آراء

آراء

لا يا بنجلون .. 7 أكتوبر ليس تاريخ اغتيال القضية الفلسطينية؟

فاجأني المقال الأخير للكاتب المغربي الطاهر بنجلون المقيم في فرنسا، والمنشور في العدد الجديد من "لوبوان" الفرنسية، تحت عنوان (7 أكتوبر تاريخ اغتيال القضية الفلسطينية).

المقال يوضح بالملموس، انجراف الحائز على جائزة الغونكور الفرنسية، مع ماكينة الإعلام الغربي الحربي الموجه، ووقوعه في كمينه الخسيس، بعد سلسلة من الترويجات المسيئة للمقاومة الفلسطينية، بدءا بقتل المدنيين الإسرائيليين، وقطع رؤوس أطفالهم ونسائهم، وترويع السياح من مختلف جنسيات العالم، وانتهاء بتشويه الدين الإسلامي، واعتباره نافذة لتفريخ الإرهاب والقتل وسفك الدماء.

وكان الرئيس الأمريكي جو بادين قد تراجع عن تصريحاته السابقة حول ادعاءات بتنفيذ حماس لعمليات بقطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، خلال اجتماعه مع الطائفة اليهودية في البيت الأبيض. قبل أن ينقل  صحيفة واشنطن بوست عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله إنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى أي صور أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل".

وشنت صحف مقربة من الجيش الإسرائيلة، من بينها "إسرائيل اليوم"، حملة ل"دعشنة المقاومة الإسلامية حماس، زاعمة أن "السلطات الإسرائيلية تعتقد أن الإرهابيين، الذين قتلوا عددا من سكان الكيبوتس، خططوا لرفع علم داعش، ولكن قوات مكافحة الإرهاب قضت عليهم قبل أن يتمكنوا من تنفيذ خطتهم"، مستطردة أنه "اكتشف علم تنظيم داعش الإرهابي على جثث الإرهابيين في كيبوتس (صوفا) في أعقاب الهجوم عليها".

وأوردت الصحيفة نفسها عن قائد لواء "غزة 99" العقيد باراك حيرام - في وقت سابق أمس- أن هناك "فظائع شهدتها إحدى الكيبوتسات، وخلال عمليات البحث فيها وجدنا أشخاصا مقيدين أطلق النار عليهم وأطفالا جرحى، ورضعا في عربات الأطفال.. لم يكن هناك رحمة".

الكاتب الفرنكوفوني الطاهر بنجلون، حزين جدا للهجوم الذي نفذته حماس يوم السابع من أكتوبر الجاري، لدرجة أنه "شعر بالرعب" من هذه الهجمات التي أصابت الإنسانية جمعاء بالصدمة والاستنكار. بل إنه عبر عن فتنته النفسية العصيبة، مؤولا ذلك إلى ما يشبه الضياع الروحي والقيمي، قائلا: “أنا في وحدتي، في حزني وخزي كإنسان، في اشمئزازي من هذه الإنسانية التي أرفض الانتماء إليها، أقول لا، هذا قتال لا يحترم قضيتهم. لا، لهذا التصفيق في بعض العواصم العربية. لا، لهذا الانتصار الدموي للأبرياء. لا، لعمى أولئك الذين يحركون خيوط المأساة، حيث، عاجلاً أم آجلاً، سيكون السكان الفلسطينيون هم الذين سيدفعون هذه الفاتورة الباهظة"؟.

لا أنتقد إحساس الكاتب بما هو حقيق بالواقع، بل أعاتبه لما هو أعلى من ذلك وأكثر، كونه، وهو الروائي الرائي الملتقط لكل تفاصيل الحياة ودهاليزها، والمتربص بشخوص وأمكنة المجتمعات الحضارية، الشغوف برسم معالم القيم والأحوال والمتغيرات، لا يستطيع أن يفصل بين التضليل والكذب وتشويه التاريخ وشيطنة الأفعال الإنسانية، وبين التبين والحقيقة والنظام القيمي العام؟.

صاحب أجمل الروايات وأعمقها حسا ورؤية واستشرافا للجمال والحرية والمساواة والعدل، (من يقرأ “تلك العتمة الباهرة”، و “موحي الأحمق، موحي العاقل” و”صلاة الغائب” و”طفل الرمال” و”ليلة القدر"،.. وغيرها، سيجد هذه الضالة المنشودة)، لم يكتب لحسه السادس ونزعته الإشراقية الصافية أن تبحث عن حتوف وإضلال ما ينتويه قراصنة التعتيم والتشهير والإمعان في الغش. وسرعان ما سرت أحاجي الإعلام الغربي، والفرنسي على وجه الخصوص، في دم نصوصه وأفكاره وقناعاته، مرتوية من أجيج الهتك والإغارة وتقوية الزيف وتلبيس منطق المسافهة.

وما يثير العجب فعلا، أن يكون زعيم حركة العمل البجيكية راؤول هيديبو، الذي نشرت "لوبوان" رأيه في ذات العدد، أقل توترا وزيغا وعدوانية، بل إنه تحدث بمرارة عن تكريس مفهومية الاحتلال وخنق قطاع غزة، معتبرا أن ما يصدر عن حركاته الداخلية هي "ردود أفعال"، ومستنتجا أن "لا حل سوى التحرير".”

إن العودة إلى رثائية بنجلون على نفس النهج، تكسر جانبا مهما من ثقافة التزكية والمؤامرة، حتى لو كانت غير منظورة بجميع مستويات التلقي، فتغيير الرأي والانقلاب عليه، لمجرد انخراط عاطفي في البروبجندا، دون تلمس الطريق إلى تأثيث الأخلاق والضمير، كما عبر عكسا في باقي مقاله، حيث قال : “الرعب إنساني، أعني أن الحيوانات لم تكن لتفعل ما فعلته حماس. ووصف وزير في حكومة نتنياهو (وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت) سكان غزة بأنهم (حيوانات). لا، هناك رجال بلا ضمير، بلا أخلاق، بلا إنسانية ارتكبوا المجازر"، يعيد تأويل سؤال النخب المهاجرة ودورها الواعي بحضارة الغرب وصراعاته الخفية وأيديولوجياته المتحاقنة تجاه العالم العربي والإسلامي، ويتلمس صرحا غامضا من التحوير والانسلاخ والتعمية، لا يتمكن كان من كان، من إخفائه أو توريته، مهما طال الزمن.

 إن القضية الفلسطينية، لا يمكنها أن تموت، ولا يمكن استردادها عبر هذا الاحتقان والتربص، لمجرد أن مصيرها مرهون بعميلة حماس الأخيرة التي تؤرخ ليوم السابع من أكتوبر الجاري.

القضية الفلسطينية يا سيد بنجلون، لن تموت أو تغتال تحت أي ظرف أو سبب، لأنها ليست قضية حماس فقط، ولا قضية أيديولوجيتها أو قناعاتها، بل القضية الفلسطينية أس وركيزة الضمير العالمي والإنساني، وخميرة أمة عانت الويلات قرنا من الزمان، أبيدت فيها أجيال، وقطعت فيها أرحام، وأحرقت فيها مدن وقرى وآثار وأمصار وحقول وغلال ...

ومهما يكن، وإن بدا لك الأبيض أسود والماء الزلال بالمكدور، والناهق بالمفترس، فكثير مما قرأت أو عصرته نواة عينيك، هو تلبيس إبليس، ونفخ جرائمي معتم، سرعان ما تذوب مخارفه، وتصفى ذؤابته، فلا "حماس عدو لشعبها الفلسطيني، ولن تكون قاسية دون أن يطالها الحس السياسي، الذي يستحيل أن يكون طرفا في لعبة من صنعوا لك هذه المصيدة، وألقوا بك في غياهيبها؟".

***

د مصطفى غلمان

الوضع فى فلسطين المحتلة يزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم.. الجميع يري أن الحدث العظيم الذى بدأ يوم السبت الموافق السابع من أكتوبر هو حدث متفرد ومختلف، وأن ما سيتلوه من توابع وردود أفعال لا يشبه ما كان يحدث فى الماضى..

فبعد ما حققته فصائل المقاومة الفلسطينية من مكاسب على الأرض، وما تعرض له الجيش الإسرائيلي من هزيمة نفسية ضخمة، وما تتعرض له المستوطنات من تهديدات كبري، وما تلا تلك الضربة من توسيع رقعة المعركة فى عسقلان وسديروت وحدود لبنان وسوريا، الوضع ينبئ بمزيد من التصعيد ويؤكد أن المعركة ستطول وأن كرة النار تتضخم، وقد يستمر الصراع فى تأجج مستمر عدة أسابيع أو شهور قبل التفكير فى الجلوس على مائدة المفاوضات.. هذا ما تشير إليه بوصلة الأحداث التى تزداد حدة كل يوم بل قل كل ساعة..

سعار إسرائيلي غاشم

ما خسرته إسرائيل فى الأسبوع الأول من المعركة فاق التوقعات.. وأول تلك الخسائر وأكبرها انكشاف سوءة إسرائيل وسقوط أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، والذى تبين أن أقل هبة ريح تدمر أشرعته ودعائم بنيانه الواهى..اليوم الأول فقط سقط فيه قتلى وصل عددهم إلى أكثر من1200 شخص، منهم قادة فى الشرطة والجيش تراوحت رتبهم بين الرائد والعقيد، بخلاف الأسرى من العسكريين والمستوطنين اليهود وعددهم بالمئات، كل هذا حدث بألف مقاتل فقط! ثم جاءت ضربة عسقلان التى تم رشقها بسيل من الصواريخ تسبب فى مضاعفة خسائر الجيش الإسرائيلي..

أمريكا وأوروبا انبروا يهاجمون ما فعلته المقاومة الفلسطينية ودعوا إسرائيل إلى رد حاسم قوى، فما كان من الأخيرة إلا أنها توجهت بكل ثقلها صوب المدنيين فى غزة..وبكل الحقد الكامن فى نفوس هؤلاء الموتورين لم يتورعوا أن يستخدموا كل القوة الغاشمة لدك البيوت والمساجد على رؤوس الساجدين والعباد والضعفاء من النساء والأطفال والكهول..لدرجة أنهم قاموا بمحو مناطق بأكملها بصواريخ ثقيلة وقنابل فوسفورية محرمة دولياً..وبدلاً من أن نرى موقفاً دولياً مندداً بالهجوم الإسرائيلي الغاشم وإفراطها فى استخدام العنف ضد المدنيين العزل فى غزة، وجدنا أمريكا والغرب يحضُّون على مزيد من التدمير بل ويمدون إسرائيل بمزيد من أسلحة التدمير الشامل!

دموع التماسيح

المشهد الأمريكى أظهر فى وضوح وجلاء معيارها المزدوج وطريقتها فى قلب الحقائق والكيل بمكيالين..

بايدن سارع بتأييد الموقف الإسرائيلي رغم أنها بدأت بالعدوان منذ شهور مضت، ولم يكتفى بمجرد التأييد بل تحركت بوارجه الحربية وحاملات الطائرات صوب شرق المتوسط ومعها دعاوى بتوسيع رقعة المعركة والرد بمزيد من العنف والتدمير..فى نفس الوقت الذى خرج فيه مسئولون أمريكيون يذرفون الدموع على الهواء مباشرةً تأسياً على القتلى من الإسرائيليين، وجذباً للتعاطف العالمى ضد أصحاب الأرض..

فرنسا وبريطانيا وألمانيا ساروا فى نفس الركاب الداعم لإسرائيل، وربما لجأوا لتحريك قوات عسكرية تزاحم الأسطول الأمريكى فى شرق المتوسط وتؤجج الأوضاع أكثر..كل هذا من شأنه أن يحول دفة المعركة نحو مزيد من التصعيد وفتح جبهات جديدة للقتال..

الآن وقد تحركت القوات الأمريكية وعلى رأسها وزير الدفاع ووزير الخارجية نحو إسرائيل، فهل سنشهد انضمام أطراف جديدة للحرب الدائرة هناك؟!

سيناريوهات الصراع

سارعت إسرائيل بحصار غزة وقصفها بالصواريخ فيما زعموا أنه يجرى فى إطار بروتوكول هانيبال الذى يقضى بقتل الأسرى الإسرائيليين مع آسريهم معاً؛ من أجل إسقاط ورقة الضغط الكبري التى امتلكتها فصائل المقاومة أمام الإسرئيليين حال التفاوض..

فى نفس الوقت بدأ الضغط الإسرائيلي والأمريكى للقيام بعمليات تهجير وإجلاء جماعى لسكان غزة، بينما اعترضت مصر والسلطة الفلسطينية على مثل هذا الإجراء اللاإنسانى..وعلى الطرف الآخر شهد غلاف غزة الذى بدأت فيه الأحداث إخلاءً واسعاً من مستوطنيه..كل تلك الإجراءات وغيرها من شواهد التصعيد تؤكد أن إسرائيل اتخذت بالفعل قرار الحرب لا قرار التفاوض..

القدس تحولت لثكنة عسكرية، وغزة محاصرة بقوات الجيش الإسرائيلي استعدادا لاجتياح بري محتمل، وقوات الاحتياط تم استدعائها وإن كانت هناك حالة سخط عامة ومحاولات هروب من الخدمة العسكرية تشي بارتباك وتخبط..ولعل أشد ما قوَّى شوكة الجيش المحتل ما تلقاه من دعم أمريكى فوري تمثل فى حاملتى طائرات مدججة بالعتاد والسلاح والذخيرة على شواطئ فلسطين المحتلة..

أمريكا لا تريد تهديد الفصائل الفلسطينية بقدر ما تريد تحجيم تدخل الأطراف العربية حول فلسطين وبالأخص حزب الله اللبنانى ومن ورائه إيران..وفى هذا الإطار قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مطارات دمشق وحلب قصفاً تحذيرياً لتحييد الحدود مع الجيران العرب.

روسيا رابضة فى الكواليس تراقب وتدعم الجانب الفلسطينى من بعيد، ثم أنها تستغل انشغال أمريكا وحلف الناتو بدعم إسرائيل عسكرياً، لتحقق مكاسب سريعة على أرض أوكرانيا..

كل هذا يشير إلى أن الباب مفتوح على مصراعيه لعدة خيارات تبدأ من فتح جبهات قتال متعددة إلى المعركة البرية المحدودة إلى حرب شاملة موسعة طويلة الأمد.. بل وقد وصلت بعض التقديرات إلى حد توقع حرب شرق أوسطية متعددة الأطراف..

حرب الإعلام

أحدث وأهم ما اتخذته إسرائيل من إجراءات هو حربها العالمية ضد الإعلام لتحويله إلى إعلام صوت واحد يخدم مصالحها دون غيرها.. لدرجة أن نرى دعاوى لتجريم أى دعم تجاه المقاومة الفلسطينية بدءاً من تجريم رفع العلم الفلسطينى وحتى حجب المواقع لمنع تداول المعلومات حول خسائر الجيش الإسرائيلي ومكاسب المقاومة الفلسطينية!!

ثمة جرائم حرب تُرتكب الآن فى حق المراسلين الصحفيين والإعلاميين المتواجدين فى ميادين الصراع، وهناك تعتيم إعلامى واسع النطاق خاصةً فيما يتعلق بأعداد القتلى والأسرى والمصابين فى الجيش الإسرائيلي خاصةً العسكريين منهم..

من المعروف أن اليهود يسيطرون على منابر الإعلام فى الغرب، وأن الآلة الإعلامية الصهيونية ذات نفوذ قوى وامتداد كبير يمكنها من تحقيق نجاح سريع فى مضمار الحرب الإعلامية..إلا أن كل تلك الجهود والمحاولات لم تستطع أن تمنع تسريب بيانات كثيرة بخصوص حقيقة ما يجرى هناك..

غزة تتعرض اليوم إلى حصار شديد خصوصاً فى وسائل الاتصال بعد قطع الإنترنت عنها فيما تم قطعه من خدمات أساسية شملت الكهرباء والوقود والمياه والغذاء والدواء، لدرجة أن أغلب مستشفيات قطاع غزة باتت خارج الخدمة، فى الوقت الذى انغلقت فيه المعابر ورفضت فيه المستشفيات الإسرائيلية استقبال الجرحى والمصابين من المدنيين الفلسطينيين..

جمعة طوفان الأقصى

دعت فصائل المقاومة الفلسطينية سائر العرب لدعم موقفها ضد إسرائيل وحلفائها فى الغرب..

إنها جمعة الأقصى أو جمعة النفير العام كما أسمتها المقاومة.. إنها فرصة كبري لجمع كل الدعم الممكن من أجل حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية التى طال أمدها دون وجود بصيص أمل حقيقي لعودة الفلسطينيين وحل الدولتين ووقف الاعتداءات الإسرائيلية ووقف بناء المستوطنات، ولمنع مخططات هدم المسجد الأقصى..

كل الشواهد تؤكد أن الحرب هذه المرة مختلفة، وأن نتائجها لابد أن تكون على مستوى أحداثها المستعرة، وبرغم الآلام والأحزان والشهداء الذين سقطوا فى طريق المقاومة والدفاع عن المقدسات فإن حصاد الحرب لن يكون أبداً فى صالح إسرائيل.. وإن كانت فلسطين تتألم وتدمى فإن إسرائيل تذوق اليوم من نفس الكأس ولسوف تجنى خسراناً وانهزاماً مؤكداً أمام أصحاب الأرض مهما طال أمد الصراع.. فلابد أن يندحر الباطل وينتصر الحق.

***

عبد السلام فاروق

مرّت ثلاثةُ عقودٍ من الزمن العربي المثقل والمرتبك عموديًّا وأفقيًّا على احتفال توقيع اتفاق "إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي" المعروف بـ"اتفاقية أوسلو"(ايلول/ سبتمبر 1993) لتشهد منظّمة التحرير الفلسطينية تحوّلًا أو انعطافة تاريخيّة في مشهد سياسي تتحكم فيه موازين قوى أكبر من طاقة أو قدرة قوى المنظمة، أو المهيمنين عليها، على مواجهتها، مما وضع المنظمة والقضية الفلسطينية أمام تحديات وإرباكات أضعفت الحلم الفلسطيني، المكاسب أو التوقعات وعقّدت النتائج والنهايات وأُبعدت الأهداف المطلوبة من أي حراك أو كفاح وطني عام أو خاص، أو وضعتها في أزمات متتالية ليست في صالحها وتطوير نضالها واستحقاق تاريخها السياسي والقانوني، كما قدمت أسئلة متوالدة ومتوالية في حاجة إلى إجابات واضحة ومراجعة مسؤولة وموضوعية عنها.

استطاع كيان الاحتلال الإسرائيلي من استغلال الاتفاقية لصالحه ومارس دوره المعروف في الخداع والتضليل وتهميش جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، مواصلًا تحقيق مشروعه الاحتلالي الاستيطاني واضطهاد الشعب الفلسطيني وتهجيره وإخراجه من أرض وطنه وفتح المجال واسعًا أمام إقرار وجوده والخضوع لبرامجه ونهجه في العدوان، وفرض أمر واقع بالتعاون والتنسيق مع الدول الرأسمالية الداعمة له وغيرها من المتخادمة معه ومع رعاته ومشروع وخطط إقامته ووجوده.

حصلت بعض المكتسبات من الاتفاقية، بدهيًّا، أو حسب تقدير المندفعين لها، ولكنها توقفت عند صفحتها الأولى وتراجعت بعدها من خلال ما استثمره الكيان الصهيوني من تنازل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن 77%‎ من أرض فلسطين، والوقوع في طامة كبرى، قانونيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا أيضًا، كون هذا التنازل تفريطًا بحقٍّ مشروعٍ من جهة، وتنازلًا دون توافقٍ وطني من جهةٍ أخرى، وتجاوزًا تاريخيًّا لثابتٍ وطني من جهةٍ ثالثة والقبول بالاختراق الصهيو - غربي لتفتيت القضية الفلسطينية ولقيادات صعدت إلى الواجهة السياسية في ظروفٍ لم تعد سريّة أو مخفيّة من جهةٍ رابعة والقبول في تحول البرنامج الوطني من "التحرير" إلى "تسوية وسلطة سياسية" تلغي دور المنظمة وبرنامج التحرر الوطني الذي تأسست عليه، عمليًّا، من جهة أساسية؛ الأمر الذي يعني أن توابعه وتداعياته أخطر من عدمه، أو أنّه أمر مدروس لما يليه ويحصل بعده، وهو ما تم بغفلة أو بوعي، وما جرى يفضح جوهر الاتفاقية وأهدافها.

لم تتعظ قيادة منظمة التحرير من دروس الاتفاقات العربية مع الكيان فضلًا عن دروسها وحركة التحرر الوطني ولم تؤمن وضعها أمام الاتفاقية ورعاتها ولم تتقدم إليها بوحدة وطنية شعبية وإصرارًا على استمرار النضال بكل الأساليب من أجل إكمال التحرر الوطني والالتزام ببرنامجه المتوافق عليه، وعدم التخلي عنه أو عن حقوق الشعب المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير؛ الأمرُ الذي أضعف القضية والمنظمة وقزّمهما دون آفاق واضحة لحلول ممكنة ونهايات لمصلحة الشعب الفلسطيني والوطن العربي، وكان من بين أبرز التحولات أو الانعطافة،  تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى البحث عن تسوية سياسية وقيام سلطة لفظية على جزء من شعبها، في جزء من أرضه، وفي الواقع سلطة اسمية على شعبها فقط، وليس على أرضه وموارده، وفعليًّا "سلطة" تحت سلطة الاحتلال، وشروطها السياسية والاقتصادية والأمنية والإدارية، وإبعاد المنظمة إطارًا سياسيًّا بمشروع وطني، وتهميشها سياسيًّا وشعبيًّا، والبحث عن مسار تسوية سياسية، واختزال الأرض والوطن واللاجئين وقرارات الأمم المتحدة ببنود الاتفاقية التي رسمتها العقلية الصهيونية المتنفذة في إنجاز الاتفاقية وما تلاها.

ولعلّ من تداعيات الاتفاق المباشرة، بعد كل ما جرى، الانقسام الواسع في الرأي والرؤية الفلسطينية ورفض قوى وفصائل سياسية للاتفاقية وإعلان معارضتها لها واستفراد الكيان بمن وقّع معه الاتفاق واعتبار الانقسام وسيلةً للكيان في تمزيق الصف الفلسطيني وتدمير المشروع الوطني الجامع والإرادة الشعبيّة له من جهة، وتعميق الانقسام والاختلاف على الثوابت الوطنية والبرنامج التحرري والإجماع الشعبي من جهةٍ أخرى، والتخلّي عمليًّا عن المرجعيات القانونية، سواءً ما صدر من الأمم المتحدة أو القرارات الدولية الملزمة للكيان الإسرائيلي، وطبيعة الالتزام بها وتطبيقها وعدم التهرب منها، كما هي طريقته في التسويف والتشويه والتهميش والتملص من كل ما هو قانوني وملزم لسلطة احتلال، واستغلت سلطة الاحتلال كل ذلك في التحكم بدور السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى ما يخدم مصالح الاحتلال أكثر من مصالح الشعب الفلسطيني، لا سيما في إدارة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي الجغرافي وحماية الشعب من العسف والقمع والاعتقالات. ومارس الكيان عمليًّا ليس تقسيم الفلسطينيين سياسيًّا وحسب، بل وجغرافيًّا، عبر الانقسام الحاصل حاليًّا بين المحافظات الشماليّة (الضفة الغربيّة)، والجنوبيّة (قطاع غزة)، فضلًا عن تنصّل الاحتلال الإسرائيلي من الحقوق الفلسطينيّة كافةً وتهميشها على أرض الواقع والمسار التاريخي.

في الأساس نجحت اتفاقية أوسلو في تهميش منظمة التحرير الفلسطينية أو إخراجها من مكانتها ودورها وعزلتها رسميًّا وأبعدتها شعبيًّا عبر الضغوط السياسيّة أو الاختراقات التنفيذية، بدءًا من التوقيع على الاتفاقية دون أخذ رأي الشعب واستشارته، ما رسم فجوة بين قيادتها والشعب الفلسطيني، لا سيّما باعترافها بالكيان الإسرائيلي وحقه بالوجود بلا تبادل رسمي وعلني أو ما يقابله قانونيًّا، ما قلّل من مكانتها وفقدان الثقة في تلبية البرنامج الوطني الفلسطيني بأركانه في عودة اللاجئين والدولة المستقلة وعاصمتها القدس ومقاومة الاحتلال بكلّ أشكال الكفاح وتقرير المصير، في الوقت الذي مرر الكيان هدفه وسياسته العدوانية في عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقه في الوجود، كما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية به، فقد اعترف الكيان بالمنظمة فقط "ممثّلًا "حتى ليس "ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا" للشعب الفلسطيني، وهذا يفسر بأن المنظمة لم تعد كما هي أو كما تأسست عليه، وقد تهمشت إلى درجة رفعها إلى رفوف السلطة واستحضارها حين اللزوم، باسم السلطة وفريق أوسلو وليس الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.

ومن خلال ذلك أو عبره وهدف الكيان ورعاته من اتفاقية أوسلو هو اعتبارها مدخلًا "لشرعنة" الكيان الإسرائيلي رسميًّا وقانونيًّا دوليًّا، وتقديمه باسم الاعتراف الفلسطيني إلى الدول والحكومات العربية والأجنبية إلى إقامة علاقاتٍ رسميّةٍ علنيةٍ معه، واستدعى هذا تشويه مواقف الفصائل الفلسطينية المعارضة للاتفاقية، والتخلي عن برنامج التحرر الوطني الفلسطيني بأهدافه وخطواته ومستقبله، وصولًا إلى إضعاف القضية الفلسطينية وعزلها عن بيئتها العربية والإسلامية وقوى التحرر الوطني العالمية، وضمن إطار الخطط الصهيونية في إنهاء الحقوق الوطنية وحرف بوصلة الصراع ضد الكيان إلى الصراعات الإقليمية والدينية الطائفية في المنطقة والمحيط بها، وتجريد قوى المقاومة الوطنية والكفاح التحرري من الحاضنة الشعبية والتضامن الدولي ومحاصرتها بقرارات دولية وإجراءات داخلية وخارجية تضعف من امتدادها الشعبي وحقوقها الوطنية وسرديتها التاريخية، وتقدم للكيان فرص التحول إلى كيان "طبيعي" في المنطقة والاعتراف بوجوده، عربيًّا وإسلاميًّا، رسميًّا وعلنًا، والتخلي عمليًّا عن شعار مركزية القضية الفلسطينية للأمة والنضال التحرري العربي، دون التفات إلى معاناة الشعب الفلسطيني على أرضه وحقوقه الوطنية الفلسطينية المشروعة.

من هنا يظهر الخطر الصهيوني في خططه ومشاريعه الواسعة، بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو خصوصًا، ليس على تهميش القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير والدعم العربي والإسلامي والدولي وحسب، إنما في خطره الأوسع على المنطقة أيضًا، انطلاقًا من ارتباطاته ورهاناته التي تأسّس عليها في المشاريع الإمبرياليّة للهيمنة على المنطقة ونهب خيراتها وتفتيت قواها الوطنية وتهديدها بالتقسيم والتجزئة وفرض التخادم والاعتراف وهدر الثروات وإنهاك الشعوب بالصراعات الداخلية والحروب والانقسامات التي لا تخدم مصالحها الوطنية وأهداف التحرر الوطني التي تناضل من أجلها.

كتب الكثير عن الاتفاقية ومن كل الأطراف، سواء تلك التي تورطت فيها أو التي عارضتها، أو التي قرأتها باستقلالية، ويكاد الجميع متفقًا على أن اتفاقية أوسلو كارثة حلّت بالقضية الفلسطينية، لم تجلب للفلسطينيين سوى الويلات، وأصبحت مؤشّرًا على فشل قيادة منظمة التحرير في أدائها السياسي والمؤسسي، والانحراف عن الأهداف التي تأسست على أساسها المنظمة، مما يتطلب الآن من الجميع مراجعة وتقييمًا نقديًّا، بعد كل هذه الفترة الزمنية، والتوقف المعلن من الالتزام بهذه الاتفاقية وما تولد منها، مع طرح خيارات واقعية للحلول المنشودة، تبدأ من إعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية المشروعة ومركزية القضية الفلسطينية وحضنها العربي والإسلامي وقوى التحرر العالمية، ولعل ما أعلنته قوى أيدت الاتفاقية بداية وعادت الآن معارضة استمرار آلياتها، حيث رأت، حسب تصريح قيادات لها "حالة الانحدار التدريجي لإبقاء العملية السياسية مستمرة، ويتواصل معها الاستيطان والاحتلال، وهو ما أفضى لآليات خاطئة في التنفيذ"، مشيرة إلى أنّ اتفاق أوسلو لم يعد قائمًا من الناحية الواقعية والعملية، وهو ما يفرض ضرورة التحلل منه بالعمل على إيجاد بدائل واقعية ومنطقية تُخرج الحالة الفلسطينية السياسية من المشهد القائم بعيدًا عن التنازع على السلطة.

وبالتأكيد يصبح العمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني، والعودة إلى آليات العمل الوطني ببرنامج التحرر الوطني ومهماته المعروفة في مشاركة كل القوى والفصائل الفلسطينية والتنسيق والتضامن مع الحاضنة الشعبية وقوى التحرر الوطني العربية والإسلامية والعالمية أمرًا ملزمًا وأساسيًّا؛ إذ لم يكن الصراع في إطار فلسطيني – إسرائيلي، فقط، بل هو صراع عربي- صهيوني، تمثل القضية الفلسطينية محوره الرئيسي، وتتحمل الشعوب العربية والإسلامية أيضًا مسؤولية الدفاع عن قضاياها المهددة من الأخطار الإسرائيلية والإمبريالية الموجهة ضدها، من خلال هذا الصراع وما يلتحق به من خطط ومشاريع استعمارية، فكانت اتفاقية أوسلو، في إطارها وبنودها وعملية التوقيع عليها والاحتفال بها والسجن داخل أسوارها ضربة غير منتظرة وسببًا لنكبة أخرى أو معبرًا لها، أسهمت في تأخير قضايا التحرر الوطني، فلسطينيًّا وعربيًّا في الأساس؛ إذ من المعلوم أن الكيان الإسرائيلي والحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، هذا التحالف  العدواني، يشكّل تهديدًا دائمًا للحريّة والاستقلال الوطني لكلّ الشعوب، بما فيها العربية والإسلامية، وعقبة في طريق نضالها إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، ويُعدّ تحدّيًا مباشرًا لكلّ حركة تحرّر وطني، ولمنع هذا التحالف من إنجاز خططه ومشاريعه يتطلب تحشيد كل القوى الوطنية بكل فصائلها وطاقاتها والتصدي الكفاحي له، من خلال استكمال مهمات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي الديمقراطي ووحدة الساحات والمواقف الأساسية، ليكون مقدّمةً لانتصار الشعوب وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، وأن يكون فصيلًا رئيسيًّا من فصائل حركة التحرر الوطني والتقدم والديمقراطية في المنطقة والعالم.

***

كاظم الموسوي

احتمال امتداد الصراع العسكري من داخل فلسطين الى مناطق أخرى هو امر وارد ونقل هكذا قتال قد يتم استغلاله لكي يتم افتعال معركة مع سوريا ولبنان امتدادا للجمهورية الإسلامية الايرانية وهذا الامر خطير لأنه سيكون ك "كرة الثلج" ضمن مرحلة حساسة في العالم تشترك فيها روسيا والصين ودول البريكس ك "اقطاب دولية جديدة"

ان جمهورية روسيا الاتحادية لديها حالة فريدة في علاقتها الدولية لأنها ضمن حلف مع الجمهورية العربية السورية وفي نفس الوقت لديها "علاقات" مع الكيان الصهيوني نتيجة لتواجد أكثر من مليونين من اليهود الروس داخل فلسطين وأيضا وجود تأييد للكيان الصهيوني داخل بعض مؤسسات الدولة الروسية، والتي أيضا يتواجد فيها عدد كبير اخر من المؤيدين للقضايا العربية، ولكن في المجمل علينا ان نعرف ان الجمهورية الروسية لديها أيضا حرب عسكرية تخوضها وصراع دولي شامل تعيشه في الموقع الاوكراني.

ان المصلحة الروسية القومية هي الحاكمة في الموضوع بكل الأحوال، ولكن ضمن الحرب الاجرامية التي يقوم بها الصهاينة ضد المدنيين في فلسطين المحتلة انتقاما لأذلاهم و هزيمتهم الاستراتيجية في عملية طوفان القدس، هناك مسألة "السيناريوهات المفتوحة" و توقع الغير المتوقع، وخاصة ان هناك مشاكل صهيونية "داخلية" عميقة و صراعات  قد تؤدي الى حرب برية و تهجير للفلسطينيين خارج قطاع غزة، ليس لأهداف عسكرية  بل هي لنقل المشكل الداخلي الصهيوني بما يتعلق بتهديدات ادخال رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو السجن بعد فقدان حصانته، و هو ما يتوقعه اغلب المراقبين.

اذن ماذا سيحدث للقوى الإقليمية المجاورة لفلسطين؟ ماذا سيكون ردات فعلهم؟ ماذا ستقوم به الجمهورية الإسلامية الايرانية إذا تم استهدافها عسكريا؟ هذه كلها سيناريوهات مطروحة؟ والأخطر أيضا هو السؤال الكبير الذي يقول " هل سيستغل الكيان الصهيوني كل ما يجري لتدمير المسجد الأقصى تطبيقا لخزعبلاتهم الدينية اليهودية بشأن، بناء الهيكل وتهويد مدينة القدس؟ ماذا ستكون ردود الفعل للعرب وباقي الدول الإسلامية؟

رغم الضوضاء الدعائية في الغرب ضد الفلسطينيين و تزوير حقيقة ما يجري إعلاميا هناك ولكن أتصور ان هناك نية غربية في تهدئة الأمور عسكريا في فلسطين المحتلة لأن "الغرب" يتحرك وهو يغرق في المستنقع الاوكراني مع كل ما ترتب عليه من مشاكل عسكرية وصعوبات اقتصادية على مجمل الواقع الغربي الحكومي و الشعبي، ولكن واضح ان هناك داخل الكيان الصهيوني أكثر من خط داخلي يريد ان ينفذ اجندات شخصية او حزبية او دينية خاصة بكل خط من هذه الخطوط المتواجدة داخل مركز القرار في الكيان، تريد استغلال هذه الضوضاء الإعلامية في الغرب لتنفيذ اجندات كل خط من هذه الخطوط الصهيونية الداخلية.

للأسف الشديد ان العرب متفرقين ولا يعيشون وحدة او تضامن شامل وتنسيق عسكري أمنى استخباراتي اقتصادي يصنع منهم "قطبا" دوليا كبيرا صاحب مشروع قومي خاص في مصالحهم، لذلك لن يهتم العالم في العرب "متفرقين"، وخاصة ان الحرب في غزة تأتي في ظروف مرحلة انتقالية يزداد فيها قوة التعدد القطبي الدولي وتراجع عالم القطب الواحد.

***

د. عادل رضا

كاتب كويتي في الشئوون العربية والاسلامية

نعم.. بين الواقع والحقيقة جدلية.. بين ما يعتقدون الذين يسمون انفسهم بالقادة.. وبين الحقيقة المغايرة لاعتقادهم جدلية.. ما حصل بين حماس والدولة العبرية غيرَ وجه التاريخ.. لكنها جدلية.. فلم تعد الدولة العبرية كما كانت ابداً.. فقد أنثلمت هيبتها النفسية.. ومن ينكسر لن يعود ابدا الى سابق عهده، كما انثلمت دولة المسلمين بعد احتلال المغول لها ولن تعد.. دولة.. نعم أنها جدلية.. لأن الدولتين لم يعترفا بالحقيقة والخطأ.. فهل سيقرأون الذين يسمون انفسهم بالقادة ما حصل ليعودوا الى رشدهم بعد غفلة الزمن الطويل؟؟ اربعة مصطلحات ذكرها النص المقدس نهاية اصحابها الخذلان ان لم يلتزموا بالقيم الربانية .. الخيانة، والاعتداء، والظلم، والفساد.. كلها اذا توفرت في كيان معين نهايته نهاية كل الساقطين.. لذا بعد سقوط بغداد على يد المغول عام 656 للهجرة لم تقم دولة للمسلمين.

لم تعد الكتابة في الدين والاخلاق والقيم في مجتمعات التخلف الديني المقيت نافعة للتغيير، والتي اوصلت الناس الى لا اخلاقية الحياة في الدين. بل، لا بد من الالتفات الى الاسباب والمسببات التي غيرت المجتمعات واوصلتها الى حتمية الفوضى والانتهاء.. فكان فهم الدين ومؤسساته خطئاً بعد ان تغير رجاله الناكرين للقيم الاخلاقية الى منافقين.. وتكالبهم على المنافع الخاصة باسم الدين وتركهم الوصايا العشر، حتى تبدلت سايكولوجية المجتمعات الدينية المتزمتة الى العدم.. بعد ان غيرت سلطة الفساد المناهج الدراسية الفلسفية القويمة وحولتها الى تخريف.. هذا ما يجب الالتفات اليه لامكانية انقاذ المجتمع واجياله الصاعدة من سماسرة السلطة ورجال الدين ومرجعياته الصنمية اليوم.. والتي مثلت نفسها بسلطة الشعب باطلاً.. فلا حل الا بالمقاومة والتصميم على التغيير لصالح الشعب والوطن وبالفكر الراجح والمنهج الدراسي الصحيح.. في التنفيذ.. فكانت ثورة تشرين الخالدة في عراق العراقيين.. بداية التصحيح.. والتي لا زالت نارها تحت الرماد تنتظر التغيير.

موضوع شائك ومعقد ومهم.. فالاقدام على كشف حقائقه يحتاج الى النظر الجدي في التفسير القديم للنص المقدس الذي خلف الامة وادى بها الى الانهيار الكبير حين اصبحت معتقدات الخُرافة هي التقديس - زيارات الأضرحة والدعاء واربعينيات التخريف -.. وبعد ان اصبحت قياداتها بيد اللا أخلاقيين.. كأننا لا زالنا نعيش في القديم منذ يوم كانت اللغة العربية تعبر عن التفكير القائم على ادراك المشخص وليس قاعدة اللغة وتطورها المستمر، ولم تكن التسميات الحسية فيها قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات فكتبوا لنا التفسير الخاطىء حتى اصبح لدينا قانون مقدس لا يُخترق، فصيرورة التاريخ تستدعي تهميش القديم ساعتها، سنقلب الطاولة على الفقهاء والمفسرين، لا بل سيقلب رأي القارىء على المفسرين وما خلفوه من اقاويل الخرافة في الدين.. وهذا هو المهم.. بعد الاستناد الى المنهج التاريخي العلمي في الدراسات اللغوية سنصل الى تفسير يتوائم مع نظريات التحديث، لكن هذا التوجه الخطير يحتاج الى البرهان بالدليل وليست آقاويل.. هنا يتوقف الرأي على فلاسفة العلم الحديث.

ترافقه شجاعة وتضحية منقطعة النظير من القائمين على التفسير الجديد.. لنشره في صحف تقبل الرأي والرأي الاخر بقوة التنظير، وتقبل الحق دون خوف من تهديد او قتل او وعيد.. في مجتمع اصبح فيه القديم المقدس مطبوع في الافكار لا يقبل التغيير.. وحكم سلطوي يحتكم الى منطق القوة دون مناقشة الفكر الحديث للحفاظ على مكتسباته الباطلة دون الأمة، كي يبقى مفهوم الدين القديم وسيلة لسيطرتهم على السلطة والمال دون الاخرين.. كما هم عندنا حكام الوطن اليوم.. لكنهم مخطئون..

ان اثبات المنهج العلمي في التفسير، سيمهد الطريق الى الكثير من تغيير تفسير المفسرين الذي استند على الرأي لا على فلسفة اللغة في التحقيق..

ان التوجه الى القراءة المعاصرة للنص، وفقا للأرضية الفلسفية والمعرفية الحديثة، ستجعلنا نتوجه الى عرض وجهات نظر مختلفة الى الوجود والمعرفة والتشريع والاخلاق كلها مستندة الى النص المقدس، وليس الى التفسير القديم المتضارب اليوم - نملك 200 تفسير للقرآن لا ندري ما الصحيح-.. باعتبار ان الصيرورة التاريخية (نظرية التطور) تكمن فيها حقيقة التوحيد على اعتباران: " القرآن صالح لكل زمانٍ ومكان". من هنا فان حرية التعبير عن الرأي، وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام.. وليست ما تدعيه باطلاً مرجعيات الدين.

نعود لنقول هل يجوز لنا ان نضع في المنهج المدرسي الايات القرآنية التي تتضارب مع الدساتير المدنية في حقوق الانسان كما في المادة الثانية من الدستور العراقي التي تقول: "لا يجوز سن قانون يتعارض مع الشريعة"، ولا ندري اية شريعة يقصدون شريعة الشيعة أم شريعة السُنة ام شرائع الأخرين. - ذاك زمان مضى-، من سيسمح لنا ذلك في التغيير من اصحاب سلطة الحقوق الباطلة.. امر في غاية الخطورة علينا ان نجتاحه وان كلفنا القلم والروح.. ليس مشكلة وانما المشكلة على الاصرار في التنفيذ لنصل الى تخريج فقهي وعلمي يتوافق مع الأثنين.. معا.. نعود فنقول: ان في التأسيس القرآني للمجتمع كما نعتقد لا كما يعتقدون غايتنا في التغيير..

لا يمكن لمن يريد ان يحكم حكما اسلاميا خالصا ان يعيد انتاج ومواصفات الحقبة النبوية وما تلاها بكامل مواصفاتها كما في داعش والقاعدة ومعتقدات ولاية الفقيه، لان الزمن يلعب دورا في عملية التغيير.. كما لا يمكن التخلص من تلك الحقبة برؤية جديدة تختلف كل الاختلاف عن السابق. لكون ان التجاهل لمفهوم المتغير الاجتماعي يضع المجتمع في حركة تضادية او جدلية لامكانية انتاج فترة جديدة المواصفات، وهنا تدخل صعوبة التغيير، لذا لابد من دراسة الظواهر في انقى اشكالها لاستخراج عملية التواصل الاجتماعي المطلوب.. اي لاعودة للماضي (العودة عبر الزمن مستحيلة).. ولا لسحق الماضي بكليته.. لذا لابد من خضوعنا لمبدأ القانون الذي يحكم الظاهرة الذي يفرض نفسه في ميلاد كل مجتمع جديد.. ان الإصرار من قبل السلطة المستندة على مؤسسة الدين المتخلفة على تطبيق الحكم الاسلامي المتزمت كما هو اليوم بعيدا عن القانون او بنظرية التفويض الآلهي، اصبح محكوما علية بالموت بالضرورة.

من هنا تكمن أهمية التجديد..

فالتجديد بحاجة الى صفوة قائدة جديدة واعية ومتقدمة لتقود وتوجه وتبتكر وتبني وتنظر الى الامام وتحسب حساب الحاضر والمستقبل لتحول المجتمع الى المسيرة الحضارية من اهل العلم ومؤسساته، لان القيادة السياسية وحدها -وان كانت مخلصة – لا تعطي اصحابها ميزة مادية او معنوية على غيرهم من افراد المجتمع، لأنها في واقع الامر اشد تمسكاً بحقيقة امتياز الفئة القائدة على غيرها.. هنا تقف الصفوة بصمودها وايمانها بالوطن وحقوق الشعب سدا منيعا ضد تصرفات السلطة لتميزها ببعد نظر يجعلها ترى على الافق البعيد ما لم تراه السلطة الحاكمة، لذا لابد من تقف مكانها وتتقهقر عن مطالبها الخاصة.. لان من لا يتقدم يتأخر.. ومن لا يصحو يموت.. كحركة الكون كله القائمة على الحركة العامة الى الامام.

هنا يجب ان يشخص دور المؤسسة الدينية التي تقف بتزمتها الفكري حجر عثرة في تقدم الاوطان.. والا ما معنى المرجع الاعلى هو الذي يقرر وقرارته 100% غير صائبة لجهلهه بحركة التاريخ ومتغيراتها.. لذا لم تتقدم الدول الاوربية والامريكية الا حينما فصلت الدين عن السياسة وأحلت محله القانون. فالصفوة القائدة هي الطموح للتقدم وليست مؤسسة الدين المنغلقة على نفسها بتاويلاتها البائدة المتخلفة التي ترجع التقدم الى ما سلف. وصدق المفكر لفيلسوف ارنولد توينبي حينما قال: "لا تزال الدولة بخير مادامت صفوتها بخير".

نعم من هنا تكمن أهمية التجديد لمشروع جدي على مستوى الرؤية التاريخية.. وجدية النظر في العمل الفكري والعلمي التطبيقي معاً.. ساعتها سيكون مشروع الدولة قابلا للفعل في ظروف العصر واوضاع الدولة بشكل خاص. نعم هنا بدخول مرحلة التعقل والتفكر وابعاد الوهم المرجعي الديني عن الرؤوس يواجه المجتمع التجربة ويخوض المعركة، وحين يشتد عضده يكون قد بلغ سن الرشد للتغيير.. والعقل والتصرف الموزون به يعرف بفعاله لمواجهة تفاعلات الواقعات عبر مسيرة الزمن حتى الوصول للنهاية والاستقرار.

وبدون هذا التوجه العلمي الصحيح سيبقى المجتمع يراوح في مكانه دون تقدم.. كما نحن في بلادنا المغتصبة من مؤسسة الدين اليوم.

نحن بحاجة اليوم الى ثورة علمية تزيح كل الكتب الصفراء المنضدة خلفهم وهي اس البلاء على الناس والمجتمع ورميها في النهر لخلق افكار جديدة وفق منهج علمي جديد يدخل المدرسة ولا عودة لمؤسسة الدين الصنمية التي نهبت اموال الدولة بحجة الخمس وهي ضريبة فرضت على عهد الرسول (ص) وقد انتهت بوفاته..

 ضرائب فات زمانها ولم نلمس منها غير الفرقة وتضخم مؤسسة الدين ومؤسساتها وقصورها وبذخها في لندن وباريس وايران والتي تخرج لنا كل سنة من مدارسها العاطلة فكريا الاف من المترهلين وتبني لنا المئات من المزارات الكاذبة التي تحلب بها جيوب المواطنين وتنقلنا الى الدعاء والرادود الكريه المبهم الكلمات لخلق جيوش المتخلفين والمذلة في ترجي السابقين.. لتجعل المواطن يعتمد على الادعية البائسة دون تحريك القدرة الفكرية فيه. من هنا يمتصون ثروة الوطن بلا عمل وقتل تطلعاتهم الفكرية.. ناهيك عن فكرة نشر الجهالة والاتكالية في نفوس المواطنين لنشر الجهل بينهم.. حتى اصبحت الجوامع والمزارات اكثر من المدارس بكثير.. وهنا الطامة الكبرى التي تواجه الوطن والمواطنين..

فاين الكُتاب والمثقفين الذي ملأوا الدنيا ضجيجاً بكتاباتهم البائرة دون تحقيق.. والتي هم يبررون ما يكتبون لانهم الاقدر على التبرير، والاسرع في الخيانة الوطنية لانهم القدر على التوصيف.

كفاية نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها.. قولوا الحقيقة قبل فوات الآوان.. ايها المدلسون.. فلم يعد التدليس نظرية تعريف.

***

د. عبد الجبار العبيدي

زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الى روسيا، تكمن أهميتها الكبيرة، ليس في الوقت الذي جاءت فيه فحسب، بل في تشكيلة أعضاء الوفدين المشاركين في المباحثات، فقد أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محادثات في موسكو مع ضيفه العراقي، الذي قام بزيارته هي الأولى من نوعها منذ تسلمه منصبه، واستمرت يومين،، وهذا يؤكد أهمية المباحثات التي اجراها الجانبان، واهمية القضايا المشتركة التي تمت مناقشتها، وقد عقد خلالها سلسلة لقاءات مع كبار المسؤولين الروس، و حضر خلالها أيضا منتدى الطاقة الذي افتتح في موسكو بحضور الرئيس الروسي أيضا .

فقد رافق السوداني خلال الزيارة، نواب رئيس الوزراء، وزير الخارجية فؤاد حسين، ووزير النفط حيان عبد الغني، وحيدر حنون - رئيس هيئة النزاهة الاتحادية، وعدد من المسئولين في وزارة الدفاع والكهرباء، بالإضافة الى مستشارين من عدد من الوزارات، في حين مثل الجانب الروسي، وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير المالية أنطون سيلوانوف، وشولغينوف نيكولاي غريغوريفيتش - وزير الطاقة في الاتحاد الروسي، الرئيس المشارك للجزء الروسي من اللجنة الحكومية الدولية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني بين الاتحاد الروسي وجمهورية العراق، شوغايف ديمتري إيفجينيفيتش - مدير الخدمة الفيدرالية للتعاون العسكري الفني في الاتحاد الروسي، وميخيف ألكسندر ألكساندروفيتش - المدير العام لشركة JSC Rosoboronexport، وفاغيت يوسفوفيتش ألكبيروف – مساهم في شركة PJSC Lukoil، وسيتشين إيغور إيفانوفيتش - الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة PJSC NK Rosneft، واختتمت فقط بالتوقيع على مذكرة تفاهم بين هيئة النزاهة العراقية ومكتب المدعي العام الروسي في مجال منع الفساد والوقاية منه، وتبادل المعلومات عن أموال الفساد المهربة، وأماكن إقامة المتهمين والمدانين .

روسيا استقبلت وباهتمام كبير السوداني، ووصفت زيارته " بالرائعة "، فقد زار روسيا ضيوفًا أجانب من هذه الرتبة مؤخرًا بشكل غير متكرر، لكن زيارة السوداني جاءت أيضاً خلال الحرب بين "إسرائيل" وقطاع غزة، وعليه، أصبحت المفاوضات الروسية العراقية أيضاً فرصة للتعبير عن موقف البلدين من الأحداث الجارية، كما إن اللقاء الأول بين بوتين والسوداني، جرى على خلفية الوضع الصعب في العراق وما حوله، وهذا لا يمكن إلا أن يؤثر على العلاقات الاقتصادية بين البلدين .

الرئيس الروسي في كلمته الترحيبية في الكريملين، أشار الى ارتفاع حجم التداول التجاري بنسبة 43% العام الماضي، لكنه انخفض هذا العام، وبالتالي وكما قال بوتين مخاطبا ضيفه "هناك شيء للحديث عنه، وبهذا المعنى فإن زيارتك تأتي في الوقت المناسب للغاية"، وفي الوقت نفسه، أشار الجانبان إلى أهمية التعاون بين البلدين، لا سيما في سوق النفط، سواء على أساس ثنائي أو ضمن أوبك+، واعتبر بوتين الطاقة مجالا رئيسيا للتفاعل بين روسيا والعراق، وشارك الزعيمان في أسبوع الطاقة الروسي، وهو حدث يشارك فيه خبراء في مجال الطاقة العالمية، لكن، بالطبع، الجزء الأكثر صدى في تصريحات بوتين والسوداني كان تقييمهما للصراع الحالي بين إسرائيل وحماس.

اللقاء كان فرصة كبيرة للتعرف على وجهات نظر الجانبين في العديد من القضايا المهمة التي تحدث في العالم، سواء عن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، او الحرب " الظالمة " التي تشنها " إسرائيل " على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، واتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة ان ذلك هو نتيجة فشلها في سيستها في الشرق الأوسط، وأن " الكثيرون ممن يتفق معه في هذا الرأي "، لأن واشنطن حاولت احتكار التسوية، لكنها للأسف لم تهتم بإيجاد حلول وسط مقبولة لدى الطرفين، وشدد بوتين على “ضرورة تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة”، وإلى ذلك، دعا بوتين والسوداني طرفي الصراع إلى خفض الأضرار التي لحقت بالمدنيين إلى الصفر، وعن الازمة الأوكرانية، فقد أوضح السوداني بان العراق اليوم بحكومته ونظامه السياسي ينشد الاستقرار في كل مكان بما فيها الأزمة مع أوكرانيا، وقال "العراق عانى من الحروب والحصار، ولاقى ويلات من هذه الاحداث، لذلك نحن مع الموقف الداعم لإيجاد لغة الحوار، وإيجاد الحلول السلمية هذه النزاعات "، في المقابل اعرب الرئيس الروسي عن تفهمه للموقف العراقي بهذا الخصوص.

رئيس الوزراء العراقي بدوره، عبر عن رأيه من داخل الكريملين (الحصن المنيع) وأكد إن هذه نتيجة طبيعية لتصرفات "إسرائيل" التي استمرت في انتهاك حقوق الفلسطينيين، وتحدث ضد الحصار المفروض على قطاع غزة ودعا إلى حل سلمي لجميع الصراعات، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي الفلسطيني،واعتبر السوداني ما يجري بانه نتيجة طبيعية بسبب امعان الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب الجرائم والانتهاكات المستمرة طيلة سنوات، ووسط صمت دولي، وعجز عن تنفيذ الالتزامات والقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، وقال " نحن أمام انتفاضة للشعب الفلسطيني لنيل حقوقه ووقف هذه الانتهاكات " .

ويؤكد المراقبون ان المفاوضات في موسكو أظهرت مرة أخرى مع رئيس الوزراء العراقي، أن الموقف تجاه روسيا لم يعد الآن سلبيًا كما كان من قبل، وهذا ما تثبته أيضًا الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس دولة عضو في الناتو، ولم يكن من الممكن تحقيق عزل روسيا، وان العراق، و بعد وصول السوداني إلى السلطة، وكما قال الكاتب حمزة مصطفى، ظهر مصطلح جديد في سياسة العراق الخارجية، وهو «الدبلوماسية المثمرة»، وتتلخص هذه الإستراتيجية في أنه لا ينبغي للمرء أن يركز حصرياً على اتجاه واحد في السياسة الخارجية، وخاصة في مجال الأسلحة والطاقة والاستثمار حيث تستثمر فيه 19 مليار دولار، لذلك فإن السوداني، جعل من زيارته الى موسكو، رسالة واضحة تفهم القيادة الأمريكية التي ترفض حتى الان استقباله في البيت الأبيض، بأن بغداد تحاول الحفاظ على نفس مستوى الاتصالات مع موسكو كما كانت في عهد الاتحاد السوفييتي، ومثل هذا الأمر بالتأكيد لن يرضي الأمريكان .

ويرى الروس انه في الآونة الأخيرة، وفي إطار إعادة التوجه العالمي لبلدان الجنوب، بدأ "الأصدقاء" التقليديون للولايات المتحدة، مثل المملكة العربية السعودية أو العراق، بالتفكير في إيجاد شركاء آخرين "، لذلك لا يستبعدون أن تكون زيارة محمد السوداني لروسيا مدفوعة ليس فقط بأسباب اقتصادية، بل أيضا بالرغبة في إجراء إعادة التوجه السياسي، ومع الأخذ في الاعتبار العقوبات الغربية ضد روسيا، فإن زيارة رئيس الوزراء العراقي لموسكو هي في حد ذاتها بيان سياسي للغرب، وفي المقام الأول الولايات المتحدة، يجيب على ما يقولون عنه دائمًا، إن روسيا وجدت نفسها في عزلة سياسية، لذا فإن مثل هذه الزيارات غير المنسقة لها تأثير سيء على الأسطورة التي تقدمها وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون.

وفي الواقع إن العراق مهم جدا بالنسبة لروسيا، فمن وجهة نظر جيوسياسية، فهو يقع بين سوريا وإيران، وهي أحد حلفاء روسيا الرئيسيين في الشرق الأوسط، وبالنسبة لروسيا، العراق مهم بالطبع فيما يتعلق بالتعاون في مجال تطوير جبهة طاقة موحدة أقوى في مواجهة العقوبات، وكذلك الحديث يدور عن إمكانية مشاركة الشركات الروسية في المشاريع النفطية العراقية الجديدة .

ولم يكن النفط والطاقة وحده مات مناقشته، فإن الحديث بينهما شمل وبأسهاب، معالجة قضايا تسديد المبالغ المستحقة للشركات الروسية العاملة في العراق، وإيجاد الصيغة المناسبة لحل هذه المعضلة، وقد حضر لهذا الشأن وزير المالية الروسي انطوان سيلوانوف، وان الجانب المهم في المباحثات أيضا، وإمكانية مناقشة موضوع اشراك الشركات الروسية في موضوع تشييد محطات الطاقة الكهربائية، والذي تعارضه واشنطن وبشكل كبير، خصوصا وان للشركات الروسية تجربة كبيرة في تشييد محطات الطاقة الكهربائية الموجودة في العراق، بالإضافة الى متابعة الاتفاقات التسليحية بين العراق وروسيا .

وفي منتدى الطاقة الذي افتتح في العاصمة موسكو، أكد رئيس الوزراء محمد السوداني، انفتاح بلاده على المستثمرين، واستعدادها لتقديم فرص كبيرة لهم، وأشاد بشدة بفعالية أوبك+ التي “تسيطر على المخاطر السياسية في أسواق الطاقة وتثبت التوازن”. العرض والطلب"، بالإضافة إلى ذلك، أوضح السوداني مشكلة تخلف صناعة الغاز في العراق، واشتكى من أنه “لم يستثمر العراق في قطاع الغاز منذ فترة طويلة، ونتيجة لذلك، فإنهم مضطرون إلى استيراد “الوقود الأزرق”.

وبالطبع تم التركيز على النفط والغاز على جدول أعمال زيارة رئيس الوزراء العراقي، ويمكن ملاحظته أيضًا من أعضاء الوفود للبلدين واثنين من "جنرالات النفط الروس "، هما إيغور سيتشين( رئيس روس نفط ) وفاغيت ألكبيروف (رئيس لوك أويل)، والذين كانا حاضرين في الاجتماع الرسمي"، الأمر الذي يؤكد، أن التعاون الروسي العراقي في قطاع الطاقة ذو طبيعة مبدئية واستراتيجية .

ويعد العراق أحد أهم الدول في الشرق الأوسط، وان روسيا الآن بحاجة إلى بناء علاقات في نظام عالمي جديد"، إن روسيا ودول منطقة الشرق الأوسط هي التي تحدد بالفعل وستحدد مشهد الطاقة العالمي خلال العقد المقبل، لذلك المحافظة على مستوى عالٍ والبقاء على اتصال دائم مع السلطات في المملكة العربية السعودية وقطر والامارات، والآن جاء دور العراق، يعد امر مهم .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

واثر ذلك على الحدود بين العراق والكويت

البند السادس يعطي الحرية للدول التي بينها خلافات ان تحل هذه الخلافات بالطرق السلمية، وهو خلاف البند السابع، حيث البند السابع الخلافات بين الدول تحل من خلال مجلس الامن الذي يضع شروط وقواعد ويفرض عقوبات وهذه الشروط والقواعد والعقوبات تفرض وبالقوة على الدولة المعتدية وإن رفضت تطبيقها تستخدم القوة العسكرية من قبل مجلس الامن فتصبح هذه الدولة ملزمة بتنفيذ هذه الشروط والعقوبات ومرغمة على ذلك وبالقوة، ونحن نفذنا هذه الشروط واهمها تعويض الكويت بمقدار 52 مليار دولار كنا ندفع في كل سنة 5٪ من واردات النفط لتسديد هذا المبلغ وانتهينا من تسديد كامل التعويضات في شباط 2022 وبشكل طبيعي بعد تنفيذ هذه الشروط انتقلنا الى البند السادس وهذا يعطينا الحرية للتفاوض السلمي مع الكويت من دون شرط استخدام القوة، إن قرار مجلس الامن رقم 833 يصب لمصلحة العراق في تقسيم خور عبد الله مناصفةً بين الساحل العراقي والساحل الكويتي، ولكن الكويت ارادت اكثر من النصف فراكمت كميات من الاحجار والتربة لإنشاء جزر صناعية لكي تحصل على ثلاثة ارباع خور عبد الله خلاف قرار الامم المتحدة ، واستناداً الى ذلك دفعت الكويت رشاوي عالية لترسيم الحدود البحرية لأنها تعلم انها لا تستطيع ان تفرض بالقوة ترسيم الحدود خلاف القرار 833 إلا إذا وافقت الحكومة العراقية ومجلس النواب العراقي على ذلك، الحمد لله ان التيار الصدري عندما كان في مجلس النواب لم يصادق على قرار ترسيم الحدود عام 2013 ولذلك لم يتحقق شرط الثلثين والحمد لله اصدر مجلس القضاء الاعلى قراره ببطلان قرار مجلس النواب وبذلك سقط الاتفاق العراقي الكويتي الذي باع فيه اغلب القوى والاحزاب السياسية حصة العراق من خور عبد الله للكويت، والآن اهم شيء ان لا تتولى الحكومة العراقية او مجلس النواب إجراء اي اتفاق او معاهدة مع الكويت لإمكانية تأثير الكويت على المفاوضين ولكن افضل شيء لتحقيق مصلحة العراق هو عرض الامر على محكمتين دوليتين الاولى محكمة العدل الدولية في لاهاي لرسم خط الحدود بين العراق والكويت استناداً الى قرار 833 لمجلس الامن والثانية المحكمة الدولية لقانون البحار في هامبورغ حيث تضع الخطوط بشأن الحدود الاقليمية لقاع البحر وملكية ما تحت قاع البحر من آبار نفط وغاز وموارد اخرى والحقوق البحرية للعراق والكويت لمناطق صيد الاسماك والبيئة البحرية..

***

محمد توفيق علاوي

12 أكتوبر 2023

بين هجانة التنظير، واستدراج المقادير ومكر التاريخ

 لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78 - 79

 ربما يعرف التاريخ، من موقع العبر، ما يصنع، ولكن الشعوب، بيقين، لا يعرفون ما يصنعون فيكتور هيغو

 لا تضحك، لا تبكي، ولكن حاول أن تفهم سبينوزا

من المسلم به في أنثروببولوجيا التاريخ، أن الأحكام في القضايا الكبرى للأمم، ينفذها التاريخ من خلال حكامه وأجيال شعوبهم - إن خيرا أوشرا - وهدف التاريخ حينها، تقويم إعوجاج الساسة وإنحراف الشعوب، فيعمل التاريخ عندها على تربية هؤلاء وأولئك - بالتعاقب -، بالإستدراج تارة، وبالمكر تارة أخرى ليعود بالأمور إلى جادة الإعتدال !

ومن هذا المنظور، فإن الحكم على حدث تاريخي لأمة، لا يتشكل إلا من اللحظة التي تستطيع فيها - هذه الأمة - أن تحكم على نفسها، شريطة إن يكون قادتها صالحين، أما إذا كان القادة فاسدين، فلن تحصل هذه الأمة على هذا الامتياز الرفيع إلا في وقت متأخر جدًا عند ما يتلقى هؤلاء الفاسدون (حكاما وشعوبا) حكم التاريخ القهار، مع سخرية المقادير بهم جميعا.

ومن منظور هذه الحيثية أقول: لن يستقيم للأنظمة العربية المطبعة مع إسرائيل، حديث المعتقدين الجازمين في قضية التطبيع الذي تدورحوله منذ البداية ضروب الشك والريب والظنون، ما لم يفصل خبراء هذه الأنظمة في المفهوم: لغة - عقيدة - إيديولوجية. ومبدئا - قوميا انتماء طنيا. !

وحتى إن حاول منظرو التطبيع السفسطة والمضاربة في الموضوع، بالثرثرة والإختزال والترقيع. فإن الناظرإلى ما يسمى ب التطبيع (العربي - الإسرائيلي) - نظرة المتفحص المُتَّئِد: ابتناء واعتقادا، ثم اعتبارا واستشكالا، فتقويما وانتقاداَ. فلا محالة أنه واجد فيه من جهة نظرأولي، أن الغالب على شبيه الفكرهذا - الذي ليس بالفكر خليق ولا بالتنظير جدير - إنه للهجانة تابع، وللمسخ مُقلِّدْ، وللسفاهة مُوَلِّدْ ومُرَدِّدْ.

ومن جهة نظرثانية، فالمدقق الحصيف لن يجد لهذا المسخ أصولا: (إيديولوجية - فلسفية) أو (عقدية - روحية) أو (فكرية - ثقافية) واضحة المعالم، ولن يعثرفيه على تقاليد سياسية ممنهجة راسخة ـسوى الهذاءة والعدم، اللذان كُسيا لا هوتا مؤدلجا، و نظرية سياسية هجينة. بل أضحى لدى المطبعين العرب، أسلوب حياة وثقافة ومنهج تفكير، تترجمه البعثات الدراسية لدول عربية منذ أزيد من سنوات عديدة، كان يتم إرسالها كبعثات للدراسة والمدارسة والمشاورة في تل أبيب، في مجالات التربية والتعليم والقضاء والتدريبات (الجيو - عسكرية)، ودراسة التاريخ العبري، وتاريخ المنطقة - بالمنظورالتلمودي الصهيوني - بقصد دمج تدريس التاريخ المزيف اليهودي في مقررات التدريس في دول عربستان المُطبٍّعة.

كما أن مفهوم التطبيع (العربي - الإسرائيلي) لا يصمد أمام صرامة التعريفات الواردة في المعاجم المتخصصة في علوم المصطلحات السياسية، وفي دوائرالمعارف الدولية الكبرى - مثل لاروس الفرنسية.

إذ لا نجدلهذا المفهوم العربي الجديد دليلا واضحا: لغويا (سياسيا - ديبلوماسيا) -، ممايجعل هذا المفهوم، مجرد تحصيل حاصل لأشتات فكرلقيط، جُمع من كل المتفرقات المشوشة المبثوثة في التنظيرالصهيوني، وفي إستسرارات التلمودية، Esoterisme، وفي بذاءات الماسونية وفي غنوصيات التورانية المزيفة.

1 - فالتطبيع في اللغة: استعادة الوضع وفقا للقواعد المعتادة. (وفي حالة التطبيع العربي، فمن المعروف من هم الأسياد الذين يضعون القواعد المعتادة ومن هم العبيد الذين يرضخون لأوامر الأسياد. )

2 - وفي السياسة: هو العودة إلى حالة النظام السابق، واحترام القانون بعد ثورة أو تمرد أوفترة مضطربة. أو قطيعة (سياسية) .

بمعنى، أن أنظمة عربستان المطبعة، ظلت تعتبر نفسها - منذ سايكس - بيكو - في وضعية ترقب وإنتظار، وفي حالة معلقة STAND BY، تنتظر العودة إلى النظام القائم الذي قرره من خلقوا الكيان الصهيوني

3 - وفي الدبلوماسية: يعتبر تطبيع العلاقات بين بلدين بمثابة العودة إلى الوضع المعتاد - الذي كان سائدا قبل القطيعة - بعد حرب أو أزمة سياسية

4 - وفي علم الاجتماع: هو عملية اجتماعية يتم من خلالها النظرإلى أن أفكار وأفعال التطبيع مع الأخر على أنها طبيعية. ويتم اعتبارها أمرا مفروغا منه أو طبيعية في الحياة الإجتماعية.

بمعنى، أن هناك نوعين من التطبيع: تطبيع اختياري، يتم بين نظامين متكافئين ومتساويين في الندية والسيادة والكفاءة. وتطبيع قسري يفرضه المحتلون على الدول المحتلة أي بين الدول الأقوى والدول الأضعف التابعة كأذيال وأذناب.

مما يعني على أرض الواقع السياسي لدول عربستان، أنها أنظمة تابعة وفاقدة للسيادة، بل وللشرعية. بل هي منسلخة عن قيمها التاريخية: الدينية والقومية والوطنية، قبلت - عن طواعية – الإندماج في النموذج العبري المزيف، وزج شعوبها في هرطقات تلموديته ك أصل تقييسي وقيمي، يتم عبرها تنمية عملية التقييس التأديبي، لتطال كل شيء في الحياة. وهو ما خطط له ناتانياهو منذ أكثر من عشرين سنة، بمحاولة إكراه الفلسطينيين، والدفع بالأنظمة العربية المشبوهة، إلى الرضوخ للسلوكيات العنصرية المقيتة اليومية الإسرائيلية كأمر واقع statu quo، و كالنموذج الأمثل .

علاقة التقييس التأديبي الصهيوني، ب التقييس التأديبي العربي:

إن ما يسمى ب التقييس التأديبي بالتطبيع الصهيوني - بكل وجوهه - يطرح النموذج أولًا، كقاعدة راسخة توجيهية، للفصل النهائي بما هو طبيعي، وغير طبيعي وهوما يسمى ب ب التطبيع التأديبي . بحيث أن الطبيعي هو ما تراه الصهيونية والغير الطبيعي هو ما يراه المعارضون لها.

وأمام استحالة تطبيق هذ التطبيع التـأديبي - على الشعب الفلسطيني منذ الإحتلال - أي منذ 48، فقد أملاه ناتانياهو على أنظمة عربستان - رغم إستحالته – التنظيرية: (الإيديولوجية، والدينية العقدية والفلسفية) - مما يدل على الغباء المفرط للمطبعين العرب - وهذا جانب تفصيلي -

وفضلا عن هذا وذاك، ففي نهاية المطاف، فما يسمى بالتطبيع العربي، ما هوسوى إضفاء الطابع الرسمي والشرعية للخيانات العربية، منذ قبول الساسة العرب لمؤامرة سايكس - بيكو، وما تم الإعلان عنه رسميا أمام العلن عقب حرب رمضان عام 73.

وبالتالي، فكل إجراءات التطبيع (العربي - الإسرائلي) السابقة والحالية واللاحقة - هي خيانة بالإصطلاح – وخروج عن الملة والدين، ونبذ للأعراف الإنسانية النبيلة، وهي نتاج تاريخ خيانات أنظمة عربية لا تنتهي منذ بدايات القرن الماضي الذي بدأت بمراسلات (الحسين - ماكماهون) 1915 - 1916: كقاعدة بيانات للوثائق الرئيسية في القضية الفلسطينية والصراع (العربي ـ الإسرائيلي) –التي زودتنا بالنصوص الكاملة للاتفاقيات والمعاهدات والرسائل والوثائق الرئيسية المأخوذة من مصادرها الأصلية للدراسة الموضوعية الأكاديمية لمرحل التطبيع منذ نشأته - رسميا - على يد الشريف حسين بن على، ونجليه اللذان اعتليا عرشي العرق وبلاد الشام، وعلاقة هذين بتمجيد الصهينة على أنها صنو للعمومة العربية للأنظمة الأوليغارشية العربية (ذات الأصول القرشية الأعرابية المكتسية بالقشرة الإسلاموية والجوهر جاهلي) . كما أكد ذلك الملك فيصل - نجل الشريف حسين - لحاييم ويزمان : رئيس منظمة الصهيونية العالمية وأول رئيس لإسرائيل.

 التطبيع تكريس للخيانات العربية مند عام 1936

خيانة حكام الأوليغارشية العربية ليست بالجديدة، بل هي تاريخ لا ينتهي، منذ الثورة المزيفة العربية الكبرى عام 1916، كتعبير عن طموح الشريف الحسين بن علي ليصبح خليفة للعرب وللمسلمين، بعد الوعود التي قدمتها له الحكومة البريطانية، حينما اختارته وشجعته ليكون حاكما على المناطق العربية التي كانت تحت سلطة العثمانيين (ثم تم الرمي بطلبه في سلة القمامة من طرف الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون - من الحزب الديوقراطي زمنها) وكسب العاهل الهاشمي من الغنيمة بالإياب. إلى أن جاءت لحظة حقيقة خيانة الحكام العرب في عام 1948، فجوزي جميع الخونة العرب جزاء سنمار (وكذا سيجازى المطبعون الحاليون والخونة المحتملون القادمون) حيث أن الجيوش العربية وحكوماتها ظلت تتحكم فيها القوى الاستعمارية، ولم تقم بأي استعداد جدي لدخول الحرب ضد اليهود الصهاينة، مما دفع الشهيد عبد القادر الحسيني إلى الصراخ في وجه أحد المسؤولين العرب وزمنها، قائلا: أنتم خائنون، وسيكتب التاريخ أنكم أضعتم فلسطين،

لا جديد تحت الشمس في بلدان عربستان المطبعة:

تسعى دول عربستان المطبعة - صاغرة - للإسرائيلي وللأمريكي - محو اسم فلسطين من خارطة الشرق الأوسط الجديد (كمفهوم أمريكي صدر على لسان، كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة عند الهجمة الإسرائيلية على لبنان في عام 2006) بهدف الزج بفلسطينيي الداخل داخل الأسرة الكاملة والصهينة المطلقة، أو التهويد القسري، والرمي بالمتمردين والعاصين عن الدمج والتهجين بالتسكع والتيه في بقاع الأرض.

إتفاقية كامب ديفيد، أس الأسس في التطبيع العربي الحالي:

خيانة حكام عربستان لن تنتهي، منذ بعيد اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة في 17 سبتمبر 1978 بين الدولة المصرية ودولة الكيان العبري. وفي 26 مارس 1979، تم إتمام معاهدة سلام بين هاتين الدولتين. وبعد ستة عشر عاماً، حذت المملكة الأردنية حذو مصر في26 أكتوبر 1994.

التطبيعات المتلاحقة التي لن تنتهي: خضوع دول عربستان المطبعة للتوحيد القياسي للصهينة :

هذه هي التطبيعات بكل أنواعها وأشكالها، من خلال التوحيد القياسي هي الخنوع للمعايير الإسرائيلية الصهيونية أو الخضوع الكلي للصهينة . فمنذ كامب دايفيد، تم إثراء قائمة الدول العربية الموحدة بأعضاء جدد: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان، والمغرب. والنظام السعودي في الطريق يقينا - بموجب عوامل كثيرة كجانب تفصيلي -

التطبيع العربي: إضفاء الطابع الرسمي للخيانة العربية

تجدر الإشارة إلى أنه، باستثناء مصر جمال الناصر، كانت للدول المذكورة علاقات تطبيعية غير رسمية مع الكيان الصهيوني. وبالتالي فإن المصطلح المناسب لوصف هذا التطبيع هو إضفاء الطابع الرسمي للخيانة العربية

بعض الأحداث التاريخية المسوغة لتوسيع رقعة التطبيع (العربي - الإسرائيلي):

من المهم التذكير بإيجاز بالأحداث التاريخية التي فتحت الطريق أمام الكيان الصهيوني للتوسع الصهيوني الجغرافي الرمزي من خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة وأهمها:

1 -  انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة في أواسط الثمانينات.

2 -   تضخم أنا ممالك الخليج، مع تنامي دور الحركات السياسية الإسلامية، ذات المنشإ الأنجلوسكسوني، والتي لعبت دورًا أساسيًا في أفغانستان أبان الاحتلال السوفياتي، مع تعملق شنارها في الربيع العربي.

3 - حرب عراق صدام حسين ضد إيران كحرب لا يمكن تفسيرها إلا بجنون عظمة صدام بمباركة القوى الغربية وممالك الخليج.

4 - حربا الخليج الأولى والثانية والاحتلال السياسي والعسكري الأنجلو أمريكي للعراق.

5 - العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006

6 - الربيع العربي: أدي إلى تحجيم القدرات العسكرية للأنظمة العربية لأكبر دول المنطقة المهددة لأمن إسرائيل مثل مصر، وتدمير ليبيا وترويع سوريا المعاديتان للصهيونية وللغرب، على يد الدول الإستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تحت إشراف الأطلسي المقدس .

الربيع العربي، جعل دول عربستان أكثرهشاشة وضعفا؛ حيث أنه طمأن الأوليغارشيات العربية وضمن حماية عروش حكامها، فتحولت تلك الأنظمة إلى مجرد كيانات سمجة حليفة للكيان الصهيوني، مصابة بعقد الإنفصامية والمازوشية، تتلذ بسادية التآلف (الإسرائيلي - الأمريكي) وتصبو - مثل مومسات الشوراع الحمراء - لنيل ود البلطجي الإسرائيلي الحمش الذي سيحميها من إنتفاضات شعوبها–إن انتفضت - وضد الأعداء الخارجيين الوهميين مثل الشيعة الإيرانيين -

7 - اتفاقاية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 مع إسرائيل، وتم نسيانها منذ ذلك الحين، وهي أيضاً عامل مهم في تحرير الأعراف السياسية للطبقات العربية الحاكمة. باستثناء لبنان وسوريا واليمن والجزائر

8 - الهجمة (السعودية - الإماراتية - الأمريكية) على اليمن عام 2015

9 - بسبب غباء الأوليغارشيات العربية المطبعة، فإن الأجيال الفلسطينية الحالية والصاعدة تجاوزت الحل الإنتكاسي لسنوات التسعينات، المسمى ب: بحل الدولتين التي نادي بها الملك الهاشمي عبد الله لتي أطلقها من بيروت،

أما اليوم، فما يسمى ب، بحل الدولتين قد أصبح في خبر كان، فقد تجاوزته الأحداث، وترفضه كلية الأجيال الفلسطينية الصاعدة. وهو حل لصالح الكيان العبري، وإستمرار دار لقمان على حالها مثل السابق: غزة - كأكبر سجن على الأرض - تضل محاصرة ومجوعة ومعزولة عن العالم، وتضل مقاومتها تصنف إرهابية، مع إستمرارا لإنتهاكات اليومية الصهيونية بتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية والإعتداء على العزل من النساء والأطفال والعجزة، بمباركة ما يسمى زورا ب: المجتمع الدولي – المتحضر المنافق والجبان -

10 - في كل هذه الأحداث، لم تتحمل الجامعة العربية مسؤوليتها. بل على العكس من ذلك، كان غالبية أعضائها من الخونة، وفي أحسن الحالات، كان البعض منهم من المساعدين للاعتداءات الصهيونية والغربية تحت راية الأطلسي.

وأخيرا وليس آخرا، ففي خضم هذه الصراعات الهائلة في المنطقة، وبين خبط الكيان العبري، وخلط التطبيع العربي، لم يتبق للفلسطينيين سوى الصبر والمقاومة و الأمل. ولم يبق ما سيخسرون.

الشعب الفلسطيني، المنكوب، لم يرغب أبدًا في الاعتقاد بأن العدالة والحقيقة لا يمكن أن تضيع إلى الأبد. فهو يصبو إلى الأمل القريب وإلى المستقبل السعيد الأكيد.

لقد ترسخت في ذهن الشعب الفلسطيني، منذ أمد بعيد، أنه سيأتي وقت تُعاد فيه الأشياء إلى مكانها، وتُعاد الأمور إلى نصابها، ويحقق التاريخ عبرته ويعلم دروسه، وينجز الله وعده. وهذا الاعتقاد عميقًا ويقينيا في النفوس الفلسطينية الأبية.

كل مولود فلسطيني يولد على فطرة النخوة والنبالة، وكل واحد منهم يحمل في جيناته بذرة التمرد والمقاومة.

جميع الفلسطينيين من كل الأطياف والأعمار نفد صبرهم من النير الذي ظلوا يعانون منه منذ خُلق الكيان العبري، وكلهم غاضبون من القيود الجديدة التي تتوهمها الأنظمة العربية المطبعة، ومن كل أخاديع الغرب المتنور الكاذب. ومن الأصفاد الصهيونية التي ما فتئت تزداد كل يوم عُدة وعددًا ووحشية وهمجية، جعلت الفلسطينيين يرفضون كل الحلول الوهمية المروجة للسلام الوهمي، ورفض أنصاف الحلول المخادعة إقليميا عربيا. أو دوليا غربيا، وكذا رفض كل أنواع التسويات الترقيعية من طرف أي كان. لقد جعل الفلسطينيون - في أزمنة التطبيع والخيانة العربية وفي تكالب الضباع الغربية -، من طرد الإحتلال كلية هدفًا يجب تحقيقه. فلا حل تقاسم الأرض مع المحتل، أو قبول وساطات سماسرة الشرق والغرب عاد يفيد.

وذلك لأن العنف الإسرائيلي قد يضغط على الدوافع التحريرية الطبيعة للفلسطينيين، لكنه لن يستطيع كبحها أو إزالتها. والمزيد من الضغط عليها من طرف الإحتلال أومن أي طرف خارجي، لن يؤدي إلا إلى جميع القوى اللازمة للانفجار. وإن غداً لناظره قريب.

***

الطيب بيتي

كل شيء حدث فجأة وخلافاً لمنطق الأشياء في عالم يسوده الظلم والرياء وتعدد المكاييل.. حيث يعلو صوت الضحية على غطرسة الجاني القاتل الذي مُرِّغ كبرياؤه في الأرض على رؤوس الأشهاد، فيما ثبت بأن جيشه واستخباراته العمياء مجرد عتاد وتقنيات متقدمة وإرادة ضعيفة ورؤية قصيرة المدى رغم استعانتها بالبوارج الأمريكية التي حملت على متنها قوات من المارينز إلى جانب فرقة متخصصة في تحرير الرهائن؛ لرفع المعنويات الإسرائيلية المنهارة، بعد عملية فلسطينية تقصم الظهر.

إنّها غزة المحاصرة منذ عقود والقابضة على الجمر والعصية على الاختراق رغم ما تتعرض له من عدوان دموي غاشم وأكاذيب تضليلية. فالشمس لا تغطى بغربال.

ومن بين الركام ستخرج المقاومة- كما عودتنا- أشد عنفواناً وكأنها طائر الفينيق الكنعاني الأسطوري.

إنّ عملية طوفان الأقصى بحد ذاتها تُعْتَبَرُ معجزة أخذت تتدحرج كما خَطَّطَ لها قادتُها انطلاقاً من غزة؛ لتقفَ عند عتبات خمس جبهات مترابطة، وهي:

الضفة الغربية التي استجابت طائعة لنداء وحدة الساحات في سياق انتفاضة متنامية وبنادق يقف خلفها أبطال عرين الأسود بإجماع فلسطيني.

أيضاً جنوب لبنان حيث حزب الله صاحب الوعد الصادق الذي أخذ يشاغل الاحتلال الإسرائيلي شمال فلسطين المحتلة في دخولٍ حذرٍ ومدروسٍ لميدان المعركة. مع العلم أن القصف المُتًبًادَلْ والمُشَاِغْلْ لجيشِ الاحتلال ما لبث محاطاً بالخطوط الحُمْر، نظراً لِتَرَاوِحَ مدياتُهُ ضمن منطقةٍ محدودةٍ لا تتجاوز إصبعَ الجليل والقرى اللبنانية المتاخمة للحدود، في سياق الخلاف على مزارع شبعا اللبنانية المحتلة.. حيث نجم عن ذلك قتلى من الطرفين.. كان آخرها إصابة دبابة إسرائيلية، مقابل بلدة مارون الراس، بصاروخ موجه أدّى إلى احتراقها.

ثم تأتي الجبهة السورية المهيأة للانفتاح، حيث أفاد جيش الاحتلال بأن ثلاثة صواريخ أُطْلِقَتْ مساء السبت الماضي من سوريا باتجاه "إسرائيل".

وأخيراً الاحتمال الأبعد بدخول إيران على خط المواجهة والذي يُوَاَجُه بردع معنوي من قبل أمريكا التي أرسلت حاملة الطائرات جيريلارد فورد لهذه الغاية بغية منع أي استغلال ممكن للأحداث.

وفق ما جاء في كلمة جو بايدن الأخيرة التي أيّد فيها حق "إسرائيل" بالدفاع عن نفسها وحرمه على الفلسطينيين، ما أعطى الضوء الأخضر لجرائم الاحتلال، والتزاماً من واشنطن بحماية الكيان الإسرائيلي الذي لا يقوى على العيش بدون الدعم الأمريكي، أيضاً لغايات انتخابية بغية حصول بايدن على دعم اللوبي اليهودي في بلاد العم سام.

فقد بدأت القصة بإطلاق كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صباح السبت 7 أكتوبر 2023 عملية عسكرية واسعة ضد "إسرائيل" براً وبحراً وجواً، حملت اسم "طوفان الأقصى"، وذلك رداً على الاعتداءات المستمرة التي تشنها قوات الاحتلال على الفلسطينيين في الأقصى الأسير ومدن الضفة الغربية المحتلة.

وسددت العملية ضربتها الموجعة المباغتة إلى العمق الإسرائيلي تاركة اثراً لا يمسح من الذاكرة الإسرائيلية والعقل الصهيوني المصاب برهاب المستقبل والوجود، دون أن تكترث بمواقف دول العالم المجيرة -دون جماهيرها- للاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاقيات استسلام واهية كان آخرها الاتفاقية الإبراهيمية الفاشلة.

واعتبر الخبراء العسكريون في العالم هذه العملية بأنها نموذجية وسيتم تدريسها في الأكاديميات العسكرية المرموقة في العالم، كونها جاءت ملهمة من حيث: دقة التخطيط.. وتوخي السرية التامة أثناء تنفيذها مع تغييب أجهزة الرصد والمراقبة الإسرائيلية عبر الأقمار الاصطناعية أو أنظمة إنذار الجدار العازل الممتد عبر الحدود مع القطاع، والمزروع تحت الأرض بعمق يزيد عن 30 متراً.. والذي أُحْدِثَتْ فيه عدةُ فتحاتٍ تم عبور أكثر من ألف مقاتل نخبوي حمساوي من خلالها، دون رصدها من قبل أكثر أنظمة الاستخبارات تطوراً في العالم والتي تضم كلاً من المخابرات العامة (الموساد)، والمخابرات العسكرية (آمان) وجهاز مخابرات الأمن العام الداخلية (الشين بيت).. بوجود جيش مترهل تم اصطياد عناصره بسهولة، إما من خلال مواجهات مباشرة أو في ثكناتهم.

تمت العملية بعد قصف غلاف غزة بخمسة آلاف صاروخ أصاب معظمها الأهداف بدقة دون تصديها من قبل القبة الحديدية.

أما عن حصاد العملية وفق يديعوت أحرونوت: فإن عدد القتلى وصل إلى ألف إسرائيلي ما بين مدني وعسكري من أعلى الرتب.

وبالنسبة للجرحى فيفوق عددهم ال 2200 جريح، وعدد "المختطفين" الأسرى وصل إلى أكثر من 150.

فيما استمرت المعارك التكتيكية بين قوات المقاومة مع جيش الاحتلال في عدة مواقع بمستوطنات إسرائيلية ظلت خارج سيطرة الاحتلال لعدة ايام.

وهناك توقعات من وجود شبكة من الخلايا النائمة لحماس متصلة بمتعاونين مع المقاومة من فلسطينيي الداخل، أنيط بهم -كما يتوقع- دعم رجال المقاومة لوجستياً توطئة للقيام بعمليات خلف قوات العدو فيما لو حاولت اقتحام قطاع غزة.. وهو ما يتحسب له الإسرائيليون.

الرد الإسرائيلي كان متوقعاً وجاء بدون إنذار للمواطنين الذين تهدمت البيوت فوق رؤوسهم وتم إزالة احياء بكاملها وقد طُلِبَ من أكثر من 2200 مواطن فلسطيني ممن فقدوا بيوتهم، التوجهَ نحو الحدود مع سيناء.

فجاء رد المقاومة بالمثل من خلال الطلب من سكان أكبر مدينة في الغلاف، سيدروت، الخروج منها، ففاضت شوارع المستعمرة بالفارين من جحيم ما وعدت به المقاومة.

ونجم عن القصف الإسرائيلي الهمجي وفق وزارة الصحة في غزة حتى مساء الأمس الثلاثاء،830 شهيداً و 4250 جريحاً .

ولعل من أهم أهداف عملية طوفان الأقصى:

- الرد على ما كان يخطط له الأمريكيون إزاء توقيع الاتفاقية الإبراهيمية بين الرياض وتل أبيب برعاية واشنطن.

- القيام بأسر أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين للقيام بصفقة تبادل أسرى بغية تصفير السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين.

- الرد على اعتداءات رعاع المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية والمسجد الأقصى تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي.

أما بالنسبة للسيناريوهات المحتملة لمآلات الحرب وفق تقديرات الخبراء العسكريين عبر الفضائيات:

أولاً:- احتلال قطاع غزة على أرض محروقة وتصفية حركات المقاومة أو تقسيم غزة وتحويلها إلى ثلاث مناطق غير مترابطة.

وهذا مستحيل في ظل وجود مدينة أنفاق متكاملة الخدمات تحت الأرض قد تتحول إلى أفخاخ لمواجهة الاحتلال في حرب شوارع مفتوحة.

وهي مهمة ستكون عسيرة أنيطت بجيش الاحتلال المترهل، إلى جانب ضعف العقيدة القتالية لدى جنوده، أضف إلى ذلك افتقاد الجيش إلى إرادة القتال التي ستختبر في مواجهات مباشرة مع المقاومة التي يتمتع أفرادها بإرادة قتالية لا تلين، وقضية يؤمنون بها، ومصير مرتبط بغزة المحاصرة دون خيارات بديلة، حتى لو تم استدعاء 300 ألف جندي احتياط غير مدرب في أكبر عملية من نوعها على الإطلاق.

ثانياً:- احتلال غزة والقضاء على المقاومة وخاصة حماس، ثم ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء بعد تحويل غزة إلى أرض محروقة بتكثيف الغارات ضمن مخطط "توطين الفلسطينيين في سيناء" والمرفوض على صعيديّ مصرَ والقياداتِ الفلسطينية على اختلافها.

ثالثاً:- الرهان على المفاوضات بين وسطاء الطرفين إذا وضعت الظروف الاحتلال أمام هذا الخيار.

وهذا قد يفسر زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المرتقبة إلى كل من الأردن ومصر و"إسرائيل" في جانب منها، وقد تكون للضغط على حماس لكي ترضخ لشروط الاحتلال الإسرائيلي الذي تلقى صفعة لا تنسى قد يكون من شأنها أن تدرس في الأكاديميات العسكرية.

وفي ميزان الربح والخسارة فأن عملية طوفان الأقصى وحَّدَتْ الإسرائيليين من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية إسرائيلية لإدارة الحرب المعلنة، اتفق في سياقها نتنياهو مع وزير الدفاع السابق وزعيم "المعسكر الوطني" بيني جانتس.

إلا أن العملية التي استرعت من الإسرائيليين استدعاء الاحتياط وهم من الموارد البشرية العاملة في كافة القطاعات فقد كبدت "إسرائيل" خسائر طائلة سوف تزداد كلما طال أمد الحرب.

فإن وجود الاحتياط في الجبهة سيعطل الاقتصاد الإسرائيلي الذي تكبد حتى الآن خسائر غير محتملة، إلى جانب هبوط قيمة الشيكل والبورصة، وقيام البنك المركزي الأسرائيلي بضخ 30 مليار شيكل لإنقاذه من الانهيار، ناهيك عن أغلاق ميناء عسقلان ومنشآت تابعة له، وإيقاف انتاج الغاز في حقل تمار، ثم وقف بعض رحلات الطيران الكندية والأمريكية إلى مطار اللد، أضف إلى ذلك نقص حاد بالأغذية والأيدي العاملة وخسائر تجاوزت ال 30 مليون دولار نجمت عن الأضرار الناجمة عن انفجار صواريخ القسام بالمباني والمنشآت.

في المحصلة فإن الحقيقة لا تغطى بغربال، وعملية طوفان الأقصى التي دمغت الاحتلال الإسرائيلي وجيشه المهزوم بالعار، ستنتقل إلى المرحلة الثانية من خلال حرب شوارع التي تتوق إليها المقاومة وقد جهزت كل إمكانياتها لخوضها.

ففي حرب الإرادات دائماً ينتصر صاحب الحق، ولكم في الثورة الجزائرية العبر.

***

بقلم: بكر السباتين

11 أكتوبر 2023

كان لـ«الذَّكاء الاصطناعيّ» القدح المعلى في منتدى الإعلام العربي بدبي(26- 27 سبتمبر 2023)، به تكون المدن ذَكية، كلّ شيء يتحرك باللَّمس، المطارات لا تعرف الطّوابير، والطَّائرات والسّيارات تسير وتقف ذاتياً، أدخل في الفنون: التَّمثيل والرَّسم والنَّحت. مما أثار أسئلة في المنتدى، عبرت عن قلق الإنسان، حتى البعض نسى أنّ الرّوبوتات صناعة الذّكاء الطّبيعيّ، فإذا شاع «الاصطناعيّ» يُقابله «الطّبيعيّ».

حاول الإنسان قديماً محاكاة الطّبيعيّة، فجرت محاولات للطيران تقليداً للطيور(محاولتا الجوهريّ صاحب الصِّحاح وعباس التّكارني)، وفكرَ أصحاب العقول برؤية الأشياء عبر الأجسام الصّلبة، بأنَّ اللهَ يخلق شعاعاً يخترق الحيطان، ومَن قال: «لَوْ أَشَاءُ لَصَنَعْتُ رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ»(البلاذُري، أنساب الأشراف)، نُسبت لصانع الرُّحِيِّ في صدر الإسلام، وها هي الرَّياح توُلد الطّاقة، وإن نسيت فلا أنسى تمثيل المعتزلة(القرن العاشر الميلادي) «التُّفاحة» في سقوط الأجسام(النّيسابوريّ، مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين)، فسميتها «تفاحة المعتزلة». إنَّها خيالات ذكية تحولت إلى وقائع. هل يتمكن العقل الاصطناعي التّخيل والإبداع دون الإنسان، صاحب الفِكر والرَّوية؟!

وهل يمكن أنّ يوصف الرّوبوت بالعبقريّ؟ وقد أحال القدماء كلّ خارقة إلى الجن، فحددوا لهذا الذّكاء مكاناً، وهو وادي عَبْقر، نسبوا فن عمران المدن، وجزيل فن الشّعر إلى سكانه الجن. فقال النّابغة الذّبيانيّ(قبل الإسلام): «إلَا سُليمانَ إذ قالَ الإلهُ لهُ/ قُمْ في البَريَّة فأحدُدها عنِ الفنَدِ/ وخيّسِ الجنّ إنِّي قدْ أَذنتُ لهم/ يبنونَ تدْمُرَ بالصُّفّاحِ والعمدِ»(المرزوقيّ، شرح ديوان الحَماسة).

فقديماً عُبر عن الانبهار بالعمران والفنون بخوارق الجن، مع أنَّ المعتزلة، وهم الأقرب للاعتراف بالعقل، وما يفيضه مِن ذكاء طبيعيّ، جاء في تفكيرهم المنطقيّ: «من بركة المعتزلة أنّ صبيانهم لا يخافون الجن» (التَّنوخيّ، نشوار المحاضرة)، وذلك عندما حاول اللُّصوص استغلال ما أشيع عن «الجن» لتغطية لصوصيتهم، فكشفهم المنطق المعتزلي العلميّ. تعبيراً عن الانبهار بحدة الذّكاء اخترع «عبقر» عربياً، وليس ليَّ إطلاع عما إذا كانت بقية الأمم جعلت لحذاقة العقل مصدراً خرافياً، أو جماعةً خارقةً كالجن. قيل: عَبْقَر جبل (معجم البلدان)، وقرية (لسان العرب)، ومنطقة «ثيابها في غاية الحُسُن»، واسم لامرأةٍ (القاموس المحيط)، واسم أرض (ما أتفق لفظه وأفترق مسماه). لكنّ القدماء جميعاً، مع اختلافهم، اتفقوا على أنّ عَبقرَ منزلٌ للجن، ومصدرٌ للحذاقة والعبقريَّة!

هذا، واختلف في البلاد التي تضم المكان الأسطوري، بالتأكيد إنَّ مكاناً يوصف بمصدرٍ للعبقرية تحاول كل البلدان الادعاء به. لكن، ما هو معروف أن جنس الجن لا بلاد له. هذا، ومازال العامة يصفون الحاذق بالجني أو الشَّيطان، لا بالعبقري! حاول ياقوت الحموي (ت: 626هج) التقريب بين الأسطورة والواقع عن عَبْقَر، فقال: «ولعلَّ هذا بلد كان قديماً وخُرب. كان يُنسب إليه الوشي (البُسط الملونة)، ولما لم يعرفوه نسبوه إلى الجن»(معجم البلدان). ظل عَبْقَر وهماً جغرافياً، يقطنه شياطين الشّعراء المطبوعين، ويُنسب إليه كل حاذقٍ في مجاله.

ومثلما يُفسر عَبْقَر لغة «السّحاب تلألأ»، يُترجم العبقري: تلألأ ذكاءً. تقدم العقل، ولا يحتاج إلى «جغرافيا الوهم»، كي تبرر بدائعه بما وراء العقل نفسه، فعُبر عنه بالذّكاء الاصطناعيّ، انسجاماً مع قفزات التّكنولوجيا، بعد أنْ أخذت قصة «عَبقر» دهراً مِن تاريخنا وحيزاً مِن تفكيرنا، يوم كان الفرد مؤسسةً، أما اليوم فالعبقريّة غدت مراكز ومؤسسات، تزحف عليها «الرّوبوتات»، التي احتلت مكانة «الجن»، والمدينة الذَّكيَّة دور وادي عَبْقر، فمِن تركته لقب «العَبقريّ»، ولولا شعاعه الباقي ما صار الرّوبوت عبقريَّاً، لكن ليس المقصود: «ليت السّماءَ الأرضُ ليت مدارها/ للعبقريّ به مكان شهابِ/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لا محضُ أخبارٍ ومحضُ كتابِ»(الجواهري، الرُصافي 1959)، فالعبقريّة للإنسان لا صنيعته «الرّوبوت».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

فصل من كتاب اضطرابات الشرق الأوسط من ساحة التحرير إلى داعش*

بقلم: روبرت ورث

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

مع انحسار آمال ميدان التحرير، أفسحت رؤى الوحدة التي ألهمتها الطريق أمام مرحلة مرعبة. الأشخاص الذين وثقوا ببعضهم البعض لعقود من الزمن رأوا الآن الحواجز تتصاعد بينهم. أصبح العالم فجأة مليئا بالتهديدات لكل ما ه ومقدس: للدولة، للعشيرة، لله. كانت هذه المعارك مصيرية لا يمكن المساومة عليها. كان عليك أن تنحاز إلى أحد الجانبين، وإذا كان صديقك خارج الحاجز، فليكن. تختلف الحواجز من مكان إلى آخر. لكن تحت هذا الاختلاف السطحي، كان هناك نمط شائع يمكن التعرف عليه. في كل بلد، بدا أن تفكك سلطة الدولة يفكك مجموعة من الافتراضات ذات الصلة، كما ل وأن كل هذه الخيوط كانت جزءا من نسيج عثماني أكبر لم يعد من الممكن إعادة نسجه.

كيف حدث ذلك؟ كيف تتحول الكلمة غير المعلنة بين الجيران إلى مادة لحرب أهلية؟ سألت ذات مرة هذا السؤال لمعلمة مدرسة سورية. كانت امرأة في الخمسين من عمرها، ذات وجه طويل ونظارات ذات إطار سلكي مما أعطاها مظهرا فظا خشنا. كان معها ابنها، وه ورجل وسيم لطيف في الثلاثين من عمره يدير منظمة غير حكومية تقدم المساعدة الطبية والمدرسية للسوريين في منطقة الحرب. كنا نشرب الشاي في مقهى فندق على جانب الطريق في جنوب تركيا، حيث كانوا يعيشون في المنفى. "يجب أن تفهم، نحن لم نكن كذلك ." قالت وهي تنظر إلي بإلحاح. كان معظم أصدقائي من العلويين. كان زملائي في العمل من العلويين. جيراننا علويون. لم نفكر حتى في هذا. نحن سنيون، نعم، لكن في بعض الأحيان لم نكن نعرف حتى ما إذا كان هذا الشخص أ وذاك علويا. لم يكن ذلك مهما ".

لقد سمعت نفس الخطاب العاطفي من سوريين آخرين، وأعتقد أنها كانت تعني ذلك. لكن أذهلتني الطريقة التي تغيرت فيها نبرة المعلمة عندما سألتها عن شابة علوية كانت قريبة جدا من عائلتها قبل مغادرتهم سوريا. توقفت قبل الرد. قالت، غير مرتاحة بعض الشيء، أن الشابة كانت "فتاة لطيفة". ثم أضافت: "لكن العلويين ليس لديهم دين. هم طائفة خائنة. لقد تعاونوا مع الصليبيين، وخلال الاحتلال الفرنسي وقفوا إلى جانب الفرنسيين ". وافق ابنها الجالس بجانبها قائلا إن الشعب السوري قد خدع بهم . قال "أما بالنسبة لنا، فسوف نعلم أطفالنا الطبيعة الحقيقية لهؤلاء الناس". "لن يكونوا مثلنا، غير مدركين للطبيعة الحقيقية للعلويين."

كان الأمر مزعجا، هذا التحول المبهج من صوت إلى آخر، من تأكيد الوحدة إلى الافتراء الغاضب. كان من المغري شم رائحة النفاق واتهامهم بإخفاء مشاعرهم الطائفية طوال الوقت. لكني أعتقد أن ذلك سيكون غير عادل. لم يكونوا يكذبون بشأن علاقاتهم القديمة مع أتباع الديانات الأخرى. كانوا يستجيبون لشيء جديد: تغيرت السلطة، وكان النظام القديم يهتز، ولم يعد بإمكانهم التوفيق بين الماضي والحاضر. كانت كلماتهم محاولة للوصول عبر هذا الملاذ، للحصول على الطمأنينة التي جاءت مع الهوية القديمة. حدث شيء مشابه قبل عقد من الزمان في العراق، عندما كشف الغز والأمريكي الافتراض الضمني السني بالتفوق. قال لي سياسي سني في بغداد عندما سألته عن الأحزاب السياسية الشيعية الجديدة التي كانت تدير البلاد فجأة: "يجب أن تفهم، هؤلاء الناس كانوا أصحاب متاجر". يمكنك سماع النغمة نفسها: يجب أن يعرف الناس مكانتهم. كانت الافتراضات في سوريا مختلفة جدا، وفي بعض النواحي أكثر سمية، حيث شعر كل من السنة والعلويين بأنواع معينة من الاستحقاق. لكن انتفاضة عام 2011 أثارت نفس النوع من الفوضى العاطفية.

حدث هذا الانهيار في كل مكان في سوريا، وليس فقط في الأحياء التي تعرضت للقصف والتي أصبحت معالم للحرب: حمص وحلب وضواحي دمشق. كانت نافذتي عبارة عن مدينة متوسطة الحجم تسمى جبلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كان في بعض النواحي مكانا نموذجيا لرؤية الطريقة التي تشعبت بها انتفاضة 2011 في حياة السوريين العاديين. على عكس المدن الكبرى، حيث ركزت وسائل الإعلام تغطيتها، كانت جبلة بعيدة عن الأضواء في قلب النظام في الشمال الغربي، وظلت سلمية طوال الشهر الأول من الاحتجاجات. كان لدى شعبها مزيد من الوقت للملاحظة، وفي بعض الأحيان لمقاومة الرواية الطائفية التي كانت تجتاح سوريا. تتميز جبلة ببعد خيالي، مع ميناء باهت يعود تاريخه إلى العصر الفينيقي، ومقاهي على جرف تطل على البحر الأبيض المتوسط، ومدرج روماني، وسكان يعكسون بشكل جيد مزيجا من الطوائف الدينية في سوريا. مركز المدينة في الغالب من السنة، وتحيط به التلال المليئة بالقرى العلوية والمسيحية.

من أوائل الأشخاص الذين قابلتهم هناك امرأة شابة تدعى علياء علي. كانت ابنة ضابط متقاعد من الجيش السوري، وكانت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما عندما بدأت الانتفاضة، وهي من أشد المؤيدين لنظام الأسد. كان لديها وجه عريض وجميل، مع حواجب محبوكة تنقل مزيجا من الفظاظة والتصميم. كانت ذكية للغاية ومدركة تماما، بفضل عام قضته في إنجلترا، لوجهة نظر الغرب القاسية تجاه رئيسها. على عكس العديد من الموالين، كانت على استعداد للاعتراف بوحشية حكومتها، وفي بعض الأحيان بدت محرجة من الدولة البوليسية السورية. قالت لي عندما التقينا لأول مرة: "هناك الكثير الذي يجب تغييره هنا، وأنا أعلم ذلك". "لكن الحقيقة هي أن الحراك تحول إلى طائفي في وقت أقرب بكثير مما يعتقده الناس." عندما سألتها كيف حدث ذلك، بدأت تخبرني عن فقدان أقرب صديقة لها، مع امرأة سنية اسمها نورا كنفاني. تعرفت لاحقا على نورا، وتطابقت روايتهما عن الصداقة. في اللحظات الأولى لكل منهما أخبرتاني عن شيء حدث في عام 2010، قبل عام من بدء التمرد.

كان ذلك في صباح يوم ربيعي، وكانت المرأتان ترقدان بجانب بعضهما البعض على سرير علياء، كما كانت تفعل في كثير من الأحيان. جاءت نورا بأخبار غريبة ومزعجة. لقد تلقت عرضا للزواج، وأرادت والدتها، وهي طبيبة يقظة وذات وجه مستدير وذات أفكار محافظة، أن تقبله. كانت بالفعل في الرابعة والعشرين من عمرها، وهي أكبر من أن تظل بلا زوج. فشلت علاقة سابقة مع رجل مسن محافظ، أستاذها الجامعي السابق. أخبرت نورا صديقتها أن الخاطب الجديد كان أكثر تحفظا من السابق. قال إنه يريدها أن تتوقف عن الذهاب إلى السينما وأن تقلع عن ارتداء الفساتين القصيرة. قال إنه لن يتسامح مع وجود أصدقاء علويين لها. ما زال صدى كلماته يتردد في ذهنها: "كيف يمكنك أن تكوني صديقة لهؤلاء الأشخاص وأنت تعرفين ماذا فعلوا بنا؟"

صدم السؤال نورا. لم تكن تعرف ما الذي فعله "هؤلاء الناس". لم تأت كلمة حماة إلا بقصص غامضة عن شيء مظلم لا يوصف حدث في تلك المدينة خلال الثمانينيات قبل ولادتها. ظلت عائلتها بعيدة عن السياسة. كانوا عشيرة كبيرة ومحترمة من الأطباء والمعلمين، وقوما صلبين من الطبقة الوسطى ذات الجذور الحضرية وليس لديهم اهتمام كبير بالدين. كانوا يعرفون ما يعرفه الجميع: أن المسلمين السنة يشكلون غالبية سكان سوريا، وربما 70 في المائة، وأن بعض السنة المتدينين يعتبرون العلويين زنادقة ويستاؤون من حكمهم. كان هناك بعض الاستكبار الاجتماعي أيضا: فقد رأت العائلات السنية القديمة أن عائلة الرئيس الأسد - والعلويين عموما - هم من الوافدين الفظّين من الجبال. لكن مناقشة أي من هذا كان من المحرمات في سوريا. لقد سمعت عنها بشكل غير مباشر فقط، مثل اليوم الذي قالت فيه والدة نورا باستخفاف أن "الناس من الساحل" - كان هذا رمزا للعلويين - أرسلوا أطفالهم إلى روسيا للدراسة، بينما أرسلهم "أناس آخرون" (أي السنة) إلى لندن. علياء كانت مستاءة من ذلك وقالت إن ذلك غير صحيح. كانت هي نفسها تدرس اللغة الإنجليزية وتخطط للذهاب إلى بريطانيا. لم يظهر مرة أخرى. ولكن الآن دفعت تعليقات الخاطب المحافظ الموضوع إلى العلن. ضحكت نورا مستلقية على السرير معا في ذلك الصباح، بينما كانت علياء تروي الأساطير الغريبة التي نشرها الناس عن العلويين في سوريا: أن لديهم ذيولا، وأنهم يمارسون العربدة السرية. كان كل شيء بهذا الغباء.

أصبحت نورا وعلياء صديقتين في المدرسة الثانوية ولم ينفصلا منذ ذلك الحين. يبد وأنهما تكملان بعضهما البعض، مثل زوج متطابق من الملائكة الصالحة والأشرار على ألواح متقابلة من سقف كنيسة من عصر النهضة. كانت علياء ذات شعر داكن وشبه عنيفة المظهر، ونورا شاحبة وشقراء، وجهها على شكل قلب ونظرة ناعمة في عينيها. كان منزل علياء على بعد كتلتين سكنيتين وشعرت نورا وكأنها في منزلها تماما، خلعت غطاء رأسها وتركت شعرها مكشوفا بغض النظر عمن كان في المنزل. ما زلن يسرن إلى الجامعة وأذرعتهن عارية، وأخبرت نورا علياء أنها ستسمي طفلها الأول على اسمها. كانت تحسد علياء على ثقتها بنفسها وتعتمد عليها في اتخاذ القرارات. استمتعت علياء، صاحبة الإرادة القوية، الأكبر في عائلتها، برعب نورا وعاطفتها. لم يكن هناك سؤال في الحقيقة، لكن بعد مناقشة الاقتراح لمدة ساعة أ ونح وذلك، لا تزال الاثنان مستلقيتان على سرير علياء، قالت نورا فجأة: "لا يمكنني العيش مع رجل يعتقد أن العلويين لا يجوز التعامل معهم". الزواج يجب أن ينتظر.

بعد تسعة أشهر، في منتصف كانون الثاني 2011، تردد صدى تلك المحادثة في ذهن نورا. كان ذلك بعد الثورة مباشرة في تونس، وفجأة سألها جميع الجيران نفس السؤال. هل ستفعلون ذلك؟ هل ستقومون باحتجاجات هنا؟ كانت فكرتها الأولى تدور حول كلمة "أنت". ماذا كان يعني هذا؟ أنت المعارضة السياسية؟ أنتم أهل السنة؟ أنت العدو؟ لم تكن نورا متأكدة من كيفية الإجابة. كانت متحمسة للصور التي شاهدتها على قناة الجزيرة، خاصة بعد مشاهدة تجمعات ميدان التحرير. كان عماتها وأبناء عمومتها يقفزون صعودا وهبوطا عندما سقط مبارك، لم يتمكنوا من الحصول على ما يكفي. لكن الجيران - وهم الكنفانيون يعيشون في حي يغلب عليه العلويون - بدوا قلقين وخائفين مما قد يحدث. اقتبس أحدهم خطاب القذافي المجنون عن مطاردة المتظاهرين "بيتا بيتا". قال لإحدى عمات نورا: "بشار سيفعل نفس الشيء معك". وأخبرها آخر أنه سمع العمة تقول إنها دعمت الثورات، وقال لها نصف ممازحا أنه سيطلق النار عليها. كان الوضع مقلقا. كان هؤلاء الأشخاص لديهم مفاتيح شقتهم، وقد ساعدوا في تربية نورا وأبناء عمومتها منذ أن كانوا أطفالا.

ثم، في منتصف شهر آذار، بعد اندلاع التمرد في سوريا مباشرة، حدث شيء أخافهم جميعا. كانت نورا جالسة في شرفة خالتها مها مع والدتها وبعض أبناء عمومتها، تتنفس هواء الربيع وأصوات وروائح ليلة الخميس: كباب ودخان التبغ والضحك. وعلى الطريق بجانب منزلهم، بدأ صف من السيارات بالتجمع، بالعشرات، ورجال بالداخل يضحكون ويطلقون الزمر ويلوحون بالأعلام من نوافذهم المفتوحة. بدا الأمر أشبه بمظاهرة احتجاجية. لكن لم يمض وقت طويل حتى تفجر الواقع. بعض السيارات كانت من سيارات الدفع الرباعي عليها نوافذ معتمة وصور الرئيسين بشار وحافظ الأسد. لقد نزلوا من الجبل، قلب العلويين. هؤلاء كانوا جنود نظام الأسد، وقد جاؤوا ليؤكدوا أنفسهم ويظهروا أسنانهم. بدأوا يرددون الشعارات التي لطالما سمعتها في تجمعات النظام: "يعيش الرئيس!" و"الله وسوريا وبشار!" راقبتهم عائلة كنفاني لبضع دقائق، وشعروا بعدم الارتياح حيالهم. لقد رأوا هذا مئات المرات من قبل. لكن مع تصاعد الاحتجاجات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بدا الأمر مختلفا. قناة الجزيرة منحتهم الثقة. وقف أحد أبناء عمومة نورا، وه ورجل مندفع يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، يُدعى طارق، دون سابق إنذار ونزل إلى الشارع وقال بصوت عال: "مهلاً! إنه ليس "يعيش الرئيس". يجب أن تقولوا "الله وسوريا والحرية". وه وشعار المتمردين. على الفور، صمت الشبان الموجودون في السيارات. توقفت الأبواق. قامت إحدى عمات نورا الأخريات واسمها إيما وقبضت على ذراع طارق وطلبت منه الجلوس بحزم. ولفترة طويلة، وجدت العائلة نفسها في دائرة الضوء الافتراضية، حيث حدق بهم العشرات من الشبان العلويين المعادين. لم يقل أحد على الشرفة أي شيء. أخيرا بدأت السيارات في التحرك. وحدثته أيما بصوت خافت وبخوف شديد: "أنت لا تعرف هؤلاء الناس. إنهم وحشيون. ما نقوم به قد يكلفنا أرواحنا وشرف بناتنا ".

حدث هذا قبل سماع أول هتاف احتجاجي في جبلة. لكن بالفعل، كان هناك صوت آخر في الهواء، وه وتناقض مظلم لأغنية نافخ البوق Pied Piper للثورة والوحدة العربية التي كانت الجزيرة تعزفها لمدة ثلاثة أشهر. قبل أسبوع من المواجهة المسائية على الشرفة في جبلة، أرسلت المملكة العربية السعودية دباباتها عبر الجسر المكون من ثمانية حارات إلى مملكة البحرين الدمية، مما وضع حدا للانتفاضة هناك. تم تدمير ساحة اللؤلؤة، وتحرير البحرين، وإعادة رصفها. لم يكن أحد بحاجة إلى ترجمة ما يحدث: كانت القوة السنية العظيمة في المنطقة تعلن أنها لن تتسامح مع احتجاج يقوده الشيعة. كادت تسمع طقطقة دروع يتم إعادة ترتيبها في دول المنطقة، من المشرق إلى المغرب. لسنوات، كانت الفظائع اليومية للحرب الأهلية الطائفية في العراق حكاية تحذيرية مثالية للديكتاتوريين. كل ما كان عليهم فعله ه والتوجه نح وبغداد وسيتلاشى الحديث عن الديمقراطية ويصمت. نجحت الأمور حتى عام 2011. والآن، إيران والمملكة العربية السعودية، قطبا الإسلام الشيعي والسني، كانا يدوران حول بعضهما البعض مرة أخرى، مثل كلبتين بولدوجتين عظيمتين. كان على المتظاهرين السوريين الغناء بصوت عال لإغراق ذلك النباح.

***

في هذا الوقت تقريبا، في أواخر آذار 2011، دخل جنرال سوري رفيع المستوى يُدعى مناف طلاس إلى القصر الرئاسي في دمشق لعقد لقاء فردي مع الرئيس بشار الأسد. تعانق الرجلان على الطريقة السورية، ممسكين بالمرفقين، وثلاث قبلات سريعة على الخدين، قبل الجلوس. قاما بإقتران غريب. كان الرئيس طويل القامة يحني الرأس بزاوية ويرتدي بدلته الأنيقة، مع يقظة تشبه الطيور ورقبة ورأس ممدودتين مما جعله يبد وكما ل وأنه رسمه إل جريكو. كان طلاس أقصر وأكثر استدارة، بشعر أشعث ومظهر جميل للمراهقين. يبد وأن قميصه نصف المفتوح يؤكد سمعة اللاعب المستهتر التي كان يتمتع بها لسنوات. كانا يتشاركان في رابطة سلالة: طلاس الوالد كان اليد اليمنى لوالد الرئيس بشار حافظ الأسد. لكنهما لم يكونا قريبين. كان طلاس الابن صديقا مقربا لأخ بشار الأكبر، باسل، الوريث الظاهر. توفي باسل في حادث سيارة عام 1994، وتضاءل نفوذ طلاس منذ ذلك الحين.

كان عمر الانتفاضة السورية أسبوعا وقت اجتماعهما. لقد بدأت جنوبا في مدينة درعا، حيث قام المراهقون برسم رسالة إلى الرئيس الأسد على الحائط: حان دورك، أيها الطبيب - في إشارة لا لبس فيها إلى مصير بن علي ومبارك والقذافي. كان رسام والكاريكاتير العرب يشيرون إلى نفس النقطة منذ أسابيع، مع صور للرئيس بشار متوتر يقف في طابور للإقالة. لم يعتقد النظام السوري أن الأمر مضحك. وأمر مدير الأمن الإقليمي، وه وابن عم بشار يدعى عاطف نجيب، باعتقال الشباب وتعذيبهم. قيل لآبائهم، وفقا للأسطورة، انسوا أطفالكم. عودوا إلى المنزل وأنجبوا المزيد من الأطفال، وإذا كنتم لا تعرفون كيفية إنجابهم، فسنعلمكم ذلك. كانت تلك الشرارة. انطلقت الاحتجاجات في درعا وانتشرت بسرعة في دمشق وبانياس والحسكة ودير الزور. لقد استجابت الدولة البوليسية السورية كما فعلت جميع الدول البوليسية عندما تعرضت للتهديد: بالرصاص. نمت المظاهرات بشكل أكبر. بدت سوريا وكأنها تحذ وحذ وتونس ومصر وكل الآخرين. لكن الجميع كان يعلم أن الرئيس بشار الأسد كان يترأس نظاما أكثر وحشية ولن يسقط بسهولة.

بعد دقائق قليلة من الحديث طرح بشار سؤاله بصراحة كبيرة: "ماذا ستفعل؟" كان طلاس مستعدا للسؤال وأعد إجابته مسبقا. أخبر طلاس الرئيس أن الوقت لم يفت بعد لتهدئة الأمور، لكن الأمر سيتخذ إجراءات قوية. قال طلاس: اذهب إلى درعا بنفسك. أقل عاطف نجيب وأكثر من ذلك ضعه في السجن. هذا سيرسل رسالة. القوة ليست هي السبيل للفوز. تطوع طلاس للعب دور من خلال الاجتماع مع المجالس المحلية في عدة مدن وتحديد المظالم الملموسة التي يمكن معالجتها: الشرطة والفساد ونقص المياه والكهرباء. هذا من شأنه أن يبعد الناس عن الشوارع. بعد التحدث لمدة خمس عشرة دقيقة، توقف طلاس مؤقتا. بدا الرئيس بشار مهتما. شجع طلاس على البدء على الفور. لكن الرئيس كان سيئ السمعة لأنه جعل كل ضيف يعتقد أنه تم أخذ نصيحته على محمل الجد. عندما صافح طلاس يد الرئيس وقال وداعا، متتبعا خطواته للخروج من القصر، كان آخرون في طريقهم للدخول، مع تأثير أكبر بكثير ونصائح مختلفة للغاية. قبل نهاية عام 2011، كان جيش الأسد يستخدم الدبابات والطائرات المقاتلة لقصف أحياء بأكملها وتحويلها إلى أنقاض. كانت ميليشياته العلوية، الشبيحة، تقتل المدنيين السنة في منازلهم وتترك شعارات طائفية مكتوبة على الأبواب. إن القلائل من العلويين الذين تجرأوا على دعم المعارضة في الأماكن العامة سيعانون من العزلة والعار والتعذيب إذا استمروا. كان الأسد سيطلق سراح الجهاديين السنة بشكل جماعي من سجونه، على أمل تحويل المعارضة إلى جبهة إرهابية كان يسميها منذ البداية. كان سيفعل كل ما في وسعه لتحويل الانتفاضة الديمقراطية إلى شيء أكثر شراسة بكثير، وه وشيء قد يتراجع عنه العالم الخارجي بدلا من احتضانه.

***

أخبرتني علياء أنها واجهت صديقتها لأول مرة أثناء قيادتهما لإحدى رحلاتهما على طول الساحل في منتصف أذار 2011. كانت نورا تقود السيارة. "ماذا تقصدين أنك ضد النظام؟ ألا تعتقدين أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؟ " قالت علياء. "بالطبع هناك الكثير من الأخطاء هنا. لكن هيا، أنت تقضين معظم وقتك في التفكير في الأحذية والملابس. منذ متى قررت أن تصبحي ناشطة سياسية؟ " أبقت نورا عينيها على الطريق وتمسكت بموقفها. لقد ناقشتا الثورات في تونس ومصر عدة مرات، لكن هذه كانت المرة الأولى التي تتخذ فيها نورا موقفا ضد الرئيس بشار الأسد.

قالت نورا: "حسنا، أعلم أنني لست مثقفة في السياسة، لكنني لا أريد بشار أن يكون رئيسي. إنها بهذه السهولة. أريد أن يحصل ابني على فرصة ليكون رئيسا. هل يمكنك أن تحلمي بأن ابنك سيكون رئيسا في يوم من الأيام؟ " لم تقل علياء شيئا. شعرت نورا بوخز الذنب وتساءلت عما إذا كانت قد ذهبت بعيدا. ليس لأن علياء تمانع، بل لأنها سوف تغضب الجيران بالتأكيد من هذا النوع من الكلام؛ كان هذا الكلام خطا أحمر، وكانتا تصلان إلى منزلها الآن، والنافذة مفتوحة. فتحت علياء الباب، ثم انحنت لتقبيل صديقتها على خدها. وقالت: "أراك غدا"، وكأن شيئا لم يتغير.

كانت نورا قد فاتتها المظاهرة الأولى في جبلة، مما جعلها أكثر استعدادا للتحدث. كان ذلك في 25 أذار، وفي ذلك الصباح أضاءت الرسالة على آلاف الهواتف المحمولة بينما تجمع الناس لأداء صلاة الجمعة: اجتمعوا خارج "مسجد أب وبكر". بدأ الناس في الظهور في حوالي الساعة الواحدة، العشرات في البداية، ثم المئات، وأخيرا الآلاف. وصلت الثورة إلى جبلة أخيرا. وهتفوا "الله وسوريا والحرية"، ثم ساروا عبر المدرج الروماني القديم إلى المجمع الحكومي في وسط المدينة. كانت هناك مجموعة صغيرة من ضباط الشرطة يراقبون، وربما تواجد الكثير من الآخرين في ثياب مدنية، لكنهم وقفوا جانبا وحدقوا بتصرفات الناس. كان معظم أفراد عشيرة كنفاني هناك، بما في ذلك عمة نورا مها وشباب العائلة وأطفالها. لم تكن نورا كذلك. كانت والدتها زهرة قلقة مما قد يحدث ولم ترغب في المخاطرة بوظيفتها كطبيبة نسائية في مركز الفيض الطبي. عندما سمعت نورا عن المسيرة بعد ذلك من أبناء عمومتها، وكلهم متوهجون ومفعمون بالحيوية، شعرت بالغيرة. لقد قررت الانضمام في المرة القادمة. بدأت في صنع لافتات الاحتجاج في المنزل باللغتين العربية والإنجليزية. بعد أسبوع، انضمت إلى أبناء عمومتها وتحدثت في الميكروفون على خشبة المسرح، متجاهلة تحذيرات والدتها. قالت لنفسها إن الثورات تأتي مرة واحدة فقط في حياتك.

خلال تلك الأيام الأولى، شاركت علياء ونورا في تصورهما بأن بدأ العالم ينقسم، مثل المتحدثين بنفس اللغة الذين تقطعت بهم السبل فجأة في جزر مختلفة. سمعت علياء نفس هتافات الاحتجاج مثل صديقتها، لكنها وجدتها تهدد. جلب أقاربها وأصدقاؤها الواحد تل والأخر قصصا عن المتظاهرين الذين ألمحوا إلى نوايا دموية وأجندات طائفية. تعرض أحمد، وه وزميل علوي كانت قد ذهب إلى المدرسة معها، للضرب في أول احتجاج من قبل حشد من رجال سنة غاضبين. كانت ذراعه مكسورة، وكان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ ل ولم يهرع بعض الأصدقاء السنة في حشد الاحتجاج وحمايته، ثم نقلوه لاحقا إلى المستشفى. في تلك الليلة، عاد نفس الأصدقاء إلى منزله للاطمئنان عليه. قال لي أحمد بعد عامين: "قالوا شيئا صادما جدا لي". "قالوا لي،" من الآن فصاعدا يجب أن نكون معك كلما ذهبت إلى حي سني ". لم يكن لدينا هذا النوع من اللغة في جبلة من قبل." شعرت علياء وأقاربها بالقلق أيضا من أن الاحتجاجات تأتي دائما من المساجد، وأن جميع المتظاهرين - أ وجميعهم تقريبا - كانوا من السنة. لماذا؟ في غضون أسبوعين، تسللت تلميحات اللغة الطائفية إلى شعارات الاحتجاج. كان أحدها "لا نريد إيران، لا نريد حزب الله، نريد من يتقي الله". كانت هذه لغة محملة في سوريا: صافرة كلب للسنة للوقوف ضد أعدائهم الشيعة، بمن فيهم العلويين.

في أوائل نيسان، كانت علياء تقود سيارتها على طريق بالقرب من الساحل، على بعد عشرين ميل من المنزل، عندما سمعت دوي انفجارات وإطلاق نار استمرت عدة دقائق. أصيب السائقون بالذعر. لا أحد يعرف من أين أتت. فقط بعد عودتها إلى منزلها في جبلة، علمت أن تسعة جنود سوريين قد تعرضوا لكمين وقتلوا في مكان قريب ( مدخل مدينة بانياس على الطريق الدولي). وتبين أن ثلاثة منهم من جبلة. سرعان ما نشرت وسائل الإعلام المعارضة قصة انتشرت في القنوات الإخبارية الأوروبية والأمريكية: القتلى كانوا منشقين محتملين قُتلوا على يد رؤسائهم في الجيش السوري. تتلاءم القصة بدقة مع قصة انهيار النظام والانشقاق التي كانت تتعزز باستمرار على قناة الجزيرة، الناطقة بلسان التمرد. لكن لم يظهر أي دليل على القصة على الإطلاق. وأظهر مقطع فيدي والتقطه أحد الهواة في مكان الحادث أن القتلة كانوا مسلحين من المتمردين في منطقة بانياس على الطريق الدولي بين طرطوس وجبلة. بالنسبة لعلياء وصديقاتها، فإن الأمر يتناسب مع نمط مختلف: المحتجون وحلفاؤهم كانوا ينشرون الأكاذيب والتضليل، ويرفضون الاعتراف بالعنف الذي يظهرونه تجاه الغير.

كررت علياء هذه القصص لنورا لكنها رفضت تصديقها. قالت نورا إن الاحتجاجات كانت سلمية ولم تكن هناك لغة طائفية. كانت الحكومة هي التي تنشر هذه الشائعات. وقالت إن الحكومة، التي ارتفع صوتها بشكل غير معهود إلى الغضب، كانت تقتل الأبرياء في جميع أنحاء سوريا. سألت علياء ما الذي جعلها متأكدة. الكل يعرف أن الجزيرة كانت منحازة، فلماذا يفعل الرئيس الأسد مثل هذا الشيء؟ وأصرت على أنه "ليس من المنطقي" أن تقتل الحكومة شعبها. شعرت نورا أن ذلك كان منطقيا. كانت عمتها مها تخبرها بأحداث حماة عام 1982، عندما جلب النظام دباباته وسحق التمرد الإسلامي هناك، مما أسفر عن مقتل حوالي عشرين ألف شخص. قالت مها إن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير وقالت لها: "لقد دفعنا الثمن في المرة السابقة، ولن ندفعه مرة أخرى". لطالما كانت مها أكثر عماتها تصادما، وكانت تنظر إلى الموضوع بوجهها الرجولي والنظرة الجريئة. الآن استمعت إليها نورا بشعور من الرهبة وحتى بقليل من التوبيخ الذاتي، وكأنها قضت حياتها لا تعلم عن حقيقة كانت في متناول يدها.

لكن مع علياء شعرت بأنها لا تستطيع أن تطرح كل هذا. سيكون أكثر مما ينبغي. لذا تراجعت، وعادت إلى شخصيتها العجوز الوديعة. قالت: "ربما سمعنا أشياء مختلفة". وتوقف الأمر هنا.

صمدت جبلة لفترة طويلة ضد اندلاع العنف في أماكن أخرى في سوريا لمدة شهر كامل بعد الاحتجاج الأول في أواخر آذار . سمحت الشرطة للمظاهرات بالاستمرار. شكلت مجموعة من المواطنين البارزين لجنة لمقاومة الشائعات الطائفية التي استمرت في الانتشار (عادة ما تضمنت رجالا يقودون سيارات الجيب ويطلقون النار على الأحياء). بدا أن النظام يختبر الوضع، ويبذل جهودًا لقمع الاحتجاجات دون عنف.

دعا كبار ضباط النظام مرتين أعضاء من عشيرة كنفاني الموسعة لإجراء مناقشات. يبد وأنهم كانوا يعتمدون على دعم الكنفانيين، ربما لأن العائلة لديها الكثير من الأصدقاء العلويين. في المرة الأولى، تم الاتصال من خلال صديق للعائلة مهندس علوي بارز. عرض استضافة الاجتماع في منزله في جبلة، حيث سيكون الكنفانيون أكثر راحة. لطالما كان لقاء مسؤولي النظام أمرا مخيفا في سوريا، خاصة في المباني الحكومية، حيث غرفة التعذيب الموجودة في الطابق السفلي ليست بعيدة أبدا. هذه المرة وصل زوج العمة مها واثنان من أبنائها إلى منزل صديقهم، وكان ينتظرهم في غرفة المعيشة رجل يرتدي بدلة باهظة الثمن. تعرفوا عليه على الفور: كان المهندس علاء إبراهيم، رجل أعمال ثري للغاية وله علاقات وثيقة مع النظام. صافحهم وأجرى محادثة قصيرة مهذبة. ثم سأل عن الحركة الاحتجاجية ومطالبها ولماذا اختاروا الانضمام إليها. وقال مهيار، الابن الأكبر لمها، إنه ليس لديه اعتراض على بقاء الرئيس بشار الأسد في منصب الرئاسة، لكنه يريد أن يرى الإصلاحات. تجاذبوا أطراف الحديث لمدة خمسة عشر أ وعشرين دقيقة. ثم قام شقيق مهيار الأصغر طارق - وه ونفس الشخص الذي وقف قبل أسبوع أ ونح وذلك فقط وصاح على أنصار النظام في السيارات – وألقى قنبلة قائلا: "يا سيد إبراهيم، "أنت مفكر ومتعلم ومحترم للغاية - فلماذا لا يمكنك أن تكون رئيسا لنا، على سبيل المثال؟ لماذا يجب أن يكون بشار؟ "

على الفور، تصلب جسد إبراهيم. تغيرت نبرة الاجتماع وحذرهم من أن استهداف الرئيس خط أحمر. قال إن سوريا ليست مصر أ وليبيا أ وتونس، وإذا فشلوا في فهم ذلك سيندمون. نهض الرجال. بعد مصافحات وابتسامات ودية، غادروا المنزل.

حدث الاجتماع الثاني، بعد أيام قليلة، وكان أقل متعة. هذه المرة تلقت العائلة اتصالا من الأمن السياسي، مركز أعصاب نظام الأسد في جبلة. طالب الصوت في الهاتف رجال الأسرة بالحضور إلى المقر. كانت هذه طقوسا متكررة في دولة الأسد البوليسية، لكنها مع ذلك مرعبة: تم القبض على الكثير من الأشخاص وسجنهم لأشهر بأدنى الذرائع. عندما وصلوا، تم إحضار زوج مها والأبناء إلى مكتب مسؤول يدعى سامر سويدان وه ومكتب قليل الأثاث. جلسوا. "ماذا تريدون؟" قال سويدان. لديكم بيت، لديكم وظيفة، براتب أربعين ألف ليرة سورية في الشهر [حوالي 850 دولارا]. ألا يكفيكم ذلك؟ " أجاب مهيار أولا. قال: "الأمر لا يتعلق بالجوع والفقر". نريد الكرامة، نريد القانون والمؤسسات المدنية. نريد أن نشعر بأننا شركاء حقيقيون ". استمر النقاش لفترة. ثم كسر طارق القواعد مرة أخرى. كان يشاهد قناة الجزيرة، وشعر أن الثورة لا بد أن تنتصر. أراد أن يكون بطلا. قال: "لا أريد بشار رئيسا". "لماذا لا نصوت؟ لماذا لا نقرر من ه والرئيس؟ "

ساد الصمت ونظر إليه سويدان ببرود. قال "فكر مليا". "يمكنني أن ألقي بك في السجن الآن." رفض طارق أن يتعرض للترهيب. قال: "حسنا، ألقني في السجن". "على الأقل سيكون لدي كتبي، يمكنني الدراسة هناك. ولكن إذا كنت متفرغا، فسوف أذهب إلى الشارع وأسمح بصوتي أن يُسمع مثل أي شخص آخر ". حبس والد طارق وشقيقه أنفاسهما. لكن الضابط سمح لهم جميعا بالعودة إلى منازلهم. لم يكن النظام مستعدا للعب الكرة القاسية في جبلة. ليس بعد.

بحلول منتصف نيسان 2011، كان المتظاهرون لا يزالون في شوارع جبلة. أشعلت المعاملة الوحشية للمحتجين في المدن السورية الكبرى - التي تُبث كل يوم على قناة الجزيرة - غضبهم، وزادت مطالبهم وجعلتها أكثر جرأة. وهم يهتفون الآن: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وه والشعار الذي أسقط مبارك، والأخطر من ذلك، "في الأرض، سنضع بشار تحت الأرض". في 24 نيسان، بعد ساعات من لقاء أخير بين محافظ اللاذقية ومجموعة من المتظاهرين، نفد صبر النظام أخيرا على جبلة.

كانت والدة نورا، زهرة، في طريق عودتها إلى منزلها بعد ظهر ذلك اليوم من اللاذقية، وهي مدينة أكبر على بعد ساعة من جبلة، عندما رأت شيئا ما يندفع في مرآة الرؤية الخلفية: سيارة جيب عسكرية تقود بسرعة كبيرة، مع رجال يرتدون ملابس مموهة يمسكون بالبنادق الآلية. توقفت مرعوبة وانتظرت قليلا. مرت قافلة كاملة من الجنود. تم إيقاف سيارات مدنية أخرى على الطريق بجانبها. نزل بعض السائقين من سياراتهم وكانوا يحدقون في القافلة بدهشة. لا أحد يعرف ما الذي يجري. عادت زهرة إلى الشارع، ووصلت جبلة بعد نصف ساعة، ووجدت جنودا يغلقون المدخل الرئيسي للبلدة. كان ذلك عندما اتصل بها أحد الأصدقاء ليخبرها أن سبعة عشر شخصا قُتلوا بالرصاص أثناء مظاهرة. قال الصديق إنها كانت مثل الحرب، كان هناك جنود في كل مكان.

حتى ذلك اليوم، رفضت زهرة، وحدها من بين شقيقاتها، الانضمام إلى الاحتجاجات. قالت إنها تكره السياسة. مثل أي شخص آخر، شاهدت لقطات تلفزيونية للمتظاهرين القتلى في درعا ووجدت نفسها تتساءل: من أعطاهم الحق في إنهاء حياة الناس، وكأنهم يقتلون الطيور؟ لكن الفكرة تراجعت، كما كانت في كثير من الأحيان في الأيام الخوالي. كانت قلقة من أن الاحتجاجات في الشوارع كانت بطريقة خاطئة. إلى جانب ذلك، كانت تحب وظيفتها في المستشفى ولا تريد المخاطرة بفقدانها.

عندما عادت زهرة أخيرا إلى المنزل بعد ظهر ذلك اليوم، كانت يداها ترتعشان. ذهبت إلى المطبخ وغسلت التفاح الذي اشترته من اللاذقية، ثم وضعته في وعاء على الطاولة. تجول أحد أبناء الجيران، وه وشاب حل والوجه يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، يُدعى حسن عيد، وأخذ تفاحة وبدأ في تناولها. نظرت إليه. كان حسن علوي. لقد عرفته طوال حياتها، واعتبرته جزءا من العائلة تقريبا. لكن الآن، كما قالت لنفسها، ربما يقوم والد هذا الصبي أ وعمه أ وأخيه بإطلاق النار على المتظاهرين في هذه اللحظة بالذات. ربما كان يقتل أخواتها. بعد خمس دقائق، أرسل والدا حسن ابن عمه لإعادته إلى المنزل. تساءلت زهرة عما إذا كان سيعود يوما ما. رنّ الهاتف، وعندما أجابت عليه تحدث أحد معارفها، صوته لاهثا ومليئا بالعاطفة: دكتورة زهرة، أنا أحتاجك، شخص ما ينزف هنا، في البلدة القديمة، من فضلك تعالي وساعدينا. أغلق الخط، وفي الصمت الذي أعقب ذلك، تساءلت عما يجب أن تفعله. كان من المستحيل تقريبا الوصول إلى البلدة القديمة بسبب نقاط التفتيش. من المؤكد أن معالجة المتظاهرين الجرحى ستُعتبر جريمة. لكنها كانت طبيبة. ترددت لبرهة ثم قررت: سأذهب. حملت حقيبتها واستدارت نح والباب. ثم رن جرس الهاتف مرة أخرى، وتحدث نفس الصوت، وكان أكثر هدوءا هذه المرة. لا بأس، لا بأس، مات الرجل.

تغير موقف زهرة بعد ذلك. تغيرت المدينة نفسها. صارت هناك حواجز الآن، والمظاهرات تجري ليلا فقط، في شوارع البلدة القديمة الضيقة.

بعد أن استجمعت الشجاعة للعودة إلى العمل، كانت زهرة تتحدث يومًا ما مع زميل لها، وه ورجل عرفته منذ سنوات. كان علويا، لكنه كان يوضح لها دائما، على انفراد، أنه يكره الرئيس بشار. كان قد أخبر زهرة قبل عام أ وعامين أن حلمه ه وأن يصوت ابنه في انتخابات حرة في سوريا. لم تكن زهرة لتطرح هذا النوع من الموضوعات من قبل - لم يكن هذا على طريقتها - لكنها الآن تشعر أن الوقت قد حان. ذكّرته بما قاله عن الرئيس بشار قبل الثورة. نظر إلى زهرة ونظر حولها، كما ل وكان يتأكد من عدم سماع أحد. قال: "انظري يا زهرة، لا يمكنني الحديث عن هذا الآن". مشى بعيدا، ومنذ ذلك الحين، تجنبها.

توقفت عائلة كنفاني في الغالب عن المشاركة في أي احتجاجات بعد القمع. لكن لا يهم. كانت هناك علامة سوداء على أسمائهم الآن، ويعاملهم الناس بشكل مختلف. توقفت إحدى أقدم أصدقاء زهرة، وهي امرأة علوية تُدعى ميساء، كانت قد التحقت معها بكلية الطب، عن الاتصال بها. اتصل بها صديق مشترك وأوضح لها: "طلبت مني ميساء أن أقول إنها آسفة، لكنها تخشى التحدث معك". بكت زهرة بعد ذلك. لكن بعد شهر، تغير شيئ ما فيها، ربما بسبب كل الاعتقالات والقتل التي تحدث كل يوم. صديقة علوية قديمة أخرى، وهي طبيبة نسائية زميلة تُدعى رفيدة عملت في مستشفى في المملكة العربية السعودية، وتدعى زهرة تعيش في الرياض. عندما أخبرتها زهرة أنها غير متأكدة من قدرتها على البقاء في سوريا، بدأت صديقتها بالبكاء. "زهرة، هل من الممكن أن أعود إلى جبلة وأجد أنك لست هناك، ولا يمكننا الذهاب للتنزه على البحر؟" قالت رفيدة "زهراء بالنسبة لي جبلة هي أنت ". شعرت زهرة بأنها مضطرة للسيطرة على عواطفها هذه المرة. أخبرت صديقتها بصرامة أن الوقت قد حان لها لمواجهة حقيقة قسوة النظام السوري.

قضت نورا وعلياء وقتا أقل معا، رغم أنهما لم تكونا كذلك في حضور الفصول الدراسية في الجامعة في وقت مبكر بسبب الأزمة. في الصيف ذهبتا في جولة بالسيارة وفي غضون دقائق صرحت نورا: علياء، الجنود يقتلون المتظاهرين في حمص. إنها مثل مذبحة ". ردت علياء بطريقتها المعتادة: لماذا يفعلون ذلك؟ ربما يجب عليك التحقق من ذلك ". ردت نورا، "لأن الناس يريدون الحرية، لهذا السبب. " كانوا يمرون في حي علوي، وأبلغهما جندي تحذيرا ودودا وتحديدا علياء. قال مشيرا إلى نورا: "كوني حذرة"، لأن عائلتها كانت معروفة. حدث الشيء نفسه في الاتجاه المعاكس عندما كانت ا في المناطق السنية. تابعتا السير، وبعد دقيقة، قالت نورا: "إذا هاجمك أهل السنة، فسأحميك. وأنا أعلم أنك ستفعلين الشيء نفسه من أجلي ". لم تقولا شيئا للحظة، ثم نظرتا إلى بعضهما البعض. انفجرت كلتا المرأتين بالضحك. ما زالت الفكرة تبد وغريبة وغير مفهومة.

وتحول مئات الأشخاص الذين قتلوا في قمع النظام إلى آلاف. توقفت علياء وعائلتها منذ فترة طويلة عن الثقة في أي شيء يسمعونه على القنوات الفضائية أ وعلى البي بي سي. وبدلا من ذلك استمعوا إلى الأخبار السورية أ والقنوات اللبنانية المتحالفة مع النظام. هناك عناوين مختلفة: شيوخ السنة كانوا يدعون إلى حرب دينية، والمملكة العربية السعودية تروج لها. رأت علياء الإشارات بنفسها واستاءت من الإعلام الغربي لفشله في التقاط الصورة . انتشرت خرافات غريبة، تردد صداها في المنتديات الدينية على الإنترنت وسخرت من نتائجها: إذا ضربت الطناجر بعد منتصف الليل خلال شهر رمضان المبارك، فسيختفي العلويون. ذات ليلة في شهر تموز، أيقظ الأسرة صوت رنين عالي. نهض والد علياء من السرير وترنح إلى الشرفة. في مبنى مقابل له، كان رجل يضرب على الطناجر المعدنية. "اسكت!" صرخ والدها. "لن نختفي." في وقت لاحق، وجدوا علامة X خارج باب أحد جيرانهم، شقيق مسؤول رفيع في النظام. هل استُهدف بالاغتيال؟

شقيق علياء الأصغر عبد الحميد، ملاكم هاو، تعرض لصدمة بعد ذلك بوقت قصير. كان في مصر في ذلك الوقت، يحضر دورة تدريبية بحرية ويعيش مع خمسة أصدقاء سوريين في منزل مستأجر في الإسكندرية. ذات ليلة، طرق شاب بلكنة عراقية الباب وسأل بتردد ما إذا كان السوريون يعيشون هناك. قال عبد الحميد نعم، وخرج العراقي. في وقت متأخر من تلك الليلة، حاولت مجموعة من الرجال كسر الباب، مرددين الشتائم على العلويين والرئيس بشار. وطردهم عبد الحميد وأصدقاؤه. ولكن بعد أيام قليلة، ظهر منشور على فيسبوك يذكر عنوان المنزل. وأضافت أن "هؤلاء الرجال سوريون تمولهم إيران وحزب الله لنشر التشيع في مصر ويجب قتلهم". تخلى عبد الحميد واثنان من أصدقائه عن دراستهم وعادوا إلى الوطن.

في أب، اتخذت زهرة أخيرا قرار مغادرة البلاد، على الأقل لفترة من الوقت. تم استدعاؤها للتحدث إلى الأمن السياسي مرتين، في استجواب مخيف. رفضت علاج المتظاهرين المصابين، لكنها شعرت أن النظام يقترب منها. اشترت تذكرة سفر إلى القاهرة، وجاءت نورا معها إلى المطار. انتظرتا ساعات على طابور، وبعد ذلك، بينما كانت على وشك تخليص الجمارك، سار اثنان من المخابرات. قالا إننا نحتاج أن نطرح عليك بعض الأسئلة. وأخذوها بعيدا.

استقلت نورا سيارة أجرة إلى المنزل متسائلة كم من الوقت ستستغرق حتى ترى والدتها مرة أخرى. عندما وصلت السيارة إلى الباب الأمامي، رأت الزوجين العلويين اللذين يعيشان في الطابق الأول من بنايتها، وهما الزوجان اللذان كان ابنهما أحد حراس الرئيس بشار الخاصين. لم تكن قد فكرت في الأمر كثيرا من قبل، ولكن الآن، كل القلق والخوف من الأشهر القليلة الماضية يتعمق داخلها. قالت لنفسها إن النظام مؤلف من أناس مثل هؤلاء، جيراننا، يعيشون بجوارنا تماما، معتقدين أن بشار ه والله ويدعم كل ما يفعله. كانت خارج السيارة الآن. نظرت مباشرة إلى الزوجين ثم بصقت على الأرض عن عمد. كان أشجع شيء فعلته على الإطلاق. لم يقل الزوجان شيئا. مرت بهم إلى المنزل. في تلك الليلة، اتصل العديد من أصدقاء والدتها لطمأنتها، وأخبروها أن تبقى هادئة، وأن النظام لن يؤذي والدتها. اتصلت نورا بزوجين من الأصدقاء العلويين لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم فعل أي شيء. بدوا خائفين من التحدث إليها على الإطلاق. قال أحدهم، أنا آسف، إذا طرحت أسئلة حول والدتك، فستكون هذه علامة سوداء بالنسبة لي، فهمت، أنا آسف. بدا العلويون أحيانا أكثر خوفا من النظام من أي شخص آخر. ربما لأنهم يعرفون ذلك بشكل أفضل. خلال الأيام القليلة التالية، بدا حتى أفراد عائلة نورا أنهم ينسحبون، كما ل وأن العلامة السوداء لأمها قد أصابتها أيضا. لقد كانت أكثر الأوقات وحدة في حياتها. بعد أسبوع، اتصلت والدتها لأول مرة. قالت انها بخير. استخدمت رمزا اتفقت عليه هي ونورا مسبقا، تشيران إليها باسم فرح. قالت والدتها: "قولي لفرح أن تذهب وتبقى عند ابن عمها". شعرت بالسخافة. لا أحد يخدع المخابرات بهذه الطريقة. لكنها ذهبت. كما تم اعتقال عمتيها مها ووسام خلال رحلة إلى حلب. كان كل أفراد الأسرة موضع شك. أمضت الأسبوعين التاليين تعيش في منزل ابنة عمها، ونادرا ما تخرج للخارج. أخيرا، في منتصف أيلول، تلقت مكالمة من والدتها تفيد بإطلاق سراحها. شعرت بسعادة غامرة وعادت إلى المنزل لتنتظرها هناك.

كانت جالسة في غرفة نومها، بعد حلول الظلام، عندما سمعت صوت انفجار صاخب جدا وقريب جدا. ركضت نح والنافذة ونظرت إلى أسفل: اشتعلت النيران في سيارة. بدت أكثر صعوبة وأدركت أنها سيارة والدتها. تصاعدت ألسنة اللهب، وبدأ دخان أسود كثيف يتدفق نح والمنزل. يمكنها شمها. انطلقت رصاصة ثم أخرى. ركضت إلى عمق المنزل وهي تصرخ. اعتقدت أنهم سيأتون لأجلي، لاعتقالي، لقتلي. بحثت عن هاتفها واتصلت بأمها. أجابت زهرة وبكت نورا وصرخت قائلة لها أن تأتي بسرعة. كانت زهرة في منزل شقيقها غير البعيد. طلبت من نورا أن تهدأ، فقد يكون الأمر مصادفة. انتظريني.

احترقت السيارة. هذا كل شيء. لم يأتي أحد لقتلهم. لكن حتى زهرة شعرت بالثقة في أن هذه كانت رسالة، رغم أنها لم تكن متأكدة من أنها من النظام. كان حيهم في الغالب من العلويين، ولا بد من وجود كثير من الناس هناك مستاؤون للغاية لوجود طبيبة سنية بارزة تعتني بالمتظاهرين الجرحى الذين يعيشون بينهم، على حد قولها. شعرت أنها لا تستطيع الوثوق بأي شخص بعد الآن. استغرقت نورا أياما لتتعافى. حتى بعد ذلك، كانت أعصابها سيئة للغاية لدرجة أن زهرة بدأت في إعطائها مهدئا خفيفا كل يوم.

غادرت علياء في أب إلى إنجلترا، حيث كانت تحضر درجة الماجستير في تدريس اللغة الإنجليزية في جامعة وارويك. لم تتحدث هي ونورا لمدة شهرين تقريبا. ذات ليلة من شهر تشرين الأول، كانت علياء شبه نائمة عندما سمعت أزيزا على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها: كانت نورا تتصل بمحادثة فيديو. كانت الساعة الرابعة صباحا، لكنهما أمضتا ساعة في الحديث والضحك، وكأن شيئا لم يتغير. ظهرت السياسة لفترة وجيزة، لكنهما تخلتا عنها وتحدثتا بدلا من ذلك عن عائلاتهما، وعن إنجلترا، وعن الأصدقاء المشتركين. عندما انتهت المكالمة، انفجرت علياء بالبكاء. شعرت كما ل وأن صداقتهما ستبقى على الرغم من كل شيء. لكن نورا، في ظلمة غرفة نومها قبل الفجر، وجدت نفسها تفكر في شيء قالته علياء: أحد أصدقائهم المشتركين، زميل سابق في الفصل يُدعى حسام كان قد أيد الثورة، لم يكن صديقا لعلياء على فيسبوك. الآن بدأت نورا تشعر بالذنب بطريقة ما. كان هناك الكثير من الناس في السجن، وقتل الكثيرون، وهنا كانت تتحدث مع علياء، التي كانت مع النظام.

في كانون أول، حضرت نورا مظاهرة أخيرة. أرسلت الجامعة العربية وفدا من المراقبين إلى سوريا وأصبح المتظاهرون أكثر جرأة معتقدين أنهم آمنون طالما كان الزوار في جبلة. انضمت نورا إلى مسيرة نهارية مع مجموعة من الأشخاص أحضروا أقراصا مدمجة توثق انتهاكات النظام لفريق جامعة الدول العربية. لكن الشرطة هاجمت المتظاهرين وضربتهم بالهراوات وأطلقت النار في الهواء. ركضت نورا بتهور مع مجموعة من الأصدقاء، مذعورة، مع تناثر الرصاص فوق رؤوسهم. بعد فترة وجيزة، تلقت والدتها اتصالا من الأمن السياسي يطلب منها الحضور لإجراء محادثة أخرى. هذه المرة، حالفها الحظ. اتصل المكتب وقال إن الاجتماع تأخر لمدة أسبوع.

اتخذت الأسرة قرارها على الفور. في غضون أيام، جمعت نورا ووالدتها وعمتيها في سيارة، وحقائبهم مكتظة.

في الأساس لقد أخذوا الضروريات فقط، مع العلم أن الرحلة ستكون صعبة. لكنهم كانوا يعلمون أنهم قد رحلوا لفترة طويلة. في اللاذقية قاموا برحلة شمالا إلى البلد الحدودي. ثم ساروا لمدة ثماني ساعات على درب بارد موحل بمساعدة المهربين في حمل الحقائب. كان عليهم أن يجتازوا نهرا بالقرب من الحدود، ويمشون واحدا تل والآخر على شجرة ساقطة. أمطرت معظم الرحلة، وفي بعض الأحيان كانت مها تفكر في منزلها القديم وتريد أن تستدير وتعود. لكن بمجرد وصولهم إلى تركيا، كان ابنها طارق ينتظرهم هناك. كان قد استأجر بالفعل شقة في أنطاكيا، أقرب مدينة. تجمعت العائلات الثلاث فيه، وأمتعتهم متناثرة على الأرض وكأنهم في المنفى.

عندما علمت علياء أن نورا وعائلتها قد غادروا سوريا، نظرت إلى صفحة صديقتها القديمة على الفيسبوك واكتشفت أن نورا قد ألغت صداقتها. ولكن مع استمرارها في الاطلاع على صفحة نورا كل يوم تقريبا، لاحظت تحولا بطيئا. كانت منشورات نورا العامة مناهضة للأسد بشدة، وفي النهاية بدأت في تضمين المزيد والمزيد من اللغة الدينية، وبعض الافتراءات الطائفية ضد العلويين. في وقت لاحق من ذلك العام، تزوجت نورا من رجل سني من جبلة تظهر صفحته على فيسبوك اللافتة السوداء التي تستخدمها القاعدة. كمال الأخ الأصغر لنورا، الذي حملته علياء وأطعمته البسكويت عندما كان صبيا، كان لديه صفحته الخاصة على الفيسبوك أيضا، مع صورة له وه ويمسك ببندقية كلاشينكوف. في أوائل عام 2013، بعد ولادة طفلها الأول مباشرة، نشرت نورا مقطعا طويلا يشيد بصدام حسين، متبوعا بجملة: "كم عدد" الإعجابات " سنحصل لمن هزم الشيعة وغيرهم من الوثنيين؟"

طوال عام 2012، كان التمرد السوري يتدهور في نفس الوقت ويكتسب حياة جديدة مروعة، مثل جثة أعيد إحيائها. كانت الموجة الأولى من الثوار، شباب وشابات المدن الذين تحدثوا عن الديمقراطية، يفرون إلى بيروت أ ولندن أ ودبي. تم استبدالهم بجحافل من الشباب المتعصبين الذين تسللوا عبر الحدود بالحرب المقدسة والاستشهاد في أذهانهم. بالنسبة للعالم الخارجي، أصبح الصراع عبارة عن فسيفساء دموية من الصور ومقاطع الفيدي والتي تم التقاطها على كاميرات الهواتف المحمولة باليد لجثة صبي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، مقطوعة أعضاؤه التناسلية، وجسده مغطى بالحروق ورجل يُدفن حياً، بينما يأمره كوماندوس سوري أن يقول إن بشار ه والله. (رفض الرجل ودفن) وجثث نساء وأطفال في قرية متمردة، بلا حياة، في أكوام. وصورة مقاتل من الثوار يأكل قلب جندي من النظام السوري. تناثرت هذه الصور مثل الزجاج المكسور عبر الإنترنت، وعلقت على ملصقات، ورفعت عاليا بترديد الحشود، وتحولت حفنة من هذه الصور إلى مطالب في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.

اتضح أن حفنة من هذه الصور كانت وهمية، أ وبالأحرى فظائع قديمة من لبنان أ وفلسطين، أ وحتى من حوادث السيارات، وحوادث الطائرات، ومسرح الجريمة. لا أحد يستطيع أن يقول على وجه اليقين من أين نشأت هذه الصور المزيفة أ وكيف انتشرت، لكن اكتشافها جاء كإغاثة تقريبا: كان كلا الجانبين حريصا على أسباب تبرئتهما من جرائمهما. قالت لي علياء: "لهذا لا نصدق أي شيء يقولونه عن النظام أ والشبيحة". "كل هذا مزيف." وهكذا استمرت الحرب، عاصفة من الرعب يمكن لأي شخص تجاهلها كما ل وكان يغير القناة على جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون.

السؤال الذي لم يستطع أحد الإجابة عليه ه وكيف حدث ذلك بهذه السرعة. طبعا نشر رجال الرئيس بشار اشاعات طائفية. لقد هددوا شعبهم بالبقاء في الطابور، حتى أنهم أطلقوا سراح الجهاديين المتشددين من سجون النظام، كل ذلك بهدف فتح الجروح القديمة. لكن تلك الجروح كانت حقيقية، وكانت قريبة من السطح. في أقل من عام، تحولت حملة القمع التي شنها النظام إلى ما بدا أنه كراهية دينية تعود إلى جيل الألفية.

***

في تشرين الثاني 1862م، فتح مبشر أمريكي يدعى هنري هاريس جيسوب باب منزله في بيروت ووجد نفسه في مواجهة شخص غريب. كتب جيسوب لاحقا أن الرجل الذي أمامه كان "قصير القامة، وجبهته منخفضة، وذقن بارزة، وشفاه زنجية، ووجه أحمر، ومثير للاشمئزاز تماما كما التقيت به في الشرق". كان الزائر من العلويين، وكان يسمي نفسه سليمان من أضنة.

اعتاد جيسوب على تحية الغرباء. كان واحدا من مجموعة صغيرة من المبشرين البروتستانت الذين يعيشون في سوريا الكبرى والذين كان يُنظر إليهم في الغالب على أنهم غرباء طيبون. علموا العرب عن الكتاب المقدس ووفروا ملجأ للأشخاص الفارين من النزاعات العرقية والطائفية. كان جيسوب، في الثلاثين من عمره، طويلا وسيما بشكل صارخ، بعينين ثاقبتين، وجبهة عالية، ولحية طويلة منتشرة، في روعة أبوية، حول ياقة بيضاء صلبة. لقد كان في لبنان منذ ست سنوات فقط، لكنه تحدث اللغة العربية جيدا لدرجة أنه كان يعظ بها. أخرج سليمان خطابا، فتحه جيسوب وقرأه. وقال إن سليمان كان رجلا ذا قدر كبير من التعلم واعتنق المسيحية من "المذهب النصيري الصوفي"، وهي كلمة أخرى للديانة العلوية. كاتب الرسالة، وه وعالم معروف يعيش في دمشق، كان قد ساعد في تحرير سليمان من الخدمة العسكرية على أساس أنه مسيحي الآن، وهي إحدى الجماعات التي استثناها العثمانيون من الخدمة العسكرية.

كان هذا اكتشافا نادرا لجيسوب. كان العلويون ودينهم في ذلك الوقت لغزا شبه كامل للغرباء، وكانوا موضوع إشاعات جامحة ومخيفة. اتضح أن سليمان لم يكن علويا فحسب، بل كان أيضا من الماخوس، وهم النخبة القليلة في ذلك المجتمع الذين يجب أن ينخرطوا في معتقدات الدين السرية. دعاه جيسوب وطلب منه الجلوس. بدأوا يتحدثون على الفور، وانتشرت المحادثة على مدار عدة ساعات في الأيام التالية. بدأت بداية سليمان في سن السابعة عشرة، عندما سلمه أحد الشيوخ العلويين كأسا من النبيذ ووضع صندلا على رأسه. ردد الرجل: "قل،" بسر فضلك، يا عمي وسيدي، أنت تاج رأسي، أنا تلميذك، ودع حذائك على رأسي ". بعد سلسلة من الطقوس الأخرى التي امتدت على مدى تسعة أشهر، طلب منه شيخ أن يتل ونذرا بالسرية: "هل تقبل قطع رأسك ويديك وقدميك، وعدم الكشف عن هذا اللغز المهيب؟" أقسم سليمان. تم تجنيده في المعتقدات الصوفية للعلويين التي يبلغ عمرها ألف عام، بما في ذلك التناسخ وتأليه علي، ابن عم النبي محمد وصهره.

كان العلويون يكرمون السيد المسيح ومحمدا، وكذلك أفلاطون وسقراط وأرسطو. لقد استخدموا كلمات مرور غريبة للتعرف على بعضهم البعض، وكانوا يمارسون تقليد أعضاء الديانات الأخرى، على الرغم من أنهم شتموا بشكل خاص المسلمين والمسيحيين على أنهم هراطقة بائسين، مقدّر لهم أن يولدوا من جديد كقرود وخنازير. بناء على دعوة جيسوب، كتب سليمان كل ما يعرفه عن العقيدة العلوية في شكل كتاب على مدار أسابيع قليلة. طبعها جيسوب، وكان أول - ولوقت طويل المصدر الوحيد - للأجانب عن الدين.

تحدث سليمان أيضا عن بؤس الحياة بين العلويين. لقد كانوا من سكان الجبال، وكانوا لا يثقون كثيرا في الغرباء. كانوا قد انسحبوا قبل ذلك بقرون إلى التلال هربا من مسلمي السهل السوري، الذين شتموهم بالزنادقة، وقاموا أحيانا بغارات قاتلة. أعلن اللاهوتي ابن تيمية في أوائل القرن الثالث عشر أن العلويين "أكثر كفرا من اليهود والمسيحيين، بل أكثر كفرا من العديد من المشركين"، وحث المسلمين الطيبين على ذبحهم وسلبهم. تم التذرع بهذه الكلمات بانتظام. انتقم العلويون بكراهيتهم الشديدة. لكن حتى داخل مجتمعهم، كان العلويون قبليين للغاية وعرضة للعداء لدرجة أن القتل والسرقة كانا من ثوابت الحياة. في بعض الأحيان، كان المجتمع على وشك الانقراض. وصف أحد رجال الدين الإنجليز الذين عاشوا بينهم لعدة سنوات في منتصف القرن التاسع عشر عالما من العنف غير العادي والمجاعة المستمرة، حيث "حالة المجتمع هي جحيم مثالي على الأرض". إن العلويين المتهمين بارتكاب أعمال قطع الطرق، عندما قبض عليهم المسلمون، يعاملون معاملة خاصة: تم تعليقهم على المسامير وتركهم على مفارق الطرق كتحذير.

أثارت قصة سليمان تعاطفا كبيرا من الأمريكي الملتحي. كان سليمان قد شكك في حقيقة العقيدة العلوية بعد وقوفه خارج منزل رجل يحتضر، ولاحظ أنه لا يوجد كوكب ينزل إلى جسد الميت، ولا نجم يعل ومن باب المنزل. كما بدت المعتقدات العلوية الأخرى لا أساس لها من الصحة. وقد اشمئز سليمان من اعتناق الإسلام. لكنه وجد بعد شهر فقط من قراءة القرآن ثلاثمائة كذبة "وسبعون كذبة عظيمة" فيها. وقرر أن يصبح مسيحيا أرثوذكسيا يونانيا. بعد شهر عسل قصير، وجد أنه لا يستطيع تحمل عبادة الأيقونات المقدسة أ وفكرة أكل الله على شكل رقاقة. بعد ذلك أصبح يهوديا وعلم نفسه أن يقرأ العبرية جيدا حتى يفهم التلمود. هناك، أيضا، وجد الكثير من الهراء. ثم اكتشف مسلكا بروتستانتيا يهاجم البابا وقرر أنه وجد الطريق الصحيح أخيرا. في ذلك الوقت ألقته السلطات التركية في السجن وضمته إلى الجيش. لم يهرب إلا بعد أن سار على بعد ستمائة ميل إلى دمشق. وهناك اكتشفه عالم مسيحي كان يعمل قنصلا أمريكيا وكتب الرسالة التي أتت به إلى بيروت. .

كان جيسوب سعيدا لأن هذا الرجل الموسوعي الغريب ذ والوجه القزم قد وجد أخرًا المسيح الحقيقي. وأمن له غرفة للإيجار في بيروت. كان سليمان غريبا بشكل مذهل مع رجل الدين من ولاية بنسلفانيا وأصدقائه: كان بإمكانه تلاوة فصول كاملة من القرآن من ذاكرته، جنبا إلى جنب مع الكثير من الكتاب المقدس العبري. كان لديه ما يقرب من إمدادات لا نهاية لها من التعاليم الصوفية العلوية. لكن تجوال سليمان لم ينته بعد. بدأ يتجول في المنطقة، يبشر بالبروتستانتية بحماسة رهيبة، وذات يوم وصل إلى عتبة جيسوب مرة أخرى، هذه المرة تفوح منه رائحة الخمور. عندما أخبره جيسوب أنه لا يمكنه السماح له بدخول المنزل إذا شرب مرة أخرى، طلب سليمان قلما وورقة. كتب: "أنا سليمان من أضنة، أتعهد بموجب هذا لنفسي بألا أشرب قطرة من الخمور مرة أخرى، وإذا فعلت ذلك، فسيتم استباحة دمي، وأنا بموجب ذلك أصرح للقس جيسوب بقطع رأسي واحتساء دمي." عبس جيسوب من "اللغة القوية إلى حد ما" لكنه كان سعيدا بهذا التعهد. ومع ذلك، لم يدم طويلا. عاد سليمان إلى عاداته في الشرب وندد بحرية بكل الأديان التي تخلى عنها. تزوج ابنة كاهن يوناني وعاد في النهاية إلى أضنة. التقى به شيوخ العلويين. لقد تأملوا الأمر، وفكروا في قتل سليمان بعد نشر الكتاب . لكنهم فكروا للحظة أن قتله سيؤخذ كدليل على أن كل ما كتبه كان صحيحا. مرت سنوات على نشره. كان سليمان قد انقطع الاتصال بصديقه الأمريكي، الذي كان يعيش على بعد مئات الأميال في بيروت. حتى ذلك الحين، كان الشيوخ باردين وبطيئين في انتقامهم. دعوا سليمان إلى وليمة في القرية، متظاهرين أنهم يعاملونه كضيف شرف، ابن الإيمان الذي اكتسب شهرة. كان يمتطي حصانا، ويقوده شباب علوي غنوا وأطلقوا بنادقهم تكريما له. وبينما كان حصانه ينسج رقصته بين أكوام السماد التي كانت تحيط بالقرية، أمسك الرجال فجأة بساقيه وألقوه في حفرة كانوا قد أعدوها مسبقا. وراحوا ينثرون الروث عليه متجاهلين صراخه حتى دفن حيا. بعد سنوات، عندما كان جيسوب يمر عبر أضنة في عام 1888م، أخبره مدرس محلي أن شيوخ العلويين قطعوا لسان سليمان بعد قتله وحفظوه في جرة. قال المعلم إنهم كانوا يخرجونه في المناسبات الخاصة، وشتموه ودفعوه إلى الجحيم لخيانته.

في غضون ذلك، استمر العلويون في العيش في فقر مدقع في ملاذاتهم الجبلية، على هامش الاقتصاد الإقطاعي في سوريا. أُجبر الكثيرون على بيع بناتهم في الخدمة بعقود خادمات لعائلات دمشق الثرية، حيث قيل إنهم يعاملون كعبيد جنسيين. استمرت الكراهية المتبادلة بين الجبل والمدينة حتى بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ووصول الفرنسيين في نهاية الحرب العالمية الأولى. لفترة وجيزة، أدار الفرنسيون المناطق النائية الجبلية العلوية كدولة خاصة بهم، وتحرر العلويون أخيرا من الخوف من جيرانهم المسلمين في السهول أدناه. وبحلول منتصف الثلاثينيات، تعرض الفرنسيون لضغوط للاعتراف بالمطالب السورية بدولة موحدة ومستقلة. كان بإمكان العلويين رؤية ما سيأتي. في عام 1936، أرسل ستة من أعيان العلويين التماسا يطلبون فيه من الفرنسيين عدم دمج جيبهم الشمالي مع بقية سوريا. وكتبوا: "إن روح الكراهية والتعصب المتأصلة في قلوب المسلمين العرب ضد كل ما ه وغير مسلم يغذيها الدين الإسلامي على الدوام".

"ليس هناك أمل في أن يتغير هذا الوضع على الإطلاق. لذلك، فإن إلغاء الانتداب سيعرض الأقليات في سوريا لمخاطر الموت والإبادة، بغض النظر عن حقيقة أن هذا الإلغاء سيقضي على حرية الفكر والمعتقد ".

وكان سليمان الأسد، جد الرئيس بشار الأسد، أحد الموقعين على العريضة. عندما تخلى الفرنسيون عنهم، اندفع العلويون لاحتضان القضية الوطنية السورية. تمت إعادة كتابة التاريخ، وبدأ الملهمون العلويون في إعلان أنفسهم مسلمين. اعتنق الضابط العلوي الشاب حافظ الأسد العروبة كدين جديد. لقد تعهد بتدمير إسرائيل، وفعل كل ما في وسعه لإخفاء جذوره الهرطقية، خاصة بعد أن وصل إلى الرئاسة في عام 1971. مجموعات الأقليات الأخرى في سوريا - المسيحيون والدروز والإسماعيليون وغيرهم - فعلت الشيء نفسه، المسارعة للتستر في غطاء العروبة وحزب البعث، عربته السياسية المحلية. لكن الأسد كان بحاجة إلى أكثر من مجرد غطاء سياسي. كان لابد من تنظيف وصمة الاختلاف العلوي بشكل صريح. خرجت الكلمة: الرجل القوي الجديد يريد الفتاوى. فتح العديد من رجال الدين الشيعة الملتزمين، المتحمسين للرعاية السورية، أذرعهم وأعلنوا أن العلويين أعضاء أرثوذكسيون في الطيعة الشيعية.

كان الأسد ممتنا، لكنه كان ذكيا جدا لدرجة أنه لم يخطئ في اعتبار هذه الباقات حفل زفاف. وضع بهدوء أقاربه العلويين في قلب الدولة البوليسية الآخذة في الاتساع، مثل السكاكين تحت الطاولة. كان يعلم أنه يمكن الاعتماد عليهم وعلى خوفهم عندما جاءت الأزمة.

***

تذكرتُ عريضة عام 1936 التي وقعها سليمان الأسد عندما دخلت لأول مرة غرفة معيشة عائلة علياء علي ورأيت صورة بالأبيض والأسود على الجدار: جدها، مرتديا ياقة وربطة عنق متيبسين. "لقد درس في فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي"، قالت علياء بشكل لامع. ثم أضافت بسرعة، كما ل وأن أحدهم أشار إلى خطأ بسيط، "وبعد ذلك قاتل الفرنسيين في النضال من أجل الاستقلال - على ما أعتقد ". عليك أن تكون حريصا على عدم التعثر في تاريخك إذا كنت علويا.

كان ذلك في نيسان 2013. بعد عامين من القتال، اندلعت الحرب السورية إلى الخارج واجتذبت تقريبا كل بلد في المنطقة والعديد من الدول خارجها. كان لدى حزب الله جنود ومدربون على الأرض، وكذلك فعلت إيران. كان هناك الآلاف من المتمردين يقاتلون باسم الجهاد من أكثر من اثني عشر دولة، بتمويل من أجهزة المخابرات والميليشيات والمتشددين من كل نوع. على الجانب الآخر، كان المتطوعون الشيعة من العراق ولبنان وحتى اليمن يصطفون للقتال من أجل الرئيس بشار. كان الجهاد لا يقاوم بالنسبة للشباب المحبطين الذين كانوا يتغذون على الدين طوال فترة تعليمهم. قابلت سعوديا في الرياض في وقت لاحق من ذلك العام ذهب إلى سوريا ثماني مرات. كان مدير مستشفى، محترم يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عاما ولم يشعر بالخجل في الاعتراف بأنه كان يستمتع بفرصة قتل بعض الشيعة. في بعض الأحيان كان يذهب لقضاء عطلة نهاية أسبوع طويلة. معظم هؤلاء الناس لا يمكن أن يكونوا أقل اهتماما بسوريا نفسها. كانوا هناك من أجل صراع الفناء، المعركة الكبرى بين الإسلام الحقيقي وأعدائه هي التي من شأنها أن تحطم البدعة إلى الأبد وتمهد الطريق لملكوت الله أ وهكذا ظنوا أنفسهم.

ولكن كانت هناك دائما طريقة أخرى للنظر إليها، واحدة كان الجميع عندها على الأقل نصف مدرك: أن هذه المعركة العظيمة بين السنة والشيعة كانت في الحقيقة مجرد صراع ساخر على السلطة بين أكبر منتجي النفط في المنطقة، المملكة العربية السعودية وإيران، اللذان غذيا شعاراتهما الطائفية بالطريقة التي قد تغذي بها الأمفيتامينات لملاكم متعب. كان هناك شيء واحد مؤكد: المخططات الإيرانية والسعودية بشأن سوريا، مثل تغيير التروس، دارت عجلات أكبر في عواصم بعيدة. قامت روسيا بتمويل الرئيس الأسد مع التركيز على مسلميها في القوقاز. استخدمت الصين حق النقض ضد أي جهود لتفويض القوة في الأمم المتحدة. مولت قطر الجهاديين والجهود الأمريكية لتقويضهم. حتى باراك أوباما أصبح محاربا بالوكالة، بتردد عميق. بعد مقاومة لمدة عام، وقع أمرا سريا لوكالة المخابرات المركزية لتسليح وتدريب المتمردين السوريين "الذين تم فحصهم" قبل وصولي إلى دمشق مباشرة.

في نيسان 2013. كانت هذه هي المرة الأولى التي التقيت فيها علياء وعائلتها، وسمعت قصتها عن الثورة في جبلة.

بالنسبة لي، كانت عودة مضطربة إلى بلد بالكاد تعرفت عليه. لقد زرت سوريا عدة مرات في السنوات التي سبقت الثورة. لقد أحببتها بالطريقة التي تحب بها ساحة خردة قديمة مهجورة، مليئة بالآثار الصدئة التي لم يتم تقييمها والتي لم يكتشفها أي شخص آخر. كانت قاتمة ومثيرة للاكتئاب، بأسواقها القديمة المنهارة وهندستها المعمارية المتحللة للانتداب الفرنسي، وأنفاقها التي تعود إلى العصور الوسطى والقضبان الصامتة الداكنة، ومدنها الميتة المليئة بالحجارة المتهدمة والصهاريج الفارغة المكسوة بالحزاز. لقد كونت صداقات مع مخرجي أفلام ونشطاء أكراد ولاجئين فلسطينيين، وكنا نهمس خفية عن النظام في القضبان، وننظر إلى رجال المخابرات الذين يرتدون سترات جلدية ويتظاهرون بعدم المشاهدة.

الآن بعد أن ذهبت سوريا. كان نصف البلاد وراء خطوط المتمردين، في منطقة بيع وشراء الرهائن الغربيين وقطع رؤوسهم. فر معظم أصدقائي السوريين وعاشوا في أوروبا أ وبيروت أ ودبي. بعضهم مات أ ومخطوف الله وحده يعلم أين.

بدأت رحلتي في دمشق ووجدت صديقا قديما ليلة الخميس في أب ورمانة، طوني، يعيش في أحد أحياء دمشق. كان في بار في الطابق السفلي، وه ووكر مظلم لشباب سوريين يرقصون ويشربون ويتبادلون الأحاديث. دفعت عبر غابة الجثث حتى وصلت إلى الحانة ووجدت خالد الذي عانقني دبا متعرقا واشترى لي بيرة. إنه روائي وبوهيمي، رجل ضخم ذ وضحكة صاخبة ورأس ضخم من تجعيد الشعر الرمادي الفولاذي. لقد كان معارضا منذ أن عرفته، وكان من المتظاهرين المتحمسين في عام 2011. كان عمره عامين قد جعله يتقدم في السن بشكل واضح. تحدثنا عن أصدقاء مشتركين، كلهم ذهبوا الآن. قال خالد: "لا يمكنني التخلي عن الثورة". لن أغادر دمشق. وضع ذراعه حول امرأة شابة وقدمها على أنها ريتا. قالت ريتا: "خالد ه والمتفائل الوحيد المتبقي في سوريا". عندما غادر خالد لتحية شخص آخر، سألت ريتا - كان علينا الصراخ على زخم موسيقى البوب العربية - عن حالة المعارضة السلمية. أشعر بالخجل من قول ذلك، لكن المعارضة فعلت ذلك.

قالت "فقدت معناها". الآن ه وقتل فقط، لا شيء سوى القتل. الجهاديون يتحدثون عن الخلافة والمسيحيون خائفون حقا ". كان هناك وقفة. "لقد انتظرت طوال حياتي لهذه الثورة، لكن الآن أعتقد أنه ربما لم يكن ينبغي أن تحدث. على الأقل ليس بهذه الطريقة ".

ل وكانت المعارضة قد فقدت معناها، كذلك النظام. اختفت الأقنعة القديمة. فالدولة التي عرّفت نفسها على أنها "القلب النابض للعروبة" طُردت رسميا من الجامعة العربية، واحتقروا زعيمها واعتبروه مجرما.

في شارع جانبي هادئ في واحد من أغنى أحياء دمشق، دعاني محام بارز له صلات بعائلة الأسد للانضمام إليه وأصدقائه في مكتب مترف مليء بالكتب. كانت هناك أرائك جلدية ناعمة وشوكولاتة أوروبية على طاولة القهوة. أظهرت شاشة فيدي ومن ستة عشر إطارا كل اقتراب للمنزل. كان أحد المدعوين ه والأب جبرائيل داود، وه وكاهن وسيم ممدد على كرسي بذراعين في ثوبه الأسود. طُرح موضوع الأقليات في سوريا، وسجّل وجه الأب داود انزعاجه. قال "الأقليات - إنه اسم مستعار". يجب أن تكون نوعية الناس وليس الكمية. يعطيك فكرة أن الأقليات صغيرة وضعيفة. لكننا الشعب الأصلي لهذا البلد ". أما المتظاهرون مطالبهم بالحرية فابتسم الأب داود وقال: "لا يريدون الحرية، يريدون الحوريات". الحرية هي الكلمة العربية لـ "الحرية"، والحوريات هي جمع "حور العين"، العذارى ذوات العيون السوداء التي وُعد بها الانتحاريون في الآخرة. ضحك الأب داود على نكاته الصغيرة، ثم أصبح أكثر جدية. قال عن المعارضة: "إنهم برابرة، برابرة حقيقيون". قد يكون لديهم الجنسية السورية، لكن ليس العقلية. نحن فخورون بعلمانيتنا. لا يمكننا العيش مع هؤلاء البرابرة ". عندما أثرت موضوع القومية العربية جفل الأب داود. قال "نحن فينيقيون ولسنا عربا". "لا نريد أن نكون عربا".

أخذ بعض أنصار النظام الآخرين هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك. ألمح شاب علوي، نجل ضابط رفيع المستوى، إلى أن الوقت قد حان للعلويين للتوقف عن التظاهر بأنهم مسلمون. قال، عندما التقيته في مقهى بدمشق، "عندما بدأت الطائفة العلوية، قبل ألف عام، كانت تمردا على الوضع الراهن". كانت الديكتاتورية في ذلك الوقت هي الإسلام، لذا اتخذ التمرد ضده شكلا دينيا بطبيعة الحال. الإسلام كذبة، إنه مجرد وسيلة لكسب القوة والسيطرة على الحشود. هذا ما يجب أن نتمرد عليه ". عندما سألته - في غياب عروبة الإسلام - ما الذي يمكن أن يلهم الشباب السوري أ ويجمعهم، تردد. قال: "حزب البعث لم يعد موجوداً". "إنهم ديناصورات. يمكن إعادة بناء القومية العربية، ربما، على أساس اقتصادي ... " "أتذكر أنني قلت، عندما بدأت الاحتجاجات الأولى في تونس والقاهرة في عام 2011، إذا حدث هذا هنا في سوريا، فلن ينتهي أبدا. لحظات الإبادة لا تزال حاضرة في أذهان الناس ". افترضت أنه كان يشير إلى حماة، حيث قُتل الكثير من السنة على يد قوات النظام التي يقودها العلويون. لكن بعد لحظة من التفكير أدركت أنني ربما كنت مخطئا: لقد تحدث في وقت سابق عن العلويين كمتمردين وضحايا. كان كل شخص في هذا الصراع مصمما على تصوير شعبه على أنه داود والجانب الآخر على أنه جالوت.

من بعض النواحي، كانت الحياة في دمشق طبيعية بشكل مذهل. كان هناك فاكهة طازجة في أكشاك السوق وحشود المتسوقين في البلدة القديمة؛ دخان التبغ الحل وبنكهة التفاح ينجرف من المقاهي. لكن نقاط التفتيش كانت في كل مكان، ولم يكن بإمكاني السير عشر ياردات دون أن يطلب مني فرد يرتدي ملابس مدنية من قوات الدفاع الوطني الجديدة بطاقة هويتي. خلف ضجيج الشوارع المريح، كان من الممكن سماع دقات المدفعية الباهتة، مثل الرعد المتقطع. لم يعلق عليه أحد من قبل، وفي ضوء شمس الربيع كان من الصعب تخيل أن الناس كانوا يقاتلون ويموتون على بعد أميال قليلة فقط.

لم أشاهد الحرب إلا بعد أن سلكت الطريق السريع شمال دمشق. على جانبينا كانت المنازل محطمة إلى أنقاض أ ومحترقة بحيث يتعذر التعرف عليها، والملصقات التي تحمل وجوه الأسد وعشيرته ممزقة إلى أشلاء. أثناء مرورنا بالسيارة عبر ضاحية حرستا، حيث كانت بعض أسوأ المعارك المحتدمة، وتصاعد عمود ضخم من الدخان الأسود من مجموعة من المنازل على بعد بضع مئات من الياردات. نظر سائقي بقلق إلى الأمام والخلف. تجاوز عداد السرعة تسعين ميلا في الساعة، وتساءلت كيف ستصمد سيارة هيونداي البالية. قال "هذه منطقة خطيرة للغاية". "يجب أن نذهب بسرعة." ما وراء الضواحي، يتقاطع الطريق السريع مع مدينة حمص التي مزقتها الحرب ويتجه غربا نح وقلب العلويين الجبلي على طول البحر الأبيض المتوسط. كان هذا ه والطريق الذي كان سيتبعه بشار وأنصاره، إذا تخلوا لأعدائهم عن العاصمة وحاولوا إقامة دولة رديئة في أرض أجدادهم. المناظر الطبيعية على طول الطريق السريع تزداد خضرة كلما اتجهت شمالا، وتتلاشى علامات الحرب ببطء. ترتفع الجبال الرائعة المغطاة بالثلوج إلى الغرب، وبعد ذلك تظهر السطح الأزرق المتلألئة للبحر. التلال مغطاة بأشجار الزيتون والفاكهة، ورائحة الأوكالبتوس تختلط مع نسيم البحر.

هناك التقيت علياء علي لأول مرة ووجدت نفسي أحدق في صورة جدها. كان منزل عائلة علي في جبلة يتمتع بمظهر دافئ لمنزل على الشاطئ، مع صدف على الجدران ودهان أزرق يتقشر على شكل بقع ناتجة من هواء البحر الرطب وصورة واحدة لحسن نصر الله معلقة على الجدار وأخرى للرئيس بشار الأسد. كانت على الرفوف بعض الروايات باللغة الإنجليزية، بما في ذلك روايات دوستويفسكي الجريمة والعقاب. كانت الدفاتر عبارة عن كتل مستطيلة من المعدن، والتي تبين أنها قطع من قذائف المدفعية الإسرائيلية، وهي تذكار من سنوات والدها كرقيب في الجيش السوري في لبنان. وبينما كنا نتناول غداء من السمك والدجاج المقلي، ألقى والدها محاضرة صغيرة عن شرور التأثير السعودي. وقال إن بذور الإرهاب قد زرعت في السبعينيات وهي تزهر الآن. كان هذا ثابتا خلال الفترة التي أمضيتها في سوريا التي يسيطر عليها النظام، كما ل وأن الجميع قد تلقوا تذكيرا بسيطا ببطاقة الفهرس بما سيقول للصحفي الأمريكي: نحن نواجه الإرهاب الممول من السعودية، مثلك تماما.

لم يلتزم الجميع بالنص الطائفي للنظام. بعد الغداء، وقفت على الشرفة وسط هواء الربيع الدافئ، سألت علياء ما رأيها في العلويين الذين انضموا إلى المعارضة، مثل الروائية سمر يزبك، وهي من أبناء جبلة. كبر حذرها من ذكر اسم يزبك. قالت علياء: "التقيتها ذات مرة". "أخبرتني أن لدي مستقبل مشرق أمامي. لكني لا أريد مستقبلا مثل مستقبلها. أعتقد أن العلويين الذين ينضمون إلى المعارضة لا يدركون أنهم يستخدمون كأدوات أ ويعتقدون أن بإمكانهم تحويل هذه الحرب الجهادية إلى ثورة ديمقراطية. لكنهم لن ينجحوا أبدا ".

سمر يزبك كانت أيضا في سوريا خلال الأشهر الأولى للثورة. في يومياتها عن الأشهر الأربعة الأولى من الثورة - التي نُشرت لاحقًا باللغة الإنجليزية تحت امرأة على خط النار - تصف الحملة الغاضبة التي شنت ضدها بعد أن دعمت التمرد علنا. أُجبرت عائلتها على التنصل منها، ووزعت منشورات في جبلة تندد بها. في مرحلة ما، وصفت مواجهة مرعبة مع جهاز الأمن. بعد اقتيادها من منزلها في دمشق إلى مركز استخبارات، وجدت نفسها مع ضابط عابس يبصق عليها ويطرحها على الأرض ويهددها بالقتل. ثم اقتادها الحراس معصوبة العينين إلى الطابق السفلي إلى إحدى غرف التعذيب في الطابق السفلي للنظام، حيث أُجبرت على النظر إلى المتظاهرين نصف القتلى وهم يتدلون من السقف. أخبرها الضابط أن "الإسلاميين السلفيين" يخدعونها وأنه يجب عليها أن تعود إلى الحظيرة أ وتموت. قال لها: "نحن أناس شرفاء". "نحن لا نؤذي أبناء جلدتنا. نحن لسنا مثلكم أيها الخونة. أنت وصمة عار سوداء على العلويين ". عندما تحدثت إلى يزبك، التي تعيش الآن في باريس، أخبرتني أنها تعتقد أن المجتمع العلوي كان الضحية الأولى لعشيرة الأسد، وأنهم استخدموهم "كدروع بشرية" لإبقاء النظام في السلطة. وقالت: "إنهم يعتقدون أن خطاب النظام، بأنهم سيذبحون إذا سقط الأسد". "إنهم خائفون للغاية ومربكون للغاية."

يشير بعض العلويين داخل سوريا بهدوء إلى نفس النقطة، رغم أنها بعيدة وأكثر خطورة عليهم القيام بذلك. غالبا ما بدت علياء نفسها على وشك الاعتراف بأن الكثير مما قالته يزبك صحيح. لقد قرأت على نطاق واسع واستوعبت وجهة النظر الغربية التي لا ترحم لنظام الأسد. ذات مرة، أشارت إليه على أنه "ديكتاتور". كان الأمر كما ل وكانت تريدني أن أعرف أن عقلها لم يكن أسيرا للتسمية الطائفية التي نشأت عليها. لكن هذه الدوافع تلتها دائما بادرة من الغضب تجاه أوروبا والولايات المتحدة: كانت هاتان الحكومتان تحددان شعبها على أنه عدو. قد تحدق في صندوق ولاءاتها، لكنها لم تستطع الهروب منه. في بعض الأحيان، كانت علياء وأقرانها يذكرونني بسليمان من أضنة: يكافحون من أجل الهروب من الماضي، لكنهم غير قادرين على التحدث بصوت عال لئلا يدمرهم شعبهم.

في معظم الأوقات، الأقليات في سوريا - ليس فقط العلويين ولكن أيضا المسيحيين والدروز والمرشديين - لا تميز مثل هذا التمييز. كل ما يعرفونه ه وأنه يتم تعقبهم وقتلهم من قبل عد ويشبه العد والذي قتل أسلافهم. بحلول عام 2013، أدى ارتفاع عدد القتلى بين جنود النظام إلى جعل الجنازات شبه يومية في شمال غرب سوريا. رأيت ما لا يقل عن نصف دزينة من المعالم الجديدة للحرب في البلدات الجبلية بالقرب من اللاذقية، غالبا مع مئات من أسماء الجنود محفورة عليها. تغطي المنشورات الورقية والملصقات الملونة الجدران في اللاذقية وطرطوس، وكلها تظهر أسماء ووجوه رجال (وبعض النساء) قتلوا أثناء القتال من أجل الرئيس بشار.

بعد فترة وجيزة من لقائها، اصطحبتني علياء وشقيقها عبد الحميد إلى منزل أجداد عائلتها، في قرية دريكيش الجبلية. يتسلق الطريق من الساحل على طول منعطف حاد إلى منظر طبيعي رائع من التلال والبساتين ذات المدرجات الخصبة التي تستدعي إلى الأذهان مدن التلال في توسكانا أ وأومبريا. بعد عشرين دقيقة بالسيارة، وصلنا إلى المنزل، حيث كان عم علياء، عامر علي، يقف في انتظارنا، رجل قوي المظهر يبلغ من العمر خمسين عاما ووجهه متصلب وشعره أشيب قصير. قادنا في الطابق العلوي إلى غرفة كبيرة ذات سقف مرتفع حيث يتناثر ضوء الشمس عبر جدارين مفتوحين. وانتظر العشرات في الداخل، بعضهم يرتدي زيا رسميا، واحتسي الشاي والقهوة. كان عامر قد جمعهم ليروي قصصهم عن أقاربهم أ وأزواجهم الذين فقدوا في الحرب. جلست واستمعت إليهم، واحدا تل والآخر . كانوا من الطبقة العاملة: جنود وعمال بناء ورجال شرطة يرتدون ملابس بسيطة بالية. كلهم علويون، على حد علمي. ربما كان بعضهم من الشبيحة، على الرغم من أن أيا منهم لم يكن ليستخدم هذا المصطلح. أحدهم، وه وعامل بناء في منتصف العمر يدعى أديب سليمان، أخرج هاتفه الخلوي وأظهر لي الرسالة التي تلقاها بعد أن اختطف المتمردون ابنه يامن: "لقد نفذنا إرادة الله وقتلنا ابنك. إذا كنت لا تزال تقاتل مع بشار، فسوف نأتي إلى منازلكم ونقطعكم إلى أشلاء. لا تقاتلونا أبدا ". لم ينقل أي من الأشخاص الذين قابلتهم في تلك الغرفة أي غطرسة من النوع الذي اعتدت رؤيته في دمشق. أوضحوا جميعا أنهم شعروا بأن عائلاتهم ومنازلهم وطريقة حياتهم كلها في خطر رهيب. التقيت برجل يبلغ من العمر عشرين عاما أصيب برصاصتين في رأسه وفقد بعضا من ذاكرته ونصف سمعه. أخبرني أنه سيعود إلى الجبهة بمجرد أن تلتئم جراحه. حدق فيّ والده وقال: "سأفتخر بأن ابني شهيدا. أنا في الخمسينيات من عمري، لكنني على استعداد للتضحية بحياتي أيضا. لقد اعتقدوا أننا سنكون ضعفاء في هذه الأزمة، لكننا أقوياء ".

بعد الغداء، أراني عم علياء أرجاء المنزل. على الجدار كان سيف الإمام علي، رمزا مهما للعلويين، مع آيات مدح للإمام علي محفورة على النصل. كانت هناك أدوات زراعية قديمة، وعصا لصيد الثعابين، وسكاكين للصيد، وقربينة عمرها قرن من الزمان – ه ونوع من التاريخ البصري للشعب العلوي. كانت هناك قوارير فينيقية قديمة، وشجرة عائلة في المطبخ، بأسماء ترجع إلى قرون خلت. قادني عامر علي إلى السطح، حيث حدّقنا في البلدة التي تعيش فيها عائلته منذ مئات السنين. كانت التلال جميلة في ضوء شمس الظهيرة الذهبية. يمكنك أن ترى نبعا قديما يعلوه قوس حجري، ومسجدا بناه أحد أسلافه قبل 240 عاما. وقفت علياء بجانبي على الشرفة، وهي تنظر إلى المدينة بتعبير مفعم بالفخر. سألتها كيف شعرت بمعرفة أن مجموعات حقوق الإنسان الغربية قد وثقت الفظائع المتكررة للنظام السوري - ربما من قبل أشخاص مثل أولئك الذين تحدثنا معهم للتو. كان هذا قبل هجمات واسعة النطاق بالأسلحة الكيماوية على المدنيين السوريين والتي من شأنها أن تدفع الولايات المتحدة إلى حافة التدخل العسكري في سوريا في خريف عام 2013. وكان ذلك قبل أن يصنع نظام الأسد "البراميل المتفجرة"، تم إسقاط المتفجرات بشكل عشوائي على المناطق المدنية، كلمة مألوفة. لكن سلسلة الرعب كانت طويلة بالفعل.

نظرت علياء إلى الأسفل. قالت "نعم، كانت هناك فظائع". "لا يمكنك إنكار حدوث فظائع. لكن عليك أن تسأل نفسك: ماذا سيحدث إذا سقط الرئيس بشار؟ لهذا السبب أعتقد أن النصر ه والخيار الوحيد. إذا سقط الرئيس بشار تسقط سوريا. وبعد ذلك، سنكون جميعا هنا في النقاب، أ وسنموت ". قبل أن نتسلق مرة أخرى، أراني عم علياء حاملا ثلاثي القوائم أبيضا صدئ اللون، مثبت في منتصف السطح، تحت شرفة عالية. قال وه وينظر إلى سماء المساء الصافية: "إنها قاعدة للتلسكوبات، للنظر إلى النجوم". ثم نظر إلى أسفل الجبل باتجاه حيث تفسح التلال الطريق أمام السهل السوري الواسع. "ولكن يمكننا استخدامها بتركيب بندقية قنص والدفاع عن أنفسنا هنا."

كانت نورا كنفاني وعائلتها تعيش في عالم موازٍ بشكل غريب من الحزن والحصار، على بعد ساعتين بالسيارة إلى الشمال، خلف بلد التل الأخضر المورق على الحدود التركية. أظهروا لي صورا لأصدقاء وأقارب متوفين ومختفين، وجلدهم العاري مليء بالكدمات والكدمات والحروق ولغة التعذيب. شاهدت شرائط فيدي ومروعة لجنود النظام والقوات شبه العسكرية وهم يطلقون النار على مراسم العزاء في القرى السنية. شعرت نورا أيضا أن العالم قد تخلى عنها وعن شعبها: الأمريكيون والأوروبيون والعرب - كلهم غير مؤمنين بقضيتهم. كانت تعمل في جمعية خيرية ممولة من الولايات المتحدة، وكانت والدتها زهرة تعمل في مستشفى قريب. كانت العمة مها تدير مدرسة للأطفال اللاجئين السوريين في مخيم بالقرب من الحدود. كانوا أفضل بكثير من معظم اللاجئين السوريين. كان لديهم ما يكفي من المال لاستئجار شقق لائقة بسبب وظائفهم. لكنهم كانوا غير سعداء أبدا في المنفى، ولم يكن أي منهم راضيا عما حدث.

اعتقدوا أنهم سيرون جبلة مرة أخرى. لقد عادوا إلى التقوى. أخبرتني نورا، التي كانت ترتدي حجابا بسيطا على شعرها دائما، أنها تفكر في ارتداء النقاب الكامل. عندما اقتربت منها لأول مرة، رفضت التحدث معي لأن زوجها، الذي كانت صفحته على فيسبوك مليئة بالرموز الجهادية والشعارات الحربية، لم يوافق على حديثها مع رجال أجانب. في النهاية، رضخ تحت ضغط أصهاره. كانت نورا وأقاربها غاضبين من أن الغرب كان أكثر تركيزا على جرائم الجماعات الجهادية المتمردة من تلك التي ارتكبها الرئيس بشار الأسد. أخبرتني نورا: "ليس من المعقول تصديق أن قوة عظمى لا تستطيع فعل أي شيء". "الناس مصدومون من صمت العالم." وذهبت عمتها مها إلى أبعد من ذلك قائلة إنها تشتبه في أن الولايات المتحدة متحالفة مع الرئيس بشار، وكل ذلك كان جزءا من حرب ضد الإسلام نفسه.

 ومع انحسار صداقتهما التي كانت رائعة في الماضي، بدأت نورا وعلياء في إعادة النظر في الصداقة في ضوء وعي جديد في زمن الحرب. سلط كل منهما الضوء على التعليقات والحكايات الضالة التي بدت في ذلك الوقت غير ضارة ولكنها اتخذت الآن معنى جديدا شريرا. قالت نورا وهي جالسة في مقهى تركي ذات ليلة ما أدهشني: "أعتقد أن علياء وعائلتها أصبحوا شيعة". عندما سألتها ما الذي تعنيه، قالت إن علياء كانت تخبرها كثيرا عن حج والديها إلى النجف وكربلاء، مدينتي العتبات الشيعية في العراق. وأن علياء كان تتل وفي كثير من الأحيان اقتباسات من القرآن عن علي. قالت نورا إنها الآن تتذكر سماع شائعات بأن أسرة علياء كانت فقيرة، ثم فجأة أصبحت غنية. أصبح هذا الآن منطقيا بالنسبة لها: قيل إن الإيرانيين يدفعون للناس الأموال ليصبحوا شيعة. عندما فكرت نورا في الأمر، بدأت تشعر أن علياء كانت تقترح بمهارة على نورا أن تصبح شيعية أيضا. قالت نورا: "لم تكن واضحة للغاية بشأن ذلك، لكن الآن أعتقد أنها ربما كانت ستصبح أكثر وضوحا إذا أصبحت شيعية بالفعل".

لم يكن أي من هذا صحيحا. كان والدا علياء قد زارا النجف وكربلاء، مثل العديد من العلويين، لكنني لم أجد أي دليل على أنهم فكروا في التحول إلى الشيعة. لكن الحقائق لم تكن هي هذه النقطة. كان الأمر كما ل وأن الحرب ألقت بظلالها تدريجيا على نورا

أكثر الذكريات حميمية، وإعادة تشكيلها في قصة جعلت علياء أكثر من مجرد دمية في مسرحية أخلاقية طائفية. يقف خلف صديقتها ظل إيران، عد وأهل السنة.

من جانبها، كانت علياء أيضا تمشط ذكرياتها عن الصداقة ووجدت كل أنواع العلامات الخفية ولكن اللعينة. تذكرت أن والدة نورا قالت شيئا إيجابيا عن أسامة بن لادن. تذكرت أن نورا كادت أن تتزوج الأستاذ العجوز من الرستن، وه والسلفي المتشدد والوهابي. تذكرت أن نورا قالت شيئا عن "استعادة الأمة"، الأمة الإسلامية. ذات مرة، قالت لها نورا: "أنت لا تفهمين، لأنك لا تملكين معرفة عميقة بالدين". الأكثر إدانة من كل ذلك كانت الروابط مع المملكة العربية السعودية: إحدى عمات نورا تزوجت من سعودي. وكان شقيق نورا المراهق، كمال، قد التقى بصائغ سعودي كان يعلمه عن تجارة المجوهرات. أخبرتني علياء: "كان الأمر غريبا في ذلك الوقت، لكنني الآن أفهم السبب". كان صديقها وهابيا وسلفيا متشددا طوال الوقت. كان هذا أيضا خيالا، لكنه كان خيالا احتاجته، تماما كما كانت نورا في حاجة لها. تنتمي صداقتهما إلى عالم لم يعد منطقيا. لقد أعادوا تعريف بعضهم البعض، شيئا فشيئا، كأعداء.

***

.................

المصدر:

* فصل من كتاب اضطرابات الشرق الأوسط من ساحة التحرير إلى داعش.

A rage for Order , The Middle East Turmoil from Tahrir Square to ISIS , Robert F Worth , Farrar , Straus and Giroux, NewYork, 18 West 18th Street, New York 10011 Copyright © 2016 by Robert F. Worth All rights reserved First edition, 2016.

أطلقت "حماس" فجر السبت الموفق السابع من أكتوبر 2023 في الساعة السادسة والنصف صباحا، عملية "طوفان الأقصى" العسكرية ضد إسرائيل ردا على اعتداءات القوات والمستوطنين الإسرائيليين المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته ولاسيما المسجد الأقصى في القدس الشرقية.

وقد استمر التصعيد بين حركة حماس الفلسطينية والقوات الإسرائيلية بعد إطلاق حماس فجر السبت عملية "طوفان الأقصى"، وقد وردت تل أبيب بإطلاق عملية "السيوف الحديدية" متوعدة حماس بدفع ثمن هجومها، وخلفت الأعمال المسلحة حتى الآن حوالي ألف قتيل من الجانبين، بينما تستمر مساع دولية لوقف التصعيد. وحذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من "حرب طويلة وصعبة"، في حين صرح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية "نحن على موعد مع النصر العظيم.

نعم إسرائيل تختنق .. تحترق .. تحتضر .. ما بين انتصار مصرنا الحبيبة في عام 1973، وطوفان الأقصى في عام 2023، يبقى أكتوبر كابوسا للإسرائيليين.. يوما سيخلده التاريخ إلى الأبد .. إن السابع أكتوبر 2023، حيث أدخل الفرحة في قلوب ملايين العرب المسلمين وأذل الإسرائيليين، وذلك بعد أعلنت كتائب المقاومة بدء العملية العسكرية طوفان الأقصى من غزة واستهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية لإسرائيل، وكشفت إذاعة إسرائيل أن المقاومة الفلسطينية أسرت عشرات الإسرائيليين، والجديد هذه المرة هو القوة والجرأة الاستثنائية في عدة مشاهد موثقة بالصور ومقاطع للفيديو مذلة حقا للإسرائيليين، وأساليب في المواجهة لم يعتد العالم رؤيتها من الفلسطينيين.

ولذلك فقد تباينت واختلفت ردود الأفعال حيال عملية "طوفان الأقصى" على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصدر هاشتاغ طوفان الأقصى وغزة تنتفض وسائل التواصل الاجتماعي قابله في الجهة الأخرى هاشتاغ مغامرة غزة ومغامرة حماس.

وردا على ذلك أعلنت إسرائيل المذعورة لأول مرة منذ 1973 أنها في حالة حرب، وما أشبه الليل بالبارحة، فهل تتذكرون " جولدا مائير" عجوز إسرائيل المتعجرفة، تبدو مصدومة جدا، وتكاد تموت حسرة وهي تراقب عودة الأسرى في حرب السادس من أكتوبر، وهم يرتدون البيجامات الكستور التي فرضها عليها الرئيس المصري " محمد أنور السادات" في موقف مهين للجيش المصري الذي لا يقهر، وما لبث الإسرائيليون أن ينسوا هذا الموقف حتى ظهر الجنرال" نمرود ألوني" – قائد لواء بجيش إسرائيل، ولكن هذه المرة لم يظهر في صورته المعتادة، بل ظهر بملابسه الداخلية، وهو يتم أسره وجره في الشارع في موقف لا يصدق .

وعلى شاكلة هذه المشهد هناك مشاهد أخرى استثنائية أذلت الإسرائيليين، رأينها خلال عملية طوفان الأقصى الباسلة منذ فجر السبت الماضي في السابع من أكتوبر 2023، وقد العالم كله قد تفاجأ بهذه المشاهد التي لم يرها من قبل، إذ أسفرت عنم صدمة هائلة داخل أروقة تل أبيب وكبدتها خسائر فادحة على كل المستويات، تلك المشاهد تعد عرضا حيا للقدرات والبراعة الفلسطينية وتذكر العالم بأن الصمود والإرادة يمكن أن تحقق النصر رغم كل التحديات .

لقد اعتمدت كتائب المقاومة على تدريب المقاتلين الذين نفذوا العملية المباغتة داخل الأراضي المحتلة باستخدام المظلات، تلك العملية أسفرت عن مقتل جنود إسرائيليين وأسر آخرين، فقد أظهرت بعض اللقطات مقاتلا من المقاومة وهو يدخل المناطق المحتلة باستخدام المظلة، ما أصار الصدمة في قلب الإسرائيليين، كما تم الكشف عن تجهيز عددا من مقاتلي المقاومة في سرب "صقر" ، وهو واحد من الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية طوفان الأقضى .

ويعد ظهور وحدة سرب " صقر" في هذه العملية هو الظهور الأول لها، حيث إن هذه اللقطات غير المسبوقة في تاريخ المواجهات بين إسرائيل والفلسطينيين تُظهر الإتقان والجرأة الفائقة للمقاومة الفلسطينية.

والمشهد الثاني لا يقل إدهاشا حيث وثقت لقطات متداولة عملية الاجتياح الجريء التي نفذها المقاتلون الفلسطينيون في مستوطنات غلاف غزة حيث بلغ عددهم نحو ألف مقاتل فلسطيني اقتربوا من مستوطنات إسرائيلية مجاورة للقطاع بطريقة غير مسبوقة، ثم فجروا السياج الفاصل بين غزة والأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل في منطقة " خان يونس" .

هذا الاقتحام الجريء سمح للمقاومين الفلسطينيين بالدخول بسهولة إلى أراضيهم المحتلة حيث استخدموا دراجات نارية وسيارات في هذه العملية البطولية، بالإضافة إلى ذلك نجح المقاتلون في اقتحام العديد من المنازل داخل المستوطنات الإسرائيلية واحتجاز رهائن داخلها، وهو مشهد لم يشهده القطاع من قبل ما أظهر قوة وجرأة المقاومة الفلسطينية في هذه العملية التاريخية.

أما المشهد الثالث فقد أثار دهشة العالم بحق حيث قام عناصر من المقاومة الفلسطينية عشرات الإسرائيليين من المستوطنات الإسرائيلية نحو قطاع" غزة"، وبثت كتائب المقاومة قطع فيديو يظهر أسر مقاتليها ثلاثة رجال يرتدون ملابس مدنية قالت إنهم إسرائيليون، وظهر في مطلع فيديو العبارة التالية :" مشاهد أسر كتائب المقاومة عددا من جنود العدو ضمن معركة طوفان الأقصى ".

ويبدو من اللافت في خلفية الفيديو باللغة العبرية أن اللقطات أُخذت في الجانب الإسرائيلي، كما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بلقطات تظهر فيها جثث جنود بملابسهم العسكرية، إضافة إلى جثث أشخاصا وركاب على الطريق السريع، كما ظهر مقاتلوا كتائب المقاومة وهم يسيطرون على دبابة إسرائيلية ويخرجون منها أحد الجنود الإسرائيليين قبل أن يتم اقتياده إلى قطاع غزة، وظهر عدد من جنود اسرائيل وهم محاطون بمقاتلي المقاومة الذين نفذوا بنجاح عملية " طوفان الأقصى" .

ولاشك في أن المقاومة في غزة أبهرت العالم وتل أبيب باستخدامها لطائرات المسيرة حيث رأينا قصف طائرات المقاومة لدبابة إسرائيلية شرق قطاع غزة، وكان هذا المشهد مشابها التي نشاهدها في الحروب الحديثة مثل الحرب الروسية – الأوكرانية، وكذلك أظهرت لقطات مختلفة استخدام طائرة مسيرة أخرى من قبل المقاومة لاستهداف رشاش آلي يطلق النيران بشكل آلي نحو القطاع .

وردا على هذا الوضع أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية السيوف الحديدية في قطاع غزة حيث أعلن في بيانه أن طائراته بدأت بشن غارات في عدة مناطق بالقطاع على عدة أهداف، وقد أظهرت المواجهات الدائرة في قطاع غزة والأراضي المحتلة تطورا نوعيا في القدرات العسكرية والصاروخية لفصائل المقاومة الفلسطينية، وبالأخص بعد الفشل الذي كانت تسببه القبة الحديدية التي صنعها الاحتلال لإسقاط صواريخ المقاومة .

ولذلك فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في إطلاق آلاف الصواريخ في يوم طوفان الأقصى تجاه مدينة تل أبيب، ونجحت غالبتها في الوصول إلى أهدافها والتسبب في قتلي وإصابات وتدمير مبان، ومن أبرز تلك الصواريخ كان صاروخا يظهر للمرة الأولى  أٌطلق عليه اسم " رجوم" ، وهو صاروخ قصير المدى من عيار 114 ملم وهو الصاروخ الذي مهد الضربة الافتتاحية لطوفان الأقصى، والراجمة التي تطلق هذا الصاروخ تحتوي على 15 فوهة، أي أنها يمكنها إطلاق 15 صاروخا بشكل متتال، واستخدمت المقاومة عدة راجمات متجاورة للحصول على كثافة نيرانية كبيرة لتحييد بطاريات القبة الحديدية التي تقل فاعليتها كثيرا في حال إغراقها بالصواريخ وأيضا لإبقاء الجنود في المعسكرات الملاصفة لحدود قطاع غزة داخل ثكناتهم ومخابئهم حتى وصول المقاتلين المهاجمين.

أما عن ما قامت به غزة خلال عملية طوفان الأقصى ليس فقط انتصارا لها، بل انتصارا للمنطقة العربية وكل من يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان، فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مختلف الأقطار العربية تفاعل غير مسبوق وسادت حالة من الفرحة الكبرى افتخارا بالمقاومة الفلسطينية وغملياتها البطولية التي كانت في عثر دار إسرائيل وخلفت الرعب لدى جنودهم وشعبهم، كام تظاهر الآلاف في الأردن، واليمن، والمخيمات الفلسطينية في لبنان احتفالا بعلمية طوفان الأقصى التي أسفرت عن قتل وأسر عشرات الإسرائيليين، في حين أعلنت دول عربية وأجزاب سياسية ومؤسسات دينية عن دعمها لنضال الشعب الفلسطيني حتى النصر، وشارك المئا، كما طالبوا بطرد السفير الإسرائيلي وإغلاق السفارة، فاليوم هو يوم النصر، هكذا تعالت الأصوات مطالبة بتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.

وقد كشفت صحيفة «ذا صن» البريطانية أن رجال الإنقاذ في إسرائيل عثروا على 260 جثة كانوا قد تواجدوا في مهرجان موسيقي في إسرائيل خلال هجمات حماس وقال عدد من الحضور إن حماس قامت بقطع الكهرباء فتحت النار على المتواجدين خلال الحفل، ولكن ماذا حدث في هذا الحفل؟

ووصف الكثير من رواد الحفل ما حدث، وقالت أحدهم وفقًا لتقرير رصدته قناة bbc، إن صفارات الإنذار بدأت في العمل، بدأت مع بدء الهجوم وأعقبها إطلاق نار سريعا، وقالت الفتاة للقناة 12 الإسرائيلية: «لقد قطعوا الكهرباء وفجأة أطلقوا النار، وفتحوا النار في كل اتجاه" ؛ وقالت: حاول الكثير الفرار من الموقع، فركضوا عبر الرمال وصعدوا إلى سياراتهم للابتعاد، ولكن سيارات جيب كانت تنتظر في الخارج وتطلق النار على السيارات، وقال أحد رواد المهرجان، لصحيفة «هاآرتس» إطلاق النار كان بمثابة صدمة لقد اختبأنا تحت الأشجار وحاول الجميع الركض إلى مكان آخر، فيما قالت فتاة أخرى وفقًا لتقرير bbc إنها تظاهرت بالموت حتى أنقذها الجيش الإسرائيلي في النهاية، واختبأ العديد من رواد المهرجان، في الشجيرات وبساتين الفاكهة القريبة لساعات، على أمل وصول الجيش وإنقاذهم، وقال شاهد آخر للقناة 12 :"كان فيلم رعب مدته أربع وخمس ساعات... ركضنا بجنون، كان الأمر جنونيًا".. وللحديث بقية.

***

الأسٍتاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

..................................

المراجع:

1- قناة استيب: طوفان الأقصى" غزة تباغت إسرائيل بمشاهد لم يروها من قبل ولن ينسوها أبدًا!

2- أنظر مقال بعنوان من "طوفان الأقصى" إلى "السيوف الحديدية".. هكذا تستمر المواجهة بين إسرائيل وحماس.

3- أنظر مقال بعنوان هكذا تفاعل رواد مواقع التواصل مع عملية "طوفان الأقصى".

4- فاطمة محمد: «تظاهروا بالموت واختبأوا تحت الأشجار».. إسرائيليون يرصدون «حفلة الموت» لحظة طوفان الأقصى.. المصري اليوم .

الذهول هو سيد الموقف أمام الجميع.. فلا نحن ولا هم تخيل أن الجيش الإسرائيلى بهذه الهشاشة!

أروع ما فى الأمر أن يتزامن الانتصار الفلسطيني مع ذكرى نصر أكتوبر المجيد فى مصر.. لتتلاقى الفرحتان فى موسم واحد يجمع بيننا وبين أشقائنا فى فلسطين..  يوم الانتصار على العدو ..

مشاهد أسطورية..

ما حدث بالأمس وما زال يحدث هو أمر فى غاية العجب، ولم يُسبق أبداً مثله على مدار تاريخ الصراع العربى الإسرائيلي.. وهو ما يؤكد أننا أمام منعطف تاريخى له ما بعده..

من بعد طوفان ليبيا الذى أحزننا جميعاً، جاء الطوفان الذى أسعد كل العرب.. طوفان الأقصى. ساعات قليلة كانت كافية لتحدث المعجزة ونرى مشاهد تفوق الخيال.. السياج الإسرائيلى يندك والفلسطينيون يندفعون بالمئات ويتوغلون داخل المستوطنات، بينما المستوطنون يفرون مذعورين فى كل اتجاه لدرجة اختباء بعضهم داخل صناديق القمامة!

  يوم واحد كان كافياً لنشهد نتائج انتصار مؤكد سيتحاكى به العالم لسنوات قادمة، حتى لو أن العدو الصهيونى قام برد فعل غشيم كعادته فسيظل انتصار السابع من أكتوبر 2023 يوماً من أيام التاريخ وأن ما بعده ليس كما كان قبله..

  إننى لا أبالغ فيما ذهبت إليه من مزاعم؛ وتعالوا أشرح لكم أدلة مزاعمى تلك.. أولها أن الفلسطينيين جميعهم توحدوا في ذلك الحراك الفجائى، فمهما بدأت فصائل المقاومة ضربتها الأولى لكن تبعهم جميع الفلسطينيين شباباً وشيوخاً وأطفالاً بلا وجل أو تردد.. وهو ما جعل الوحدة التى يبحث عنها الجميع تحدث فى الميدان.. فجأة وبدون سابق إنذار وجد المستوطنون اليهود سكان فلسطين يعودون لأراضيهم المسلوبة، ويتجولون فى الساحات والميادين فى قلب إسرائيل! فكيف ومتى جاءوا؟

حدث الهجوم الفجائى بالتزامن براً وجواً .. جرافات أزالت الحواجز، وانطلق الرجال على دراجاتهم الهوائية أو مشياً على الأقدام، فى نفس الوقت الذى هبطت فيه مظلات مبتكرة بدون طائرات تحمل مقاتلين أشداء مدربين وصلوا إلىى العمق الإسرائيلي فى غياب الدفاعات الإسرائيلية.. وعلى نفس طريقة حرب السادس من أكتوبر اختارت المقاومة يوم السبت لهجومها المباغت ما يشي بتخطيط محكم سبق الهجوم التكتيكى البارع..

وفى يوم واحد انطلقت قذائف صاروخية تجاوز عددها 7000 قذيفة على رأس العدو الصهيونى، فكانت نتيجة كل هذا الهجوم المتزامن الكاسح سقوط ما يربو على700  قتيل ، وألفى مصاب بخلاف عشرات الأسرى منهم ضباط وقادة لجيش الكيان الإسرائيلي المحتل! فهل سمعتم من قبل عن مثل هذا الانتصار الفلسطينى فى مثل هذا الزمن القصير؟

وتلك فقط البداية

اللقطات القليلة المتفرقة التى سجلتها الكاميرات وبثتها وسائل الإعلام تؤكد أننا أمام ملحمة هائلة..

أهم وأعظم ما فى تلك الملحمة التكتم الشديد الذى يشي بعمل مخابراتى فائق البراعة أوصل المقاومة الفلسطينية إلى اقتحام العمق الإسرائيلي فى غفلة تامة من سائر أجهزته.. ولا أكاد أبالغ أن الفشل الاستخباراتى الإسرائيلي فى هذه الملحمة لا يقل أثراً عما حدث قبيل حرب أكتوبر المجيدة..  نفس الفشل والانهزام لجيش الاحتلال.. وسوف تكون ثمة محاسبة شديدة لكافة القادة الإسرائيليين الذين تسببوا فى هذا الفشل، تماماً كما حدث فى أعقاب انتصار 73..

(على نفسها جنت براقش).. هذا ما ينطبق على إسرائيل التى بدأت بالعدوان على قطاع غزة والأقصى، وسدرت فى غيها ببناء مستوطنات جديدة فى القدس رغم تحذيرات المجتمع الدولى. وانبرت تعتدى على الجميع داخل مخيمات جنين بلا أى وازع إنسانى ..  وظنوا أن كل هذا الاعتداء والبغى سيمر مرور الكرام وأن توسعهم فى بناء المستوطنات سيدفع اليأس فى قلوب الفلسطينيين، حتى فوجئوا بما لم يكن فى الحسبان..

بإمكانيات متواضعة وعزائم جبارة تحركت الفصائل الفلسطينية فى ثقة واقتدار لتصنع المعجزة تجاه ترسانة إسرائيلية مدججة بالسلاح والعتاد وقفت عاجزة مذهولة أمام الاقتحام المباغت. وأول الساقطين أمام الهجوم الكاسح كانت هيبة الجيش الإسرائيلي التى انكسرت كالقشة، قبل أن يسقط جنود الاحتلال كالذباب قتلى وجرحى وأسرى.. فى الوقت الذى اشتعلت فيه مركباتهم ودبابات الميركافا المتطورة وكأنها صفائح خردة أو هياكل فارغة بلا جنود يقودونها أو قل يحتمون بها!!

ردود الفعل العالمية تفاوتت لكنها جميعاً تؤكد أن ما فعله الفلسطينيون فى هذا اليوم سيكون درساً قاسياً يتذكره الإسرئيليون مدى الحياة فى أسوأ كوابيسهم التى يبدو أنها ستزداد فى المستقبل!

فرار القطيع ..

مشاهد الفرار كانت أبرز المشاهد وأكثرها دلالة على الفارق بين صاحب الحق واللص المغتصب..

فرغم أن الفلسطينيين أكثرهم كان أعزلاً من السلاح وقد اقتحموا المستوطنات بصدور عارية، إلا أن المستوطنيين الصهاينة فروا لمجرد مرآهم أمامهم، فلماذا كل هذا الذعر؟ السبب أنهم يعلمون أن أصحاب الحقوقجاءوا ينشدون استعادة حقوقهم المسلوبة.. وفى مطار بن جوريون اندفع الهاربون الفارون ينشدون اللحاق بأى طائرة ذاهبة لأى مكان إلا فلسطين المحتلة! وصفارات الإنذار باتت كغربان تنعق بالشؤم على آذان طالما صُمَّت عن صوت الحق.

كل هذا حدث ولما يبلغ عدد المقتحمين الفلسطينيين بضع عشرات، فما بالنا لو اتسعت الدائرة وزاد العدد إلى مئات وألوف، فكم عدد الفارين وقتها؟ إننى أرى أن استمرار المعارك بهذه الوتيرة سوف يسفر فى أدنى حالاته عن هجرة جماعية قادمة تخصم من تعداد إسرائيل عدة آلاف، أكثرهم من أثرياء اليهود الخائفين على مصالحهم وأموالهم.. ومثل هذا الأمر سيغير موازين الصراع القادم.

أبرع خطة ..

قالها الرئيس السادات قبل ذلك، إن السلام لا يُنال إلا على أطراف البنادق..  ولولا حرب أكتوبر ما جاءت معاهدة السلام. وهكذا الحال فى فلسطين المحتلة..  سوف تأتى المفاوضات وتحدث الهدنة عاجلاً أو آجلاً، لكنها ستأتى هذه المرة من موقف القوة والأنفة والكرامة..

 معركة صغيرة قصيرة نعم..  لكنها أحدثت زلزلة عظيمة سيتردد صداها إلى أبعد مدى.. المقاومة الفلسطينية أحكمت سيطرتها على مقاليد الأمور فى بضع ساعات، ولابد أن هذا الفعل الخارق سبقه إعداد هائل دام عدة شهور..  إنه تراكم خبرات اكتسبته المقاومة على مدار سنوات طويلة من المعارك كان الانتصار فيها جميعاً لصالح المقاومة، وإن كان الانتصار هذه المرة هائلاً عظيم الأثر..

الهجوم جاء مركزاً على قاعدة رعيم التابعة للمنطقة الجنوبية وفرقة غزة الإسرائيلية المكونة من 20 ألف جندى.. وخلال الضربة الأولى المباغتة تمت السيطرة على قطاعات واسعة بعد شل قدرات الفرقة وأسر قائدها وإحراق عدد من الدبابات.. كل هذا تم تحت غطاء نارى كثيف من صواريخ وقذائف كان الهدف منها شغل العدو بالهجوم الصاروخى، بينما السيطرة الحقيقية تتم على الأرض من خلال هجوم برى وجوى مزدوج! ولم تستطع إسرائيل الرد على المقاومة باستراتيجية "حنبعل" المكشوفة بقصف أماكن تجمعات المقاومة حال الكر والفر، أما هذه المرة حال العدد الهائل للأسرى من الجنود والمستوطنين دون اتخاذ رد فعل عنيف قد يودى بحياة هؤلاء الأسرى.. إننا أمام تخطيط محكم محسوب تلافَى كل أخطاء وعيوب الخطط السابقة عليه.. فى هذه المعركة السريعة البارعة كسرت المقاومة الفلسطينية حاجز المستحيل وسطرت تاريخاً جديداً للمقاومة ومنعطفاً يسير بالصراع العربي الإسرائيلي نحو نهاية لن تكون أبداً فى صالح  إسرائيل .

***

د. عبد السلام فاروق

قبل سبع سنوات نشر الصحافي الإسرائيلي الصهيوني آري شافيط مقالة متشائمة ويائسة يدعو فيها الى الرحيل من إسرائيل ومراقبتها من الخارج وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وتساؤل ألم يفت الوقت على البدء بتطبيق سياسة سماها "الطريق الثالث" لإنقاذ إسرائيل بوسائل وسطية تقوم على (إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وإعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض)، ولكن مشكلة شافيط هي أنه يدور في داخل القوقعة الأيديولوجية الصهيونية نفسها، ويريد إنقاذ إسرائيل الصهيونية بوسائل صهيونية فهدفه كما يقول هو قيام (دولة يهودية تعكس حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره. ديمقراطية تحترم جميع حقوق مواطنيها. دولة قوية تعرف كيف تتعامل مع البيئة الوحشية التي نعيش فيها. دولة حديثة ستمكن كل طفل يولد هنا من العيش بكرامة في أمة هي جزء من العالم الحر في القرن الحادي والعشرين)، وهذا هو الهدف الذي فشل في الوصول إليه اليسار واليمين الصهيونيين. وإذن فلا حل إلا بحلها، حل الدولة اليهودية الصهيونية وقيام دولة فلسطين الديموقراطية! إن إسرائيل الصهيونية تعيش منذ يومين تمرينا أوليا صغيرا على الزوال من الأطلس العالمي بعد أن عذبت شعب فلسطين طَوال 75 عاما وحاولت اقتلاعه من وطنه وألقت بنصفه في مخيمات اللجوء، وأقامت دولة توراتية خرافية أيديولوجية مليشياوية مسلحة بقنابل نووية!

نعم، هي دولة مليشياوية مسلحة إذا كان أغبياء الليبرالية العربية يجهلون ذلك، دولة مليشياوية دموية أسستها خمس مليشيات دموية هي:

1-مليشيا هاغاناه (الدفاع)،

2-مليشيا شتيرن (ليحيى) أسسها البولندي أبراهام يائير وكانت تفضل التحالف مع الحركة النازية،

3-منظمة إرغون (المنظمة العسكرية القومية في إسرائيل)

4- مليشيا بيتار التي تأسست في لاتيفيا ونشطت في فلسطين،

5- سرايا بلماح (سرايا الصاعقة).

إن تنبؤات شافيط بأن تلفظ هذه الدولة أنفاسها ستجد طريقها الى التحقق على أرض الواقع فهذه الدولة المسخ الخرافية لا مستقبل لها، وستزول بل لقد بدأت بالزوال الفعلي ولن ينقذها لا شافيط ولا التطبيع مع دويلات التخلف والاستبداد العربية. أدناه فقرات من مقالة شافيط:

* ربما ضاع كل شيء. ربما تجاوزنا نقطة اللاعودة. وربما لم يعد من الممكن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام. وربما لم يعد من الممكن إعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض.

* ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلم يعد هناك أي معنى للعيش في هذا البلد. ولم يعد هناك أي معنى للكتابة لصحيفة هآرتس. ولم يعد هناك أي معنى لقراءة صحيفة "هآرتس" أيضًا. ويتعين علينا أن نفعل ما اقترحه روجيل ألفر قبل عامين: مغادرة البلاد. يبتعد.

* إذا لم تكن الإسرائيلية واليهودية عنصرين حيويين في هويتنا، وإذا كان لدينا جواز سفر أجنبي ليس فقط بالمعنى الفني بل بالمعنى الروحي - فهذا كل شيء. يجب أن نقول وداعًا لأصدقائنا، ونحزم حقائبنا وننتقل إلى سان فرانسيسكو أو برلين.

* ومن هناك، من أرض الشوفينية الألمانية الجديدة أو أرض الشوفينية الأميركية الجديدة، علينا أن نراقب بهدوء إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. يجب علينا أن نخطو ثلاث خطوات إلى الوراء ونشاهد الدولة اليهودية الديمقراطية تغرق في غياهب النسيان. ولكن ربما لم نفقد كل شيء. ربما لم نتجاوز بعد نقطة اللاعودة. وربما لا يزال من الممكن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وإعادة تأهيل الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الأرض.

***

علاء اللامي

.....................

*رابط مقالة آري شافيط هآرتس بتاريخ 8 أيلول 2016:

https://www.haaretz.com/opinion/2016-09-08/ty-article/.premium/the-third-way-for-israel/0000017f-e874-dc7e-adff-f8fd80380000

العملية الفدائية التي قامت بها كتائب القسام واحتلت خلالها عدة مستوطنات في غلاف غزة وقتلت وأسرت المئات من الإسرائيليين كانت مفاجئة للجميع من حيث التوقيت وحجمها وخسائر العدو وتأثيراتها النفسية على الإسرائيليين والفلسطينيين أيضا تداعياتها السياسية المتوقعة فلسطينياً وعربياً ودولياً.، كما ستكون ردة فعل إسرائيل قوية وعنيفة ومختلفة عن حروبها السابقة على القطاع.

خلال اليومين السابقين غطت غالبية الفضائيات ووكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينية والعربية ما يجري وأسهبت في إظهار بطولات المقاومين الفلسطينيين وكيف أسقطوا ببطولاتهم كل المراهنات والأوهام التي روجت لها حكومة اليمين الصهيوني كالزعم بانتهاء القضية الفلسطينية وتطويع حركة حماس في غزة والسلطة في الضفة للأمر الواقع، وهو الأمر الذي ساعدها على ترويج روايتها الصهيونية عربياً ودولياً وعلى أساسها جرت عديد الدول العربية للتطبيع والتخلي عن الشعب والقضية الفلسطينية، أو الزعم بأن الشعب الفلسطيني منقسم على نفسه وصراعاته الداخلية تطغى على صراعه مع الاحتلال الخ.

 إعلان إسرائيل حالة الحرب رسمياً وهو ما لم يحدث منذ حرب أكتوبر1973، وإعلان واشنطن وعلى لسان الرئيس بايدن في مؤتمر صحفي خاص بأحداث غزة بأن واشنطن تقف بكل حزم الى جانب إسرائيل وتضع كل امكانياتها المالية والعسكرية لدعمها وهو ما أكد عليه وزير الخارجية بلينكن وترسل حاملة طائرات للمنطقة، هذا يعني أن الأمور لن تقتصر على رد الاعتبار لهيبة الجيش الإسرائيلي من خلال عملية محدودة في غزة بل هي مؤشرات على تداعيات استراتيجية للحرب تتعلق بالقطاع ومستقبل حركة حماس في غزة وعلاقة غزة بإسرائيل، كما تحمل تحذيراً لأطراف أخرى فيما لو تدخلت في الحرب كحزب الله أو إيران، أو تدهور الوضع الأمني في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر.

الى الآن لا يبدو أن الحرب ستتطور لحرب إقليمية حتى على مستوى حزب الله، لانشغال (محور المقاومة) بمشاكل داخلية وتعرض أطراف المحور لضغوط دولية والخوف من الانزلاق لحرب لن تكون مع إسرائيل فقط بل مع واشنطن والغرب عموماً، مع اعتقادنا بوجود تهويل في دور ايران ومحور المقاومة فيما يجري في غزة وعموم فلسطين للتغطية على فشل إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية والإهانة التي تعرضت لها في عملية (طوفان الأقصى)، وبالتالي ستقتصر الحرب الآن على جبهة قطاع غزة و إسناد شعبي من فلسطينيي الضفة وستكون حرباً صعبة تمتد لأيام وأسابيع ستغير المعادلة في قطاع غزة وربما في الشرق الأقصى.

مع أن حركة حماس ثبتت نفسها كرقم صعب وأساسي في المعادلة الفلسطينية الداخلية، ومع أهمية ودراماتيكية عملية حماس وبطولة مقاتليها إلا أن الاحتلال الكبير في ميزان القوى يميل كثيراً لصالح الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات عن هدف حركة حماس من القيام بهذه العملية النوعية وهي تعرف الاختلال في موازين القوى لصالح العدو كما تعرف بأن محور المقاومة لن يتدخل بشكل مباشر؟  أيضا تساؤلات حول مستقبل قطاع غزة وحركة حماس بعد الحرب؟

ما قامت به حركة حماس فعل طبيعي وحق مشروع لحركة مقاومة ضد الاحتلال إلا أن العملية الفدائية تدخل في سياقات أخرى نظرا لتموقع حركة حماس كحكومة وسلطة تحكم في قطاع غزة وتتعامل معها عديد الدول على هذا الأساس، حتى إسرائيل ولسنوات تتعامل معها وتنسق معها بطريقة غير مباشرة كسلطة أمر واقع بل إن نتنياهو اعترف أكثر من مرة بأن وجود حماس في السلطة في القطاع يخدم مصلحة استراتيجية لها، فما الذي تغير وكيف ستؤول الأمور؟

استمعنا في اليوم الأول للحرب خطابات القائد العسكري محمد الضيف ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري وكلها أكدت أن عملية (طوفان الأقصى) جاءت كردة فعل على انتهاك المسجد الأقصى وإرهاب المستوطنين وأنها تهدف لتحرير الأقصى وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي! وهو نظرياً هدفاً مشروعاً، ولكن كيف سيحدث ذلك عملياً في ظل وجود حماس في السلطة في غزة ووجود سلطة أخرى في الضفة والحالة المتردية للعالمين العربي والإسلامي وعدم وجود عملية سياسية للسلام، ثم صدور تصريحات لاحقة من المقاومة بعد أسر مئات الإسرائيليين بأن الهدف مفاوضات لتبادل الأسرى، فهل ستؤول الأمور لمفاوضات بين حماس وإسرائيل تكون فيه حماس في موقع القوة لفرض شروط على العدو في أمور تتعلق بواقع ومستقبل قطاع غزة وتثبيت سلطتها؟ أم سيتجاوز ذلك لتغيير المعادلة كليا على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

 إن كان من السابق لأوانه الحسم في نتائج الحرب ومدى قدرة المقاومة الفلسطينية على تحقيق أهدافها الاستراتيجية في هذه المرحلة من الحرب التي ما زالت في بدايتها وتداعياتها الإقليمية غير واضحة وحجم وأهداف ردة الفعل الإسرائيلية غير واضحة أيضاً، وما زال من غير الواضح هل تريد إسرائيل انهاء الدور الوظيفي لحماس في القطاع وإحلال سلطة فلسطينية بديلة أو مجرد إضعافها وتدمير قدراتها العسكرية كلياً مع الحفاظ عليها كسلطة للحفاظ على حالة الانقسام الفلسطيني؟ إلا عملية (طوفان الأقصى) حققت إنجازات معنوية وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، إلا أننا نأمل من فصائل المقاومة الحذر من مخطط إسرائيلي سيتم تنفيذه بعد حرب برية مدمرة على القطاع حيث يتم استدعاء تدخل دولي يؤدي لمرابطة قوات دولية على حدود القطاع وقطع التواصل والعلاقات كليا. مع القطاع ورميه في أحضان مصر، وخصوصا بعد اقتحام المقاتلين الفلسطينيين للمعابر بين القطاع ودولة الكيان وبالتالي مع بقية فلسطين، واحتمال عدم فتحها مرة أخرى.

***

د. إبراهيم أبراش

إن الانتصار البطولي الذي حققته المقاومة الفلسطينية في صفوف الاسرائيليين بقيادة الجناح العسكري لقسام في غزة، كان بمثابة تحول جديد في الصراع الفلسطيني -الاسرائيلي من الناحية التوقيت والجهوزية الاستباقية التكتيكية. وهذا العمل يشهد للمقاومة الفلسطينية به. وقد قال رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتانياهو بالامس، إننا في حالة حرب ولسنا في عملية عسكرية وذلك في اول تصريحات له في عملية طوفان الاقصى. إن هذه العبارة لها مدلول كبير وبخاصة، أن العملية تتزامن مع احداث اقليمية مهمة في سوريا وصفقة التطبيع السعودي مع اسرائيل. فهل تنذر عملية الطوفان بحرب شاملة في المنطقة؟

بداية لا بد ان نشير الى أن هذه المقاومة الفلسطينية موجود قبل ايران وقبل حزب حزب، فلا حاجة للقول بأنها مدعومة من قبل ايران وربط الصراع الفلسطيني بعناصر مستجدة . ثانية، لا بد ان نشير إلى أن ما حدث يوم السبت يعتبر خرقاً غير مسبوقاً للكيان الاسرائيلي من خلال قتل 150 قتيلا و2000 جريح في قطاع غزة ومنهم قيادات اسرائيلية تم اعتقالهم واسرهم. إن هذا الخرق الامني والاستخباراتي يعد عملية نوعية ومهمة جدا بفعل استخدام حماس السلاح السيبراني والاسلحة المتقدمة في العملية. ما شكل حالة ارباك لدى دولة الاحتلال على كافة المستويات الامنية والاستخباراتية، الامر الذي قد يقود اسرائيل نحو تغيير قواعد الاشتباك.

وفي تصريح لصحيفة نيويورك تايمز التي افادت: "بأن هجوم حماس الواسع كشف اخفاقات كبيرة لمؤسسة الدفاع الاسرائيلي".

وبالتالي، وسط هذه الاجواء من التصعيد والمواجهة ما حدود الرد الاسرائيلي على عملية طوفان الاقصى؟

ربما تتشابه احداث الطوفان بعملية خط برليف عام 1973، غير ان الظروف ومعطيات اليوم تختلف عن السابق بفعل العديد من المعطيات الموضوعية. كما ان الاعلام العسكري متقدم جدا في نقل الصورة والحدث بدقة ووضوح ، فلا مجال للتشكيك والظنون، وبخاصة اننا نعيش في قرية صغيرة منكشفين اعلاميا على كل شيء. فما المتوقع في الايام القادمة: هناك سيناريوهان لا سواهما، الاول: ان تكون ردة فعل الكيان الاسرائيلي محدودة تقتصر على عملية التصفية في صفوف الفلسطينين وقيادة حماس كما جرى في عمليات سابقة ايام عملية مخيم جنين ومن ثم التفاوض حول ملف الاسرى. ثانيا، الخوف من انتقال المعركة نحو حرب شاملة يتم من خلالها فتح الحدود البرية وبخاصة، أن السيد حسن نصرالله قد توعد بفتح الجبهة البرية اللبنانية فيما لو اقدم العدو على فتح جبهته البرية. ما يعني أننا دخلنا في حرب شاملة تشمل لبنان وسوريا وبخاصة ان الاحداث في الشمال السوري باتت اكثر تعقيدا وبخاصة ايران تتعرض لضغوطات قوية جدا ما يؤشر كذلك على احتمالية دعمها للمقاومة الفلسطينية بهدف التصعيد ورفع حالة الاستنفار والتأهب في المنطقة. وكذلك، في لبنان على خلفية النزوح السوري الامر الذي ينذر باجتياح اسرائيلي جديد الى لبنان لفرض واقع جديد وبخاصة انه يتم التحريض في لبنان نخو دعوات الدخلات خارجية وسط خطاب عنصري يستهدف من خلاله النازحين السوريين، ما قد يؤدي الى اشتباكات طائفية مسيحية - سنية -شيعية محتملة ومواجهات أمنية كالتي وقعت في منطقة كل من الكحالة والطيونة.

بالختام، ما يجري اليوم من احداث متزامنة وملتهبة تفتح الصراع على سينارويهات عديدة محتملة وذلك لانعدام الحلول وتفاقم الازمات والصراعات العميقة التي لا تستجيب فيها الانظمة العربية الى اصوات شعبها المهجورة والمشرد.

***

كتابة: أورنيلا سكر - صحافية وباحثة متخصصة في العلاقات الدولية

مديرة موقع أجيال قرن ال٢١

أعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في كلمته في منتدى "فالداي" للحوار، عن إمكانية سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية CTBT، وهذا يرجع وفقا لبوتين إلى عدم وجود إجراءات مماثلة من جانب الولايات المتحدة، وانه يجب أن يتخذ مجلس الدوما هذا القرار، هذا الإعلان أثار وكما أفادت وكالة رويترز، قلق في الخارجية الأمريكية، إزاء خطط روسيا لسحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ونقلت عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، في بيان نقلته الوكالة "نحن نشعر بالقلق إزاء مثل هذا التحرك من قبل أي دولة مشاركة، ويعرض للخطر دون داع المعايير العالمية التي تحظر تجارب التفجير النووية"، وتزعم واشنطن، بأن موسكو تريد زيادة الضغط على الدول الأخرى حتى تتوقف عن مساعدة أوكرانيا.

وبشأن الوضع الحالي للسلامة النووية العالمية، فإن العقيدة العسكرية الروسية وكما اوضحا الرئيس بوتين، تسمح لسببين لاستخدام الأسلحة النووية، "الأول هو الاستخدام ضد روسيا، أي أنها ضربة انتقامية"، والثاني هو "تهديد لوجود الدولة الروسية، حتى لو تم استخدام الأسلحة التقليدية ضد روسيا، ويعرض ذلك وجود روسيا ذاته للخطر "، بالإضافة إلى ذلك، وعن إمكانية العودة إلى التجارب النووية، وللتذكير فإن الولايات المتحدة، مثل روسيا، وقعت على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية CTBT ، ولكن على عكس موسكو، لم تصدق واشنطن أبدًا على هذه الوثيقة، ويشدد الرئيس الروسي على أن بلاده تختبر بنجاح أنواعا حديثة من الأسلحة الاستراتيجية.

وسؤال المراقبون يكمن في مدى إلحاح الحاجة اليوم إلى تغيير القواعد الراسخة في اتجاه خفض عتبة التصعيد المسموح بها إلى "شركاء رصينين"، وهل روسيا بحاجة إلى تغيير هذا؟ ولأي غرض؟ فالرئيس الروسي، أشار في حديثه إلى أن كل شيء يمكن تغييره، وأنه لا يرى ضرورة لذلك، وفي رأيه، في الوقت الحالي “ ولا يوجد مثل هذا الوضع” الذي تواجه فيه روسيا تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، وانه أطلق على هذه التطورات اسم Burevestnik وSarmat وأن الخبراء يتحدثون عن ضرورة إجراء اختبارات نهائية، لكنه ( بوتين ) غير مستعد للقول "هل نحتاج حقا أم لا" لتنظيم مثل هذه الأحداث.

ان موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، في 24 سبتمبر عام 1996، منعت بموجبها الوثيقة، إجراء تفجيرات تجريبية للشحنات النووية، وكذلك التفجيرات النووية للأغراض السلمية، وينطبق الحظر على كافة المجالات (في الجو، في الفضاء، تحت الماء وتحت الأرض) وهو مطلق وشامل الطابع، ولكن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، لأن الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل وإيران والصين لم تصدق عليها، ولم توقع عليها الهند وكوريا الشمالية وباكستان.

الرئيس الروسي رمى بكرة المعاهدة، وإمكانية سحب التصديق عليها الى مجلس الدوما (البرلمان)، الذي أكد رئيسه، فياتشيسلاف فولودين، إن اقتراح الرئيس بوتين، سيتم النظر فيه في الاجتماع القادم لمجلس دوما الدولة، مبررا ذلك " بوجود تغير في الوضع العالمي "، والإشارة إلى أن تحديات اليوم تتطلب حلولاً جديدة، ووفقا لفولودين، فإن مراجعة وضع المعاهدة "تتوافق مع المصالح الوطنية لدولتنا"، بدوره، أكد السكرتير الصحفي للرئيس دميتري بيسكوف، أن المراجعة المحتملة لوضع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لا تعني أن موسكو تعتزم إجراء تجارب نووية، وبشكل عام، فإن سحب التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية هو القرار الصحيح برأيه، ولم تكن جميع الدول التي تمتلك مثل هذه الأسلحة مستعدة لاتباع أحكام هذه الوثيقة، وقال السيناتور كونستانتين دولغوف من جانبه، ان "الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تصدق قط على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لأنها لا تريد تقييد يديها بالقيود"، ومع ذلك، فإن القرار المحتمل، إذا تم اتخاذه، لا يهدف إلى تنفيذ محاولة للتأثير على واشنطن، بل إلى ضمان أمن الدولة في روسيا، كما أن هذا الإجراء يجب أن يتوافق مع الواقع الحالي ويسمح لموسكو بتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل كبير.

وبدورهم يؤكد الخبراء الروس، ان روسيا تتصرف دائمًا بمسؤولية كبيرة في هذا المجال، وبالإضافة إلى ذلك، فإن سحب التصديق لا يعني أنها ستبدأ على الفور إجراء تجارب نووية، ولكن في الوقت الحالي، فان روسيا تفكر فقط في مثل هذا الاحتمال، ولكن لم تبدأ في تنفيذه، وتهدف التدابير الانعكاسية إلى تحقيق ذلك في ضوء سلوك الولايات المتحدة، ومع ذلك، هناك آراء أخرى، حيث يرى عدد من الخبراء أن إحجام الولايات المتحدة عن التصديق على المعاهدة خاطئ بشكل واضح، إلا أن قرار موسكو المحتمل بإلغاء التصديق، في رأيهم، يمكن أن يزيد أيضًا من المخاطر في مجال الأمن النووي العالمي، وأكد أليكسي أرباتوف، رئيس مركز الأمن الدولي في IMEMO RAS، في مقابلة مع صحيفة كوميرسانت، أن هذه الخطوة يمكن أن تساهم في تدمير "النظام بأكمله المبني حول معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية".

ويُعتقد أن سحب التصديق يمكن أن يسبب سلسلة من ردود الفعل، لأن الدول الأخرى يمكن أن تراجع وضع الوثيقة خلف موسكو، ويشار إلى أنه إذا حدث ذلك، فإن معاهدة حظر الانتشار النووي ستنهار أيضًا، لأن أحد أهم ركائز نظام عدم الانتشار هو حظر التجارب، وأنه بهذه النتيجة يمكن أن تظهر دول أخرى كثيرة في العالم تمتلك مثل هذه الأسلحة المدمرة، أما أليكسي أنبيلوغوف، الخبير في مجال الطاقة النووية، فهو أكثر تفاؤلاً، ويعتقد أن الحاجة إلى إعادة النظر في حالة مشاركة روسيا في معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ناجمة عن عدم التناسب في الأنظمة القانونية الحالية فيما يتعلق بالتجارب بين روسيا والأعضاء الآخرين في النادي النووي وأولئك الذين ليسوا أعضاء فيه.

وتنطلق واشنطن من منطق بسيط، ان كل الاتفاقيات التي تشارك فيها الولايات المتحدة يجب أن تفرض مسؤولية أكبر على منافسي أميركا، أي أنهم يحاولون تحقيق الحد الأقصى من العدو المحتمل، ويشير الخبراء أيضًا إلى أنهم ينصون في عقيدتهم للأمن القومي على أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ليس فقط في حالة وجود تهديد وجودي للدولة، ولكن أيضًا "في حالات خاصة "، وفي الوقت نفسه، لا ينبغي اعتبار مثل هذه الخطوة من جانب موسكو بمثابة استعداد سريع لبدء اختبار الأسلحة الاستراتيجية، وبصراحة، فإن الحاجة إلى هذه الاختبارات اليوم أقل إلى حد ما مما كانت عليه في الفترة السوفيتية.

ومع ذلك، فإن سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية يمنح روسيا فرصة نظرية لإجراء اختبارات، وهو ما له في حد ذاته تأثير قوي على مظهر النظام الأمني العالمي، وبطبيعة الحال، يظل الحظر المفروض على إجراء التجارب في الجو وتحت الماء وفي الفضاء قائما، ولكن هذا يفتح الفرصة لتنظيم أحداث مماثلة تحت الأرض، ويؤكد أنبيلوغوف، ان هذا النوع من الاختبارات ينظمه البروتوكول الإضافي لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وبالتالي، فإن الإنهاء المحتمل للوثيقة الرئيسية أو تقييدها سيعفي موسكو من مسؤولية الامتثال للوقف الاختياري المصاحب، وربما توافق روسيا على تنفيذ تفجيرات معزولة تحت الأرض، لذلك فإن هذا لن يتحول إلى نشاط منهجي لروسيا .

وبناء على ذلك، فإن روسيا، بسحبها التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، تعرب عن قلقها البالغ إزاء تصرفات الولايات المتحدة، وهذا القرار يمنحها الحرية في إطار أنشطة محددة لاختبار الأسلحة الاستراتيجية، إذا لزم الأمر، وتشير المعلومات الى أن شركة "Gton" تجد نفسها في دور "اللحاق بالركب" في المجال النووي، سياسيًا وعسكريًا تقنيًا، وهذا يعد تغيير خطير في وضع الولايات المتحدة، والذي يمكن أن يؤثر حقًا على نظرتها للعالم، وبالتالي فإن موسكو، وبطريقة حضارية للغاية، تلمح لخصمها حول مراجعة نوعية للحقائق القائمة، و"من المحتمل جدًا أن يكون لهذا تأثيرًا تنبيهيًا على السياسيين الأمريكيين"، في الوقت نفسه، لا داعي للخوف من أن إلغاء التصديق سيؤدي بأي شكل من الأشكال إلى تدمير نظام السلامة النووية القائم، وإن انتشار مثل هذه الأسلحة يحدث بغض النظر عن الأنظمة القانونية التي تخضع لها روسيا، وللتذكير فإن إسرائيل والهند وباكستان تلقت هذه التقنيات كجزء من التفاعل المباشر مع الدول الغربية.

ومع ذلك، لا يزال الحل المحتمل الذي تقترحه موسكو يواجه عدداً من الصعوبات، أولا وقبل كل شيء، سيخلق واقعا جديدا في إطار توازن الأمان النووي، وهو في حد ذاته غير آمن، لكن واشنطن أجبرت موسكو على هذه الخطوة، وإن عدم الرد على تصرفات الولايات المتحدة المتهورة سيكون خطأ كبيرا لا يمكن ارتكابه، في المقابل فإن القرار المحتمل، إذا تم اتخاذه، لا يهدف إلى تنفيذ محاولة للتأثير على واشنطن، بل إلى ضمان أمن الدولة في روسيا، وأن هذا الإجراء يجب أن يتوافق مع الواقع الحالي، ويسمح لموسكو بتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل كبير، دون أن يسبب أي ضرر للأمن العالمي، وفي النهاية، فان روسيا تعلن فقط عن استعدادها لاتخاذ الإجراءات الأكثر صرامة فقط في حالة وجود تهديد وجودي للدولة، وأن خصومها الغربيون يتخذون إجراءات مدمرة حقًا فيما يتعلق بالاستقرار النووي.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

بعد خمسين عام حرب أكتوبر / تشرين بنسخة فلسطينية حمساوية

 قبل خمسين سنة وفي السادس من أكتوبر ١٩٧٣ فاجأت القوات المصرية إسرائيل باقتحام التحصينات في سيناء وحطموا خط بارليف المنيع، وكانت مفاجأة أذهلت الجيش والاستخبارات الإسرائيلية وكانت خارج حسابات المراقبين والمحللين السياسيين، لأنها لم تكن متوقعة بعد سنوات من حرب الاستنزاف على جبهة القناة وكانت إسرائيل تعتقد انه استقر لها الأمر وأن مصر لن تحارب خصوصا في ظل أوضاع اقتصادية سيئة وبعد ان قطعت مصر علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفييتي وانفتحت على واشنطن والغرب.

 بعد اقتحام الجيش المصري لخط بارليف قام جيش العدو باختراق وفتح مغبر على قناة السويس في منطقة الدفرسوار (ثغرة الدفرسوار) حيث حاصر جيش الاحتلال وحدات من الجيش الثالث المصري واستعمالها لاحقا كورقة قوة في المفاوضات. وكانت نتيجة هذه الحرب والانتصار العسكري الجزئي، وهو أول انتصار لجيش عربي على عدو خارجي، دخول مصر واسرائيل بمفاوضات برعاية أمريكية قادها هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك-سياسة الخطوة خطوة- وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٩ ومرابطة قوات دولية في سيناء التي انسحبت منها إسرائيل بشروط بعد ثمان سنوات في عام ١٩٨١.

في حرب أكتوبر الأولى كان تنسيقا بين مصر وسوريا وبعض الدول العربية على حرب لتحرير الأراضي العربية المحتلة عام ١٩٦٧ ولكن التحالف والتنسيق توقف بين سوريا ومصر وجرى حديث ان هدف السادات من الحرب القيام بحرب تحريكية لمفاوضات من موقع القوة وهذا ما تم بالفعل.

في حرب أكتوبر الفلسطينية/ الحمساوية، كانت إسرائيل تعتقد أنها طوعت حركة حماس والمقاومة في غزة كما أضعفت السلطة الفلسطينية في الضفة وحولتها لسلطة واهية فاقدة المصداقية والقدرة على فعل شيء حتى في إطار مشروعها للتسوية السياسية الأمر الذي أطلق سراح الحكومة اليمينية والمستوطنين لممارسة كل أشكال العنصرية والعربدة في الضفة وتهويد المسجد الأقصى، وأن تطبيع العربية السعودية ودول أخرى كفيل بإنهاء الصراع وحسمه لصالح دولة الكيان ... إلا أن نخبة من مقاتلي حركة حماس فاجأت الجميع وقامت بهجوم مفاجئ لوحدها دون تدخل أو تنسيق مع محور المقاومة وحتى مع حركة الجهاد الإسلامي حتى الآن، وحطمت خط بارليف على حدود غزة (غلاف غزة) والذي أنفق العدو المليارات لتحصينه بالأسلاك الشائكة والخنادق والحواجز والمعيقات الإلكترونية والكهربائية والقبة الحديدة واحتلوا سبع مستوطنات باعتراف العدو وقتل وأسر المئات مع إطلاق آلاف الصواريخ على عدة مدن.

ما قامت به حركة حماس أثار إعجاب وحالة عاطفية متأججة عند غالبية الشعب الفلسطيني وخصوصا في الضفة الغربية والقدس، وكيف لا يكون ذلك وقد وصلت عربدة بن غفير وسموترتش ونتنياهو والمستوطنين مداها في استفزاز مشاعر الشعب الوطنية والدينية، وسنسمع من الغرب وإعلامه إدانات للعملية و لبعض المشاهد التي صاحبت اقتحام المستوطنات، ولكن على الغرب أن يتذكر الجرائم والإرهاب الصهيوني من مجزرة دير ياسين وقبية وبحر البقر وقانا إلى إحراق عائلة الدوابشه وقتل الأطفال والنساء على الحواجز واحتجاز جثامين الشهداء و مقابر الأرقام وخمسة آلاف اسير  بينهم أطفال ونساء وجرحى.

 ولكن ماذا بعد؟ وما الذي تهدف له حركة حماس من هذه الحرب (طوفان الأقصى)؟ وما هي ردة الفعل المتوقعة من العدو؟ وما هي انعكاسات الحرب على قطاع غزة وعلى السلطة الفلسطينية وعلى القضية الوطنية بشكل عام؟ وهل يمكن اعتبار هذه الحرب (حرب تحريكية) كحرب أكتوبر المصرية ستفتح المجال لتدخل دولي وليس مصري وقطري فقط لفتح مفاوضات مباشرة بين حركة حماس وإسرائيل وقد تؤدي لمرابطة قوات دولية على حدود القطاع؟

إن كان من السابق لأوانه توقع نتائج هذه الحرب التي تجري الى الآن ت داخل الأراضي المحتلة وهذا يحدث لأول مرة بعد حرب أكتوبر 1973 ولم تبدأ الحرب على غزة التي هدد بها رئيس وزراء العدو، إلا أنه في حالة عدم دخول محور المقاومة - حزب الله وايران وسوريا -في الحرب من خلال إطلاق صواريخ من جنوب لبنان وإيران وسوريا على مدن العدو، وهذا من غير المتوقع، وفي حالة عدم انفجار الوضع في الضفة وداخل الخط الأخضر بمقاومة شعبية شاملة، فالحرب ستكون حرب إسرائيل وقطاع غزة،  ومن المتوقع وبعد التعامل مع المقاتلين الذين احتلوا أو حرروا المستوطنات سيقوم  العدو بردة فعل دموية  قوية ضد القطاع تسبق أي مفاوضات هدنة تختلف عن غيرها من الهدن السابقة..

وعلينا انتظار ما ستأتي به الساعات والأيام القادمة، وربنا يستر.

***

ا. د. إبراهيم أبراش

المجد الذى حققته لنا حرب الكرامة أكتوبر 73 تتدانى أمامه الأمجاد.. لم تكن حرباً عادية كما لم يكن نصراً سهلاً؛ لاسيما وقد فقد الجيش المصرى فى نكسة 67 شطراً عظيماً من قوته وعتاده، وفقد معه الشعب الأمل فى عودة أراضيه التى سلبت منه .. وبدأت الآلة الإعلامية العالمية والعبرية تبث سمومها لتوهم الجميع أن الجيش الإسرائيلى لا يمكن قهره، وأن خط بارليف يستحيل تجاوزه .. فإذا بالحرب تأتى لتنقلب الآية وتنكشف الأكاذيب والمزاعم الغربية ويحقق الجيش المصرى نصراً ما زلنا نفخر به إلى اليوم وحق لنا أن نفعل..

تلك الملحمة جاءت لنا بمفاجآت نقف أمامها اليوم مبهوتين لنتعلم دروساً لم يكن ممكناً أن نتعلمها بغير حرب النصر تلك.. عشر مفاجآت كشفتها لنا تلك الملحمة، ومن الخير ألا ننساها.

1- أبطال الحرب:

البطولات التى سطرها الجنود والمقاتلون فى حرب العاشر من رمضان وما قبلها أكثر من أن تحصى.. فكأن الحرب جاءت لتبرز حقيقة الجيش المصرى وتميز صفوفه بعضهم عن بعض، ويجد أبطال الجيش فرصتهم لنيل الشهادة أو بذل الواجب.

ولعل من أبرز الأسماء التى لمع نجمها خلال الحرب الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة آنذاك. وهو من الأبطال القلائل ذوى العبقرية العسكرية الفذة وهو أول من أنشأ سلاح المظلات قبل العدوان الثلاثى على مصر وشارك فى دحره.

لم يكن سعد الدين الشاذلى وحده البطل بل هناك آلاف الأبطال من الجنود والقادة الذين قضى بعضهم نحبه وآخرون عاشوا فى ذكرى بطولاتهم يروونها للأحفاد ولأجيال تأتى بعدهم.

2- المعدن المصرى النفيس:

قيل الكثير عن شعب مصر وجيشه قدحاً وذما وتشكيكاً فيما لديهم من عزيمة وإرادة للانتصار واستعادة الكرامة فى أعقاب النكسة. غير أن المعدن المصرى لم تتجل حقيقته إلا فى أصعب وأحلك الظروف.. إذ سرعان ما استعاد الجيش شتات نفسه وأذاق العدو ألواناً من العذاب وأقض مضجعه بحرب استنزاف طويلة أنهكت قواه على مدار ثلاثة أعوام ونصف. هكذا ينجلى المعدن المصرى الحقيقي فى مثل تلك اللحظات المصيرية..إن مصر لا تعدم العباقرة والأبطال والمخلصين فى طريق كفاحها المستمر فى معركة البقاء..

3- خسة الصهاينة:

كاد الجيش الصهيونى خلال الساعات الأولى من الحرب أن يفنى وقد ولى ظهره فراراً أمام جحافل قوات الجيش المصري الباسلة. لكنه سارع باللجوء إلى أمريكا لإنقاذه من براثن الجيش المصرى الهصور بعد أن تهاوى خط بارليف الذى اختبأوا خلفه ظناً منهم أنه يمنعهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب فولوا فراراً حتى حين..

وقد اكتشفنا بعد الحرب حجم ما ارتكبه الجيش الصهيونى من مذابح وانتهاكات بحق المصريين منذ النكسة وحتى انتهاء الحرب، وأن أخلاقيات الحروب أمر لا يكترثون له ولا يقع فى حساباتهم. واستمرت خسة الصهاينة ونذالتهم بادية فى كل خطوات الحرب وحتى فى المفاوضات التى أرادوا من خلالها المماطلة فى إخلاء المناطق التى احتلوها ونيل أكبر قدر ممكن من المكاسب على مائدة التفاوض. وعلينا ألا ننسي هذا الدرس الذى كشف لنا أن هؤلاء لا أمان لهم أبداً، وأن السلام فى أعرافهم له معانى شتى غير ما نعرف!

4- أمريكا العدو:

أمريكا كانت حاضرة فى الحرب طوال الوقت لحماية إسرائيل.. ولولا دعمها لها بالعتاد والسلاح والمال وشتى أنواع الدعم السياسي واللوجستى والدبلوماسي لاختفت إسرائيل من الخارطة..

لقد سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بإعداد خطة سريعة فيما عرف بعملية "عشب النيكل" لإنقاذ العدو الصهيوني وإمداده بالسلاح وتعويض خسائره استمرت طوال فترة الحرب إلى ما بعد وقف إطلاق النار وحتى منتصف نوفمبر، ليصل حجم ما تم نقله من ذخائر وأسلحة إلى الجيش الصهيونى لنحو 13 ألف طن أسلحة عبر الجسر الجوى المستمر.. ناهيك عن الجسر البحرى الذى نقلت أمريكا من خلاله 65 ألف طن من المعدات والدبابات والمدافع، وهو ما ساعد الصهاينة لاستعادة توازنهم فى الحرب من خلال ثغرة الدفرسوار..ورغم كل الإمدادات العسكرية الأمريكية استمر نزيف الخسائر فى الجيش الإسرائيلى فسارعت أمريكا لعقد مباحثات الكيلو 101 لفض الاشتباك بحضور جنرال أمريكي ممثلاً للأمم المتحدة! فلولا أمريكا لكان لهذه الحرب شأن آخر..

5- أصابع اليد:

اكتشفنا فى هذه الحرب المجيدة أننا كعرب كأصابع اليد الواحدة لا يستغنى أحدنا عن الآخر. وأننا معا قوة لا يستهان بها، وأن ضعفنا ينشأ من تفرقنا بعضنا عن بعض..

جميع الدول العربية تآزرت. وأرسل الأشقاء العرب فى المغرب العربي والخليج العربي ما أمكنهم من مساعدات عسكرية ولوجستية ..شارك العراق والأردن والسعودية فى الجبهتين السورية والأردنية، كما شاركت الجزائر وليبيا والمغرب بأسراب من الطائرات الحربية لمؤازرة القوات المصرية. وكانت أياماً مجيدة من البطولة التى أبداها الأشقاء ومثالاً يحتذى فى التصدى والمواجهة صفا واحداً ضد العدو المشترك..

6- عبقرية التخطيط والأداء:

على مدار سنوات طويلة بدأت خفايا وكواليس الحرب المجيدة تبدو شيئاً فشيئاً لنكتشف الكثير مما حدث بها من بطولات وعمليات يجرى اليوم تدريسها فى الكليات العسكرية كنموذج لعبقرية التخطيط..

حتى قبل بدء الحرب الفاصلة فى السادس من أكتوبر حدثت عدة عمليات ضرورية مهدت الأرض للاجتياح الأخير، كان أهمها عمليات الاختبار والتدريب على اجتياز الساتر الترابى ووضع صواريخ الدفاع الجوى فى أماكن متقدمة بالضفة الغربية ..ولعل أهم ما اشتهر فى أحداث ما قبل الحرب خطة الخداع الاستراتيجى البارعة حتى حانت ساعة الصفر وانطلق سرب الطائرات الحربية المكون من أكثر من 200 طائرة لتنفيذ ضربة جوية مكثفة على ارتفاعات منخفضة لتفادى الرادارات وأوقعت الضربة الأولى خسائر مهولة فى صفوف العدو بالتزامن مع الاجتياح البرى الذى شهد ملحمة تاريخية بارعة. وبدأت المدفعية المصرية، بعد عبور الطائرات بخمس دقائق بقصف التحصينات والأهداف الإسرائيلية الواقعة شرق القناة بشكل مكثف تمهيداً لعبور المشاة، فيما تسللت عناصر سلاح المهندسين والصاعقة إلى الشاطئ الشرقي للقناة لإغلاق الأنابيب التي تنقل السائل المشتعل إلى سطح القناة، وفي الساعة الثانية والثلث تقريبا توقفت المدفعية ذات خط المرور العالي عن قصف النسق الأمامي لخط بارليف ونقلت نيرانها إلى العمق حيث مواقع النسق الثاني، وقامت المدفعية ذات خط المرور المسطح بالضرب المباشر على مواقع خط بارليف لتأمين عبور المشاة من نيرانها. بعدها عبر القناة 2000 ضابط و30 ألف جندي من خمس فرق مشاة، واحتفظوا بخمسة رؤوس كباري واستمر سلاح المهندسين في فتح الثغرات في الساتر الترابي لإتمام مرور الدبابات والمركبات البرية.. وتوالى تدفق القوات المصرية المقاتلة واستمروا فى التوغل مخترقين صفوف العدو الذى بادر بالفرار.. واستمرت الملحمة أياماً تنتقل من مرحلة إلى مرحلة فى خطط عسكرية مرسومة بدقة. وتم تنفيذها على أعلى مستوى من الالتزام والتفانى.. لقد شهدت تلك الحرب عدة معارك صغرى كمعركة بورسعيد ومعركة الفردان ومعركة الدفرسوار ومعركة المزرعة الصينية وأبدت القوات المصرية فيها فدائية عظيمة، ومرونة كبيرة فى الانتقال بين بدائل الخطط. حتى شهد لنا العدو قبل الصديق بالعبقرية العسكرية الفذة.

7- قوة سلاح الإعلام:

الشعوب العربية تعرضت فيما قبل ملحمة العبور لحرب نفسية عميقة الأثر من الإعلام الغربي والإذاعات الأجنبية أيقن على إثرها الناس أن إسرائيل جثمت على سيناء ولن تتركها، وأن جيشها لا يقهر وأن خط بارليف لا يمكن تجاوزه. وتزايد هذا الشعور خلال فترة حرب الاستنزاف لأن الحرب الفاصلة يتم تأجيلها باستمرار كأنها مماطلة الخائف من المواجهة..كل تلك الموجات الهلامية من الشائعات انهارت مع أول قنبلة سقطت على رأس العدو..

تلك الحرب الإعلامية هى لعبة أجادها الغرب ووعيناها جيداً منذ ذلك الحين إلى الآن. نعم لدينا بنية أساسية إعلامية قوية وكوكبة من الإعلاميين والصحفيين على أعلى مستوى، لكن ينبغى لنا تطوير الإعلام باستمرار لمواكبة التطور والتكنولوجيا العالمية فى هذا المجال.

8- سلاحنا السرى:

شهداء حرب أكتوبر المجيدة إذا عادوا للحياة فسيكشفون للعالم مدى قوة سلاحنا السرى الأعظم الذى طالما واجهنا به الدنيا فانتصرنا فى كل معركة بدأناها بصيحة النصر: الله أكبر.. إن إيماننا بالله ويقيننا فى نصره ومدده لهو أقوى من مفاعلات ديمونة فى أوج نشاطها..وهذا ما أكده الفريق الشاذلى فى مذكراته مستشهداً  بأحداث وقعت أثناء الحرب تؤكد تلك الحقيقة..

9- ثنائية الحرب والسلام:

لم تكن الحرب كلها معارك .. لقد حدثت عدة اتفاقيات ومباحثات لوقف إطلاق النار من أجل التفاوض وفض الاشتباك، جاءت بدعوى من الطرف الأمريكي الظهير الخلفى للعدو الصهيونى.. وقد جنحنا للسلم كما انتصرنا فى الحرب، وجلسنا جلسة الأقوياء مرفوعى الرأس نتفاوض لإقرار السلام بعد الحصول على كافة حقوقنا المسلوبة.. لقد استمرت مباحثات السلام عدة سنوات بعد الحرب واختتمت باتفاقية كامب ديفيد ثم استعدنا أرض طابا بالتحكيم الدولى لتعود أرض سيناء بأكملها لنا .. فالسلام هو الهدف فى نهاية المطاف.. لكنه سلام الأقوياء ..

10- الجيش..كلمة السر:

لم نكن لنخوض حرب الاستنزاف المضنية ولا حرب أكتوبر التى كلفتنا زمرة من خيرة أبطالنا لولا ما حدث فى 67 .. فالاستعداد المستمر والجاهزية الدائمة شعار الجيش اليوم بعد درس الأمس الذى أدركنا من خلاله أن عدونا لا يزال رابضاً فى حديقتنا الخلفية ينتظر لحظة انقضاض جديدة تحقق له مخططات لا تخفى على أحد.. لهذا لم ينفك جيش مصر يطور من قدراته واستعداداته على الدوام ولابد له أن يفعل.. مصر أمانة.. وجيشها خير من يحملها ..

***

د. عبد السلام فاروق

قد نكون احد المحظوظين، ممن شهدوا مرحلتين مهمتين  في تاريخ روسيا الحديث،  ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث وصلنا موسكو نهاية عام 1995، وكنا شهود  عيان على الفوضى والأوضاع المزرية التي كانت تعيشها البلاد  خلال فترة  الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، الذي كان محاطا بنخبة من المافيا والعصابات والعرابين، الذي استغلوا مرض الرئيس في حينه، وولعه بالخمر حتى الثمالة، ليعيثوا في الأرض فسادا، والتفنن في النهب والاستيلاء على مقدرات البلاد، وخصخصة كل شيء ليسهل عليهم الاستيلاء على المعامل والمصانع، وكل ما تطول بها أيديهم .

والفترة الثانية هي تلك التي اختير بها الرئيس  الحالي فلاديمير بوتين، لقيادة البلاد، عندما عينه بوريس يلتسين المريض، رئيسا للوزراء في 16 أغسطس 1999  خلفا له، تاركا للرئيس الجديد (بوتين) تركة اقتصادية وسياسية واجتماعية صعبة، واستمرار  أزمة ال 90 الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تلاها من استمرار الركود في الاقتصاد، ولم يحصل الناس خلالها  على معاشاتهم  التقاعدية ورواتب الموظفين تصل الى سنتين، واعتماد البلاد  بشكل كبير على الاقتراض الخارجي والواردات الغذائية، ونهب البلاد بلا خجل من قبل الأوليغارشية الجشعين وغير المبدئيين (لقد نظرنا إلى روسيا على أنها حقل صيد بري، كما اعترف ميخائيل خودوركوفسكي لاحقا).

وبعد خسارة الحرب الشيشانية الأولى، تم تشكيل جيب إرهابي لقطاع الطرق في شمال القوقاز، قرر قادته الاستفادة من لحظة مناسبة من ضعف روسيا للاستيلاء على داغستان المجاورة، ثم شمال القوقاز بأكمله، ويمكن أن تصبح هزيمة جديدة في القوقاز حافزا لانهيار الدولة الروسية بأكملها، لذلك كان القضاء على هذا التهديد هو المهمة الأولى التي حلها الزعيم الجديد للبلاد، الذي تولى منصب رئيس الاتحاد الروسي في 7 مايو 2000، وفي نفس العام، قام مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي بتجميع تقرير "الاتجاهات العالمية 2015"، والذي توقع فيه أنه "في عام 2015، يجب أن تشهد روسيا ركودا غير مسبوق وتفقد وزنها على المسرح العالمي بسبب عدم تطابق طموحاتها ومواردها، وإبقاء روسيا ضعيفة داخليا... حتى لا تكون قادرة على إنشاء تحالف من شأنه أن يكون ثقلا موازنا للهيمنة الأمريكية،  واقترح الأمريكيون أيضا أن السلطات الروسية لن تكون قادرة على الحفاظ على القوات المسلحة وستعتمد فقط على إمكاناتها النووية المتداعية "لتخويف الجيران."

وفي رأي الامريكان، يجب أن تتحول أوراسيا ككل إلى  مصطلح جغرافي فارغ، منفصل عن الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وأكد المحللون الأمريكيون، أن روسيا لن يكون لديها سوى فرصتين للتأثير على العالم بطريقة ما،  من خلال بيع النفط والغاز واستخدام حق النقض في مجلس الأمن الدولي، ويبدو أن وكالة المخابرات المركزية لم تكن أبدا خاطئة كما في حالة روسيا، فقد  لاحظ المراقبون الغربيون في عام 2015، أصبحت روسيا في عهد فلاديمير بوتين لاعبا مؤثرا على المسرح العالمي، وهو أمر معترف به من قبل الدول الغربية الرائدة، والتي يجري الاتحاد الروسي معها الآن حوارا على قدم المساواة، وتمكنت موسكو من إنشاء شبكة كاملة من المؤيدين تمتد من فنزويلا إلى سوريا، والقوة التي تمتلكها روسيا سمحت لها باستعادة  شبه جزيرة القرم، وهي شبه جزيرة ذات أهمية استراتيجية، والمشاركة في مكافحة  الارهاب في سوريا، مع احتفاظها بأقتصاد متين .

واليوم، والروس يحتفلون بعيد ميلاد رئيسهم (7 أكتوبر 1952)، يفتخرون ان كل  ما تحقق في الفترة الماضية هو  نتيجة لانتعاش ونمو الاقتصاد الروسي  في عهد فلاديمير بوتين، فقد دخلت روسيا أكبر خمسة اقتصادات في العالم، ونما الناتج المحلي الإجمالي من 209 مليار دولار إلى 2130 مليار دولار (أكثر من 10 مرات!)، ومن حيث تعادل القوة الشرائية - 3 مرات، كما نما مستوى معيشة للروس، فروسيا بلد يتمتع بمستوى عال من الحماية الاجتماعية للمواطنين، ويولى الاهتمام لدعم الأسر التي لديها أطفال، وتحفيز معدل المواليد، ويتم استبدال الاكتئاب في الاقتصاد بالتنمية الديناميكية، وإحياء الإنتاج، وتم إحياء المجمع الصناعي العسكري، وتتنافس الشركات الروسية على قدم المساواة مع منتجات التكنولوجيا الفائقة من البلدان الأخرى، وروسيا هي الرائدة عالميا بلا منازع في مجال الطاقة النووية والتقنيات النووية، وأصبحت من بلد يعتمد بشكل كبير على الواردات الغذائية في تسعينيات القرن الماضي، إلى  أكبر مصدر للحبوب في العالم.

وخلال فترة حكم الرئيس بوتين يتم تحسين المدن الروسية، ويتم تحديث البنية التحتية البلدية وتطويرها، وتعترف الأمم المتحدة بموسكو كأفضل مدينة ضخمة في العالم، من حيث تطوير البنية التحتية ونوعية الحياة (في الترتيب العالمي للمدن الكبرى، تحتل موسكو المرتبة الثالثة، خلف سنغافورة وتورنتو)، وتدريجيا، تمر الأوقات عندما اعتبرت الطرق كارثة وطنية، وأظهرت روسيا القدرة على تنفيذ المشاريع العملاقة بشكل جميل، مثل الألعاب الأولمبية وكأس العالم عام 2018، وكان الوقت القياسي الذي أقيم فيه جسر القرم بمثابة فتحة للمتخصصين الأجانب، دخلت روسيا أفضل 10 دول لرقمنة الإدارة العامة وتصنيف العشرة الأوائل لجودة الإنترنت وإمكانية الوصول إليها، وبطبيعة الحال، لم يأت هذا من تلقاء نفسه، بل تطلب من قيادة البلاد وقائدها العمل والمثابرة، وتطلب القضاء على العصابات السرية في القوقاز خسائر فادحة، وكان النضال ضد عشائر الأوليغارشية صعبا ومستمرا.

ولعل اهم المهمات التي واجهت الرئيس الروسي خلال فترة حكمه، هي مهمة التخلص من  الدين الخارجي الذي تراكم في زمن أسلافه، وجعلها " مغلولة " الايدي، ومسلوبة الإرادة، فقد سمح نجاح بوتين في تخلص البلاد من هذا الوباء، بإملاء ليس فقط السياسة الخارجية، ولكن أيضا السياسة الداخلية، وتراكمت لدى روسيا احتياطيات النقد الأجنبي (على وجه الخصوص، زاد احتياطي الذهب من 414 إلى 2340 طنا من 2000 إلى 2023)، مما جعل من الممكن تحمل تأثير الأزمة العالمية لعام 2008، ثم حزم العقوبات.

وبعد أن حصلت على الديون، وبعد أن تخلصت من الحاجة إلى قروض خارجية جديدة، تمكنت القيادة الروسية من بناء سياستها دون مراعاة توصيات صندوق النقد الدولي، والمكاتب المماثلة الموجهة إلى الغرب،  وهذا على الرغم من حقيقة أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، قامت الولايات المتحدة، التي حددت رسميا الهدف الرئيسي لسياستها الخارجية، لمنع ظهور منافس جديد للولايات المتحدة في شخص روسيا، بتكثيف "سياسة الاحتواء" بشكل حاد، وفي الواقع – إلحاق الضرر بروسيا، وتم دعم الانفصاليين القوقازيين تدريجيا، و "دافع" الغرب بنشاط عن خودوركوفسكي و" إخوته الطبقيين "، وتم تنظيم الاستفزازات المناهضة لروسيا بانتظام، وتم احتجاز المعارضة" الليبرالية "الروسية جزئيا، وتبذل محاولات لسرج الجزء الوطني من المجتمع الروسي من أجل زعزعة الوضع في البلاد .

وكان الاتجاه المهم هو منع أي شكل من أشكال إعادة الاندماج في الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي (كما تحدثت هيلاري كلينتون مباشرة)، من أجل إحاطة روسيا بسلسلة من الدول المعادية إلى أقصى حد، والتي كان ينبغي تقليص سياستها إلى الحد الأقصى،  "سأحرق منزلي حتى يتخلص جاري (روسيا) من الدخان، "كانت الورقة الرابحة الرئيسية في هذا السطح الأمريكي هي أوكرانيا، التي يظهر مصيرها بوضوح إلى أين يقود المسار المعادي لروسيا.، وأدت الآمال المجنونة في تحقيق رفاهية البلاد إذا اتبعنا سياسات الغرب دون قيد أو شرط إلى التدمير الكامل للقطاعات الاقتصادية، وخاصة القطاعات عالية التقنية (الغرب لا يحتاج إلى منافسين)، وانهيار المجال الاجتماعي، وتدهور البنية التحتية، وفشل الديموغرافيا، وفي النهاية، أصبح الأوكرانيون "العبيد المقاتلين" في الغرب، وأولئك الذين لا يريدون ذلك، مثل الكلاب الضالة، يتم القبض عليهم في الشوارع وإرسالهم إلى المسلخ، ويتباهى السياسيون الأمريكيون، مثل النازيين الحقيقيين، بأنهم يقاتلون" الأوكرانيين " مع روسيا، دون أن يفقدوا حياة أمريكية ثمينة واحدة، لكن مثل هذه الاستراتيجية الخسيسة لن تحقق النجاح، لأن شعب روسيا، اكد خلال محنتهم الحالية، انه  أكثر حكمة من أي حكومة ظل ودولة عميقة،  وانتبه الى ما " تسوغه " الالة الغربية من أكاذيب وتضليل يهدف  بالدرجة الأساس الى زعزعة استقرار البلاد، التي شهدتها منذ بداية حكم الرئيس فلاديمير بوتين .

قبل عشرين عاما، كانت روسيا تدخل للتو مرحلة جديدة من تطورها، بعد أن تغلبت على فترة التعافي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما ذكر بوتين خلال الجلسة العامة العشرين لنادي فالداي الدولي للحوار، فقد  كان الغرب الجماعي ينظر إلى استعداد روسيا للتعاون البناء على أنه استعداد للاسترشاد ليس بمصالحه الوطنية الخاصة، ولكن من قبل الآخرين، وتم تجاهل التحذيرات المتكررة من أن مثل هذا النهج يؤدي إلى زيادة خطر الصراع العسكري، وكان غطرسة الغرب خارج النطاق، وقد حددت الولايات المتحدة وأقمارها الصناعية بحزم مسارا للهيمنة – القيمة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الأخلاقية .

وكان من الواضح بحسب تعبير الرئيس الروسي، انه منذ البداية،  أن محاولات تأسيس الاحتكار محكوم عليها بالفشل، وان  العالم معقد ومتنوع للغاية بحيث لا يمكن إخضاعه لمخطط واحد، حتى لو كان مدعوما بالقوة الهائلة للغرب المتراكمة على مدى قرون من السياسة الاستعمارية، وإن تاريخ الغرب هو في الأساس تاريخ للتوسع اللامتناهي، لذلك، لا يستطيع الغرب ببساطة التوقف ولن يفعل ذلك، وقال "حججنا، تحذيراتنا، نداءات العقل، تم تجاهل الاقتراحات ببساطة"، وعلى ما يبدو، تكمن المشكلة في المصالح الجيوسياسية والموقف المتعجرف تجاه الآخرين، في الثقة بالنفس .

ويحاول الغرب اليوم  فرض هياكل جيوسياسية مصطنعة على العالم، ويتم إنشاء تنسيقات كتلة مغلقة، وهو ما يظهر بوضوح في مثال أوروبا مع التوسع الدائم لحلف الناتو، وكذلك في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وجنوب آسيا، وفي الوقت نفسه، فإن نهج الكتلة هو تقييد لحقوق وحريات الدول من أجل تنميتها، فهو انسحاب جزء من السيادة، ثم فرض قرارات اقتصادية، كما يحدث الآن في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وكل هذا مموه بـ "قواعد" معينة و "أمر" معين، لكن ما هو غير واضح، تماما كما أنه ليس من الواضح من  هو الذي أعطاهم الحق في وضع قواعدهم وإجراءاتهم الخاصة !!!.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

بعد منحه درجة الاجتهاد مِن آية الله العظمى، أحد أبرز المراجع في زمانه، محمَّد كاظم شريعتمداريّ (تـ: 1985) وآخرين، وأصبح آية الله، اكتفت حكومة الشّاه بنفي روح الله الخمينيّ إلى تركيا، إثر نشاطه السّياسيّ (1963)، فوجد نفسه في تركيا في عُزلة تامة، فوفق القانون التّركيّ السّاري آنذاك، لا يُسمح بالتّجول في الزّي الدّينيّ، وله صورة نشرتها فاطمة طباطبائي زوجة نجله أحمد، وابنة أخت موسى الصّدر، في كتابها "ذكرياتي"، يرتدي الملابس (الأوروبيّة) غير الدّينية، هو ونجله البكر مصطفى الخمينيّ (تـ: 1977)، الذي التحق به بموافقة الحكومة الإيرانيّة آنذاك.

لهذا سعى الخميني بالتّوسط لدى طهران، كي توافق على العيش في النّجف؛ ووافقت مِن طرفها بغداد على ذلك (1965) في عهد الرَّئيس عبد السّلام محمَّد عارف (قُتل: 1966)، على أنَّ شاه إيران اعتقد أنه سيتوارى بين العمائم في النّجف، فهي بحسب بيت أحمد الصّافيّ النّجفيّ (تـ: 1977): "صادرات بلدتي عمائم/ وواردات بلدتي جنائز"، كان مِن هذه العمائم مراجع دين كبار، وشعراء وأدباء مِن أصحاب العمائم، ستتوارى بينها عمامة الخمينيّ، غير المعروف يومذاك، لولا مجيء "البعث" إلى السُّلطة (1968)، والحاجة لعمامة تُستخدم ضد حكومة شاه إيران، فكانت عِمامة روح الله الخمينيّ، واستمر الاستخدام لسنوات (1969-1975)، حتّى توقيع معاهدة (آذار 1975) المشينة بحقِّ العِراق، التي تنتظر مجيء حكومة وطنيّة خالصة تتخلى عنها.

كان الخمينيّ يُقدم درسه ليذاع مِن إذاعة بغداد، فحينها بدأ أحد أصحابه، وهو السّيد محمود دعائي، بعرض هذه الأفكار عبر إذاعة بغداد الرّسمية، البرنامج الموجه إلى الشّعب الإيرانيّ بالفارسيّة "النّهضة الرّوحيّة"، بل ذكر لي مسؤول بارز، في الإذاعة والتلفزيون العراقيّ، أنّ الخمينيّ، في أحيان كثيرة، كان يحضر شخصياً، في تلك الفترة، إلى الإذاعة، ويذيع حديثه في ولاية الفقيه ويتحدث إلى الشعب الإيرانيّ، التي صُنع منها كُتيب "الحكومة الإسلاميّة"، المتضمن الفكرة المطروحة قبله في الفكر الشّيعيّ الإماميّ، ومبناها أن العلماء هم ورثة الأنبياء (الحكومة الإسلاميّة)، وظهرت واضحة في مثل كتاب "عوائد الأيام" للملا أحمد النّراقيّ (تـ: 1829)، بل وقبل النَّراقيّ ظهرت بداياتها جلية في العهد الصَّفويّ.

إلا أنَّ هناك مَن أشاع حينها، مِن داخل النَّجف، أن هذه الأفكار تعبر عن النظرية الشّيوعية، وتُقدم بتشجيع مِن الاتحاد السّوفياتي"(طباطبائي، ذكرياتي. العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة). فبحسب زوجة نجل الخميني أنَّ "الأوساط العلمية والمرجعية كانت مليئة بالإعلام المغرض، والدِّعايات المعادية لسماحته، فكيف يمكن أنْ يزداد عدد مقلدي الإمام، في مثل هذه الظّروف والأجواء؟"(الطَّباطبائي، المصدر نفسه).

كان هناك عدم ارتياح، بين أوساط المرجعية أو الحوزة النَّجفيَّة، لشخصية الخميني كسِّياسي وتوجهه إلى العنف، الذي ظهر جلياً ومارسه بعد تسلم السّلطة (1979)، فمما يُذكر أنْ حصل لقاء انفرادي بين المرجع أبي القاسم الخوئي (تـ: 1992) والخميني، بعد وصول الأخير إلى النّجف (بتاريخ 23/10/1965)، في بيت الخوئي، وقد خرجا مِن اللقاء متغاضبين، لِما دار مِن كلام بينهما، ولما سئل الخوئي عن الموضوع، قال: "هذا السَّيد إذا كان باستطاعته أنْ يحرق العالم لفعل" (العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة). هذا، ولم يكن الخوئي مرغوباً في أجواء الثّورة الإيرانيَّة، فقد سمعنا أنه كانت التّظاهرة تُسير (حمارين)، على رأس كلّ منهما صورة شريعتمداري والخوئيّ. فلو مورس هذا الفعل في ظرف آخر، في أيام الشّاه مثلاً، لانقلبت الدّنيا ولم تقعد، بل والخميني نفسه لقلب الدّنيا دفاعاً عنهما، لكن ما مورس كان بزعامته.

بعد وفاة محسن الحكيم (1970)، وكان الخميني يُقيم في النّجف، في عقر دار المرجعية الدِّينية، لا بد أنه تطلع لخلافته، بعدما أكمل رسالته في الفقه "تحرير الوسيلة"، لكنَّ الأنظار اتجهت إلى الخوئي، وقدر الخميني أنَّ مقلديه وأتباعه سيثيرون هذا الموضوع، لذا كتب إلى نجله أحمد المقيم في قمّ يحذر من ذلك: "من المحتمل في هذه الأوقات، أن تُثار قضايا متعلقة بالمرجعية، أو لا قدر الله، ظهور جدال بين الشّباب، فعليك وعلى كلِّ أصدقائي أن تكونوا بمنأى عن هذه القضايا، ولا تتدخلوا ولا بكلمة واحدة"(طباطبائي، ذكرياتي).

لكن عند وفاة الحكيم رفع الشّاه رسالة التعزية به إلى آية الله أحمد الخوانساري (تـ: 1985)، والمرجع شريعتمداري؛ الذي توفي وهو مركون في الإقامة الجبريّة، مِن قبل نظام الخميني نفسه، إشارة إلى الاعتراف بمرجعيتهما، بينما أتباع الخميني كانوا يرون صاحبهم هو المرجع. هذا عين ما فعله الشّاه عند وفاة المرجع حسين البرجوردي (تـ: 1961)، رفع برقية التَّعزية به إلى محسن الحكيم، اعترافاً به خلفاً (رفسنجانيّ، حياتي).

أكدت زوجة نجل الخميني، ما جاء به صديق نجل الخميني الأكبر، والقريب من الخميني نفسه، رجل الدِّين موسى الموسوي (كتابه: الثّورة البائسة)، عن علاقة الخميني بالسُّلطة العراقية، فهي تتحدث أنه كان وراء تجميد تسفير الإيرانيين مِن العِراق، أي تم ذلك بشفاعته لدى حكومة بغداد، بعدما ساءت العلاقة بين إيران والعراق في زمن الشَّاه وحزب "البعث"، وأنَّ نجله مصطفى كان يلتقي الرّئيس العراقي أحمد حسن البكر، مبعوثاً مِن والده (طباطبائي، ذكرياتي).

ذكر حفيد المرجع أبي الحسن الأصفهانيّ موسى الموسوي تسهيلات كثيرة كانت سُلطة "البعث" تُقدمها للخميني؛ كتب ذلك مُذكراً بها، بعدما أخذ الخميني، بعد الثّورة وعزل البكر، يلح بقيام نظام إسلامي في بغداد وإسقاط حكومتها؛ مِن دون اعتبار لِما كان بينه وبين الدَّولة العراقية مِن تعاون، لولاه لذابت عمامته بين عمائم النّجف واندثر ذكره، وقد عبرت برقية الرّئاسة العراقية آنذاك عن التهاني بانتصار الثّورة، وبوصول الخميني إلى سدة الحكم، وكان ردّ الخميني على تهنئة أحمد حسن البكر (تـ: 1982) يشجع على التعاون بين البلدين، وهو خلاف ما قَدمته وسائل الإعلام، الضّالعة في الاستفزاز لإشعال الحرب بين البلدين، فشاع أنَّ الرَّد كان جافياً، ختمه الخميني بعبارة "سلام على مَن اتبع الهدى"، العبارة التي عادة يُخاطب بها الكُفار.

هذا من نص جواب الخميني: "فخامة السَّيد أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية العراقية، تسلمت رسالتكم الوديَّة، حول استقرار الجمهورية الإسلامية، وأشكركم عليها"، وختمها: "وفق الله الجميع للسلم والسّعادة، والسَّلام عليكم" (انظر نص البرقية في موسوعة صحيفة الإمام الإيرانيّة التي ضمت كل ما نطق به الخميني، وسُجل، قبل الثورة وبعدها، وتعد أفضل مصدر عن نشاطه السياسي والفكريّ).

لكنها أسابيع، بعد خروج أحمد حسن البكر مِن السُّلطة، تبدل الموقف، فبعدها اعتُبر النِّظام العراقي "كافراً"! فالخميني صاحب ثأر، لا ينسى تقييد حريته خلال الثَّورة، مع أنّ خروجه من العراق جاء بإلحاح من الشَّاه، وليس مطروداً، فغادر إلى فرنسا محمياً، وإلا كان اغتياله أو حجزه داخل العِراق هدفاً سهلاً.

دعمت حكومة "البعث" الخميني، عندما كان قابعاً في النَّجف، بالآتي: استقبال أتباعه، وتخصيص إذاعة بالفارسية تبث منها أفكاره وبياناته، عبر برنامج "النَّهضة الرُّوحية" يقدمه مثلما تقدم محمود دعائي، و"برنامج ثورة(أو صوت) رجال الدِّين الإيرانيين"، والذي كان يقدمه دعائي أيضاً، لمدة خمس وأربعين دقيقة يومياً في القسم الفارسي من إذاعة بغداد، وكان دعائي يُذيع ما يكتبه الخميني في موضوع ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلاميَّة (الموسويّ وطباطبائي). أُعفي عن أحد مؤيديه في ولاية الفقيه حسن الشِّيرازي المحكوم بالإعدام، بتوسط منه عند صدام حسين النَّائب آنذاك، وغادر إلى لبنان واستمر بالعمل فاغتيل هناك (1980).

تدريب عسكري بإشراف يزدي زاده (طباطبائي، المصدر نفسه، كان التدريب على السلاح جارياً، صور لأحمد خميني وهو بسلاحه مع مسؤول المعسكر مصطفى شمران). مع منح جوازات وتسهيلات سفر لخاصته. في هذه النّقاط وغيرها يمكن اعتبار وضع الخميني داخل العراق شبيهاً بوضع "مجاهدي خلق" مع الحكومة العراقيَّة، في ما بعد.

يُذكر أنَّ الحكومة العِراقيَّة توقفت عن دعم الخميني، بعد اتفاقية آذار (مارس) 1975، رفضت تجديد إقامته، إلا أنَّ حفيد أبي الحسن الأصفهاني موسى الموسوي تدخل لتمديد الإقامة، وهذه شهادة، مِن فاطمة طباطبائي زوجة نجل الخميني، على أن ما كتبه الموسوي عن صلاته بالخميني لم يكن ادعاءً وتلفيقاً.

فقبل ذلك، كان يعطي دروسه داخل النَّجف في ولاية الفقيه بلا اعتراض، على مجموعة صغيرة، بينهم نجله مصطفى، لذي كان يُسجل اعتراضات على أفكار والده في الدرس نفسه (طباطبائي، ذكرياتي)، وعندما توفي ولده مصطفى طلب السماح بدفنه حيث المرقد العلوي، وكان له ذلك بأمر من الرَّئيس البكر. بعدها قامت السُّلطة بحمايته (الموسويّ، الثّورة البائسة)، لأنَّ علاقته ببقية المراجع كانت سيئة، بسبب وضعه السِّياسي، وقربه مِن الحكومة العراقية، في الوقت الذي أعلنت الأخيرة تآمر نجل المرجع الحكيم محمد مهدي (اغتيل 1988)، وجاسوسيته ومطاردة الإسلاميين، وإعدام جماعة من قيادات حزب "الدّعوة" (1974)، بينما كان هو يتمتع بدعم وامتيازات.

أخيراً يُضاف إلى منافع الخميني مِن النِّظام العراقي السابق إتقان الدَّرس كيف يكون البطش بالخصوم بعد السُّلطة، هذا، ولبصير المعرة: "كحمائم ظَلَمتْ فنادى أجدل(الصَّقر)/ إن كنتِ ظالمةً فإني أظلَمُ/يتشبه الطَّاغي بطاغٍ مثله/ِ وأخو السَّعادةِ بينهم مَن يَسلمُ"(لزوم ما لا يلزم). أقول: وهل في التَّاريخ ثورة سلمت مِن التَّشبه بالَّذي ثارت عليه؟!

لكم تخيل، أنَّ حزب "البعث" لم يأت إلى السُّلطة، واستمر العهد العارفيّ، ومعه استمر غياب الخميني عن المشهد، واقتصر وضعه داخل النَّجف، على الخروج إلى الصلاة وزيارة الضريح العلوي ويعود إلى داره، المؤجرة له مِن أحد المحسنين، فهل أصبح إماماً، ومرشد ثورة وجمهوريّة؟! أم أن "البعث" لم يستخدمه مقابل ما منحه من تسهيلات وامتيازات، أم أن الإعلام الفرنسي لم يستقبله بهذا الاحتفاء، ويصنع له سيرة ذاتية كقائد ثورة (انظر، هوشنك نهاوندي، خميني في فرنسا)، هل يكون نائباً للإمام، وولي فقيه مطلقاً، أي حاكماً مطلقاً؟ لا نظن ذلك لكنها الدّنيا غالب ومغلوب، وأسباب ومسببات، وفرص تأتي لمن لم يحسب حسابها.

***

د. رشيد الخيّون

زرت الحبيبة بغداد بدعوة من جامعتي النهرين واليرموك في (19 ايلول 2023) فلفت انتباهي أن معظم سواق (التاكسي) يستمعون ويسمعون الراكب أدعية.

ولأن من عادتي أنني استطلع آراء الناس في اية ظاهرة اجتماعية أخضعها للدراسة او كتابة مقال عنها، فأنني توجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بهذا التساؤل:

(بوجودي في بغداد هذه الأيام، لفت انتباهي أن سواق التاكسي (والخصوصي ايضا) يستمعون الى قرآن وأدعية..  صباحا، ظهرا، عصرا.  فما تفسيركم لها..  هل هي تدين أم حالة نفسية؟)

شارك في الأجابة 254 بينهم اكاديميون وإعلاميون، اليكم نماذج من اجاباتهم:

  • عامر المعموري

التدين سلوك وممارسه..

الانضباط الاخلاقي الرفيع، والتواضع، والواقعيه، وتجنب الكبائر وصغائر الذنوب، والعطف، والسخاء لأجل الله يمكن اعتباره تدينا..  اما هذه فهي مظاهر تدين.  ومن أوصلهم المشهد هذا هم من ارادوا للدين ان يكون كذلك.

  • معد فياض.

الشعور باليأس والبحث عن منقذ..  بدلا من العمل على انقاذ انفسهم اعتمدوا على الله والقرآن وهذا سيقودهم الى المزيد من اليأس..  وانت سيد العارفين دكتور.

  • قاسم حنون

لعل الزلازل والفيضانات تمثل خطرا وجوديا يقرّب من يوم القيامة..  بنظرهم طبعا.

  • دكتور اكرم عبد الرزاق المشهداني

انما الأعمال بالنيات..  ولعله سعي لتكفير الذنوب والآثام، أو عودة الى الله.

  • عبد المطلب محمود

"تقووووووى"!!!

  • سناء المشهداني

رياء ونفاق

  • تضامن عبد الحسين

تعلقوا بالقدر لما يعيشونه من يأس وقلة حيلة.

  • فوزي البريسم.

مع المودة الماشية هالوكت وليس بجديد على العراقيين..  أنت سيد العارفين دكتور..  كلشي بوقته حلووو.

  • هادي علي

اصبحت (ألــمُــراءآت) صفة شائعة في ألمجتمع!!

  • أبو شمس العراقي

ربما صباحا باكرا..  نعم، مفضل جدا لانه يرتبط بوقت الفجر.  بقية اليوم معايش وتنفيس..  ولا تنسى الذوق الاجتماعي السائر مع العقل الجمعي يتطلب ذلك.

احيانا يركب زبون لا يحبذ اغاني موسيقى حتى مع الراديو.  واحيانا العكس.  بالمناسبة المكان لا يليق بسماع القرآن، لأنه مرتبط بلزوم الأنصات، ناهيك عن ذوق الراكب المغاير او المنطقي.

  • محمد السلامي. البعض منهم لا يريد بث اللطميات في سيارته لذلك يركز على قراءات القرآن، والبعض تعود مع الاخرين.

ابراهيم الخفاجي.

كل من له علاقة قوية مع شيوخ العشائر و يستمع إلى ما يسمعونه من جرائم، و كل من له علاقة بالمحاكم أو مراكز الشرطة أو يسمع عن السجون، هؤلاء مؤهلون للإجابة على سؤالِك!

  • عزيز العزيز

للبعض منهم تظاهر وهو في باطنه مرآئي، وآخرين اتخذوه كعصاة موسى ولهم فيه مآرب أخرى.  ولكن الأغلب..  نفسي لغرض الأطمئنان كونه اي صاحب التكسي موظف فالت من الدوام او منتسب من محافظه ساخنه لايريد ان يعود اليها تلافياً للمشاكل.

  • أ. د. موفق سالم الجوادي

عسى ان يشغلهم ذلك عن الدعاء لغير الله!

  • طه الزرباطي. لا بديل. الاذاعة لا تقدم ثقافة، ولا طربا، ولا دراما قريبة لمعاناة الانسان. الغريب ان اغلب من يسمعون القرآن يسمعون اللحن الصوتي ولا ينتبهون للمعنى او للبلاغة او اللغة. نعم انها ظاهرة مستفحلة. بعض جماعة التكسي يسمع لطميات حتى في العيد، وحين تسائله... يقول ما عدنه عيد. أظن أنه ردّ داخلي وأت اعلم.
  • فاضل البصيصي فنان تشكيلي

اعتقد هو من باب الاطمئنان، فبذكر الله تطمئن القلوب وهذه الشريحة تحتاج لجذب الناس اليهم وخصوصا النساء منهن.

  • حيدر عبد الرحمن الربيعي

مظهر اخر من مظاهر اكساء الواقع والنوايا.  فصبغة التدين تمنح المقابل شعور الاطمئنان.  نعم لا اشمل الجميع.  فمنهم من يجد فأل خير صباحا ببدء يومه بقراءة او دعاء.  التدين الحقيقي ما وقع في القلب وصدقه العقل وعملت به الجوارح.

  • يوسف حسين الهيازعي

الانسان بطبيعته الضعيفة يلجأ الى الدين الذي يحفظه وبخلصه من القسوة والمجهول ويشعره بالأمن والطمأنينة، لأنه ملاذ مضمون لراحته المفقودة وحياة القلق التي يعيشها، ايمانا منه بقول الخالق العظيم..  ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

  • فاطمة سلمان.

احيانا تكون لطميات او أغاني مزعجة خالية من الذوق وبصوت عال دون مراعاة لذوق الراكب. حالة من تصدع نفسي من وجهة نظري.

  • عباس خفاجي

يطيب الجسد وتنشرح النفس بسماع تلاوات القرآن بتدبر، أما الدعاء فيعقبه استجابة لحاجة معينة لدى الشخص حيث يقول الله عز وجل ادعوني استجب لكم.

  • نجاة خوشناو.

كارثة دكتور.  الكارثة تتركز علی ان العقل عندما يقتنع بان الدعاء و سماع نصوص دينية عمرها اكثر من الف سنة و فاتها الزمن و العصر لا بل ترفض اية تجديد في خطابها، لانها مقدسة!

  • حسين راشد الجبوري

السبب لان اذاعة بغداد وشقيقاتها اصبحن ذا برامج مملة ومزعجة للغاية ماجعل السواق يعزفون عن سماعهن. هذا من جانب ومن جانب اخر انخفاض اعداد الأشخاص الذين يستأجرون سيارات الاجرة وبالتالي انخفاض الاجر اليومي للعاملين عليها ما دعاهم للتعبير عن معاناتهم باللجوء الى ما يريح أنفسهم وهناك مثل قاله المندثرون (اذا طابت النفوس غنت) وهنا النفوس متعبة ولن تغني فلجأت الى طريق آخر.

  • علي نعمة

لا يوجد تدين حقيقي في العراق، خذ التجاوز على الرصيف والشاعر كمؤشر.

انتشار الفساد والرشي وغيرها ينفي وجود تدين حقيقي.  والاستماع للقرآن والدعاء رياء.

  • عبد الرزاق الاستاذ

تغذيه العقل الباطن من خلال سماع القران هي اشياء ايجابيه للراحه النفسيه بعيدا عن ضغوط الواقع المتعب والقلق المستمر.

  • عباس التميمي

بعد الاحتلال ذهبت من بغداد الى مدينة الشطرة. وفي الطريق كان السائق يشغل كاسيت ل اللطم وقد تضايقت.  ولكن احتراما لمشاعره كظمت نفسي. انتظرت احد الركاب ان يبدي رأيه، وفعلا تصدى شاب للسائق وقدم له كاسيت جديد مما فتح اسارير نفسي وانتظرت... ان يعطيه اغاني لعبد الحليم حافظ او نجاة الصغيرة فأذا به يتضمن لطم بالعربي ومخلوط بلهجة فارسية!

  • ا. د علي صبحي

الجانب الروحاني (الديني) مرتبط ارتباطا وثيقا بالجانب النفسي وهذا ثابت في كتب الصحة النفسية. وقبل كتب الصحة النفسية ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم (ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا). ولهذا نجد ان كل من ابتعد عن الله يعيش بضنك وهمّ وغمّ وان ضحك وابتسم ظاهرا ولكن يبقى في داخله بركان من نار وهذه ثمرة من ثمرات البعد عن الله تعالى.

  • دكتور صالح مهدي.

اسلوب من أساليب التعامل مع الضغوط.

  • عبد العزيز ججو

هي محاولة لخداع النفس لان ما يسمعه لا يطبقه ولا يطبقه احد.  انها تنهيدة القلب والروح من الالم في عالم بلا قلب وبلا روح، كما قالها ماركس قبل قرن ونصف.

استنتاجات

أكد المستجيبون صحة تشخيصنا ان استماع سواق الأجرة في بغداد الى القرآن والأدعية.. صباحا، ظهرا، عصرا (انها ظاهرة)..  بمعنى انها شائعة وليست محدودة. واتفق اغلب المستجيبين على انها ليست تدينا بل نتيجة حتمية لما وصل اليه العقل الجمعي من الانحدار والتمسك بالخرافة..  في زمن التراجع بكل المجالات. وأن نفوسهم متعبة، وأنه تعلق بالقدر لما يعيشونه من يأس وقلة حيلة، وشعور باليأس وبحث عن منقذ، وتنهيدة القلب والروح من الالم، في عالم بلا قلب وبلا روح.

ووصفها آخرون بأنها مظاهر تدين وليست تدينا، وأن من أوصلهم لهذا المشهد هم من ارادوا للدين ان يكون كذلك، وأنها رياء ونفاق، خداع النفس لان ما يسمعه لا يطبقه، ولأن (ألــمُــراءآت) أصبحت صفة شائعة في ألمجتمع!

ورأى آخرون أن الانسان بطبيعته الضعيفة يلجأ الى الدين لأنه يشعره بالأمن والطمأنينة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وأن الجانب الروحاني (الديني) مرتبط ارتباطا وثيقا بالجانب النفسي، ولأن النفس يطيب لها أن تنشرح بسماع تلاوات القرآن بتدبر، فيما الدعاء فهو استجابة لحاجة معينة لدى الشخص حيث يقول الله عز وجل ادعوني استجب لكم.

وعزا آخرون السبب الى أن الإذاعات العراقية لا تقدم ثقافة، ولا طربا، ولا دراما قريبة لمعاناة الانسان، وبرامجها مملة ومزعجة للغاية ما جعل السواق يعزفون عن سماعهن، لأن البديل الذي كان يمتعهم أيام زمان..  قد غاب.

الاغتراب..  السبب الرئيس

شخّص المستجيبون عددا من الحالات والضغوط النفسية وراء هذه الظاهرة، ونرى ان السبب الرئيس يعدو الى شعور العراقيين بالاغتراب.

ومع تعدد نظريات الاغتراب (نعم نظريات!) فأننا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجية اهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وتعني الاحساس بالوحدة والشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي: ويعدّ اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته (أنا منو؟!).

ونضيف لها (الفقر)..  في مقولة سبق بها الامام علي علماء النفس: (الفقر في الوطن غربة)..  فكيف اذا كنت تعيش فقيرا في اغنى بلد في المنطقة!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

من البديهيات في عالم السياسة والاقتصاد أن تنشأ جراء نظام المحاصصة أو ما سمى تحببا بالشراكة الوطنية، مخرجات تتكئ متبنيات عملها وتشكيلاتها على نهج تقاسم المال والسلطة، أي حصول الشركاء وحسب حجومهم وقوة نفوذهم على مقدار مكافئ من ثروات البلد بالإضافة إلى قوة ساندة، وهذه الأخيرة تلعب الظروف والوضع السياسي الدور الفاعل في قدرة هذا الطرف أو غيره على امتلاكه لأداة ردع ومجابهة سياسية كانت أم عسكرية.

منذ ماقبل الإطاحة بسلطة حزب البعث في 9 نيسان 2003 وخلال مؤتمر المعارضة العراقية لحكومة البعث والذي عقد في لندن يومي 14 و 15 كانون الأول عام 2002 تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وبحضور اغلب الأحزاب والقوى والشخصيات العراقية المعارضة آنذاك لحكومة صدام. وبحضور زلماي خليل زادة مبعوث الإدارة الأمريكية للتنسيق، وديفيد بيرس عن وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، وممثلون عن بعض السفارات الغربية، وغابت الدول العربية عن المؤتمر باستثناء سفارة الكويت. وامتنع عن الحضور الحزب الشيوعي وحزب الدعوة العراقيين، مع وجود شخصيات قريبة من هذين الحزبين داخل المؤتمر.

 حرصت نتائج المؤتمر على عرض خلاصة لرغبات الشارع العراقي عن طبيعة الحكم القادم الذي يرث العراق بعد سقوط سلطة البعث، وفي ذات الوقت وبيقين وإصرار وضعت اللبنات الأولى وأقر مبدأ ما سمي داخل أروقة المؤتمر وبشكل دبلوماسي ناعم وحضاري، مبدأ الشراكة الوطنية، وهو تقاسم المواقع في إدارة الدولة العراقية وفق الحجوم القومية والطائفية. ولم يخف البعض مطالبهم بالحصص وفق هذا المنظور، بل أعلن صراحة عن ضرورة اعتراف الجميع وبشكل تبادلي عن استحقاقاتهم وقوتهم العددية، وكانت أولى خطوات هذه الاستحقاقات إقرار المؤتمر في ختام أعماله بتشكيل لجنة سميت بلجنة المتابعة والتنسيق تكونت من 65 شخصية، ولإكمال مشهد تقاسم قوة الحضور أضيف إليها عشرة آخرون.

لم تبتعد الإدارة الأمريكية عن هذا الخيار بل فضلت ترسيخه كنتيجة ومخرج مناسب يتوافق وأهدافها المستقبلية في المنطقة قبل العراق، وأيضا يتواءم وما تنطوي عليه طبيعة التشكيلة السكانية للعراق قوميا وطائفيا. وسعت منذ عهد تداولها المعلومة ونقاشاتها الأولي مع المعارضة العراقية، على استقراء تلك التشكيلات وتقدير حجوم تلك الأثينيات والطوائف، وطبيعة حراكها ومدى تأثيرها المجتمعي.

 لذا وعلى وفق هذه القناعات عمل المندوب السامي الأمريكي السيد بول بريمر بعيد الاحتلال وحسب نصيحة البنتاغون، لوضع لبنة أولية ممكن لها أن تكون نموذجا مصغرا يلملم كل ذلك الشتات من التلاوين، فأنشأ ما سمي بمجلس الحكم العراقي للإدارة المؤقتة للبلاد، وفي نفس الوقت تكون مهمته التحضير لإعداد الدستور، لذا تألف المجلس من 25 عضوا، توزعوا بشكل أقر صيغة ما تمخض عن مؤتمر لندن، حيث حوت التشكيلة على12 عضوا من الشيعة العرب، 5 من السنة العرب، 5 من السنة الأكراد، تركماني واحد، وآشوري (مسيحي)واحد، بينهم ثلاث نساء فقط (واحدة تركمانية واثنتان شيعيتان) .

يمكننا القول بأن ذلك النموذج البريمري كان الخطوة العملية الأولى لتثبيت بنود الاتفاق العلني لتقاسم السلطة، أو ما سمى لاحقا خيار المحاصصة الذي دبج شفاها داخل أروقة مؤتمر لندن. ليرحل المصطلح لاحقا وبشكل منظم وعملي في بعضه وبتدافع وتزاحم في أغلبه، ليشمل هيكلة جميع مؤسسات الدولة من أسفلها حتى أعلاها.

 أسفرت ترتيبات التشكيلات الأولية هذه عن بدء صراع حاد وشد وجذب حول السيطرة والنفوذ بين مختلف القوى، لينشأ عن هذا التطاحن العلني منه والمخفي، دستورا للمكونات وليس دستورا للمواطنة. فقد عملت القوى جميعها على وضع أفكارها ومطالبها ومظلوميتها بالحق أو بغيره، في المقدمة وقبل أي ملمح آخر، وذلك لغرض ترسيخ وتطمين حقوقها، وضمان وجودها وتأثيرها على المدى القريب والبعيد. ولكن الناتج المفزع الذي ولد مع عمق هذا التقاسم غير المعني بمصالح الوطن والمواطن، وجراء منافسة الشركاء للاستحواذ على المغانم، هو ظهور سياسات ربما كانت مخفية أو يغطى عليها خلال فترة الخصومة مع سلطة صدام حسين. وتمثلت هذه السياسات اليومية والصراع على النفوذ والحصص، بعدم الثقة المتبادلة بين الإطراف السياسية، وانهيار الكثير من المشتركات السابقة، وتوجت بمستويات عليا من الطعون والتخوين والنفرة التي وصلت في البعض منها حدود الاقتتال.

شكل دستور المكونات القاعدة التنظيمية لهرم السلطة وبناها الإدارية. فعلى وفق ما اتفق عليه لشرعنة ما جاء في الدستور، نظم قانون انتخاب مجالس المحافظات وشرع برقم 36 بتاريخ 08 / 10 / 2008 وجاء ذلك بناءً على ما أقره مجلس النواب واستنادا للبند خامسا من المادة 138 من الدستور. مستثنيا من التشريع هذا، إقليم كردستان الذي ينأى بعيدا بتشريعاته عن السلطة الاتحادية.

كانت القواعد السياسية المعلنة لمجالس المحافظات بعد انتخابها تتشكل من جملة واسعة من الأهداف الطموحة لبناء قاعدة سياسية رصينة تبعد عن الدولة طبيعتها المركزية الشمولية، وتنال فيها المجالس صلاحيات واسعة بعيدا عن إشراف وسيطرة الوزارات، وتمنح المحافظات تخصيصات مالية مستقلة، ولها حرية إدارة الشؤون المحلية ووضع استراتيجيات وخطط لبناء قواعد عمل لتطوير البنى التحتية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وإعطاء أولويات لتلبية احتياجات الناس، على أن يكون هذا الجهد التنموي ضمن استراتيجيات التنمية لعموم العراق.

في شهر نيسان من عام 2013 أجريت أول انتخابات لمجالس المحافظات وكان عدد الذين يحق لهم التصويت ما يقارب 14 مليون ناخبا وتنافس هؤلاء على مقاعد مجالس 12 محافظة وبجموع 378 مقعدا تتوزع بالأرقام حسب الكثافة السكانية للمحافظة.

ما نتج عن تلك الانتخابات كان عبارة عن مخارج مخيبة لأمال الناس التي كانت تطمح ليكون ظهور تلك المؤسسة المدخل الحقيقي والمناسب للتغيير في وقائع ومجريات حياتهم اليومية. ولكن الذي حدث أفصح عن كون هذا التشكيل الجديد، ليس فقط وجودا فائضا وحلقة زائدة بين ركام المؤسسات الهجينة وغير النافعة للشعب العراقي، وإنما تجلت في أعماله، القدرة على افتعال وصناعة الكوارث دون حياء. فقد ظهر ومنذ البداية سوء الإدارة والعطب في بنية تشكيلاتها المتخلفة، وطبيعة علاقتها بمواطنيها، وأساليب علاجها لمشاكلهم وتلبية احتياجاتهم، وبالذات في البنية التحتية المتهالكة لعموم المحافظات. وتمثلت الكوارث أيضا في طبيعة نظام المحاصصة حيث أخذ الجميع وبشكل سريع ومباشر ومن خلال معارك ضارية، العمل للاستحواذ على ميزانية المحافظة وتقاسمها كغنائم، عبر إيجاد طرق وأبواب لمنح امتيازات وتخصيصات ونفقات خاصة لأعضاء المجلس، ولتتحول هذه الممارسة لاحقا إلى عرف دائم تخصص وتستقطع له نسبة كبيرة من الميزانية الممنوحة للمحافظة. وكان الأدهى من كل ذلك عمليات المنافسة غير الشريفة بين أطراف المجلس حيث يتم العمل بمنهجية على إضعاف الأخر عبر عمليات طعون ومؤامرات ومكائد لإفشال أي مقترح يقدمه أي طرف منافس، ويتم إيقاف أي نموذج لنجاح وتفوق اقتصادي اجتماعي يسعى له ذلك الطرف، حيث يسعى المنافسون لتخريب أو إيقاف أي مشروع يتبناه أو جاء من بنات أفكار شريكهم الأخر، وبسبب هذه المنافسة غير الشريفة والأساليب البعيدة عن رجاحة العقل والمسؤولية الوطنية، شاع الإهمال في الرقابة وعدم محاسبة الجناة عن سوء أعمالهم. وحدث تلكؤ عام وتوقف للعديد من المشاريع وتم الاستحواذ على مبالغها الهائلة جراء تلك المؤامرات التنافسية الوضيعة.

وبعد أن ظهر أن هذا التشكيل المسمى مجلس المحافظة، بات يدر من الأموال ما لا يعد ويحصى، لذا شكلت القوى والفعاليات المشاركة في تلك المجالس، صناديق ومكاتب اقتصادية، الغرض منها إدارة العمليات الحسابية والصفقات التي تتم عبر الامتيازات والعلاقات والرشى التي أصبحت تمارس على المكشوف بشراكات وكومشنات وابتزاز مع المقاولين والشركات المنفذة للمشاريع.

وأصبحت تلك المؤسسة في نهاية المطاف عبارة عن متواليات من صدمات وفواجع ونكبات ومواجع وضعت ثقل خيباتها على كاهل المواطن. وأثرى فيها ومنها أعضاء المجالس على حساب آلام وأوجاع الناس، دون أن يجدوا من يحاسبهم على هذا الثراء والغنى الفاحش، الذي طرأ فجأة على وضعهم الاقتصادي. وليشكل أداء المجالس في الأخير ضررا فادحا على حياة المحافظات بشرا وبنيانا، حيث انعدمت الخدمات وتوقفت المشاريع وتدهورت قطاعات مهمة وملحة مثل التعليم والصحة والبلديات وابتلعت الميزانيات الضخمة وتبعثرت دون أن يظهر لقيمتها أثر مهم وفاعل في حياة الناس.

***

فرات المحسن

عندما دعتني إحدى القنوات للمشاركة في ندوة عن «معركة واترلو»، بذكراها المائتين (1815-2015)، اعتذرتُ، لعدم ضلوعي في التّاريخ الأوروبيّ، بعدها وافقتُ بشرط اختصار الحديث على الفِرق بين احتفالاتهم واحتفالاتنا بالماضي! فلم تُثار المواجع بين بريطانيا وفرنسا، إنما عرضوا ما في المُتاحف مِن أسلحة المعركة، وملابس المقاتلين، بمعنى كان الاحتفال ثقافياً تُراثياً، يُشاهد تقاليدَ لا عقائدَ.

بينما يجري تذكر الماضي عندنا بنبش الضَّغائن، وكأنها اليوم، فالآلاف شاهدوا المحكمة التي أُعدت لهشام بن عبد الملك (ت: 125هج)، والمدعي كان زيد بن عليّ (قُتل: 122هج)، أقامتها مؤسسة أكاديميّة في عصر الانحطاط، بحضور رئيسها وجمهور الأكاديميين والطَّلبة، وصدر الحُكم على رمة العظام، التي سبق أنّ أخرجها العباسيون وأحرقوها (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف).

هذا الدّرس (الأكاديميّ) يؤخذ حقيقةً واقعةً، شأنها شأن تمثيل شخصية قاتل الإمام الحُسين، على أنه حقيقةٌ، لذا نزل المتفرجون إلى ساحة العرض للقصاص منه! بين حين وآخر يظهر السّياسي، مستذكراً معركة صفين(37هج)، مستعرضاً مواقف عمرو بن العاص(ت: 42هج) فيها، بينما ابن العاص، أخطأ أو أصاب، أدخل الإسلام إلى مصر، ولولاه ما كان للجميع مذاهبٌ بها.

نسأل هذا السّياسيّ: هل كنت مؤرخاً أم رئيس حزب، ينتظر المواطن منك حل معضلات الحاضر وتطلعات المستقبل؟ فإذا كنت مؤرخاً، فلا تسع المؤرخ السّياسة. عندما أشتد التّطرف، خرج علينا مَن يُعلل النِّزاع بالقول: «معركتنا بين يزيد والحُسين»!

بينما كان النّاس ينتظرون تحسن الأحوال، وإذا به يصب الزّيت على النَّار، ويُقدم نفسه أنه «مختار العصر»، و«المختار» صار رمزاً لثارات العلويين، مع أنه قد قتل أحد أبناء علي بن أبي طالب، عبيد الله(67هـ)، ويتداول الآن البعض العمل على محاكمة الرَّاشدين والأمويين.

ما حصل كان تطبيقات لـ«بحار الأنوار»(110مجلدات) حرفياً، كتاب أبرز فقهاء الصّفويين محمد باقر المجلسيّ (ت: 1699)، تطبيق حكايات اخترعها رواتها وأدامها المعاصرون، ومنها عندما يخرج المنتظر ينبش قبوراً، ويصلب ويحرق عظاماً، حتّى طغى «بحار الأنوار» ثقافيَّاً، وظلامه لم يبقِ للنور كوةً. تنتشر ثقافةٌ سلبيّةٌ في المجتمع، ولا يبدو الغلو، الممارس هذا العام، بعيداً عن نية نصب محاكمٍ للأقدمين، لإشاعة روح الانتقام، ببلد أرهقه تعاقب الانتقام، ولله دُر القائل: «فما بالُ كفِّ القضا لا تدورُ/ على بلدٍ ظلَّ حتَّى اختزى»(الجواهريّ، المقصورة)، وهل مِن خزي أكثر مما نرى ونسمع؟ لا يبدو أنَّ المتنفذين قد ميزوا بين منبر العزاء الحُسيني ومنبر السُّلطة، فإذا لم يساهموا في ثقافة الانتقام نراهم يسكتون عنها، والسّكوت علامة الرّضى.

لا نرى في هذا الهبوط الثّقافي إلا إلغاء المستقبل، بل ولا النظر في مشكلات الحاضر، بسبب طغيان الخطاب الماضويّ سلبياً، حتَّى الحُسين بن عليّ يُقدمه هذا الخطاب كائناً غريباً لمحبيه، وهو بهذا الغلو الخارج عن المنطق والعقل!

حتَّى دخلت هذه الثّقافة رياض الأطفال والمدارس. سيظهر جيلٌ كسيحٌ، لا شأن له إلا الخُرافة، وبطبيعة الحال أن يكون حاضرنا ومستقبلنا معركة بين يزيد والحسين، ونصب محاكمات لمَن صار في ذمة الماضي، قبل أربعة عشر قرناً، أنها أعلى درجات الخُرافة، وأحطُ مستويات العقل. ليس لنّا إلا القول: عندما يصر السِّياسي على هذا النّهج، غير تشخيصه بالخائب، والسِّياسي أو الحزبي الخائب تراه بارعاً في نسج الوهم والخرافة، لا شأن له بصناعة المستقبل، له بأحداث غدت رميماً. لينظر الخائب في ما قاله ابن شرف القيرواني(ت: 460هج) قبل ألف عام، خالعاً ثياب الماضي بأحقاده وضغائنه، كي لا يُحطم الحاضر والمستقبل: «ولَعَ النَّاسُ بامتِدَاحٍ القَدِيمِ/ وبذَمِّ الجَدِيد غيرَ الذَّمِيمِ/ ليسَ إِلا لأَنَّهم حَسدُوا الحَيَّ/ ورقُّوا على العِظامِ الرَّميمُ»(الشُّريشيُّ، شرح مقامات الحريريِّ).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

كانت المملكة العربية السعودية تراقب بصمت ما يجري منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب ما تسمى صفقة القرن و جر دول عربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني فيما يسمى (السلام الإبراهيمي) وخصوصاً أنها كانت متورطة بحرب اليمن و تتعرض لتهديد حقيقي من طرف الحوثيين الذين قصفوا بالصواريخ والمسيرات مواقع حيوية في داخل البلاد، كما كانت مشتبكة في خلافات حادة مع قطر التي هددت زعامتها عربياً واسلامياً وحتى داخل مجلس التعاون الخليجي، أيضاً كان ولي العهد محمد بن سلمان منشغلاً بترتيب البيت الداخلي في العائلة المالكة وموروثها التقليدي الديني والثقافي الذي كان يحد من تطلعاته نحو الانفتاح على العالم.

وجاءت حرب أوكرانيا وتداعياتها على المنطقة ومحاولة روسيا والصين مد نفوذهم والتقرب من بعض دول المنطقة وخصوصاً الرياض، لتمنح ولي العهد فرصة لتستعيد المملكة بعضاً من هيبتها ومكانتها وكانت الخطوة الأولى إعادة العلاقة بين المملكة وإيران بوساطة الصين والتقارب السعودي التركي، والمصالحة في إطار مجلس التعاون الخليجي ومساعي انضمامها لمجموعة بريكس، ومع ذلك لم تخرج المملكة من تحت العباءة الأمريكية والغربية بالكامل حيث العلاقات الاستراتيجية التاريخية على كافة المجالات من الصعب تجاوزها بسهولة.

تزامنت هذه المستجدات في السياسة الخارجية مع ما يشبه الثورة الثقافية والاجتماعية والدينية قادها ولي العهد للتحرر من إرث كان يعتبره سبباً في المشاكل التي تعانيها المملكة وسببا في استطاعة دول صغيرة كقطر والإمارات منافستها وإنجاز تطورات مهمة داخلياً وخارجياً، ونتيجة هذه (الثورة) الداخلية انفتحت المملكة في كل المجالات بما فيها المجال الديني والثقافي الذي كان يشكل أه عائق أمام المملكة وتطبيعها مع إسرائيل.

التقارب السعودي الإيراني برعاية صينية في مارس الماضي لم يقلق واشنطن وتل أبيب كما لم يقلقهم تعيين المملكة سفيراً فوق العادة ومفوضاً (غير مقيم) لدى فلسطين وقنصلاً عاماً في مدينة القدس وزيارة وفد سعودي كبير يترأسه السفير لرام الله الشهر المنصرم، لأنهما يدركان أن ذلك تمهيد للتطبيع مع إسرائيل خصوصاً أن السعودية كانت مقابل هذه الخطوات التقاربية مع ايران والفلسطينيين تتخذ خطوات إيجابية مع الإسرائيليين كفتح المجال الجوي أمام الطيران الإسرائيلي واستقبال وفود إسرائيلية ووزراء في المملكة وتصريحات إيجابية كانت تصدر عن مسؤولين سعوديين حول التطبيع .

كما أشرنا في مقال سابق، إن التطبيع قرار سيادي لكل دولة والفلسطينيون في وضعهم الراهن لا يستطيعون إيقاف قطار التطبيع، ولكن التطبيع السعودي يختلف عن تطبيع بقية الدول نظراً للموقع الديني الذي تحتله المملكة، فإن تُطبِع السعودية مع دولة الكيان العنصري الصهيوني الذي يحكمه تحالف يميني عنصري يقول بأن الضفة هي يهودا والسامرة وأن القدس هي أورشليم ولا يعترف بأي شرعية دينية وتاريخية للفلسطينيين والعرب والمسلمين في فلسطين والقدس، فهذا معناه قبول الرواية اليهودية الصهيونية لأن الاعتراف السعودي بإسرائيل هو في نفس الوقت الاعتراف بحكومتها وبرنامجها، هذا يعني أن التطبيع لم يعد تابو أو مجرم ديني عند المسلمين، وبصيغة أخرى سيكون تطبيعاً بين مكة عاصمة العالم الإسلامي و(أورشليم) عاصمة الدولة اليهودية.

نعم، نحن أمام تطبيع له بُعد ديني وهناك سوابق لهذا التطبيع، فقد صمت الأزهر الشريف في مصر عن التطبيع وتوقيع اتفاقية سلام، والأزهر هو المرجعية الدينية لغالبية المسلمين السنة بعد المملكة السعودية، وتم التطبيع مع الأردن راعية الأماكن المقدسة وكان الملك حسين بن طلال يقول إنه من سلالة الدوحة الهاشمية وسبط الرسول الاعظم، كما طبعت تركيا وعززت علاقاتها مع الكيان اليهودي الصهيوني في ظل حكم أردوغان (خليفة المسلمين) وحزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية، وطبعت مع إسرائيل والمملكة المغربية على رأسها ملك حسب الدستور (أمير مؤمنين، إلا أن التطبيع السعودي يختل.

إن كل ما يُقال أن المملكة تريد التطبيع مع الكيان الصهيوني لأنها بحاجة للسلاح المتطور والتكنولوجيا النووية واتفاقية دفاع مشترك مع واشنطن الخ هو جزء من الحقيقة لأن هذه الأمور متوفرة في دول أخرى ويمكن الحصول عليها بما للمملكة من إمكانيات مالية بدون أن تضطر للتطبيع مع إسرائيل. فلماذا لم تحصل على ذلك من قبل وهي الحليف الاستراتيجي لواشنطن والغرب؟ وفي مواجهة مَن هذا السلاح وقد تحسنت علاقتها مع إيران؟ كما أن الحديث يدور عن مفاعل نووي سلمي يخضع بالكامل للإشراف والإدارة الأمريكية كما هو الأمر بالأسلحة المتطورة؟ وحتى لو امتلكت الرياض سلاحاً نووياً فهل ستضرب به إسرائيل النووية؟ وهناك نموذج القنبلة النووية الإسلامية الباكستانية التي لم تنفع باكستان حتى في صراعها مع عدوها اللدود الهند. أيضاً لماذا لا تأخذ الرياض التكنولوجيا النووية من أوروبا أو من باكستان الإسلامية أو من الأصدقاء الجدد روسيا والصين حيث بالغ البعض في تفسير التقارب مع هاتين الدولتين بأنه تحول استراتيجي في السياسة الدولية للرياض؟

الوجه الآخر من الحقيقة هو شخصية ولي العهد وقناعاته الشخصية بعدم جدوى استمرار القطيعة مع إسرائيل وخصوصا في ظل ضغوط أمريكية هائلة على المملكة للتطبيع لإدراك واشنطن بأن مشروع الشرق الأوسط الجديد وما يسمى (السلام الابراهيمي) لن يتقدم في ظل وجود الحاجز الديني بين اليهود والمسلمين وإزالة هذا الحاجز بيد المملكة.

ومع ذلك ستطبع المملكة مع الكيان حتى بدون الحصول على كامل مطالبها من واشنطن أو تطبيق مبادرتها للسلام، وسيكون الفلسطينيون شهاد زور على التطبيع بين مكة وأورشليم، وهو التطبيع الأول الذي تأخذ فيه الدولة المُطبعة موافقة فلسطينية رسمية مسبقة.

وعود على بدء، فعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية والقدس لم تعد قضية العرب والمسلمين الأولى وقطار التطبيع سيواصل سيره، إلا أن واشنطن ودولة الكيان تعلمان أن هذا التطبيع حالة غير مستقرة لأنه تم رسمياً مع دول غير ديمقراطية وأوضاعها غير مستقرة، وأنه لا يمكن تجاوز حقيقة وجود 14 مليون فلسطيني نصفهم داخل فلسطين وعددهم يفوق قليلاً عدد اليهود والنصف الآخر في الشتات ما زال غالبيتهم يحملون الهوية والجنسية الفلسطينية ويتعامل معهم العالم كفلسطينيين، وما لم يوجد حل سياسي يرضي عنه غالبية الشعب الفلسطيني فسيكون ( السلام الابراهيمي) مجرد سراب، وستكتشف الشعوب العربية أنه مقابل تسامحهم الديني ومرونتهم السياسية مع الصهاينة إلا أن هؤلاء الأخيرين ليسوا صادقين في السعي للسلام ولا يحترمون أصحاب الديانات الأخرى ولا الشعوب الأخرى .

***

ا. د. ابراهيم ابراش

لقد كشفت كارثة قاعة الأعراس في قضاء الحمدانية حقيقة أن الدولة لا يمكن أن تأخذ مجراها وقوتها وديمومتها بوجود مجموعات مسلحة وميليشيات مهيمنة على مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وأثبتت تلك المأساة التي راح ضحيتها مئات الأطفال والنساء والشيوخ، في أول كارثة من نوعها بعد جريمة ملجأ العامرية أبان حرب الخليج الثانية، بأنه حان الوقت لفتح ملفات هذه المجاميع والفصائل وما تحتويه من تنظيمات ومافيات وزعامات تخفي وراء وجودها فضائح تزكم الأنوف وهي تستعرض عضلاتها بين الأهالي وتتدخل في الصغيرة والكبيرة في شؤون الدولة بما يعيق ديمومتها ويشيع الفوضى والفلتان على حساب هيبة الدولة ومكانتها. وبعد سقوط النظام بسنوات أبتلي العراق وخاصة المدن بتلك الجماعات والميليشيات والتي تتمركز في النقاط التي تدر وتنزف أموالاً كالمنافذ الحدودية والموانئ ونقاط السيطرة الثابتة والمتحركة إضافة إلى الشركات الأجنبية والمحلية والمشاريع بكل مستوياتها وتجارة الخمور والمخدرات والأسلحة، حيث تفرض على الجميع أتاوات وبدل ما يُسمى بالحماية وضرائب وتبرعات ملزمة، وهذا ما يحصل اليوم من البصرة وحتى الموصل وغرباً من ربيعة وسنجار وحتى عرعر على الحدود السعودية، حيث تنتشر مافيات مسلحة وزعامات ميليشياوية بتجهيزات عسكرية وإمكانيات لا تمتلكها الدولة تُشيع الرعب والإرهاب بين الأهالي وفي تلك المراكز لتبتز الأموال وتفرض هيمنتها على صناديق الأموال والضرائب والدخول والخروج. والعجيب أن رؤساء هذه العصابات التي شرعنت نفسها بعباءة أجهزة الدولة ومؤسساتها، يتجولون في المدن والقرى بأرتال من أحدث السيارات وبعشرات من عناصر الحماية مرتدين أزياء تشبه أزياء رعاة البقر في أمريكا، بل عن قادة تلك المافيات أطلقوا لحاهم وشعر رؤوسهم وكأنهم قراصنة البحار، علماً بأن غالبيتهم أنصاف أميين وغير متعلمين اشتروا شهادات مزورة من جامعات مشبوهة في لبنان ومصر وتركيا وإيران، وجمعوا حولهم أفواج العاطلين عن العمل برواتب مغرية على شكل أفواج وألوية بحجة الحفاظ على الأمن ومكافحة الإرهاب، وأصبحت شماعة الإرهاب واحدة من أهم وسائلهم للإيقاع بأي شخص لمجرد معارضته لهم أو وقوفه بالضد من ارتزاقهم، وهذا ما يحصل في العديد من مدن العراق الغربية والشمالية الغربية وصولاً إلى ميناء البصرة وبقية المنافذ الجنوبية والشرقية مع إيران والكويت والسعودية. لقد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى اقطاعيات مالية ضخمة تساندهم أذرع برلمانية وتنفيذية وقضائية، وهذا ما اتضح في كوارث عديدة حصلت خلال السنوات الماضية بسبب حمايتهم للفساد المستشري في مفاصل الدولة وآخرها كارثة قاعة الأعراس في قضاء الحمدانية إلى الشرق من مركز مدينة الموصل ذي الغالبية المسيحية والتي راح ضحيتها المئات من الأطفال والنساء والشيوخ، حيث أشرت التحقيقات الأولية إلى تورط العديد من زعماء تلك المافيات والميليشيات بشكل أو بآخر في تلك الكوارث، بحمايتهم لأصحاب تلك المشاريع أو مالكين لها أو فاعلين رئيسيين فيها لأغراض انتخابية أو سياسية عدوانية. إن ما تقوم به هذه المجموعات وزعمائها يذكرنا بالمثل الدارج في الشعبيات العراقية (عجايا والدنيا عيد) حيث ما يزال هذا المثل يستحوذ على موقعه كأقوى توصيف لفعاليات وسلوكيات وحتى أزياء رؤساء الجماعات المسلحة والميليشيات التي انتشرت ونمت بشكل سرطاني خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد نجاح القوات العراقية والبيشمركة والتحالف الدولي في القضاء على الهيكل الإداري لتنظيمات الإرهاب التي كانت تسيطر على عدة مدن عراقية وكردستانية، وتحول هؤلاء القراصنة إلى أبطال كارتون ونمور ورقية تمثل على مسرح الانتصار على الإرهاب، بينما تقوم بأعمال لا تختلف كثيراً عما كانت تقوم به تلك التنظيمات الإرهابية إلا اللهم بفارق الزي والملابس حيث عرف عن عناصر تنظيم الدولة الزي الافغاني أو الباكستاني، بينما يرتدي أبطال الكارتون من زعماء العصابات أزياء قراصنة البحار وممثلي هوليود في أفلام رعاة البقر.

***

كفاح محمود

هل ستكون خاتمة الانتفاضات في تاريخ العراق السياسي؟

يعد العراق البلد الاول في المنطقة من حيث عدد الانتفاضات فيه. وقبل ان نبدأ باشارات موجزة عنها نشير الى ملاحظتين: هناك نوعان من الانتفاضات، الأول .. ضد المحتل، والثاني ضد نظام الحكم. والثانية.. ان معظم الانتفاضات الشعبية حدثت في جنوب ووسط العراق.

تعود اول تظاهرة شعبية في تاريخ العراق السياسي الحديث الى زمن الحكم العثماني، لسببين: لأن حكم العثمانيين كان قاسيا.. ظالما لاسيما بفرضه ضرائب باهضة. والثاني ان ولاة العثمانيين لم يفهموا سيكولوجية الشخصية العراقية الشعبية التي تأنف الخضوع لسلطة سياسية، وقد جسدتها عشائر الخزاعل وزبيد والمنتفق في تحديهم للقوات العثمانية والأنكليزية، ما اضطر الدولة العثمانية الى اتباع سياسة أخرى بعد أن فشلت سياسة البطش والقوة، لاسيما انتفاضة مفتي بغداد عبد الغني جميل زاده عام 1832 والمذبحة الكبرى ضد اهالي كربلاء سنة 1842 التي راح ضحيتها قرابة 4000 مواطنا من اهالي كربلاء.

وفي زمن الآحتلال البريطاني شهد العراق ثورة (العشرين) اندلعت في (أيار/ مايو 1920م) ضد الاحتلال البريطاني، وسياسة تهنيد العراق، تمهيداً لضمه إلى بريطانيا. تلتها انتفاضات كبرى في 1930 يوم عمد رئيس الوزراء ناجي السويدي الى انهاء خدمات الكثير من البريطانيين فغضب المندوب السامي البريطاني وطلب من الملك فيصل الأول الغاء الأمر.. فألغاه.. ما اضطر ناجي السويدي وكابينة وزارته للاستقالة وتوضيح الأمر للشعب .. فكانت الانتفاضة.. تلتها انتفاضات اخرى اهمها انتفاضة 1948 ضد توقيع العراق معاهدة بورتسموث اصبحت فيها العاصمة بغداد وكانها ساحة حرب، تلتها انتفاضة 1652 شارك فيها الآف المتظاهرين وهم يحملون لافتات تدين الحكومة والأنجليز واحرقوا مكتب الأستعلامات الأمريكي.

كات هذا موجزا بأهم الانتفاضات التي قام بها العراقيون ضد الاحتلال الأجنبي، ونأتي الآن الى موجز بأهم الانتفاضات التي كانت ضد انظمة الحكم، وهما الانتفاضة الشعبانية وانتفاضة تشرين.

في (3 آذار 1991) وبعد خسارة العراق المذلّة للجيش العراقي في غزو الكويت، انتفض العراقيون في معظم المحافاظات (بدأتها البصرة واسقطت السلطة فيها) وحاصروا عددا من المعسكرت بهدف اسقاط النظام الدكتاتوري برئاسة صدام حسين. لكن الانتفاضة، التي سميت بالشعبانية، لأنها وقعت في شهر شعبان بالتقويم الهجري، قضي عليها بسبب قسوة النظام الذي اعتبرها (صفحة الغدر والخيانة). وقد سقطت السلطة في معظم المحافظات، وشهدت بعيني في مدينة الناصرية كيف وضع المتظاهرون اطارت السيارات في رقاب بعثيين واحرقوهم احياء! 

انتفاضة تشرين 

قل عنها ما شئت.. قل ان بين قادتها من اشترتهم احزاب اسلامية وصاروا مرفهين وباعوا مباديء انتفاضة تشرين، وقل عنها انها (فقاعات) وانهم غوغاء وما شئت من المفردات التي اشاعها اعلاميو السلطة عبر فضائيات طائفية. ومع ذلك فان ما حدث في (الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019) كان حدثا سياسيا وجماهيريا غير مسبوق في تاريخ العراق السياسي. ففي هذا اليوم انطلقت بالمحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى اليأس والعجز من اصلاح الحال. وفاجأت ايضا علماء النفس والاجتماع بما يدهشهم.. بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالإحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.. فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!.

وأكدت الأحداث ان هذا الحراك كان عفويا، إذ لم يُعلن أيّ حزب أو زعيم سياسي أو ديني دعمه له، واعتبر سابقةً ما حدثت في تاريخ العراق السياسي.. من حيث زخمه وحجمه وما احدثه من رعب في السلطة اضطرها الى استخدام القوة المفرطة، ادانها الرأي العام العالمي في حينه.

وخلال خمسة أيام، بلغ عدد الضحايا (110) شهيدا، ليسجل يوم الخميس (الثالث من الأيام الخمسة) اليوم الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الامنية ومتظاهرين يطالبون برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم.

تساؤلات.. دون اجابات!

في العام (2022) تساءلنا بالنص:

ما الذي حصل لانتفاضة.. ثورة تشرين؟ وهل صحيح ان بين قادتها من باع نفسه للسلطة؟ وهل.. دوافعها، جوهرها، باقية في ضمائر الناس؟، وهل سيأتي يوم يحاكم فيه قتلة فاشيون؟ وهل ستعود الانتفاضة الثورة بعد ان صار مصير الناس تتحكم به في السابق قوتان (التيار والأطار) كلاهما لا يصلح لحكم العراق؟

ونعيد الآن (2023) نفس التساؤلات، مضيفين لها تساؤلا (لغزا): ان قوة سياسية (التيار الصدري) حصدت المقاعد الأكبر في البرلمان.. تتنازل عن كل مكتسباتها السياسية لخصمها؟!.. فيخلوا له الجو.. ويبيض ويصفر و يحلو! ويستولي حتى على جامعات عراقية!؟

شهادة .. للتاريخ والأجيال

كنت قد عايشت انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد. كانت الساحة وشارع السعدون تغص بعشرات الآف المتظاهرين، معظمهم شباب وبنات وصبايا وطلبة جامعات.. ونساء جئن بتنانيرهن يخبزن الخبز ويوزعنه مجانا!، وكسبة وفلاحين وشيوخ عشائر وأكاديميين، توزعوا على خيم متنوعة، واحتلوا بناية عالية مهجورة كانت تسمى (المطعم التركي) ومنحوها اسم (جبل أحد) تزين واجهاته شعارات (نريد وطن)، (نازل آخذ حقي).. وصور شهداء وأعلام عراقية.

ولأن الباحث العلمي عليه ان يكون في ميدان الحدث ليوثقه كما حصل، فأنني تابعتها من البداية. وخلال خمسة أيام، وبحسب الآرقام الرسمية لوزارة الداخلية في 6 تشرين/اكتوبر فان عدد القتلى بلغ 110 وتجاوز عدد المصابين 6100 جريحا حتى الرابع عشر من تشرين اول. وكان يوم الخميس (الثالث من الأيام الخمسة الأولى للانتفاضة) هو الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين المحتجين والقوات الامنية، حيث امتدت التظاهرات التي تطالب برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب الى المدن الجنوبية ما استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم، وفرض حظر للتجول في عدد من المدن، وإغلاق العديد من الطرق المؤدية من الشمال والشمال الشرقي إلى العاصمة وإرسال تعزيزات إلى شرق بغداد، وقيام القوى الامنية وقوات مكافحة الشغب باستخدام الماء الحار والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي.. كان نتيجته سقوط (63) قتيلا في بغداد و (21) في ذي قار تليهما: الديوانية، النجف، كربلاء، وديالى.. باستثناء البصرة التي لم تحدث فيها اصابات.

وفي مساء اليوم نفسه، الخميس (الثالث من تشرين أول)، توجّه رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي، بخطاب متلفز بُثّ على وقع أصوات الطلقات الناريّة التي يُسمع دويّها في أنحاء بغداد، دافع فيه عن إنجازات حكومته وإدارته للأزمة الحاليّة، مطالبًا بمنحه فترة زمنيّة لتنفيذ برنامجه، ووصف ما يجري بأنه (تدمير للدولة).

ومع ان الحكومة اعلنت حظر التجوال وقطع خدمات الأنترنت فان المتظاهرين وصلوا العاصمة بغداد على متن شاحنات حاملين اعلاما عراقية واخرى دينية معظمها يحمل اسم الامام (الحسين) ويهتفون (بالروح بالدم نفديك ياعراق). 

وبرغم هذا الرعب، وبرغم هذا البطش غير المسبوق في تاريخ العراق ضد متظاهرين سلميين يحملون علم العراق، فأن المحتجّين توجهوا نحو جسر الجمهوريّة حيث ضربت القوّات الأمنيّة طوقاً مشدّداً عليه خوفا من اقتحامهم الخضراء.

كان استخدام السلطة القمع المفرط ضد المتظاهرين، ونزول قوات سنوات والمليشيات ووجود القناصين على سطوح العمارات قد ادى الى القضاء على التظاهرات ورفع حظر التجوال وقيام رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي بالقاء خطاب موجه للشعب مساء الأربعاء التاسع من تشرين اول(2019)، وصفناه في حينه بأنه خلطة من تناقضات في طبخة لا تؤكل، أكثرها مرارة انه اعلن الحداد على شهداء قتل معظمهم برصاص قوات هو قائدها، وتكريمه لقوات امنية بينهم قتلة ايضا!.. واعلانه للشعب العراقي بانه سيحيل فاسدين كبار خلال ساعات ولم يفعلها. ولم يأتي على قطع الأنترنت، ولم يشجب الهجوم على فضائيات والتجاوز على حرية التعبير التي كفلها الدستور. وصيغ خطابه ليفسره البعض بانه انحياز للشعب، ويفسره آخرون بأنه مضطر للوعود ليمتص غضب الشارع، ويفسره موقف ثالث بأنه تنازل تكتيكي.

وفي خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019)، حمّلت المرجعية الدينية على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها مدة اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم. ومع ان خطابها هذا يعد الأول من حيث تضمينه تهديدا للحكومة وأحزاب السلطة، فان الرأي العام العراقي، باستطلاع اجريناه في حينه، توزع بين وعود على المرجعية ان تحققها، وبين من وصف الخطاب بانه تخدير و(أبر مورفين)، او محاولة لإنقاذ موقعها بين الناس، وبين من رأى ان دعوتها هذه سوف لن تجد استجابة عملية من الذين يعنيهم الأمر.

كان اهم انجاز حققته انتفاضة تشرين اجبار سلطة القتلة الفاشيين على استقالة حكومة باكملها، ليمنحها اشاعة فضاء شعبي يتنفس هواء عراق نظيف من غازات الطائفية والمذهبية.. فهل ستعود بعد أن عادت غازات الطائفيين والفاشيين تخنق الملايين؟!

ويبقى التساؤل:

هل ستكون انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 هي خاتمة الانتفاضات والثورات ضد نظام قائم على المحاصصة ويعد الأفشل والأفسد على صعيد العالمين العربي والعالمي؟

وبافتراض ان ثوار تشرين الحقيقيين وانصارهم الجدد وقوى التغيير بكل عناوينها انهم قاموا بتظاهرات سلمية في الايام القادمة.. فكيف سيكون تعامل الحكومة معها؟ وبافتراض ان السيد محمد شياع السوداني سيلتزم بحرية التظاهر التي ضمنها الدستور.. فكيف سيكون موقف (الأطار التنسيقي) وتحديدا.. القوتان الفاعلتان فيه؟

***

ا. د. قاسم حسين صالح

توطئة: ان مشروع طريق التنمية مشروع عراقي بامتياز، لتدعيم الاستثمار والاستغناء التدريجي عن النفط كمصدر رئيسي لموازنة البلاد لكونه مصدر عبور للتواصل واعادة تاهيل ومخاض للتغيير وبناء للاقتصاد المستدام الغير نفطي، وهو مشروع استراتيجي واعد للتغيير الشامل في البنى التحتية وبث الروح التنموية فيها والتي تشمل قطاعات النقل والصناعة والزراعة والطاقة المتجددة وبناء وتجديد المطارات ومحطات القطارات السريعة وشبكة الطرق البرية، واستثمار عقدة الربط في مفصل العبور بين قارتي اسيا وأروبا، وحصل على تأييد الحكومة الاتحادية في مطلع هذا العام 2023 في تبني احياء هذا البديل الاقتصادي، وهو مشروعَ جريئ لاحياء البنى التحتية بامتداد جغرافية العراق بربط ميناء الفاو الكبير على الخليج بتركيا من خلال شبكات السكك الحديد والطرق البرية ، ويكتمل المشروع خلال 3-5 سنوات، وتبلغ كلفته 17 مليار دولار امريكي، سيبدا المشروع رسميا العام المقبل ويمتد على مدى ثلاث سنوات حتى عام 2050، في المرحلة الاولى يتطلب انجاز المشروع بالخطوة الاولى التي هي: انجاز الطريق الرابط ميناء الفاو الكبير بالنفق المغمور او ميناء ام قصر الذي يربط هذا الخط بالطريق السريع الدولي او طريق مشروع التنمية الذي يبلغ طولهُ 63 كم.

ونامل ان لا يكون واجهة ديماغوجية للدعاية الحكومية ولتقوية اواصر الثقة المهزوزة بين الحكومة والشعب، جراء فلسفتها السياسية السلبية والذي يبدو انهم طلاب سلطة لا طلاب دولة، وهكذا هي السياسة علم المراوغة والمكر والخداع للحصول على منافع مادية، الرابح فيها حيتان تتبنى مشاريع وهمية خالية الدسم ان لم تكن مزورة، لذا يمكن القول ان السياسة حرفة والوطن رسالة، والسياسة دهاء والوطنية اخلاص وتضحية، والسياسة دراسة والوطنية فطرة، وقال فيها عظماء وقادة اقوال ماثورة: السياسة فن السفالة الانيقة (انيس منصور) السياسة فن الخداع تجد لها ميدانا واسعا في العقول الضعيفة (فولتير)، وفي السياسة اذا كنت لا تستطيع اقناعهم فحاول ان تسبب لهم ارتباك (ترومان)، السياسة فن الخباثة يكون فيها من الضرورة الضرب تحت الحزام (شارل ديكول)، واتساءل على الدوام وبمرارة واحباط واحيانا تصل الى بكاء الرجال الصامت لمعايشتي غرق تايتانيك وطني حاملا الارث المتردي للنظام السابق ، ولماذا كُتب عليه منذ تاسيسه المنحوس الخيبات والنكوصات وعقدة الازمات؟؟؟!!!

طريق التنمية والمكاسب المتوقعة فرصة ذهبية !؟

-يعتبر نقلة نوعية في التخلص من احادية الاقتصاد بالاعتماد على 90% من ايرادات النفط الخام.

- يعتبر الخبراء الماليين عوائد المشروع سيصل الى 5 مليار دولار سنويا، والذي يفتح ابواب تعزيز العلاقات التجارية مع المحيط الاقليمي والدولي للعراق.

- خلق وتوفير مئة الف فرصة عمل للشباب بنهوض طاقات الاستثمار المحلي الداخلي.

- تطوير قطاع النقل بتاهيل الطريق الرابط ميناء الفاو الكبير بالنفق المغمور الذي هو ميناء ام قصر والذي يرتبط بالخط السريع الدولي الذي يبلغ طولم 63كم ويسمى طريق مشروع التنمية، اضافة الى اعتماد المشروع الى خط سكة حديد يبلغ طوله 1174 كم، والذي يعتبر من ارخص طرق نقل البضائع واوسعها استيعابا حيث ينقل 5-3 مليون طن في المرحلة الاولى وتكون 5-7 مليون طن في المرحلة الثانية في حال اتمام المشروع.

- فكرة المشروع اقتصادية حيث يتم ربط ميناء الفاو الكبير بشبكة من الطرق السريعة برا وبحرا، وانهُ يختصر الوقت من 33 يوم الى 15 يوم.

- ان مشروع طريق التنمية الذي (يمر) بالعراق سوف ينعش المنطقة ويكرس التكامل الاقتصادي مع دول الجوار الاقليمي خاصة، ويسهم في استقرار الشرق الاوسط.

- وثمة مشاريع عالمية متخصصة للنقل سوف تدخل عالم الاستثمار نموذج التكنلوجية الصينية ومشروعها الجديد للعام 2013 طريق الحرير الجديد.

الاشكالات والعقبات التي تواجه المشروع!؟

هناك مسعى جاد للتخطيط الاستراتيجي لاقتصاد العراقي الواعد للاستثمار في كل المجالات التنموية والابتعاد التدريجي عن موارد النفط الخام بيد ان امام العراق (ثلاثة) عقبات كاداء في استغلال هذا المشروع الحيوي وهي:

اولها \ اطماع دول الجوار الاقليمي ايران وتركيا ودول الخليج الكويت وقطر والامارات، وكل دولة بيدها ورقة ضغط تهدد وتلوح بها:

ايران لديها ملف الطاقة حيث اعتماد العراق على استيراد الغاز لادامة وتوفير الكهرباء الوطنية وبمبالغ تصل لسبعة مليارات دولار سنويا ًاضافة الى العلاقات التجارية المستوردة منها برقم خرافي يقدر بعشرين مليار دولار، هذا اذا اضفنا ملف المياه بمجموعة من الروافد والتي تتحكم باتجاهها وسوف تلعب ايران بورقة (المساومة) لفرض عقدة السكك الحديد من مدينة شلامجة الحدودية، وفعلا رضخت الحكومة الاتحادية لافتتاح مشروع النقل من شلامجة في الاول من سبتمبر 23.

تركيا لديها ملفات خطيرة على المستويات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية فلديها خط جيهان لمرور النفط العراقي المصدر وملف المياه، تركيا ترفض عقدة شلامجة بل تفرض مدينة سنجار الحدودية بعد طرد البكاكا منها لتصبح عقدة ربط قارة اسيا باوربا بمرورها باراضي التركية واللا (التعطيش وقطع خط جيهان) وفعلا تم قطع خط جيهان منذ اكثر من شهرين.

ثانيها: والتي لا تقل تحديا وعقبة عن المشكلة الاولى والتي هي الاشكالات الدولية وراس الرمح فيها الولايات المتحدة الامريكية، وطرحت امريكا علنا في قمة العشرين المنعقد في نيودلهي بتاريخ 10-9-23 على لسان الرئيس الا مريكي جو بايدن: ربط الهند واوربا بشبكة خطوط سكك الحديد والنقل البحري عبر الشرق الاوسط والذي يعد ردا على طريق الحريرالصيني القديم الجديد من اجل ابعاد الصين من اللعبة الاستثمارية وابعاد الهند من التحالف الروسي - الصيني وفشل العراق من عقد الربط السككي مع ايران من منطقة الشلامجه الحدودية، وتم فعلا توقيع مذكرة تفاهم بين الاتحاد الاوربي والهند والسعودية والامارات ويمكن ان تمتد الى اسرائيل في حال تطبيع العلاقات عبر موانئها.

ثالثها \ الوضع العراقي المتازم اصلا حيث السلاح المنفلت وسطوة العشائر وكارثة المخدرات المرعب حيث تحول العراق من معبر الى دولة مستهلكة ومصنعة اضافة الى كارثة الفساد الاداري والمالي، وسوف اوضح لاحقا اهم اشكالات الدولة العراقية العميقة والتي يتحملها جميع اصحاب السلطة في العراق لبعد 2003 ولحد اليوم:

-زيادة النفقات التشغيلية بالزام العراق بنحو 122 ترليون دينار عراقي (84) مليار دينا مخصصة للرواتب، اضافة الاعتماد على الاستيراد.

- النزعة الدائمة لاصحاب القرار السياسي التوجه نحو الخارج في رفد منظومة الطاقة.

- اعتماد العراق على استيراد الغاز المسال من ايران بنسبة اكثر من الثلث لادامة الطاقة الكهربائية

- سيطرة الاحزاب المسلحة على القرار السياسي في ادارة الملف الاقتصادي للبلد.

- ريبة وشكوك الدول الغربية من امكانية العراق توفير الامن لمرور بضائعها.

- غياب الاسس التكتيكية والاستراتيجية التي هي اساس بناء اي مشروع بنجاح تام:

1- غياب القانون الذي يحمي الاستثمارات.

2-ضبط المنافذ الحدودية.

3- تطوير النظام المصرفي.

واللا تعتبر دعاية استعراضية ديماغوجية لكسب الثقة.

***

عبد الجبار نوري

اكتوبر 2023

في حالة "الفوضى" التي تسود تفاصيل الحرب الأوكرانية القائمة على التضليل الإعلامي، ينبغي الاعتماد على ما يَرْشَحْ من قرارات -رغم مخالفتها للمنطق أحياناً- يتم اتخاذها في الدوائر المغلقة بين روسيا من جهة والناتو على الأراضي الأوكرانية من جهة اخرى، في الحرب التي يحاول الغرب حشرها إعلامياً في سياق حرب تدور رحاها بين بلدين متصارعين، على اعتبار أن الدعم الغربي المفتوح للطرف الأوكراني قانوني ولا يندرج في سياق التدخل العسكري المباشر.

ولكن هل يعني أمداد الغرب للطرف الأوكراني بالمال والعتاد والخبراء وبيانات الرصد الميداني عبر الأقمار الاصطناعية غير المشاركة الفاعلة المباشرة.

ومع أن المشاركة الغربية الميدانية غير المعلنة رسمياً لأوكرانيا بالجنود والخبراء موجودة بدلالة ما يُؤْسَرُ منهم لدى الجانب الروسي أو يسقطوا قتلى تحت ركام غرف العمليات المدمرة بالسلاح الروسي المتين في قلب العاصمة كييف؛ إلا أن القرار البريطاني "المعلن" الأخير جاء خارج السياق، بخلطه كل الأوراق السياسية والعسكرية.

وعليه فلا بد من إيجاد تفسيرات لأهداف هذا القرار المُجَاِزْفْ الذي من شأنه لو نُفِذَ أن يورطَ الناتو في حرب عالمية ثالثة غير متكافئة على صعيدٍ تقليديِّ من حيث التفوق الروسي أمام التقهقر الغربي في أوكرانيا-على الأقل في الوقت الراهن_ لو قارنا بينهما من ناحية الخبرات القتالية والتفوق العددي للجنود والنوعي للعتاد الروسي بأنواعة بعد اختباره في الميدان، إلى جانب الصمود الروسي على صعيدين عسكري واقتصادي.

وهي تطورات ستكون مدمرة إذا ما استخدم فيها النووي التكتيكي.

وتذكروا معي ما قاله بايدن في يوليو الماضي في أن تهديد نظيره الروسي فلاديمير بوتين -أنذاك- باستخدام القنابل النووية التكتيكية، التي قال لوكاشينكو إنها أقوى ثلاث مرات من تلك الملقاة في 1945 على هيروشيما وناكازاكي، هو فعلاً "حقيقي" أي أن الغرب الذي تكبد خسائر طائلة وأصيب بالتضخم من جراء الدعم السخي لأوكرانيا مدركٌ تماماً لخطورة الموقف، وخاصة بريطانيا التي بدت وكأنها تقامر في مصير أوروبا.

فكيف نفسر إذن ما وعدت به وزيرة الدفاع البريطاني غرانت شابس أثناء زيارتها لكييف يوم الخميس الماضي بالمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا من لندن. فهل هذا من باب المناورة؟

ليت الأمر يقف عند هذا الحد؛ فبعد حديث شابس عن نيتها نشر قوات بريطانية في أوكرانيا، أخذت تلمح إلى إرسال أسطولها إلى البحر الأسود بذريعة حماية السفن التجارية من التدابير الروسية هناك.

وأشارت غراند شابس لصحيفة تلغراف إلى أنها بحثت هذه القضية مع فلاديمير زيلينسكي خلال زيارتها الأخيرة إلى كييف.

فهل هي مغامرة جادة غير محسوبة بمعزل عن موقف الناتو، أم مجرد بالونات اختبار يطلقها الناتو من خلال القرار البريطاني؛ لفحص مدى جدية روسيا في تنفيذ تهديداتها إذا ما تحولت الحرب إلى مواجهات مباشرة ينخرط فيها الناتو، حيث أجرى الأخير مناورات كبيرة بقيادة ألمانية في بحر البلطيق في التاسع من سبتمبر الماضي وبمشاركة 14 دولة أوروبية، تعاملت ميدانياً مع الموقف الاستراتيجي بمحاكاة نفس التضاريس الطبيعية الروسية المطلة على بحر البلطيق، في نيةِ ردعٍ مبيتهٍ ضدَّ الدب الروسي.. فهل ثمة ما يجمع بين الموقفين؟

ويمكن للتهديدات البريطانية أعلاه أن تشيرَ إلى اختلاف الناتو على دعم أوكرانيا من خلال محاولة بريطانيا الزجِّ بالناتو في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ لا تبقي ولا تذر، وهو ما يترجم الاندفاع البريطاني المعلن في دعم كييف منذ البداية، ربما من باب الغطرسة التي عهدت بالبريطانيين على صعيد تاريخي لإثبات الذات؟

إن طبيعة الرد الأمريكي الحذر على هذه التصريحات التصعيدة جاءت كما يبدو وكأنه تبادلٍ للأدوار، بغية ترهيب موسكو، وقد يكون العكس هو الصحيح، فالحرب عماء إذا لم تُدْرَكُ بالحكمةِ والرشاد.

فأمريكا كدأبها وفق حساباتها الخاصة، تتوارى خلف المواقف الغربية فيما تقوم بالدعم السخي لأي قرار من شأنه أن يبعد الأزمة عن آفاق الحلول السلمية الممكنة، فتنأى بنفسها عن المحاسبة الداخلية والتأثير على الرأي العام في الانتخابات الرئاسة المقبلة في نوفمبر 2024؛ لذلك صرحت عضوة مجلس النواب الأمريكي مارجوري تايلور غرين بأن بريطانيا ستبدأ الحرب العالمية الثالثة بإرسال قوات إلى أوكرانيا. منوهة إلى أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تشارك في هذا ولا توجد قوات أمريكية للمساهمة في ذلك.

ووفقاً لغرين يتعين على الولايات المتحدة بدلاً من دعم أوكرانيا حماية حدودها.

ويقتضي التنويه إلى أن بريطانيا تدرك تماماً خطورة الرد الروسي إذا تفاقمت الأمور في هذا الاتجاه، وبأن موسكو لا تُحْشَرُ في الزاوية؛ لأن تداعيات ذلك ستوسع من دائرة الأهداف الروسية لتضم العمق الأوروبي مباشرة، حينها لن تكون التهديدات الروسية المتصاعدة عبثية.

من جهته حذر ديمتري ميدفيديف الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الأحد، من الاندفاع نحو "حرب عالمية ثالثة" بعد تصريحات وزيرة الدفاع البريطاني، غرانت شابس، التي أشارت إلى الرغبة في نشر جنود بريطانيين في أوكرانيا بغرض تدريب القوات الأوكرانية، وفق رويترز.

وقال ميدفيديف، ، إن المدربين البريطانيين في أوكرانيا سيكونون أهدافاً مشروعة للقوات الروسية. وأشار كذلك إلى أن الأمر ذاته سينطبق على المصانع الألمانية التي تنتج صواريخ تاوروس إذا أقدمت برلين على تزويد كييف بها.

وما بين جدية القرار البريطاني أو إدراجه في سياق الحرب النفسية على موسكو؛ بغية التوصل إلى اتفاق سلام وفق الشروط الغربية؛ يتقدم تفسير آخر للقرار البريطاني في أنه جاء لقطع الطريق على إي "وهم" روسي باتجاه إخضاع الغرب للشروط الروسية رداً على تصريحات الرئيس الفرنسي السابق

ساركوزي حول رؤيته لوقف الحرب الأوكرانية، حيث دعا في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، نشرت أواخر سبتمبر الماضي، إلى إبقاء أوكرانيا «محايدة» وإجراء استفتاء يفضي إلى «الاعتراف» بالضم.

وتعرض من جراء ذلك إلى موجة انتقادات من جانب سياسيين وخبراء اعتبروا أن مواقفه «مخزية» وروسيا «اشترته».

ويبدو أن الأزمة الأوكرانية وضعت العقل الغربي في منطقة عدم اليقين بعد الفشل الغربي الذريع في هزيمة روسيا، وما أصاب الغرب من ازمات جراء ذلك، مع انحسار الحكمة والعقلانية لصالح فرص التصعيد الأعمى والمقامرات غير المحسوبة بدون ضوابط.

وتكمن الخطورة البالغة في ان تُحْسَبُ الخطوةُ البريطانيةِ في سياق ذلك. الله يستر!

2 أكتوبر 2023

****

بقلم بكر السباتين

وافق مجلس النواب الأمريكي، على تمرير مشروع قانون مؤقت يمنع عملية إغلاق حكومة البلاد، ولا يتضمن هذا المشروع مساعدات أمريكية لصالح كييف، ويمتد مشروع التمويل الحكومي المؤقت، والذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن، لمدة 45 يوما، ولا يتضمن المساعدة لأوكرانيا، وتم تمرير مشروع قانون التمويل المؤقت للوكالات الحكومية الأمريكية تمهيدا للتصويت في مجلس الشيوخ بعد تصويت مجلس النواب 335 مع القرار مقابل 91 ضده.

ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي، وفي مقابلة مع شبكة "سي بي إس"، أكد أن المصالح الأمريكية أكثر أهمية من تقديم مساعدة إضافية لأوكرانيا، مشيرا إلى المشاكل على الحدود الأمريكية، وقال: "أولويتي هي أمريكا وحدودنا، وأنا أؤيد تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاجها، لكن أولا وقبل كل شيء، أؤيد (تعزيز) الحدود "، وشدد في الوقت نفسه على أن البيت الأبيض لديه الآن أكثر من ثلاثة مليارات دولار لمساعدة كييف، وأنه إذا ظهرت مشاكل في تخصيص الأموال، فإن الجمهوريين في مجلس النواب مستعدون لمناقشة الحلول الممكنة.

وأدى توقيع القانون إلى القضاء على التهديد بالإغلاق في الولايات المتحدة، والذي كان سيحدث لولا ذلك في وقت مبكر من الأول من أكتوبر، وكان من الممكن أن يبدأ الإغلاق، أي تعليق الحكومة الفيدرالية، في الأول من أكتوبر إذا لم يوافق الكونغرس على ميزانية جديدة قبل ذلك الحين، وقد أعاق ذلك الخلافات بين الإدارة الأمريكية والمشرعين بشأن الحجم وبنود التمويل، واتهم البيت الأبيض الجمهوريين برفض التعاون، كما أن الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ والأغلبية في مجلس النواب لا تتفق مع تصرفات السلطات، بما في ذلك حل أزمة الحدود، كما ان هناك حجر عثرة آخر هو إدراج الأموال المخصصة لمساعدة أوكرانيا في الميزانية، وعلى هذا فقد وعد العديد من أعضاء الكونجرس بأنهم سوف يصوتون ضد تبني الوثيقة ما دامت تتضمن مخصصات لنظام كييف.

أما الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يحاول (إخفاء خيبته) والمتفاخر " بإلحاحه الشديد"، شدد على أن دعم أوكرانيا سيظل مستمرا بعد التوقيع على مشروع قانون التمويل المؤقت، كما توقع طرح الكونغرس مشروع قانون منفصلاً بشأن مد كييف بالمساعدات، وقال "لن نتراجع عن دعم أوكرانيا عقب التوقيع على مشروع قانون تمويل مؤقت، ونتوقع من الكونغرس طرح مشروع قانون منفصل بشأن مساعدة أوكرانيا بعد توقيع مشروع قانون التمويل المؤقت دون أن يتضمن مساعدات لكييف"، وفي الوقت الذي اكد فيه بايدن أن واشنطن "لا تستطيع تحت أي ظرف من الظروف التوقف عن دعم كييف"، استبعد واضعو الوثيقة تخصيص الأموال لاحتياجات أوكرانيا،

وعلى خلفية إقرار قانون الميزانية الأمريكية المؤقتة، دون تخصيص أموال لكييف، كشف نائب البرلمان الأوكراني ياروسلاف جيليزنياك في قناته على "تلغرام"، عن تلقي كييف تحذيرا خطيرا من واشنطن، تمنوا فيه الغرب ألا تكون هناك فضائح رفيعة المستوى تتعلق بالفساد في أوكرانيا لمدة 45 يوما على الأقل، وقال "إنه أمر مبالغ فيه إلى حد كبير، وليس عادلا للغاية"، ولكن كان ينبغي برأيه مناقشة هذا الأمر قبل أن تصل المشكلة إلى هذا النطاق، ولذلك، هناك حاجة إلى 45 يوما دون فضيحة فساد كبيرة.

وقد هزت أوكرانيا وعلى مدى سنوات عديدة فضائح الفساد، وأصبحت أكثر حدة بشكل خاص خلال العملية العسكرية الروسية، حيث لم يتم اقتطاع أموال من ميزانية البلاد نفسها فحسب، بل أيضا من الأموال التي ترسلها الدول الغربية لدعم القوات الأوكرانية، وفي الولايات المتحدة، ازداد التذمر بشأن مليارات الدولارات التي يبدو أنها أرسلت لتمويل أوكرانيا، ولكن أين تبخرت على وجه التحديد - غالبا ما يكون الأمر غير واضح.

كما أن مدققي الحسابات غير قادرين على التعامل مع هذه العمليات، وقد وقع وزير الدفاع الأوكراني فعلًا في فضيحة فساد صريحة، وعلى خلفية ذلك، تعمل الولايات المتحدة على خفض الإنفاق على احتياجاتها، وأشارت الصحافة الأمريكية إلى أن ما يحدث أشبه بغسل أموال عالمي.

ونشرت وسائل الإعلام العالمية ما يسمى بـ "ملف باندورا"، وقد عمل عليه أكثر من 600 صحفي من جميع أنحاء العالم، وكان من بين الشخصيات البارزة في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي في التقرير، رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، وقد اتُهم بصلات إجرامية مع الأوليغارشي إيغور كولومويسكي وتلقي أرباح من شركته Kvartal 95 من خلال شبكة من الشركات الخارجية، حتى أن صحيفة الغارديان قامت بتجميع صورة مجمعة تظهر زيلينسكي وهو يتفوق على العديد من الرؤساء .

بالإضافة إلى ذلك، اكتشف الصحفيون أن زيلينسكي يسيطر على شبكة من الشركات الخارجية، المسجلة رسميًا لمساعده الأول سيرغي شيفير (تمت محاولة اغتياله مؤخرًا بالقرب من كييف)، وتم إنشاء المخطط في عام 2012 حتى يتمكن Kvartal 95 من تجنب دفع الضرائب، وبعد أن أصبح رئيسًا، دفعها زيلينسكي إلى شيفير، تاركًا له شقتين في لندن بقيمة 5 ملايين دولار، وحصل كاتب السيناريو "كفارتال" أندريه ياكوفليف على شقة أخرى تبلغ قيمتها 2 مليون دولار، ولاتزال الشركة مربحة، وعلى ما يبدو، يمتلك زيلينسكي أيضًا نسبة مئوية منها، على الرغم من أنه ليس له الحق في ذلك، كونه رئيسًا لأوكرانيا.

ووفقا لـ 78% لاستطلاع اجري في يوليو وأغسطس 2023، أجرته مؤسسة المبادرات الديمقراطية إيلك كوتشيريف، في المناطق التي تسيطر عليها كييف، حيث لا توجد أعمال عدائية نشطة، وشارك فيه حوالي 4 آلاف مشارك تتراوح أعمارهم بين 18 عامًا فما فوق، اكدوا إن المسؤولية المباشرة عن الفساد في حكومة أوكرانيا، تقع على عاتق رئيس الدولة فلاديمير زيلينسكي، ووفقا لمسح كما لوحظ في الدراسة، اعتبارًا من أوائل يوليو 2023، يعتقد 78% من المشاركين أن رئيس أوكرانيا مسؤول بشكل مباشر عن الفساد في الحكومة والإدارات، بالإضافة إلى ذلك، أصبح من المعروف من نتائج الدراسة أنه في أغسطس، أعرب حوالي 52.5٪ من المشاركين عن ثقتهم في ضرورة انتقاد السلطات الأوكرانية بسبب الفساد المتفشي، دون خوف من زعزعة الاستقرار في البلاد وفقدان الثقة في الغرب .

وافادت وسائل إعلام أوكرانية بأن مايكل بايل، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، وجه إلى القيادة الأوكرانية قائمة الإصلاحات التي يجب تحقيقها من أجل الحصول على المزيد من المساعدات، وحسبما نشرته صحيفة "أوكراينسكا برافدا"، فإن الوثيقة تحت عنوان "قائمة الإصلاحات ذات الأولوية، الإصلاحات المتعلقة بشروط تقديم المساعدات الأمريكية"، تطالب السلطات الأوكرانية بتحرير أسعار الغاز والطاقة الكهربائية لضمان "الاستقرار المالي للشركات والمشغلين".

وتضمنت القائمة كذلك، توسيع مجلسي المراقبين لشركتي "أوكر إينيرغو" و"نفط وغاز" ليضم كل واحد منهما شخصا إضافيا، دون الإشارة إلى جنسية هذا الشخص، وتطالب الوثيقة أيضا بتعزيز المكتب الوطني لمحاربة الفساد، الذي يجب أن يحصل على حق التنصت وصلاحيات استثنائية للتحقيق في قضايا الفساد المدوية، وفي الوقت ذاته يجب إصلاح جهاز الأمن الأوكراني، الذي سيواصل تبنى مهام محاربة التجسس والإرهاب والجريمة السيبرانية، حسب الوثيقة.

وتدعو الوثيقة القيادة الأوكرانية إلى تبني تشريع سيعيد إلزام كافة المسؤولين في الدولة والقضاة بالكشف عن أصولهم، وكذلك تشكيل مجلس مراقبين لدى مؤسسة الصناعة الدفاعية الأوكرانية وجعل مشتريات الأسلحة منسجمة مع معايير الناتو، مع ضمان "الشفافية والمساءلة والمنافسة في مجال المشتريات الدفاعية".

ومن بين المطالب الأمريكية الواردة في الرسالة كذلك إصلاح هيئة الجمارك وحرس الحدود الأوكرانيين، إضافة إلى إصلاحات الشرطة ووزارة الدفاع ومكتب الأمن الاقتصادي والمحكمة العليا لمحاربة الفساد وغيرها، وتطالب الوثيقة السلطات الأوكرانية بتحقيق الإصلاحات في غضون 18 شهرا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

كثير من السياسيين والمثقفين والأكاديميين في العالم العربي عندما يرصدوا مؤشرات تراجع شعبية السلطة والنظام القائم أو تعرضه لأزمة أو قُرب إجراء انتخابات أو مساعي خارجية لصناعة قيادة جديدة، ينقلبون على النظام ويتجرؤون على قياداته ويركبون موجة المعارضة، ولا يتورع بعضهم من تغيير ولاءاتهم ومعتقداتهم في سعي منهم لتجنب العقاب الشعبي وللبحث عن مواقع في النظام الجديد المرتقب.

في بعض الأحيان تلعب أطراف خارجية، وخصوصا واشنطن والغرب ودول إقليمية، دورا في تحريض هؤلاء لكي ينقلبوا على النظام من خلال إغراءات مالية أو وعدهم بإقامة مريحة في الخارج أو ليحافظوا على مناصبهم ووضعهم المريح في بلدان الغرب حيث تعيش غالبية المعارضات العربية، هذا ما شاهدناه في مصر وسوريا والعراق وليبيا، ففي سوريا مثلا تم دفع ملايين الدولارات لقيادات عسكرية وسياسية انشقوا عن نظام الأسد بعد أن كانوا من رموز النظام وأدواته في قمع الشعب وتضليله، وفي أحايين كثيرة يكونوا مدفوعين برغبات ذاتية للوصول للسلطة أو الانتقام ممن في السلطة أو للتغطية على فسادهم وجرائمهم بحق الشعب عندما كانوا يتولون مناصب في السلطة.

هذه الفئة من السياسيين والمثقفين يراهنون بأن الشعب جاهل ومتخلف وسريع النسيان، وإن تذَكرَ ماضيهم يستطيعون محو ذاكرته أو تضليلها بتغيير خطابهم ومعتقداتهم، مثلا من خطاب وطني علماني إلى خطاب ديني أو من خطاب وطني إلى خطاب طائفي وقبلي شعبوي حسب الثقافة السياسية السائدة، وأحيانا ينجحون في تضليل بعض الناس بماكينة إعلامية رهيبة من فضائيات وإذاعات ووسائط تواصل اجتماعي، وبالمال السياسي مستغلين فقر قطاعات واسعة من الشعب وجهلهم.

في الحالة الفلسطينية ليست قيادة حماس في الخارج أول من سار على هذا الدرب وحاولوا تبرئة أنفسهم من المسؤولية عن الانقسام عندما قال خالد مشعل إن سبب الانقسام الفلسطيني يعود للصراع على السلطة وتقاسم الكعكة بين تنظيم فتح وحماس الداخل وبذلك يتم تبرئة قيادة حماس في الخارج من المسؤولية. فقد سبقه وتلاه كثيرون من السياسيين والمثقفين في حركة فتح وفصائل منظمة التحرير ومن المستقلين ممن تفرغوا لإصدار بيانات وكتابة مقالات أو مذكرات وسير ذاتية والإدلاء بتصريحات عبر وسائل الإعلام ... ينتقدون فيها المنظمة والقيادة والسلطة وكل التاريخ الوطني، كما يضخمون من ذواتهم ودورهم الوطني عندما كانوا جزءا من النظام السياسي أو يعتبرون أن القابهم الاكاديمية ونشاطهم الإعلامي عمل وطني بحد ذاته يؤهلهم انتقاد القيادة والتنظير لعهد جديد،  كل ذلك يندرج في سياق تبييض صفحتهم والحفاظ على حضورهم في المشهد السياسي والإعلامي.

 بعض هؤلاء، الذين داهمتهم صحوة ضمير متأخرة أو توق للعودة إلى السلطة، كانوا ممن لعبوا دورا أساسيا لسنوات في مواقع في المنظمة وحركة فتح وفي مفاوضات أوسلو وفي السلطة بل إن بعضهم كانت لهم أدوار قذرة خلال المفاوضات وبعد قيام السلطة الفلسطينية، وآخرون كانوا على هامش العمل الوطني ولم يسبق لهم أن لوثوا أيديهم بحمل سلاح أو رمي حجر أو التصدي لجيش ومستوطني الاحتلال، بل كثيرون منهم لم يساهموا ماليا في دعم الثورة ومساعدة الشعب في الداخل.

بعضهم  كانوا يتفاخرون بأنهم من فريق المفاوضات وكانوا يعرضون صورهم مع الإسرائيليين والامريكيين خلال المفاوضات، وبعدما  شاركوا في عشرات اللقاءات مع الإسرائيليين في أفخر الفنادق والمنتجعات في الغرب وإسرائيل وفي طابا وشرم الشيخ الخ، وبعد أن تولوا مناصب رفيعة في السلطة و وظفوا ابنائهم واقاربهم في السلطة وسفاراتها وما زالوا يعيشون على رواتبهم التقاعدية المريحة من (سلطة أوسلو)، بعد كل ذلك اكتشفوا بأن اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني خيانة، بل ويتبجح بعضهم بالقول إنه نصح للقيادة بكذا وكذا ولم تسمع كلامه ولو سمعوا كلامه لسارت الأمور على غير مسارها الحالي!، أو أنه تم عزلهم وتهميشهم لأنهم كانوا يعملون بإخلاص أو بسبب مواقفهم المعارضة لنهج السلطة أو بسبب خلافاتهم مع قيادات فاسدة وغير وطنية في السلطة.... بينما في حقيقة الأمر تم إبعادهم وتهميشهم لفسادهم و دورهم التآمري على القضية الوطنية أو لفشلهم فيما أُسند إليهم من عمل.

بالتأكيد نستثني من المعارضة المخلصين والصادقين من أبناء حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ومثقفين مستقلين ممن كانت لهم مواقف وطنية واضحة معارِضة لمفاوضات أوسلو ومتخوفة من نتائجها ولكن بدون اتهامات بالتخوين لأحد، وحتى بعد قيام السلطة بعضهم فضل عدم المشاركة واستمر على نهجه المعارض باعتدال وبدون تخوين ولم يغيروا انتمائهم وولائهم لحركة فتح والمنظمة كما فعل كثيرون ممن انتموا للجماعات الإسلامية أو أصبحوا أبواقا وكتبة مأجورين لهذه الدولة أو تلك أو هذه الصحيفة أو الفضائية أو تلك، وبعضهم اكتشف متأخرا أن حاله كحال “المستجير من الرمضاء بالنار” وهناك من قرر اعتزال العمل السياسي وفضلوا العيش على ذكريات جميلة وحنين للوطن وزمن الثورة والعمل الفدائي، أما من انخرط منهم في السلطة، لحاجة مادية ولأنهم مسؤولون عن أسرة أو في مراهنة أن تحقق السلطة والقيادة ما راهنت عليه ووعدت به الشعب، فقد استمروا في مواقفهم الانتقادية دون مبالغة أو تخوين مع تلمس الأعذار أحيانا للقيادة

وفي الختام نقول لهؤلاء مدعي البطولة والوطنية والجهادية على مستوى العالم العربي، دونوا وسطروا وسجلوا ما شئتم من مؤلفات ومذكرات وفيديوهات وأصدروا ما شئتم من بيانات باسم المثقفين، وهو أمر أصبح اليوم في زمن الثورة الرقمية متاحا للجميع حيث لا يكلف كثيرا من الجهد والمال، ولكن الشعب لا ينسى، صحيح أن الشعب يجامل وأحيانا الى درجة النفاق، ولكنه لا ينسى ولن ينسى وسيأخذ حقه ممن ظلموه وكانوا سببا في نكبته المعاصرة ولو بنظرات احتقار صامتة لهؤلاء وأبنائهم من بعدهم.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

رغم كل ما مرَّ بالمرء من أحداث على مدار سنوات طويلة فى عمره الذى انقضى، تأتى عليه لحظات فارقة تعيد مرور شريط الحياة بين ناظريه، وتجبره على تأمل ذاته والنظر فى مرآة نفسه..

إنها لحظات مصيرية تتغير فيها كافة المفاهيم وتنقلب المعايير وتتبدل الأحوال من النقيض إلى النقيض.. أما وقد مررت لتوى بمثل هذه اللحظات، فإنى أحب التشبث بما تركَته من أثر فى نفسي، وأريد إبقاء جذوتها مشتعلة قدر المستطاع، لأن فى بقائها إحياء لجوهر الحقيقة وانبعاث لصفاء عكرته الأيام!

غروب كل يوم!

ثمة آية كونية تحدث على مرأى ومسمع من البشر كل يوم وهم عنها غافلون.. ورغم أننا نقرأها مراراً فى صفحات القرآن الكريم، ونراها تتجلى أمامنا صباح مساء، نغفل عن الحكمة العظيمة وراءها أو قل نتغافل.. إنها آية الليل والنهار، شروق الشمس ثم غروبها فى متوالية مستمرة لا تنتهى إلا لتبدأ من جديد، وفى كل لحظة نرى بأم أعيننا تلك الآية تتكرر حتى فى حياة الناس أنفسهم!!

كل لحظة هناك حياة مشرقة تأفل وتغيب هنا أو هناك. بل إن كل إنسان يغيب عن الدنيا مجبراً خلال ساعات النوم التى يسميها الحق "وفاة".. (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويمسك الأخرى إلى أجل مسمى).. لكننا نحب النور ونكره الظلام، ونستشرف الشروق ونفر من المغيب وننقبض منه! رغم أن كلاهما حقيقة، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.. فكما أن هناك حياة فلابد أنها تنتهى إلى أفول وموت..

ما حدث ويحدث فى العالم من حولنا اليوم كان من شأنه أن يشعل فى أنفسنا الرغبة فى التأمل، لكن الناس قلما تتعظ أو تتفكر من أجل إحداث تغيير حقيقي يمس الذات ويعيدها إلى جادة الصواب. سنوات قليلة مرت منذ جائحة كورونا إلى اليوم تسارعت خلالها وتيرة الموت الجماعى فى حروب وأمراض وصراعات بشرية وكوارث كونية ليس آخرها ما حدث فى ليبيا والمغرب، ورغم هذا لا يكاد أحد يشعر بما حدث ويحدث، ولا يفكر فى التوقف للتأمل ولو للحظة!

ثم تأتى لحظة فارقة.. ليست بعيدة نائية تصيب الآخرين وتتجنبنا.. بل هى قريبة قرب الهواء من جلودنا، نهملها وننساها ما دمنا لا نراها، حتى تأتى عاصفة تحول الهواء اللطيف غير المحسوس إلى مطرقة عنيفة تزلزل الوجدان وتعصف بالكيان.. ورغم ما يصاحب تلك اللحظة من آلام ومخاوف ينبع من قلب تلك المحنة منح لا تنتهى، إنها ساعات الشروق العظيم بعد لحظات المغيب!

مذاق التصوف

شيئان يختفى فيهما الحاجز الوهمى بين اللفظ والمعنى.. الفلسفة والتصوف..

وفى ساعة ما تكتشف أن اللفظ الوحيد الذى باستطاعته وصف أحوالك يمت إلى التصوف.. لفظ غامض يصف شعوراً أشد غموضاً وتخفياً وتفلتا! إن أحوال المتصوفين تبدو فى مثل تلك اللحظات هى التفسير الوحيد لحالتك الشعورية والفكرية، وهى تستغرقك حتى تكاد تذوب فيها لا تريد تركها مهما كانت مرهقة لكيانك وذهنك!

هل يمكن أن يعشق المرء الألم؟ أو يستعذب العذاب؟! أمر عجيب أن تخرج من محنة مررت بها فتجدك وقد صرت أسيراً لأثرها عليك.. تستعيدها فى ذهنك مراراً مصراً على أن تجعلها باقية فى الذاكرة وفى بؤرة الشعور لا للألم الذى صاحبها، ولكن للصفاء الذى تلاها!

كنت مسترخياً أجلس جلستى العادية بين زملاء العمل عندما حدث الخطب.. النمل الذى تسلل خلسة إلى اليد والقدم، فنجان القهوة وقد بات كأنه جبل يستحيل رفعه أو نزعه من مكانه.. ثم الغشاوة التى تفصل المرء بين الوعى واللاوعى.. ثم تنفتح العيون وتشرق الشمس من جديد وتأتى لحظة تنجلى فيها الحقيقة.. أن جلطة صغيرة بحجم رأس الدبوس يمكنها أن تصنع فارقاً هائلاً كالفارق بين الليل والنهار أو بين الشروق والمغيب.. هنا تجد لسانك يلهج وحده منطلقاً أن الحمد لله رب العالمين..

تجليات الرحمن..

بلا سابق إنذار قيل إن ضغط الدم انطلق فجأة إلى ذروته وتجاوز المائتين بقليل! هكذا بلا سبب واضح مفهوم؛ فلا نوبة غضب ولا شحم يكسو الجسد الخفيف.. اللهم إلا سيجارة أمسكها بيدى منذ عقود ولا أمعن فى رشفها.. لكن القدر سبق، والأمر نفذ، وحدثت الجلطة كنتيجة للضغط الهائل على شعيرات الدم، وقررت الجلطة الصغيرة فى مكانها بين التلافيف أن توقف عمل شطر الجسد لدقائق مرت كأنها دهر! ومن لطائف الأقدار أن مرت الأزمة بسلام، والحمد لله أنها لم تترك أثراً يُذكر بعد العلاج وتمام الشفاء بفضل الرحمن..

ومن لطائف الأقدار أن الأمر حدث بين لفيف من الأحبة من زملاء العمل، لأجد الأيدى تسارع إلى حملى إلى حيث الأطباء موجودون فى نفس المبنى، بحيث أن الوقت بين الأزمة وبين تلقى العلاج لم يتجاوز عدة دقائق.. قال الأطباء إن الدقائق فى مثل هذه الحالات حاسمة قاصمة وأن السرعة مطلوبة.. فماذا لو حدث الأمر وأنا فى معزل ناءٍ عمن يسعفنى؟ أليس الأمر كله يبدو وكأنه لمسة رحمة ونفحة من لطف الرحمن بعبده؟!.. حينما تتجلى حقيقة اللحظة أمام العين، يندهش القلب وينعقد اللسان ويعجز اللفظ عن وصف ما يستشعره من تجليات الرحمة إلا بتمتمات خافتة أن الحمد لله رب العالمين..

عودُ على بدء

مواقف كثيرة فى الحياة تثبت لك حقيقة جغرافية معروفة.. أن الأرض كروية، وأن التاريخ حينما يعيد كتابة ذاته بنفس الحروف لا تملك إلا أن تقول: سبحان الله!

منذ نحو أربعين عاماً مضت وبالتحديد عام 1983 عندما كنت طالباً فى الصف الثالث الإعدادى أصبت في حادث كاد يؤدي إلي وفاتي ، وخلال أسابيع وشهور قضيتها بين الصمت والألم والوحدة ، زارني أحد أبناء الجيران والذي كان يدرس في جامعة الأزهر، وكان يحمل كتابا عن أشعار ابن الفارض... سألته فى فضول: هل هو كتابُ دراسيُ أم شخصى؟ ترك الكتابَ بين يدي قائلا : خذ تصفحه إذا أردت.. فقرأت كلاماً فوق الأفهام، وكأنها شفرة سرية ملغزة تستعصى على ذهنى الصغير المتعب.. والسؤال الذى راودنى حينها: ما العلاقة التى رآها جارى بين الصوفية وبين الحادث؟.. الآن أدرك العلاقة حتى ولو لم أقرأ كتاب ابن الفارض، أدرك المعنى الذى يكمن فى طيات الاختبار العنيف الذى يضعك فى منطقة فارقة بين الحضور والمغيب! اليوم يتكرر المشهد بصورة أخرى.. صباح الثلاثاء منتصف سبتمبر الساعة العاشرة والنصف أجلس في مكتب صديقي الدكتور أحمد مختار وكيل الهيئة الوطنية للصحافة.. حوار قصير ضحوك.. دقيقة لا أشعر بيدي وقدمي اليمني ثم تتلاشي الكلمات ولا أستطيع النطق للحظات كأنها دهر.. ثم بسرعة محمولا علي كرسي من الدور التاسع نزولا إلي الدور الثالث.. طبيب المؤسسة الدكتور أحمد عامر يقيس ضغط الدم الذي ارتفع إلي 210 كيف ولماذا؟ وفى مستشفي المعلمين نجح الأطباء) أسامة عمارة و أسامة البرنس ) في السيطرة علي المضاعفات والحمد لله..

نعم إننى أتشبث بتلابيب اللحظة وما أحاط بها من فيوضات موحية.. فمثل تلك اللحظة هى التى تجعلك فى منأى عن الدنيا وأنت فيها، كأنك ترتقى ارتقاءً لحظياً إلى أعلى نقطة ترى فيها المشهد بصورة بانورامية متعددة الأبعاد.. ترى ذاتك وأنت فوق هذه الذات، وتصل إلى أعمق نقطة فى مجاهل اللاوعى وأنت فى كامل وعيك.. إنها لحظة فارقة حقاً، لكنها غير قابلة للوصف..

اللائذون بمحراب الصوفية يبحثون عما يسمونه كرامة الولى.. ويغفلون عن كنز الكرامات الذى يصادف الناس فى حياتهم كل يوم.. كرامة تنعم عليك بسيل من النعم، وكرامة تنقذك من هبات النقم.. أليس ما حدث بالأمس القريب والبعيد كرامة، حينما نجانى الرحمن من الموت تارة ومن الرقاد تارة؟ إنها نفس الرسالة التى تلقيتها منذ عقود، تعود بنفس خطوطها وحروفها ترتسم على صفحة الأيام كما هى لا ينقص منها حرف.. ولعلنى قرأتها فوعيت ما فيها من لفظ وفهمت ما وراءها من معنى!

***

د. عبد السلام فاروق

من بعد زيارة  الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي، الى الولايات المتحدة الامريكية، والاخفاقات الكبيرة التي شهدتها، وكما أشرنا لها في مقالنا السابق، شهدت وسائل الاعلام الغربية، حملة كبيرة وواسعة ضد الرئيس        " المهرج "، وتكتب وتشير الى سيناريوهات عديدة الى إمكانية التخلص  منه، بعد فشله هجومه المضاد بشكل كبير، وتكبد قواته الخسائر الجسيمة بالأرواح، وكذلك المعدات العسكرية التي دفع الغرب (دم قلبه) كي يوفرها للجيش الاوكراني، والتي تعتبر صفوة الأسلحة،  والتي تباهى بها الغرب، كونها ستغير من نتائج المعركة، وبالتالي ستجبر روسيا للجلوس على طاولة المفاوضات " مجبرة "، وبالتالي باتت هذه المعدات في متناول الجيش الروسي أينما تواجدت، وفشل الغرب في تحقيق أي نصر حتى وان كان  " وهمي "، للتباهي به امام شعوبهم، الذين ذاقوا ذرعا وهم يدفعون لدعم نظام فاسد وغارق في الفساد حتى " النخاع "، وبعبارة أخرى، انتهى دور " المهرج " الى هذا الحد، والدور الجديد  يجب ان يناط الى شخصية أخرى، بعد ان أحترقت ورقة " المهرج ".

واليوم بدأت تحركات دبلوماسية غربية جديدة، لإيجاد  أي صيغة " للسلام "، تحفظ ما وجه الغرب أولا وآخرا لأنهم أصلا يأبهون " بالمهرج " ولا بشعبه " المشرد " ولا ببلاده  التي دمرت، وبدأنا نسمع هنا وهناك تصريحات عن صيغ عديدة " للسلام " من وجهة النظر الغربية، وروسيا طبعا، مع أي " خطوة " نحو السلام، وآخرها تأكيد  وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأن موسكو مستعدة للتفاوض حول أوكرانيا، ولكن مع الأخذ في الاعتبار الحقائق على الأرض والمصالح الأمنية الروسي، وقال في مقابلة مع وكالة "تاس"،  "ما زال موقفنا ساريا: نحن مستعدون للتفاوض، ولكن التفاوض مع الأخذ في الاعتبار الحقائق التي تطورت الآن على الأرض، وموقفنا معروف للجميع، مع الأخذ في الاعتبار مصالحنا، ومصالح أمننا، ومصالح منع إنشاء نظام نازي معاد على حدود روسيا، الذي أعلن صراحة هدف إبادة كل شيء روسي على أراضي كل من شبه جزيرة القرم ونوفوروسيا والتي طورها الشعب الروسي واستقر وعاش بها لعدة قرون".

كلمات رئيس الدبلوماسية الروسي " المخضرم " سيرغي لافروف جاء ردا على أعلان  الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف، في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس، عقب انتهاء الاجتماع الثنائي بينهما، أن روسيا وأوكرانيا أعربتا عن رغبتهما في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إلا أن شكل المفاوضات بشروط تناسب الطرفين لم يتحدد بعد، جاء ذلك، حيث قال توكاييف: "ناقشنا اليوم مع المستشار شولتس أن الوضع خطير للغاية، فيما عبر الجانبان الروسي والأوكراني عن استعدادهما للمفاوضات، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح على أي منصة، وعلى أي مستوى سيحدث ذلك"، وشدد  توكاييف، الذي دخل على خط الوساطة، شدد على  أن لحظة "الدبلوماسية الحكيمة" قد حانت، ومن الضروري إجراء مفاوضات سلمية مع التركيز على النتائج التي تناسب الجانبين، والتأكيد  على أن بلاده "ستتخذ كل الخطوات الممكنة لتحقيق ذلك" و أن أستانا تدعم مبادرات السلام التي تقوم بها مختلف الدول لحل النزاع في أوكرانيا،

وفي الولايات المتحدة، فانهم تحاولون " التملص " من مسؤلياتهم المباشرة عما يحدث، والخسائر الكبيرة  التي كبدتها لأوكرانيا، وفي معرض رده على سؤال حول ما إذا كان يتوقع وضعا ما قد تدخل الولايات المتحدة بسببه في تناقض مع أوكرانيا، حول حقيقة أن استعادة كييف السيطرة على بعض مناطق البلاد "تبدو مسألة صعبة"، فقد رمى  وزير خارجيتها  أنتوني بلينكن، الكرة في ملعب الرئيس " المهرج زيزو "، وأكد أن القرارات المتعلقة بتقديم تنازلات محتملة تتعلق بالأراضي من أجل إنجاز التسوية في أوكرانيا، إنما يجب أن تتخذها السلطات في كييف نفسها، وقال بلينكن في مقابلة مفتوحة عبر الإنترنت مع مجلة "The Atlantic"، ان الرئيس الأمريكي جو بايدن، اكد  مرارا إن هذه القرارات يجب أن يتخذها أساساً الأوكرانيون أنفسهم، ولا شيء يخص أوكرانيا يمكن أن يحصل من دون أوكرانيا، وأضاف بنرجسية كبير ة  " وسيظل هذا المبدأ هو النبراس لكل ما نقوم به "، متجاهلا ما قدمته وتقدمه بلاده حتى الان والضغط على حلفاءها أيضا بتقديم الأسلحة والأموال " لديمومة " المعركة ضد روسيا .

وبعودة بسيطة الى الوراء، نؤكد إن دول الغرب تتحمل مسؤولية انهيار وحدة أراضي أوكرانيا برفضها تنفيذ اتفاقات مينسك، وأن زعماء الدول الذين شاركوا الرئيس فلاديمير بوتين في إعداد اتفاقيات مينسك تسببوا بتدمير وحدة أراضي أوكرانيا، وقد اعترفوا أنهم في الواقع قاموا بتضليل الرئيس الروسي،  ولم تكن لديهم أي نية لتنفيذ هذه الاتفاقات وهم الآن يبدون قلقهم باستمرار بشأن وحدة الأراضي الأوكرانية، وبالتالي وبحسب تعبير الوزير  لافروف، فإنه كلما تأخرت كييف في المفاوضات مع موسكو، أصبح من الصعب التفاوض لاحقا، وإن  الخطوة الأولى لمثل هذه الاتصالات يجب أن تكون إلغاء مرسوم الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الذي يحظر الحوار مع موسكو.

وفي الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الروسية الأمريكية، توترا في الفترة الأخيرة بعدما أعلنت وزارة الخارجية الروسية استدعاء السفيرة الأمريكية لدى موسكو لين تريسي، وإخطارها بإعلان اثنين من موظفي السفارة الأمريكية شخصيتين غير مرغوب فيهما، ووصف فيه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، العلاقات حالياً بين موسكو وواشنطن  بأنها "منهارة"، وأن الجانب الأمريكي هو المسؤول عن ذلك، عاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وفي آخر تصريح له في مقابلة مع مجلة The Atlantic، أن إمكانية عقد لقاء بين الرئيسين الروسي والأمريكي فلاديمير بوتين وجو بايدن غير مستبعدة، بأن كانت مثل هذه العبارات من " المحرمات " عند السيد بلينكن !! .

تطورات الموقف الأمريكي تجاه النظام الأمريكي آخذة في الانحسار، فان الولايات المتحدة  في طريقها الى " الاغلاق الحكومي "، وأن التمويل الحكومي لأوكرانيا  ينتهي مع بداية السنة المالية الفيدرالية في 1 أكتوبر، وسيبدأ الإغلاق فعليا في الساعة 12:01 صباحا، وبالتالي فان على الكونغرس من تمرير خطة تمويل يوقعها الرئيس لتصبح قانونا، واستحالة التنبؤ بالمدة التي سيستغرقها الإغلاق، مع انقسام الكونغرس بين مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون ومجلس النواب الذي يقوده الجمهوريون،  كل هذا حير  الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قال "أنه لا يعرف ماذا يفعل ليمنع الإغلاق المحتمل للحكومة الأمريكية" .

كما أن امدادات الأسلحة الامريكية لأوكرانيا وكما  أعلن نائب وزير الدفاع الأمريكي للشؤون المالية مايكل ماكورد، ستتأخر في حال إعلان الحكومة الأمريكية الإغلاقهما و إن البنتاغون حصل فقط على موافقة الكونغرس الأمريكي لإرسال أسلحة ومعدات عسكرية إضافية إلى كييف بقيمة 5 مليارات دولار من الاحتياطيات المتراكمة بالفعل، وفي الوقت نفسه، لدى وزارة الدفاع 1.6 مليار دولار فقط لتوقيع عقود جديدة لاستبدال المعدات العسكرية، وأكد ماكورد أن "كل ما تبقى لدينا هو 1.6 مليار دولار، وهو المبلغ الوحيد الذي يمكن استخدامه، ولا أعرف متى أو ما إذا كنا سنحصل على أموال إضافية" في وقت حاجة وزارة الدفاع  إلى "إرسال إشارات إلى الصناعة" باستمرار من أجل ضمان تجديد احتياطات الأسلحة والمعدات العسكرية، مشيرا إلى أن البنتاغون اضطر بالفعل إلى "إبطاء هذه العملية لأن هناك احتمالا حقيقي بالاغلاق"، وتخشى وزارة الدفاع الأمريكية من أن يؤدي الإغلاق أيضا إلى تعليق الموافقات على إنتاج المعدات العسكرية والذخائر من قبل هيئة إدارة العقود في البنتاغون (DCMA)، وهو ما سيؤثر على جدول إنتاج الأسلحة، وقد يؤدي إلى "تجميد معظم هذه العقود" .

اما فرنسا، فقد أعلنت أنها  تعتزم الانتقال من توريد الأسلحة لكييف إلى إبرام العقود العسكرية معها، ونقلت وكالة "فرانس برس" عن وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو،  ليكورنو خلال زيارته إلى كييف  الخميس قوله: "سننتقل شيئا فشيئا إلى منطق يكون فيه نقل الأسلحة هو الاستثناء وليس المبدأ"، والأشارة  إلى أن فرنسا ستنتقل من دعم الأسلحة إلى إبرام عقود توريد "مع دعم محتمل" من باريس، كما تشير الوكالة إلى أن نقل الأسلحة الفرنسية باستمرار إلى كييف شيء غير مستدام في ضوء القيود المفروضة على احتياطياتها من الأسلحة، حتى على الرغم من زيادة معدلات الإنتاج التي يطلبها الرئيس إيمانويل ماكرون، وان فرنسا  ستدرس إمكانية الإنتاج المشترك لعدد من الأسلحة في أوكرانيا.

ووزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو، الذي وصل إلى كييف، برفقة ممثلي نحو 20 شركة دفاع فرنسية، هي حيلة فرنسية للتخلص من أعباء المساعدات التي تقدمها الى أوكرانيا، فمن بين الشركات التي يرأس وفدها الوزير شركة Nexter، التي تنتج، على وجه الخصوص، مدافع هاوتزر "قيصر" التي يتم توريدها إلى أوكرانيا، وشركة Delair، التي أرسلت 150 طائرة استطلاع مسيرة إلى كييف، ومجموعة Arquus، التي تتوقع إنشاء مؤسسة في أوكرانيا لصيانة المركبات المدرعة الموردة، كما وصل ممثلو شركة إزالة الألغام CEFA إلى كييف على أمل توقيع عقد لتوريد روبوتات لإزالة الألغام، وشركة Vistory، التي تقترح بناء مطابع ثلاثية الأبعاد في أوكرانيا لإنتاج مكونات المعدات العسكرية، وكذلك أشارت وزارة الدفاع الفرنسية سابقا إلى أن باريس تعتزم "تغيير نموذج المساعدة لأوكرانيا مع توقع استمرار النزاع"، وفي أواخر العام الماضي، أنشأت فرنسا صندوقا بميزانية قدرها 200 مليون يورو لمنح كييف الفرصة لتقديم طلبات شراء الأسلحة مباشرة من الشركات المصنعة الفرنسية، والسؤال هو، متى ستبدأ هذه الشركات بالعمل ؟ في وقت ان الأراضي الأوكرانية بأكملها، هي هدف مشروع للقوات الجوية والفضائية الروسية، حيث سبق وان أعلنت موسكو،  ان كل الأسلحة الغربية  ومصانعها، في الأراضي الأوكرانية هي اهداف عسكرية  لها .

اما في أوكرانيا، فقد اعترف مستشار مكتب الرئاسة الأوكرانية، ميخائيل بودولياك، بأن صواريخ "أتاكمس" و"تاوروس" لن تحل مشاكل القوات الأوكرانية بشكل جذر، و "حتى عندما نحصل على صواريخ "تاوروس"، وسنحصل عليها، وحتى لو حصلنا على "أتاكمس"، فإن ذلك لن يعوض الفارق في العدد الذي لدى روسيا والمدى لتلك الصواريخ"، في حين ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"  نقلا عن مصادر مطلعة، أن السلطات الألمانية أجلت إرسال صواريخ "تاوروس" بعيدة المدى للقوات الأوكرانية بسبب المخاوف من الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها ستقدم لأوكرانيا 31 دبابة من نوع "أبرامز"، أعلن المتحدث باسم مجموعة القوات الشرقية للجيش الأوكراني، إيليا إيفلاش،"ستؤثر الظروف الجوية الصعبة والأمطار على مسار الأعمال القتالية، وبالتالي على استخدام الدبابات الجديدة في ساحة المعركة"، وعبر  كيريل بودانوف رئيس مديرية المخابرات العامة بوزارة الدفاع الأوكرانية، عن قلقه  في مقابلة مع موقع Warzone،  من إن دبابات "أبرامز" الأمريكية، التي تنتظرها كييف بلهفة "لن تصمد طويلا" في الجبهة.

اما في الجانب المالي، فقد أعلنت وزارة المالية الأوكرانية، أن الدين العام الأوكراني ارتفع مليار دولار في أغسطس، ليصل إلى 134 مليار دولار، مشيرة إلى أن الدين الخارجي يمثل 70% من المبلغ إجمالي الدين، وإلى أن مشروع الميزانية للعام المقبل ينص على زيادة الدين العام إلى 221.5 مليار دولار، أو 104.6% من الناتج المحلي الإجمالي، في الوقت نفسه أعلن رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميغال، أن الحكومة اعتمدت مشروع ميزانية لعام 2024 بإنفاق عسكري قياسي قدره 45.6 مليار دولار، وهو ما يتجاوز كل الإنفاق على المجال الاجتماعي والطب والتعليم، وقال، إن سلطات بلاده تلقت فعليا منذ بداية هذا العام 13.5 مليار يورو من الاتحاد الأوروبي على شكل معونة مالية، وأشار شميغال إلى أن إجمالي الدعم الذي قدمه الاتحاد الأوروبي لكييف منذ فبراير عام 2022 يصل الآن إلى حوالي 70 مليار يورو، في حين أشار رئيس الوزراء الأوكراني الأسبق نيقولاي أزاروف من جانبه، إلى أن الدين الوطني الأوكراني قد ينمو إلى مستوى 173 مليار دولار بحلول نهاية العام، وتوقع صندوق النقد زيادة الدين العام لأوكرانيا عام 2023 إلى 88.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفي عام 2024 إلى 98.6٪ منه، وفي 2025 إلى 100.7٪.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

هل تحوّلت إفريقيا إلى مقبرة للديمقراطيّة والليبيراليّة؟

قامت القيامة في بلد النيجر الشقيق ولم تقعد. لأنّ جماعة من العسكر انقلبت على الشرعيّة الدستوريّة، وأزاحت الرئيس المنتخب عن كرسي السلطة. حقّا، لقد حدث ذلك منذ أسبوعين في بلد غنيّ بثرواته الظاهرة والباطنة، وأراضيه الزراعية الخصبة وشبابه، بلد يعيش في أحضانه شعب مسلم، طيّب، مسالم، لكنّه يعاني من ويلات الفقر المدقع إلى حدّ المتربة.

 والسؤال المطروح: أين تذهب عائدات الذهب واليورانيوم وغيرها من ثروات النيجر الشقيق؟

لقد هبّ الغرب بقيادة فرنسا، التي مازالت تحنّ إلى سالف وجودها الاستعماري، بمعيّة ثلّة من الأفارقة المغرّدين في سربها، وتظاهروا، بل صنعوا مندبة على الديمقراطيّة والشرعيّة. والحقيقة أن شعب النيجر المسكين لا يعنيها من قريب أو بعيد، بل هي سبب ما يعانيه من فقر وتخلّف وأزمات أمنيّة حادة، ومن تغوّل بعض الجماعات المسلّحة التي تنشط في دول الساحل. إنّ فرنسا تلعب على الحبلين، فهي تلعب دور الصديق والعدو. وهذا دأب الاستعمار القديم الذي لم يستوعب ولم يهضم طرده من إفريقيا الغنيّة بثرواتها وشبابها. أين كانت فرنسا والغرب عندما حدثت انقلابات سابقة على الشرعيّة الدستوريّة في إفريقيا؟

 ولكن الحقيقة التي لا غبار عليها، فإنّ فرنسا والغرب لا يهمّهما الديمقراطيّة في النيجر أو في إفريقيا كلّها؛ بشمالها وجنوبها، بشرقها وغربها. ما يهمّ السلطات الفرنسيّة، هو الحفاظ على مصالحها الاقتصاديّة ومكاسبها الثقافية التي جنتها أثناء احتلالها للنيجر وما بعد استقلال هذا البلد الإفريقي الساحلي، الواقع في منطقة استراتيجيّة، غنيّة بالمعادن الثمينة وبشبابها البكر، الطموح. هدفها من كلّ العيطة والزيطة هو الهيمنة على الموارد الطبيعية؛ من غاز وبترول ويورانيوم وذهب وحديد وغيرها من المعادن الثمينة. أين كانت فرنسا الديمقراطيّة - رافعة ثلاثيتها الثوريّة؛ الحريّة والأخوّة والمساواة - في ميدان الشانزيليزيه وقوس النصر، أثناء الانقلابات العسكريّة السابقة في إفريقيا؟ أم الديمقراطيّة الفرنسيّة والغربيّة لا تطلق العنان للسانها وجوارحها، ولا تلمز وتهمز وتلغو وتملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا كالعربة الفارغة على مضمار أسفلت القرون الوسطى، تبدي حرصها على الشرعيّة الدستوريّة، إلاّ إذا شعرت بأنّ مصالحها في خطر.

 لقد نهب الغرب الاستعماري خيرات إفريقيا لعدّة قرون مضت ولم يشبع - ولن يشبع - ومازال ينهب من خلال حكومات إفريقيّة غير وطنيّة، عميلة وخائنة لشعوبها مقابل عمولات أو مساعدات وهميّة. إنّ الغرب لا يتذكّر الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في إفريقيا ولا يزعم الدفاع عنهما إلاّ إذا تهدّدت مصالحه. فالديمقراطيّة الإفريقيّة – في نظر الغرب – هي تنصيب حكام تُبّعا له.

هناك حرب أهليّة في السودان والصومال. هناك في إفريقيا العميقة مجاعة وجياع وأمراض ومرضى وحفاة وعراة، فراشهم التراب وغطاؤهم السماء وعبيد في أسوء حال. لكنّ عيون الغرب مغمضة، بل هي عمياء لا تُبصر سوى مناجم اليورانيوم والذهب والحديد والفوسفات ومنابع النفط والغاز وغيرها من خيرات إفريقيا المثقلة بالهموم والمآسي والديون والأمراض الفتّاكة والمرتوقة.

مازالت دماء ضحايا فرنسا الاستعماريّة من الشهداء الأبرياء، لمّا تجف بعد في المغرب العربي وإفريقيا عموما. ومازال الدهر لم يكشف بعد عن جرائمها كلّها في الجزائر، وكلّما افتضحت جريمة لها، هنا أو هناك، تبعتها أخوات لها أكبر وأفظع. إنّ فلسفة المستعمر، وسيكولوجيّة الاحتلال لا يحدّها مكان ولا زمان. وربّما اعتقد بعض المغفّلين، أنّ الغرب الاستعماري قد تخلّى عن فلسفة احتلال الأخر وإذلاله واستعباده ونهب خيراته، وتخلّى عن أطماعه، المتوارثة عن العصر الوسيط، عصر المغامرات والقرصنة والاكتشافات الجغرافيّة، وهو – لعمري – اعتقاد خاطيء ومهلك، مردّه إلى الغفلة والسذاجة والجهل بعبر التاريخ ومخرجات السياسة.

إن الانقلاب في النيجر مؤشر على يقظة الشعوب التي نخر عظامها الاستغلال الأوروبي غير المشروع لثرواتها المعدنيّة، ما ظهر منها على السطح وبطن، وما خفيّ منها وما هو ظاهر للعيان.

إنّه الصيف الإفريقي الماطر، يا سادة، الذي أيقظ الأفارقة في جنوب الصحراء والساحل من سبات دام عقودا من الاستغلال والاستدمار، عكس الربيع العربي المزعوم الذي دمّر البنيان وخرّب النسيج الاجتماعي، وما نجا منه دمّرته الطبيعة، وأكملت سلسلة الخراب والدمار في الحوز ودرنة وما جاورهما. إن الغرب الصليبي الرافع لراية حقوق الإنسان منذ عقود من الزمن البشري، ينفق عشرات التريليونات على الحروب البينيّة والأهليّة، وعلى تطوير الأسلحة الفتّاكة؛ التقليديّة منها وغير التقليديّة، وعلى أقمار التجسّس وأجهزته وعملائه، في الوقت الذي يتضوّر أطفال أبرياء وأمّهات مغلوبات على أمرهنّ جوعا وخوفا. لماذا يغض الغرب المنافق الطرف عن مآسي أطفال اليمن وسوريا والسودان وفلسطين والروهينغا، بينما أظهر للعالم أشدّ الاهتمام ومنتهى الإنسانيّة عند تعلّق الأمر بأطفال أوكرانيا؟ لماذا عجز مجلس الأمن وجمعيته الأمميّة المتّحدة قولا لا فعلا عن وضع نهاية للحرب في اليمن وسوريا والسودان؟ لماذا تبدو الدول الأوروبيّة الغنيّة – وغناها من ظهر إفريقيا – مقتّرة وممسكة وقابضة اليمين في إعاناتها لضحايا الكوارث الطبيعيّة المدمّرة؟

إن ما ابتليت به إفريقيا من مآس واستبداد وكوارث، تتحمّل مسؤوليته ووزره فرنسا . لعدّة أسباب أهمّها: أنّ هذه المجتمعات الإفريقيّة المنضويّة أنظمتها تحت سقف الفلسفة الفرانكفونيّة، مازالت تعتبرها فرنسا غنيمتها التاريخيّة وامتدادها الاستراتيجي؛ الثقافي والسياسي والاقتصادي. ومازالت فرنسا تنظر إليها بعين الوصيّ على أيتام قصّر لم يبلغوا بعد سنّ الرشد، بل إنّ فرنسا تحلم – توهّما – بالعودة عسكريّا تحت غطاء محاربة الإرهاب الجهادي والجماعات المتطرّفة وبارونات السموم. بينما الواقع أنّ عدم الاستقرار في المستعمرات الفرنسيّة السابقة، راجع بالدرجة الأولى إلى السياسة الفرنسيّة القائمة على فلسفة النوستالجيا الاستيطانيّة (الحنين الاستيطاني) والأنانيّة الفوقيّة والنظرة إلى الشعوب الإفريقيّة نظرتها إلى البقرة الحلوب.

 لقد غزت فرنسا الجزائر في يونيو 1830 م، بحجة تحرير الجزائر من الاستعمار العثماني، وفرضت على مدينة الجزائر حصارا استمرّ ثلاث سنوات. و" أنّ الجنرال دي بورمون كان ينوي تماما عدم التخلّي عن مدينة الجزائر للعثمانيين، وهو الذي كان قد صرّح للكولورليس، وللعرب، ولسكان المدينة، أنّ الجيش الفرنسي قد جاء لطرد الأتراك طغاتكم، وأنّهم سيحكمون كما كانوا يحكمون من قبل في بلدهم أسيادا مستقلّين في مسقط رأسهم، وبعد أن قال أنّ الولاية ستخضع قبل خمسة عشر يوما أعلن تباعا أنّ المور (1) والعرب ينظرون إلينا كمحرّرين "(2).

و لمّا وطأت أقدام الغزاة أرض الجزائر الطيّبة، عاثت فيها فسادا وخرابا. أخلفت فرنسا وعودها كلّها، ونقضت معاهداتها، وارتكبت أفظع الجرائم. لم ترع عهدا، ولم تحترم دينا ولا لغة ولا عرفا ولا تاريخا. داست كلّ المقدّسات بنعالها. نهبت الأموال والودائع والمكتبات، وأحرقت البيوت على رؤوس أهلها وحوّلت المساجد إلى اسطبلات وأعدمت أكثر من أربعة آلاف من المسلمين المعتصمين في مسجد كتشاو ا (3) العتيق، بعدما رفضوا تحويله إلى كنيسة. وكان منظر إخراج المصاحف والمخطوطات الدينيّة إلى ساحة الماعز وإحراقها أشبه بمنظر إحراق هولاكو للكتب في بغداد عندما اجتاحها. ولسان حال الجنرال روفيقو يردّد: " يلزمني أجمل مسجد في المدينة لجعل منه معبد إله المسيحيين ".

 إنّ ما ارتكبته فرنسا من جرائم خلال فترة احتلالها المقيت الممتدّة من 1830 م إلى 1962 م، لا تتّسع له صفحات الدنيا ومدادها ولو كان البجر مدادا لها والأرض قرطاسا. ثم تطلّ فرنسا، اليوم، ومن ورائها أذنابها وفلكها الغربي الصليبي، بمرثيّة الديمقراطيّة والشرعيّة الدستوريّة وحقوق الإنسان في النيجر وعموم إفريقيا والعالم العربي. ألا ما أغبى الاستعمار، إنّه فعلا " تلميذ غبيّ " كما قال الجنرال الفيتنامي " جياب "، وما أغرب مواقفه منّا – نحن أهل الجنوب – حين يتعلّق الأمر بمصالحه الاقتصاديّة.

 حان الوقت لتطبيق شعار إفريقيا للأفارقة، دون إفراط أو تفريط. وإنّ مبدأ التعاون بين الأمم والشعوب مبدأ فطريّ، لا تنفر منه الطبيعة. إنّ الكون مبنيّ على التناسق والتكامل، فالكائنات الأرضيّة والفضائيّة تمارس غريزة التعاون والتكامل والتدافع في مسارات متوازيّة أو متفاعلة . إنّ النظام الكوني قائم على عنصري الإيجاب والسلب، وزوال أحدهما عاقبته الخراب ونهاية العالم.

 لقد حان الوقت لتعود إفريقيا وخيراتها لأبنائها، وليرفع الاستعمار القديم ميسمه عن إفريقيا. إنّ إفريقيا في حاجة إلى البدء في كتابة تاريخ جديد، وبمداد وأقلام أبنائها البررة. إنّ إفريقيا الغنيّة بمواردها الطبيعيّة، الثريّة بشبابها وإطاراتها وتراثها الحضاري، جديرة بالعيش في ذروة القمّة، لا في حضيضها الأسفل.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

.............

هامش:

(1) المور: المور وجمع الموريون. بالإسبانية (موروس) وبالإنجليزية (مورس)، وبالفرنسية (مور). مصطلح في اللغات الأوروبيّة، شاع استعماله في وصف عرب الأندلس والمسلمين

 (2) تاريخ الجزائر المعاصرة – شارل روبير اجيرون ص 76 / 77 - - ترجمة عيسى عصفور – منشورات عويدات – بيروت وديوان المطبوعات الجامعية – الجزائر – ط 2 – 1972.

(3) كيتشاو ا: كلمة تركية مركبة من(كيت) وتعني ساحة و (شاو ا) وتعني عنزة . اسم أشهر مسجد شيّده الأتراك في الجزائر، وسمّوه (كيتشاوا) نسبة إلى الساحة المجاورة، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم: سوق الماعز. أسّسه القائد خير الدين بربروس عام 1520 م.

خلال العقدين الأخيرين خاضت عدة دول افريقية تجارب في الانتقال الديمقراطي وحققت في هذا المجال نجاحا في بعض الدول كما جرى في (بنين- بوتسوانا- غانا- ناميبيا-موريشيوس-السنغال- جنوب أفريقيا)، إلا أن الأمور انتكست خلال السنوات القليلة الماضية حيث شهدت القارة 8 انقلابات عسكرية خلال ثلاث سنوات آخرها انقلابي النيجر في شهر يوليوز الماضي وتلاه بأيام انقلاب الغابون، بالإضافة الى عشرات محاولات الانقلاب الفاشلة.

  إن كانت الانقلابات حدث عادي ومقبول شعبيا وخصوصا على أنظمة عسكرية ودكتاتورية إلا أن ما يلفت الانتباه أن الانقلابات الأخيرة كانت من الجيش على حكام تولوا السلطة بعد انتخابات عامة، كما أن أغلب الانقلابات كانت في دول الساحل غرب أفريقيا وجنوب الصحراء التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وما زال فيها تواجد عسكري فرنسي وتبعية وعلاقات اقتصادية غير متكافئة مع فرنسا.

تعثُر المسار الديمقراطي في أفريقيا له نظير في العالم العربي، فمنذ العقد الأخير من القرن الماضي وتحديدا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ساد تفاؤل بإمكانية نجاح عمليات انتقال وتحول ديمقراطي في دول العالم الثالث وتحديدا في العالم العربي من خلال صناديق الانتخابات، حيث جرت انتخابات في كثير من الدول العربية كالمغرب والجزائر وموريتانيا وتونس ومصر ولبنان والكويت وفلسطين، إلا أن الانتخابات لم تُحدث التحول الديمقراطي المطلوب، وجاءت فوضى الربيع العربي لتجهض على بقايا الأمل بالتحول الديمقراطي، وباستثناء ما حققه المغرب والكويت من نجاح نسبي على مستوى الاستقرار السياسي فإن كل الدول العربية تفتقر إلى أنظمة ديمقراطية حقيقية.

ما يجري في أفريقيا وفي العالم العربي يدفعنا لاستحضار ما دوناه في كتابنا الصادر عام 2001 عن منشورات الزمن في الرباط- المغرب تحت عنوان: "الديمقراطية بين عالمية الفكرة وخصوصية التطبيق" حيث أشرنا الى تزايد الاهتمام بالديمقراطية والانجذاب لها بعد النجاحات التي حققتها المجتمعات الغربية في ظلها وخصوصا في المجال الاقتصادي حتى اعتقد البعض في العالم الثالث أن الرخاء الاقتصادي سيحدث تلقائيا بمجرد الانتقال نحو الديمقراطية  وحتى بمجرد وضع دساتير وإجراء انتخابات عامة، وحذرنا من التسرع بتقليد الغرب في الشأن الديمقراطي فلكل مجتمع خصوصيته والتحول للديمقراطية لا يقبل التسرع أو التقليد بل هي عملية متدرجة ذات أبعاد ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية ومجرد إجراء انتخابات لا يعنى أن النظام أصبح ديمقراطيا، ففي الغرب لم تستقر الديمقراطية وتصل المجتمعات إلى ما وصلت له إلا بعد خمسة قرون تقريبا من النضالات والثورات السياسية والصناعية والحروب الأهلية والإنجازات  في العلمية، فالديمقراطية جاءت في سياق تنمية شمولية اجتماعية وثقافية واقتصادية، والديمقراطية لن تجلب الرخاء الاقتصادي بمجرد إجراء الانتخابات.

يمكننا إرجاع سبب الانقلابات في أفريقيا و تعثر المسار الديمقراطي فيها وفي العالم العربي للأسباب التالية:

1- لم يكن التحول نحو الديمقراطية نتيجة نضج مجتمعي ومؤسساتي بقدر ما كان نتيجة مطالب وضغوط الغرب وخصوصا المؤسسات الدولية المالية حيث كان يُشترط إجراء انتخابات وتغييرات هيكلية في مؤسسات السلطة كشرط لتقديم المساعدات، وأحيانا كانت تجري انتخابات في ظل الاحتلال وبطلبه كما جرى في أفغانستان والعراق بعد احتلال واشنطن للبلدين.

2- تم اقحام شكليات الديمقراطية، الانتخابات وإقرار التعددية السياسية والتداول على السلطة ووضع دساتير، على مجتمعات قبلية وعشائرية وطائفية وما تزال محكومة بقانون القطيع أو الراعي والرعية، وليس مفهوم المواطنة، فاستمر الانتماء للقبيلة والطائفة يغلب الانتماء للوطن.

3- ضعف ثقافة الديمقراطية، فهذه الأخيرة ليس مجرد مؤسسات وتشريعات بل ثقافة أيضا، ثقافة اجتماعية وسياسية على مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير تقوم بها مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية بدءا من البيت والمدرسة الى الأحزاب ووسائل الاعلام، وللأسف هذه المؤسسات بقيت تقليدية إلى حد كبير ولم تؤثر على سلوكيات الناس إلا على طبقة محدودة من المثقفين والمتعلمين.

4- بسبب غياب ثقافة الديمقراطية واستمرار الانتماءات الطائفية والقبلية فإن الحكام الذين يصلون للحكم عبر صناديق الانتخابات لا يتنازلون عن السلطة بعد نهاية المدة المحددة دستوريا لحكمهم بل يلجؤون إما لتغيير الدستور وتمديد فترة الولاية إلى مالا نهاية أو التشكيك بنتائج الانتخابات في حالة فوز رئيس من المعارضة.

5-    استمرار الهيمنة الغربية على البلاد وفي بعض الدول الافريقية استمر التواجد العسكري الفرنسي والغربي وهو تواجد كان هدفه استغلال ونهب ثروات البلاد وحتى يتم تحقيق ذلك ساعد على تنصيب حكام موالين له بغض النظر إن كانوا ديمقراطيين أو غير ديمقراطيين كما كان الأمر في جمهورية الغابون.

6-  لم يرافق الانتقال نحو الديمقراطية نهضة وتنمية اقتصادية بل في بعض البلدان التي شهدت انتقالا ديمقراطيا تزايدت حالات الفقر وانقسم المجتمع الى طبقة شعبية واسعة فقيرة وتفتقر إلى الحد الأدنى من الحياة الكريمة وطبقة صغيرة فاسدة وفاحشة الغنى مشكلة من تحالف الحكام المنتخبين ديمقراطيا وكبار الرأسماليين والإقطاعيين والتجار المرتبطين بالدول الاستعمارية.

7- حالة الفقر والديمقراطية المزيفة خلقت تشوهات اجتماعية أفسحت المجال لظهور جماعات الإسلام السياسي المتطرفة المناهضة للديمقراطية.

8-   بسبب خيرات افريقيا وموقعها وقعت ضحية الصراع بين القوى العظمى للسيطرة على العالم، وخصوصا بين واشنطن والغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وهو صراع يفتقر لكل الأخلاقيات الإنسانية والسياسية، وفي خضم هذا الصراع لم تتورع هذه الدول على استقطاب أكبر عدد من الدول الافريقية بغض النظر إن كانت ديمقراطية أم لا بل ساعد بعضها على انقلابات ضد حكام منتخبين ديمقراطيا.

9- ما يجري في افريقيا ودول الجنوب بشكل عام يكشف زيف دعاوى وخطاب الغرب حول الديمقراطية وحقوق الإنسان حيث لاحظنا دعمه لأنظمة دكتاتورية أو تقليدية محافظة لا تؤمن بالديمقراطية ما دامت مصالحه مع هذه الأنظمة وفي نفس الوقت يعادي أنظمة ديمقراطية وحكومات منتخبة إن تعارضت مصالحها معه.

10- ومع ذلك فأفريقيا تسير بخطوات ملموسة وإن كانت بطيئة نحو ديمقراطية وطنية متحررة من الإملاءات الخارجية ومن النفوذ الغربي.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

لو عَرف المؤرخ العربي معرفة الانسان بالتاريخ واحوال البشر، وما تجمع له على السنين من اراء وأنظار، وما أستخرجه بنفسه من ملاحظات، وهو يقلب صفحات التاريخ على الارض ويثمن احداثه بصدق، لما كتب تاريخ الاسلام مزوراً،

التاريخ والحضارة، مرتبطان احدهما بالاخر أشد الارتباط، ولا يستطيع أحد منا ان يتحدث عن الحضارة حديثا معقولاً، الا اذا عرف ما هية التاريخ، ويبقى العقل الانساني هو محور الروابط بينهما لفتح ابواب السيادة له على هذا الكوكب الكبير، فالعقل هو القدرة على ربط الظواهر بعضها ببعض ليكون لنا البداية الاولى في طريق الحضارة والتقدم وأزالة ظلم الظالمين كما عرفته الشعوب الاخرى. ومن هنا يقول العلماء ان العقل نفسه والأيمان به هو اول مخترعات الانسان لقدرته على عقل الاشياء والسيطرة عليها، وليس الدين، فعقيدة الدين احدى كوارث البشر احياناً خاصة اذا كانت متناحرة فلسفياً بين معتقديها كما عند المسلمين اليوم.

حضارات العقل القديم المعمقة عند المصريين والعراقيين انتهت بنهايات بقيت سائبة وأثارها شاخصة للعيان لعراقتها في التأسيس، الحضارة المصرية انتجت الاهرامات التي عرف عنها سر الوجود، وانتجت الدواء لأول مرة في التاريخ عندما مرض الانسان وأصبح بحاجة للشفاء من المرض، والتحنيط لجثث الموتى عندما آمن بالخلود، والذي لازال الى اليوم يلف أسراره الغموض،مجهول الهوية دون معرفة سر الابتكار والخلود، والغرف المغلقة في الاهرامات التي لم تفتح بعد، ولم يعرفها العلم الحديث حتى الآن، وشرائع كتبت في برديات لا زالت تنتظر من يكشف سرها للوجود، لربما تحدثت عن خالق ودين ووجود، لا اعتقد لان لو كان لها دين يفرق بين معتقديه، لما اثبتت وحدتها الاجتماعية في الوجود. لكن التقدم تحقق لهم لأنهم كانوا بلا دين يفرق بينهم.

وحدائق بابل المعلقة لم يعرف اسرارها العلم الحديث، والكتابة والقلم والقوانين والزقورات والعجلة التي تجرها الثيران مبتكراتهم دون معرفة مبتكريها من العراقيين وغيرهم لا زالت رمز الوجود، بالمقابل انتجت حضارة المسلمين الفلسفة والطب والصيدلة والرباضيات فكان الفارابي والخوازمي وابن سينا اعلام في الوجود، لكن التوجه الديني المتعصب متمثلاً  بالغزوات والنهب والسلب والجنس ومعاداة العلم والعلماء والمرأة نصف الوجود، والردة والرجم اللذين لا اصل لهما في نص الاعتقاد، واتهام المرأة انها ناقصة عقل ودين، لكنها للجنس ملكة تدمر في الوجود، كلها متطلبات القادة التي لوثت حضارة اسلام الوجود، وقادتهم الى التخلف واللا وجود.

وأحتكار السلطة والمال والسيف المسلط على الرافضين، لذوي الامر، دون حقوق الاخرين قد أوقفت تقدم الوجود، والحكومات الظالمة تتحكم بالمظلومين منذ عهد الوجود، بحجج اللون والدين واختراعات مؤسسة الدين المخترعة منها، كوجود، في الأمر غموض، فالنص المقدس جاء لتكريم الانسان كل الانسان دون تمييز "وكرمنا بني آدم"، وتكريم العلم والقلم والاستقامة والعدالة وحفظ الحقوق، "أقرأ باسم ربك "فلماذا كان التطبيق معكوسا عند المسلمين، في الوجود؟ هذا ما يجب ان يُعرف بوضوح، والذي لا زال مجهولا يلفه الغموض عند المؤرخين،وفي مناهجنا الدراسية يجب ان يكون منفتحا على المساوىء والمحاسن دون تفريق، لعلنا نزيل بعض الاتهامات عن اسلام المسلمين المزيف الذي ثيت فشله في التطبيق،والا سنبقى في مؤخرة الركب متخلفين نندب اصلاح الوجود، ولا وجود.

نعم، بالتعقل والتفكر في علاقتنا بمن حولنا وبانساننا من حولنا تتكون الاخلاق ،وبعكسه يكون التشتت والتخلف، ففي نداءات السماء نقطة الشروع،وفي مسارها تتحقق التقوى في الوجود، فيتحقق التزكي ويسود الفلاح، فلمَ السيف وكراهية الاخر في الوجود، هو حيَ على الفلاح"، ولمَ التناقض بين العقل والظلم والدين في الوجود "أعدلوا ولو كان ذا قربى،نص لم تطرحه اقدم الحضارات "، ولكن ما زالوا هم الذين اوقفوا حقيقة العقل الحضاري والقانون عند اصحاب الحضارات وابتكارات القديم في الوجود،،كفاية مدحاً بالماضي وذماً بالحاضر الجديد، علينا ان نعرف، حقيقة الوجود وسر الخلود، ولا نبقى مع المقدس دون تحقيق ؟ لننبه لمنهج دراسي جديد، عسى ان ينفتح لنا باب العقل في التجديد؟ ونبعد اعداء الفلسفة عن التعليم بعد ان علمونا ان مناهجهم كل تخريف. لن نتمكن من التجديد الا بفصل ما ادخلوه من تخلف وانقسام في الدين وفي العلم والسياسة في التطبيق.

من هنا البداية ليكون الوعي الفكري وعيا تاريخيا مستوعبا ومتناميا ومتسعا ومتجاوزا ومتسما بالاستيعاب والشمولية ومتجاوزا لكل الما ورائيات، فالعقل الانساني مدركا لما يعرض عليه، لانه مضطر لقبول الحق، فلا تحشروا القرآن في كل صغيرة وكبيرة كما تريدون، فهو كلمة السماء الخاتمة فلا تزوروها يا أئمة جهلة الدين. فالقرآن هو بحث في ظاهرة بناء مجتمع جديد قائم على العدل بقناعة المنطق لا بسيف الفاتحين وظلم الحاكمين، لا، أنه كمال لرسالة السماء لكل الناس دون الاخرين، فالانبياء والرسل واتباعهما من المخلصين كلهم مثل بعض رسلا للحق والاستقامة لا للاستعلاء وظلم الاخرين. والقرآن يعلم محمد(ص) ماورد عند الاخرين: يقول الحق: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل،آل عمران 48".مات محمد (ص)وقال ما بُلغ به من رب العامين فعلام الانكار لتلك القوانين ؟

من هنا فواجب المؤرخ اليوم ان يُفهم الناس حقائق مقومات نظرية المعرفة في التاريخ بينهم باعتبار ان العقل الانساني هو اول مخترعات الانسان التي مهدت له مفاهيم الحضارة والتي ارتقت به الى القدرة على عقل الاشياء والقبض عليها مما سمى بالانسان الى المكانة الحضارية الرفيعة قبل مجيء دولة الدين التي مزقت انسان الله في العالمين، دولة الأغتصاب والتخريب، دولة المسلمين الظالمة بعد عصر الرسالة المجيد. فهل يعقل ان الله انزل الدين ليفرق بين البشر في العقيدة والحقوق بحجة التشريع، أم ان من رافقوا الدعوة لم يكونوا مؤمنين، او لم يفهموا ما جاء قي النص المقدس من قوانين ؟ وهو الذي يقول "اعدلوا ولو كان ذا قربى؟ نريد جوابا من مؤسسة الدين، الصامتة صمت القبور والمستحوذة على كل حقوق المسلمين بدون وجه حق بأسم أهل المعرفة والعرفان وهم جهلة الانسان والدين ؟، ومن يعترض فليقل لي ماذا أنتج الاسلام بعد محمد(ص) للعالمين سوى الاستبداد والفرقة والسيف وتدمير المرأة والتخلف ونكران الحقوق ؟

مع الاسف الشديد ان نظرية المعرفة عند المسلمين لا زالت قاصرة عن ادراك المحرك الحضاري للمنتج الانساني، كونها غير مصاغة صياغة حديثة، لابل قاصرة وغير مستنبطة حصرا من النص المقدس الكريم الذي طالما تحدثنا عنه دون علم صحيح، وما دمنا بهذا التوجه القاصر، لن نستطع ان نصل الى مفهوم المنهج العلمي في التفكير، ليمنحنا ثقة بالنفس وجرأة على التعامل مع اي انتاج فكري حديث ومعاصر، نتيجة التفكك الفكري والتعصب المذهبي البغيض، واللجوء الى مواقف فكرية او سياسية تراثية مضى عليها مئات السنين دون تغيير، لدرجة اننا الى اليوم لم نعطِ تعريفا علميا للاسلام،

كل هذه التوجهات القاصرة في نظرية المعرفة عندنا قادتنا الى كيل الاتهامات عليها بالكفر والالحاد والزندقة والهرطقة والجبرية والقدرية من اجل لا تحديث لنظرية التحديث والمعاصرة حتى وقعنا في مرحلة تصور اعداء الاسلام لما انتجه الاخر، فبقي المنهج العلمي عند غالبية مفكرينا يواجه التشنج والسذاجة وضيق الافق، فاصبحنا بحاجة ماسة الى جدلية الفكر المعاصرفي مشكلة الفلسفة الكبرى في تحديد العلاقة بين الوجودالازلي ومرحلة التطور العقلي دون ان نستطيع ان نقف على الارضية المعرفية العلمية للقرن الواحد والعشرين، التي تحاول به الصين انتاج حتى المطر للمزارعين.

هذا التصور الناقص لن نستطيع ردمه الا بأفكار علماء التخصص لا بقادة جهلة مزورين، وبوزراء تعليم أميين يعادون الفلسفة ام العلوم حتى اصبحنا نعيش ازمة فقهية وفكرية حادة متخذين من قدسية النص وسيلة لمحاربة أفكار الاخرين بالتهديد والوعيد وقل علماء الفكر في التجديد "هشام الهاشمي مثالاً"، اذن، ما لم ننتج فقه فلسفي جديد معاصر مستندا الى تأويل النص لاتفسيره المتعدد الناقص والمتضارب، لانعطي البديل في انتاج نظرية أصيلة في المعرفة الانسانية، منطلقة علمياً من النص المقدس لكي يكون المنطلق الفلسفي الذي ينتج عنه الحل الفقهي الفكري السليم. سنبقى نهرول في غياهب التاريخ، معتقدين ان كل فكر مضاد لنا هو عدو لنا بالضرورة دون تثبيت، وهنا هو موتنا الأكيد.

اذن ما الحل لنجتاز المرحلة السوداوية اليوم، الحل يكمن بالدرجة الأولى في أكتشاف محتوى النص المقدس الحقيقي التأويلي لا التفسيري كما جاء في الآية 7 من سورة آل عمران، "وما يعلمُ تأويلهُ الا الله والراسخون في العلم " اي المتخصصين في العلم وليس جهلة الفقهاء والمعممين في التفسير، والتخلص من تفسير النص القديم بعد ان كان التلازم بين اللغة والتفكير ووظيفة الاتصال لم تُستكمل بعد عند المفسرين منذ القرن الثاني الهجري بدايات التفسير، فضل الترادف اللغوي لا يعبر عن التفكير القائم على ادراك المشخص، ولم تكن فيها التسميات قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات، من هنا نستطيع ان نقول بضرورة ربط التوجهات القرآنية بالمنطلقات التطبيقية لتحديد مسار الدولة في الحقوق بين السلطة والمواطن التي فقدناها منذ عصر قيام الدولة بعد الرسول(ًص)، حين دخلت الدولة في فراغ السلطة عند المتحكمين، من اعداء عدالة الدين، حتى اصبح الدين قرينا للظلم عند المسلمين.

فالرسول جاء بدين حق وليس في مخيلته تكوين دولة بل تكوين أمة" هذه أمتكم امة واحدة وانا ربكم فأعبدون الانبياء 92" لها كل الحقوق وعليها كل الواجبات دون تحديد تحكمها مؤسسة العدل لا الطامعين، ساعتها سنتمكن من نشر الوعي التاريخي الحقيقي لواقع التغيير الذي نادت به الديانات الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام في الوصايا العشر،وهي واحدة والتمسك بمحتوياتها دون تفريق، وان اختلفت صيغتها الواحدة عن الاخرى قليلا، وقد حث القرآن الكريم الرسول (ص) على ضرورة التواصل والمحبة بين الديانات الثلاث كما ذكرنا آنفاً.،من هنا تبدأ مرحلة التغيير، فعلام العداء بين اصحاب الدين.

بعدهذا الجهد سنتجه نحو قبول النظريات العقلية في المعرفة الانسانية ورفض النظرية الدينية القاصرة على التفسير العلمي، لنتقدم بخطوة جريئة باعلان انتهاء نظام النبوة والرسالة والايذان بان الانسانية قد بلغت سن الرشد وعليها تحمل مرحلة الاعباء لتقليص الفكر الديني المقوقع وتوجهاته المصيرية الجامدة بغية التقدم خطوة جريئة نحو معرفة التحرر من جبرية الاوهام، واقوال فقهاء السلطة اللئام، والانتقال لمفهوم الحرية، كما فهمتها الشعوب الاخرى ونادت "بالحرية والاخاء والمساواة" لا بمذهبية الدين.

بعد هذا التوجه الكبير سنتخلص من الفكر الديني التقليدي والمرجع الميت الحي وعقل التخريف، ونتجه نحوالعلمانية العلمية لتحرير الانسان من الخضوع للطبيعة والتحرر من سيطرة الطبقات التي أحلت لنفسها أحتكار المعرفة وما سموه بأهل المعرفة والعرفان الذين استغلوا الثروة والسلطة لهم دون الاخرين، حتى تجرأوا على القول "ان واردات الدولة ملك سائب لهم دون الاخرين" ضاربين عرض الحائط ومتجاهلين الحقوق والقانون والمساواة بين الناس وبين الرجل والمرأة معاً ليعلو الحق على النقص، لتصبح الحياة شراكة بين الناس، كل الناس دون تفريق، والا لماذا جاء الدين، والقانون؟، فهل جاء ليخدم شلة الحاكمين، ؟

والمرحلة الاخرى والهامة جدا هي تفسير النص القرآني "أطيعوا الله والرسول وآولي الامر منكم "تفسيرا علميا بعيدا عن القدسية، فآلوا جمعاً لا مفرد، وهي ليست جمعا لولي، وهم المقدمون من الجماعة، وليسوا على الجماعة كما فهمت خطئاً تفسيريا عند الخلفاء الأولين، لذا لابد من تأويل النص تأويلا معرفيا  للخلاص من مشكلة احتكار أداة الحكم التي رفضها الدين والتي نواجهها اليوم بتعصب مقرف ضد حقوق المواطنين. وبهذا التوجه الصحيح نتخلص من احتكار السلطة والثروة والمعرفة والسلاح المحتكر بايديهم وحصرها في الأمة، هنا نصل وبكل تأكيد الى جدلية الانسان والبناء الحضاري املا في ايجاد ولادة حضارية جديدة غابت عنا منذ مئات السنين.لا كما فهموها حكام الدين والمذاهب المزيفة البارحة واليوم.

اذا استكملنا هذه الخطوات الصعبة والمهمة ونجحنا فيها ننتقل الى محور الزمن لنجدد الشهادة في القرآن دون تدخل الفقه الميت عليها الذي فرق الامة الى مذاهب ومراجع دينية وولاية الفقيه والمهدي المنتظر الوهمية التي لا وجود لها في القرآن قط، والتي اوجدتها السلطة للبقاء في حكم الناس دون القانون.بعدها ننهي نظرية الجرح والتعديل، والخلاص من نظرية الناسخ والمنسوخ الباطلة التي فسرت خطئاً، تمهيدا لاعتماد نظرية الأعتدال للخلاص من نظرية الخوارج والحاكمية الدينية المتمثلة بالمرجعيات الوهمية وولاية الفقيه المخترعة منهم ليكونوا هم سادة الناس بالباطل دون نص مقدس مكتوب،

هنا تصبح نظرية المعرفة الاساس لتحديد حقوق الانسان وتحديد المسارات الانسانية لتتحول النظرية الى دستور ثابت على طريقة وثيقة الما كناكارتا البريطانية والثورة الفرنسية في الحرية والاخاء والمساواة والدستور الامريكي دستور القوانين، التي انشأت امة وشعب مهما اختلفوا فيما بينهم يكون القانون المدني هو الاساس في الحقوق.

علينا ان نعترف بالتقصير والندم حين اخذتنا العاطفة وابتعدنا عن العقل وصدقنا ما قاله المؤرخون والفقهاء ورجال الدين من اكاذيب التاريخ منذ عهد الخلافة الاولى مرورا بالامويين والعباسيين، حين نقلنا النص للقارىء دون تحقيق فكتبنا على خلاف الحقيقة والمعقول.فأذا لم ننحِِ النص القديم المنقول منهم ونبدأ بكتابة التاريخ وترك البخاري الوهم وبحار الانوار المزيف، وفق قراءة تأويلية جديدة سنبقى ندور في متاهات الحدس والتخمين، وهذه هي أخطاء المورخين.

حكومة تحكم المسلمين منذ اكثر من 1400 سنة ،بلا دين صحيح ولا قانون ولا عدل ولا حقوق،بينما رجال المكنا كارتا كونوا دولة وحقوق بالقانون وهم بلا دين، كما نعتقد ونقول، فترى كيف كونوا دولة الحضارة والقانون، كتبنا مئات الاطاريح الانشائية ولم نقف على القانون، كما كتبنا في دول الوهم مثل المهدية والفاطمية والبويهية والسلجوقية ولم نسئال انفسنا لماذا كان التغييرفي بلادنا المنهوبة اليوم، كان من اجل الخيانة والسرقة والسلطة وحكم بيعه للاخرين، ام من اجل الحقوق،والحاكم يعترف على نفسه بالفشل والتقصير لكنه لا يقبل التغيير، أنظر اعترافات المالكي والعامري ومشعان الجبوري والفتلاوي في الفضائيات، وثلة لصوص التغيير. أهذا هو الدين.

فبقينا نؤمن بالنص (اطيعوا الله والرسول وأولوا الامر منكم) هذا النص بقراءته الخطأ تحولنا الى داعش والقاعدة وطالبان ومليشيات القتل والتدمير والمرجعيات الفقهية الامرة في التنفيذ، فمالم نتخلص من هذا التخريف في نظرية الكبائر، والاحاديث المزورة، ونظريات الخوارج والحاكمية، ولن نبني دولة الاعتدال والقانون، سنبقى في مناهج التاريخ الديني، ولادين، بعد ان اعترف غالبية من يحكمون اليوم بالفشل واختراق حقوق الشعب والوطن دون خوف من الله والقانون ودون تخلي عن الخطأ في التطبيق، نعم ان لم يصحى المؤرخ المثقف سيبقى هو الاسرع في الخيانة الوطنية، لأنه الاقدر على تبريرها، احترموا شجاعة من يقول الحقيقة أو بعضها، ايها المقصرون،

وأخيراً أقول وبحسرة: نحن المؤرخون شاركنا في الوهميات، وصفقنا لسفلة عصابات المعارضة الخائنين ومن كان يحتضنهم من الخائنين، في محاضرات حقيرة ضانين انهم من المؤمنين بالله والشعب والوطن، وما كنا نعلم بأقلامنا المتخلفة، اننا نساهم في الجريمة بقتل الوطن والشعب لتسليمه للاعداء الاخرين، فساهمنا في الجريمة كما ساهم بوش وبلير وشلة السفلة من المعارضة العراقية من المعممين والمدنيين في التدمير، كان علينا ان نفكر، كما فكر الاخر في التغيير، نعم، نعم، نعم.

نحن نعتذر للوطن والشعب والتاريخ، وان فات المعاد وبقينا بعاد، منك الغفران والصفح يا رب العالمين.

***

د. عبد الجبار العبيدي

ظلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، متذبذبة وغير مستقرة، على مدى تاريخ البشرية، فمثلما تمر الحياة الانسانية، بفترات ينعم فيها الانسان بالعدل والاطمئنان والحياة السعيد، تمر حياة الانسان، بفترات مظلمة يسودها التعسف والقهر والظلم والاستبداد. لقد مرّ المجتمع الاسلامي بفترة عدل ورخاء وسلام، منذ ان هاجر النبي محمد (ص)، من مكة الى المدينة في عام 14 بعد البعثة الشريفة، وهو يحكم المجتمع المسلم، فشاعت بين الناس روح الايمان والمحبة والتعاون، والسلام والاطمئنان. فاستطاع رسول الله (ص) وضع الأسس السليمة لبناء الدولة المدنيّة في تلك الفترة، لكن هذه الحالة لم تدم، فقد اختلف الصحابة يوم وفاة الرسول (ص) على طريقة الحكم، ولم يلتزموا بوصايا الرسول (ص) في هذا الموضوع، وقد صور ابن عباس (رض) هذا الحدث وعرفة (برزية الخميس).  

(عن ابن عباس، قال: لما احتضر رسول الله (ص)، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي (ص):

(هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده)، فقال عمر: إن رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (ص) كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله (ص)، قال رسول الله: (قوموا)، قال عبيد الله: فكان ابن عباس، يقول: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم)(صحيح مسلم (حديث رقم: 4234 )).

و بهذه الحادثة ظهرت نظرية حكم جديدة، ابتكرها (عمر بن الخطاب)(رض)، وفحواها (حسبنا كتاب الله)، فآل الحكم الى (ابي بكر) (رض)، ومن ثم وصية (ابو بكر) بتسلم (عمر) (رض)، مقاليد الأمور من بعده، ومن ثم اقتراح (عمر) مبدأ الشورى بين سنة اشخاص، ليكون (عثمان) (رض)، ولي امر المسلمين، وبعد ذلك آل الأمر الى الإمام علي (ع) عن طريق اختيار المسلمين له.

و بعد استشهاد الامام علي (ع) عام 40 ه، تحول الحكم الى معاوية بن ابي سفيان، بعد صلح الامام الحسن (ع) عام 41 ه، حيث خذل الامام الحسن (ع) بعض قادة الجيش، وبعض الاشخاص المؤثرين، وقبلوا الأموال من معاوية، فتم توقيع الصلح بين معاوية والامام الحسن (ع).

في فترة حكم بني أمية ظهرت نظريّة (القضاء والقدر)، وتم توظيفها لخدمة الجانب السياسي، فالقضاء هو كلمة الله، والقدر هو تنفيذ وتطبيق كلمة الله على الواقع، والحاكم ما هو إلاّ أمر قد قضاه الله وقدّره، وطاعة الحاكم هو قدر الأمة في الطاعة والولاء.

(روى المدائني (132هـ - 225 هـ)) قال: خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن، فأرسل معاوية إلى الحسن يسأله أن يخرج، فيقاتل الخوارج، فقال الحسن: سبحان الله! تركت قتالك وهو لي حلال، لصلاح الأمة وألفتهم، أَفتراني أقاتل معك؟. فخطب معاوية أهل الكوفة فقال:

(يا أهل الكوفة، أتراني، قاتلتُكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون)). (شرح ابن أبي الحديد م٤ ص٦).

وعندما اراد معاوية تولية ابنه يزيد، واجه رفضاً ومعاضة في ذلك، فخطب بالناس قائلاً:

(إنـي قائم بمقاله، فأقسم با الله لئن رد علي أحدكم كلمةً في مقـامي هـذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها، حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يُبقِيَّنَ رجل إلا على نفسه).

أما عبد المللك بن مروان فقد وطّأ حكمه بالسيف وارهاب الناس. والنصّ التالي يبين سياسة الخليفة الجديد:

 (قال ابن جريج (80-150هـ) عن أبيه: حج علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين ، فخطبنا فقال : أما بعد ... وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف .... هذا عمرو بن سعيد ، حقه حقه، وقرابته قرابته، فان قال برأسه هكذا، قلنا بسيفنا هكذا، وإنَّ الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهدا، أَنْ لا أَضعها في رأس أحد، إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب.).

هذه نماذج نصيّة تبيّن مقدار التعسف والظلم والجور، التي مارسها حكام بني أُمية مع الأُمّة. وجاء بنو العباس بعد الامويين، وقد جرّعوا الناس غُصص الأَلم والظلم والتعسف، فاعتمدوا نظرية الحكم الأموية (القضاء والقدر)، واضافوا اليها أن المصادر الاسلاميّة المقدسة؛ هي (الكتاب والسنة والاجماع).

و لعمري كم هي المزيفات التي دُسَّت في السنة النبويّة زوراً وبهتاناً ؟، وكم من المظالم أُقرّت تحت ستار، اجماع أهل الحل والعقد ؟.

قال الجويني ( 419-478هـ / 1028-1085م): (إنّ عقد الإمامة هو اختيار أهل الحلّ والعقد... وهم الأَفاضل المستقلّون الذين حنّكتهم التجارب، وهذّبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعيّة، فيمن يناط به أَمر الرعيّة).

فقد ورد في كتاب الاحكام السلطانية للماوردي (364 – 450 هـ /974 - 1058م) ص17 ما نصّه:

(فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمَامَةِ فَفَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ فَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَخْتَارُوا إمَامًا لِلْأُمَّةِ.

وَالثَّانِي: أَهْلُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لِلْإِمَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي تَأْخِيرِ الْإِمَامَةِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَإِذَا تَمَيَّزَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فَرْضِ الْإِمَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ.).

واستمر الحال على هذا المنوال، حتى تولي العثمانيون زمام أُمور الأُمَّة، ولم يكن الحال احسن من ذي قبل، وبعد اندثار الحكم العثماني، سلطت سلطات الاستعمار الغربي، الملوك الموالين للسياسات الاستعمارية، على رقاب الشعوب الاسلامية، تحت ذريعة التحرر من الاستعمار التركي، وتطبيق مبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة. لقد عانت الكثير من الشعوب الاسلامية من ظلم واستغلال حكام الاستعمار الأمريكي، والبريطاني والفرنسي، والايطالي، منذ بواكير القرن السابع عشر الى الآن.

ان الشعوب الاسلاميّة، بحاجة الى نهضة تغيير كبيرة، تشمل تغيير أَنظمة الحكم، والقوانين القضائية، والقوانين الاقتصادية، لتطوي كل صفحات الجور والظلم والقهر، وتنتقل بشعوبها من مرحلة التبعية للغرب، الى مرحلة الاعتماد الذاتي، على القدرات البشرية والمادية لأوطانهم، وبذلك يحذوا حَذوَ اندونيسيا، وماليزيا، وسنغافوره، لرسم معالم مستقبل شعوبهم واوطانهم، في سجلات التقدم حاضراً ومستقبلاً. 

***

محمد جواد سنبه

يقولون ان التاريخ يُعيد نفسه، لكن بالحقيقة ان هناك احداث تتكرر، ولكن تتكرر بالياتها واهدافها، وليس بشخوصها، في حين بعضها يجري بشكل عفوي عندما تجتمع لها نفس الظروف والاسباب فتتكر مرةً اخرى، ولكن كما قلنا بشخوص اخرين وبتاريخ وارض مختلفة، لان حتى التاريخ والحركة الاجتماعية للبشر تحكمهم قوانين وان تكن ليست بصرامة قوانين الفيزياء والكيمياء، اي المادية، وهناك احداث مرسوم لها، وتجري احداثها بتخطيط من يرعاها، ومن هذه الاحداث التي مرت على العراق والتي اخذت طابع الغير عفوي، والمرسوم من قِبل المخططين لها، من ذلك الهجمات التي تعرض لها العراق من قِبل الوهابيين، وعندما نمعن النظر في هذه الهجمات نرى انها جرت على ايدي نفس الجهات، وبتوجيه نفس المخططين، فالطرف الاول كان من قِبل الجار الجنوبي للعراق، المملكة العربية السعودية، وعلى يد طائفة لها نفوذها القوي فيها، اما الطرف المخطط والداعم لها فهو الغرب الامبريالي .

في ليلة تشرين الثاني 1927م هجم الوهابيين على احد مخافر الحدود العراقية بقيادة فيصل الدويش، وقد قتل اكثر من عشرين شخص ما بين رجل وامراة وطفل وعامل وشرطي، وقد ذكر ذلك السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه (العراق بين دوري الانتداب والاحتلال)، وينقل السيد الحسني ان ماحدث كان له علاقة مباشرة بالازمة السياسية بين الحكومة العراقية انذاك برئاسة جعفر العسكري والحكومة البريطانية، وهذه الازمه سببها اعتراض البرلمان العراقي على قبول الاتفاقية العراقية – البريطانية عام 1927م واعتبرها العراقيين بانها تكريس للانتداب البريطاني على العراق، وقد حدد مدتها البريطانيون ب25 سنه، هذا الاعتراض ازعج الحكومة البريطانية، لان بريطانيا قدمت لاحتلال العراق للبقاء فيه، وقد قامت بحملة عسكرية كبيرة لطرد الاتراك من العراق الذين احتلوا العراق لمدة 400 عام، وهي عملية ليست بالسهلة، قدمت خلالها بريطانيا كثير من الخسائر، فمن المنطقي انها تنوي البقاء فيه والسيطرة على مقدراته، ولها اهداف استراتيجية بعيدة المدى، ازاء ذلك يكون من المستبعد تسليم البلد لابنائه، وكانت تلك الفترة من التاريخ زمن استعمار الشعوب من قِبل الاوربيين الذين سعوا لاقتسام العالم، في حين ان العراقيين من الشعوب ذات المزاج الحار، وممن لايقبل ان تستعبدهم قوة اجنبية، وعدم قبولهم هذا يرجع لعدة اسباب، منها ماله علاقة بالارومة العربية ذات الانفه والعزة والكبرياء، ومنها ما له علاقة بانهم ينتمون الى دين يابى ذلك وخاصة الجنوبيون الذين ينتمون الى ثقافة وانتماء حُسيني رَبى فيهم روح المعارضة والتضحية والثورة، فما كان من الانكليز الا ان حركوا الوهابيين، وهم الضد النوعي للشيعة سكان الجنوب العراقي، لغرض اقلاق الوضع في بلد تقوده حكومة جديدة، ولا تمتلك امكانيات قوية تستطيع دفع الاذى عن شعبها في حالة حدوث هجوم خارجي عليها، وانها حكومة جديدة العهد بالحكم، ومازالت ادواتها الدفاعية ضعيفه جدا وبالتالي حصلت بريطانيا من خلال هذا الضغط على ما ارادت ووافقت الحكومة العراقية على مصادقة المعاهدة العراقية- البريطانية على مضض، وقد اكدت صحيفة (وستمنسر غازيت) هذا الاعتقاد بتحريك البريطانيين للقبائل الوهابية، حيث نشرت في 22 كانون الاول 1927م ( ان السبب الاكبر في امضاء المعاهدة العراقية الجديدة في اخر لحظة يرجع حسب اعتقاد بعض الدوائر الى ازدياد قوة الوهابيين على حدود العراق الجنوبية)، وهي بلا شك محاولة للتقليل من غلواء العراقيين في موقفهم من المعاهدة، وكسر تصلبهم في موقفهم التفاوضي، وهذا امر ليس بعجيب لان نفس السيناريو قامت به بريطانيا اتجاه الامير عبد الله حاكم الاردن انذاك، حيث تردد في توقيع المعاهدة الاردنية –البريطانية، فحركوا الوهابيون على حدود الاردن الجنوبية مما ارغم الامير عبد الله على القبول بتوقيع معاهدة بين الاردن وبريطانيا، وفق ما ارادت بريطانيا.

ان ما حدث قبل قرن من الزمان تقريبا هو ذات السيناريو الذي جرى على العراق والاردن لارغامهما على توقيع معاهدات على الضد من ارادتهما، وقد جرت على ايدي نفس المحتلين، فقد اعيد سيناريو تكريس الاحتلال الامريكي في العراق عن طريق عقد معاهدة استراتيجية بين العراق وامريكا، يكون للقوات الامريكية وجود عسكري، الغرض منها ظاهريا هو تحقيق الامن والسلام على الاراضي العراقية وحماية العملية السياسية من اعداءها، وحين بدا البلد يتجه نحو الاستقرار طلبت الحكومة العراقية والتي كانت برئاسة السيد نوري المالكي عام 2014م اجلاء القوات المسلحة الامريكية من الاراضي العراقية لانتفاء الحاجة منها، هنا ثارت ثائرة امريكا، واستشاطت غضبا من حكومة المالكي من هذا الطلب بانسحابهم من الاراضي العراقية، والتي جاءت بالتها العسكرية لتبقى فيه، ولاهداف استراتيجية بعيدة المدى، هذا الطلب الذي يُريد اخراج هذه القوات من الباب، خططت لولايات المتحدة الامريكية وبمساعدة حليفتها بريطانيا، صاحبة الخبرة الطويلة بشؤون العراق، بان تعود هذه القوات من الشباك، وان تكون عبرة لحكومة المالكي ولغيرها من الحكومات العراقية التالية، ولحكام المنطقة عامة، وهنا استخدمت امريكا وبتوصية من بريطانيا ورقة داعش، واستثمار ظرف العراق القلق، والحكام الجدد ذوي الخبرة القليلة في ادارة حكم الدولة . داعش كانت من اقوى واخطر الاوراق ضد النظام الجديد باعتبار ان نسبه كبيرة من اعضاء الطاقم الحكومي، هم من الطائفة الشيعية، كما ان البعث مستعد للتحالف مع الشيطان لاسقاط هذا النظام الجديد، بالاضافة الى فرقاء سياسيون غير منسجمون مع بعضهم، بل ومتامرون على بعضهم البعض، وخاصة السياسيون السنة والكرد، الذين يمتلكون اجندات مختلفة تماما عن سياسيوالشيعة، كما ان السياسيون الشيعة منقسمون على انفسهم، مما وفر فرصة ذهبية للامريكان من لعب ورقة داعش، وهكذا دخلت طلائع داعش عابرة للحدود العراقية من غرب الموصل، وحدث ما حدث من قتل وترويع للاهالي الابرياء، وما رافقه من قتل وتدمير لقوات الجيش العراق، واحتلال للمدن العراقية الواحدة تلو الاخرى، حتى وصلت قوات داعش الى اطراف بغداد، واصبح البلد على حافة الانهيار . هذا الضغط والموقف الخطير جعل الحكومة العراقية في موقف حرج ومضطرة الى ابقاء القوات الاجنبية على الاراضي العراقية وخاصة الامريكية، وكما اعترفت جريدة (وستمنستر غازيت) البريطانية باستخدام بريطانيا للقوة العشائرية الوهابية عام 1927م، كذلك اقرت وزيرة خارجية امريكا هنري كلنتون في تصريح تلفزيوني لها بانهم اي الامركان، هم من صنعوا داعش كاداة استخدموها في سياستهم الخارجية. حقا كانت ورقة داعش، ورقة ابتزاز وضغط بوجه الحكومة العراقية من اجل قبولها بابقاء القوات الامريكية على اراضيها، وتحقق لها هذا، وبذلك، ومن خلال هذه المعطيات الواقعية يتبين زيف الادعاءات التي ساقتها امريكا وبعض دول الجوار العراقي، وبعض الاعلام المحلي المرتبط بدول تناصب العراق العداء، بان داعش هي ردة فعل طبيعية للسياسة الطائفية للنظام الجديد في العراق . ان لداعش ما كان لها ان تكون، ولا كان للامريكان من فرصة للاستغلالها في تكريس وجوده المحتل لاراضي العراق، وتركيع الانظمة السياسية في المنطقة لولا حالة التشرذم، وحالة عدم الوعي السياسي للاحزاب السيسية، والنفس الطائفي عند بعض الاطراف العراقية، كما لعب النفس الانفصالي عند بعض الاحزاب الكردية من دور كبير في صناعة ارض رخوة غير صالحة لاقامة نظام سياسي قادر على التصدعي لكل الاخطار التي يتعرض لها البلد . ان التاريخ يكون عبرة لاولي الالباب من السياسين، ودرس للشعوب ان تجنب بلدها الفوضى، وان لا تكون مطية سهلة للمخططات الاجنبية، فيكونوا ادوات فاعلة في تدمير بلدانهم لصالح قوى خارجية لا تكن لهم الخير والسلام.

***

اياد الزهيري

ما نعيشه اليوم في هذا الزمن من تراجع عاطفي نتيجة الازمات المفتعلة وانتشار آفة المخدرات وتجارة الدين والفساد وقتل عشرات المغدورين كبارا وصغارا مما ارهق نفوس اغلبية المجتمع العراقي.. فاصبحت عبارة توفى او قتل مغدورا فلان تمر على مسامع الكثير منا مرور الكرام وأصبح التفاعل معها معدوم ولا حتى عبارة (رحمه الله) بعد ان كان سماع مثل هذه الاخبار تمثل صعقة لنا سيما ان كان الميت او المقتول شاباً مغدورا او طفلا صغيراً في العمر مغدورا ايضا وبات الكثير من الناس يسخر من ذكر الميت يأكلون ويشربون ويقهقهون في المقابر من دون ادنى تأثر او وجل كما صار بمقدورنا اليوم تناول الطعام والتهامه أمام نشرات الأخبار وهي تبث عملية الكشف عن مغدورين اطفال دون أن تبدو على ملامحنا اية مشاعر او تأثر وإذا حدث وأن تحركت مشاعرنا فإن مدة التـأثر تكون قصيرة جدا لا تتعدى الثواني.. فقد اصبح الهم والالم وازمة الثقة بين حتى افراد العائلة الواحده وباتت الهموم والالام لا تغادرنا فاصبحنا معدومين المشاعر لما يحدث حولنا.. انها الصدمات النفسية المتعاقبة وتجارة المخدرات فتعددت الاضطرابات النفسية التي افرزتها الاحداث والازمات فاصبح المجتمع يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمات واضطراب ذوي الوجهين وادمان المخدرات كل هذا وغيرها التي سببتها ادارة البلد الفاشلة والقيادات السياسية والدينية المعدوم الثقة بها وهي من تسببت بكل ما تم ذكره انفا وباتت المشاعر والاحاسيس مفقودة.. فالنفس البشرية عبارة عن منظومة معقدة من المشاعر والاحاسيس والافكار. ومنذ القدم يسعى البشر على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم التعليمية والمعرفية على فهم الاخر ولتحليل ما يشعر به الاخرين نظرا لأهميتة واثره الايجابي في بناء العلاقات الانسانية وتوطيدها بين افراد المجتمع والتلاحم بشكل عام.. فالتعبير عن المشاعر الصادقة لا يحتاج إلى دروس في اللغة بل إلى أحاسيس بالغة. وإنّ آداب السلوك هي فن التعبير عن احترامنا لمشاعر الآخرين. فالنوايا الطيّبة والمشاعر النقيّة تدل على الطريق الصحيح في بعض الأحيان.. ولكنها في أحيانٍ أخرى تعمي البصر. فما اروع العيش بمشاعرنا والاروع تقدير مشاعر من هم حولنا.. فالفضيلة والطهر لا يختلفان كثيراً عن الرذيلة إذا لم يكونا منزّهين عن المشاعر الشريرة.. .وفي علم النفس يعرف تبلد المشاعر على انه حالة مرضية تتسم بغياب الشعور والانفعال حيث يبدأ الإنسان بالتصرف بشيء من عدم الاكتراث واللامبالاة وعادة ما يكون هذا الإحساس نتيجة فشل الإنسان في حل المشاكل التي يتعرض لها فيتجه إلى الاستسلام والرضوخ للواقع فيرفض مواجهة مشاكله وصعوبات الحياة ويفقد الرغبة في بذل أي مجهود لحل أو حتى فهم المشكلة فيصاب بحالة من التبلد وعدم الاهتمام فلا يبدي أي ردة فعل لإن المخاوف الغامضة والمشاعرالسلبية او المتبلدة تتعارض مع التفكير الايجابي المعرفي الواضح ومايسمى بتبلد المشاعر وتبلد الاحساس هما اللذان نعبرعنهما بالتراجع العاطفي.. فتبلد المشاعر هو واحد من الاعراض المصاحبة او الناتجة عن الاضطرابات النفسية مثال ذالك كرب مابعد الصدمة او الفصام العقلي او الإكتئآب او الناتج عن ادمان المخدرات او تعاطي منشطات الجهاز العصبي اوغيرها من العقاقير المضادة للاكتئاب ذات الجرعات العالية.. اما تبلد الاحساس فهو عدم تاثر الفرد بما يدور حوله وهذا مؤشر لحالة غير طبيعية لان الطبيعي يكون للانسان ردة فعل على مايحيط به.. والغير طبيعي متبلد المشاعر والاحاسيس يكون ذات سلوك يتسم باللامبالات وعدم الاهتمام وغياب المشاعر والانفعالات.. اما الآلام هي التي تجعل المشاعر الإنسانية رقيقة صادقة مهذبة. ومن أصدق المشاعر الإنسانية الحاجة إلى الله والصدق مع الله بحروف وعاء المشاعر التي لا يسعها وعاء.. فمشاعرالاخرين لا يمكن توقعها او فهمها بسهولة من خلال لغة الجسد رغم ان البعض يتقن هذا الفن بدون ان يحرك شفتيه.. وهناك اخرين لا يهتم وليس لديه فكرة عما يدور في داخل الشخص الاخر الذي امامه ولا حتى يشعر به. ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن للاشخاص ان يفهمون مايشعر به الاخرين ويعيشونه. وهذا هو الذي يدفع المتخصصين في علم النفس للبحث من خلال الاختبارات النفسية للشخصية بالمباشرة وغير المباشرة للافراد ومن ثم الوصول الى مهارات فهم الاخرين.. فكم هو صعب ان نؤذي مشاعر الاخرين بلا مبالات دون ان نؤذي انفسنا فالذي يكبت مشاعره المؤلمة منذ طفولته يبقى يحس بمذاقها الجارح الحاد والمؤلم مهما بلغ من العمر وتبقى مشاعر الخيبة والخذلان غير قادرين على حملهما بذواتنا وتبقى مكبوتاتنا في قلوبنا وهكذا هو فن تعلم الانسان من الانسانية حيث يمكن ايقاض المشاعرالراقدة التي تضعنا في حضرة اهتمامات الروح الحقيقية ولا شيئ يعلم الانسان اكثر من الصدمات النفسية التي تولد اهتزاز المشاعر والاحاسيس وقد تولد الخيبة والخذلان.. فاذا كنت ممن يتقن فهم المشاعر فعليك بمراقبة سلوك الاخرين فلو رايت شخص يتعثر ويسقط ارضا فانك تحس وبدون وعي منك تقول شيئا ما يعبر عن ألمك علية.. مثل تلفظ اسم (الله) او(آخ)كما لو انك انت الذي تعثرت وسقطت ارضا. فنحن كبشر نملك توجهات فطرية لمشاعرنا بما يحس به الاخرون من خلال مشاهدتهم فقط.. فاذا كنا نريد فهم الاخرين بصورة افضل فعلينا محاولة ان نراقب سلوكهم عن قرب من خلال تعزيز مهارات قوة الملاحظة في ذواتنا وعلينا ان ننتبة لتعابير الاشخاص ولغة جسدهم في اي تجمع او اي مكان يعج بالناس. فحياتنا مع الناس ليس بعدد السنين بل بعدد المشاعر والحياة ليست شيئا اخر غير شعور الانسان بالحياة.. والمشاعر والاحاسيس هي عقل الانسان لمواجهة الصعوبات اكثر والانتقال من مرحلة التفكير الى مرحلة المشاعر.. والمشاعر عند الانسان قد تكون كبيرة ولا يمكن عدها فهي كعدد حبات رمال الصحراء وبقدر مياه البحار والمحيطات قد يعجز الزمن عن تسكينها.فكبت المشاعر السلبية كثيرا ما قد تؤذي الانسان. فاذا كان القلب والذات نقيان انسابت منهما المشاعر بصدق ونية صافية كما هو صفاء صوت الة العود الموسيقية وخلو جوفها فعندما اصابعك تلاعب اوتارها ليخرج نغمها من الجوف الصافي للعود لتحرك مشاعر هكذا هي المشاعر المكبوتة من الماضي في العقل الباطن قد تقتل صاحبها وقد توصله الى العذاب والالم اذا لم تخرج.. لذا فيجب على الانسان ان لا يكون انسان بلا منطق كي يكون انسانا بلا مشاعر بل عليه ان يتعلم كيف نعزز في المشاعر والاحاسيس. ومن الواجب علينا ان نوقض في الاخرين ذات المشاعر التي نكنها لهم. فلا يوجد ما يسمى بمشاعر التوتر في عالم اليوم بل يوجد بشر يفكرون في امور تدفعهم للاصابة بالتوتر.. فلو نظرنا لبعض الاشخاص وحاولنا التركيز عليهم نحس ما يشعر به هؤلاء الاشخاص بناء على تعابير وجوههم او لغة جسدهم او ما يفعلونه فالطالب الذي يمسك كتابا قد يكون مشغولا بالتحضير لامتحان ما فهل يبدو عليه التوتر نتيجة التفكير بالامتحان ام انه واثق من نفسه او ماذا عن شاب اخر جالس على كرسي ويغمض عينيه قليلا هل هو يشعر بالراحة ام بالتعب ام بالاستياء؟؟ وهكذا مع التمرين المتواصل سيصبح قادرا على التمييز وملاحظة التغيرات التي تطرأ من خلال لغة الجسد وتعابير الوجه وبالتالي يمكن تغير مشاعر الاخرين وفهمها بشكل افضل. كل ماتم ذكره انفا هو مختصر لدراسة اجريناها الهدف منها هو انتشارغياب الانسانية وتبلد المشاعر والاحساس بمشاعر مجتمعنا لان الطمع بملذات الدنيا ليس لهما مشاعر بل تعمي الابصار والكبت وتولد فقدان صوت العقل.. فتتولد المشاعر اللا عقلانية التي تدفع افراد المجتمع الى مالا تحمد عقباه.

***

د. قاسم محمد الياسري

أجمعت جميع التحاليل الاستراتيجية العالمية، الى ان رياح نتائج قمة العشرين التي عقدت في الهند مؤخرا لم تأتي بما لا تشتهي المخططات الامريكية والغربية، خصوصا وان روسيا وشركاؤها نجحت بحسب وزارة الخارجية الروسية من "منع محاولات الغرب من أوكرنة القمة "، وانه تم التأكيد على كثرة النزاعات المسلحة في الكوكب والدعوة لتسويتها عن طريق الحوار والجهود الدبلوماسية على أساس أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وأن روسيا التي ترأس وفدها رجل السياسة " المحنك " وزير الخارجية سيرغي لافروف، أكدت خلال القمة نيتها أن تواصل ضمان توريدات الأغذية والأسمدة وموارد الطاقة، وزيادة التعاون الاقتصادي مع الشركاء من دول الأغلبية في العالم، وخصوصا من المجموعة الاقتصادية الأوراسية و"بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون و"آسيان".

وبالطبع مثل هذه التطورات أخرجت أوكرانيا عن طورها، وبدأت بكيل سيلا من الإهانات لبعض الدول الكبرى والعديد من المنظمات الدولية الرئيسية، فقد اعتبر ميخائيل بودولياك مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الأمم المتحدة، بأن الأمم المتحدة في الواقع منظمة غائبة تماما، وهي عبارة عن مكتب لجماعات الضغط (لوبي) لكسب المال من أجل شيخوخة جيدة للأشخاص الذين يشغلون مناصب إدارية هناك، وان الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية والصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية، كلها "منظمات وهمية تلوث وعينا بتقييمات تافهة كالقمامة".

وفي حديث مع مجلة "الطبعة الجديدة" الأوكرانية، أشار بودولياك إلى أن الهند والصين تتمتعان بإمكانات ذهنية ضعيفة، لأن هاتين الدولتين، على حد تعبيره، "لا تقومان بتحليل عواقب خطواتها"، وقال: "ما هي مشكلة الهند والصين؟ مشكلة مثل هذه الدول هي أنها لا تحلل العواقب المترتبة على خطواتها، وللأسف إمكانياتها الفكرية متدنية جدا، فهذه الدول اليوم تجني الأموال من هذه الحرب، وتجني الأموال بشكل فعال، تماما مثل الجمهورية التركية، وهذا من حيث المبدأ -مصالح وطنية، ولهذه العبارة وقع جميل – وقال "ونحن نلتزم باحتياجات مصالحنا الوطنية"، مع الإشارة إلى أن هذه الدول تستثمر بشكل فعال في العلوم، فالهند، على سبيل المثال، "تمشي بالفعل على سطح القمر، ولكن هذا لا يعني أن هذا البلد يفهم بالضبط ما هو العالم الحديث" .

وهذه ليست المرة الأولى التي يدلي فيها مسؤولون أوكرانيون بتصريحات فاضحة ووقحة، ففي أكتوبر 2022، أقال فلاديمير زيلينسكي سفير أوكرانيا لدى كازاخستان بيوتر فروبلفسكي، الذي أدلى ببيان حول ضرورة قتل الروس، وتمت إقالة أندريه ميلنيك من منصب سفير أوكرانيا في برلين، بسبب تصريحاته اللاذعة غير المحتشمة، ففي الربيع الماضي قام بتشبيه المستشار الألماني أولاف شولتس بـ"المرتديلا السيئة"، وفي أكتوبر، شتم إيلون ماسك ردا على خطته المقترحة للسلام بين روسيا وأوكرانيا.

كما اتهم زيلينسكي، الأمم المتحدة بعدم الرغبة في الضغط على روسيا، والاشارة لى أن الدول الأعضاء في المنظمة تهتم بالعلاقات الاقتصادية أكثر من اهتمامها بـ"القيم"، وقال "العالم متحد في الأمم المتحدة، لكنه غير متحد في بعض القرارات المتعلقة بممارسة المزيد من الضغوط القوية على روسيا"، وانتقد أيضا دول الاتحاد الأوروبي التي يُزعم أنها تساعد روسيا على التحايل على العقوبات من أجل "حل قضاياها الاقتصادية" أو الطاقة الرخيصة، ودعا الرئيس الاوكراني، الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى عدم جعل المنظمة العالمية كبش فداء للوضع في أوكرانيا.

تصريحات المسئولين الأوكران وزيلينسكي بعد انتهاء قمة مجموعة العشرين، بحسب تعبير صحيفة "ريبيليون" بأن الرئيس الأوكراني، يدرك أنه سيفقد جميع حلفائه قريبا، وان أوكرانيا بدأت تعترف بالعزلة المتزايدة، على خلفية الدعوات لبدء المفاوضات ووقف العمليات العسكرية التي ليس للقوات الأوكرانية أي فرصة للنجاح فيها، ومن هنا جاءت هستيريا زيلينسكي، الذي في غضون أيام قليلة سجل على حائط الأعداء البابا والصين والآن جميع دول مجموعة العشرين وبولندا وهنغاريا والتشيك وبلغاريا، كما لم يذكر البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين دعم أوكرانيا، كما كانت الحال في وثيقة العام الماضي، وأن هذا تسبب في رد فعل غاضب من نظام كييف.، بالإضافة الى ان "الناتو"، ولم يعد قادرا على الاستمرار في مساعدة الجيش الأوكراني الضعيف بالمال والمستشارين والمرتزقة والأسلحة، واعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، مايكل ماكول، أن البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين كان بمثابة صفعة على وجه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.

وقد يكون الهجوم المضاد قد بدأ من ألمانيا، التي صرحت وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك، في تعليقها حول احتمال انضمام كييف للاتحاد الأوروبي، بأن الاتحاد لا يستطيع تخفيف معايير قبول المرشحين ولن تكون هناك تسهيلات بشأن ذلك، وكذلك تعليقها حول احتمالات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي بالقول، انه مع التوسع، وبغض النظر عن مدى أهميته من وجهة نظر جيوسياسية، يجب ألا تكون هناك تسهيلات عندما يتعلق الأمر بسيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأعلان وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أن بلاده لن تزود أوكرانيا بصواريخ "تاوروس" المجنحة البعيدة المدى "تلقائيا"، و أفادت صحيفة "دي تسايت" بسبب ما وصفته بسلوك وزير الخارجية الأوكراني، دميتري كوليبا " الوقح "، مع نظيرته الألمانية، أنالينا بيربوك، التي أعلنت رفض برلين إرسال صواريخ Taurus بعيدة المدى إلى أوكرانيا، وقال كوليبا: "ستفعلون ذلك على كل حال.. لا أفهم لماذا نضيع الوقت".

وبالنسبة لبولندا، فقد وصل الهجوم البولندي المضاد الى مرحلة تصريح رئيس الوزراء البولندي، بان بلاده لن تقوم بعد بتزويد أوكرانيا بالسلاح، في حين أكد الرئيس البولندي، أندجيه دودا، أنه لا يمكن أن يكون هناك أي حديث حول انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو" في الوقت الحالي، ولم يختلف الحال بما صرح به الرئيس الليتواني غيتاناس ناوسيدا، بأن رؤية ناخبي الدول المانحة فضائح فساد خطيرة بأوكرانيا تمثل "ضربة قاصمة" لسمعتها، مؤكدا في الوقت نفسه أن مظاهر الفساد بين ممثلي السلطات الأوكرانية "لها تأثير سلبي على توريد الأسلحة، وتقديم المساعدات الأخرى إلى كييف".

وفي الوقت الذي تحاول المفوضية الاوربية التستر على الخلاف الكبير بين عدد من دول الاتحاد ( بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا ) وغير من الدول على خلفية الحبوب الأوكرانية التي باتت تغزو اسواقهم، واضرت بشكل كبير في الأوضاع الاجتماعية لشعوبهم، ورغم الإعلان عن حظر استيراد القمح والشعير وبذور اللفت وعباد الشمس والذرة من أوكرانيا إلى هذه البلدان في الفترة من 15 مارس إلى 15 سبتمبر 2023، لم تلتزم السلطات الأوروبية والأوكرانية والوطنية بذلك، كما يتضح من الإحصائيات المرفقة بهذه الرسالة المفتوح،  واقر وزير الزراعة البولندي روبرت تيلوش، إن سلطات بلاده أقرت قرارا يحظر دخول الحبوب من أوكرانيا إلى بولندا بعد 15 سبتمبر،، ومن جانبه أعلن وزير الزراعة الهنغاري إستيفان ناجي بعد مفاوضات في بوخارست مع نظيره الروماني فلورين باربو، أن الدولتين ستمددان حتى نهاية العام الحظر المفروض على واردات الحبوب من أوكرانيا، وذلك بغض النظر عن القرار الذي اتخذته المفوضية الأوروبية بشأن هذه القضية.

وفي المقابل هدد الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي هذه الدول، بالعقوبات " الحضارية " دون ان يكشف عن فحوى هذه العقوبات، وأنه سيلجأ للتحكيم وللمؤسسات والمنظمات الدولية، إذا تطلب ذلك "النضال من أجل أوكرانيا ومن أجل أوروبا المشتركة"، رغم عدم وجود الرغبة في ذلك لديه، وخاطب زيلينسكي "بشكل منفصل" المفوضية الأوروبية، قائلا إن "أساس أوروبا" هو المنافسة الحرة و"الوفاء بالوعود"، ووفقا له، لا يعيق نظام كييف المنافسة، لكنه لن "يتقبل بهدوء انتهاك هذه الوعود"، بما في ذلك اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، الامر الذي اعتبرته بعض الدول الاوربية، بانه تصرف " سخيف " من الرئيس الاوكراني، بالإضافة الى اعلان كوريا الجنوبية انها لم تسلم أوكرانيا أي أسلحة عسكرية .

وفي الداخل الاوكراني، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة المبادرات الديمقراطية الأوكرانية "إيلك كوتشيريف"، أن ما يقرب من 80% من الأوكرانيين يعتبرون رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، مسؤولا عن الفساد في البلاد، وقالت المؤسسة، "في أوائل يوليو 2023، يعتبر 78% من المشاركين أن رئيس أوكرانيا مسؤول بشكل مباشر عن الفساد في الحكومة والإدارات العسكرية، ورفض ذلك 18% فقط من المشاركين على هذا البيان".

الرحلة الأخيرة للرئيس " المهرج " زيلينسكي، الى الولايات المتحدة الامريكية، للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، وحضور اجتماعات الأمم المتحدة، كانت خير دليل عن الاستياء العالمي من أوكرانيا ورئيسها، فعند كلمته في الأمم المتحدة خرج الكثير من الرؤساء وممثلين الدول، في إشارة واضحة عن تغيير مواقفها تجاه الازمة الأوكرانية، ما دفع الرئيس الأوكراني الى اتهام الدول الأوروبية التي لم ترفع الحظر عن استيراد المنتجات الزراعية الأوكرانية بأنها "تساعد روسيا"، وقال "من المقلق أن نرى في الوقت ذاته أن بعض أصدقائنا في أوروبا يقوضون التضامن وينظمون مسرحية سياسية، ويجعلون من موضوع توريدات الحبوب فيلماً من أفلام الرعب"، وقالت وكالة بلومبيرغ، إن رئيس نظام كييف فلاديمير زيلينسكي، أصيب بنوبة غضب وهيستيريا خلال وجوده في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ويرى المستشار الأمريكي الدولي إيرل راسموسن، إن زيارة فلاديمير زيلينسكي الأخيرة للولايات المتحدة، كانت مخيبة للآمال بالنسبة له، وبدت خطاباته وكأنها ترتكز على واقع بديل، وكذلك رفض رئيس مجلس النواب الأمريكي، كيفن مكارثي، إعطاء رئيس أوكرانيا، فلاديمير زيلينسكي، فرصة إلقاء خطاب في جلسة مشتركة بالكونغرس بسبب انشغال المشرعين الأمريكيين، وكانت بمثابة " القشة التي قصمت ظهر زيلينسكي "، فقد كانت رحلة زيلينسكي هذه تفتقر إلى الأبهة وحسن الضيافة كما كان متوقعا، ولم يتم تحقيق العديد من الأهداف خلال هذه الزيارة، ومحاولة عزل روسيا في مجلس الأمن الدولي، والحصول على دعم دولي أكبر، وإلقاء كلمة أمام الكونغرس والحصول على منظومات صاروخية بعيدة المدى.

اليوم بدأ زيلينسكي شعور الخسارة يسري في بدنه، وأن الوقت ليس في صفه، وتبين أن الأسلحة الغربية الموعودة، هي ليست تل الأسلحة المعجزة بأي حال من الأحوال، تماماً كما لم تتحقق آمال الألمان في أن تتمكن صواريخ V-2 مثلا من قلب مجرى الحرب العالمية الثانية، أو الباتريوت الامريكية، والقيصر الفرنسي، ولم تحدث معجزة - لا في ذلك الوقت ولا الآن، وبالتالي يحتاج زيلينسكي على الأقل إلى طلب الأموال من الغرب، ومن هنا الابتزاز.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم