جرائم حرب بسبب سير عمليتها في غزة". وكررت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان دعوتها إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة على أسس إنسانية وحقوقية، وذلك "لإنهاء المعاناة المروعة والخسائر في الأرواح، والسماح بالإيصال السريع والفعال للمساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يواجهون مستويات صادمة من الجوع والمرض".

ودعا تحالف سوبار وحزب بودوموس وأكثر من 250 شخصية حقوقية، بينهم قضاة ومحامون وأكاديميون،الحكومة الإسبانية للإنضمام الى البلدان الداعمة لدعوى جنوب أفريقيا ضد الجرائم الإسرائيلية.

وطالب حزبا اليسار البيئة الحكومة السويدية بالوقوف الى جانب جنوب أفريقيا في إتهاماتها لإسرائيل. وطالب جيريمي كوربين، الرئيس السابق لحزب العمال المعارض في بريطانيا، حكومة بلاده بدعم دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية.

وفيما أعلنت الولايات المتحدة (كالعادة) والمجر وباراغواي وغواتيمالا معارضتها للدعوى القضائية، أعلن 200 أكاديمي وخبير في القانون الدولي، معظمهم من جامعات أميركية عريقة، تأييدهم الدعوى ضد حكومة إسرائيل، لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية .وجاء في الرسالة التي يجري التوقيع عليها من الخبراء: " باعتبارنا باحثين وممارسين في القانون الدولي، ودراسات الإبادة الجماعية، والدراسات الدولية، والمجالات المماثلة المتعلقة بالعدالة العالمية، فإننا نؤيد طلب جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية كخطوة نحو وقف إطلاق النار الضروري في غزة، وتحقيق العدالة في فلسطين".

فتحية إجلال وإكبار وإمتنان لأحفاد منديلا الشجعان،فخر جنوب أفريقيا، لدورهم القانوني المهني الرصين في تعرية جرائم إسرائيل  النكراء أمام محمكة العدل الدولية، وتضامن حكومته غير المحدود مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، في وقت يصر الحكام العرب على مواقفهم الجبانة والمتواطئة المخجلة، وأغلبهم لم يعلن حتى الآن تأييده لدعوى جنوب أفريقيا !

***

د. كاظم المقدادي - أكاديمي عراقي متقاعد، مقيم في السويد

 

مقدمة: السياسة هي المجال الذي يتم فيه تقديم الوعود، وغالبًا ما تكون مصحوبة بالعظمة والقناعة. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن الوعود التي قطعها السياسيون غالبا ما يندر ما يتم الوفاء بها، مما يؤدي إلى انعدام الثقة بين السكان والسياسيين. يتعمق هذا المقال في الأسباب التي تجعل المرء لا ينبغي له أبدا أن يثق في السياسي بناء على وعوده فقط والآثار الضارة التي تحدثها على العملية الديمقراطية.

1. يعطي السياسيون الأولوية للشعبية على النزاهة: أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل السياسيين يخالفون وعودهم هو رغبتهم في الحفاظ على شعبيتهم. إنهم يقدمون وعودا خلال الحملات الانتخابية لتأمين الأصوات، لكنهم يفشلون لاحقا في الارتقاء إلى مستوى التوقعات. إن هذه الأولوية التي في غير محلها تؤدي حتما إلى تآكل ثقة الجمهور وتقويض أسس الديمقراطية.

2. المساءلة المحدودة والتداعيات: عدم وجود عواقب وخيمة على السياسيين الذين يخالفون الوعود يؤدي إلى تفاقم المشكلة. وعلى عكس عالم الشركات، حيث المساءلة أكثر انتشارا، نادرا ما يواجه السياسيون تداعيات كبيرة على أفعالهم الخادعة. ويؤدي هذا الافتقار إلى المساءلة إلى إدامة ثقافة الوعود التي لم يتم الوفاء بها.

3. تغير المشهد السياسي: غالبا ما يواجه السياسيون تحديات غير متوقعة عند توليهم مناصبهم. مثل هذه الظروف يمكن أن تفرض تغييرا في الأولويات والتخلي عن الوعود التي تم التعهد بها خلال الحملة الانتخابية. وفي حين أن التكيف مع المناظر الطبيعية المتغيرة قد يكون ضروريا، فإنه يكشف أيضا عن هشاشة الوعود السياسية وقابلية التلاعب بها.

4. ممارسة الضغط والمصالح الخاصة: كثيرا ما يجد السياسيون أنفسهم مدينين لمجموعات المصالح القوية وجماعات الضغط التي تمول حملاتهم. وبالتالي، قد يضحي هؤلاء السياسيون بوعودهم مقابل الحصول على خدمات سياسية، مما يزيد من تآكل الثقة بين الناخبين وبينهم.

5. الافتقار إلى الشفافية: في كثير من الحالات، يفشل السياسيون في تقديم خطة شفافة ومفصلة للوعود التي يقطعونها. وعندما لا يكون الناخبون على دراية بالجوانب العملية والتحديات المرتبطة بتنفيذ تلك الوعود، فمن المحتم أن يتبع ذلك خيبة الأمل وخيبة الثقة في السياسي.

6. التنازلات في السعي إلى السلطة: غالبا ما تتطلب الطبيعة المعقدة للسياسة تقديم تنازلات لتأمين دعم مختلف أصحاب المصلحة. ومن الممكن أن تؤدي هذه التنازلات إلى الإخلال بالوعود، مما يجعل المواطنين محبطين ومتشككين في قدرة الساسة على الوفاء بوعودهم.

7. تغيير الأيديولوجيات السياسية: تتميز السياسة بالتطور المستمر للأيديولوجيات وتغير الأولويات. ومع تكيف الساسة مع الأوقات المتغيرة، فإن بعض الوعود قد تصبح بالية أو غير متوافقة مع الأهداف الأحدث. وعلى الرغم من أهمية هذه القدرة على التكيف، إلا أنها قد تؤدي إلى خيبة الأمل بين الناخبين.

8. السياسة الحزبية والجمود: غالبا ما تقع الوعود التي يقطعها السياسيون ضحية للسياسة الحزبية والجمود السياسي. إن غياب التعاون بين الاحزاب السياسية غالبا ما يعيق الوفاء بوعود الحملات الانتخابية، مما يؤدي إلى استمرار الوعود الكاذبة وخيبة أمل الناخبين.

9. نطاق التحديات المجتمعية وتعقيدها: غالبا ما يتم تقديم وعود الحملات الانتخابية باستخدام حلول مبسطة لمشاكل معقدة للغاية ومتعددة الطبقات. عندما يواجه الساسة هذه التعقيدات، فإن الوعود غالبا ما تنكث بسبب المبالغة في تقدير التحديات المطروحة أو التقليل من شأنها.

10. الرضا عن النفس وعدم المشاركة: أخيرا، يجب على الشخصيات البارزة في المجال السياسي أن يتعاملوا مع جمهور الناخبين الذي يقبل باستمرار ويتسامح مع الوعود التي لم يتم الوفاء بها. فعندما يفشل المواطنون في محاسبة السياسيين ويظلون منفصلين عن العملية الديمقراطية، فإن دائرة الوعود التي لم يتم الوفاء بها تستمر.

خاتمة:

ورغم أهمية المشاركة في العملية الديمقراطية، فإن الاعتماد على وعود الساسة فقط يشكل ممارسة لا طائل من ورائها. تسلط الأسباب العديدة المذكورة أعلاه الضوء على المخاطر الكامنة في الثقة في قدرة السياسيين على الوفاء بتعهداتهم الانتخابية. ومن الممكن أن يساعد وجود ناخبين أكثر استنارة ومشاركة، إلى جانب تدابير المساءلة الصارمة، في الحد من تكرار الوعود التي لم يتم الوفاء بها واستعادة الثقة في النظام السياسي في نهاية المطاف.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الأستاذ حسن إسماعيل، بلا شك يتسيد الآن الساحة، وتنتظر شرائح كبيرة من مجتمعنا السوداني، طلته عبر الشاشة البلورية في شوق ولهفة، لقد تغاضى مجتمعنا عن انتهازية مزعومة للرجل، دمغه بها نفر عظيم من السودانيين، وبات هم الناس، كل الناس، في وطننا الجريح أن يسمعوه، وأن يسمعوه في تأني وحرص، ويساورهم ذلك اليقين الجازم، بأن كل ما يذهب إليه في تحليلاته الدقيقة، هو الصواب الذي لا فصال فيه، وفي الحق أن الكاتب الصحافي، والمحلل السياسي حسن إسماعيل، يعبر عن كل الغيظ والحنق، الذي يعصف بأفئدة الناس من المليشيا المارقة، مليشيا الدعم السريع، تلك المليشيا التي مزقت الأمصار، واعتدت على الديار، واستباحت الذمار، وانتهكت العروض.

 أنا على الصعيد الشخصي، يعجبني عقل هذا الرجل، ويمتعني حديثه، لأنه قد أصاب من البداهة نصيب موفور، ولأن كلامه الخالي من السذاجة والنقص، مترعا بالأدلة والشواهد، وعن كنه المواضيع التي يتناولها الأستاذ حسن بالشرح والتحليل، ويبسط فيها لسانه الطلق بغير حساب، فهي تلك المواضيع التي أقحمتها الأحداث، ووقائع الدهر، في حياة الناس العقلية والشعورية، فمما لا يغيب عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن هذه الهيجاء قد ابتدعت لونا من اللذة جديدا، ونوعا من الاعجاب فريدا، وهو التحلق حول شاشة تلك القناة التي جعلت كل برامجها وموادها الاخبارية رهينة لنصرة الجيش، وانتظار ذلك البرنامج، الذي يزيل فيه جنان الأستاذ عن نفسك طائفة من الغشاوات، غشاوات تتفاوت كثافة وحدة، تستمع فيها لتحليلات الأستاذ حسن، وأنت مقتنعا بها، مطمئنا إليها، مستسلما لها، وقد وضع لها نظاما فيه شيء غير قليل من الترتيب والتنسيق، فيعمد إلى أبسط هذه الغشاوات، وأشدها سذاجة، فيستقصي أمرها، ثم يبين لك عيوبها وأعطابها، وتهافت أصحابها، وفي الجملة يهدم معبادها، ويمحو شخصية أفرادها، ولا تزال أنت متابعا له، وهو يهضب في حديثه الذي يلائم حاجتنا إلى التشفي ملائمة صحيحة، ففي التفاتات الأستاذ، ما هو كفيل بأن يهدئ من شهواتنا الحادة، التي لا سبيل إلى تهدئتها، فنحن في حاجة فعلا، لأن نخضع تلك الشهوات المضطرمة وننظمها، فليس من اليسير جدا علينا، أن نطرد هذه الرغبة الملحة في الانتقام، الإنتقام ممن أحالوا حياتنا إلى شقاء، فالناس فعلا محتاجة لأن تنتقم من مصادر هذه النكبات، ونحن هنا نعترف في وضوح وجلاء، أن شهوة الانتقام صخابة متأججة، ممن دفع مجتمعنا لأن يبحث عن مواطن العزلة، في الكهوف، وأعالي الجبال، عله ينجو من سخط الجنجويد، وهجماتهم الوحشية، نقر أيها السادة في إذعان ووضوح، أن كلفنا بشهوة الانتقام من بربرية الدعم السريع، باتت هي المسيطرة على عقولنا، والمهيمنة على وجداننا الشاحب، وأمسينا في تماهينا الصاخب معها، نضيف إليها كل شيء، ونقصر عليها كل عناية، فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء، أن يتهمنا أحد بالجموح والشطط، فهناك من يعتقد أن كلامنا هذا ليس من شأنه أن يفهم، فالألفاظ التي تدل عليه، وتوضحه، هو يمجها ولا يستسيغها، لأنه ببساطه لا يستطيع أن يتحمل نقدنا لمليشيا الدعم السريع، ولا حكمنا فيها، من هنا نستطيع أن نرى أشياء ولا نشك في صحتها، فالحقيقة التي لا نستطيع أن نغمط منها أو نزيد، أن هناك طائفة من الناس تكره رأينا هذا، وتنكره، وتنصب الحرب له، بل لا تتوانى عن شمتنا بأقذع الألفاظ في صراحة وحدة، إذا صدعنا برأينا المندد بسلوك المليشيا، والداعي إلى محقها وازالتها عن الوجود . ونحن نقرأ كل هذا الثلب والذم، ونبتسم في أسى، فقتل الرأي الحر وازهاقه، والاساءة إلى صاحبه، لا يعد جريمة في أرض النيلين، وهل نعد وأد الرأي وتكميمه جريمة، إذا ما قارناها بغيرها من الجرائم المتفشية في سوداننا الآن، والتي إنتقلت أطوارها في مجتمعنا الهش من طور إلى طور، حتى وصل لازهاق الشعب بأسره وإبادته، أمام مرأى من العالم، والعالم الذي يغفل عن مجازر السودان في كسل وتراخي، يسعى كما يزعم نافذوه، أن يستكشفوا حقيقة الدعم السريع، حتى يستطيعوا أن يصفوه وصفا واضحا لا لبس فيه.

إن كل ما وصلنا إليه، بعد كل هذه السنوات من الكتابة الصحفية، استحالة الرضى، وحسن الوفاق، بين طوائفنا السياسية المتعددة، فبعض الطوائف يسوؤها حقا أن تنتحل نهجا مخالفا لنهجها، ورأيا مغايرا لرأيها، فالتعصب لحزب، أو الانكفاء على جماعة، حقا مشاعا للجميع، ولكن كل هذه الحقائق التي تمثل خلاصة الحياة العقلية القديمة، ما زال البعض يجهلها، أو ينكرها في اسراف وشطط، هذه الطبقة الاقصائية، غالبا ما تطربها أنغام الذل والمهانة التي لحقت باطياف المجتمع السوداني، فما حلّ بمجتمعنا الصابر على عرك الشدائد، لم يمس شيئا من عواطف هذه الناجمة، أو يبعث في نفوسها الصدئة ولو خيطا ضئيلا من الرغبة في الانتقام، لأن قناعاتها أن هذا البلاء، لم تصليه مليشيا الدعم السريع، إلا على جحافل الفلول، من بقايا نظام الحركة الإسلامية، الذين قادهم حظهم العاثر لأن يبقوا في أتون هذه الكريهة، ولم يفروا بأموالهم المكدسة إلى تلك الدول الراقية، في الخليج العربي، أو آسيا الوسطى، هذه الطبقة من الناس تعتقد أن كل من شايع الحركة الإسلامية السودانية، قليل الحظ من الأمانة، وأنه لم يغتني- هذا إذا كان غنيا فعلا- إلا من سعة، لم يتعب هو في جنيها وتحصيلها، وأنه لم يصبها إلا من مال الشعب وذخائره، لكن تظل الأشياء حولنا ثابتة، لا تتغير جواهرها، ونحن حتى تصل الإنسانية إلى درجة متقدمة من الاصلاح والرقي، علينا أن نساير تلك الطائفة، وأن نتحمل عقابيلها، ونذود طعنها وتشنيعها بنا بالفتور والإهمال.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم