آراء

آراء

لا شك أن النظام السوري لجأ لقمع المظاهرات ضده بعنف ووحشية لكن مع هذا فإن خيار الذهاب إلى حرب أهلية لم يكن قرار النظام وحده، كانت هناك قوى لم تستسهل فقط اللجوء إلى السلاح بل دفعت باتجاه ذلك معتبرة أن العسكرة وما تلاها من حرب هي الطريق الأفضل "لتحقيق مصالحها" أي لفرض وصايتها وسلطتها.. كانت شهوة السلطة أقوى بكثير من أية مقاربة منطقية للواقع ففي الحروب لا يكفي أن تبادر خصمك بإطلاق النار أو بالهجوم، فليس من المنطقي أبدًا أن تبدأ حربا" ستخسرها بلا شك.. من المرعب أن نصادف قوة سياسية تفكر بهذه الطريقة أو لا تقيم أي وزن لخسائر الناس العاديين لتصل إلى أهدافها.. لا شك أن القوى التي دفعت أو ساهمت بالدفع نحو عسكرة الثورة وتحويلها من مظاهرات واحتجاجات مدنية إلى مواجهات مسلحة كانت لها حسابات متناقضة، البعض اعتقد أن الخارج سيسارع للتدخل والإطاحة بالنظام لصالحها ولم تر في العسكرة أكثر من محفز ومبرر لهذا التدخل، هؤلاء كانوا أساسًا من السياسيين الذين شكلوا مؤسسات المعارضة الرسمية، وآخرون رأوا في العسكرة الخطة الأمثل بل الوحيدة التي يمكنهم من خلالها تحقيق أهدافهم أو الوصول إلى السلطة.. لكن وخلافًا لما وعد به قادة الفصائل المسلحة السوريين الثائرين على النظام لم يقم هؤلاء بحمايتهم بل ما حدث كان العكس، لقد احتمت الفصائل المسلحة بالسوريين من اقصف النظام ثم داعميه في وقت لاحق.. تعرضت المناطق المحررة أو الخارجة عن سيطرة النظام لعقوبات جماعية وقصف يومي افتقر للدقة على الأقل حتى التدخل الروسي المباشر في وقت متأخر وكان واضحًا منذ البداية أن القوى التي واجهت النظام بالسلاح لا تملك الرد على هذه الإجراءات العقابية الجماعية.. أكثر من ذلك، لم تفعل تلك القوى ومن كان يدعمها ما يلزم للإطاحة بالنظام الأمر الذي كان ممكنًا في لحظات عدة قبل إنقلاب ميزان القوى مع ذلك التدخل الروسي المباشر.. قبل ذلك لم يمكن لتدخل الآلاف من مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية التي دربتها ومولتها إيران ليقلب تلك الموازين أكثر من مجرد إنقاذ رأس النظام وتحقيق بعض الانتصارات المحلية التي ساهمت، مع غياب خطة حقيقية للإطاحة بالنظام إلى جانب الاقتتال والتنافس بين قادة الفصائل المسلحة في تثبيت مؤقت لسيطرة القوى على الأرض.. وخلافًا للمظاهرات وبقية أشكال الاحتجاج الجماهيري كانت العسكرة تعني فقط سيطرة أمراء الحرب في كل مكان وانفلات الهمجية وأيضًا تكلفة بشرية ومادية هائلة دفعت ثمنها أساسًا المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.. وأيضًا ليس صحيحًا أن العسكرة هي الرد الوحيد الممكن على القمع، لقد تعرض الثوار الايرانيون والعراقيون والبحرانيون والسودانيون، هذا في السنوات الأخيرة فقط عدا عن تجارب ثورية سابقة أخرى لا حصر لها، لقمع همجي وقتل المئات بل الآلاف منهم دون أن يلجئوا للسلاح للدفاع عن أنفسهم ومحاولة الإطاحة بالنظام الذي يقمعهم بكل تلك الهمجية، بكل الأحوال لم يكن من الممكن إسقاط تلك الأنظمة عبر اللجوء للسلاح أو حتى التقليل من خسائر الجماهير الثائرة.. رغم كل ذلك لا توجد أية رغبة حتى في الاعتراف والاعتذار للجماهير التي استخدمت وقودًا للمحرقة رغمًا عن أنفها، لا يرغب الإسلاميون بالاعتراف بأخطائهم ولا بمسؤوليتهم ولا بدورهم في هذه المحرقة، ويشاركهم في هذا من اعتقد أن هؤلاء سيقومون بتخليصهم من النظام بينما سيبقى من الممكن التحكم بهم وبأمراء الحرب عبر قوة ونفوذ الخارج المادية والعسكرية التي اعتقدوا أنها ستلعب لصالحهم في نهاية المطاف.. لا يقر هؤلاء بالطريقة الساذجة والاعتباطية ولا الاستبدادية التي اقتيدت فيها الجماهير خاصة الثائرة نحو تلك المحرقة التي لم يكن من الصعب التنبؤ بوقوعها دون تفكير أو تخطيط وبالتأكيد دون استشارتها وموافقتها، وكان تحويل السوريين خاصةً الثائرين منهم إلى لاجئين آخر خطوة في مسار طويل حولهم إلى منفعلين سلبيين وعاجزين عن أي فعل بعد أن صودر صوتهم وصودرت إرادتهم وبدلًا من أن يحرر السوريون أنفسهم بأنفسهم كما كان يفترض أصبحوا مضطرين للاعتماد على غيرهم من سادة العالم والإقليم وأغنيائه ليس فقط للتخلص من النظام وغيره من أمراء الحرب بل حتى في أبسط تفاصيل حياتهم ومعيشتهم..

***

مازن كم الماز

لتفسير ما يحدث في بريطانيا لا بد من الاسترشاد بمقولة نسبت لعمرو ابن العاص قالها في واقعة الصَّمْت: بأن "الأيام دول.. والحرب سجال" أي أن دورةَ التاريخِ قدرٌ محتومٌ ولا تخضعَ لإرادة الأقوى.

لذلك لا بد من العودة في عمق التاريخ حتى عام 1947 حينما أقدمت بريطانيا على تقسيم الهند في حرب الاستقلال الهندية الباكستانية وذلك وفق مصالحها كدولة استعمارية وامبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس، إذْ نهبت المستعمرات وحاولت تغطية الحقيقة الساطعة بغربال مُرَقَّع.

لكنّ دورة التاريخ كان لها أن تُدْخِلَ المشهدَ البريطانيّ المتخم بالمشاكل، في فنتازيات المقارنة ما بين الحاضر البريطاني المتأزم، وزمن الاستعمار البريطاني للهند، حيث كانت النتيجة وخيمة على الضحية المكبلة بالأصفاد، من حيث سرقة موارد الهند وهدرها والتنكيل بشعبها المغبون.

وحينما أوشكت ثورة غاندي أن تحقق أهدافها، أقدمت بريطانيا على غرس أسفين بين طوائف الهند بتقسيم البلاد طائفياً- مثلما فعلت في فلسطين عام ثمانية وأربعين حينما غرست الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي بعد أن حولته إلى أقطار متصارعة-.

إنها مقارنة بين المملكة المتحدة ما قبل الجلاء من مستعمراتها وخاصة الهند، وبعده، وصولاً إلى انحسار نفوذها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي منذ 16 أغسطس 2017، وذلك من خلال ما توالى عليها من أزمات متفاقمة، بسبب السياسة البريطانية الخاطئة بزج البلاد في أتون صراعات إقليمة عمياء. كالحرب الأوكرانية، إلى جانب الدعوات الأوسكتلندية الانفصالية التي لو شاءت لها الأقدار أن تنجح؛ لانفرطت وحدة المملكة المتحدة، ذات السيادة والتي تتكون من أربع دول فردية، هي: إنجلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية.

فبعد 76 عاماً من حرب الاستقلال الهندية التي أدت إلى نتيجتين متعارضتين تجلت الأولى بإعلان استقلال الهند من نير الاستعمار البريطاني بموافقة بريطانية بموجب قانون برلمان المملكة المتحدة، أما الثانية فدور بريطانيا بتقسيم الهند الموحدة إلى الهند والباكستان.. وبالتالي تغيير جغرافية الهند وفق المصالح البريطانية التي كانت قد تضررت عقب الثورة.. معتمدة في ذلك على سياسة "فرق تسد".. ومن ثم إدامة الصراع الهندي الباكستاني البيني بإذكاء الصراع الجيوسياسي من خلال ترسيخ الخلاف الهندي الباكستاني حول كشمير، وشمول التقسيم مقاطعتين، وهما البنغال والبنجاب، على أساس الأغلبيتين الحاكمتين المسلمة وغير المسلمة.

وقد واجهه الزعيم الهندي الروحي المهانتا غاندي المشروع البريطاني ما تسبب باغتياله.

وعليه فقد تساءل كثيرون حول تورط المخابرات البريطانية حينذاك في اغتيال أيقونة الهند، غاندي على يد هندوسي متطرف ممن كانوا يعارضون إصراره على إرساء مبدأ احترام حقوق المسلمين والمنبوذين المنتهكة في الهند آنذاك.

فخسرت الهند والباكستان هذا الزعيم الذي قاد بحركته السلمية وطنه الهند نحو الاستقلال من الاستعمار البريطاني لوقوفه في وجه مشروع تقسيم الهند من خلال دفاعه عن الأقلية الإسلامية ومناصرته للمنبوذين، ليبدأ بعد ذلك في حركته التحررية التي مارس فيها جميع أساليب سياسة العصيان المدني أو اللاعنف؛ ليجبر في الأخير بريطانيا العظمى على إعلان الجلاء عن الهند في يونيو 1948.

واصطحب الإنجليز بمعيتهم أنصارهم من المهاجرين الهنود والباكستانيين إلى بريطانيا حماية لهم.

ومن بين أولئك كان أجداد بعض من يتحكم اليوم بمصير بريطانيا من خلال صلاحياتهم السياسية ومواقعهم الحزبية.

أنا أقصد هنا رئيس وزراء بريطانيا الحالي ريشي سوناك -من حزب المحافظين- وهو هندوسي من أصول هندية، وخصمه البريطاني المسلم حمزة يوسف رئيس وزراء أوسكتلندا الذي يناكفه من خلال الدعوة للاستفتاء في إقليم الشمال بغية الانفصال عن المملكة الأم بعد أن جفَّ ضرعها.

فما أشبه الماضي بالحاضر ولكن مع تبدل الأدوار.. إنها دورة التاريخ التي لا تنتظر من يغير عجلتها التي تديرها عاصفة السببية المحتومة.

مؤخراً قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إنه "يتطلع للعمل" مع حمزة يوسف، والذي تم انتخابه كوزير أول في اسكتلندا.

إلا أن سوناك رفض دعوة يوسف إلى إجراء استفتاء حول انفصال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة داعياً إلى تركيز الجهود في التنمية والتصدي للتضخم.

وكان الاستقلاليون الإسكتلنديون قد اختاروا حمزة يوسف لخلافة نيكولا ستورجن في زعامة الحزب وبالتالي رئاسة الوزراء يوم الأربعاء 29 مارس العام الجاري بعد تعيينه بأمر ملكي وأدائه اليمين أمام المحكمة العليا الاسكتلندية، حيث وعد أنصاره وفق برنامج الحزب الوطني الاسكتلندي (يسار)، بقيادة إسكتلندا لتحقيق الاستقلال "في هذا الجيل" دون أن يحقق شيئاً يذكر سوى ما طرأ من زيادة في نسبة المؤيدين لهذا الخيار.

فبحسب استطلاع للرأي أجراه معهد يوغوف في 13مارس 2023 فانّ 46% من الذين استطلعت آراؤهم أبدوا تأييدهم للاستقلال، مقابل 50% الشهر الماضي.

اي أن النسبة تنامت حيث شهدت فرقاً إيجابياً مقداره 4% في غضون شهرين، بالإضافة إلى نسبة 5% قياساً إلى نتائج الاستفتاء الذي نظم في 2014، حيث صوت آنذاك 45% من الاسكتلنديين لصالح الاستقلال.

وقضية الاستقلال أعيد إطلاقها بسبب بريكست بشكل خاص لأن 62% من الاسكتلنديين عارضوا خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، ورأى الحزب الوطني الاسكتلندي في قطيعته مع لندن وسيلةً للعودة الى الاتحاد الاوروبي.

هذا صراع يزداد احتداماً، فيما تترقب بقية الأقاليم وخاصة إيرلندا الشمالية نتائج أي استفتاء محتمل، يكون من شأنه لو كتب له النجاح، أن يرسخ لتوجهات إقليمية انفصالية قد تؤدي لكارثة تقسيم المملكة المتحدة.

من هنا يتساءل كثيرون عن جدوى تمسك بريطانيا برفض دعوات أسكتلندا الانفصالية في الوقت الذي تذكي فيه نيرانها في روسيا! وذلك من خلال دعمها المفتوح للطرف الأوكراني ضد روسيا الاتحادية في الحرب الأوكرانية الطاحنة.

أضف إلى ذلك الجدوى من رفض بريطانيا منذ مارس 2022 مناقشة أمن أوروبا مع روسيا على مبدأ "وحدة الأمن" حماية لوحدة الاتحاد الروسي، وفق رؤية بوتين، ما تسبب بنشوب الحرب الأوكرانية الطاحنة.

ناهيك عن دعم بريطانيا المستمر لتفتيت المجزأ في فلسطين من خلال دعمها لكيان الاحتلال الإسرائيلي، مع انها كانت صاحبة وعد بلفور المشؤوم. فالأيام دول. ودورة التاريخ لا تخضع لأمزجة الكبار إذا ما تعطلت مراكبهم في عرض البحر اللجي.

***

بقلم: بكر السباتين

14 يونيو 2023

ما يجري من تطورات في ساحة المعركة لعملية الروسية العسكرية الخاصة، هي إيجابية في مجملها بالنسبة للاتحاد الروسي، وهذه التطورات، فندت كل " التخرصات " التي يحاول الغرب، اللعب من خلالها لتشويه الانتصارات الروسية المتحققة على كافة المحاور، وبالطبع فإن الوضع العام وكما قال الرئيس الروسي خلال لقاءه بمراسلي الحرب، انه وفقًا لوزارة الدفاع، فإن روسيا لا تحتاج حاليًا إلى تعبئة إضافية، ومثل هذا القول يفند وبشكل قاطع الإدعاءت الغربية .

فمنذ كانون الثاني (يناير)، جددت القوات المسلحة للاتحاد الروسي مواردها، بأكثر من 150 ألف جندي بموجب العقد، وتطوع 6000 آخرين، واعترف بوتين "حتى بشكل غير متوقع بالنسبة لي: بعد كل شيء، تطوع 156 ألف شخص"، وفي حديثه عن التناوب المحتمل، أشار إلى أنه في يوم من الأيام سيكون من الضروري إعادة الأشخاص الذين تم حشدهم تدريجياً من منطقة العمليات الخاصة إلى ديارهم.

ويتردد عند الشخصيات العامة الكثير من الهمسات والحاجة الماسة إلى جمع مليون أو مليونين آخرين، لكن الرئيس بوتين أوضح ان ذلك طبعا يعتمد على ما تريده العملية الخاصة، ولكن اعتمادًا على الأهداف التي "وضعناها لأنفسنا"، يجب حل قضايا التعبئة، ولكن لا توجد مثل هذه الحاجة اليوم، في الوقت نفسه، القيادة العسكرية تؤكد أنهم لا يخططون لإرسال مجندين إلى منطقة NVO، لأن هذا ليس ضروريًا.

أن ما يحدث الآن في أوكرانيا لا يلائم روسيا أبدا، وأشار بوتين إلى أن الغرب يستخدم أوكرانيا في زعزعة الأوضاع في روسيا، وكذلك، فإن الغرب يحاول هز روسيا طوال الوقت، لأنه لا أحد يحتاج إلى دولة لديها مثل هذه الإمكانات، مؤكد في الوقت نفسه ا أن موسكو لم يكن لها أي ضلوع في الأحداث في دونباس عام 2014، ولكن "تم إجبارنا على الدفاع عن أنفسنا"، موضحا أن كل ما فعلوه كان من منطلق زعزعة الاستقرار في روسيا، ويواصلون أفعالهم، لماذا؟، لأنها (روسيا) دولة كبيرة جدا، ولا يريدون لدولة بهذا الحجم في أوروبا، في مثل هذا المكان، مع مثل هذه الإمكانات، وبالتدريج يحاول الجميع تقطيع" أوصالنا وتقسيمنا".

الرئيس الروسي قطع الشك باليقين، وهو يشير بكل ثقة إلى أن الهجوم المضاد للقوات المسلحة الأوكرانية، والذي بدأ في 4 يونيو ويستمر حتى يومنا هذا، قد فشل، وان الخسائر في صفوف الجيش الروسي أقل بعشر مرات من الخسائر في صفوف الجيش الأوكراني، ومن بين جميع الخسائر - وهم يقتربون من تقييم يمكن أن يسمى كارثيًا من حيث الأفراد - فإن هيكلهم لهذه الخسائر غير موات بالنسبة لهم، كما، إن دبابات "ليوبارد" الألمانية ومركبات "برادلي"أمريكية الصنع، التي تستخدمها أوكرانيا، تحترق بشكل ممتاز، وتنفجر ذخيرتها بداخلها، واكد بوتين حق بلاده واحتفاظها بحق استخدام ذخائر اليورانيوم المنضب، وقد تقوم بذلك ردا على استخدامها من طرف نظام كييف، وقال "لدينا الكثير من هذه الذخيرة، مع اليورانيوم المنضب، وإذا استخدمتها قوات نظام كييف، فإننا نحتفظ أيضا بالحق في استخدام نفس الذخيرة".

ووفقا للبيانات الروسية فان خسائر القوات الأوكرانية في إطار الهجوم المضاد تتراوح بين 25 و30% من حجم المعدات العسكرية التي تم تسليمها إليهم من الغرب، وقوات كييف كما أوضح الرئيس بوتين، فقدت 160 دبابة و360 مركبة مدرعة، ووصفها بانها تقترب من الكارثة، مشيرا إلى أن العدو لم يحرز أي نجاح في الهجوم المضاد، وانه من أجل إنهاء الصراع، وكما يشدد الرئيس الروسي، يجب على الغرب التوقف عن إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، والاشارة إلى أنه لا أحد، بما في ذلك الولايات المتحدة، يمكن أن ينتصر في حالة نشوب حرب عالمية ثالثة، وعلى حد قوله، فإن الولايات المتحدة تتظاهر بأنها ليست خائفة من تصاعد الأزمة، ولكن في الواقع، لا يرغب الكثير من الأمريكيين في جلب الأشياء إلى صراع عالمي.

ان أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا، في المنظور الروسي، تتغير وفقًا للوضع الحالي، لكنها تظل كما هي بشكل عام، ويؤكد بوتين، "لقد بدأوا هذه الحرب، ونحن نحاول وقفها، لكن علينا أن نفعل ذلك بمساعدة القوات المسلحة"، وتنبأ في الوقت نفسه، باختفاء وشيك للمجمع الصناعي العسكري في أوكرانيا، لأنه" لا ينتج أي شيء - "يتم إحضار كل شيء إليهم".

وحذر الرئيس الروسي، من أن روسيا، وفي حال استمرار قصف مناطقها، ستنظر في مسألة إنشاء "منطقة عازلة" على أراضي أوكرانيا، وعلى مسافة تجعل من المستحيل بلوغ "أراضينا منها"، وفي معرض أجابته عن سؤال حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه روسيا هذه المرة، قائلا، "سيعتمد ذلك على الوضع في نهاية الهجوم المضاد الأوكراني ن، ولدينا خططا ذات طبيعة مختلفة".

وطبعا أسئلة كثيرة لدى العديد من المراقبين وحتى الناس البسطاء، عن أسباب ترك الحدود الروسية مع أوكرانيا وتحديدا في مقاطعة بيلغورود، والتي تسمح " بالمخربين "، في تنظيم هجمات بين الفينة والأخرى، والتي أصبحت أكثر تكرارا في الآونة الأخيرة، اعترف الرئيس بوتين بصعوبتها في بعض الأحيان، لكنها برأيه مهمة قابلة للحل، وأوضح الرئيس أن الهجمات على المناطق الحدودية مرتبطة "بشكل أساسي بالرغبة في تحويل جزء من القوات الروسية ووسائلها إلى هذا الجانب، لسحب جزء من الوحدات من تلك المناطق التي تعتبر الأهم والأكثر أهمية، لتخفيف القبضة الروسية على المناطق التي تتواجد فيها القوات المسلحة الروسية .

والحديث عن العملية الروسية الخاصة لا يمكن ان يكون بمعزل عن الجريمة الإرهابية في محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، فقد أكد فلاديمير بوتين أن مسؤولية الانفجار تقع على عاتق كييف التي أصابت عمدا محطة الطاقة الكهرومائية بصواريخ HIMARS، واعرب في الوقت نفسه عن أسفه لأن تدمير محطة الطاقة الكهرومائية أحبط الهجوم المضاد الأوكراني في هذا المكان، وقال - لسوء الحظ - لماذا؟ لأنه سيكون من الأفضل لو كانوا يتقدمون هناك، وكان من الأفضل للروس، لأن الهجوم هناك سيكون سيئًا للغاية، ولكن منذ حدوث مثل هذا التسرب، وبناءً عليه، لم يحدث الهجوم، وتعمل الآن وزارة حالات الطوارئ الروسية، والسلطات العسكرية والمحلية بنشاط لإزالة عواقب الدمار .

والحديث عن القتال وتطوراته، لا يمنع من الحديث أيضا عن السلام، الذي تنشده روسيا، برأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن بلاده لم ترفض أبدا إجراء أي مفاوضات قد تؤدي إلى تسوية سلمية للوضع في أوكرانيا، وقال "أولا، لم نرفض ذلك أبدا، لقد قلت هذا بالفعل ألف مرة، لم نرفض أبدا إجراء أي مفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تسوية سلمية للوضع، لطالما تحدثنا عن هذا مرارا وتكرارا"، وأشار إلى أنه خلال المحادثات بين روسيا وأوكرانيا في اسطنبول، تم بالفعل إعداد وثيقة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

نشر الكاتب أمير طاهري مقالاً في صحيفة «الشّرق الأوسط» الغراء تحت عنوان «العراق وطهران... أوهام»، (9/6/2023). تعرض فيه لتسمية العراق وبغداد، وجعلهما فارسيتين، بينما كان يتحدث عن الوضع الرَّاهن. ورد في مقاله الآتي، وأتوخى حسن النّية فيما طرح: «كلمة العراق، التي تعني الأراضي المنخفضة، هي نفسها من أصل فارسي. بغداد عطية الله، هي أيضاً كلمة فارسية، بينما كانت بابل وطيسفون، قرب بغداد اليوم، عاصمتين للإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة لأكثر من 1000 سنة». أقول: إذا كان الكاتب يُقدم نفسه كاتب رأي فهذه المعلومة ليست رأياً، إنما تاريخ يحتاج إلى بحث ودراسة.

نعم، اشتقّت المعاجم العربية تسمية العراق من عروق الشَّجر، أو لأنه يقع على شاطئي دجلة والفرات، وقيل: مِن إيراك، كان ذلك قبل أن تُكشف آثار العراق القديمة، ويظهر اسم أوروك أو الوركاء العاصمة الشّهيرة في ملحمة جلجامش، جنوب العِراق، ولا أظن أنَّ السيطرة الساسانية أو الفرثية، وكل مَن نطق بالفارسيَّة، قد أدرك الوركاء وجلجامش.

لذا شكّك المؤرخ الجغرافي البريطانيّ كي لسترنغ (ت: 1933)، ونبه إلى إشكالية استخدام تسمية «العراق»، قال: «كيف جرى استعمال هذا الاسم في العهود السَّالفة، فأمرٌ يعتريه الشَّك، فلعله يمثل اسماً قديماً ضاع الآن، أو أنه أُريد به في الأصل عن هذا المعنى. وكان العرب يسمون السهل الرُّسوبي بأرض السَّواد، واتسع مدلول كلمة السّواد حتى صارت هي العراق، لفظتين مترادفتين في الغالب» (بلدان الخلافة الشرقية).

وجد الباحثون هذا الاسم القديم منحوتاً من اسم أوروك أو الوركاء، مدينة جلجامش، وهذا ما ذهب إليه البحاثة الآثاريّ طه باقر (ت: 1984): «وإنه -أي العراق- مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك أو أنوك، وهي الكلمة التي سُميت بها المدينة الشَّهيرة الوركاء... وفي العهد الكشي، في منتصف الألف الثَّاني قبل الميلاد، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة إيريقا، الذي صار الأصل العربي لبلاد بابل أو لكلمة العراق»، (الآلوسي، اسم العراق)، وسالم الآلوسي بحّاثة معروف، رد في كتابه «اسم العراق» على محاولات تجاهله. على أيّ حال، لماذا يُحار بأصل اسم العراق، والأرض كان اسمها (أوروك)، أو(إيريقا)، وليس هناك مانع من تبدل: الهمزة إلى عين، والقاف إلى كاف؟!

أما عن اسم بغداد، فأفاد الباحثان القديران بشير فرنسيس وكوركيس عواد بأنَّ أصل التَّسمية آرامي، وتعني مدينة الضأن أو الغنم. وأفادا أيضاً: ورد الاسم في العصر البابلي والآشوري «بغدادو» و«بغدادي» أو «خودادو». وأن مدينة قريبة من بغداد الحالية وإقليماً أيضاً كانا يُعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابلي (هامش بلدان الخلافة الإسلامية. أُصول أسماء الأمكنة العراقية، مجلة سومر 1952).

وفي اسمها أيضاً قال الخبير في اللغات القديمة يوسف متي: تسمية بغداد آرامية سريانية: باغ تعني البيت، وداد تعني الخيط، أو غنم، أو نسيج العنكبوت. فبغداد: (بيت الخيط)، أو (بيت الغنم)، أو (بيت العنكبوت). و(باغ) تعني أيضاً بالآرامية السِّريانية «جُنينة، بحر، بَطيحة، سعد». كان أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ) قد شيَّد عاصمته الجديدة على موقع قرية تُعرف باسم بغداد منذ أيام حمورابي، وسماها «مدينة السَّلام» تيمناً بالجنة، كأنه فهم معنى اسمها في لغة أهل بابل، ألا وهي البستان أو الجُنينة (محاضرة في مقر اتحاد أدباء العراق).

إنّ تسمية المدن العراقيّة، والتي تبدأ بحرف الباء الآراميّة، وتعني البيث أو البيت، كثيرة، وما زالت «بعقوبا: بيت المفتش، وباعذرى: بيت العماد، وباعشيقا: بيت المظلومين، وباصيدا: بيت الصَّيد، والبصرة: بيت الجداول، وباخمرا، وباجسرا وغيرها»، فيا عجبي لماذا تكون بغداد وحدها فارسيَّة؟ طوال السيطرة الفارسيّة على العراق، والتي حسبها الكاتب بألف عام، ولستُ في محل مناقشة هذا الرقم، ظلت لغة العراق الآراميَّة، بدليل أن الفارسيَّة لم تكن لغة منافسة، كي تسمَّى الأمكنة بها.

أُعلن شديد أسفي أن يصل بنا الحال لنكون مدافعين عن تاريخ بلاد حكمت المشارق والمغارب ولم تحنّ إلى عصر الإمبراطوريات، وإلا ألم يكن اسم إيران نفسها «عراق العجم»، كي يكون اسما بغداد والعراق فارسيين، كأن الفرس عندما غزوا العراق لم تكن لمدن هذه الأرض أسماء، انتظرت حتَّى يأتي الفُرس ليسموها؟!

ما كان هذا النِّقاش مطروحاً بشدة إلا بعد (2003)، يومها ظهرت كتابات كثيرة، وليست لي تسميتها بالآراء، لأن الرَّأي عادةً يستند إلى دراية أو رواية، فماذا نقول لمَن كتب نافياً اسم العراق نفسه، حتَّى اضطررت إلى جمع ما قاله شعراء الجاهلية والإسلام فيه؟ حينها حسبتُ نفسي أُعيد اكتشاف المكتشَف، لكن فعلتُ ذلك على مضض. فالانهيار الذي حصل لم يعانِ منه العراقيّ في حياته، إنما عانى منه العراق نفسه مِن الطّعن بوجوده، وإلا ما حاجتنا إلى إثبات أنّ العراق كيان واسم قديم؟ وهل تحتاج بغداد إلى البحث في اسمها، وتأكيد عراقته وعراقيته، لولا إخضاعها، مدينةً واسماً، للجدل، البعيد عن الحقّ؟

***

د. رشيد الخيون

تستمر الحرب المختلطة ضد روسيا وبيلاروسيا التي اندلعت خلال العام الماضي في اكتساب الزخم، ولم تعد الدول الغربية تخجل من التحدث مباشرة عن رغبتها في "هزيمة" الاتحاد الروسي، على طول الطريق لفرض سيطرتها على شريكها في دولة الاتحاد، وللقيام بذلك، اليوم لا يتم استخدام الوضع في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية فحسب، بل يتم أيضًا استخدام أدوات أخرى مختلفة، بما في ذلك المعارضة البيلاروسية والروسية الهاربة.

وفي الأشهر الأخيرة، تحول الحلفاء الغربيون تمامًا، إلى تشجيع الأنشطة الإرهابية على أراضي البلدين، وبدأوا أيضًا يتحدثون عن غزو مباشر لبيلاروسيا، وكل هذا يجعل مينسك وموسكو تستجيبان بشكل أكثر نشاطًا لما يحدث حولهما، وتم الإعلان مرة أخرى عن خطورة الوضع حول دولة الاتحاد في اجتماعات أمناء مجالس الأمن للدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي عقدت في الفترة من 7 إلى 8 يونيو في مينسك، وكان هناك حدثان لهما أهمية خاصة في فهم ما يحدث اليوم والخطوات التي تخطط بيلاروسيا وروسيا لاتخاذها في المستقبل، هما  مفاوضات بين رئيسي مجلسي الأمن البيلاروسي والروسي ألكسندر فولفوفيتش ونيكولاي باتروشيف، وكذلك اجتماع ألكسندر لوكاشينكو مع مجلس الأمن، ورؤساء منظمات دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وفي العاصمة البيلاروسية بدأوا بالفعل في الاستعداد لعدوان خارجي محتمل من دول الناتو وأوكرانيا.

وأجمع باتروشيف وفولفوفيتش وعلى وجه الخصوص بالإجماع على أن الدول الغربية شنت حربًا هجينة حقيقية ضد روسيا وبيلاروسيا، والتي أصبحت أكثر وأكثر خطورة مع كل يوم جديد،  وكما أشار فولفوفيتش، فإن ما يحدث حول دولة الاتحاد "يتطلب خطوات فورية واتخاذ قرارات سريعة، ومينسك وموسكو "تستجيبان بالفعل لهذه التحديات، وكذلك تتوصلان إلى إجماع في المجال الأمني"، ويشارك الاتحاد الروسي، وفقًا لتصريحات باتروشيف، موقفًا مشابهًا، والذي يعتبر بيلاروسيا أقرب حليف وشريك استراتيجي لها، وأشار رئيس مجلس الأمن الروسي إلى أن السياسيين الغربيين يتحدثون بصراحة عن خططهم لمينسك وموسكو، لأنهم "لا يحتاجون إلى روسيا قوية"، ويريدون "إما تفكيك أو تصفيتها من أجل إدارة الأراضي الأوراسية، ضخ الموارد "، في الوقت نفسه، أشار إلى أن خطط الغرب لبيلاروسيا واضحة أيضًا اليوم، وهذا هو تنفيذ لثورة ملونة ، وجلب حكومة دمية مسيطر عليها إلى السلطة، فقد فشل الغرب في تنفيذ انقلاب في مينسك في عام 2020، لكن واشنطن وأتباعها لم تتخلوا عن خططهم "، شدد، مكررًا في الواقع كل ما تحدثت عنه السلطات البيلاروسية خلال السنوات الماضية.

وعقد اجتماع الرئيس  ألكسندر لوكاشينكو في 8 تموز / يوليو مع أمناء مجالس الأمن في الدول الأعضاء في UEC بنفس الروح تقريبًا، حيث لم يحد الزعيم البيلاروسي، على عكس فولفوفيتش، من اتهاماته المباشرة للغرب والنظام الحاكم في كييف، بالإضافة إلى الكلمات التقليدية بالفعل حول ضغوط العقوبات، ورغبة الدول الغربية في إسقاط اقتصادات روسيا وبيلاروسيا، واستخدام أوكرانيا كأداة لحرب مختلطة، وأشياء أخرى، أشار لوكاشينكا إلى تفاصيل مهمة أخرى، ووفقًا له، فإن كل ما يحدث اليوم في المنطقة يتم فقط لمصلحة الولايات المتحدة، التي تستخدم دمياتها، مثل بولندا، لإضعاف ليس فقط دولة الاتحاد، ولكن أيضًا الاتحاد الأوروبي، وهذا، وفقًا لرئيس بيلاروسيا، ليس سوى جزء من خطة واشنطن واسعة النطاق لمحاربة منافسيها الرئيسيين في مواجهة الصين وروسيا.

للوهلة الأولى، كانت الأحداث التي وقعت في مينسك تقليدية تمامًا، حيث كانت روسيا البيضاء وروسيا تتحدثان منذ سنوات عن العدوان الذي أطلقه الغرب ضدهما، والذي سينتشر عاجلاً أم آجلاً إلى الفضاء الأوراسي بأكمله، ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أن مثل هذه الحرب الهجينة المفتوحة ضد موسكو ومينسك لم يتم شنها من قبل، وفي هذه الحالة، لا نتحدث فقط عن الضخ المستمر لأوكرانيا بالأسلحة والمحاولات المستمرة لزعزعة الوضع حول كل من دولة الاتحاد وداخلها، ولكن أيضًا عن التشكيل المستمر لصورة المركز "العالمي للشر "من روسيا البيضاء وروسيا في الساحة الدولية،  كما تصور الغرب، يجب أن يقلل هذا من دعم مينسك وموسكو بين أعضاء المجتمع الدولي، وبالتالي، زيادة الضغط عليهم مع كل العواقب المترتبة على ذلك، حتى الموافقة على غزو عسكري، وإذا كان نشاط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد وصل تقريبًا إلى حدوده فيما يتعلق بالاتحاد الروسي، والتي تلوح بعدها الحرب العالمية الثالثة، فإن العدوان الهجين ضد بيلاروسيا بدأ يكتسب الزخم اليوم.

وعلى وجه الخصوص، أصبحت الدول أكثر نشاطًا على الساحة الدولية، تطالب بنفس المسؤولية تجاه مينسك مثل موسكو فيما يتعلق بإجراء عملية عسكرية خاصة (SVO) في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، في أوائل يونيو، أرسل وزير الخارجية الليتواني غابريليوس لاندسبيرجيس، رسالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أحمد خان، يطالبها بتقييم دور بيلاروسيا في مساعدة روسيا على تنفيذ JMD وتقديمها إلى العدالة،  في الوقت نفسه، حُرمت مينسك فجأة من فرصة أن تصبح عضوًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي، على الرغم من أنه كان أحد المتنافسين الرئيسيين، وبدلاً منها، تم اختيار سلوفينيا بأغلبية الأصوات لهذا المنصب، والتي حتى نهاية عام 2021 لم تكن ستقدم طلبها على الإطلاق، مع الأخذ في الاعتبار، حقيقة أن السلطات السلوفينية تعتمد اعتمادًا تامًا على بروكسل، وأن الدولة نفسها عضو في الناتو، فليس من الصعب تخمين سبب هذا "النشاط" لجمهورية البلقان هذه، ومن هو في الواقع وراء انتخابها لمجلس الأمن الدولي.

بالإضافة إلى ذلك، يخطط الغرب اليوم لتوجيه ضربة كبيرة أخرى إلى بيلاروسيا على الساحة الدولية، ففي 6 يونيو، أصبح معروفا أن الاتحاد الأوروبي، في إطار عمل منظمة العمل الدولية (ILO)، أيد مشروع قرار ينص على تدابير للتأثير على مينسك، من أجل إجبارها على الامتثال لعدد من الشروط الموضوعة  إلى الأمام من قبل العالم الغربي، ومن بين أمور أخرى، في الوثيقة، تمت دعوة جميع الحكومات وممثلي أصحاب العمل والعمال في الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية، وهم 187 دولة في العالم، إلى إعادة النظر في العلاقات مع السلطات البيلاروسية،  بالإضافة إلى ذلك، يوصى المدير العام لمنظمة العمل الدولية، بإبلاغ المنظمات الدولية، بضرورة وقف التعاون مع مسؤول مينسك.

ويجب ألا ننسى أنه في الأشهر الأخيرة كان هناك المزيد والمزيد من الحديث عن الحاجة إلى تغيير السلطة في بيلاروسيا، وحتى تنظيم غزو عسكري لأراضيها، وهذا، على سبيل المثال، تم الإعلان عنه في نهاية شهر مايو من قبل نائب وزير الدفاع الوطني البولندي السابق، الجنرال فالديمار سكشيبتشاك، الذي قال إن وارسو تستعد بالفعل لانقلاب عسكري في بيلاروسيا، وستدعم العملية العسكرية لتغيير نظام الرئيس الكسندر لوكاشينكو، وكذلك التصريح الأخير للأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس راسموسن، بأنه في حالة أنه "إذا لم يتمكن الناتو من الاتفاق على مسار واضح لأوكرانيا، فهناك احتمال واضح بأن بعض الدول قد تتخذ إجراءات بشأن كل حالة على حدة على أساس الحالة "، بما في ذلك بما في ذلك إمكانية نشر القوات على الأرض، فإن الوضع في بيلاروسيا يصبح خطيرًا للغاية،  علاوة على ذلك، لم تعد وارسو اليوم تختبئ، وتستعد للعمليات الهجومية وتنتظر فقط اللحظة المناسبة لبدءها، وفي سياق الحرب المختلطة التي تتكشف ضد دولة الاتحاد، يمكن أن يحدث هذا في أي لحظة، وكواحدة من الذرائع، قد يستخدم الغرب تصرفات المعارضة البيلاروسية الهاربة، والمسلحين الذين يقاتلون الآن إلى جانب نظام كييف، علاوة على ذلك، فإن هؤلاء لا يخفون رغبتهم في "العودة" إلى بيلاروسيا على متن دبابات.

إن تكثيف الهجمات المختلطة على بيلاروسيا، والتي لم تصل بعد إلى غزو مباشر وما زالت تقتصر على تدابير التأثير السياسي والاقتصادي والإعلامي، هي التي أجبرت مينسك الرسمية على تكثيف إجراءاتها لضمان الأمن القومي،  ودعوة شركائها إلى توسيع التعاون في مجال الدفاع ومقاومة الضغط الخارجي، وتم الإعلان عن هذا الأخير، على وجه الخصوص، في مينسك خلال قمة رؤساء مجالس الأمن في دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

ووفقًا للوكاشينكو، مثل بيلاروسيا، أصبحت جميع دول المنطقة اليوم عرضة للمعلومات والعمليات النفسية من الخارج، وبالتالي يجب على الجميع إيلاء اهتمام خاص لهذه المشكلة،   كما حث الزعيم البيلاروسي، على تحسين نظام الاستجابة للأزمات في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والبدء في تطوير استراتيجية جديدة للأمن الجماعي للمنظمة للفترة حتى عام 2035، بالإضافة إلى كل شيء، يرى لوكاشينكا أنه من الضروري إجراء مراجعة شاملة للإطار التعاقدي والقانوني للمنظمة ودولة الاتحاد، وبدء العمل اليوم على "تنسيق النهج ووضع مقترحات مناسبة فيما يتعلق بالهيكل الأمني المستقبلي لقارة أوراسيا".

في الواقع الجيوسياسي الحالي، ومع الأخذ في الاعتبار التهديد المتزايد لأمن بيلاروسيا، لم تعد كلمات القيادة البيلاروسية،  تبدو وكأنها تحذير بسيط، ويشهدون على أن مينسك تستعد بقوة ، وبقوة لصد العدوان الخارجي، وتأمل في الحصول على مساعدة ليس فقط من روسيا، ولكن أيضًا من شركاء آخرين في التكامل الأوروبي الآسيوي، في الوقت نفسه، لا ينبغي للمرء أن يفترض أن السياسة العدائية للغرب لا تُعارض إلا على مستوى الكلمات والنداءات في العاصمة البيلاروسية، فسلطات الجمهورية تدرك  جيدًا أن التهديدات المختلطة قد تتطور إلى عدوان مفتوح،  إما من الناتو أو أوكرانيا أو كليهما في نفس الوقت،  لذلك، تواصل مينسك بذل كل ما في وسعها، إذا لزم الأمر، لصد أي معتد محتمل بشكل مستقل، وللقيام بذلك، تصل أسلحة روسية جديدة إلى البلاد، ويتم الحفاظ على وجود التجمع الإقليمي لقوات الأمن العام التي تم نشرها العام الماضي، ويتم إجراء العديد من التدريبات العسكرية والدورات التدريبية، بما في ذلك كجزء من تشكيل ميليشيا شعبية، والتشريع يتغير تدريجياً، ويجهز البلاد لأكثر التطورات سلبية، وكل هذا يشير إلى أن السلطات البيلاروسية تأخذ التهديد الخارجي على محمل الجد واليوم لا تعتبر الهجوم المختلط على البلاد إلا بمثابة "استطلاع ساري المفعول"، والذي قد يتبعه غزو حقيقي.

***

بقلم : الدكتور كريم المظفر

مجلة فورين أفيرز شؤون خارجية

بقلم: مايكل نايتس

إعداد وترجمة د. جواد بشارة

***

مقاربة تشرح لماذا لا يكون العراق الهادئ عراقًا مستقرًا تلقائيًا. تقوم الميليشيات المدعومة من إيران بتجريد الدولة من أصولها وإفراغ الخزانة، وتخترق جميع الوكالات الرئيسية وتحاول إنهاء حرية التعبير. يمكننا القول إن وكلاء إيران المدججين بالسلاح أستولوا على السلطة في بغداد ودمروا الدولة القائمة قبل سنة 2003 وبمساعدة الغزو الأمريكي للعراق.

للوهلة الأولى، يبدو أن العراق قد حقق بعض الاستقرار. أخيرًا، أصبح للبلاد حكومة فاعلة بعد عام من الفراغ السياسي. انخفض العنف الإرهابي إلى أدنى مستوى له منذ الغزو الأمريكي عام 2003. حتى الميليشيات المدعومة من إيران - التي كانت مصدر توتر طويل مع واشنطن - قللت بشكل كبير من هجماتها على المواقع الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية. في خطاب ألقاه في 4 مايو في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أرجع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الانخفاض في الهجمات على المصالح الأمريكية إلى استراتيجية أمريكية قائمة على "الركيزتين التوأمين الردع والدبلوماسية".

كما أوضح خطاب سوليفان، بأن فريق الأمن القومي للرئيس جو بايدن يرى أن هدوء الشرق الأوسط هو غاية في حد ذاته، بما في ذلك العراق. على الرغم من أن سوليفان كان سريعًا في إضافة أنه "لم يكن يرفع علم النصر على العراق" وأن الولايات المتحدة لا يزال لديها "برنامج مكثف" لتعزيز استقلال بغداد عن هيمنة طهران، إلا أن المقياس الحقيقي لنجاحها كان واضحًا وهو تهدئة التوترات بين الولايات المتحدة والميليشيات المدعومة من إيران والتي تهيمن على الحكومة العراقية. يعتقد البيت الأبيض أن خفض التصعيد الإقليمي ضروري للسماح للولايات المتحدة بالتركيز على منافستها مع الصين. لكن في العراق، يعد هذا النهج بأن يكون له تكاليف طويلة الأجل: يستغل حلفاء طهران رغبة الولايات المتحدة في الهدوء لزعزعة استقرار سياستها.

قد يبدو العراق هادئاً، لكن المظاهر قد تكون خادعة. في الواقع، تدخل البلاد مرحلة خطيرة بشكل خاص: فقد اكتسب حلفاء إيران سيطرة غير مسبوقة على البرلمان العراقي والسلطة القضائية والتنفيذية، وهم يتلاعبون بسرعة بالنظام السياسي لصالحهم وينهبون الدولة من مواردها. موقف واشنطن المتهاون تجاه هذه الأحداث يهيئها للمشاركة المكلفة في وقت لاحق. العراق هو ثالث أكبر منتج للنفط في العالم وبلد يمكن أن يؤدي انهياره إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله من خلال انتشار اللاجئين والإرهاب. لم تكن المنافسة بين القوى العظمى أبدًا ذريعة لدرء التهديدات التي تواجه البلاد - ولا ينبغي أن تكون كذلك الآن.

انتصار الميليشيات:

لقد مر العراق بالعديد من الأوقات المظلمة منذ عام 2003، ولكن يمكن القول إن أياً منها لم يكن ميئوساً منه مثل الحاضر. نعم، لدى العراق حكومة يقودها رئيس الوزراء محمد السوداني تحت قيادة تحالف إدارة الدولة الذي يضم الأكراد والسنة والإطار التنسيقي، وهذا الأخير هو كتلة سياسية متحالفة بشكل وثيق مع إيران. لكن هذا فقط لأن الفائز الحقيقي في انتخابات أكتوبر 2021، الحركة الشعبوية لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، أي التيار الصدري، غادر البرلمان في يونيو 2022. اتخذ الصدريون هذه الخطوة بعد مناورة القضاء، الذي يسيطر عليه قادة التيار المدعوم من إيران. وأحزاب. الميليشيات، التي غيرت قواعد تشكيل الحكومة لصالح حلفاء طهران بذريعة توفر الثلثين داخل البرلمان لكي يمكن اختيار رئيس الجمهورية وتعيين رئيس لملس الوزراء، وبالتالي خلق الظروف المناسبة لنشوء الثلث المُعطّل، الذي قاده نوري المالكي. وتبعاً لذلك، أصبحت نتيجة الانتخابات موضع نقاش وكوفيء الخاسرون بالنصر، حتى بعد قيامهم بأعمال شغب لإبطال النتائج وأطلقوا طائرات مسيرة على منزل رئيس الوزراء السابق الكاظمي.

إن احتكار الإطار التنسيقي اللاحق لجميع فروع الحكومة العراقية لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد بعد عام 2003. إنه يحكم بمستوى من السلطة المطلقة التي لم يشهدها العراق منذ أيام صدام حسين. فالسوداني في نظر الكثيرين مجرد دمية: في حين أن رئيس الوزراء هو ليس مدير قطاع عام متمرس وعامل مجتهد، فهو لا يقود العراق إلا بتأييد ودعم من شمال البلاد حيث يتمركز الأكراد، وغربه حيث يتواجد أغلبية السنة. ويتم إدانته علانية من قبل حلفاء طهران في بغداد. القوى الحقيقية هي ثلاثة أمراء حرب، كل منهم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بإيران، على رأس الإطار التنسيقي: الإرهابي حسب تصنيف الولايات المتحدة قيس الخزعلي، وهو قائد ميليشيا عصائب أهل الحق الذي دربته إيران. ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، رئيس حزب الدعوة وكتلة دولة القانون. وقائد منظمة بدر الإيرانية هادي العامري.

لسنوات عديدة، كان هؤلاء السياسيون الثلاثة مقيدين جزئياً من قبل خليط من المعارضين. خلال الاحتلال الأمريكي من عام 2003 إلى عام 2011 ومرة أخرى خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من 2014 إلى 2019، عملت واشنطن، ولكن ليس بجدية كافية، لمنع الميليشيات من الاستيلاء على الكثير من أدوات سلطة الدولة. كما عمل المتظاهرون العراقيون على ضبط قوة الجماعات المدعومة من إيران - أسقطت احتجاجاتهم الجماهيرية في عام 2019 رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي تسيطر عليه الميليشيات. وفي الانتخابات الأخيرة في العراق، حاول الصدر حشد أغلبية دينية ومتعددة الأعراق لتشكيل حكومة استبعدت الإطار التنسيقي لكنه فشل..

اليوم، انهارت جميع مصادر المعارضة هذه. حيث فشل رهان الصدر الانتخابي بسبب تدخل القضاء وانحيازه لخصومه في إلإطار التنسيقي وحركته الآن خارج السلطة وتداوي جراحها. كما أن الميليشيات المدعومة من إيران ليس لديها ما تخشاه من ضغط المتظاهرين الشباب وإحباطهم. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة مشتتة بسبب صراعها الجيوسياسي مع الصين وقد قلّصت أهدافها إلى مجرد تخفيف التوترات في الشرق الأوسط، بغض النظر عن التكلفة طويلة الأجل للمصالح الأمريكية في المنطقة.

تزوير النظام:

إن تداعيات سيطرة الإطار التنسيقي على الحكومة العراقية واضحة بالفعل. تتمتع الكتلة الآن بتفويض مطلق لتعزيز السيطرة المطلقة على البلاد، ونهب موارد الدولة العراقية وقمع الأصوات المعارضة. ولا يظهر صعوده أي علامات على التراجع: يهيمن الإطار التنسيقي الآن على مجلس الوزراء ويسيطر على البرلمان حتى الانتخابات المقبلة المقررة في أكتوبر 2025.

والأهم من ذلك أن التنظيم يوجه تصرفات القضاء إلى حد لم نشهده منذ سقوط صدام. القاضي فائق زيدان هو رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، وهو حليف مقرب لأمراء الحرب القائمين على رأس الإطار التنسيقي. تحت قيادته، تدخلت المحكمة العراقية العليا بشكل حاسم في سياسات البلاد لتكريس قوة الميليشيات. و عندما تم دعم الإطار التنسيقي لعرقلة فوز الصدر في انتخابات 2021، غيرت المحكمة قواعد تشكيل الحكومة، وحكمت بأن الصدر بحاجة إلى أغلبية الثلثين في البرلمان، وليس الأغلبية البسيطة، لتشكيل الحكومة.

يستخدم الإطار التنسيقي أيضًا سلطته غير المقيدة لدمج نفسه في مؤسسات الدولة العراقية الأخرى. أصبح جهاز المخابرات الوطني العراقي ومطار بغداد وهيئات مكافحة الفساد والمراكز الجمركية جميعها تحت سيطرة الجماعة منذ أكتوبر / تشرين الأول 2022. كانت مؤسسات الدولة العراقية مثل هذه تتعثر بالفعل وتهدد هذه الإجراءات بمزيد من تآكلها.

تستخدم الجماعات المدعومة من إيران نفوذها المتزايد داخل هذه المؤسسات لتكثيف جهودها لإسكات خصومها المحليين. على سبيل المثال، بعد تولي السيطرة على هيئة تنظيم وسائل الإعلام العراقية، وهيئة الاتصالات والإعلام، في كانون الثاني (يناير)، وضعوا خططًا لإدخال لوائح صارمة للمحتوى الرقمي تعد بتضييق الخناق على حرية التعبير للعراقيين. اللوائح، التي تتطلب من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي الانتقال إلى المجالات المملوكة للحكومة العراقية وتتضمن تعريفات غامضة للمحتوى غير المناسب أو غير اللائق الذي سيتم استخدامه لتبرير الرقابة، وهي الإجراءات التي أثارت انتقادات من المنظمات الدولية لانتهاكها الدستور العراقي.

أخيرًا، ينهب الإطار التنسيقي موارد الدولة العراقية لمصلحته السياسية. لقد أنشأت الجماعات المدعومة من إيران شركة مملوكة للدولة تعمل بنشاط على توحيد أصول الدولة، باستخدام نفس النهج الذي اتبعه فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. علاوة على ذلك، أشرفت هذه الجماعات على التوسع الهائل في ميزانية العراق في محاولة لشراء الدعم الشعبي أثناء تعزيز سلطتها.

قرية من الدولة:

لطالما سعى السياسيون من ميليشيات الإطار التنسيقي للسيطرة على شركة يمكنها تجميع الأراضي الحكومية وغيرها من الأصول العامة. ونموذجهم لهذا الجهد هو تكتل خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني، والذي اكتسب نفوذاً اقتصادياً وسياسياً واسعاً. في إيران من خلال الفوز بأكثر من 1200 عقد بناء، بقيمة تزيد عن 50 مليار دولار، منذ تشكيلها في عام 1990. تم إدراج خاتم الأنبياء من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي كامتداد تجاري لـ الحرس الثوري الإيراني.

كلما حان الوقت لاختيار رئيس وزراء جديد في السنوات الأخيرة، سألت الميليشيات المدعومة من إيران كل من المرشحين المختارين عما إذا كانوا سيدعمون إنشاء شركة على هذا المنوال. في عام 2018، قال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي نعم وحصل على دعم الميليشيات لترشيحه لرئاسة الوزراء، لكن الحكومة الأمريكية منعت الشركة من التشكيل. عندما تولى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منصب رئيس الوزراء البديل لمنتصف المدة في عام 2020، كان لديه الدعم السياسي لرفض السماح للشركة بالتشكل، ثم رفض مرة أخرى في عام 2022 عندما عرض حلفاء طهران عليه كجائزة ليحصل على تمديد. أربع سنوات فترة ولاية ثانية. أخيرًا، شقت الميليشيات المدعومة من إيران طريقها تحت قيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، خلف الكاظمي، الذي أعلن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 عن إنشاء "الشركة العامة للبناء والعقود الهندسية والميكانيكية والزراعية والصناعية". تم تسمية الشركة على اسم الإرهابي حسب التصنيف الأمريكي، أبو مهدي المهندس، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية في يناير 2020 برفقة القائد الإيراني قاسم سليماني. لكن هذه المرة لم تفعل الولايات المتحدة شيئًا.

لم تكن هناك منظمة مثل شركة المهندس العامة موجودة من قبل في العراق. كما ورد في نظامها الأساسي، فإن الشركة مملوكة رسميًا لقوات الحشد الشعبي، وهو جيش الاحتياط العراقي الذي ظهر أثناء القتال ضد داعش ويقوده هيئة التنسيق وغيرها. تفويضها غير محدود فعليًا: يمكنها العمل في أي قطاع، كما يوحي اسمها الكامل، وهي في الأساس حاوية فارغة يمكن للميليشيات المدعومة من إيران من خلالها تعزيز سيطرتها على الاقتصاد العراقي. يمكن للشركة الجديدة، الفريدة من نوعها بالنسبة للشركات العراقية المملوكة للدولة، الحصول على أراضٍ مجانية ورأس مال حكومي ومؤسسات مملوكة للدولة، ويمكنها القيام بأعمال البناء والهدم دون موافقة مجلس الوزراء أو البرلمان.

في ديسمبر 2022، بعد وقت قصير من إنشائها، حصلت شركة المهندس العامة على 1.2 مليون فدان من الأراضي الحكومية على طول الحدود العراقية السعودية مجانًا. تم الإعلان عن هذا الاستحواذ في وسائل الإعلام لكنه لم يمر بأي من الروتين المعتاد الذي يصاحب مثل هذه المشاريع. من المفترض أن يكون المشروع لغرس الأشجار والزراعة، ولكن لإعطاء فكرة عن الحجم، فإن المساحة التي يغطيها تبلغ نصف مساحة لبنان وأكثر من 50 مرة من أكبر مشروع زراعي مخطط له في تاريخ. العراق. تقع الأرض أيضًا في موقع استراتيجي في منطقة أطلقت منها الميليشيات العراقية طائرات بدون طيار على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في عدة مناسبات منذ عام 2019. وفي ما قد يكون أول مثال على الاستيلاء على الأراضي الحضرية في العراق،

إن النمو المستمر لشركة المهندس العامة سيكون بمثابة ضربة للعراق. كما أنه سيحبط الآمال الأمريكية في المستقبل الاقتصادي للبلاد. في 31 أيار (مايو)، أبلغت السفيرة باربرا ليف، كبيرة مسؤولي وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ أن "الحيوية الاقتصادية تتجلى لأول مرة حقًا" في العراق اليوم. سيتم خنق هذه الإمكانات في مهدها إذا تمكنت الميليشيات القوية من استخدام قوتها الاقتصادية الجديدة للسيطرة على أي صناعة واعدة، وفرض عقود حكومية وإحالتها على نفسها وتخويف المستثمرين الأجانب.

سرقة البنك:

كما تستخدم الميليشيات المدعومة من إيران عائدات الدولة لتعزيز قبضتها على السلطة. تعتبر مسودة الموازنة الأولى للحكومة بقيادة الإطار التنسيقي الأكبر في تاريخ العراق، حيث تقترح أنفاق 152 مليار دولار، بزيادة حوالي 50٪ عن آخر موازنة عراقية مصرح بها لعام 2021. وتلتزم الحكومة بالحفاظ على هذا المستوى من الإنفاق لثلاثة أعوام. متتالية.، أي حتى انتخابات أكتوبر 2025.

هذا المستوى من الإنفاق غير المسؤول يتجاهل تحذيرات الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي دعت العراق إلى تقليص قطاعه العام المتضخم. يحاول الإطار التنسيقي شراء النوايا الحسنة للفصائل السياسية العراقية و إسكاتها من خلال الإنفاق غير المستدام، بما في ذلك خلق ما لا يقل عن 701 ألف وظيفة حكومية جديدة، وزيادة بنسبة 17٪ في عدد الموظفين الحكوميين في عام واحد. على سبيل المثال، من المتوقع أن ينمو الحشد الشعبي من 122،000 إلى 238،000 عضو مدفوع الأجر، بزيادة 95٪ في عدد الميليشيات التي تمولها الدولة في بلد يشهد أدنى مستويات العنف منذ عقدين.

من خلال إثقال كاهل الدولة بالتزامات الأجور، يضع الإطار التنسيقي الأساس لعدم الاستقرار في المستقبل. حتى بأسعار النفط الحالية، التي تدور حول 75 دولارًا للبرميل، فإن هذا المستوى من الإنفاق سيقضي على معظم احتياطيات العراق البالغة 115 مليار دولار في نصف عقد. إذا انخفضت أسعار النفط، فإن بغداد ستفلس بشكل أسرع. عندما وجدت بغداد نفسها في ضائقة مالية رهيبة في عام 2014، سارع العالم إلى حشد الدعم للعراق حيث كان البلد حيويًا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكن الحكومة العراقية لا تستطيع الاعتماد على مثل هذا السخاء في المستقبل. في 31 مايو، أطلق صندوق النقد الدولي ناقوس الخطر بتوقعه أن العراق سيواجه "مخاطر حرجة على استقرار الاقتصاد الكلي" في السنوات القادمة. ببساطة، هذا يعني التخلف عن السداد للمواطنين والمستثمرين، والتضخم والاحتجاجات وخدمة الديون الخارجية والداخلية الخ أي العمل وفق المثل القائل،افعل الكثير بالقليل.

بالنسبة للولايات المتحدة، قد يكون الهدوء الظاهر في العراق هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. ليست هذه هي المرة الأولى التي تعتقد فيها واشنطن أنها على طريق الاستقرار في العراق: فبعد انتخابات 2010 التي شهدت إعادة تعيين المالكي لولاية ثانية كارثية، حاولت الولايات المتحدة غسل يديها من البلاد. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، تمكنت الأحزاب المدعومة من إيران من التلاعب بعملية تشكيل الحكومة لصالحها، وبالتالي أضعفت سلطة بغداد من خلال الفساد ونفوذ الميليشيات والمحسوبية السياسية. بعد انسحاب الجيش الأمريكي في ديسمبر 2011، بدا العراق هادئًا، لكن أسسه السياسية والاجتماعية كانت متعفنة من الداخل. بعد عامين ونصف، عادت الولايات المتحدة إلى العراق لشن حرب دموية بعد سيطرة داعش على ثلث البلاد.

من غير المرجح أن يكون الحد المؤقت من وقوع الهجمات الوخيمة على المنشآت الدبلوماسية الأمريكية المدرعة هو المقياس الأساسي لنجاح واشنطن في العراق. تم تشييد المواقع الدبلوماسية الأمريكية شديدة التحصين بتكلفة كبيرة على وجه التحديد لتمكين الدبلوماسيين الأمريكيين من الدفاع عن المصالح والقيم الأمريكية بغض النظر عن مضايقات العدو.

لا تحتاج الولايات المتحدة إلى إرسال قوات أو مليارات الدولارات للمساعدة في عكس الاتجاهات الخطيرة في العراق. لا يزال بإمكان القدرات المالية والاستخباراتية الأمريكية أن يكون لها تأثير كبير على تصرفات المسؤولين العراقيين، وكثير منهم لديهم طموحات ومصالح سياسية أعلى في التجارة والمصارف الدولية. على سبيل المثال، وفقًا لمصادر دبلوماسية أمريكية، شعر فائق زيدان بقلق عميق عندما أرسل ثلاثة أعضاء من الكونجرس الأمريكي خطابًا إلى بايدن في فبراير حددوا فيه فائق زيدان كهدف محتمل للعقوبات. يجب على الولايات المتحدة استخدام نفوذ مثل هذا - بشكل خاص أولاً - للإشارة إلى القلق بشأن حالة النظام القضائي العراقي وقادته الرئيسيين.

هناك خطر حقيقي من أن العراق سيصبح نوعًا من الديكتاتورية القضائية، حيث تأتي الحكومات وتذهب، لكن القضاء هو هراوة دائمة تمارسها الميليشيات المدعومة من إيران. لدى المسؤولين الأمريكيين معلومات استخباراتية لا مثيل لها حول الاتصالات والمصالح المالية للمسؤولين الفاسدين في العراق، وعليهم استخدام هذه المعلومات بشكل متكرر لإصدار تحذيرات خاصة موجّهة للمسؤولين في بغداد لتغيير سلوكهم.

قد يكون الهدوء الظاهر في العراق هو الهدوء الذي يسبق العاصفة:

يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تفي بوعدها بدعم القيم الأمريكية للديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق. في خطابه في مايو، أكد سوليفان أن دعم القيم الأمريكية هو أحد الركائز الخمس لسياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط. في العراق اليوم، يعني ذلك ضرورة التراجع عن القيود الصارمة التي فرضتها بغداد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والصحافة الاستقصائية، والهجاء السياسي، وتهديد الصحفيين والإعلاميين بالقتل والخطف والتغييب القسري، فهذه كلها علامات مميزة لدكتاتورية في طور التكوين.

يجب على واشنطن دعم الصحافة الاستقصائية والمساعدة في حماية هذه الجهود بمساعيها الحميدة. يمكن للولايات المتحدة أيضًا استخدام قدراتها الاستخباراتية. تشكيل فرق بحث محترفة للعثور على الأموال المخبأة في الخارج من قبل المسؤولين الفاسدين وإعادة هذه الأموال إلى العراق. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد ذلك أيضًا السلطات العراقية على القبض على الجناة الحقيقيين وراء اختلاس 2.5 مليار دولار "سرقة القرن"، حيث أفرغ المسؤولون المرتبطون بالإطار التنسيقي حساب ضرائب للحكومة العراقية عن طريق سرقة مدبّرة ووثائق مزورة وكتابة مئات الشيكات والفواتير بأنفسهم. إذا كانت الولايات المتحدة تريد حقًا دولة عراقية مستقلة وذات سيادة وعاملة اقتصاديًا، فيجب عليها أن تقود وتدعم التحقيقات للعثور على الأموال المسروقة واستعادتها للعراق - وليس مجرد معرفة مثل هذه الحالات عندما تتصدر عناوين الصحف..

على سبيل الاستعجال، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على عزل شركة المهندس العامة عن الاقتصاد العراقي قبل أن تلوث المشهد الاستثماري في البلاد. تمثل الشركة محاولة لتجريد أصول دولة صناعية كبرى من أجل المنفعة المالية للإرهابيين الذين حددتهم الولايات المتحدة ومنتهكي حقوق الإنسان، والذين هم المستفيدون الرئيسيون من الشركة. يُحسب للحكومة الأمريكية أن شركة المهندس العامة تخضع بالفعل للتدقيق من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ومكتب المنسق العالمي لمكافحة الفساد في الولايات المتحدة، ولكن يجب أن ينعكس هذا في العقوبات المحددة.

يمكن للولايات المتحدة أن تضع نفسها على الجانب الصحيح من التاريخ في العراق إذا استمرت في التراجع بقوة ضد أسوأ تجاوزات الميليشيات التي تقف وراء الحكومة الحالية. حتى في خضم تنافسها مع الصين والحرب في أوكرانيا، لا يزال بإمكان واشنطن استخدام صوتها الفريد وقدراتها المالية والاستخباراتية لإضعاف القوى المناهضة للديمقراطية وإعطاء الشباب العراقيين والإصلاحيين ومحققو مكافحة الفساد فرصة للدفاع عن الديمقراطية الهشة التي لا تزال قائمة.أو موجودة - بالكاد - في العراق.

***

تراجع تام للأيديولوجيات لمصلحة اللعب والمناورة المرنيين في الساحة الدولية

مما لاشك فيه؛ ان البشرية عبر سفرها التاريخي؛ شهدت كما هائلا جدا، من التطورات والاحداث والحروب، والغزوات والاحتلالات بما يسود بالحبر آلاف الكتب. لاحقا بعد عدة قرون، تحديدا في القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين، وبالذات في القرن العشرين؛ كان الاساس فيها، اي في هذه التطورات العميقة التي انتجتها او صنعتها الاحداث والحروب، صراع الأيديولوجيات التي رسمت للدول والشعوب ايضا؛ طريقها على الصعد كافة. من الطبيعي قبل عصر الأيديولوجيات كانت الاطماع بالاستيلاء على ارضي الدول او الشعوب التي ليس في قدرتها الدفاع عن نفسها وعن ارضها وعن شعوبها، من قبل الامبراطوريات المتصارعة فيما بينها على توسعة امبراطورياتها على حساب الأخيرين من الشعوب، او على حساب الامبراطوريات الأخرى المحادده لها. ان هذه الأيديولوجيات، سواء الوضعية بشقيها اليساري والقومي او الديني، جميعها لعبت، دورا كبيرا جدا في صناعة الاحداث التاريخية الكبرى، وايضا الحروب والنزاعات، والتي احدثت التحولات التاريخية الكبرى والعميقة، في اكثر من مكان في المعمورة. ان هذه الأيديولوجيات سواء ما كان منها، او ما هي تستند على الفكر اليساري، اي الافكار الماركسية كأداة للتحليل الاقتصادي والسياسي، او الافكار القومية او حتى غيرهما؛ التي تعتمد على الأيديولوجية كبوصلة عمل وخارطة طريق في عملها السياسي والاقتصادي والثقافي؛ هي التي رسمت شكل النظام العالمي الحالي، الذي يشهد موته السريري، بانتظار موته التام في المقبل من الزمن، حتى يفسح او يترك الساحة الدولية؛ لنظام حديث يحل محله. لقد وصل النظام العالمي الى شكله الحالي عبر حريين عالمتين مدمرتين، وبعدهما الحرب الباردة ومن ثم تاليا بعد سنوات؛ عالم القطب الواحد، اي التسييد الأمريكي على الكرة الارضية. هذا النظام الامريكي الذي جلس على كرسي قيادة العالم او النظام العالمي، طبقا للقواعد والمعايير الدولية التي وضعتها الولايات المتحدة، كبديل عن النظام العالمي الذي تعمل وفق معاييره وقواعده، الامم المتحدة ومجلس الامن التابع لها. خلال هذين الحربين العالميتين ومن ثم الحرب الباردة، وقبل عقدين؛ بروز عالم القطب الواحد، الذي فسح المجال واسعا من دون حسيب او رقيب الى التغول الامريكي، اي الي التفرد الامريكي بمصائر العالم لمدة اكثر من عقدين من الزمن الذي انقضى. كانت الامبراطورية الامريكية التي تفردت بمصير دول العالم في ذلك الوقت، قد غزت واحتلت دولتين هما افغانستان والعراق، وتركت في الدولتين الدمار والخراب، وآلاف القتلى، وآلاف اخرى تعاني حتى الساعة من تفشي امراض السرطان، بسبب ما كانت امريكا قد استخدمته من اسلحة محرمة دوليا في احتلال هاتين الدولتين، وبالذات لجهة التحديد الحصري؛ في احتلالها للعراق. لم يتم مساءلتها، لا من المجتمع الدولي ولا من ضحايا الشعبين؛ عن ما خربته ودمرته في حربيها، وهما، وبكل تأكيد حربين عبثيتين، أو انهما حربين اردتا امريكا بهما؛ ان ترسخ تجذر وتوسع هيمنتها على دول وشعوب الكرة الأرضية؛ إنما تداعياتهما ونتائجهما جاءت على القيض تماما، اي التأكل الواسع والعميق من جرف نفوذها وهيمنتها. أما لماذا لم يتم مساءلة الولايات المتحدة عن جرائمها في هذين الحربين من المجتمع الدولي؟ الجواب وبكل بساطة؛ انها دولة عظمى تمتلك ترسانة من السلاح النووي؛ لا احد في امكانه التوجه لها ولسمؤوليها بالسؤال عن ما فعلوا من خراب ودمار وهلاك للبشر والشجر والماء والارض. بالعودة الى الأيديولوجيات التي كانت، سواء الاشتراكية التي تراجعت بصورة جلية جدا خلال العقدين الماضيين، حتى اختفت الى حد ما من الخطابات السياسية والثقافية والأدبية اي جرى تهميشها الى حد كبير جدا، او الرأسمالية بشكلها الامبريالي العتيق، او بموجباتها الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية القديمة، التي تم تغييرها كليا وتحويل الخطابات عنها، السياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية الى خطابات تتبنى الليبرالية الحداثوية، والتي هي في جوهر خطاباتها تلك؛ هو تسويق للإمبريالية الحداثوية العابرة للحدود والجنسيات. أما الأيديولوجية القومية فقد تراجعت كثيرا هي الأخرى، حتى بات الحديث عنها او خطاباتها ضربا من ضروب الهرطقة. وبرز في المقابل؛ الاسلام السياسي في العقد الأخير او لجهة الواقع المتحرك على الارض خلال العقدين الماضيين، والذي يعاني الآن كثيرا، وانسداد جميع طرق النجاح له كمنظومة حكم في دول الربيع العربي. مما يؤذن بأفوله قريبا، وتراجعه كثيرا عن الفعل المنتج في المشهد السياسي. أن الليبرالية الحديثة التي تريد او يريد المروجون لها؛ ان تتحكم في حركة دول العالم على جميع الصعد. اعتقد او من وجهة نظري المتواضعة، الليبرالية الحداثوية، هي الأخرى سوف تتراجع في المقبل من الزمن، وهو اي هذا التراجع، على اي حال، ليس بعيدا من الآن. ان الليبرالية الحديثة هي بحد ذاتها؛ ايديولوجية مع انها ترفض العمل بالأيديولوجيات في تناقض صارخ على صعيد الطرح الفكري وعلى صعيد الاهداف، والنتائج، وسلم الاوليات. الغرب وفي المقدمة من هذا الغرب، الولايات المتحدة التي تعتبر واقعيا وعمليا وانتاجا هي رأس الحربة في هذه الأيديولوجية الليبرالية الحداثوية المؤطرة بأطر امبريالية، أو ان الاصح والادق، الامبريالية قاعدة انطلاقها، ومحتواها ومضمونها وخطاباتها السياسية والثقافية والاقتصادية ؛ لا يتورعون كثيرا، أو لجهة الدقة الموضوعية؛ الولايات المتحدة الأمريكية، لا تتورع كثيرا او لا تتأخر كثيرا في استخدام القوة سواء القوة الناعمة او الاقتصادية او الغزو والاحتلال او غير هذا من التدخلات؛ في احداث التغييرات في البلد الذي يريدون ان يغيروا او تريد امريكا، ان تغير؛ نظامه السياسي بنظام بديل موالي لها، وتاليا هذا النظام البديل، بحكم الضرورة الحتمية الناتجة عن صناعة قوة عوامل فعل التغيير ومفاعيله؛ يكون تابعا لها. وكي يتم استدامة هذه التبعية لها، اي لأمريكا؛  يتم اعادة صياغة النظام الاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي والسياسي، وحتى الأدبي، والأخير بصورة غير مباشرة، بغسيل العقل والدماغ من خلال الاشهار والنشر المترجم، الواسع النطاق؛ لدوريات ثقافية وادبية، قصدية، وذات تأثير فعال على العواطف والنفوس بما تمتلك من قوة عاطفية وعقلية للأحداث والشخوص وبلاغة اللغة؛ في اختيارات منتخبة. (ان هذا لا يعني عدم التفاعل الادبي والثقافي بين شعوب المعمورة، بل ان العكس هو الصحيح تماما؛ إنما الرفض هنا للاستثمار التخادمي بين قوى النفوذ الدولية العظمى ومراكز فعلها ومفاعيلها الثقافية والادبية التي تصنعها وتمولها الشركات الامبريالية الكبرى؛ في التأثير على ثقافة الشعوب المستهدفة، بعزلها عن ارثها الثقافي والحضاري..) ان الولايات المتحدة؛ ترمي او تهدف من وراء ذلك، ان تجعل من هذا البلد ونظامه البديل الجديد، طبقا لنظامها اي النظام الاقتصادي الامريكي والسياسي والثقافي والمالي، وما يتبع كل هذا، أو ينتج عنه من توجهات.. حتى يتم بهذا الطريقة؛ التحكم المستقبلي بمخرجات هذا النظام الجديد الموالي لهم او لها، اي للأمريكيين او لأمريكا لا فرق. ان اعادة تشكيل النظام الدولي، او تبديل النظام الحالي بنظام دولي جديد؛ ما هو الا بنتيجة التطور التاريخي الذي تشهد البشرية؛ اولى او بدايات ارهاصاته، التي سوف لا محال تدفع باتجاه نظام عالمي ليس لأي دولة واحدة لوحدها سلطان عليه. كما ان الأيديولوجيات سوف لن تكون هي من تحدد افاق الشراكات والتحالفات والتعاون بين دول وشعوب كوكب الارض هذا، كما كان يجري في القرن العشرين وحتى الى حد ما العقدين الاوليين من القرن الحالي، بمعنى اكثر دقة وتحديدا؛ سوف يمنح إرادة شعوب الارض فرصة ذهبية في اختيار انظمتها السياسية، كما انه سوف يتيح فرص واسعة امام انظمة الدول حرية الاختيار او اختيار الشراكات او التعاون بينها وبين الدول الأخرى. ان النظم العالمية تقريبا، ربما جميع الانظمة السياسية في دول العالم، وايضا الشعوب على ظهر كوكبنا؛ لم تعد تأخذ في الاعتبار، الأيديولوجية التي يعتمد عليها النظام السياسي في بلد ما في العالم؛ المحددات الفكرية التي من الواجب الأيديولوجي ان تفرض على هذا النظام مساحات الشراكة او التحالف او التعاون مع الدول الأخرى وبالذات الدول العظمى والكبرى. ان هذا التوجه لا ينطبق فقط على دول العالم الثالث بل هو ينطبق تماما حتى على الدول العظمى والكبرى. ان دول العالم بدأت بشكل جلي وواضح ترسم سياساتها وشراكاتها وتحالفاتها على ما تمليه عليها مصالحها، التكتيكية والاستراتيجية، بصرف النظر عن ما تؤمن به من افكار حتى وان تقاطعت تقاطعا صارخا هذه الافكار مع افكار الدولة الأخرى التي تسعى الى بناء شراكات معها. في السنوات الأخيرة؛ صارت الأيديولوجيات ليس لها وجود او اي تأثير في رسم سياسة اغلب الانظمة السياسية في دول العالم، التي تؤمن بأيديولوجية ما اي انها تضعها على رف الاهمال في تعاملها مع الدول العالم وبالذات حين يكون التعامل او الشراكات او التحالفات او التعاون بين دولة من العالم الثالث ودولة عظمى او كبرى، وحتى فيما بين دول العالم الثالث. ان هذا النظام، اقصد اي نظام لدولة ما في العالم الذي يؤمن بتلك الافكار او بهذه الافكار التي يجعل منها بحكم الضرورة والحاجة الملزمة للبقاء على رأس الحكم والسلطة؛ مادة للتثقيف الداخلي ولكسب المريدين والموالين ليس الا، وليس لتحديد شكل العلاقة مع اي دولة اخرى، نظامها مبني على أيديولوجية، تتقاطع كليا لناحية الأيديولوجية التي حددت شكل هذا النظام. لقد قيل قديما؛ لا توجد صداقات دائمة بل مصالح دائمة. هذا امر مفروغ منه ومعروف في كل مراحل السفر التاريخي للبشرية. لكن في الوقت الحاضر، وما فرضته التطورات التاريخية، وما انتجه العقل البشري من ثورة معلوماتية، قاد الى ان لا توجد صداقات او شراكات او تعاون او تحالفات تحددها او ترسم الطريق إليها؛ الأيديولوجيات، بل ان من يحددها هي المصالح في الوقت الحاضر، بمعنى ان الأيديولوجية التي كانت في زمن ما هي من تحدد العلاقات بين الدول وربما حتى شعوب تلك الدول، لم يعد لها وجود في السياسة الدولية الحالية، استجابة للتطورات التاريخية، وتدفق ووصول المعلومة بالثانية الى ابعد ركن من الكرة الارضية؛ الذي لا يمكن لأي دولة مهما بلغت من القوة والقدرة على ايقاف حركته في التطور وانتاج الجديد. هذا من جانب اما من الجانب الثاني، وهذا الجانب لا يقل اهمية من تراجع الأيديولوجيات لصالح البرغماتية واللعب المرن والمناورة في تنظيم العلاقات بين الدول وايضا بين الشعوب؛ هي الثورة المعلوماتية التي انتجت او صنعت او عمقت الحس الانساني المرهف للعدالة في مقابل حجم الظلم الذي تعرضت له وتتعرض حتى الساعة؛ الكثير من الشعوب في اكثر من مكان في الكرة الارضية؛ سواء من أنظمة حكم مستبدة، او من الغزو والاحتلال. نلاحظ في السنوات الأخيرة ان هذه الأنظمة المستبدة، على الرغم من رسوخ سيطرتها على مقاليد الحكم، لكنها بدأت تواجه إرادة الشعوب، التي لم ينجح التغلغل الامريكي في نسيجها الثقافي والسياسي والادبي؛ في حرفها عن طريق مصالحها لصالح المصلحة والنفوذ الأمريكي الذي تريد له امريكا الاستدامة. لذا تستمر إرادة الشعوب بالرفض لأنظمة الاستبداد السائرة في فلك المستغل الامريكي لها ولثرواتها، والمعارضة لطبيعة حكمها؛ مما قاد وسوف يقود اكثر في المقبل من الزمن الى ان تهتز ركائز انظمتها؛ مما يفضي أما ان تقوم انظمة الاستبداد هذه الى التغيير بما يتناسب مع مستلزمات هذا العصر؛ من حرية وديمقراطية حقيقية، واستقلال وسيادة كاملة لا جرح فيها ولا نقص، وهذا هو الأمر البعيد الاحتمال لطبيعة هذه الأنظمة؛ او ان التطور التاريخي للبشرية سوف يتجاوزها كثيرا؛ عندها يصبح انهيارها وسقوطها امرا حتميا؛ بهبة جماهيرية وليس بالانقلابات العسكرية التي لم يعد لها وجود لناحية الفعل في احداث التغيير او بالسيطرة على الحكم، في ظل هذا التغير الكوني العميق والجذري الذي لعبت الآن وسوف تعلب إرادة الأنسان فيه؛ الدور المركزي في صناعة الرأي والاحداث.. بعيدا عن قيود الأيديولوجيات وشروطها ودروبها..

***

مزهر جبر الساعدي

لم يفاجأ أحد بردود الافعال الغربية كالعادة، فنباح الغرب وأوكرانيا، سمع في كل باب، يُزعم أن روسيا هي التي "فجرت سد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، مما تسبب في كارثة بيئية" - ، في وقت كل المعطيات والحقائق تشير إلى عكس ذلك، فالسؤال المهم بالتأكيد، لماذا تحتاج روسيا إلى تفجير سد لإغراق ضفاف نهر دنيبر (خاصة الجانب الأيسر، الذي يخضع لسيطرتها)، وهدم حقول الألغام والتحصينات المقامة هناك، على خط دفاع القوات الروسية مع مجرى مائي، ولكن حتى لو كان هناك فجأة رجل مجنون يأمر بالفيضان، فلماذا في هذه الحالة تدمير السد؟ يكفي فقط فتح البوابات إلى أقصى حد، بحيث يكون التأثير في النهاية هو نفسه، لكن كييف لم تتمكن من فتح الصمامات، لأن السد ومحطة الطاقة الكهرومائية كانا يتحكم فيهما الجانب الروسي، لهذا السبب لم يتبق لديه سوى خيار واحد، وهو تدمير السد، واحداث الفيضان .

روسيا حذرت مرارًا وتكرارًا ، من احتمال قيام الجانب الأوكراني بتدمير محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، ووزعت وثيقة رسمية لمجلس الأمن الدولي، بمذكرة من البعثة الدائمة حول خطط نظام كييف لتدمير محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، علاوة على ذلك، بالعودة إلى عام 2022، أعلنت قيادة القوات المسلحة الأوكرانية صراحةً عن خطط لتدمير Kakhovskaya HPP، ثم قام الجيش الأوكراني بضربة تجريبية من MLRS HIMARS الأمريكية على أحد أقفال سد Kakhovka ، من أجل إحداث ثقب فيه ومعرفة مقدار ارتفاع المياه في نهر Dnieper ، ووفقا للمندوب الروسي في مجلس الامن فاسيلي نيبينزيا، فإن دعوات موسكو للأمين العام للأمم المتحدة لبذل كل ما في وسعه لمنع هذه الجريمة المروعة لم تؤخذ بعين الاعتبار بشكل صحيح.

وبعيدا عن التكهنات التي يجب ان نضعها جانبًا، هناك فرص، وهناك منطق لأفعال السبب والنتيجة، وهناك فائدة، ومن أي موقع لا يبدو ولا تحاول تحليل ما حدث، فإنه يشير بأي حال إلى الشخص الذي رتب هذه الكارثة، هي كييف، فلعدة أيام، زادت كييف بشكل كبير من تصريف المياه في DneproGES، مما تسبب في ارتفاع المياه في خزان Kakhovka، لكن في سد محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، لم يتمكن الموظفين الروس من زيادة تصريف المياه من الخزان ، لأنهم كانوا يتعرضون باستمرار لإطلاق النار من الجانب الأوكراني، ليس ذلك فحسب، نتيجة لمثل هذه الإجراءات في أوكرانيا، زاد ضغط المياه بالقرب من نوفايا كاخوفكا على السد والسد، الأمر الذي قد يتسبب في حد ذاته في تدمير الانهيار الأرضي للسد، حتى بدون وصول MLRS فوق السد، وكان - الجانب الأوكراني، قد أطلق "ألدر" فوق السد، ويروج الأتراك الآن، بشكل عام، للنسخة القائلة، بأن السد قد تعرض لهجوم من قبل قوارب كاميكازي غير المأهولة.

وتشير القراءة الروسية للحدث، الى انه كان للتخريب هدفان على الأقل ن الأول، جذب أقصى قدر من الاهتمام لإعادة تجميع وحدات القوات المسلحة لأوكرانيا، فضلاً عن إلحاق أكبر قدر من الضرر الإنساني بسكان المناطق المتاخمة لـ HPP"، و لم تستبعد الدبلوماسية الروسية أن كييف في أفعالها يمكن أن تسترشد أيضًا بالرغبة في تنظيم استفزاز ضمنيًا ضد محطة زابوروجيه للطاقة النووية، وكذلك الانتقام من سكان شبه جزيرة القرم، وتركهم بلا ماء، وإن "انفجار محطة الطاقة الكهرومائية أدى بالفعل إلى كارثة بيئية - فقد غمرت الفيضانات عشرات المستوطنات الواقعة أسفل مجرى نهر دنيبر، وخزان كاخوفكا وقناة القرم الشمالية التي تزود شبه جزيرة القرم بالمياه، أصبحت ضحلة". .

ونلفت الانتباه إلى مؤشرات حملة تضليل منسقة، كانت قد بدأت حول الوضع مع تقويض سد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي القصص التي وزعتها وسائل الإعلام الغربية، ينصب التركيز الرئيسي على اتهام موسكو بتفجير السد، وهذه التصريحات تتماشى مع روح المنطق الخاطئ الذي ينسب إلى روسيا، والقصف الذاتي لمحطة الطاقة النووية Zaporizhzhya أو تقويض تيار Nord ومن هذه" الاستنتاجات "ينفث الفصام، ففي الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، سارعوا حقًا إلى إلقاء اللوم كله على روسيا في تفجير محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة الكهرومائية، ومع ذلك، وبعد مرور بعض الوقت، أصبح الخطاب أكثر تحفظًا، ومن الممكن أن يكون المراقبون قد تلقوا معلومات إضافية، أو أنهم اقتربوا من تحليل الحادث بعناية أكبر، حتى وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي قال، إن من السابق لأوانه إعطاء "أي تقييم ذي مغزى للتفاصيل".

وبعده، أشار المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي إلى أن الولايات المتحدة لا يمكنها تأكيد تورط روسيا فيما حدث في محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي النهاية، حتى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، في مقابلة مع بيلد، أُجبر على الاعتراف بأن كييف ليس لديها الفرصة الآن لجمع الأدلة على تورط موسكو في كارثة محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، في الوقت نفسه، انتقد الرئيس الأوكراني الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر لرد فعلهما على المأساة، وبحسب قوله، فإن أكبر المنظمات الدولية إما لم تستجب لطلب كييف للمساعدة، أو رفضت "بعبارات دبلوماسية" وقال الرئيس الأوكراني "لم نتلق ردا، أنا مصدوم".

اذن حصل زيلينسكي الان على الحجة القوية بعدم الذهاب إلى "الهجوم المضاد" الذي يطلبه الغرب منه، والذي لا يريده هو، ولا جنرالات القوات المسلحة الأوكرانية، بما في ذلك القائد العام زلوجني - وأعمال الإنقاذ لا بد ان تنفذ، فبالنسبة لحقيقة أن الزراعة قد دمرت الآن فعليًا في منطقة خيرسون، حيث يعانى المزارعون في منطقتي زابوروجيه و دنيبرو بيتروفسك من خسائر فادحة، وأصبح الكثير من الناس بلا مأوى - بعد كل شيء، فقد كان الأشخاص الجادون في كييف مقتنعين منذ فترة طويلة بأنهم لن يكون قادرًا على الاحتفاظ بهذه الأراضي، وبالتالي السماح للعدو بـ "حرق الأرض"، كما كانت تمارس القوات المسلحة الأوكرانية منذ فترة طويلة، واليوم فقد ظهر ظرف مهم لكييف - ظهر كائن عملاق، يمكن أن يطلب من الغرب الكثير من المال مقابله، ولا يُستبعد على الإطلاق أن يعاني Dnieper HPP من نفس مصير Kakhovskaya HPP، عندما يكون Zelensky محاصرا تمامًا مع Zaporozhye .

لسنا خبراء كي نقيم الوضع في محطة كاخوفسكايا، ولكن نسترشد بمقولة الكولونيل ألكسندر ستافير، الذي لديه سنوات عديدة من الخبرة العملية في هذا الاتجاه بالذات، " إلحاق الضرر بجيش العدو وليس بممتلكات العدو بأي وسيلة "، ومن هذه النقطة بالإمكان تحليل الوضع، فمن حيث المبدأ، شاهد الجميع بالفعل لقطات للمياه تتدفق عبر قمة السد، وهذه حقيقة مهمة جدًا وهي أنه يمر عبر القمة، عن طريق الفائض، وليس عن طريق التدفق عبر الأقفال المفتوحة، وبدأ فيضان الجزر، الضفة اليسرى، والضفة اليمنى جزئيًا، وبشكل عام، ما يحدث بالضبط عندما ينكسر السد، كل ذلك وفق قوانين الفيزياء، فحتى الآن، لم تعد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية موجودة، فقد جرفت بالفعل، وما سيحدث بعد ذلك هو قضية منفصلة تمامًا.

وتتوقع وزارة السياسة الزراعية الأوكرانية، أنه ونتيجة تدمير محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، قد تتحول الحقول في جنوب أوكرانيا إلى صحارى العام المقبل. 94 % من أنظمة الري في خيرسون، 74٪ - في زابوروجيه و 30٪ - في مناطق دنيبروبيتروفسك قد تبقى بدون ماء، ومن حيث المبدأ، يمكن القول إن المذنب الأساس هو الجانب الاوكراني، فمن الواضح أن الجسم قد تضرر نتيجة الأعمال العدائية من قبل القوات الأوكرانية (على الأرجح) ، خاصةً أن الجانب الأوكراني نجح في ذلك، حيث قصف باستمرار محطة الطاقة الكهرومائية على مدار العام .

روسيا في هذا الحادث أيضا، تصر على إثبات كل ظروف هجوم كييف على Kakhovskaya HPP  "، ولكن إنه لأمر محير للغاية أن ترفض الأمانة العامة للأمم المتحدة في كل مرة إدانة هجمات نظام كييف، متذرعة بنقص المعلومات، مثل قصف القوات المسلحة الأوكرانية لمحطة الطاقة النووية في زابوروجيه، على سبيل المثال، وعلى الرغم من ذلك شدد فاسيلي نيبينزيا على أنه من الواضح للجميع من أي جانب يأتون "، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى "تقديم تقييم موضوعي للأعمال الإرهابية لنظام كييف وإدانتها".

مع تفجير سد كاخوفسكايا، ستكون لكييف القدرة على تأخير استمرار هجومها الذي وعدت الغرب به، الذي تأخر طويلًا، وصرف انتباه الغرب عن طريق الشروع، على سبيل المثال، في تحقيق دولي، كما كان الحال في عام 2014، عندما أسقطت أوكرانيا طائرة من طراز Boeing MH17 في سماء دونباس، ورفض كييف ونظرتها بشكل سلبي إلى اقتراحات إنشاء لجنة دولية متخصصة بمشاركة خبراء روس واوكران، ومنها مبادرة الرئيس التركي رجب طيب ردوغان، يجعل من كييف في موقع المتهم الرئيس، ولكن لا أحد يتجرأ على قول ذلك خوفا من اغضاب عجوز البيت الأبيض .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

الدستور العراقي على علاته، يقر، بأن "الشعب مصدر السلطات"، والمشرعون الطائفيون يتبجحون بأنهم ملتزمون بمبادئه دون مواربة!!. لكن إذا كان الشعب حقا، مصدر السلطات، ونعني "التشريعية والتنفيذية" ولا نستثني "القضائية"، فلماذا لم يع هؤلاء المشرعون ضجر الشعب على مدى عشرين عاما من سوء الأوضاع وتراكمها على جميع المساحات والصعد؟. وإن كان الدستور مجموعة أحكام في العرف المدني، الفيصل، لإحلال السلم الأهلي وإعلاء شأن العدل والمساواة وضمان حقوق الناس مهما اختلفت انتماءاتهم ومللهم. فمن أعطى أصحاب السلطتين (التشريعية والتنفيذية) حق شرعنة استثناءات دستورية لخدمة مصالحهم، بأي حال لا تتناسب مع المصالح العامة للمواطنين، خذ مثلا: مسألة الرواتب الضخمة التي يتقاضاها منتسبو السلطات الثلاث وما يحيطها من دوائر وأحزاب وموظفين وهميين، فضلا عن تعدد وتنوع الامتيازات والمكافآت، أموال وعقارات وقصور وسيارات وحمايات إلخ. فيما يعاني عامة الشعب من ردع وقهر وجوع وعراء وبطالة وأمراض لا طائل منها. ولأن الدستور مليء بالتناقضات والكثير من مواده قابلة للتأويل والتجيير، فسهلا على مافيات السياسية وأحزابها المتسلطة الالتفاف على القوانين الدستورية الملتبسة بما يخدم مصالحها الطائفية والحزبية. الخطير، أن هذه الطبقة الساقطة سياسيا وأخلاقيا قد جعلت من ممارساتها اللاقانونية أمرا طبيعيا للاستئثار بالسلطة دون منازع.

مؤخرا رفع الستار عن عرض الفصل الجديد من مشهد دراما العراق وسط هرج ومرج مثير للغاية... إذ تنصلت أحزاب الإطار التنسيقي عن اتفاقها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني) دون أن يعرف أحد مضامين ذلك الاتفاق وما تمت مقايضته لإتمام صفقة تشكيل (حكومة السوداني) بعد انسحاب الصدر عن المشهد السياسي. وهناك اتفاق آخر قد تم بين رئيس الوزراء محمد السوداني والكرد. أدى كلا الاتفاقين إلى تداعيات أنتجت تأجيل المفاوضات بشأن مشروع قانون الموازنة العراقية لعام 2023 وسط خلافات شديدة بين العديد من الأطراف. وكان نائب رئيس البرلمان قد قام بتعليق عمل اللجنة المالية بالهيئة التشريعية "البرلمان" بسبب مخالفات قانونية وغموض في مضامين الاتفاقات المشتركة بين كل من "الإطار التنسيقي" و"مسعود برزاني" من جهة و(السوداني الحكومة الفيدرالية العراقية) و(برزاني حكومة إقليم كردستان العراق شبه المستقل) من جهة ثانية. سببت حدوث خلافات عميقة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (البارتي والاتحاد) الحاكمين في إقليم كردستان العراق.

الجدير بالذكر أن حكومة (السوداني) الاتحادية كانت قد أرسلت في منتصف مارس آذار مشروع ميزانية ثلاث سنوات إلى البرلمان، تشكل مؤشرا بأن الحكومة مستمرة لثلاث سنوات دون قيام انتخابات مبكرة في هذا العام. وقامت في أوائل أبريل/ نيسان بتوقيع اتفاقية مع حكومة إقليم كردستان بشأن استئناف صادرات النفط إلى تركيا، ومشروع قانون الميزانية العراقية، ومناقشات جديدة بشأن قانون نفط وغاز اتحادي جديد.

فإذا كان الدستور العراقي، يؤكد، بأن الشعب مصدر السلطات، أفلا من حق المواطنين معرفة ما يدور في الدهاليز من أمور سياسية واتفاقات وعقود تستنزف الدولة وتعرض مصالح الأمة للخطر. إذ لا يسمح الدستور لأي جهة حزبوية أو مجتمعية التجاوز على مسؤوليات الحكومة المركزية الحصرية، كما لا يسمح لأي طرف أو حزب مصادرة الدولة في إطار مفهوم الدولة كمؤسسة لها اعتباراتها القانونية. فما الذي استوجب عدم كشف مضامين اتفاقات في غاية الخطورة في شأن عام (من اختصاص الدولة وحكومتها المركزية حصرا)؟. بل لماذا سمحت المؤسسة التشريعية والقضائية لأحزاب شعبوية لا رقابة أو سلطة عليها عقد اتفاقات فيما بينها، تمس أمن الدولة ومصالحها العليا بمعزل عن الشعب وعلمه؟. في الدولة الديمقراطية المدنية التي يسودها القانون والرقابة والمحاسبة، لا يستطيع أي مسؤول مهما كان منصبه وتحت أي ذريعة كانت، التجاوز على المبادئ والأساسيات المتعلقة "باستقلال الدولة وسيادتها" ومنها استقرارها المجتمعي، السياسي والاقتصادي، وان حدث سيعتبر خرقا اعتباريا لمؤسسات الدولة وخيانة عظمى لشأن عام يعاقب عليه بلا رحمة ولا يقبل المساومة أمام القانون!.

أما في بلد كالعراق يعاني من ازدواجية المعايير وأوضاع سياسية معقدة ونظام حكم طائفي راديكالي، ودستور مركب سلب الدولة ومؤسساتها كل أساسياتها الشرعية والقانونية والإدارية. اشتد الصراع بين طرفين متناقضين في المواقف والممارسات والمناهج والرؤى: بين قوى اللادولة "طبقة شللية طائفية شوفينية"، وسلطة الدولة الضعيفة، حتى أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات. فالأولى تقوض الدولة بكل ما تملكه من قوة، فيما الثانية مسحوقة لا تمتلك وسائل الردع الحرفية والسياسية والمؤسساتية بشكل جعل هيبة الدولة في أتون المجهول وعرضة للجدل الجماهيري.

إن تصاعد الصراع من جديد بين الأطراف السياسية بسبب أزمة تمرير قانون الموازنة الأخير، من شأنه أن يفضي إلى مخاطر حقيقية على الدولة والمجتمع. فالموازنة يشوبها الكثير من الغموض والتستر القانوني والدستوري، ومضامين الاتفاقين مجهولة. فيما الأموال المالية التي يفترض أن تصرف للمحافظات والوزارات لتنفيذ مشاريعها، توزع كـ (هبات) على الأحزاب التي تتقلد وزارات عبر لجانها الاقتصادية وفقا لمبدأ المحاصصة التوافقي. لكن على ما يبدو أن قادة "الإطار" متخوفون من انقلاب السوداني عليهم وضياع المرجو إن لم يعجلوا بأي ثمن إقرار الموازنة التي انكشفت أسرارها قبل إقرارها. فعلى سبيل المثال: في الوقت الذي تفرض الحكومة رسوما خانقة على العراقيين، يحصد الكرد 20 % من الموازنة لثلاث محافظات، وهو ما يعادل حصة 6 محافظات جنوب العراق. فيما تحصل الأمانة العامة لمجلس الوزراء على 920 مليار دينار عام 2023 في حين كانت 186 مليار دينار عام 2021، مع أن عمل الأمانة لا يتعدى متابعة قرارات مجلس الوزراء، ولا يعلم أحد لماذا هذه المبالغ الطائلة؟. أما حصة وزارة الخارجية من الميزانية عام 2021 (363 مليار دينار)، زادت عام 2023 بمعدل مرتين ونصف (837 مليار دينار). ووفقا لما تسرب مؤخرا، فإن مخصصات مكتب رئيس الوزراء قد ارتفع بمعدل أكثر من 15 ضعفا، من 76 مليار دينار عام 2021 إلى 229 مليار عام 2023، زائد 990 مليار دينار لمكاتب تابعة لرئيس الوزراء. علما من أن 85 % من الواردات المالية السنوية للدولة تذهب لجيوب الأحزاب الحاكمة و15 % فقط يذهب لخزانة الدولة العراقية،، ومن هالمال حمل جمال!!.

***

عصام الياسري 

جهود مكثفة في القاهرة لتثبيت الوضع القائم في قطاع غزة بعد التزام حركة حماس والفصائل الفلسطينية بهدنة طويلة المدى، ومع تقديرنا لذوي النوايا الحسنة لبعض المشاركين في هذه المفاوضات، إلا أنه في سياق تحكيم العقل والمنطق في قضيتنا الوطنية نطرح التساؤلات التالية: هل الهدنة الآن بعد فشل عملية التسوية وتكثيف إسرائيل لعمليات الاستيطان والتهويد وتدنيس الأقصى... تخدم القضية الوطنية؟ وهل خرجت غزة عن سياقها الوطني وانتهى دورها المقاوِم؟ وهل دويلة غزة التي خططت لها إسرائيل حتى قبل سيطرة حماس على غزة تستحق كل هذا الثمن الفادح، من تدمير المشروع الوطني والانقسام السياسي والمجتمعي وأكثر من سبعة حروب مدمرة على القطاع أدت بحياة أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى والأسرى وحصار القطاع بالإضافة الى إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس لأن الهدنة كما تريدها إسرائيل تتضمن وقف العمليات العسكرية لحركة حماس في الضفة وداخل 48؟ 

في تبرير بعض قادة حماس لالتزامها بالهدنة وعدم المشاركة في المواجهتين الأخيرتين يتحدثون عن الواقعية السياسية وتحكيم العقل في موضوع الحرب وحرصهم على أرواح المواطنين وهذا كلام صحيح ولكن، إن كانت عقلانية وواقعية فلماذا الآن بعد سيطرة حماس على القطاع واستقرار الأمر لها بموافقة إسرائيل؟ بينما كانت ترفض كل الدعوات من القيادة الفلسطينية، في عهد أبو عمار وفي عهد أبو مازن، التي كانت تترجاها بالقبول بهدنة ولو مؤقتة؟

فهل قبل سيطرة حماس على القطاع كانت المقاومة، من خلال إطلاق الصواريخ من غزة وبناء الأنفاق التي كلفت مئات ملايين الدولارات وطنية ومشروعة ومقدسة والآن بعد سيطرتها على القطاع والتزامها بالهدنة أصبحت المقاومة مشبوهة وغير وطنية وفي غير مصلحة الشعب في غزة وتغطي على جرائم الاحتلال في الضفة والقدس الخ؟! وبعد أن أوقفت حماس إطلاق الصواريخ انطلاقا من قطاع غزة فما هو دور ووظيفة حماس وفصائل المقاومة في غزة بالنضال الوطني بشكل عام؟ أيضا ماذا لو توقفت المنحة القطرية ومنحة الشؤون الاجتماعية وأوقفت إسرائيل دخول العمال من القطاع وكل أشكال التمويل المرتبطة بمعادلة (الأمن مقابل الاقتصاد، فهل سيعود إطلاق الصواريخ والارباك الليلي؟ وكيف سيفسر العالم ذلك؟

قد يبدو هذه التساؤلات مستفزة بالنسبة للبعض لكونها يثير شكوكا حول هدنة (توافقت) عليها الفصائل الفلسطينية وحول الهدف من وراء المنحة القطرية ودخول العمال من القطاع لإسرائيل، وقد يقول قائل لماذا تشكك بالهدنة، وهل أتريد أن تستمر إسرائيل بقتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم في قطاع غزة؟ ولن تعوز الذين باتوا اليوم من اشد الداعين للهدنة والتهدئة مع العدو الأدلة والبراهين من النصوص الدينية وحتى من القانون الدولي والشرعية الدولية لدعم موقفهم من الهدنة بعد أن كانوا يكفِّرون ويخَوِّنون الداعين لها سابقا.

منذ بداية وجود السلطة وعندما كانت المفاوضات تجري بجدية وكانت إسرائيل تتعرض لضغوط دولية لتنفيذ بنود التسوية والانسحاب من بعض الأراضي المحتلة، كان الرئيس الراحل أبو عمار يناشد فصائل المقاومة بالالتزام بهدنة مؤقتة دون أن يسئ الرئيس للمقاومة أو يخونها ولم ينزع سلاحها، بل كان يناشد الفصائل بالتهدئة حتى لا تستغل إسرائيل عمليات المقاومة وخصوصا العمليات داخل أراضي 48 لتتهرب مما عليها من استحقاقات.

لم يكن يحلو لفصائل المقاومة وخصوصا حركة حماس القيام بعملياتها إلا عندما تكون المفاوضات وصلت لمرحلة حاسمة مطلوب فيها من إسرائيل الانسحاب من أراضي فلسطينية أو إزالة حواجز، وكان رد إسرائيل على هذه العمليات وقف المفاوضات والتوجه للرأي العام العالمي و الدول التي ترعى عملية السلام باكية شاكية بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام وأن أمنها مهدد وأن أبو عمار غير صادق أو غير قادر على ضبط الأمور الخ، ولا تكتفي إسرائيل بتهربها مما عليها من التزامات بل تقوم ببناء الجدار العنصري تحت ذريعة حماية أمنها وتزرع أراضي الضفة بالحواجز وتكثيف عمليات الاستيطان والتهويد وتدمر مقرات السلطة الوطنية، وهي تعلم أن الذين قاموا بالعمليات الفدائية من خصوم السلطة!.

وعندما جاء الرئيس أبو مازن ناشد فصائل المقاومة الالتزام بتهدئة مؤقتة وبشروط مشرفة حتى لا تستعمل إسرائيل الصواريخ التي تنطلق من غزة كذرائع لتدمير ما تبقى من مؤسسات ومراكز السلطة وحتى لا توظفها لبناء مزيد من المستوطنات، ولم تستجب له الفصائل التي كانت تطلق أحيانا صواريخ لا تصيب هدفا ولا تُوّقِع مقتلا بالعد، فقط للتخريب على جهود الرئيس أبو مازن واستجلاب أموال من جهات خارجية معنية بإفشال عملية التسوية و لإحراج الرئيس وإظهاره بمظهر الضعيف، ومع ذلك لم يأمر الرئيس أبو مازن بجمع سلاح المقاومة أو اعتقال مجاهدين وكان أقصى ما قاله إنها صواريخ عبثية، وفعلا كانت، وبعد سيطرة حماس على غزة رفض الرئيس أبو مازن أي صدام مسلح ضدها كما ندد بكل عدوان إسرائيلي على غزة.

لم تستمع حركة حماس وبقية الفصائل المسلحة للرئيس أبو مازن كما لم تستمع من قبل للرئيس أبو عمار، وعندما كانت تضطر للرد على  الضغوط  الداخلية والخارجية التي تطالبها بالقبول بالهدنة كانت تضع شروطا كالقول بأنها مستعدة للالتزام بهدنة لمدة خمسة عشر عاما ولكن بعد انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي المحتلة عام 67 وإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وكانت تعتبر أن الهدنة مع عدو يحتل الأرض ويدنس المقدسات نوعا من الخيانة ،خيانة الوطن وخيانة دماء الشهداء، وما زالت شعاراتهم بهذا الخصوص مكتوبة على الجدران وموثقة في وسائط التواصل الاجتماعي، فما الذي جرى وصيَّر الحال إلى عكسه؟.

لم تكن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة مجرد انقلاب على السلطة وعلى منظمة التحرير والمشروع الوطني ومشروع التسوية بل كان أيضا انقلابا على فكر ونهج المقاومة بمفهومها الوطني وعلى شعارات حركة حماس ذاتها، وبقدرة قادر باتت الهدنة مصلحة وطنية، واغرب ما في هذه الهدنة أنها ملزمة لفصائل المقاومة وغير ملزمة لإسرائيل، وأصبح ناطقون باسم حركات المقاومة يقولون إن فصائل المقاومة ستلتزم بالهدنة ما دامت إسرائيل لا تعتدي على قطاع غزة! وكأن هدف الفصائل فقط الدفاع عن القطاع ولا يعنيهم ما يجري في بقية فلسطين!

وهنا نتساءل بعد 16 سنة من سيطرة حماس على القطاع، هل بات قطاع غزة كيانا مستقلا قائما بذاته وبالتالي يجوز له الاتفاق على هدنة مع إسرائيل بمعزل عما يجري في الضفة والقدس ولا نريد القول بما يجري في فلسطين 48 التي قامت حركات المقاومة أصلا لتحريرها؟ أليست الضفة والقدس أراضي محتلة والعدوان متواصل هناك بشكل أبشع مما يجري في غزة؟ وهل حلت غزة محل فلسطين؟ وهل خرجت غزة من ساحة المواجهة مع العدو وهي التي كانت تاريخيا شوكة في خاصرة العدو؟.

ما يجري في قطاع غزة مخطط مرسوم يخدم مصلحة إسرائيل وقد سبق أن تحدثنا عنه مطولا - يمكن الرجوع لكتابنا (صناعة الانقسام النكبة الفلسطينية الثانية– دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2015) وطبعة أخرى عن منشورات الزمن في الرباط المغرب، وطبعة ثالثة عن دار الكلمة في غزة - مخطط يريد اختزال فلسطين بغزة وإنهاء الحالة الوطنية النضالية في الضفة الغربية وغزة، ونخشى أن تؤدي الهدنة لترسيم حدود بين غزة وإسرائيل وبالتالي إخراج قطاع غزة من ساحة العمل الوطني.

إن أية هدنة مع إسرائيل يجب أن تكون في إطار استراتيجية وطنية شمولية وأن تشمل الضفة وغزة، بمعنى أن التزام فصائل المقاومة بالهدنة يقابله وقف الاستيطان في الضفة والقدس ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى مع وجود أفق لحل سياسي عادل، وفي حالة عدم التزام إسرائيل بوقف عدوانها في الضفة وغزة تتحرر فصائل المقاومة من الهدنة.

لو كان هذا الثمن الباهظ مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في قطاع غزة لكان من الممكن التفكير بالأمر، ولكن وحتى الآن الأمر يتعلق فقط بسلطة ناقصة السيادة ومحاصرة تحكمها حركة حماس، أما أن يصل الأمر لدولة أو دويلة ذات سيادة تتحكم في البحر والجو وفي المعابر فهذا ما لن تقدمه إسرائيل لحماس أو لغيرها إلا بأثمان ستكون أكبر وأخطر مما تم تقديمه حتى الآن وسيؤخذ الثمن من القدس والأقصى والضفة.

وأخيرا، المفاوضات التي تجري في القاهرة منذ أيام ليس من أجل المصالحة والوحدة الوطنية بل لتثبيت هدنة ستكرس الانقسام وتمهد الطريق لدويلة غزة. بموافقة كل الفضائل في قطاع غزة بما فيها تنظيم حركة فتح وتقاسم مغانم السلطة في القطاع بين فصائل غزة، وبالتالي إخراج غزة عن سياقها الوطني، وكل الحديث عن مصالحة وطنية شاملة مجرد ذر الرماد في العيون.

***

د. ابراهيم أبراش

دائما ما يتداول بين أوساط مقاتلي تنظيم داعش شعار (دولة الإسلام باقية وتتمدد) حيث يعتقد هؤلاء بأن الغلبة لا محالة، سوف تكون لدولتهم،  وأن عليهم واجب الإعداد بشكل متقن وناجز لفتوحات قادمة تتوسع فيها دولتهم وتمتد حسب ما عرضته خارطتهم التي سربوها إلى الإعلام عند نجاحهم في احتلال مدينة الموصل عام 2014. حيث ضمت في حدودها السوداء، ليس فقط الدول العربية والإسلامية، وإنما أجزاء من أوربا.

هوس انتشار وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية وبقائها ورسوخ كيانها بحدود معترف بها دوليا،يشكل الطابع الغالب على تفكير قادة التنظيم، لذا استعاروا بعضا من سيرة الدولة العثمانية، لتتماثل معها صيرورة دولتهم المستقبلية. وكانت واحدة من تلك الاستعارات تجنيد الأطفال .

فالدولة العثمانية وعلى عهد الخليفة أورخان الأول 1324 م اختارت هذا الأسلوب لبناء جيش قوي جبار. وبني ذلك الجيش على أسس عقائدية ووفق الطريقة الصوفية الإسلامية البكتاشية، وكان ملهمهم بداية الأمر، في العزم والقوة والشجاعة الأمام علي بن أبي طالب. وبالتماثل مع شجاعته سحق هذا الجيش الذي سمي بالانكشاري من وقف بالضد من الدولة العليه.

كان هذا الجيش العرمرم يتألف من أسرى الحروب أو من يختطفهم جيش الدولة العثمانية من أطفال وصبيان العوائل المسيحية في البلقان. حيث تجرى لهم عمليات غسل دماغ لقطع صلتهم السابقة بأهلهم، ويربون في معسكرات خاصة على وفق التعاليم الإسلامية، ويغدق عليهم بالعطايا والرتب، وتكون حياتهم بنسق عسكري ومهنتهم الوحيدة هي الحرب.

مع مرور الوقت تغولت قوتهم وسطوتهم وباتوا قوة كاسحة يحسب لها ألف حساب داخل الدولة العثمانية ، وراحوا يتدخلون في شؤون السلطة ويزجون أنفسهم في السياسة العليا لها، مما ارهب الخليفة العثماني، فقرر السلطان محمود الثاني في حزيران من عام 1826 القضاء على تمردهم والتخلص منهم، فأبيدوا بمعركة سميت بواقعة الخيرية، ألغي إثرها نظام تجنيد الانكشارية.

قامت فكرة تجنيد الأطفال على مبدأ تنشئة أجيال تتوارث ثقافة العنف وتتشرب بنمط من التعامل الاجتماعي المشحون بالقسوة والسلوك الإجرامي. فعملية اختطاف الأطفال من قبل تنظيم داعش و تدريبهم و زجهم في عمليات القتل وخوض المعارك. ما كانت لتعني عند قادة التنظيم ولا يجدون فيها ما يخدش الحياء أو الضمير الإنساني، وهم غير معنيين بالمواثيق والعهود وأطر القوانين والأعراف الدولية الخاصة بحماية الأطفال، وضرورة إبعادهم عن مناطق النزاع. بل كان التنظيم يجهد لخلق جيل من المقاتلين قساة لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم، تعدم لديهم المشاعر والعواطف الإنسانية لكثرة ما يشاهدونه من فضائع قتل وسفك دماء، لترسخ في أذهانهم  بعد كل تلك الوقائع المرعبة، مشاعر العدوانية والرغبة الدائمة بارتكاب الجريمة، والتلذذ برؤية الدم لطمأنة النفس بوجودها وبقائها وتعاليها على الآخرين، وفي الوقت نفسه طمأنة عوامل الخوف الكامنة بالنفس من الأخر الذي يشكل تهديدا دائما، لتكون النتائج المستقبلية نشوء جيل من وحوش كاسرة لا هم لها أو لا علاقة لها بالبشر الأسوياء سوى تركيبة الجسد الخارجية.

احتسبت داعش عند الكثيرين بناءً على طبيعة مناهجها الفكرية أو أيدلوجيتها الدينية على بعض المذاهب الإسلامية السنية، وبدورها دائما ما كانت ولازالت تروج إعلاميا عن علاقة وطيدة تربطها بالسنة النبوية المحمدية، لا بل يصر قادتها على أن فكرهم يتماثل بجميع حيثياته مع السنن التي جاء بها القرآن والنبي محمد، حتى وإن أنكر الآخرون عليها ذلك.

دائما ما راودت فكرة استغلال الأطفال وزجهم في النازعات والحروب عقول البعض من الأحزاب والسياسيين والحكام الدكتاتوريين وشاهدنا ذلك بأسطع صوره على عهد الزعيم الايطالي الفاشي بينيتو آندريا موسليني وحليفه الزعيم النازي أدولف هتلر. ولم تكن الرؤية في بناء جيل من القساة والقتلة لزجهم في المعارك السياسية، لبعيدة عن مناهج وأفكار حزب البعث،فعلى نمط هذه التعاليم ولأجل أن يعتاد الطفل على سلوك القسوة والقوة والجرأة وينزع عن فؤاده الخوف، وضعت سلطة الدكتاتور صدام حسين لمجاميع الأطفال من الذين أطلقت عليهم تسمية طلائع البعث، قواعد تدريب تشمل تعلم فنون القتال واستخدام السلاح. ثم طبق إثر ذلك نهجٌ جديدٌ في جميع مدارس العراق أثناء وبعد حرب الخليج الأولى، حيث يرافق رفع العلم في اليوم الدراسي الأول من كل أسبوع إطلاق رصاص من بندقية كلاشنكوف، والغرض من ذلك، وحسب فهم قيادة الحزب، جعل الطلاب يعتادون سماع دوي الإطلاقات النارية وعندها تقوى عزائمهم وتذهب عن قلوبهم الرهبة، ويكونون دائما على استعداد لمواجهة أعداء الثورة والحزب. أما الطفولة والسلام والأمن فليس لها في الحسبان مكان، ولن تكون كوابح أمام هذا الهوس المجنون، وغير معنية بالخسارات القادمة في مستقبل تلك الأجيال، لابل تتقدم في أهميتها لتكون حاضرة  في خيال صناع القرار حول ضرورة الاستعداد لمواجهة العدو المفترض .

للوقوف بالضد من هذا العمل المشين الذي ارتكبته داعش وقبلها سلطة حزب البعث بتوظيف الأطفال وزجهم في النزاعات، أقامت الحكومة العراقية على عهد رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي يوم 15 من شهر حزيران في العام 2015 في بغداد مؤتمرا تحت شعار مناهضة تجنيد الأطفال وزجهم في العمليات العسكرية، وقد ألقى السيد العبادي كلمة في ذلك المؤتمر، أعتبر فيها ما تقوم به داعش بحق الأطفال، جرائم ضد الإنسانية، ولم تراع في عملها هذا القيم والأعراف الدولية بعدم استغلال الأطفال في العمليات العسكرية. وبدوره حذر وزير العمل والشؤون الاجتماعية السيد محمد شياع السوداني (رئيس الوزراء الحالي) من مخاطر وانعكاس تجنيد الأطفال وانخراطهم في المعارك، على مستقبل الأجيال في المنطقة والعراق بالذات، مؤكدا على أن هذه الأعمال خارج الأطر القانونية الإنسانية، ومنافية للمعاهدات الدولية. وصدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات من ضمنها اعتبار ما تقوم به داعش ضربا من عمليات وجرائم إبادة ضد الإنسانية، ودعت التوصيات أيضا إلى وضع مزيد من التدابير التي تسهم في حماية الأطفال والحد من استغلالهم من قبل العناصر الإرهابية وضرورة تبني نهج التثقيف والتعليم في إطار التعايش السلمي ونشر قيم المحبة والسلام.

جاء المؤتمر وقتذاك التفاته نبيلة وشجاعة من الحكومة العراقية لكشف خطر وجريمة إشراك الأطفال في النزاعات وزجهم في مواقف مشحونة بالعنف والقسوة ومناظر الدم . وقدم المؤتمر توصيات للسلطة التشريعية بإصدار قانون يحد أو يمنع مثل هذه الممارسات المضرة بحياة الطفل. وكان من المؤمل أن تنفذ توصيات المؤتمر بإيجاد أرضية جادة لوضع أسس تشريعات قانونية لتعامل حقيقي يضمن الحفاظ على حياة الأطفال ويبعدهم كليا عن عوامل ومواقع الصراع ويبعد عنهم جميع أنواع العنف والقسوة، ويتم إرساء اطر

عامة بتدابير علمية عقلانية، تمكن الطفل من العيش بحياة سوية، يتمتع فيها بحماية خاصة

تتيح نموه البدني والعقلي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما، وأن تكون مصلحته في مقدمة الاعتبارات في سن القوانين والتشريعات. ومنحه فرصة ضبط الانفعالات وتنمية مواهبه وقدراته وميوله واتجاهاته السلمية الحضرية بعيدا عن الغل والكراهية.

ولكن ما حدث منذ عهد المؤتمر ولحد الآن جاء عكس هذا، لا بل بالضد من ما أعلن في المؤتمر، حين ظهرت في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي أفلام يظهر فيها رجال دين وقادة فصائل وحتى تربويون، يشرفون على تدريب مجاميع من الأطفال على السلاح، استعدادا لزجهم وتهيئتهم لمعارك ربما تندلع مستقبلا مع خصوم للطائفة أو بسبب صراع سياسي. وأخذت تنتشر وفي العديد من مدن العراق ، تجمعات  منظمة كانت أم عشوائية، يزج فيها الصبيان دون السن القانوني للتدريب على حمل السلاح، دون اعتبارات أخلاقية وإنسانية،وبعيدا عن أي علاقة بالعهود والمواثيق المناهضة لتجنيد الأطفال وزجهم في الحروب.

وفي مشهد أخر أكثر إيلاما وبشاعة، نشاهد الأطفال والصبيان يشاركون بالترغيب كان أو بالإكراه في عمليات تبكيت للذات وتكفير عن ذنوب لاعلاقة لهم فيها، جرت وقائعها في التاريخ البعيد. حيث نشاهد صبيانا وبأعمار متدنية يقومون بممارسة التعذيب الجسدي والنفسي في عمليات جلد وشطب للجسد بالآلات الحادة. وترافق تلك الطقوس إثارة للغرائز العدوانية عبر إخضاع الطفل لعملية إلغاء العقل والذات، والمشاركة في حشد جماهيري يستسيغ مناظر الدم ويألف معها العنف والقسوة. وقد تجاوزت تلك الطقوس في البعض منها حدود العنف المنفلت والوحشية لتشمل تعذيب للأطفال بأعمار لا تتجاوز سنوات الرضاعة، يظهر فيها الأب أو الأم بوجوه باشة وروح رضية وهم يحتضنون أو يرفعون طفلهم المضرج بالدماء دون خوف من رادع أو مساءلة .

في تلك المشاهد المؤلمة لا بل المفزعة يتعرض الطفل إلى عملية ممنهجة لتنشئته وفق سياقات ذات طابع خاص يتم فيها تطويعه نفسيا وجسديا، ليكون جزءا من مجموع غاضب منفعل متوتر ومتطوع دائم للهجوم والوقوف كخصم وند لعدو افتراضي أو حقيقي للطائفة أو الجماعة. وكل ذلك يجري كنشاط مدروس ومعد بعيدا عن مساءلة أو منع من أي جهة سلطوية كانت أم دينية أو مجتمعية.ولم نشاهد أي اهتمام حكومي أو مجتمعي فاعل، يقف بوجه تلك الهمجية التي تغولت ممارساتها اجتماعيا ودينيا، مع شح ظاهر لا بل معدوم في مناهج وتعاليم وسلوك تشاركي مجتمعي يحاول إبعاد هؤلاء الأطفال عن مثل تلك التجمعات الانفعالية المضرة والمسيئة للطفولة ومنع مستغليهم من ممارسة تلك الافعال البعيدة عن روح الإنسانية ومفاهيم التحضر والعقلانية.

ومن الواجب على السلطة وصناع القرار السياسي والديني والمجتمعي والتربوي خلق فرص تبعد الأطفال كليا عن العنف واستخدام الألفاظ القاسية والتطير وروح القسوة، وتعمل على  تغذيتهم بثقافة السلم المجتمعي وزجهم في التعليم النافع وتدريبهم على الثقة بالنفس والقدرة على فعل الخير والحرية في أبداء الرأي ومنحهم مشاعر الأمان والطمأنينة وتدريبهم  على المشاركة الفاعلة بالحياة الحضارية والقبول بالخلاف الفكري.لتكون تراتيبية المجتمع ناجحة في وضع سليم ومعافى يحبذ روح التفاهم وحرية الرأي ويبحث بشكل دائم عن خيارات السلام ويستنكر أساليب العنف والقسوة في حل المشاكل والعقد المجتمعية والسياسية. 

***

فرات المحسن

تصدر اسم الجندي المصري محمد صلاح إبراهيم منفذ "الهجوم الحدودي" مع إسرائيل حديث رواد منصات التواصل الاجتماعي، بعد كشف عدد من وسائل إعلام إسرائيلية ومصرية بعض التفاصيل عن هويته، حيث قالت هيئة البث الإسرائيلية إن مصر تسلمت جثمان محمد صلاح إبراهيم، الجندي من حرس الحدود الذي قتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وقتل في اشتباك بعد عبوره الحدود بين مصر وإسرائيل، ونشرت هيئة البث الإسرائيلية صورة للجندي المصري، وقالت إنه يخدم في قوات حرس الحدود المصرية وينحدر من منطقة عين شمس في محافظة القاهرة.

قالت وسائل إعلام مصرية إن الجندي المصري محمد صلاح تم دفن جثمانه في قرية العمار بمحافظة القليوبية، وسط إجراءات أمنية "مشددة"، لمنع تنظيم جنازة له واقتصار الدفن على عدد قليل من أفراد عائلته، وقد دفن وكأنه عريس، جسده إلى التراب، وحفل زفافه في الواقع الافتراضي بين العرب. هذا الجندي المصري منفذ عملية الحدود التي أردّ فيها ثلاثة جنود إسرائيليين وأصاب اثنين، نال من التفاعل بين العرب ما يجعل إسرائيل مرتعدة الفرائس، ليس من العملية والاختراق الأمني بقدر خوفها من عقلية تنفيذ العملية والتفاعل العربي الكبير ما فعله الجندي.

فما كانت تخشاه في فلسطين وتسميه عملية الذئاب المنفردة..  يبدو أنه كابوس يطاردها اليوم على حدودها مع مصر،  لأن الجندي محمد صلاح إبراهيم ذو الثالثة والعشرين عاما كان يخدم عسكريا في منطقة سيناء وهو من أبناء عين شمس، وبحسب ما عرف عنه من محيطه لا توجد له انتماءات متشددة ويتمتع بالهدوء والسيرة الطبية،ورغم تقديم مصر العملية على أنها جراء خروج عملية مطاردة تجار مخدرات عن السيطرة.

ووفق المعلومات المنشورة على نت العربية كان الجندي القتيل يقيم مع أسرته المكونة من والدته وشقيقين في شقة بمنطقة عين شمس شرق القاهرة، ويعمل "فني ألوميتال" ونجارا للإنفاق على أسرته بعد وفاة والده في حادث سير، كما تبين أنه لم يكمل تعليمه واكتفى بالحصول على الشهادة الإعدادية.

إلا أن إسرائيل التي استعجلت الأحكام أيضا قبل التحقيقات مالت في تصريحاتها الرسمية لاعتبار العملية تخريبية، ما يعني بأنها مخطط لها من الجندي الذي إن كان نفذ عمليته من تلقاء نفسه، لكنه كان ذاهبا ليقتل الجنود الإسرائيليين وفق مخطط محكم ومع سبق الإصرار والترصد.

إذ اعتمدت إسرائيل على ما وجد في حقيبة الجندي من سكاكين كوماندوز وذخيرة إلى جانب نسخة من المصحف الشريف قيل أن يتم تداول آخر ما كتبه الجندي المصري على حسابه في فيسبوك " اللهم كما أصحلت الصالحين أصلحني واجعلني منهم.

وبعيدا عن الإعلانات الرسمية المصرية الإسرائيلية حول التحقيق المشترك في الحادثة، ربما سيكون من المفيد أكثر تقديم قراءة تحليلية لما تناولته التقارير الإعلامية العبرية حول التخوف الكبير داخل الدوائر الأمنية الإسرائيلية من أن يكون منفذ عملية الحدود المصرية تفذ العملية من تلقاء.

ولمن لا يعرف معني هذا فإنه يعني ربما فاتحة عمليات ذئاب منفردة قد تضرب إسرائيل ولكن هذه المرة من جهة مصر،  ورغم أن عملية محمد صلاح إبراهيم ليست الأولى من نوعها، إذ سبقتا عمليتان قبل عشرات السنين للجنديان سليمان خاطر وأيمن حسن، واليوم يتكرر ما فعله الجندي محمد صلاح إبراهيم، لكن في ظروف أخطر وأدق وأكثر حساسية، ولا أدل على هذا من تزامن استمرار الإعلام الإسرائيلي مع كشف المعلومات تباعا ولحظة بلحظة.

بينما يبدو الإعلام المصري الذي ينقل البيانات الرسمية حذرا جدا وهادئا في محاولة لعدم تبني فكرة تعمد الجندي محمد صلاح إبراهيم للعملية وتحوله لذئب منفرد، ليأخذ الإعلام الرسمي خطوة عن المزاج الشعبي على مواقع التواصل التي ضجت بخبر عملية الجندي محمد صلاح إبراهيم مع وصفه بالبطل من خلال أصول عدة، وهو ما سيزيد الرعب في إسرائيل، مع مخاوف انتشار عقلية الذئاب المنفردة وأكثر.

وهي الذهنية التي يضرب بها فلسطينيون إسرائيل بين الفينة والفينة، حيث لا تسبق أية تحذيرات استخباراتية – إسرائيلية العملية الفلسطينية داخل العمق الإسرائيلي، حتى أحدثت صدمة على جميع المستويات الرسمية داخل، لأن منفذي العمليات يشنون هجماتهم بشكل فردي دون أن يتبناهم فصيل، ودائما يسبقون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إذ لا زالت إسرائيل تتذكر جيدا أولى العمليات المنفردة في بئر السبع ما أدى إلى مقتل أربعة عشر إسرائيليا في مارس 2022، لتليها سلسة عمليات منفردة هزت تل أبيب.

كذلك يُذكر أن مصر كانت أوّل دولة عربيّة وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، وغالبا ما تكون الحدود بين البلدين هادئة، لكنّها شهدت محاولات متكرّرة لتهريب مخدّرات، ما أدى إلى وقوع اشتباكات بالذخيرة الحيّة في السنوات الأخيرة بين المهربين والجنود الإسرائيليين المتمركزين على طول الحدود، غير أنه عام 2012، تبنّت مجموعة "أنصار بيت المقدس" هجوما على الحدود المصريّة الإسرائيليّة، أدى إلى مقتل جندي إسرائيلي.

واليوم ربما انتقلت إلى مصر عقلية الذئاب المنفردة، لتزيد الأرق والرعب بين صناع القرار في تل أبيب، ويتركون هذه الأجهزة تتلمس طريقها في الظلام في ظل سؤال رئيس مطروح باتت مهمة جهاز الموساد الأولى الإجابة عنه: هل الجندي محمد صلاح إبراهيم تصرف من تلقاء نفسه؟، أو أنه جزء أنه جزء من تنظيم مسلح ؟

فإن كان من تنظيم مسلح فتلك مصيبة، وإن كان قد تصرف من تلقاء نفسه، فالمصيبة أعظم، لأنه قد يكون باكورة عودة هجمات ينفذها أشخاص، وهنا ربما جنود مصريون بشكل منفرد، دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما.

ورغم أن الدافع قد يكون عقائديا، اجتماعيا، أو سياسيا إلا أن عدم ارتباط منفذ العملية بتنظيم يمكن مراقبته واختراقه وتدميره، يعني أن المنفذ سيكون غالبا شخصا عاديا لا يثير الريبة في تحركاته وسلوكه، وفي الحالة المصرية يبدو الأمر أعقد، لأنه قد يكون جنديا له القدرة على الوصول لهدفه على الحدود.

وبالتالي يمثل أي هجوم من ذئب منفرد خطرا أكبر من التنظيمات، لأن هذا التكتيك الجديد لا يمكن التنبؤ بحدوثه، حتى من أقوى الأجهزة الأمنية كفاءة فنيا وبشريا، ورغم ما يكرره المسئولون في مصر أو إسرائيل، أن هذه ربما تكون حالة استثنائية لا تمثل التعاون الأمني والعمل المشترك بين مصر أو إسرائيل  في حفظ الأمن على الحدود، إلا أن ما ينتظر هذه الحدود سيكون أكبر بكثير مما يتخيله الطرفان، في حال ثبت أن عقلية الذئاب المنفردة عادت إلى مصريين على الحدود.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع

1-  قناة استيب نيوز: الجندي المصري.. هل يفتح أبواب "الذئاب المنفردة" من حدود مصر على إسرائيل،: يوتيوب.

2-العربية نت: وسط حضور محدود..  دفن جثمان الجندي المصري بمسقط رأسه..

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: أضرب بالمطرقة وأنصت حتى تتأكد بأن الرنين أصبح أجوف.

منذ احتلاله عام 2003، تتصاعد الخلافات من حين لآخر بين القوى الظلامية الماسكة بالسلطة في أرض السواد، كما سميت في غابر العصور، لامتداد النخيل والأشجار وخضرة الزرع على طول البلاد وعرضها. اليوم لأن كثر لبس السواد فيها، على من سقطوا على يد عصابات ميليشياوية منظمة قامت بتنفيذ جرائم اغتيال سياسي مدفوعة الأجر بتحريض من بعض القوى السياسية بهدف تكميم الأفواه وإشاعة الخوف والفوضى كما تقتضيه مصالحهم الطائفية والفئوية والحزبية والإستمرار "بنهب كل شيء وخراب كل شيء" على حساب الأمن والاستقرار وإعادة إعمار البلد وتأمين مستقبل الأجيال القادمة.  

وفيما تنحدر الأمور نحو الأسوأ بسبب الخلافات (السياسية الطائفية القومية) التي نتجت بسبب قانون الميزانية الثلاثية "المثيرة للجدل"، التي أعدتها حكومة محمد شياع السوداني العتيدة وتحتمل إشارة إلى أن الحكومة مستمرة لثلاث سنوات قادمة دون إجراء انتخابات مبكرة خلال هذا العام. وترتفع أصوات الشرفاء في الداخل والخارج لتنفيذ ما تعهد به السوداني وبالدرجة الأساس تعهده بمحاربة الفساد ومن يقف ورائه دون تردد، وتقديم الخدمات وإصلاح الدولة ومؤسساتها وملاحقة القتلة والكشف عن من حرض لارتكابها لينالوا العقاب العادل؟. يظهر علينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، بعض العراقيين من الوسط الإعلامي والسياسي والثقافي للدفاع عن الأحزاب المهيمنة على السلطة والدولة ومؤسساتها الرئيسية الثلاث "التشريعية والتنفيذية والقضائية"، لمصادرة حق الأغلبية من العراقيين عن التعبير عن الرأي. فيما تنحدر البلاد نحو سلوك فكري سياسي رديء المستوى وخطير على الحياة العامة ومصالح الدولة الجيوديموغرافية والاقتصادية والتنموية والبيئية، أيضا، على مستقبل المجتمعات العراقية ونموها البشري والمعيشي على مدى عقدين. انتهجته حكومات متعاقبة، تسيطر عليها الأحزاب الشيعية والسنية والكردية الماسكة بالسلطة ولها فيما بينها "إشكاليات عقائدية" متناحرة، لكن أهدافها مشتركة، خاصة فيما يتعلق الأمر بطبيعة الصراع حول مفهوم "هوية الدولة، والدولة الوطنية والانتماء المجتمعي" التي لا تضع لها هذه الأحزاب أية اعتبارات قيمية. مفهومها "الأيديولوجي الشعبوي" بهذا الجانب يرتكز على: إن الصراع بين عقيدتها السياسية "الإسلاموية ـ الشوفينية" على حد سواء، و "الدولة الوطنية"، لا يقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية فحسب، بل يتجاوز التشكيك بهويتها الوطنية الجغرافية. بمعنى أنها لا تؤمن بمفهوم "الوطن" الموحد جيوديموغراقيا، إنما تفكيك الدولة على أساس "عرقي قومي"، أو على عقيدة "الدولة الإسلامية" التي لا تفصلها حدود وتخضع للخلافة الرشيدة أو ولاية الفقيه.

لا أظن أن مواقف هؤلاء المدافعين عن الطغمة السياسية الفاسدة، محض وجهات نظر، لا صلة لها بأي توجيه من داخل بعض المنظومات العقائدية. ولا أظنها بدافع الحرص والنزاهة، بعيدا عن حدود المصالح الذاتية، المادية والمعنوية. ليس الاعتراض على الاختلاف في وجهات النظر، إنما الاعتراض على جزئية السكوت على دمار الوطن وتمدد الظلم والطغيان واستبداد القوى الظلامية وتجاوزها على المبادئ العامة لحقوق المجتمع والدولة ومؤسساتها بشكل عام. والغريب إن أغلب الذين يتصدرون الدفاع عن أحزاب السلطة وشخوصها، هم من أولئك "المتأدلجين" الذين انخرطوا مع الحشر، وكان بعضهم عرابا للاحتلال ومبارك له في العديد من المحافل، وما زال "يلغف" بما فيه الكفاية من كل ثريد.

خارج المألوف الذي يتميز به هؤلاء القوم عن المثقف والإعلامي والسياسي الحقيقي تجاه المشروع الوطني وأهمية صناعة إنسان المستقبل وتطور المجتمع وبناء الدولة المدنية الحديثة والدفاع عنها. إنهم جعلوا موقعهم سبيلا في غير اتجاهه للوصول إلى هدف أناني "مادي وعيني بحت"، لكنه انتهازي منافق بالتأكيد. حتى أصبح منهجهم في مجال الفكر والإعلام، فيما يتعلق الأمر بالموقف من "مشروع الدولة ولا دولة" يشكل في أغلب الأحيان، موقفا منحازا ومخالفا للأعراف المهنية التي تتطلب الموضوعية والأمانة الحرفية البينية التي ينبغي أن تتوافق مع مفهوم الوطنية ولا يشكل نمطا يعج بالمتناقضات في مختلف الاتجاهات.

***

عصام الياسري

العراق تراكم لمكونات جوهرية رافدينية وليس قوميات ومذاهب طائفية

إن جوهرية العراق ليس القومية والطائفة، فهو مكونات عابرة ومتغيرة، فالعراق ليس تجمع بل كينونة ثقافية تراكمت تاريخياً وأدت إلى تكوين جوهره الخاص. وهو جوهر ثقافي تاريخي وليس قومي أو عرقي. لأنه تراكم في ظل مكونات جوهرية ثلاث هي حلقات تاريخية كبرى، وهي المرحلة الرافدينية، ثم العربية الإسلامية ثم العراقية.

والعراق في جوهره مكونات ترتقي في اغلبها في مصاف الرؤية الثقافية. والعراق أكبر واعظم واعرق من مجرد حداثة عابرة بمعايير الثقافة والمستقبل. اما مفهوم الأقلية فمن غير الجائز أن نطلقها على المكونات، ففي العراق لا توجد اقليات بالمعنى الضيق والمغلق، وهو واقع مرتبط بطبيعة الأقليات فيه، ومن الأفضل استعمال المكونات التاريخية والثقافية وليس كلمة الأقليات، وهو خلاف جوهري، لأن الأقلية هي بقايا، فالكلد آشور مكون عراقي وهم اصل أصوله، وجذر من جذوره. والتركمان مكون تاريخي وثقافي للعراق، والنصارى واليهود والإيزيدية والشبك والكاكائية، أما الأكراد فإنهم الأقلية الوحيدة في العراق، حديثة التكوين بمعايير الدولة والقومية، وضعيفة من حيث مكوناتها التاريخية والثقافية، أصولها من خارج العراق وتكونها العصري فيه، وقد صنعوا تاريخاً وهمياً عبر حفريات في كل شيء وليس في الدم، ويؤكد البروفسور ميثم الجنابي في كتابه (العراق حوار البدائل) ص100 (كون الأكراد أقليات متناثرة في دول الجوار، وبالأخص تركيا وإيران وسوريا وارمينيا وأذربيجان وقليل في فلسطين ومصر والدول الاسكندنافية!! والمقصود بهم أساساً في الدول الثلاث الأولى إلى جانب العراق. وهي حالة تجعل منهم معشر وليس قوماً ولا شعباً ولا قومية ولا أمه. من هنا فإن طابع الأقلية فيها جزئي وعابر بوصفه مكوناً محتملاً لارتقاء لاحق في قوم ثم شعب ثم قومية ثم أمة).

لذلك مما سبق نستطيع التوصل إلى أن مشكلة الأقلية في العراق لا ينبغي النظر إليها بمعايير الكمية أو الانتشار الجغرافي أو الدين أو العرق، بل بمعايير الاندماج ومستوى التصيّر التاريخي الثقافي في العراق. فالأقلية الوحيدة في العراق هي الأقلية الكردية، فمشكلة الأقلية ثقافية سياسية. والأكراد في العراق فقط اخذوا يتحولون إلى قوم لكنهم ليسوا قوماً موحداً بعد، بسبب ابتعادهم عن فكرة الاندماج مع الشعب العربي والازدهار العلمي والاجتماعي والثقافي.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

75 عاما من النكبة الفلسطينية ولكن فلسطين ستبقى عربية والاحتلال الاستيطاني الصهيوني الى الزوال.

يا عدوَّ الشّمس لكن لن أساوم

و إلى آخر نبض في عروقي سأقاوم

ربما تسلبني آاخر شِبر من ترابي

ربما تُطعم للسجن شبابي

ربما تسطو على ميراث جدي

من أثاث وأوان وخوابي

ربما تُحرق أشعاري وكتبي

ربما تطعم لحمي للكلاب

ربما تبقى على قريتنا كابوس رُعب

ياعدو الشمس لكن لن اساوم

وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم

سميح القاسم

شاعر المقاومة الفلسطينية

يعلمنا التاريخ الحديث أن الاستيطان لم يكتب له الخلود. و أن الشعوب لن تسكت عنه، بل تقاومه ولدينا أمثلة، ثورة الشعب الجزائري تحتاالإستيطان الفرنسي الذي دام 150 عاما، عملوا خلاله على فرنسة الشعب. ولكن الشعب الجزائري الذي بدء بثورته عام 1954 مستخدما أسلوب الكفاح المسلح تحت قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، فقدم الشعب خلال فترة التحرير أكثر من مليون شهيد. حتى أعلن شارل ديغول عام 1962 سحب الجيش الفرنسي وأعلنت جبهة التحرير استقلال الجزائر وسميت (جمهورية الجزائر الشعبية الديمقراطية). ولا ننسى كيف أن الفرنسيين في استيطانهم في الجزائر دمروا هذا الشعب وقامو بتجاربهم للاسلحة النووية في الصحراء الجزائرية ومدى تأثيرها على البشر والطبيعة لسنوات.

اما البلد الآخر الذي انتزع الاستقلال من الاستيطان الإنكليزي، فهو جمهورية أفريقيا الجنوبية، بعد أن حكما البيض الانكليز في حكومات الابرتايد حوالي 250 عاما. وتعاملوا مع أصحاب الأرض من السود بتمييز عنصري. إلى أن قامت حركة تحرير جنوب افريقيا بزعامة نلسن ماندلا ورفاقه. وجرت انتخابات حرة فاز فيها حزب المؤتمر الوطني بقيادة نلسن ماندلا وكان له دور في طرح شعار التسامح بين أصحاب البلد والموستوطنين البيض. واليوم يعيش من البيض حوالي 4, 2 مليون متضامنين أ اخوة مع السواد الاعظم من الأفارقة، وانتهى عصر الاربتايد في هذا البلد.

ومن هذه المنطلقات الموضوعية في القرن العشرين بات النضال من أجل إنهاءآخر معقل للعنصرية في فلسطين المحتلة.

فلسطين البوصلة

بعد الحرب العالمية الأولى والتي اندلعت عام 1914 - 1918 والذي توج بانتصار الحلفاء، واندحار العثمانيين الذين كانوا يحتلون فلسطين. يومها كان سكان فلسطين من مسلمين ومسيحيين ويهود متعايشين بشكل إيجابي. وجاء وعد بلفور في رسالةأرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من نوفمبر عام 1917 إلى الصهيوني روتشيلد وفيها إشارة صريحة لموافقة الدولة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد سبق وعد بلفور أتفاق سايكس -بيكو الذي تم عام 1916.

وعندما وصل الغرباء من اليهود الصهاينة إلى ارض فلسطين العربية وصلت الهجرة ذروتها عام 1948 وسمي بعام النكبة. فهجّروا أبناء البلاد من ديارهم واستخدموا أساليب جرمية ومنها مجزرة دير ياسين التي ذهب ضحيتها الكثير من سكنة دير ياسين الفلسطينية. طُرحت القضية الفلسطينية أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وصدر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 قرار التقسيم والذي أحدث صدمة لدى الشعب الفلسطيني والقوى الوطنية والتقدمية في المنطقة العربية، وعلى سبيل المثال موقف الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق الخالد يوسف سلمان يوسف (فهد) وهو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 ,  وهو في السجن ومحكوم بالإعدام ورفاقه، فأرسل رسالة إلى الرفاق في التنظيم ضمّنها موقف الحزب ضد التقسيم، ودعا إلى رفع شعار (فلسطين العربية) يتعايش فيها المسلمون والمسحيون واليهود من أصحاب البلد، ولكن موقف السوفيت كان مع دفع الاحزاب الشيوعية والعمالية العالمية المنضوية تحت الكومنترن، إلى إقرار قرار تقسيم فلسطين، وذلك بإقامة دولتين؛ يهودية (إسرائيل) وأخرى عربية فلسطين. وبدء العرب حربهم. ولكن خيانة الأنظمة العربية لم تسمح للجيوش العربية بكسب المعركة، فانسحبت. وكان الجيش العراقي قد شارك في المعارك وترك في فلسطين شهداءه في مقبرة جنين.

وبقيت قضية فلسطين وتحريرها من الصهاينة تتفاعل في الحركات الوطنية بين اليسار والقوميين وطرحت شعارات تضمنية، ومنها شعار فلسطين؛ يحررها أبنائها، وأنشئ في العراق بعد ثورة تموز عام 1958 جيش التحرير الفلسطيني برعاية من الجيش العراقي وحتى في سورية.

وفي الأول من عام 1965 تم الإعلان عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، عندما تداعى عدد من الفلسطنيين ومنهم ياسر عرفات وخليل الوزير وابو إياد وآخرين.التي رفعت شعار التحرير والكفاح المسلح كطريق لنيل الحرية. ولاقت تأييداً من قبل القوى الوطنية والشعوب في الوطن العربي. وتطوع الشباب فيها. وبعد ذلك أصبح هناك عدد من المنظمات المقاومة ومنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية القيادة العامة وجبهة النضال الفلسطيني، وجبة التحرير الفلسطينية والجبهةالعربية لتحرير فلسطين وقوات الصاعقة الفلسطينية واخيرا ظهرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي.

وفي حرب الأيام الستة عام،1967 أقدمت دولة الكيان الصهيوني على شن العدوان على الجبهتين المصرية والسورية. وانتهت الحرب باحتلال سيناء وعبور القناة إلى الجهة الاخرى وتم تدمير القوة الجوية المصرية وهي جاثمة في المطارات. واحتُلّت هضبة الجولان السورية. وبدء عبد الناصر بإعادة تسليح الجيش المصري بعد عدوله عن الاستقالة، وطلب من السوفيت الموافقة على تزويد الجيش المصري بالطائرات والأسلحة، ووافق السوفييت. وشارك الهواري بومدين الرئيس الجزائري في دفع مبلغ من المال لتسليح الجيش المصري. وبعد وفاة جمال عبد الناصر وتبوء نائبه أنور السادات تحول إلى أمريكا وزار إسرائيل وأصبحت المصالحة والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل، والتحقت بعده الأردن ومنظمة التحرير الفلسطنية.

ولكن القيادة الفلسطينية للمقاومة بكل منظماتها لازالت ملتزمة بقرارات قمة الخرطوم. وطرح جمال عبد الناصر في المؤتمر اللاءات الثلاث: لا تفاوض لا صلح لا إعتراف. وإسرائيل موغلة في عدوانها على المقاومة وتعمل من أجل القضاء عليها وهذا لم يتم.

و في عام 1982 صيفا قرر المحتل الاسرائيلي الحرب على الجنوب اللبناني لضرب تجمعات المقاومة الفلسطينية التي كانت تنطلق المقاومة من الجنوب، ووضع كل قواه العسكرية من طيران ودبابات ومشاة، وصدم بمقاومة شديدة وخاصةً في قلعة شقيف اللبنانية التي صمدت وقاومت. وعندما قام بحصار بيروت العاصمة، وكنت شاهد عيان على ذلك عندما وصلتُ بيروت قبل ساعات من الحصار على بيروت؛ انا كاتب هذه السطور،و كنت متطوعاً باسم الحزب الشيوعي العراقي كطبيب. وعملت مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مشفى ميداني في المصيطبة. وبقيت لحين خروج المقاومة الفلسطينية.و شاهدت كيف أن المقاومة الفلسطينية أبلت مع المقاومة الوطنية اللبنانية بلاء حسناً، والتي تشكلت من الحزب الشيوعي اللبناني وحزب العمل الشيوعي والناصريين وحركة المرابطين وحركة امل. وقد خط البيان الأول لانطلاقها جورج حاوي سكرتير اللجنة المركزي للحزب الشيوعي اللبناني ومحسن ابراهيم من حزب العمل الشيوعي وقد تركت منظمة التحرير اسلحة ثقيلة بعد مفاوضات مع الموفد حبيب وجرى الاتفاق على خروج منظمة التحرير الفلسطنية وانسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي، بعد مقاومة باسلة لدخول جيش العدو إلى بيروت الغربية والضاحية وهزم نتيجة خسائره. وبهذا التاريخ المجيد لمقاومة استمرت وتطورت بإستخدام كل الأساليب منها السلمية والاعلامية، ففي جنوب لبنان ظهرت المقاومة المسلحة الإسلامية متمثلة بحزب الله، حتى طردت الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب.

والمقاومة الفلسطنية هزمت كيان الاحتلال في قطاع غزة بضربات المقاومة، وفي الضفة الغربية لعبت مقاومة الشعب الأعزل دوراً مهما في التصدي لعمليات الاحتلال، وذلك في انتفاضة الحجارة الأولى والثانية. واليوم هناك مقاومة مسلحة ترد على عمليات الاحتلال التي يقوم بها، ومنها تهديم البيوت وانتزاع الأراضي من أصحابها وإقامة مستوطنات سكنية لليهود القادمين من اوربا.

أن التطور الحاصل اليوم في تصنيع السلاح ومنه الصواريخ البعيدة المدى التي تدكُّ المدن الإسرائيلية مثل يافا وتل أبيب وحتى وصلت إلى أطراف ديمونة حيث المفاعلات النووية، ماهو إلاّ إشارة تدل على أن النصر قريب، وخاصة عند تفكك الكيان الصهيوني في جيشه وكذلك الرعب والهلع الذي اصاب المستوطنين وهروبهم إلى الملاجئ. مما أحدث نقلة نوعية بوقف الهجرة الى إسرائيل والتفكير بالهجرة المعاكسة إلى الدول التي قدموا منها، والتظاهرات التي استمرت لأسابيع في تل أبيب ضد نتنياهو والقوانين الجديدة، وهذه الظاهرة الأولى من نوعها ضد نتنياهو رئيس الوزراء وحزب الليكود الاسرائيلي.

و مما تقدم نجد أن هناك مؤشرات تدلل على أن هذا الكيان العنصري الفاشي لن يدوم طويلا لأسباب منها:ــ

تفكك المجتمع الاسرائيلي بين الطوائف الدينية والمجتمعية وظهور معارضة شعبية في تظاهرات جرت وتجري في تل أبيب ضد خطط نتنياهو لتغير النظام القضائي والمظاهرات تجري أسبوعيا. وانضم عدد من قوات الاحتياط إلى المتظاهرين. وهذا مؤشر خطر يدلل على أن رئيس الوزراء مهدد بنهاية حكومته.

كما أن الاقتصاد الاسرائيلي والذي يعتمد على المساعدات المالية من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك المملكة البريطانية المتحدة، أصبحت تشكل عجزا في الوضع الحالي وذلك بسبب ان الامبريالية اليوم تعاني من وضع اقتصادي يعتمد على المديونية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

كذلك اشتداد المقاومة الفلسطينية وأستخدام أسلوب الكفاح المسلح في الانتفاضة الأخيرة في مدن الضفة الغربية، بعد أن كانت الحجارة هي السلاح، وأصبح الان السلاح الفردي هو الكلاشنكوف والمسدس والسلاح الأبيض، من أجل وضع حد لإعتداءات المستوطنين والجيش الاسرائيلي، مما أربك سكان المستوطنات لخوفهم على حياتهم من المقاومين الفلسطنين. وأصبحوا يفكرون بالعودة إلى بلدانهم من حيث أتوا إلى فلسطين، أي الهجرة المعاكسة إنقاذاَ لحياتهم وعوائلهم.

كما أصبحت المقاومة في غزة وجنوب لبنان تملك من السلاح المتطور (الصواريخ) بعيدة المدى التي تصل إلى المدن في الأرض المحتلة مثل تل أبيب والقدس ويافا وحيفا والجليل وعسقلان وبئر السبع. ووصل مدى هذه الصواريخ إلى 75 كم و80 كم. وشاهد العالم هذه الصواريخ تتساقط فيدب الرعب في سكان المدن فيهرعون إلى الملاجئ، ولن تحميهم صواريخ الباتريوت.

إضافة إلى توقف الهجرة الى فلسطين من دول اوربا بسبب هذه الأوضاع غير المستقرة للعيش بسلام وأمان. بل على العكس أصبحت الهجرة المعاكسة أي العودة إلى بلدانهم للحفاظ على حياتهم.

ومن هنا يمكن أن نستنتج أن آخر دولة استيطان في العالم وهي دولة الكيان الصهيوني لن تكمل مئويتها، والنصر سيكون لفلسطين ولشعبها العربي،

وأخيرا استعير مقطع من نشيد ثوري: باسم الشعب الملحمة سنقولها أنت وأنا فلسطين والقدس ستبقى لنا.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

يبدو من جملة التصريحات الأمريكية الأخيرة والتطورات الإقليمية المتلاحقة، إلى أن الإدارة الأمريكية، تدفع الأوضاع السياسية في المنطقة للاصطفاف الأمني والسياسي ضد إيران، سواء شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربا عليها أم لم تشن.. وبطبيعة الحال فإن هذه التصريحات ليست بعيدة عن رؤية أمريكا الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وبالذات بعد حرب تموز بين إسرائيل ولبنان.. إذ تبلورت الرؤية الأمريكية باتجاه صياغة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بحيث تتحول إسرائيل إلى كيان طبيعي في المنطقة وله علاقات سياسية واقتصادية مع دول المنطقة، وتتحول إيران إلى العدو القادم في منطقة الشرق الأوسط. وما نود أن نثيره في هذا المقال، هو أن دول المنطقة مع وجود تحفظات سياسية على سياسات إيران في المنطقة، إلا أنه لا مصلحة لدول المنطقة للاصطفاف مع أمريكا في هذه المعركة، سواء كانت سياسية أم أمنية أم عسكرية.. المنطقة بأسرها لا تتحمل حربا جديدة، وعلى دول المنطقة أن تلتفت إلى هذه الحقيقة، ولا تنجرف وراء المشروع الأمريكي الذي سيكلف المنطقة الكثير من الأعباء على الصعد كافة.. فليس لدينا مصلحة في المنطقة، بعزل إيران أو التحريض عليها، أو خلق عداوة بيننا وبينها. و وجود ملفات عالقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، ينبغي أن لاتسوى على حساب منطقتنا وأمنها ومصالحها.. فنحن فضاء جغرا فوسياسي واستراتيجي، له مصالحة وحساباته،وينبغي أن تعمل أطراف المنطقة جميعا من أجل هذه المصالح.. فلنا مصالحنا الاقتصادية والسياسية مع أمريكا، كما لنا مصالحنا الاقتصادية والسياسية مع إيران. ومصلحتنا الاستراتيجية تقتضي تجنيب المنطقة بأسرها من أية مواجهة عسكرية، لأننا سندفع فاتورتها بشكل أو بآخر.. ونحن نعتقد إن أية مواجهة عسكرية بين أمريكا وإيران، ستلقي بظلالها السلبية والخطيرة على المنطقة. لذلك ينبغي أن تتبلور الجهود الدبلوماسية والسياسية لدول المنطقة، من أجل إزالة عناصر التوتر والتخفيف من احتمالات المواجهة العسكرية..

وهناك دروس وعبر عديدة مستفادة، من طبيعة التحولات والتطورات الدراماتيكية التي تجري في المنطقة اليوم. ولعل من أهل هذه الدروس هي: حينما يتخلى العرب عن قضاياهم المركزية لعوامل ذاتية أو موضوعية لا فرق على مستوى النتيجة والمحصلة النهائية. ستأتي أطراف إقليمية أو دولية أو هما معا لملء هذا الفراغ وحمل راية تلك القضايا المركزية. وبطيعة الحال وبصرف النظر عن دوافع هذه الأطراف فحمل هذه الراية وملء الفراغ، فإن هذا الجهد المبذول ستكون له انعكاسات استراتيجية وسياسية كثيرة على المنطقة. سواء على مستوى ميزان القوى أو قدرة هذه الأطراف على حماية مصالحها الاستراتيجية والسياسية في المنطقة.

وقصتنا نحن العرب مع إيران في هذه المنطقة خلال العقدين الماضيين، لاتخرج عن نطاق الدرس المذكور أعلاه.

فحينما تراخت الإرادة العربية تجاه القضية المركزية للعرب والمسلمين وهي القضية الفلسطينية، عملت إيران لاعتبارات عديدة على حمل هذه الراية، واستطاعت بفعل ذلك أن تحقق لها نفوذا مشهودا وواضحا في هذه الساحة المحورية في المنطقة. والتخلي العربي هنا لا يعني توقف الدعم المادي للفلسطينيين، وإنما غياب المشروع السياسي العربي المتكامل تجاه هذه القضية.

فكانت النتيجة الطبيعية لهذا الغياب غير المبرر، أن جاءت أطراف أو طرف واحد وبلور لمجاله الاستراتيجي رؤية ومشروع عمل على تنفيذه وترجمته إلى الواقع العربي خلال مدى زمني متوسط.

وما جرى في فلسطين جرى في العراق على نحو آخر. ففي الوقت الذي عملت الدول العربية جميعها للوقوف المطلق مع النظام العراقي دون ال عمل على فتح قنوات تواصل وتعاون مع المعارضة السياسية العراقية. فكانت النتيجة حين سقوط نظام صدام حسين، أن الدول العربية عبر أجهزتها المختلفة تفتقد للعلاقات السياسية المتميزة مع أقطاب المعارضة العراقية. في مقابل إيران والتي عملت عبر أجهزتها ومؤسساتها المختلفة، لنسج علاقات عميقة مع العديد من الأطراف السياسية العراقية، ووظفت في سبيل ذلك الكثير من الامكانات والقدرات.

وتوضحت النتيجة النهائية لكل ذلك بعد مرحلة سقوط نظام صدام حسين. حيث التراجع الملحوظ والنوعي للدول الع ربية في المشهد السياسي العراقي، والتزايد النوعي للتأثير الإيراني على هذا المشهد وخياراته الاستراتيجية والسياسية.

وبدل أن تقرأ هذه الحقيقة قراءة سياسية، تحفز الدول العربية لبلورة مشروع عربي متكامل تجاه الشأن العراقي بكل تفاصيله وشؤونه، حاولت بعض الدوائر أن تقرأه قراءة مذهبية، نمطية، تخفي حقيقة التقصير العربي الفادح تجاه قضايا مركزية وحيوية في المنطقة. ونحن هنا لا نود أن نتحدث عن دوافع إيران في ملء هذا الفراغ، أو ن س جعلاقات متميزة مع الشأني الفلسطيني والعراقي، وإنما نود القول : أن الدول بطبعها نزاعة لمراكمة مكاسبها السياسية والاستراتيجية وتقوية نفوذا في خارج حدودها وبالذات في المنطقة التي تشكل عمقا استراتيجيا لأمنها القومي.

أقول أن الدول بصرف النظر عن أيديولوجيتها ومشروعاتها الإقليمية، تتجه نحو حماية أمنها القومي وتطوير مصالحها في المنطقة التي تعيش فيها. ونحن هنا لا نتحدث عن دوافع إيران في ذلك، وإنما نتحدث لماذا غاب العرب كل هذه السنين عن هذه الملفات. الغياب الاستراتيجي والسياسي الحقيقي، وليس الدعم المادي الذي يفتقد الرؤية الاستراتيجية. لماذا لم تسعى الدول العربية على بناء علاقات سياسية متميزة مع حكام العراق الجدد، ولماذا لم تطور علاقاتها المتميزة مع الحركات الفلسطينية المختلفة. وينبغي أن ندرك أن التقصير العربي الواضح على هذا الصعيد هو الذي أدى بشكل أو بآخر إلى تعاظم النفوذ الس       ياسي لإيران. ونحن هنا نحذر من تلك الأقلام والآراء، التي تعمل على إخفاء هذه الحقيقة، والتأكيد على المسألة المذهبية كوسيلة لخلط الأوراق وإدخال المنطقة مجددا في نزاعات وصراعات لا تخدم الاستقرار السياسي لأوطاننا، ولا تخدم في ذات الوقت الأمن الاستراتيجي للمنطقة.

أقول ذلك من أجل أن أوضح حقيقة أخرى مرتبطة بهذا الموضوع، وهي : أن إيران كجغرافيا وكدولة ليست طارئة على منطقتنا، وإنما هي جزء أصيل من هذه المنطقة. ووجود خلافات سياسية أو استراتيجية مع خياراتها، لايعني تجاهلها أو التغافل عن حقيقة وجودها الأصيل في الم     نطقة. لذلك فهي ليست أسط      ولا حربيا متحركا في مياهنا الإقليمية وإنما هي أحد جيراننا. لذلك ينبغي أن نعمل وبالذات على ضوء التطورات السياسية الأخيرة، على فتح قنوات حوار مع الدولة الإيرانية. لأن غياب هذا الحوار وغياب التفاهم الاستراتيجي بين العرب وإيران في المنطقة، سيكلف الجميع الكثير من الخسائر على الصعد كافة.

ومن الضروري هنا القول: أن المنطقة بأسرها لا تتحمل مواجهات عسكرية جديدة، وليس من المنطقي أن تبدد ثروات المنطقة مجددا في حروب أو صدامات عبثية.

لذلك ومن أجل الروابط المشتركة التي تربطنا مع إيران، ومن أجل أمن منطقتنا واستقرارها السياسي، ومن أجل استمرار مشروعات التنمية الوطنية، ومن أجل الحفاظ على ثرواتنا الوطنية، ومن أجل إنهاء مشاكل المنطقة مع إيران، أقول من أجل كل ذلك نحن أحوج ما نكون اليوم وفي ظل هذا الصخب السياسي والإعلامي، أن نفكر ونعمل من أجل بلورة مبادرة سياسية عربية أو خليجية تستهدف فتح حوار جدي واستراتيجي مع إيران حول الموضوعات المشتركة بين الطرفين. وينبغي أن لا نندفع وراء المشروع الأمريكي على هذا الصعيد. فالولايات المتحدة الأمريكية ومن أجل مصالحها الاستراتيجية والحيوية، تعمل على توتير الأجواء وتضخيم الخطر الإيراني.

ولكن يبدو ومن خلال المعطيات السياسية المتوفرة، ليست لنا نحن الدول العربية وبالخصوص دول مجلس التعاون الخليجي، مصلحة في توتير علاقتنا مع إيران. بل على العكس من ذلك تماما. حيث أن مصلحة المنطقة الاستراتيجية، تتجسد في فتح قنوات حوار حقيقية مع إيران للتفاهم حول ملفات المنطقة الأساسية.

ومن حقنا كشعوب خليجية أن نقلق من طبيعة الأحداث وتداعياتها التي تعيشها المنطقة على أكثر من صعيد. ولعل من أهم الظواهر السياسية التي تزيد من قلقنا وهواجسنا هي الظواهر التالية:

. الأحداث المتسارعة في العراق، وطبيعة تطوراتها ومآلاتها، وهي أحداث وتطورات مفتوحة على كل الاحتمالات. وإن ما يجري في العراق يثير قلقنا في الخليج على أكثر من صعيد.

. القدرة النووية الإيرانية، وطبيعة التطورات الملازمة لها إقليميا ودوليا.

. نذر المواجهة والتصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

. ظاهرة الإرهاب والعنف التي تتغذى من أحداث العراق. وكثيرة هي المؤشرات على أن هذه الظاهرة لا زالت قائمة وقادرة على إرباك الأوضاع الأمنية في المنطقة.

ولكن كل هذه الظواهر، لا تؤسس لخيار التوتير والتصعيد في المنطقة. وإنما على العكس من ذلك تماما. حيث أن جميع هذه الملفات بحاجة إلى معالجة سياسية، لا يمكن تحقيقها بالمواجهة المفتوحة، بل بفتح قنوات حوار وتفاهم مع إيران.

فالأمن في منطقة الخليج، ولاعتبارات استراتيجية وإقليمية ودولية، هو أمن سياسي بامتياز. لذلك فإن تصعيد المواجهة بين أي طرف من أطراف المعادلة، هو ضد أمن واستقرار المنطقة. وإن تحويل المنطقة إلى ترسانة عسكرية متطورة، لا يخدم أمن المنطقة، بل يستنزف إمكاناتها وثرواتها. والمنطقة بأسرها بما فيها إيران أحوج ما تكون إلى توظيف إمكاناتها المالية في مشاريع البناء والتنمية، وليس شراء الأسلحة وتخزينها.

لهذا فإننا في المنطقة بحاجة إلى مقاربة سياسية جديدة في طبيعة تعاطينا مع التطورات السياسية القائمة في المنطقة. وهذه المقاربة قائمة على العناصر التالية :

.   رفض تطييف الأحداث السياسية المتشابكة، فهذا الاختلاف والتناقض، هو اختلاف وتناقض بين خيارات سياسية ومصالح حيوية، وليس بين طوائف ومذاهب.

ومن الضروري أن ندرك أن تطييف الصراع السياسي القائم في المنطقة اليوم، يضر باستقرار منطقتنا ويهددنا على أكثر من صعيد. ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن توتير المناخ المذهبي، لا يخدم إلا التوجهات المتطرفة التي لها مصالح وأجندة تختلف وتتناقض مع مصالح وأجندة الحكومات السياسية في المنطقة، وكذلك مع شعوب المنطقة التي تنشد الأمن والاستقرار.

فالتوتير الطائفي هو البيئة الفضلى، لكي يستمر المتطرفون في كسب الأنصار والقيام بعملياتهم الإرهابية. فتسعير النزعات الطائفية، لا يجلب أمنا، ولا ينهي مشاكل المنطقة، بل يزيدها تعقيدا وتشابكا وصعوبة. وإذا كانت هناك مخاوف من مشروعات إيران الإقليمية، ينبغي أن لا يتم التعامل مع هذه المخاوف بتأجيج المشاعر المذهبية في المنطقة. لأن هذا التأجيج يضر بنسيج المنطقة الاجتماعي والسياسي، قبل أن يضر غيرها على الصعد كافة. والشيعة في المنطقة هم مواطنون أصليون وتهمهم مصالح أوطانهم أولا وأخيرا.

.   صياغة مبادرة خليجية وتصور استراتيجي خليجي، يستهدف تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع إيران. فليس لنا مصلحة في معاداة إيران، ومشاكلنا معها ينبغي أن تعالج بالوسائل السياسية والدبلوماسية، وليس بالتصعيد الذي يحول المنطقة إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي. فالأمن فمنطقة الخليج، يحتاج إلى مشروع سياسي – خليجي، يزيد من فرص التفاهم، وليس إلى التصعيد الإعلامي والسياسي مع إيران أو غيرها.

وإننا هنا ندعو إلى بناء منظومة سياسية وأمنية خليجية، تشترك فيها إيران بوصفها دولة مطلة على الخليج. فالشراكة الاستراتيجية بيم كل الدول المطلة على الخليج، هو السبيل إلى ضمان أمن الخليج. وليس من مصلحتنا الآنية والمستقبلية أن ن تناغم مع دعوات التصعيد والمواجهة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.

وخلاصة القول : أن أحداث المنطقة متسارعة ومتشابكة، ولا يمكن الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها بالمزيد من الصدام والمواجهة، وإنما نحن بحاجة إلى مبادرة سياسية – دبلوماسية، تستهدف خلق إطار للحوار والتفاهم الاستراتيجي بين دول المنطقة وإيران.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

مالذي يحول بين الليبيين وتحقيق خطوات حقيقية خارج دوامة هذه المراحل الانتقالية التي أعقبت تداعي الدولة الليبية، وتحولها فعليا إلى إقليم ممزق متباعد، بفعل عوامل متعددة؟... وتظل معادلة تحقق الاستقرار في ليبيا ترتبط بنجاح العملية الديمقراطية حسب رؤية المجتمع الدولي، وذلك عبر إنتخابات رئاسية وبرلمانية، توحد المؤسسات وتسبغ الشرعية عليها وترسي أسس الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتوحد المؤسسة العسكرية والأمنية، ويمكن حصر معوقات الانتقال نحو الديمقراطية في ليبيا في النقاط التالية:

1/ عدم الوصول إلى توافق حقيقي:

حيث يؤدي عدم وجود التوافق في الآراء بين الجهات المجتمعية والسياسية الفاعلة في ليبيا حول إتجاه المستقبل السياسي والاقتصادي للبلد إلى أعاقة نجاح الانتقال إلى الديمقراطية، مابين سلطتين تنفيذيين وسلطتين تشريعيتين ومليشيات تتوزع في طول البلاد وعرضها مع مشروع مؤسسة عسكرية متعثر، وفي الكثير من الحالات يتضح إهتمام اللاعبين السياسيين بتوطيد سلطتهم أكثر من إهتمامهم ببناء المؤسسات الديمقراطية.

2/ التدخل الإقليمي والدولي:

بلا ريب ولا جدال يساهم التدخل الإقليمي والدولي بشكل كبير في ليبيا في إعاقة نجاح الانتقال الى الديمقراطية،حيث لعب هذا التدخل السافر أدواراً في كل أطوار الصراع ولم يزل، وحيث مازالت الجهات الخارجية القوية تسعى إلى التأثير على نتيجة التحولات السياسية، وغالباً ماتكون أكثر إهتماما بتعزيز مصالحها الخاصة بدلا من دعم القيم والممارسات الديمقراطية.

3/ الضعف المؤسسي:

أدى التشظي والانقسام السياسي ودورات العنف المتعاقبة في ليبيا الى ضعف المؤسسات، وبالتالي تقويض سيادة القانون، مما يجعل من الصعب إقامة ديمقراطية مستقرة، وغالباً مايكون الفساد أحد أعراض ضعف المؤسسات، ويؤدي كما في الحالة الليبية إلى تقويض ثقة الناس في العملية الديمقراطية.

4/ الإنقسامات القبلية والجهوية والعرقية:

حيث أدت هذه الانقسامات في ليبيا إلى تعميق الشرخ وتباعد الشقة بين أبناء الوطن الواحد، وبالتالي إلى عدم توافق في الآراء حول القيم والممارسات الديمقراطية، وفي الكثير من الأحيان أدت هذه الانقسامات إلى دورات من العنف والصراع الأهلي، الأمر الذي يزيد من صعوبة إقامة ديمقراطية مستقرة.

5/ ضعف المجتمع المدني:

بلاشك أن المجتمع المدني في ليبيا يتسم بالضعف الشديد، مما يجعل  من الصعب محاسبة المسؤولين الحكوميين وتعزيز القيم والممارسات الديمقراطية.  إن وجود مجتمع مدني قوي ضروري لنجاح الانتقال إلى الديمقراطية، حيث يمكن أن يوفر رقابة على سلطة الدولة ويساعد على ضمان استجابة الحكومة لاحتياجات مواطنيها.

9/ عدم تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة:

هذه المصالحة والتي تتطلب مجهودات كبيرة في الحالة الليبية، كما تتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية لتحقيق هذا الهدف، ولإتخاذ هذه الخطوة الكبيرة، فإن الأمر بلاشك يتطلب ؛ من الأطراف المتنازعة الإقرار بالأخطاء الماضية والإعتراف بالمسؤولية عن الجرائم، كذلك على هذه الأطراف المتنازعة الإقرار بحقوق الجميع في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كما يجب أن تتم المساءلة القانونية للمسئولين عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الفساد، كما يجب على الأطراف المتنازعة تقديم التعويضات للضحايا وعوائلهم، كما يجب على الأطراف المتنازعة العمل على إعادة بناء المؤسسات المدمرة في سبيل تحقيق الاستقرار والتنمية، على أن يتزامن كل ذلك مع تقديم الدعم الدولي الحقيقي والفاعل من قبل المجتمع الدولي  بدعم لاشائبة أو شبهة فيه  لعملية المصالحة الوطنية الشاملة، عبر تقديم المساعدات المالية والتقنية، والدعم السياسي والدبلوماسي.

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب وأكاديمي ليبي

وكأنه مكتوب على الشعب الفلسطيني العربي المسلم أن يدفع من أرضه ودماء شهدائه وعذابات أسراه وجرحاه والمشتتون في أصقاع الأرض ثمن انتمائه العروبي والإسلامي، ومع ذلك وبالرغم من فداحة الثمن الذي دفعه ما زال متمسكاً بعروبته ومعتزاً بإسلامه ومدافعاً عن مقدساته. وما يعزز صموده والتزامه بانتمائه العربي أن كل ما تعرض له تتحمل مسؤوليته أنظمة حكم ونخب فاسدة وليس الشعوب العربية التي ما زالت تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وتقف الى جانب الشعب الفلسطيني.

قبل أقل من شهر وتحديداً في 15 مايو أحيا الفلسطينيون ذكرى النكبة حيث أدت هزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية إلى تشريد غالبية الشعب وقيام دولة الكيان الصهيوني على مساحة 78% من أرض فلسطين، وهذه الأيام يستحضر الشعب الفلسطيني ذكرى النكسة أو هزيمة أخرى، حرب حزيران 1967، التي أضاعت بقية فلسطين بالإضافة الى أراضي عربية أخرى.

بالرغم من هاتين الهزيمتين استنهض الشعب الفلسطيني قواه وفجر ثورة تحرر وطني في منتصف ستينيات القرن الماضي على أمل أن تنجده الأنظمة العربية وتعوضه عما سببته له من مصائب في حروبها السابقة، إلا أن الأمور سارت على عكس ما كان مأمولاً واستمرت غالبية الأنظمة في خيانتها بل وتآمرها على القضية الوطنية الفلسطينية.

فبعد خمس سنوات من انطلاق الثورة الفلسطينية وقعت أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970 وتعرضت الثورة الفلسطينية لعملية تصفية على يد الجيش الأردني، ولم تحرك الأنظمة العربية ساكناً إلا بتدخلات للوساطة قام بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قبل أيام من وفاته نجحت في إخراج القائد أبو عمار ومجموعة من القيادات من الأردن إلا أنها لم توقف المجزرة حتى تم تصفية الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن وما تبقى من مسلحين انتقلوا لسوريا ولبنان.

وخلال تفجر الحرب الأهلية في لبنان مجدداً عام 1974 حيت وقفت الثورة الفلسطينية الى جانب القوى الوطنية اللبنانية في مواجهة قوى مسيحية متحالفة مع إسرائيل لم تقف الدول العربية موقف المتفرج فقط بل أرسلت سوريا قواتها لدعم القوى المسيحية ودخلت قواتها في مواجهات شرسة مع القوى الوطنية اللبنانية وقوات الثورة الفلسطينية، بالرغم من المجازر التي تم ارتكابها في مخيم تل الزعتر والقتل على الهوية الخ.

وفي عام 1982 قام الجيش الإسرائيلي بهجوم واسع على جنوب لبنان ثم امتد للعاصمة بيروت حيث قام باحتلالها وهو أول احتلال لعاصمة عربية تم خلالها تدمير كثير من البنى التحتية وقتل  وجرح آلاف المواطنين من فلسطينيين ولبنانيين، ودافعت قوات الثورة الفلسطينية متحالفة مع القوى الوطنية لمدة 88 يوماً، وكانت قوات سورية مرابطة في لبنان ولكنها لم تحرك ساكناً، ولم تتحرك الحكومات العربية إلا كوساطة فاشلة إلى أن تدخلت الإدارة الأمريكية وأرسلت مبعوثاً عنها وهو فيليب حبيب و توصل لتفاهمات لخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، حتى مجازر صبرا وشاتيلا لم تحرك لا الأنظمة ولا الشعوب العربية، والمظاهرة الوحيدة التي خرجت كانت في تل أبيب من إسرائيليين معارضين لشارون وحربه على لبنان.

وخلال حرب الخليج الثانية 1991 تم اتهام الرئيس ياسر عرفات والفلسطينيين عموماً بمساندة صدام حسين وتأييدهم احتلاله للعراق، وهي اتهامات غير صحيحة وكان الهدف منها استكمال مخطط التآمر على الثورة الفلسطينية وحصارها مالياً وسياسيا لتطويعها لمخططات التسوية السياسية التي انطلقت بالفعل في مدريد  في أكتوبر من نفس العام، كما استغلت واشنطن وتل أبيب حصار منظمة التحرير وتواطؤ الأنظمة العربية لتمرير قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يلغي قرار سابق صدر عام 1975 يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

وحتى بعد التزام منظمة التحرير بعملية التسوية السياسية و بالمبادرة العربية للسلام وتهرب إسرائيل منهما واستمرار العدوان الصهيوني ومشاريع الاستيطان واقتحام الأقصى الخ واصلت الأنظمة العربية صمتها بل وطبع بعضها مع إسرائيل قي موجة جديدة من التطبيع، ومن لم تطبع رسمياً تطبع بطرق أخرى لا تقل خطورة عن التطبيع الرسمي كما هو الأمر مع دولة قطر.

لا نبرئ الطبقة السياسية الفلسطينية من المسؤولية عما آلت اليه القضية، ولكن لو لم تتدخل الجيوش العربية عسكرياً وتنهزم أمام دولة الكيان ولو لم تتدخل الأنظمة العربية بالشأن الفلسطيني جاهدة لتجنيد وتوظيف فصائل وأحزاب لحدمة مشاريعها وأجندتها، ولو على أقل تقدير التزمت بتعهداتها وقراراتها في القمم العربية والإسلامية وبالمبادرة العربية للسلام، ما وصل خال القضية الفلسطينية وحال القدس الى هذا الوضع الخطير.

والسؤال ماذا بعد، وما الذي تخطط له الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني بعد أن أفشل التطبيع مبادرتهم للسلام؟

***

ا. د. ابراهيم ابراش

حتى في سياستنا نختلف نحن العراقيين عن شعوب العالم الأخرى، فحزبنا لا يريد له شريكا في (الملك)، ومن لم يكن معنا فهو علينا، والسياسي عندنا يعتقد أنه وحيد الله العالِم بأسرار السياسة والكون، وكل الآخرين جهلة أميين، والوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة والعزف على الربابة والأكل مع (الذئابة) لكنه ممكن أن يصبح لواءً في الجيش أو وزيراً سياديا للتحشيش أو شيخا للدراوش.

والأنكى من ذلك أن الشعب نفسه لا يعترض على ذلك، بل جاهد وناضل وقاتل لكي يصبح هذا السياسي بمركز الأفضلية، ويتبوأ المسؤولية، لكي يخدم (القضية) لا قضية شعب عانى الويلات، ووطن أدخله الحكام الأغبياء في عالم المتاهات، وإنما ليخدم حزبه أولا، والمخدوعين به ثانيا، تحت بواعث الطائفية والمناطقية والمذهبية والقومية، والأشد نكاية أن هذا الاعوجاج صار منهجا يتبعه السنة، والشيعة، والعرب، والأكراد، والمسيحيين، والرأسماليين، والشيوعيين، والعلمانيين وللاأدريين،  والملحدين، وحتى الموسيقيين والمغنين والعازفين، كل (يحضن) ليلاه، ولا يدري بالليالي السود التي تمر على البلاد والعباد.

ووفق توافق (الملاوصة) والمحاصصة صار من اللزوم أن يكون رئيس الجمهورية كرديا، ورئيس الوزراء شيعيا، ورئيس مجلس النواب سنيا، لا فرق بين أن يكون خائنا أو وطنيا، عميلا لدول الجوار أو صنميا. وبناء عليه يتم تقسيم حقائب الوزارات والسفارات والإدارات العامة والمناصب الهامة، والمواقع المربحة الجامعة و(أم الخبزة اللامة) دون التفات إلى الخبرة والكفاءة والممارسة والبرستيج (prestige)، يكفي أنه يعرف كيف يستخدم (الإبريج) (كلمة دارجة وأصلها إبريق).

بل يكفي لمن كان يشتغل بمنصب معاون سائق باص أجرة (سِكن) باللهجة الدارجة في خط سير علاوي الحلة/ الكاظمية أن يدير وزارات الخارجية والداخلية والاتصالات والنقل والسياحة والثقافة والآثار، وممكن أن ينجح في وزارة النفط أو وزارة المالية؛ ويتحكم بنسب المياه والأمطار بوقت واحد، وتملأ صوره الجرائد.

هذا حالنا منذ أن كان السلطان العثماني يتربع على خيرات بلدنا وينهبها باسم الدين، تؤيده الملايين، ونفسه في حقبة سيطرة أبو ناجي (الإنكليز) على مقاليد البلد، ولغاية عام 1921؛ تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة؛ التي لم تجد بين رجالها من كان يصلح أن يقودها، فاستوردت ملكا من دول الجوار، ومنه وصولا إلى عام 1958؛ الذي عرف بعام التحرير، ثم عام 1963، وبعده عام 1968، استمرارا إلى ما بعد طلة المتعجرف الهمام ذو الوجه القبيح العم سام عام 2003.

أما بعد 2003 فقد جمع السياسيون والنواب والحاكمون والمدراء العامون والمحافظون المقيمون والوافدون جميع خبائث تلك التواريخ، وأضافوا لها ما اكتسبوه من خبرة في بلاد الغربة، ومعاشرة العرجة والجربة، وحملوا شوكاتهم ليأكلوا الكعكة ولكنهم لم يعرفوا استخدامها لأنهم لا يجيدون فن (الأتاكيت) (The art of etiquette) ففضلوا الأكل بأيدهم، فهو أدسم وأهضم، يسمح للقمة أن تكون ملء الفم، أما الشعب فبقي طوال هذا التاريخ، ولغاية هذه الساعة ينتظر أن يشبعوا، ويكتفوا، عسى أن يتركوا له الفتات؛ وهو يعاني المأساة والويلات، ولكنهم كانوا يشغلونه عن المطالبة بحقوقه بـ(الكلاوات) والأناشيد الوطنية، وشعارات العروبية، والدروشة واللطميات، فعاش في سبات وخلَّف الصبيان والبنات، كل هذا في بلد علَّم العالم كله الثقافة و(الترافة) والشياكة والأناقة والقراءة والكتابة والعجلة والعزف على (الربابة).

بينما نجد في مكان آخر من زوايا العالم القصية دولة صغيرة فتية اسمها جمهورية موريشيوس، تزهو بحلة عروس، وهي مجموعة جزر تقع وسط المحيط الهندي، وتعرضت مثلنا للاحتلال الأجنبي، فاستعمرها الفرنسيون والبريطانيون، واستقلت عن بريطانيا عام 1968، يبلغ عدد سكانها 1,078,000 نسمة، وكانت قد انتقلت إلى النظام الرئاسي عام 1992.

فيها امرأة عالمة كبيرة أسمها أمينة غريب فقيم مواليد 1959، وهي مسلمة من أصول هندية، نالت دكتوراه الكيمياء العضوية بجامعة إكستر البريطانية وعادت إلى بلادها عام 1987. عينت رئيسة لجامعة موريشيوس وعميدة لكلية العلوم، واختيرت لتكون قائدة لأول مشروع بحث إقليمي لدراسة النباتات الطبية والعطرية من المحيط الهندي، بتمويل من الصندوق الأوروبي للتنمية ورعاية لجنة المحيط الهندي بين عامي 1987 و1992. ألفت أمينة فقيم أكثر من عشرين كتابا وثمانين بحثا في علوم الأحياء. وحصدت الكثير من الأوسمة والجوائز، منها جائزة لوريال من منظمة الأمم المتحدة للتريبة والعلوم والثقافة (اليونسكو) في أفريقيا والعالم العربي.

انتخبت رئيسة للمجلس الدولي للاتحاد العلمي المكتب الإقليمي لأفريقيا للمدة من عام 2011 ولغاية عام 2014، وعملت في مجلس البحوث بموريشيوس مديرة للبحوث 1995-1997، وعضوا منتدبا في المركز الدولي للبحث والابتكار.

لم تختر أمينة فقيم أن تعمل في السياسة، ولم تختر أن تكون رئيسة للبلاد بل وجدت نفسها مرشحة لمنصب الرئيس بعد أن أعلن رئيس الوزراء أنيرود جوغنوث أن البلاد تريد شخصا لا علاقة له بالسياسة وله مصداقية محلية ودولية لقيادتها. ولذا قرر البرلمان بالإجماع في حزيران 2015 تعيينها بمنصب رئيس البلاد، التي يشكل المسلون أقلية من سكانها لأن الأعم الأغلب من سكانها هم مسيحيون، فلم يعترض أحد منهم، ولم يطالب بتنحية الرئيسة المسلمة.!

والنتيجة أن بلادها بفضل وطنيتها وحكمتها وعلميتها وتفانيها في العمل، أصبحت إحدى أغنى دول أفريقيا، إذ يبلغ دخل الفرد فيها نحو 19600 دولار سنويا، بينما انسحقت الطبقة العراقية الوسطى وتحول المجتمع العراقي إلى طبقتين: سياسية كترفة إلى حد الإفراط، وجماهيرية معدمة إلى حد الإملاق، ولا زالت البلاد تقاد من قبل أكثر من رئيس وأكثر من رئيس مجلس وزراء وأكثر من رئيس مجلس نواب فضلا عن مئات الأحزاب التي جلبت لنا الويل والخراب وصادرت الشبابيك والأبواب، وإذا بقيت في السلطة سوف تنهب الماء والزرع والتراب.

***

الدكتور صالح الطائي

الدين هو الطاعة، وله معنيان دين ودَين. والدين نظام اعتقادي ايديولوجي تتمثل فيه الرؤية الكونية، ثقافي سلوكي ممارس، وهو امانة عند الأنسان كحياة وعدالة، وهو حزمة من السلوكيات والممارسات الاخلاقية في المجتمعات البشرية، ومجموعة نصوصه السماوية مقدسة، ومنها أرضي كما يعتقدون وجد منذ القِدم، ومع ذلك لا يوجد اجماع علمي الى اليوم حول التعريف العلمي للدين، ولا زال الدين اللغز المحير للوجود،

ودَين، ذمة من شخص لأخر مطلوب تسديده بوقت معين حسب التصديق والتوثيق الذي كتب فيه، العقد.

والانسان كحضارة وضع الله في ماضيه وحاضره ومستقبله درس عميق حين منحه الفكر في بحث مشاكله لاعادة النظر في كل ما قامت به الانسانية من تجارب الماضي، ليفتح له ابواب التفكير والتغيير، ومهد له بثورة فكرية تجعله يعيش بامان واطمئنان وكفاية وعدل فعلام ظلم الاخرين ان كان الحاكم يعتقد ويخاف الله، يقول الحق:"اما تخافون من ربكم يوما عبوسا قمطريرا (يوماً شديد البلاء)حتى اعد للظالمين عذابا اليما، فافرد له سورة خاصة من قرآنه ليحذره من ظلم الانسان الأخر،

الأسلام كدين جاء موحداً كما يقول التاريخ، لأنبياءِ ورسل قدر عددهم ب24 نبياً ورسولاً، بعقيدة واحدة هي الاسلام كما ذكر في النص المقدس، رغم أختلاف النصوص المقدسة من كتاب لأخر ومن نبي لأخر، وبازمان متباعدة، أولهم ابراهيم الذي قال:"وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، الانعام 79"، أي مجانباً للشرك مسلماً موحداً مستقيماً، وأخرهم محمد بن عبدالله:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً المائدة3 "، أي من نِعَم الله عليكم ان لا تحتاجون لاحد بعد ان دخلتم في الاستقامة والعدل (شرط التطبيق)، فأين انت ايها الانسان المكلف بالتطبيق من امر الله، تقتل وتنهب وتُفسد وتدعي الدين، واين الدين من هذا الانسان الشرير، الذي يفرق بين الأديان استجابة للمذهبية الوهمية التي لا يعترف بها الدين ولماذا لا ينتقم الدين من مذاهب التفريق ضمانا لأزليته.

اراد الله بالدين تحقيق الحق والعدل بين البشرفلا ظلم ولا ظالم بين المؤمنين، بتشريعات متعددة لكنها متساوية في التنفيذ ضمانا للعدل المطلق، بوصايا واحدة في كل الديانات، فهل يحق لنا ان نقسمه الى اديان بتشريعات مختلفة، واراء فقهية متضاربة في التشريع، وهي واحدة لاتفريق بينهم وبينها، وهل تم الالتزام بها؟ لا، فما فائدة دين نزل على من لم يؤمنوا به، ولم يستجيبوا له. فأصبحنا مفرقين أكثر من الذين لا دين لهم به يعتقدون،

فهل سنبقى نتعايش مع نظريات الوهم والتناقض مع الحقيقة "المهدي المنتظرمثلاً والوعد والوعيد "، ام تنفيذ ما يستحق منا له من تثبيت،.فهل تستحق السلطة ان تتخذ منه وسيلة للتفريق والأستيلاءعلى اموال الشعب بلا قانون؟ وهل من قسموه الى مذهبين "شيعة وسُنة " وتوابعهما جاؤونا بنص مكين، أم كانوا مفرقين من اجل خدمة السلطة لا الدين، لا بل اجزم انهم لم يؤمنوا به منذ بداية نزوله كدين بل تستروا به من اجل السلطة والمال ولا غير، كانوا انبياء الله مغفلين حينماعتقدوا انهم سيصنعون شعوبا تلتزم بشروط الدين، ياليتنا بقينا بلا دين ليكون القانون هو البديل ؟ كما عند الحضارات القديمة حضارة حمورابي مثالاً.

نعم، بعد وفاة صاحب الدعوة، تشعب الفقه الاسلامي الى تداخل في التفسير والتاويل، فظهرت المدارس المختلفة فكان من نتيجتها الانقسام الرأسي في الاسلام الذي استدعى ظهور المذهبين الرئيسيين اللذين نسبا الى الأمامين جعفر بن محمد الصادق (الشيعي) والامام ابو حنيفة النعمان (السني) تجاوزا على الحقيقة، فالاختلاف اساسه القياس حول مسألة فقهية لا مبادىء دين. حتى تكاثرت المذاهب الفرعية، في كل منهما ليحمل صفة احد هذين المذهبين حين نسبت المعتزلة للشيعة، المالكية والشافعية للسنة وهكذا، فكانت بداية الانقسام المدمر للعقيدة والمجتمع مما جر الى ظهور عشرات المذاهب فيما بعد التي ضيعت الاسلام والمجتمع معا، هذا الاسلام الذي جاء وهماً لحكم السلطة لاغيروالذي دمر مستقبل العرب والمسلمين بعد ان تجاوزا مبادئه في التطبيق، وسط هذا الضجيج الفقهي المتعارض كيف نفهم طبيعة العلاقة بين النهضة الفكرية للانسان وحكم الدين الذي به يعتقدون، ولا يعتقدون.

من هنا بدات عملية الاجتهادات الفكرية المختلفة في النص التي اخذت طابع السياسة السلطوية لا الدين حتى اصبح للقرآن اكثر من مائة تفسير كل منها له رأي في نصه المكين، حتى بدأ المتنورون اليوم يفكرون جديا ان يجدوا البديل عن العيش مع الدين،. بعد ان ضاع المنهج التاريخي لانماط العلاقة بين الفقيه والسلطان وفق المنظور المنهجي الذي يتوخى الدقة ومقاربة الحقيقة الى افق التوحيد في الهدف والغاية، بعد ان اصبح الدين امام الامتحان، ؟ومن يقرأ ما كتبه الكليني والشيخ المفيد والطوسي من جهة، وماكتبه الماوردي والغزالي من اخرى من أئمة المخرفين يجد ان ما توصف بحرية الاختيار عند المسلم قد انتهت واستبدلت بعصور التنكيل والملاحقة والاغتيال وضياع الحقوق كما نحن اليوم، فعن اي اسلام يتحدثون؟ اسلام المنتظرين، ام اسلام المتزمتين الفاسدين، من اهداء الدين؟

نقول لاصحاب المذاهب من المتزمتين، ان علم الاصول يبحث في العقيدة بايراد الحجج المنطقية وليست الشخصية الافتراضية، اي بضرورة استخدام الادلة العقلية المنطقية عند اصحاب المعرفة والطاعة، والمعرفة هي الاصل والطاعة هي الفرع، من هنا بدات معركة الاختلاف الذي شق الدين الاسلامي الى مذهبين هما " شيعي وسني " فحصل التباعد بينهما وبداية الضعف العام في العقيدة والدولة والى اليوم، من يقل لك ممكن ردم الاختلاف لا تلتفت اليه بعد ان اصبح الاختلاف عقيدة سلطوية بينهما، فكانت نظريات التزوير في العقيدة والدين، أساسه السلطة لا الدين، فلادين ولامذاهب صحيحة يمكن الاعتماد عليها في فلسفة الاديان اليوم، بعد ان أختلف التفسير، فاصبح الاسلام اسلامين بما قدم كل منهم من ادلة فقهية باطلة امام وحدة المسلمين؟ لذا لم تتقدم حضارياً دولة اسلامية واحدة عبر التاريخ مثل دول الحضارة الاخرى، لمجهولية الاعتقاد في الدين.

نعم، ورغم حملات التزوير المنظمة التي قادتها دول تدعي الاسلام والمسلمين كذباً وزوراً كما عند الامويين والعباسيين ومن جاء من بعدهم، لكن التراث النصي المقدس، بقي وسيبقى اقوى عوداً من جميع أولئك المزورين الذين لا زلنا نعتقد بهم خطئا انهم من أئمة الحديث، تراثنا الفكري الصحيح ينبع من عين صافية لا عشوة فيها ولا ظلام، وسيبقى شوكة في عيون المزورين، الذين قالوا وصدقناهم، ان الفكر الفلسفي في الاسلام صورة ظلية محنطة المعالم للفكر اليوناني القديم ومدارسه المختلفة، وان الفلسفة العربية لا تمتلك جدة ولا ابتكار، لهذا يريدون تبديلها بعلم العقيدة، عقيدتهم الوهمية، التي تتناقض وعقيدة الدين.

ومع هذه الحملة النكراء ورسوخ افكارها في اذهان الاغلبية من المسلمين.الا اننا لانفقد الامل في وجود من يستطيع القيام بالبحث والتدقيق في اصول التاريخ الاسلامي والمنهج الصحيح، لتصحيح ما يحتاج الى تصحيح ، وتصفية ما يحتاج الى تصفية مما شابه من عدم الدقة ، ومن سوق الاخبار على عواهنها مما أساء الى أمة الاسلام ووضعها في حرج التاريخ.

نقول ودون الخوض في متاهات الخطأ للفقه والفقهاء، ان النقد العلمي لمسيراتهم الوهمية التي تجنبت قيام الدليل لما يقولون في اثبات الحجة والنقيض، ان اثباتهما يعتمد على اظهار جوانب القوة والضعف في النص بحيث لا يعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والثانية تنهض على الفحص الخارجي، اي باثبات الاصل ببطلان النقيض، وهذا لم يحصل في تاريخنا الفلسفي المعد للتطبيق.

كيف لا والسنة النبوية كتبت بخمسة اقلام كل منها يخالف الاخر في النص والتفسير وهي:، السيرة النبوية لمحمد بن اسحاق (150ت هج)، ومغازي الرسول وسيرته لمحمد بن عمر الواقدي (ت207 هج)، سيرة الرسول لابن سعد (230 هج)، سيرة الرسول لابن هشام (ت218 هج)، وسيرة الرسول لموسى بن عقبة (ت141 هج) وسيرة الرسول لعبدالله الانصاري (ت 481)، وغالبيتهم مطعون بما كتبواوغير مرضي على عروضهم، لذا ادرجوا جميعاً تحت "نظرية الجرح والتعديل"، اي بيان العيوب والمديح جسب رأي الخلافة لا الدين، ولو قرأت لابن حجر العسقلاني الناقد الكبير(ت852 هج) وغيره من الفقهاء لدهشت لتلك القسوة والعنف الذي هوجم به كتاب السير ووصفهم بالمزورين، وهكذا لم يأتينا من النظرية الفقهية بكل توجهاتها الا، الضرر.

نعود لصلب الموضوع فنقول هل ان التشيع جاء بنص مقدس او برأي من الامام جعفر الصادق، والتسنن جاء برأي من الأمام ابي حنيفة النعمان، نتحداكم ان كتبتوا لنا نصا بذلك هم كتبوه بايديهم، مجرد نصوص نقلت عنهم بلا دليل، والتي خلفت لنا مشاكل الدين التي أنهت مجتمعاتنا الى ابد الابدين،

مدرسة الامام الصادق (ت148 هج) اول مدرسة اسلامية فقهية ولم تكن مدرسة خاصة بالمذهبية بل علمية ولاغير، ومن تلامذته المجتهدين هو ابو حنيفة النعمان (ت150 هج)، والخلاف بينهما كان على نظرية القياس التي ايدها ابا حنيفة النعمان ورفضها الامام الصادق لكنهما لم يكونا مختلفين في الدين ابدا، يقول الامام الصادق:"يشرفنا ان يكون ابوحنيفة النعمان منا أهل البيت"انظر فقه الصادق.

اما الاختلاف في الخلاف الديني لم يكن ابدأ له من أصل، فالخلافة كانت ابتكارا منذ البداية، لكنها كانت بحاجة الى دراسة وتنظيم، كونها رئاسة الامة لذا كان الاختلاف عليها منذ البداية لانها كانت مسئولية كبرى تركت دون تحديد مدة او مدى سلطة، وهذاالشرط لم يُعمل به طيلة عهد الخلافة الاسلامية حتى السقوط عام 656 هج، ان هذه التجربة لا تتفق وطبيعة الاسلام وتقع كامل المسئولية على الفقهاء الذين اهملوا شرط تحديد شروطها طواعية للسلطة لا الدين - اين المنهج الدراسي الجديد الذي كتبته السلطة - وترك الخلافة دون شروط هي المصيبة الكبرى التي حالت دون ضبط نظام الحكم في الاسلام، لذا كل ما نقرؤه لمفكري الاسلام في الموضوعات السياسية عائم وغامض وغير مضبوط،

ومن وجهة نظري الشخصية اننا لم نعرف الفكر السياسي المقنن المنظم الا بعد ظهوره في الغرب واخذنا منه مع ان القرآن كان فيه الكثير من التجارب التي تعتبر اسساً كبيرة وسليمة جدا لوضع نظام قانوني سياسي محكم، لكن السلطة الحاكمة قد وقفت ضد النظام القانوني منذ البداية لحصر السلطة بيدها والى اليوم فوقعنا في منزلق الخطأ الذي اعتبره الفقها دين، وهوليس بقانون ولادين، وهذا الذي تطور الى الصراع السياسي بين بني امية وبني هاشم الذي منه انبثق الخلاف الديني الباطل الي سموه بخلاف السنة والشيعة في الدين والى اليوم.

واذاكانت الخلافة منذ البداية هي اساس الخلاف فمعنى ذلك ان الدين نحي جانبا من اجل السلطة ولم تكن للكفاءة نصيب فيها ابداً، وهكذا تطور الخلاف اليوم الى هذا الخلاف العميق السرمدي الذي شطر المسلمين الى شطرين ما كانت ان تقع لو التزم الجميع في النص دون تحريف، والا كيف تنال الخلافة بالوراثة وهي التي حددتها الشورى بمسئولية رئيسية من مسئوليات الحكم في الاسلام.اما ان الرسول حددها في بني هاشم -كما تقول الشيعة - فتلك احاديث موضوعة من اجل فرقة المسلمين، فالرسول لا يحق له ترك الشورى التي جاءت بنص غير قابل للتغيير، وهكذا حصدنا ثمارها الباطل اليوم.

نحن نمراليوم بازمة سياسية قاتلة فعلا لاننا لم نعتمد على رجال العلم من المدونيين للروايات بصدق الصادقين، حتى اننا التزمنا بالحديث المبهم الذي يقول: " يحل دم المسلم اذا كفر بعد اسلامه فيقتل، او رجل زنى بعد احصانه فيرجم، او رجل قتل نفسا بغير نفسٍ ففيما أقتل، انظر الطبري ج4 ص378.,هنا نسوا ايات وماملكت ايمانهم كلها، وتزوجوا النساء الاسيرات بدون عقد احصان وباعوهن في الاسواق خلافا لانسانية الانسان، وقتلوا واسروا اهل البلاد المفتوحة دون قانون لكنهم امام الحقيقة يصمتون، فأين الدين الذي به يتحججون، واخيرا اقول:

ان الفقهاء كلهم دون تمييز نسوا او تناسوا ان يضعوا شروطهم في الخلافة والسلطة والدين وهي:

ان الامة هي التي تختار رئيس السلطة وهي التي تعزله اذا لم ترضَ عنه.

ان تحدد الخلافة او الرئاسة بمدة معينة لا تتخطى الخمس سنوات ثم يعود الامر للامة.

لم تحدد سلطة الرئاسة شروط الحكم بعد اهمالهم لشرعيته الدينية، وعدم استطاعة الخلافة ان تحكم في كل القضايا او في بعضها لقصر نظرها في الفقه، وكيف يتم اختيار موظفيها الكبار وفق شرط الحق والعدل، وهنا كان مقتلنا عندما اهمل الفقهاء هذه التنظيمات الشورية التي ذكرت في النصوص.

ولازال حكامنا الى اليوم يخالفون.

نحن المخالفون، اما اصحاب الديانات الاخرى نعدهم من الكافرين كما ندعي خطئاً لا انهم هم الملتزمون، هكذا هي المقاييس عندنا، قصدنا في الحقيقة هو ان يعرف القارىء والمسلم حقيقة ما كتبه الفقهاء من تدليس ومفتريات والى اليوم، وهم يحكمون بالباطل، لكنهم ينتظرون المهدي المنتظر ليملأ الارض عدلا وهم الحاكمون الفاسدون فلم لا يعدلون ان كانوا من المؤمنين به حقا وحقيقة، نعم، انهم هم اللاحقيقة في السياسة والدين، وهم ينادون بوحدة الامة فكيف تتحقق بمجرد شروط غير قابلة للتحقيق، اين العلماء اليوم والمتفيهقين ليقولوا لنا حقيقة نظام الحكم في الدين؟ ويستدركوا ترهات المذاهب الوهمية التي لا اصل لها في دين هم لا يعتقدون به، كفاية ضحكاً وتدليساً باسم الاسلام والمسلمين.

نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة أو بعضها، عليك ان تطلب الحق وان قل. لى الكُتاب والمؤرخين ترك الروتين والانتقال لواقع الحال، الذي يقتضي كشف الحقائق تمهيدا للتغيير.

***

د.عبد الجبار العبيدي

أكثر ما يميز السياسيين الامريكان عن مثيلهم في دول العالم، هي تلك "الوقاحة"، التي يتميزون بها عن غيرهم، وكذلك أسلوب "المراوغة " واستخدام كل "الحيل" للوصول الى مبتغاهم، خدمة لمصالحهم الشخصية في المقام الأول، ويستمتعون و"يتلذذون "من اجل الوصول الى مبتغاهم "بالقتل والدمار"، فقتلهم اكثر من مليون طفل عراقي أيام الحصار، لم تحرك فيهم ذرة "الحياء" المتبقية عندهم، إن كان لديهم " حياء " أصلا، وقبل أيام، شاهد الجميع في العالم، ما قاله السيناتور الامريكي العجوز "الخرف"، من كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام، (الذي زار كييف سرا مؤخرا)، وبابتسامته المتكلفة في حضرة " المهرج " فلاديمير زيلينسكي، وتفاخره، في الاستثمار في قتل الروس، وقال "الروس يموتون.. لم ننفق المال بهذه الجودة من قبل " .

قد يرى البعض في كلماتنا هذه بعض من المبالغة، لكننا وشعبنا، ذاق من " جرائم " الامريكان الكثير، بدءا من الحرب "الظالمة" التي شنوها على العراق العظيم، صاحب أكبر حضارة عرفها التاريخ، ليدمروا كل شيء حي، وكل حجر وبشر، وجعلوه منذ 20 عاما، بلد للفوضى والنهب والفساد، بمباركة من القيادة الامريكية، التي تتفاخر، بأنها حررت هذا البلاد، وأسست فيه ديمقراطية لم تعرفها منطقة الشرق الاوسط، كذلك " وقاحة الامريكان "، التي وصلت عند اليابان، حيث حضر الرئيس الأمريكي جو بايدن أجتماع مجموعة السبعة في هيروشيما، بعرض سيرك عبثي وحلبة للنفاق، يحاول الغرب من خلالها قلب كل شيء رأسا على عقب، ففي ذلك المكان، اسقطت أمريكا قنابلها النووية، لتحرق هناك كل شيء من البشر والحجر، دون أن يذكرها الرئيس الأمريكي بكلمة اعتذار عن "الجريمة" البشعة التي ارتكبتها الإدارة الامريكية السابقة، بل والإصرار على عدم كتابة هذا "الاعتذار" في سجل زيارات المدينة، وأجاب مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، ب "لا"، ردا على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان جو بايدن يعتزم الاعتذار لرئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن تفجيرات هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945، برأيكم، ألم تكن هذه قمة " الوقاحة " .

وجلبت انتباهنا وبشكل كبير، تعليق المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وهي ترد على تصريحات هذا " العجوز الخرف "، ودعت غراهام الى استذكار ما جرى خلال محكمة نورمبرغ،  ففي هذه المحكمة كشف وزير الاقتصاد في ألمانيا النازية، هجالمار شاخت، أن الرايخ الثالث تمت رعايته أيضًا من الخارج، وسمى أكبر شركتين أمريكيتين، هما فورد وجنرال موتورز، وقد تم عقد صفقة غير معلنة معه (شاخرت) - الحرية مقابل الصمت، وأن الأسطورة الأسطورية هنري فورد، كان حائزًا على وسام الاستحقاق من النسر الألماني، (وقال هتلر لمراسل أخبار ديترويت قبل عامين من أن يصبح المستشار الألماني في عام 1933، موضحًا سبب احتفاظه بصورة بالحجم الطبيعي لصانع السيارات الأمريكي بجوار مكتبه: "أنا أعتبر هنري فورد مصدر إلهامي"- )، فهذه الشركة، لم تنتج مصانعها في ألمانيا ما يصل إلى 70 ألف شاحنة سنويًا لتلبية احتياجات الفيرماخت فحسب، بل استخدمت أيضًا عمالة السجناء لهذا الغرض، بما في ذلك أوشفيتز، وكانت شركة فورد الألمانية ثاني أكبر منتج للشاحنات للجيش الألماني بعد جنرال موتورز / أوبل، وفقًا لتقارير الجيش الأمريكي .

وقال مسؤولون بولنديون إن وثائق النازية التي صدرت حديثًا، تظهر أن شركة فورد موتور، كانت واحدة من 500 شركة لها صلات مع أوشفيتز، وكانت قائمة الصناعات المرتبطة بأوشفيتز من بين وثائق الحقبة النازية التي سلمتها موسكو مؤخرًا، حيث تم الاحتفاظ بأرشيف المعسكر منذ نهاية الحرب، والدعوى المقامة ضد شركة فورد، وهي الأولى من نوعها ضد شركة أمريكية، مستوحاة من نجاح الضحايا النازيين في تأمين تعويضات من البنوك السويسرية التي استفادت من ودائع النازيين في زمن الحرب .

وتتجاوز القضايا المطروحة على المحك بالنسبة لشركات السيارات الأمريكية المبالغ المتواضعة نسبيًا التي ينطوي عليها رفع أي دعوى قضائية، فخلال الحرب، أسست شركات السيارات لنفسها سمعة باعتبارها "ترسانة الديمقراطية"، من خلال تحويل خطوط إنتاجها إلى طائرات ودبابات وشاحنات، وإنهم ينكرون أن مصالحهم التجارية الضخمة في ألمانيا النازية قادتهم، عن قصد أو عن غير قصد، إلى أن يصبحوا أيضًا "ترسانة الفاشية".

أما أيقونة صناعة السيارات الألمانية، أوبل، فهي تنتمي إلى جنرال موتورز، ويصف الباحث برادفورد سنيل دور الشركة على النحو التالي: "كانت شركة جنرال موتورز أكثر أهمية لآلة الحرب النازية من البنوك السويسرية، فقد كانت سويسرا مجرد مستودع للأموال المسروقة، وكانت جنرال موتورز جزءًا لا يتجزأ من المجهود الحربي الألماني، حيث كان بإمكان الرايخ الثالث غزو بولندا وروسيا (اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية) دون مساعدة سويسرا، لكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك بدون مساعدة جنرال موتورز، في حين صنعت شركة كوداك في مصنعها بألمانيا صمامات للقنابل الجوية، دون ازدراء حتى باستخدام عمل أسرى الحرب، وكان مصنع Coca-Cola في كولونيا وقبل تأميمه من قبل الحكومة الألمانية يزود بانتظام بالصودا، بما في ذلك الجنود الألمان، و"فانتا" الشهيرة اخترعها النازيون بالكامل.

كما وساعدت شركة النفط العملاقة Standard Oil، من خلال الشركات التابعة لها، هتلر في نقص المنتجات البترولية، وشاركت في تطوير المطاط الصناعي والوقود الصناعي، وأنتجت شركة IBM، المحبوبة من قبل خبراء تكنولوجيا المعلومات في جميع أنحاء العالم، أجهزة محاسبة وتحكم للنازيين، بما في ذلك إنتاج النفط، ومن بين أمور أخرى، ساعدت معدات هذه الشركة في تتبع مواعيد القطارات إلى معسكرات الموت ...

وكان لدى JPMorgan Chase & Co أيضًا يد، ثم Chase National Bank، الذي تم من خلاله تنفيذ معاملات بمليارات الدولارات، وأتيحت الفرصة لبرلين لشراء الدولارات وتنفيذ المعاملات المالية ما وراء البحار، وتعاونت "تشيس" مع بنك "ألاينس" الألماني حتى في أمور مثل، تأمين الممتلكات والحياة لحراس معسكرات الاعتقال التابعة للرايخ الثالث، اذن لدى السناتور غراهام ما يمكن مقارنته به، فقد أدى أحد استثماراتهم إلى الحرب العالمية الثانية والمحرقة، والآن، تتدفق مليارات الدولارات الأمريكية في الحلق النهم لنظام النازيين الجدد في كييف، وفي هذا الصدد، وتخاطب زاخاروفا غراهام " نود أن أذكر أعضاء مجلس الشيوخ وجميع المستفيدين الأمريكيين كيف انتهت المغامرة السابقة".

وخلال سنوات الحرب، ذهب التعاون المالي بين ألمانيا وسويسرا في عدة اتجاهات ن بادئ ذي بدء، مولت البنوك السويسرية مشتريات ألمانية من الأسلحة المصنعة في سويسرا، بمبالغ القروض التي تتزايد باستمرار، لذلك، إذا حصل الألمان على 150 مليون فرنك سويسري طوال عام 1940، فقد حصلوا على 315 مليون فرنك سويسري في فبراير 1941، وفي يوليو من نفس العام - 850 مليونًا أخرى، وكان الألمان سعداء بشراء مدافع Oerlikon متعددة الماسورة المضادة للطائرات، في حين لم يفاجأ الجنود الامريكان عندما دخلوا المانيا، وهم يرون ان العدو المزعوم يقود أيضًا شاحنات تصنعها Ford وOpel -، وهي شركة فرعية مملوكة لـ GM بنسبة 100٪ - ويطير بطائرات حربية من صنع أوبل، (كان دور كرايسلر في جهود إعادة التسلح الألمانية أقل أهمية بكثير).

وسويسرا التي صمدت لأطول فترة، ورفضت بعناد قطع العلاقات مع ألمانيا، ففي عام 1944، استبدلت البنوك السويسرية حوالي 5 أطنان من الذهب الألماني بالعملة كل شهر، وفي فبراير 1945، جمدت سويسرا علنا رسميًا الحسابات الألمانية وأوقفت المعاملات المصرفية مع ألمانيا، لكنها في السر استمرت في المعاملات المالية السرية، وتم غسيل الأموال النازية في البنوك السويسرية، ثم تم تحويلها إلى بنك الفاتيكان، ومن هناك ذهبت إلى أمريكا الجنوبية، وخاصة إلى الأرجنتين، فقد تم تحويل جزء من الأموال إلى بوينس آيرس وعواصم أخرى في أمريكا الجنوبية من خلال بنوك إسبانيا والبرتغال.

وإذا كانت السويد ملحقًا صناعيًا للاقتصاد الألماني، وكانت سويسرا أيضًا محفظة، فقد زودتها إسبانيا والبرتغال بالموارد اللازمة، فقد كانت دول شبه الجزيرة الأيبيرية محمية من الغزو الألماني من خلال نظامها السياسي، واشتهر الديكتاتور الإسباني فرانكو بوصوله إلى السلطة في حرب أهلية دامية، ودين بالكثير لهتلر وموسوليني، من ناحية أخرى، وبفضل إسبانيا أصبحت الموانئ الإسبانية أهم نقطة عبور للواردات الألمانية، وتمكنت ألمانيا من التجارة حتى مع أعدائها، بينما أنشأ الزعيم البرتغالي أنطونيو سالازار نظامًا قمعيًا يذكرنا بشكل غامض بالفاشية الإيطالية.

وتتساءل زاخاروفا، ونحن معها، هل تعتقدون أن السناتور الأمريكي غراهام وحيد في خطابه النازي؟ أم أنه استثناء قبيح؟ لأن النظام الأمريكي لا يستطيع أن ينتج مثل هذا الوحش؟، وللتذكير وكما تشير المتحدثة باسم الخارجية الروسية الى المحادثة التي اجراها المخادعين فوفان ولكزس، قال جورج دبليو بوش (الأصغر في سلالة الرؤساء الأمريكيين) هذا بالضبط، معتقدًا أنه كان يتواصل مع نظام كييف: "مهمتك هي قتل أكبر عدد من الروس ان امكن "، وبعد أن أعلن هذا في المؤتمر الصحفي بدأت الدعاية الأمريكية في الظهور، مؤكدة أن بوش لم يكن في السلطة، وحتى ان كانوا في السلطة وبوش وغراهام، لذلك ما زالوا لا يقولون كل ما هو مكتوب في الوثائق العقائدية الأمريكية.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

لا يكفي القول إن فينيسيوس جونيور يجيد لعب كرة القدم بمهارة فائقة فحسب. ما يقدمه هذا الفتي الجميل هو ضرب من ضروب الفن في أكثر تجلياته روعة وفرادة. وصلة رقصته الشهيرة بعد أن يسجل هدفاً ليست سوى مشهد أخير من حفله الأكثر إبهاراً. نعم. فأداؤه فوق المستطيل الأخضر هو بذاته عبارة عن رقصة فرح مليئة بالعفوية، والشغف، مشهد نادر يذكرك بلمسات أبطال كبار افتقدهم العالم بأسره، أبطال من قبيل بيليه، ودييغو مارادونا. أولئك الذين ندين لهم بالكثير، لأنهم جعلوا حياتنا أكثر بهجة.

"فيني" نجم نادي ريال مدريد، البرازيلي ذو الثانية والعشرين ربيعاً هو آخر النجوم الاستثنائيين في عالم الساحرة المستديرة. هو، أيضاً، وأقولها بلا مبالغة أكثر إنسان يتلقى اليوم هجمات عنصرية بسبب لون بشرته. وما تعرض له في ملعب فالنسيا ليس سوى فصل من فصول الكراهية البغيضة التي تلاحقه منذ وصوله للعب في أوربا. يومها، كان بالكاد قد أكمل السابعة عشرة من العمر. ربما يكون قد خمن في بدء انتقاله أنه سيواجه هجمات مسيئة من مجموعة مراهقين، أو مشجعين شبه مخمورين، قياساً على ما تشهده الملاعب في السنين الأخيرة. لكن لا هو، ولا أحد سواه تخيل مشهد الليلة المخزية التي حصلت في استاد الميستايا، مجاميع من جماهير فالنسيا تصرخ بحقد طافح في وجه فينيسوس جونيور: "قرد...قرد. أحمق.. أحمق. الموت لك. ابن العاهرة"!.

طوال السنتين الماضيتين كان على فينيسيوس أن يواجه عنفاً أخر بالغ الخطورة، كالحركات الصبيانية، والكلام البذيء الذي يجابهه به المدافعون بغية استفزازه، وكتعمدهم إلحاق الأذى به بلعبهم الخشن. مما يؤسف له أن هذا العنف أصبح جزءاً من الخطة التكتيكية لمدربي الفرق المنافسة. في سبتمبر الماضي اتجه فينيسيوس نحو خافيير أغيري مدرب فريق ريال مايوركا، ليدخل معه بمشادة، بعد أن سمع هذا الأخير وهو يحرض لاعبيه ضده، قائلاً لهم بصراحة: "اضربوه، اضربوه"! كم هو بائس هذا الذي يسمي نفسه مدرباً كبيراً. عجز عن ايجاد طريقة للحد من مهارة فينيسيوس في المراوغة، وتسجيل الأهداف فاستعان بخطة زعيم مافيا مبتدئ.

لنتذكر أيضاً تلك الإساءات المعيبة في وسائل التواصل الاجتماعي. ومثال واحد هنا كاف جداً. ذلك المثال عبارة عن كلام قاله -قبل أن يقدم اعتذاراً أشدَّ قبحاً من ذنبه- بيدرو برافو رئيس اتحاد وكلاء كرة القدم الإسبانية. قال بالنص: (فينيسيوس، يجب أن تحترم الخصوم. إذا كنت ترغب في الرقص فعليك الذهاب إلى "سامبا دروم" في البرازيل. أما في إسبانيا فعليك احترام الآخرين، والتوقف عن لعب دور القرد)!. يا لها من كراهية!  نرجسية مقهورة تريد كسر المقابل عبر تجريده من آدميته. تماماً مثلما كان بعضهم يلقي الموز باتجاه داني ألفيس لاعب نادي برشلونة السابق. برغم ذلك كله، وخلال موسمين فقط، نجح فينيسيوس بفرض بصمته الفريدة، حجز لنفسه مكان القمة مع مبابي ونيمار. وفي رأيي أن فيني سيتفوق عليهما سريعاً، إن مضت الأمور بسلام.  لقد كان هذا الفتى يواصل العمل بجهد، ولا يتورط بالكلام الكثير، كحال كثيرين ممن استهلكتهم الشهرة السريعة.

أين يكمن أساس المشكلة التي يكابدها فينيسيوس تحديداً، أهي في رقصته بعد إحرازه هدفاً، على اعتبار أنها تثير حنق لاعبي وجماهير الفرق المنافسة، أم هي في لون بشرته؟ لا هذا، ولا ذاك. في الواقع، يعود الأمر لمهارته الاستثنائية. إنه يداعب الكرة بأسلوب فني أنيق، بسيط ظاهرياُ لكنه موغل في الذكاء العقلي والبدني، مزيج من براعة في توظيف السرعة، وفي تطويع الجسد، وابتكار حلول لا يتوقعها أحد. شاب يمتلك تركيزاً ذهنياً عالياً، لا يخاف، أو يتراجع حتى حين يحيط به دفاع الفريق المنافس بأكمله. مع أنه يلعب وسط محيط عدائي حين يكون خارج السانتياغو برنابيو.

أفكر تحديداً في كم الحرج، والخيبة التي يشعر بها مدافعو الفرق المنافسة. إن قوة أجسامهم التي تفوق بنية فينيسيوس جونيور، وتربصهم به حتى وهو بعيد عن الكرة، واندفاعهم القوي لحظة تمريرها باتجاهه تصبح كلها بلا أية جدوى. سيكتفي "فيني" بلمسته المفضلة ذات الطابع الاستعراضي الجميل، لن يمس الكرة أصلاً، سيلجأ للتمويه، يعبر من فوقها فقط، ثم يستدير باتجاه المرمى بسرعة فائقة، تاركاً خلفه قطارات حديدية ذاهبة بالاتجاه المعاكس. وحين يندفع نحوه مدافعان متأخران، يختار فينيسيوس الحل الأصعب، سيمر بينهما برشاقة عجيبة، أو يمرر الكرة من بين قدميهما، ثم يودعها في المرمى. هذا السيناريو المبهج، هذا الفن الجميل، مضافاً إليه رقصة فرح بريئة يسميه بعضهم "عدم احترام للآخرين"، أما العنصرية الموجهة ضد فينيسيوس فهي محض شتائم عادية، لا قيمة لها! الحق أن كرة القدم تبقى لعبة، وإن أراد الكثيرون أن يجعلوا منها حرباً. ولأولئك الذين لا يجيدونها، أو لا يتحملون الخسارة فيها أن يفتشوا لأنفسهم عن مهنة أخرى. لقد صاروا يعرفون أن فينيسيوس جونيور لا ينكسر بسهولة. وهذا في الحقيقة هو أكثر ما يستفزهم فيه.

لسنوات طويلة راهن الكثيرون على أن كرة القدم يمكنها الاسهام  في الحدِّ من مشاعر العنصرية، وأن تنجح فيما فشلت فيه السياسة، فتقرب المسافة بين الثقافات. غير أن الأحداث الحزينة التي شهدتها ليلة أمس سخرت من رومانسية ذلك الرهان. فجأة، أعادتنا تلك الهتافات المتعصبة إلى ما اعتقدنا أنه صار جزءاً من ماضٍ فحسب، إلى أوهام المركزية الأوربية، وأسطورة العرق المتفوق. كيف يمكن للاعب في الثانية والعشرين أن يكمل مسيرته الكروية في فضاء يعج بهذا الكم الهائل من الكراهية؟ كيف يمكن للآباء أن يسمحوا لأولادهم بمتابعة تسليتهم المفضلة المتمثلة بالدوري الإسباني بعد أن صارت مسرحاً للبغضاء؟ كان فينيسيوس محقاً بتغريدته البليغة التي أعقبت المباراة: إنها ليست كرة القدم. إنها الليغا "الدوري الإسباني".

بالمناسبة، لا يزال ممثلو النخب العربية المثقفة، وصناع الرأي المؤثرون يتعالون على مقاربة عالم كرة القدم. لا يدركون خطورة دورها، ولا تأثير الموجات المتصاعدة للعنصرية، ورهاب الأجانب، تلك التي تتسرب إلينا بمنتهى النعومة لتصبح سلوكاً عادياً، لا يثير الاشمئزاز، إن لم يجد بعضهم  في تبادل اللكمات والشتائم بين اللاعبين، وبين الجمهور ما يضفي مزيداً من الإثارة. لن تكون العواقب في صالح أحد. فهذا الجهل المتزايد، هذا الجبن، والسكوت غير المبرر سيحرك النار التي تخفيها طبقة رقيقة من رماد حداثة زائفة، يسوقها رأسماليو كرة القدم، ويتشربها أولادنا بشكل يومي بواسطة الفضائيات، والسوشيال ميديا.

يستحيل على كل أولئك المتعصبين بتنمرهم النزق أن يفهموا من هو فينيسيوس جونيور الإنسان، أو يصدقوا بعفوية فرحته، فضلاً عن أن يدركوا معنى كرة القدم بوصفها لعبة شعبية ممتعة، وتمريناً تشاركياً يؤهلنا لنكون بشراً متحضرين. إن مدى براعتنا - شجاعتنا في الأصح – هو في أن نؤمن بشدة بضرورة الوقوف بوجه ما يحصل. من دون إيقاظ الحس الأخلاقي سوف نشهد عالماً تعود فيه تنظيمات العصابات العنصرية على طريقة "الكو كلوكس كلان" لا ليتمددوا من جديد في أميركا فقط، ويدعموا زعيماً شعبوياً  كارهاً للتعددية مثل دوناد ترامب، بل لتنتشر أشباحهم في كل مكان من عالمنا العجيب. في الواقع، لقد شهدنا بعضاً منهم في استاد الميستايا. هم، فقط، لم يكونوا يرتدون أقنعتهم المخروطية البيضاء.

وأنا أكتب هذه الكلمات على عجل، أسمع أن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا قد أصدر بياناً يدين فيه الهجمة المشينة تجاه مواطنه. أعقبه في ذلك جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، مع عدد آخذ بالتزايد من المشاهير، والناس العاديين. إذن، فينيسيوس جونيور في طريقه ليصبح الإيقونة الأكثر شهرة للوقوف بوجه العنصرية. لكن، وبالتزامن مع ذلك، يلوم خافيير تيباس رئيس رابطة الدوري الإسباني الضحية، ويتناسى الجناة، هو، الذي يعلم جيداً بأن الهجمات العنصرية في الموسم الحالي بلغ عددها تسعاً، وثمان منها كانت موجهة ضد فينيسيوس جونيور!

قبيل رحيله المحزن، عبر بيليه عن تضامنه التام مع فينيسيوس جونيور، وشاركه في موقفه هذا نجوم آخرون، دعموا النجم الشاب، واستنكروا استهجان بعضهم لحقه في أن يرقص. يومها، وصف "الجوهرة السوداء" كرة القدم بأنها متعة، "رقصة"، حفلة حقيقية. وسرعان ما غرد فينيسيوس قائلاً: "لن أتوقف عن الرقص، سواء أكنت في سامبا دروم أم في البرنابيو. سأرقص أينما أريد". فينيسيوس هو ابن الثقافة البرازيلية الجميلة، ابن كرنفالات الفرح التي تجوب شوارع الأحياء الفقيرة، حيث يرقص الكبار والصغار، حتى وهم لا يملكون ثمن وجبة العشاء. ثقافة تحترم التنوع بالفطرة، لا برطانة التنظير التي تلوكها أوربا العجوز، أوربا الباردة كالجليد، من أين لها أن تستشعر دفء السامبا؟  فينيسيوس جونيور. فيني. كلنا بانتظار رقصتك القادمة.

***

عباس عبيد - أكاديمي وباحث من العراق

في العقدين الاخيرين انتشرت على نطاق واسع مفاهيم تحررية وأصوات تدافع عن حقوق الانسان وحكم القانون وحرية الفرد في المعتقد والتفكير والتعبير، وضرورة الانفكاك من كل القوى الخارجيه المعيقة للحريات، ان كانت من قبل الدولة أو المجتمع أو الدين أو التقاليد. بالطبع تعتبر تلك الشعارات تقدمية نبيلة، وقد تم نشرها بحماس من قبل النخب المثقفة والإعلام والسوشيال ميديا، وسرعان ما وجدت لها صدىً واسعاً بين أفراد المجتمع المتعطشين للحرية عقب عقود طويلة من انسحاق الفرد والقمع والمقابر الجماعية والحروب. ولكن ما هو اشكالي ان تلك المفاهيم والقيم النبيلة تنسب الى الليبرالية الرأسمالية حصراً، مما يثير جملة من الاسئلة، احاول هنا ان اجد اجابات لها.

هل لليبرالية حق مصادرة تلك المنظومة من القيم والمفاهيم التقدمية وادعاء ملكيتها حصرياً؟ وهل تمتلك اللبرالية (وخاصة أجندتها الاقتصادية أو ما يسمى باللبراليه الجديدة) جذورا ضاربة في ثقافة المجتمع العراقي وتاريخه السياسي الحديث؟ أم هي مثل شجرة اصطناعية في اعياد ميلاد (ديمقراطية اميركا)؟ وهل تنسجم مواقف ومتبنيات الليبرالي العراقي مع الرؤية الفلسفية لنظيره الاوربي، أم مازال متشبثا بنسق من المفاهيم والافكار المشتبكة ببعضها في سياق متناقض؟

للأجابة على تلك الأسئلة لنرجع أولاً الى منشأ الفكر الليبرالي في اوربا بالقرن السابع عشر عقب الثورة الصناعيه وبداية صعود الطبقة البرجوازية الصناعيه والتجارية.

كي تشق الرأسمالية طريقها في أول صعودها وفي خضم كفاحها ضد الاقطاع، كانت بأمس الحاجة الى قوانين تحرير التجارة من القيود، واطلاق حرية اليد العاملة لانها بحاجة ملحة لقوة عملها، وحماية الملكية الفردية لحماية رؤوس أموالها. من هنا جاءت دعوات فلاسفة التنوير لاطلاق الحريات الفرديه وحكم القانون وكان الرائد في هذا المجال جون لوك.

لقد كانت التجارة عرضه لتدخلات الدولة الاستبدادية ممثلة بثلاثي الملك والكنيسة واللوردات الإقطاعيين، والملكية الفردية غير محمية وعرضه للمصادرة من قبل السلطة وأصحاب النفوذ، أما الايدي العاملة فهي الاخرى ليست حرة، فالعوائل بأجيالها المتعاقبة تعمل في نفس المكان لصالح اللورد أو الكنيسة أو الملك وحاشيته ولا خيارات اخرى امامها. لذا طالب جون لوك بضمان الحق الطبيعي للفرد بالحياة ضمن عقد اجتماعي، والمساواة أمام القانون واطلاق الحريات الفردية وعدم تدخل الدولة بالسوق وحماية الملكية الفرديه. (يشترط جون لوك على مشروعية الملكية الفرديه أن تكون من ناتج عمل المالك، ولكنه يضيف - وهنا المفارقة- "ان ما ينتجه عبدي هو من ضمن ملكيتي").

هل هذا يعني اننا مدينون لليبرالية الرأسمالية فيما حققته النظم السياسية اليوم من تشريعات لحقوق الانسان والمساواة امام القانون والمشاركة السياسية للعامة؟ ليس تماماً وربما العكس، فقد كانت النظم الرأسمالية تحرص على ان تكون تلك الحقوق للرجال دون النساء، للبيض دون السود، وللملاك دون الأغلبية التي لا تملك من الثروة شيئاً. ولم تتوسع دائرة الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأنسان المعاصر إلا بفضل كفاح منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية وانهاء العبودية، والحركات النسوية ونضالات الاحزاب والنقابات عبر تاريخ طويل تخللته ثورات واحتجاجات قمعتها النظم الرأسمالية الحاكمة وراحت ضحيتها أعداد كبيرة من الشهداء. اذن لا يحق لليبرالية احتكار تلك المنجزات الحضارية والادعاء بملكيتها حصرا.

نشأت اللبرالية الاوربيه وتطورت عبر العصور من القاعدة الى القمة عبر حراكات شعبية وتحولات اقتصادية اجتماعية، وقد نجحت في ترسيخ أفكارها وقيمها في ثقافات مجتمعاتها، ومن باب المقارنة اقتحمت الليبرالية الفضاء الثقافي في العراق بعد 2003 كايديولوجيا نخبوية، روجت لها فئه من المثقفين والاكاديميين في حملة تبشيرية شاركت فيها مراكز صناعة الرأي ومنظمات غير حكومية NGOS- اغلبها ممولة من قبل المركز الرأسمالي- لتهيئة بيئة ثقافية مناسبة لرأسمالية متوحشة يرزح المواطن فيها تحت رحمة قوانين السوق والتجارة وخصخصة الخدمات وتقويض مؤسسات الرعاية الاجتماعية، تلك السياسة الاقتصادية التي آل تطبيقها في معظم الدول النامية الى تدني نسبة النمو الاقتصادي وزيادة في الديون الخارجيه وصعود طبقة أوليغاركيه فاسدة وفاحشة الثراء وأغلبية غارقة في فقر مدقع.( البلدان التي نجحت في تطورها الرأسمالي هي تلك التي رفضت وصفة اللبرالية الجديدة وأبقت أسواقها الرأسمالية تحت رقابة وتخطيط الدولة وخلقت توازناً ما بين النمو والرعاية الاجتماعية كالصين والنمور الآسيوية وقبلها اليابان والمانيا)

اللبرالية - وخاصة في جانبها الاقتصادي ودعوتها للفردانية المتطرفة- لا تنسجم مع الهوية الثقافية للمجتمع العراقي. قد تتعرض المجتمعات في مراحل تاريخية معينة الى أنكسارات تعرض هويتها الثقافيه الى بعض التشوهات، ولكن عاجلاً أو آجلاً لابد أن تستعيد ثقتها بذاتها وتحقق تماسكها مستلهمة قوتها من ثراء تراثها الذي يمثل ركيزة أساسية وذاكرة حية للفرد والمجتمع. الهوية الثقافية الحقيقية للفرد والمجتمع العراقي منحازة للفقراء ومفعمة بروح التشارك والتضامن الجماعي وتستهجن الانانية والنزعة الفردية التي تبشر بها اللبرالية الرأسمالية، هوية تشكلت مما تراكم في الذاكرة الجمعية من كفاح ضد الاستغلال ولنصرة الفقراء، من مشاعية المسيح وابي ذر الغفاري، مروراً بالقرامطة وثورة الزنج إلى نضالات الأحزاب والحركات السياسية ضد الاستعمار البريطاني والاقطاع المتخادم معه وعبر مسيرة طويله من الكفاح دفاعاً عن حقوق الطبقات والفئات المهمشة، وقد انعكس ذلك في الارث الادبي والفني الذي كان له دور مميز في رسم ملامح الهوية الثقافيه. ولم يعرف تاريخ العراق الحديث حركات سياسية ذات شعبيه يعتد بها تنتهج المذهب الليبرالي الرأسمالي، (يصنف البعض الحزب الوطني الديمقراطي خطأ كحزب ليبرالي وهو في الحقيقة أقرب في برنامجه الى الأحزاب الاشتراكيه الديمقراطية).

المواقف التي يعلن عنها اللبراليون في الاعلام والسوشيال ميديا ثكشف عن تناقضات حادة، لا تنسجم أحياناً حتى مع اسس المذهب اللبرالي، ربما يعود ذلك الى عدم اتساق اللبرالي العراقي مع هويته الثقافية أولاً، والى محاباة القوى الخارجية التي تقدم له التسهيلات أو التمويل ثانياً، ولم يعد خفياً أن الغرب الرأسمالي من جهة وحكومات الخليج في المنطقة من جهة اخرى من أكبر الداعمين لدعاة اللبرالية. بالطبع الدعم من قبل الغرب الرأسمالي واضح الاهداف ومنسجم مع الأجندات السياسية والاقتصادية لتلك الحكومات، ولكن ما نشهده في العقد الأخير أن حكومات الخليج تغدق أموالاً على الكتاب والمفكرين وتقوم بانشاء مراكز دراسات واقامة المحافل الثقافية وشراء الصحف والقنوات الفضائية لترويج  الفكر اللبرالي الذي لا يتسق أصلاً مع سياسات أنظمتها القروسطية، ولكنها حريصة على تسويق صورة متحضرة لأنظمتها، كما أنها تستثمر ولاء المثقفين الليبراليين لدعم مواقفها في صراعاتها مع خصومها واسكات الاصوات الناقدة لسياساتها، وهي مطمئنه من أن الليبراليين لا يمكن ان يكون لهم من التأثير ما يهدد أنظمتها.

جولة سريعة في بعض مواقف دعاة اللبرالية تكشف عن سعة المسافة بين الشعارات النظرية والمواقف الحقيقيه.

حرية التعبير وحقوق الانسان:

حرية التعبير مقدسة لدى اللبرالي العراقي اذا كنت على وفاقٍ مع ما يراه، وبغير ذلك تراه يستحضر حزمة من آليات القمع الناعمة لأسكات المختلف واصدار أحكام جاهزة ورادعة على شاكلة( فكر مؤدلج، نظرية مؤامرة، فلسفة عفا عليها الزمن... الخ). بالطبع لا يمكننا انكار الأصوات اللبرالية الصادقة ضد انتهاكات حريه التعبير من قبل النظام الايراني وأذنابه من الاحزاب الميليشياوية في العراق، إلا ان تلك الاصوات تخفت أو تختفي تماماً حين يتعلق الامر بانتهاكات حرية التعبير أو حقوق الانسان من قبل انظمة اخرى (صديقه)، على سبيل الأمثلة لا الحصر: لم نسمع همسة تضامن لإطلاق سراح جوليان أسانج أو تبرئة سنودن، أو اي صيغة استهجان لحجب كل وسائل الاعلام الروسية في اميركا واوربا (بلدان العالم الحر وفردوس الديمقراطية وحرية التعبير)، أو الحكم 34 عاماً بالسجن على سلمى شهاب بسبب تغريدة في مملكة التعزير بالسيف وتقطيع أوصال المعارضين، صمت ازاء تجويع وابادة الشعب اليمني، أما قتل الفلسطينيين العزل وهدم بيوتهم وسلب مزارعهم لتوسيع المستوطنات ومعاناة الحصار والسجون كل ذلك يقع خارج سياق اهتمامات اللبرالي وهو يقف منبهراً أمام أكبر برج في العالم بناه شيخ المطبعين.

-  الموقف من التراث:

توجه عدمي لنبذ التراث واعلان القطيعة مع تأريخنا وتفتيت هويتنا الثقافية، بزعم ان تأريخنا ملوث بفيروسات الاستبداد والارهاب وإن كل فرد منا يحمل داخله إرهابياً صغيراً، موقف متناغم مع الحملة العنصريه لليمين المتطرف ويعارضها بشدة حتى لبراليو الغرب. تلك الاحكام المتعجلة وشيطنة الذات تستند إلى تحليلات كسولة تقصي الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لظاهرة الارهاب.

- الموقف من الاحتلال الامريكي:

بينما يتغنى اللبراليون بالشعارات الوطنية، لايفوتهم -بالتصريح أو التلميح- استحسان بقاء العراق تحت الوصاية الامريكيه التي ستخرج البلاد من النفق المظلم، وتفتح الابواب لبناء عراق مزدهر!! تلك الصيغة المتناقضة لمفهوم الوطنية لم يألفها القاموس السياسي قط عبر تأريخ الأمم التي عانت من الاحتلالات الأجنبية، وقد يكون هذا ما شجع فئه واسعة منهم لزيارة التاريخ الحديث وبناء صورة متخيلة لتمجيد فترة الاستعمار البريطاني وتلميع دور الشخصيات السياسية المتخادمة معه، والطعن بالشخصيات والاحزاب الوطنيه المكافحة من أجل الاستقلال آنذاك.

تلك عيّنه من مواقف جمّة تكشف عن تناقضات حادة في الخطاب السياسي لدعاة اللبرالية وتؤشر للهوّة الواسعة بين النظرية والممارسة، لذا يتعين عليهم اعادة قراءة خطابهم السياسي لتحقيق درجة معينة من الاتساق بين الشعارات ومصداقية  المواقف على أقل تقدير.

***

قصي الصافي

في الاول من يونيو من هذا العام، صرح رئيس الوزراء الاسرائيلي؛ ان اسرائيل سوف تقوم، بكل ما هو ضروري لمنع ايران من ان تمتلك السلاح النووي. في اليوم التالي لهذا التصريح؛ ألغت الخارجية الامريكية، او انها علقت زيارة لوزيرها الى الكيان الاسرائيلي، وقد ربط المراقبون هذا الإلغاء او التعليق بالموقف الامريكي من برنامج ايران النووي. ان هذا التصريح لم يكن هو الاول من نوعه، سواء منه او من بقية المسؤولين الاسرائيليين وحتى الامريكيون، خلال العقدين الماضيين، لم يقما او ينفذا (امريكا واسرائيل) ما هددا به ايران خلال هذين العقدين، سوى البعض من الاعمال المخابراتية في الداخل الايراني، سواء كانت هذه الاعمال باستهداف علماء ايران او المواقع النووية الايرانية، اما بخلاف هذا، فلم تطلقا حتى لو طلقة مسدس على ايران. في هذا الوقت، أو خلال هذه العشرين سنة الماضية الى الآن؛ يواصل البرنامج النووي الايراني تطوره حتى بلغ اخيرا ما بلغ. في تزامن لتصريح نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي، او قبل  هذا التصريح بأيام؛ ترددت الانباء على ان سلطنة عُمان تقوم بواسطة او انها صارت كما هو ديدنها، خلال كل السنوات السابقة، بالقيام بالواسطة بين ايران وامريكا؛ حلقة وصل للمفاوضات غير المباشرة، بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، حول اعادة العمل بالصفقة النووية بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، او ان الاصح بين ايران والدول الكبرى المشاركة بالصفقة النووية مع ايران، والتي نفاها الجانب الامريكي. ان هذا النفي من وجهة نظري المتواضعة؛ لا يلغي حقيقة وجودها، بل ان هذا النفي يؤكدها. الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفي ذات التوقيت، واثناء زيارة رئيسها والوفد المرافق له، الى ايران، قبل ايام من تصريح نتنياهو؛ اكدت من ان الملف الخلافي لبقايا اليورانيوم المخصب بدرجة اكثر من 80%، والتي تدعي الوكالة من انها عثرت عليه في وقت سابق في احد المواقع النووية الايرانية السرية، والتي لم تكشف ايران عنها، والتي تم كشفها للوكالة الدولية للطاقة الذرية من قبل عملاء ايرانيين يعملون لصالح المخابرات الامريكية والاسرائيلية؛ تم طي صفحته، ولم يعد ملفا خلافيا. كما انها اي لوكالة الدولية للطاقة الذرية، اوردت عن فحوى زيارتها الأخيرة الى ايران، أو النتائج التي توصلت إليها مع ايران؛ ان ايران وافقت على اعادة نصب كاميرات في مواقع نووية محددة، التي كانت ايران قد رفعتها في وقت سابق، بالإضافة الى مواقع جديدة اخرى. الخارجية الاسرائيلية في تعليقها على اغلاق ملف اليورانيوم المخصب، ونصب الكاميرات، وتعاون الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع ايران في التوصل الى حلول حول البرنامج النووي الايراني، وايجاد قاعدة عمل مشتركة؛ تتيح لمفتشي الوكالة الدولية، مراقبة الموقع النووية الايرانية؛ قالت في هذا التعليق، من ان الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ تعرضت للضغط السياسي الايراني. الحقيقة ان الوكالة الدولية لم تتعرض للضغط السياسي الايراني، لأن الأخيرة ليس في حوزتها مثل هذه الادوات للضغط السياسي، بل ان الضغط هو امريكي صرف؛ لإيجاد او توفير اجواء لأبرام صفقة جزئية ومرحلية بين ايران وامريكا؛ لمراقبة برنامج ايران النووي، إنما الخارجية الاسرائيلية؛ لا تريد ان توجه اتهاما الى امريكا بايدن؛ كي لا توتر علاقتها مع امريكا بايدن، على ما فيها حاليا من تأزم وتوتر. ان هذا التأزم او التوتر بين اسرائيل نتنياهو وطاقمه العنصري وامريكا بايدن؛ لا يؤثر بالمطلق على التحالف بينهما، او الاصح والادق توصيفا؛ الالتزام الامريكي بحماية اسرائيل وضمان تفوقها العسكري وفي غيره من مجالات التطور على جيرانها العرب. ان المفاوضات الايرانية الامريكية غير المباشرة، بواسطة سلطنة عُمان؛ تهدف الى اعادة احياء الصفقة النووية، جزئيا ومرحليا، كما اشارت الى ذلك الكثير من التقارير الصحفية، سواء الامريكية او الروسية او غيرهما. ايران حتى هذه اللحظة لم تعلق على هذه التسريبات. الولايات المتحدة الامريكية سواء هذه الادارة او اي ادارة امريكية اخرى؛ تريد سواء بالطرق الدبلوماسية او بالضغط الاقتصادي والمخابراتي؛ ان تصل مع ايران الى اتفاق ما، حتى لو كان جزئيا ومرحليا؛ لضمان الاشراف على برنامج ايران النووي، والحيلولة دون صناعة ايران للقنبلة النووية، مع السماح لإيران العتبة النووية، اي ايران القادرة في اي زمان وظرف على صعيد المستقبل، على صناعة السلاح النووي في الحالة، او الظروف التي تفرض عليها، صناعته. ان المنطقة تشهد متغيرات اقليمية؛ جنحت فيها الدول الاقليمية الفاعلة، ايران وتركيا والسعودية ومصر، وغير هذه الدول من دول المنطقة العربية والخليج العربي ودول الجوار الاسلامي، في الاشهر الاخيرة الى حلحلة وتفكيك المشاكل والخلافات التي تعاني منها المنطقة العربية، وحتى جوارها الاسلامي، واعادة العلاقات الدبلوماسية بينها. اعتقد ومن وجهة نظري المتواضعة؛ ان الاتفاق الجزئي والمرحلي لمعالجة اشكالية البرنامج النووي الايراني؛ ربما كبيرة جدا؛ ان يتجه الى الحلحلة والتفكيك ولو جزئيا ومرحليا، الى الاتفاق الجزئي والمرحلي، بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، كجزء مهم جدا، من السياسة الايرانية الجديدة؛ بالعمل على وضع الحلول للمشاكل والمعضلات، وتهدئة الخواطر والمخاوف لدول المنطقة العربية، التي تقف حاجزا يحول دون مسار التعاون البناء بين دول المنطقة العربية ومن بينها، بل من اهمها في هذا الاتجاه؛ دول الخليج العربي وبالذات المملكة العربية السعودية. ان ايران هي الدولة الفائزة بما نتج من هذه المنازلة والاشتباك؛ من نتائج هي لصالح ايران. أذ انها، ربما، كما اوضحت في اعلى هذه السطور المتواضعة،، ربما كبيرة جدا؛ ستنتزع الاعتراف كدولة عتبة نووية اي ايران النووية، من الولايات المتحدة الامريكية؛ وليس ايران القنبلة النووية. المسؤولون الايرانيون يدركون تماما؛ من انهم، او ان ايران النووية بلا سلاح نووي في هذه المرحلة، مهم جدا لها في هذا الوقت، لعبور نهر الضغط الاقتصادي والعزلة الدولية والاقليمية الى الجرف المقابل من هذا النهر؛ حيث الهواء الطلق، الاقتصادي والتجاري والسياسي والثقافي.

***

مزهر جبر الساعدي

 

القضاء يدخل على الخط

إذا كانت الأحزاب السياسية وأذرعها المسلحة قد سيطرت على مطار النجف، الذي يشوب الغموض الجهة المسؤولة عنه حتى الآن، فتارة يقال إنها سلطة الطيران المدني بعد فصلها عن وزارة النقل، وأخرى يقال إنها مجلس المحافظة، وحتى اقتحامه من قبل المتظاهرين في صيف 2018، فإن مطار كربلاء قد حُسمت قضية عائديته كما يبدو لمصلحة الشركات التابعة للعتبة الحسينية.

ففي سنة 2010 قال المشرف على مطار النجف صادق اللبان: "إن مطار النجف هو "ملك لـ 25 مليون عراقي - من الواضح إنه يقصد العراقيين الشيعة فقط، أي أن التطييف السياسي بلغ المطارات - ومن غير الممكن أن يتأثر بقرار أي جهة مهما كانت". مشيراً إلى أن "وزارة النقل طالبت رسمياً بإدارته، إلا أنَّ المحافظة ردَّت بأن المطار مشروع استثماري ومن غير الصحيح تسليم ادارته الى وزارة النقل رغم احترامنا الشديد لها".

وبخصوص مطار النجف أيضا، فقد كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي قرر حل مجلس إدارة المطار الذي يهيمن عليه ممثلو الأحزاب السياسية، وإلحاق المطار بسلطة الطيران المدني في تشرين الثاني سنة 2017، ويبدو أن هذا القرار ظل حبرا على ورق، ولا تعرف على وجه الدقة حتى الآن عائدية المطار وأين تذهب إيراداته المالية. ففي تصريح متلفز بتاريخ 23 شباط من العام الجاري، قال رئيس سلطة الطيران المدني، عماد الأسدي، إنه لا يعرف إلى مَن يعود مطار النجف، مضيفاً أنه لا يعرف أيضاً أين تذهب إيراداته/السومرية نيوز.  

وكانت أنباء صحافية قد ترددت آنذاك عن أن ديوناً ضخمة قد ترتبت على هذا المطار تقدر بمائتين وسبعة وسبعين مليون دولار أي أنها تفوق تكاليف إنشائه، ولكن تمَّ السكوت لاحقا عن هذه القضية ودفنها قضائياً وإعلامياً خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي!

ومن الإشارات القوية والرسمية الجديدة لتدخل الدولة وتأكيد عائدية المطار لها، صدور حكم في قضية فساد كان بطلها رئيس مجلس إدارته، حيث نسجل مصادقة هيئة النزاهة خلال العام الجاري "شباط 2023"على قراري الإدانة الصادرين بحقِّ رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، بعد الطعن التمييزيِّ من قبل الهيئة. 

حيث قررت محكمة استئناف النجف المُصادقة على الحكمين الصادرين بالحبس الشديد غيابياً على رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، "الحكم الأول بالحبس الشديد لمُدَّة ثلاث سنواتٍ جاء على خلفيَّة قيام المُدان بإلحاق الضرر الجسيم بالمال العامّ؛ نتيجة إساءة استعمال السلطة وصرف مبلغ (726,856) دولاراً أمريكياً خلافاً للضوابط، فيما صدر حكم الإدانة الثاني بالحبس البسيط لمُدَّة ستة أشهر، إثر قيامه بمنع الفريق التدقيقيّ التابع إلى هيئة النزاهة من القيام بواجبه وتفتيش مطار النجف، والامتناع عن تزويد الهيئة بالوثائق والأوليَّات، تحت ذريعة أنَّ المطار عبارةٌ عن مشروعٍ استثماريٍّ لا يدخل ضمن صلاحيَّات الهيئة في التدقيق والرقابة/ شفق نيوز". ويلاحظ أن خبر هذا الحكم لم يتضمن اسم المسؤول المدان، ولكن المعروف هو أن رئيس مجلس النجف المحلي هو أحد رجال الدين ويدعى الشيخ فايد الشمري.

مطارات دولية وشوارع مدن مزرية!

هناك أيضاً مشروع لمطار دولي في محافظة ذي قار، شُرع بتنفيذه بهدف تحويل قاعدة عسكرية جوية عراقية شبه مهجورة في محافظة ذي قار تدعى "قاعدة الإمام علي"، ومطار آخر قيد التخطيط في محافظة واسط جنوب بغداد، ومشروع مطار ثالث طالب بإنشائه أعضاء في مجلس المحافظة في محافظة ميسان شرق ذي قار، وجميع هذه المحافظات متجاورة وقريبة من بعضها في إقليم جغرافي محدود المساحة. ويمكن لمطار البصرة الدولي أن يغني عن هذه المطارات جميعا، مثلما يغني مطار بغداد عن مطاري كربلاء والنجف، فالمسافة بين بغداد وكربلاء مائة كيلومتر لا غير، وبينها وبين النجف 176 كيلومترا فقط. ومن الممكن والعقلاني أن تتم الاستعاضة عن هذه المطارات عديمة الجدوى الاقتصادية، بتطوير وتوسعة مطارات بغداد والبصرة والموصل، وبتطوير وتحديث شبكة الطرق البرية المزرية داخل المدن وشبكة السكك الحديدية العراقية العريقة والمتهالكة.

ولكن لماذا "تنجح" مشاريع الاستثمارات الزراعية والصناعية التي تقوم بها العتبات والأوقاف الدينية، كما يروج الأعلام المحابي لها، وتفشل مثيلاتها التي تديرها الدولة؟ هنا، محاولة للإجاب.: تنجح هذه المشاريع لعدة أسباب وعوامل منها:

-لأن مشاريع الأوقاف والعتبات تقوم على أراضٍ وبمواد خام مجانية أو شبه مجانية تعود للدولة، منها كليات ومصانع قائمة فعلاً ومجهزة تجهيزاً تاماً تم الاستيلاء عليها من قبل قوى وشخصيات نافذة في الحكم، وأسماؤها معروفة ومتداولة في الإعلام.

-ولأن الدولة تقدم أموالاً هائلة من الموازنة السنوية الحكومية لدواوين الأوقاف الشيعية والسنية وغيرها، رغم أنها هيئات وقفية مستقلة دستورياً ويفترض أن تكون مكتفية ذاتيا.

-ولأن الأرباح الكبيرة المتأتية من مشاريع مقاولات واستثمارات العتبات الدينية لا تضبطها حسابات سنوية رسمية وعلنية مراقَبة للمصاريف والأرباح والتكاليف، ولا تدفع عنها أية ضرائب أو رسوم كمركية أو غيرها، وقد خُصص لبعضها رصيف خاص في أكبر موانئ البلد لاستقبال مستورداتها من الخارج لتكون معفاة من الرسوم والتفتيش.

-ولأن الأوقاف الدينية والعتبات مستقلة حسب دستور النافذ -دستور مرحلة بريمر - بموجب المادة 103 أولا، والتي تنص على أن "دواوين الأوقاف، هيئاتٌ مستقلة مالياً وإدارياً". ولا تشرف على حساباتها مؤسسات الدولة المتخصصة كوزارات المالية والاقتصاد والتخطيط ولا تُدفَع عنها ضرائب سنوية للدولة. فكيف تخسر مشاريع استثمارية، تأخذ ولا تعطي.

-ولأن مشاريع الأوقاف والعتبات الدينية تشارك في إنجاحها جميع وزارات ومؤسسات الحكومة العراقية وتقدم لها الخدمات والمواد الأولية والآليات والنقل مجانا، ومَن يجرؤ على رفض طلبات إدارات العتبات المستثمرة يعاقب بالنبذ داخل الحاضنة المجتمعية الطائفية ويخسر امتيازاته وحتى منصبه الحكومي غالبا.

ربما تصلح حالة محافظ كربلاء الأسبق، عقيل الطريحي، لتكون خير مثال على هذه الحالات من النبذ والإعفاء من المناصب؛ لقد فقدَ الطريحي منصبه لاحقاً، وتمت إقالته بعد استجوابه غيابياً من قبل مجلس المحافظة في سنة 2019. وكان الطريحي قد كشف المخبوء حين قال في لقاء تلفزيوني مشهور ومنشور على منصة اليوتيوب، إنه كان "موافقاً على إحالة مشروع استثمار مطار كربلاء إلى إحدى شركات العتبة الحسينية، ولكن الجهات العتباتية المستثمرة استبعدت وزارة النقل العراقية من المشروع، وقال حرفيا: "حين أحيل مشروع مطار كربلاء إلى شركة من الشركات التابعة للعتبة الحسينية هي شركة "خيرات السّبطين"، أنا لم أعترض على هذه الشركة، ولكن هم عملوا على استبعاد وزارة النقل الاتحادية، فهل يمكن بناء مطار دولي من دون وجود وزارة نقل؟" وأضاف الطريحي "وحين سألوني: وماذا تقدم أنت كمحافظ للمطار؟ قلت لهم: لا أستطيع أن أقدم شيئاً باسم المحافظة. فقال محاوري: ليش، أليس هذا المشروع للإمام الحسين؟ فقلت له: هذه لا تبيعها علينا لأننا نعرفها، والحسين عليه السلام ليس له علاقة بالمطار!".

ثم يسجل الطريحي الآتي: "لقد وافقت على هذا المشروع لأنني بصراحة خُدعت من قبل صاحب شركة "خيرات السبطين" ومن سامي الأعرجي، رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق" ويبقى السؤال في حالات كهذه قائما؛ فلماذا لا يتكلم المسؤولون الحكوميون والقضائيون ويكشفون المستور إلا بعد ان تتم الإطاحة بهم ويستبعدون عن مناصبهم؟ ألا يعتبر هذا دليل إدانة ضدهم، قد يصل إلى درجة اتهامهم بالتواطؤ طالما كانوا صامتين وهم في موقع المسؤولية؟

إن ما يقال عن فشل مشاريع القطاع العام التي تديرها الدولة يثير العديد من الاعتراضات والتحفظات، لأنه قول لا تنطبق على واقع العراق بعد الاحتلال الأميركي وقيام حكم المحاصصة المكوناتية، فغالبية مشاريع ومصانع ومزارع القطاع العام تم تدميرها خلال الحرب، أو محاصرتها أو التضييق عليها و قطع التمويل عنها وتحويل بعضها الى مشاريع "تمويل ذاتي" لا سوق لها، بعد الحرب ضمن خطة منهجية مسبقة لتدمير العراق وتحويله الى سوق استهلاكية لبضائع دول الجوار؛ بلد مهشم بلا جيش ولا زراعة ولا صناعة ولا ثقافة ولا صحة ضمن معادلة الاحتلال الأميركية القائلة: لكم أيها الطائفيون حكم العراق ولنا أن تجعلوه قاعاً صفصفا!

حين يتدخل القضاء

أما عن محاولات القضاء الدخول في متاهة "الفساد المقدس" المرعبة فيمكن تسجيل محاولة رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي عزة توفيق جعفر من مدينة الموصل، والذي تسلم مهمات رئاسة هيئة النزاهة في شهر تموز من عام 2018. فقد أعلن القاضي جعفر في بداية سنة 2021 عزمه على تقديم تقرير يكشف جميع ملفات الفساد بما فيها بعض مشاريع العتبة الحسينية كمشروع إنشاء مطار كربلاء بقيمة ملياري دولار. وفعلا زار القاضي جعفر العتبة الحسينية التي أصدر أمينها العام الشيخ عبد المهدي الكربلائي بياناً أكد فيه دعمه لمكافحة الفساد. ولكنَّ القاضي المذكور لم يتمكن أبداً من تقديم تقريره الموعود لأنه قتل داخل سيارته في حادث مروري، وكان القاضي الراحل قد قال في خطاب مسجل له قبل مقتله عبارة لها مغزاها ونصها "إن منظومة الفساد أضحت اليوم لديها استراتيجيات وخطط، وربما تصل إلى مستويات تكون أقوى من الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد"!

من الملفت حقاً أن إعلام دواوين الأوقاف وإدارات العتبات الدينية لم تُعِر كبير اهتمام لكل ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام والمواطنون العراقيون على منصات التواصل الاجتماعي وهو كثير، إلا مرة واحدة! وذلك حين اتهمها بالفساد طرف إعلامي أميركي فسارعت إلى الرد المطول والغاضب، ولهذا دلالاته ومعانيه العديدة؛ منها أن هذه الأطراف المتهمة بالفساد تعرف جيدا أن الطرف الأميركي هو الوحيد القادر على إقصائهم عن مناصبهم وامتيازاتهم بجرة قلم السفيرة ببغداد بعد أن ضمنوا سكوت الدولة على فسادهم!

فللمرة الأولى والوحيدة حتى الآن، ردت العتبة الحسينية في كربلاء على تحقيق تلفزيوني بثته قناة "الحرة -عراق" الأميركية، تضمن الإشارة إلى شبهات فساد تحوم حول منظومة العتبتين الدينيتين في كربلاء، بإدارة وكيلي المرجع الأعلى علي السيستاني، الشيخين عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي. كما تحدث وثائقي قناة الحرة عن دور مرتضى الحسني صهر الشيخ الكربلائي في إدارة تلك المشاريع، وعن دور ميثم الزيدي زعيم "فرقة العباس" القتالية، التابعة لحشد العتبات، وهو صهر أمين عام العتبة العباسية الشيخ أحمد الصافي. ويبدو أن الجهة الإعلامية الأميركية نسيت أو تناست أفضال الشيخين وخاصة الصافي على العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال ونظام حكم المحاصصة الطائفية الذي تمخضت عنه وخطورة الدور الذي قام به - الصافي - حين كان العضو الأول والمتنفذ في لجنة كتابة الدستور العراقي سنة 2005 ممثلاً للمرجعية النجفية. وقد أكد دورَهُ هذا أحدُ أعضاء اللجنة وهو السيد ضياء الشكرجي، مقرر اللجنة الأولى في مقابلة مع التلفزيون الرسمي العراقي قبل سنوات قليلة، والتسجيل منشور على منصة يوتيوب، حيث قال "إن رئيس لجنة المبادئ الدستورية الأساسية وممثل المرجعية النجفية الشيخ أحمد الصافي كان يضغط عليه ويمنعه من توزيع محاضر الجلسات على الأعضاء وأنَّ الشيخين الصافي وهمام حمودي سربا صيغة للدستور غير متفق عليها لجريدة "الصباح" الرسمية وقالا إن هذه الصيغة قد تم الاتفاق عليها قبل أنْ يتم أي اتفاق، ما حدا به إلى الاستقالة من اللجنة".

الرد اليتيم والاستثمارات "المجازية"

من الواضح أن تحقيق قناة "الحرة" قد أغضب الشيخين ومعهما إدارة العتبتين والجهات والشخصيات السياسية المقربة منهما فصدر ذلك البيان الغاضب، فلنلق نظرة سريعة على بعض فقراته الأهم:

يبدأ البيان بفقرة مليئة بالدلالات تقول "تابعت إدارة العتبة الحسينية المقدسة باستهجان بالغ ما صدر عن قناة الحرة من تقرير يغالط الحقيقة ويجانب الصواب ولعل الهدف من ورائه لم يكن مهنيا البتة، فقد آثار التقرير علامات استفهام كبيرة وكثيرة ولاسيما استهداف العتبات بوصفها رمزا من رموز الاستقرار والنجاح، فضلاً على كونها مساحة تصحيح وتصويب طوال تعاقب الحكومات بعد 2003 وما تركته من ثغرات تستوجب ملأها بما ينفع البلاد والعباد. إذ سعت إلى تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة، فلم تكن العتبات مراكز دينية وحسب وإنما كانت مراكز تغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة". والبيان هنا لا يراوغ أو ينفي ما يتهم به من أفعال وما يوصف به ويقال عن تدخلاته في الشأن العام وخاصة الاقتصادي بل هو يعطي لأصحابه حق القيام بدور الدولة، أو بدور الهيئة الناجحة في دولة فاشلة تترك وراءها الثغرات، فبادرت هي كما يقول البيان حرفياً إلى "تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة لتغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة"!

أما عن مشاريعها الاستثمارية فبيان العتبة يعترف بوجودها، ولكنه يضيف أنها مشاريع استثمارية "على نحو مجازي"، لأنها لا تبتغي تحقيق الجنبة الربحية بقدر تحقيق أهداف خدمية واجتماعية وصحية. ولكن كيف يتأكد الجمهور من عدم تحقيق جنبة مالية وحسابات هذه المشاريع سرية لا يكشف عنها للرأي العام، وهل هناك مشاريع صناعية وزراعية وخدماتية بهذا الحجم لا تدر أرباحاً إن لم تكن مجانية فهل خدمات ومنتوجات العتبات مجانية أو حتى بسعر الكلفة؟!

وفي الفقرة الثالثة المقتضبة منه يقول البيان "العتبة الحسينية المقدسة مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة (14) ألف منتسب" ويبدو أن البيان بهذه الفقرة ينفي أن يكون عدد منتسبيه أكثر من هذا الرقم أو أنه يحاول بها تبرير المخصصات الكبيرة التي تخصص له في الموازنة السنوية العامة للدولة.

أما عن النقطة الأهم والمتعلقة بالرقابة المالية والمحاسبة الحكومية فقد ردت العتبة في بيانها بالقول "إنَّ جميع مشاريع العتبة الحسينية المقدسة الاستثمارية منها والخدمية يخضع الإنفاق فيها إلى تعليمات وقرارات الموازنة العامة للحكومة الاتحادية، إذ يدقق قسم الرقابة المالية في العتبة جميع النفقات والإيرادات، ليدققها من بعد ذلك مدقق خارجي مجاز من وزارة المالية، وترفع بعد ذلك إلى ديوان الوقف الشيعي الذي يضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق". وهذه الفقرة صريحة جدا فهي تجعل الرقابة المالية والتدقيق بيد إدارة العتبة نفسها ثم يكلف مدقق خارجي بتدقيق الحسابات.

إن كون المدقق يجب أن يكون خارجياً وليس من وزارة المالية العراقية، واضح المرامي تماما، ويكشف كل شيء، فالطرف المستثمِر والمتربِّح يريد أنْ "يحسب الحِسبة لوحدهِ" وبطريقته الخاصة والتي لا تقبل شريكا! أما يحدث لاحقاً من رفع الحسابات الى الوقف الشيعي ليضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي "لغرض المراجعة والتدقيق"! فالمهم ليس التدقيق والمراجعة المباشرة من قبل جهاز الرقابة المالية في وزارة المالية بل تُجرى المراجعة والتدقيق من قبل العتبة ثم ترفع الى إدارة الوقف "لتوضع بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق". بخصوص الفقرة الأخيرة فلم يؤكد مصدر رسمي سواء من وزارة المالية او غيرها وطيلة العشرين سنة الماضية أن مراجعة وتدقيقا قد أجريا على حسابات الأوقاف أو العتبات الدينية. وحتى إذا افترضنا جدلا صحة المعلومة الخاصة بإجراء المراجعة والتدقيق من قبل الرقابة المالية الوزارية فلماذا تبقى هذه المراجعة والتدقيق والمبالغ الخاصة باستثمارات العتبات والأوقاف سراً من الأسرار لا سبيل إلى الاطلاع عليها من قبل الرأي العام والإعلام المستقل؟

خلاصات

إن ما تقدم التطرق إليه من ملفات فساد موثَّقة إعلاميا في هذه الدواوين وإدارات العتبات لا يعني بأية حال من الأحوال أنَّ الفساد مقتصر عليها، بل هي نماذج ربما تكون أخف وطأة قياساً إلى نماذج أخرى في دوائر ومؤسسات حكومية، وهي بمثابة رأس جبل الجليد الذي يظهر للرائي وما خفي كان أعظم.

لقد تحولت الدولة العراقية ومؤسساتها من دولة تديرها عصابة مسلحة صغيرة قبل الاحتلال سنة 2003 إلى أخطبوط من عشرات العصابات بملايين الأذرع مهمته توزيع الريع النفطي الهائل على شبكة معقد ومتضخمة باستمرار من الزبائن والموالين النافذين الذين يمنحون ولاءهم واستعدادهم للتضحية بكل شيء مقابل الفوز بحصتهم المقررة من كعكة الفساد وضمان ديمومة نظام الحكم. إن مؤسسات الدولة العراقية في أيامنا لم تعد تعاني من الفساد فحسب، بل يمكن القول إنها أصبحت تتنفس الفساد في شهيقها وزفيرها، وإنها ستسقط إذا توقفت عن إدارة الفساد تحت غطاء توزيع الريع النفطي على الشبكة الزبائنية، والتي تقتطع لأهل النظام وهم بالآلاف حصة الأسد من مليارات الموازنة، مقابل الفتات للجيش المليوني من أصحاب الرواتب ومخصصات الإعانة المجتمعية (خصصت الموازنة أكثر من 150 ترليون دينار للموازنة التشغيلية ومنها الرواتب من مجموع 197 ترليون دينار هو إجمالي الموازنة، وبهذا يبقى 47 ترليون دينار للمشاريع الاستثمارية)، والذين يقترب عديدهم وفق آخر الإحصائيات من خمسة ملايين مُعيل  تم تكبيلهم بسلسلة الرواتب والذين عليهم استهلاك ما يتم استيراده من غذاء من دول الجوار.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

..........................

* ولكن عدد هذا الجيش للبطالة المقنعة في تزايد، وخصوصا حين حولت الحكومة الحالية برئاسة السوداني سياسة ضخ ونثر التعينات العشوائية لتكون بمثابة رشى تقدمها الحكومة للعاطلين عن العمل والخريجين الجدد من الكليات والمعاهد في بلد لا ينتج حتى غذاءه، وهذا الواقع بحد ذاته سيكون عامل خلخلة واهتزاز عنيف في الوضع العام مستقبلا، بمجرد أن ينخفض سعر برميل النفط أو أن تمنع وزارةُ الخزانةِ الأميركية العراقَ من التصرف بعائدات نفطه والتي يشترط أن تمر أولا عبر الممرات المالية الأميركية. ألا يوحي هذا الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه العراق وشعبه منذ عشرين عاما بأنه في الحقيقة بلد مختطف وشعب يعيش تحت التهديد بالإفقار والتجويع والحصار فيما تشارك حكوماته الفاسدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الإبادية؟

 

 

لماذا تركز المعارضة التركية على شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حتى في ظل الانتخابات التي أعادته إلى تصدر المشهد التركي بفارق ليس كبيراً كما كان معهوداً في الانتخابات المتعاقبة منذ عشرين عاماً.

ولكن قبل الولوج إلى الأسباب والبراهين التي تفسر العنوان أعلاه.. فلا بد من الحديث عن مستقبل تركيا في ظل فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية حتى عام 2028.

وعليه فإنه لن يكون مجدياً إذا أسقطنا من حسابات المرحلة المقبلة في تركيا، مصيرَ أردوغان الجسدي والمعنوي، الزعيم التركي الفذ الذي أسقطته المعارضة في شباك العنكبوت من خلال التقارب في نتائج الانتخابات وتقاطع الأجندات حيناً وتعارضها، وإن وَهَنَتْ خيوطُهُ ما دام الأمر يتعلق برئيس تركيا القوي الذي علمته التجربة كيف يختبر الأسباب جيداً لضبت المخرجات من باب الحيطة والحذر؛ لأن المعارضة ستكون له بالمرصاد.. لا بل ستعدُّ عليه أنفاسه ورصد زلاته لتغذية مشروعها التضليلي المسخّر لشخص اردوغان.. والقائم في بعض جوانبه على التحريض المباشر وفق أجندة المعارضة الكردية؛ لذلك فالحذر سيضع جهاز أمنه الشخصي على المحك ليكون غاية في التأهب الدائم حتى لا يمسَّ أردوغان الضررُ.

إن خبرة أردوغان وإنجازاته لا يمكن إنكارها بل وضعت المعارضة في حيرة من أمرها.. فأرغمت على التقاطع الإيجابي مع بعض القوانين التي استحدثها أردوغان خلافاً لمبادئ أتاتورك القومية.. ففي 8 أكتوبر 2013 ألغت تركيا حظر ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة ماعدا القضاء أو الجيش (أعيد السماح به في الجيش بعد ثلاثة اعوام)، منهية بذلك حظر دام نحو 90 عاما.

وحتى تكسب المعارضة فئة المحجبات فقد وعدت فيما لو فازت بسن قانون يمنع العودة إلى قوانين أتاتورك التي منعت ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية.

من جهته وكيلا يبدو أردوغان متناقضاً مع المعارضة في الرؤية القومية فيخسر قاعدة جماهيرية كبيرة فقد أقام حملته على أساس القومية التركية مؤكداً في ذلك على أنه رئيس دولة وليس سلطاناً ذا أجندة دينية.

وتتجلى خبرة أردوغان الراسخة في أنه شغل منصب الرئيس الثاني عشر والحالي لتركيا منذ عام 2014. وقد تقلد سابقًا منصب رئيس الوزراء من عام 2003 إلى عام 2014 ورئيسًا لبلدية إسطنبول من عام 1994 إلى عام 1998 إذ يعترف له حتى بعض خصومه التقليديين بأنه انتشل تركيا من الحضيض ووضعها في مقدمة دول العالم سياسياً واقتصادياً ضمن الأعضاء المشاركين المخصصين في نادي باريس للدول االدائنة، وعضوية مجموعة العشرين (G20)، على الرغم من الانتكاسات الاقتصادية التي عثَّرَتْ طموحاتِهِ على النحو التالي:

أولاً:- ضائقة كورونا التي أثرت سلبياً على الاقتصاد العالمي المتشابك في المصالح ومنها تركيا.

ثانياً:- استهدافه غير المعلن من قبل الغرب لتمرده على رغبة أمريكا في تشديد الحصار على بوتين الشريك الاقتصادي الأهم لأردوغان.

وكان قبل ذلك قد أتم صفقة شراء منظومة إس 400 الدفاعية الروسية.. فما كان من أمريكا حينذاك إلا أن أوقفت المساهمة التركية في تصنيع وامتلاك طائرة أف 35 الأمريكية.. فكانت ضربةً بضربة.

ثالثاً:- تعرض تركيا لزلزال قهرمان مرعش في فبراير 2023 والذي كبدها خسائر ضخمة ما انعكس سلبياً على الاقتصاد التركي برمته،

كل هذه العوامل أدت إلى هبوط العملة التركية بمعدلات قياسية جيرتها المعارضة ضد أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث وصلت إلى 18.8297 ليرة للدولار، كما تراجع مؤشر بورصة إسطنبول الرئيسي بنسبة 4.30 % إلى 4782.95 نقطة.

وما يخيف خصوم أردوغان هو أنه صاحب استراتيجية متكاملة تقوم على المرونة والاستقلالية وعدم التبعية العمياء وتقديمه المصالح العليا لتركيا على كل الملفات والوصول إلى معادلة صفر مشاكل، الأمر الذي جعل البعض يفكر في إخراج أردوغان من المشهد التركي بأي شكل كان حتى لا يرتبَ هذا الرئيسُ الاستثنائيُّ البيتَ التركيَّ على هواه؛ لخمسة أعوام مقبلة، فيرسخ بذلك لبناء دولة عميقة لا يسهل تجاوزها بسهول مما قد يتيح لحزب التنمية والعدالة بإدارة الملفات التركية حتى وهو خارج الحكم مستقبلاً في الظل.

وعليه.. فقد تعامل أردوغان مع تلك الملفات عبر مسيرته بمرونة واقتدار مغلباً مصالح تركيا العليا أثناء اجتراحه للحلول.

فكيف حدث ذلك؟

ولنبدأ بملف الحرب الأوكرانية الروسية إذْ قام أردوغان بتحييد بلاده في هذا الصراع المدمر، وتحول من خصم تابع للناتو إلى وسيط مقبول ومحتمل من قبل كل الأطراف.

ومن باب المصالح المتبادلة، فقد طور أردوغان شراكته الاقتصادية مع روسيا التي تمخض عنها تدشين أول مفاعل للطاقة النووية في البلاد، شيدته شركة "روساتوم" الروسية الحكومية للطاقة النووية في 27 أبريل العام الجاري. وهذا أزعج الغرب إلى درجة أن الإعلام التركي ردد ما نشر على لسان أل(كي جي بي) الروسية في أن أجهزة المخابرات الغربية تقف وراء محاولة اغتيال أردوغان بالسم قبل شهر.

إلى جانب ذلك هناك ملف القضية الفلسطينية التي دفعت المصالح الاقتصادية العليا أردوغان إلى الضغط على حماس بغية تهميش دورها الميداني في أي مواجهات محتملة مع الشريك الاقتصادي الجديد"إسرائيل"، ما أدّى إلى طرد القادة الحمساويين العسكريين من الأراضي التركية وفق صحيفة هآرست في مايو 2022 وذلك بطلب إسرائيلي؛ بغية إنجاح الشراكة في مشروع الغاز الإسرائيلي الذي من المزمع مروره عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، فتتحول تركيا على إثره إلى محطة توزيع للطاقة تضم خط السيل التركي الروسي.

ولعل من الملفات الحساسة التي تعامل معها أردوغان بمرونة لافتة، الملف اليوناني الذي أصابه مؤخراً بعض الفرج حيث وعد أردوغان بفتح صفحة جديدة مع اليونان بعد انتهاء الانتخابات اليونانية حيث أظهرت النتائج الأولية الرسمية الأحد الماضي أن حزب "الديمقراطية الجديدة المحافظ" بزعامة ميتسوتاكيس في طريقه لتحقيق انتصار كبير في الانتخابات.

وتعمل الدولتان (أردوغان وميتسوتاكيس ) العضوتان في الناتو بجد من أجل تخفيف حدة التوتر بسبب نزاعات إقليمية واحتياطي الغاز الطبيعي شرقي المتوسط.. ويعود هذا الانفراج للدور اليوناني الإيجابي في مساعدة تركيا من تداعيات الزلزالين الأخيرين كبادرة حسن نية.. ووفقاً لهيئة الأركان اليونانية العامة، لم تحلق أي طائرات عسكرية تركية فوق الجزر اليونانية منذ وقوع الزلزالين، وهذا يمهد لمستقبل مشرق بين البلدين ما سيجمد الخلاف ويواريه بعيداً لصالح تنامي المصالح المشتركة.

ثم يأتي الملف السوري المتشعب والذي يقلق أردوغان، ما استرعى منه التفكير الجاد بحسمه تحت شعار صفر مشاكل، من خلال الالتقاء الموعود مع الرئيس السوري حافظ الأسد بغية حل مشكلة اللاجئين السوريين، الذين تحولوا إلى ورقة جوكر بالنسبة للمعارضة التركية، حيث عَزَتْ جزءاً من التضخم في تركيا إلى وجودهم الذي قيل بأنه اثقل على الأتراك وأصابهم برهاب المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك احتمال البحث في كيفية مساعدة الجيش السوري على بسط كامل سيطرته على الشمال السوري الكردي الخاضع لحكم ذاتي بحكم الأمر الواقع. حيث تسيطر على المنطقة قوات سوريا الديمقراطية الداعمة لحزب العمال التركي الكردستاني المحظور في تركيا.. وسيكون ذلك لو كتب له النجاح وفق تفاهمات مع تركيا من باب الضروريات الأمنية.

ويأتي اهتمام أردوغان الجاد بالملف الكردي كون المعارضة التركية استغلته جيداً ولخطورته على مستقبله السياسي والأمني.

صحيح أن أردوغان سعى من قَبْل لإبرام اتفاق مع الأكراد المطالبين بدولة مستقلة، واضعاً بموجبه حداً لنزاعٍ امتد أعواما؛ إلا أن انهيار المباحثات بين الطرفين في العام 2015، ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّض لها أردوغان في العام التالي، دفعته إلى استئناف العمليات العسكرية في مناطق الأكراد، وجعلته أقرب إلى القوميين الأتراك، الذين كانو وراء اتفاقية لوزان بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، على حساب معاهدة سيفر عام 1920 التي كان من المقرر لها منح الأكراد الأمل في إنشاء دولة مستقلة لهم. بعد رفض حكومة أتاتورك الاعتراف بالمعاهدة.

المعارضة التركية من جهتها اخذت تستميل الأكراد لحسم معركتها مع اردوغان لكن فوز الأخير قلب الطاولة عليهم.. واعتمدت المعارضة بقيادة كمال كليجدار أوغلو مرشح التحالف الوطني للرئاسة فيما لو فاز، على وعود أطلقها حول الإفراج عن العديد من السجناء بينهم صلاح الدين دميرتاش الشخصية الرئيسية في حزب الشعوب الديموقراطي المؤيد للأكراد والعدو اللدود للرئيس اردوغان، والمسجون منذ عام 2016 بتهمة "الدعاية الإرهابية". إلى جانب تهديدات المعارضة الكردية المقيمة في السويد بتصفية أردوغان جسدياً، وعليه فإن المنطق يحكم بأن ترتيب مثل هذه العملية جارياً إذا اخذنا بتراكم الدوافع إليها.. من هنا يمكن تفسير حكم القضاء السويسري (محكمة برن) في يناير 2022 ببراءة الأكراد الأربعة الذين حرضوا على قتل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال تجمع أقيم قبل خمس سنوات.. حيث رفع أنصار لحزب العمال الكردستاني التركي أمام البرلمان الفيدرالي السويسري في برن، لافتة تحرّض على قتل أردوغان.

وهو الحكم الذي أدى بأردوغان إلى رفض عضوية السويد في الناتو إلى أن تسلم المطلوبين إلى تركيا.

وفي تقديري فإن الملف الأمني التركي معقد للغاية.. والرهانات على اغتياله ستكون صعبة وشبه مستحيلة.. ورجل كأردوغان سواء اتفقنا معه أو اختلفنا فهو الأقدر على قيادة تركيا بعد أن انتهت اتفاقية لوزان، ولارتباط هذا الرجل بتفاصيل التنمية التركية منذ عشرين عاماً.. والله يستر!

***

بقلم بكر السباتين

1 يونيو 2023

(أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟)... إنجيل متى (5: 13).

قمة جبل الجليد

كشف هروب رئيس ديوان الوقف السني المُدان بتهم فساد سعد كمبش من سجنه، ثم وإلقاء القبض عليه وفاته بعد ساعات خلال مطاردته، كشف عن وجه آخر من أوجه الفساد المالي والإداري المستشري في جميع مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها ومنها المؤسسات والهيئات الدينية التي تعتبر مستقلة دستوريا يمكن تسميته بالفساد "المقدس" لأنه يتعلق بإدارات الأوقاف الدينية، هذا أولا، ولكنه أيضا، وهذا ثانيا قشط الطبقة المعنوية "الدينية" الرقيقة التي كانت تغلف هذا الفساد كاشفاً عن عمق التخادم "تبادل الخدمات والحماية" بين مؤسسة الحكم السياسية والمرجعيات الدينية الداعمة لها سرا وعلانية، وخصوصا في الأزمات الحادة، مقابل سكوته على فسادها! 

منذ انطلاق "العملية السياسية الأميركية" القائمة على المحاصصة المكوناتية بعد احتلال العراق، وخلال عشرين عاما، تحول بعض هذه المؤسسات والمشاريع التابعة للأوقاف والعتبات الدينية إلى نوع من جُزُر اقتصادية إقطاعية شبيه بالاقتصاد الكنسي الذي كان سائداً في أوروبا القرون الوسطى أو حتى بالإقطاع العسكري في زمن الدولة العثمانية. ولم تكن عامة الناس غافلة عما يحدث في الأوقاف وفي المؤسسات الحكومية الأخرى من فساد ونهب للمال العام بلغ درجة من التباهي بارتكابه والتنافس في تحطيم أرقام المبالغ المنهوبة والتي توجت بما أطلق عليها "سرقة القرن" والتي بلغت مليارين وخمسمائة مليون دولار. وقد هتف متظاهرون سلميون عراقيون حتى قبل انتفاضة تشرين 2019، بشعار أغضب المؤسسة الدينية والأحزاب التي تستظل بعباءتها يقول: " باسم الدين باگونا "سرقونا" الحرامية "، حيث بلغت ممتلكات واستثمارات الأوقاف والعتبات الدينية في العراق مليارات الدولارات، لا يعرف أحد كيف تدار وأين تذهب. وتشمل تلك الممتلكات والاستثمارات مصانع ومزارع شاسعة ومؤسسات خدمية من المستشفيات والجامعات والمطارات وشركات استيراد وأرصفة مستقلة في الموانئ...إلخ. 

إنها مؤسسات ربحية على الأرض، ولكنها على الورق وفي أنظمتها الداخلية مؤسسات معنوية مستقلة غير ربحية لا تدفع ضرائب أو رسوماً كمركية للدولة وتتمتع بالأولوية والأفضلية في المعاملات والمقاولات، ولا تخضع للمراقبة والتفتيش المباشرين من طرف دائرة الرقابة المالية والضريبية، ولكنها كما تزعم تدقق حساباتها بنفسها بمشاركة مدقق خارجي "من خارج وزارة المالية" تختاره هي، كما انها تُسَخِّر أجهزة وآليات وإمكانيات دوائر الدولة لمصلحتها.

هذا ما يجعل هذه العتبات والأوقاف أشبه بالدويلات المتضخمة داخل الدولة وعلى حساب الثروة الوطنية والمال العام، بل إنَّ بعضاً منها أصبح محمياً بمليشيات مسلحة تابعة له عقائدياً، تضم آلاف المقاتلين. مثال ذلك نجده في "حشد العتبات" المؤلف من أربع فرق مقاتلة، تضم عشرين ألف مقاتل. كانت هذه الفرق قد انفصلت عن كيان الحشد الشعبي المشرعَن دستوريا. ليتبعه هذا الأخير - الحشد الشعبي - في الدخول إلى الميدان الاقتصادي بعد أقل من عام. ففي نهاية تشرين الثاني 2022، وافق مجلس الوزراء العراقي على طلب "هيئة الحشد الشعبي" تشكيل شركة عامة باسم شركة "المهندس". وستكون هذه الشركة ذات رأسمال بدئي قدره مئة مليار دينار عراقي، بما يسمح للحشد بالدخول بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة في النشاط الاقتصادي والاستثماري في البلد.

والواقع فإن إنشاء شركة حكومية للهندسة وأعمال البناء ليس أمراً سيئاً بحد ذاته، بل هو يلبي حاجة أكيدة في الوضع العراقي المتردي على صعيد البنى التحتية، وهو قد يذكر البعض بشركة حكومية عملاقة سابقة هي الشركة العامة للمقاولات الإنشائية. تولت هذه الأخيرة في عراق السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات من القرن الماضي إنجاز نسبة كبيرة من مشاريع البنية التحتية، كما أنجزت إعادة إعمار العراق مرتين بعد حرب الخليج الثانية وبكفاءة عالية ومشهود لها وبإمكانات محلية محدودة وفي ظروف حصار قاسٍ. وقد تم تفكيك هذه الشركة لاحقاً الى عدة شركات إنشائية اشتهرت منها شركة الرشيد للمقاولات، ولكنها ضمُرت وكادت تختفي في عهد ما بعد الاحتلال الذي دمر جميع مؤسسات القطاع العام من خلال تطبيق طبعة شوهاء من "النيوليبرالية" التي يصفق لها اليوم الساسة الإسلاميون الشيعة والسنة والقوميون الكرد، وهم يحلمون بدخول "فردوس" الرأسمالية المنشود من بوابة اقتصاد هجين وعبثي لا يُفهم رأسه من أساسه!

قلنا إنَّ قرار إنشاء شركة هندسية أو بنائية ليس سيئاً بحد ذاته، لكنْ أنْ تقام شركة هندسية تتبع جهازا عسكريا رسميا يرتبط مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة ولا علاقة له بالوزارة المتخصصة بالبناء والهندسة، فهذا أمر جديد يثير العديد من علامات الاستفهام حول ماهيته وجدواه وأهدافه الحقيقية. وإذا كانت الدولة بحاجة ماسة فعلاً لشركات هندسية وغير هندسية لترميم اقتصادها والبنية التحتية المتهالكة، وهي كذلك حقاً، فلماذا لا تعيد الحكومة ترميم فروع الشركة الأم للمقاولات الإنشائية لتتولى إصلاح ما يمكن إصلاحه من الحطام العراقي العريض الذي تعيث فيه فسادا شركات فاشلة محلية وأجنبية وأخرى وهمية ولصوصية نهبت الكثير من المال العام كما تؤكد تقارير هيئة النزاهة وأجهزة القضاء ذات الصلة؟  

الأوقاف الدينية قبل الاحتلال 

بنظرة سريعة إلى الماضي، نعلم أن الأوقاف الدينية التابعة لجميع الأديان والمذاهب العراقية كانت، ومنذ قيام الدولة العراقية المستقلة شكليا عن بريطانيا سنة 1922، تابعة مباشرة لوزارة حكومية واحدة تسمى وزارة الأوقاف، ثم أضيفت لها لاحقة "والشؤون الدينية" في العهد الجمهوري، وكان آخر وزير من عشرين وزيرا منهم هو عبد المنعم أحمد صالح التكريتي.

أما بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003، وتشكيل حكومة محلية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، فقد تم تفكيك هذه الوزارة على أساس طائفي، واستحدثت ثلاثة دواوين رسمية ترتبط مباشرة بمجلس الوزراء؛ الأول هو ديوان الوقف الشيعي وثانٍ باسم ديوان الوقف السني وثالث باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية. وكانت تلك إشارة الانطلاق لتفكيك الدولة والمجتمع العراقيين بمباركة وتشجيع من المرجعيات الدينية ودول إقليمية مجاورة للعراق ومشاركة فعالة من جميع الأحزاب السياسية في ما سُميت "العملية السياسية الأميركية"، كمقدمة تمهيدية لما آل إليه الوضع العراقي لاحقا.

إنَّ نظرة سريعة إلى هيكلية واحدٍ من هذه الدواوين تعطينا فكرة أولية عن طبيعتها، ففيها مجموعة من الدوائر، يقود كل واحدة منها موظف بدرجة مدير عام تدفع الحكومة راتبه هو موظفيه، وهم بالآلاف، وتلك الدوائر هي:

الدائرة القانونية، والدائرة المالية والإدارية، والدائرة الهندسية، ودائرة العلاقات العامة والإعلام، ودائرة التخطيط والمتابعة، ودائرة التعليم الديني، ودائرة الأمانة العامة لإدارة واستثمار الوقف وتضم ثلاثة أقسام هي؛ قسم الأملاك الموقوفة وقسم الأراضي الزراعة، وقسم الاستثمار. وأخيراً، دائرة المؤسسات الخيرية. ويشرف على هذه الدوائر المجلس الأعلى لديوان الوقف المعني، يقود عمل المجلس رئاسة الديوان المؤلفة من رئيس الديوان وهو بدرجة وزير، يعين باقتراح من مجلس الوزراء بعد موافقة المرجع الديني الأعلى في حالة ديوان الوقف الشيعي، إلى جانب عدد من الخبراء والمستشارين.

إن المدقق في هذه الهيكلية للديوان الوقفي لا يمكنه أن يفرق بينها وبين هيكلية أية شركة أو كارتل شركات اقتصادية ربحية، وإلا فما علاقة الهندسة والتخطيط والعلاقات العامة والإعلام والاستثمارات بديوان أوقاف هو أصلا جهة دينية روحانية غير ربحية؟

عينات من ملفات كثيرة

لم تعد قضايا الفساد تفاجئ أو حتى تثير اهتماماً خاصا لدى غالبية المواطنين العراقيين لأنها بلغت من الشيوع درجة بات معها الناس لا يتفاجأون من وجود الفاسدين وأخبار الفساد بل من ندرة غير الفاسدين وحالات رفض الفساد أو كشف بعض الفاسدين - كأكباش فداء - من نهابي ثروات الشعب. وهذا ما يمكن أن يوصف بأنه تطبيع اجتماعي ممنهج للفساد والفاسدين وجعله ظاهرة عادية في مجتمع بلا دولة أو بدولة مسلوبة الإرادة وتابعة للأجنبي.

إنَّ ملفات الفساد التي كُشف النقاب عنها في الإعلام، وعالج القضاءُ نماذجَ منها لا تستثني وقفاً من الأوقاف الدينية العراقية بل طاولتها جميعا. ففي ما يتعلق بالوقف المسيحي على سبيل المثال والبداية، نقرأ هذا الخبر الذي يكرس واقع أن هذا الوقف ضحية فساد لطرف آخر من طبيعة مليشياوية، فقد هاجم بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق الكاردينال لويس ساكو، خلال شهر أيار الجاري رئيسَ حركة بابليون المسيحية - والتي هي جزء من الحشد الشعبي - ريان الكلداني، ووزيرة الهجرة التابعة لهذه الحركة إيفان فائق. وقال ساكو في مؤتمر صحافي، إن "ريان الكلداني قام بسرقة أملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى ويحاول شراء رجال الدين المسيح بمساعدة امرأة وضعها بمنصب وزير (يقصد وزيرة الهجرة إيفان فائق، وإنه استحوذ على (كوتا) المسيحيين في الانتخابات الأخيرة/ وكالة شفق نيوز في 6 أيار 2023".

بانتقال إلى الوقف السني نسجل صرخة الشيح أحمد حسن الطه رئيس المجمع الفقهي العراقي فقد انتقد بحدة الفساد والفاسدين في الوقف السني علناً في إحدى خطب الجمعة، وما يزال تسجيلها بالصوت والصورة منشورا على موقع يوتيوب قائلاً "انتشر الفساد في كل مؤسسات الدولة، ومنها الوقف، في كل مكان فساد، في كل جامع فساد، في كل مقاولة فساد". وفي 15 نيسان /أبريل سنة 2017 أصدرت محكمة الجنح المختصة بالفساد وغسيل الأموال حكما على رئيس الوقف السني الشيخ عبد اللطيف هميم حكماً بالسجن لمدة عام واحد بعد إدانته باختلاس مبالغ ضخمة (حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لكبر سنِّهِ ومع تعهده بحسن السوك خلال فترة الحكم مع دفع تأمينات بمبلغ 200 دينار / تعادل سنتات قليلة من الدولار، ويعاد له المبلغ بعد انتهاء مدة الحكم). أما الوقف الشيعي فسوف نفرد له فسحة موسعة بعد قليل.

ولأخذ فكرة عن المبالغ الهائلة والمتصاعدة التي تخصصها الحكومات العراقية لهذه الأوقاف الدينية - التي يفترض أنها مصادر للأموال والممتلكات الوقفية كما هو معروف، وبالتالي لا ينبغي أن تأخذ من الأموال العامة العائدة دستورياً إلى الشعب - نعلم أن النائب كاظم الصيادي طالب بإلغاء ميزانية الوقفين الشيعي والسني في ميزانية الدولة لسنة 2020. وقال الصيادي في تصريح له بتاريخ 22 آذار 2020، إن "ميزانية الوقف الشيعي بلغت (585 مليار دينار) وميزانية الوقف السني بلغت (284 مليار دينار) وليس هناك مستشفى واحد مخصص للأوبئة في البلاد، لذلك نطالب بحذف هذه المبالغ في الميزانية القادمة".

ولكن موازنة سنة 2021، زادت هذه المبالغ، حيث أعلن مقرر اللجنة المالية في مجلس النواب أحمد الصفار، أنَّ "مخصصات ديوان الوقف الشيعي في الموازنة بلغت 829 مليار دينار، بينما بلغت مخصصات الوقف السني 309 مليارات دينار، أما ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية تسعة مليارات دينار".

ولمعرفة مدى العبث وانعدام العقلانية في وضع الموازنة العراقية العامة، يقارن عضو اللجنة المالية في المجلس جمال كوجر بين موازنة وزارة الزراعة التي بلغت 310 مليارات دينار (212 مليون دولار)، مقابل موازنة الوقف السني 309 مليارات والوقف الشيعي 830 مليار دينار (قرابة 568 مليون دولار)، ومجموع هذه المبالغ يعادل سبعة أضعاف موازنة وزارة الزراعة، التي يعتمد عليها أكثر من أربعين مليون عراقي في إنتاج وتوفير طعامهم كما يُفْتَرَض!

ولم تكتفِ الحكومة بتخصيص هذه المبالغ الضخمة للأوقاف الدينية بل زادت عليها "هدايا" أخرى منها أنها عيَّنت على ملاك الوقف السني أربعة عشر ألف موظف عام 2023، بينما عينت لوزارة الإعمار والإسكان والبلديات ثلاثة آلاف موظف لا غير، ولا يعلم أحد ماذا سيفعل هذا العدد الهائل في الوقف السني والذي يمكن أنْ يديره وبجميع مؤسساته أقل من ألف موظف! أما في الوقف الشيعي فنعلم أن عدد موظفي عتبة واحدة من العتبات الدينية هي "العتبة الحسينية" مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة أربعة عشر ألف منتسب" كما سيرد ذكره في مناقشتنا لبيان صدر عن إدارة هذه العتبة.

ما هو الوقف الشيعي؟

لنبدأ بتعريف "الوقف" عموما لنجد أنه مصطلح إسلامي "يعني لغةً، الحبس أو المنع، واصطلاحاً، هو حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح. ويشمل الوقف الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، ويشمل الأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية والأسلحة أما التي تذهب عينها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام وغيرها". والخلاصة هي أن الأوقاف تعني أموال وثروات فكيف تمنح الدولة أموالا من ثروات الشعب لمن يدير هذه الأموال والثروات دون ان تعرف عنها وعن أقيامها وحساباتها شيئا؟

هذا عن الوقف عموماً، لغةً واصطلاحاً، فكيف يُعرِّف ديوان الوقف الشيعي نفسه؟ إنه "ديوان يُعنى بأوقاف المسلمين الشيعة بجميع فرقهم وشؤونهم الإسلامية يسمى ديوان الوقف الشيعي ويرتبط بمجلس الوزراء العراقي ويتمتع بالشخصية المعنوية ويمثله رئيسه أو من يخوله. وتشرف هذه المؤسسة على دور العبادة الشيعية والحسينيات والمزارات الشيعية في عموم العراق ويتم تعيين رئيسها من قبل رئيس الوزراء، وهو بمنصب وزير وأول من ترأسه كان السيد حسين بركة الشامي/ صفحة الديوان على الشبكة". ونسجل هنا، أن السيد حسين بركة الشامي أُتهِم علناً بالفساد، وقد أصدرت محكمة الجنايات الخاصة بقضايا النزاهة في الرصافة قرارها المرقم (293/ج ن/2018) في 3/7/2018 والمتضمن "حبس المدان حسين بركة الشامي لمدة سنة مع وقف التنفيذ لكبر سِنِّهِ مع إعطاء الحق لديوان الوقف الشيعي للمطالبة بالتعويض المادي". وقد هاجر الشامي بعدها من العراق وهو يعيش حتى اليوم في بريطانيا!

يُفهم من تعريف الديوان الشيعي أعلاه، والذي ينطبق من حيث المضمون على الدواوين الوقفية للطوائف الأخرى أن الديوان دائرة رسمية بسبب ارتباطه بمجلس الوزراء أي أنه جهة حكومية، ولكنه، في الوقت نفسه، جهة مستقلة من حيث الإدارة والمال مع بقاء مسألة المُلكية غامضة؛ فلا هي ملكية عامة تابعة للدولة، ولا هي ملكية فردية تعود لشخص معين بل هي وقف ديني، وفي هذه الأجواء من الغموض والعتمة والالتباس ينتعش الفساد وينتشر الفاسدون.

مشاريع استثمارية غنائمية

من الأمثلة المشهورة في العراق على الفساد في الوقف الشيعي، والتي نورد بعض نماذجها هنا لغرض توثيق الظاهرة بالوقائع ومن ثم تحليلها، نذكر الآتي:

-قررت الحكومة العراقية قبل بضع سنوات بناء محطات استقبال واستراحة لملايين الزوار الشيعة القادمين من كافة أرجاء العراق إلى زيارة العتبات المقدسة، ولتكون تلك المحطات في ضواحي مدن العتبات وخصصت قطع أراض لبناء تلك المحطات وأحيلت عقود إنشاء تلك المحطات الى إدارتي العتبتين الحسينية والعباسية في محافظة كربلاء. ثم وبقدرة قادر، استولت الإدارتان على تلك الأراضي، وتصرفتا فيها تصرف المالك الحقيقي، فأنشأتا على قسم منها منتجعاً سياحياً راقياً بأسعار إقامة باهظة، وأقامتا جامعات أهلية خاصة على قسم آخر، هما جامعة "الكفيل" التابعة لإدارة العتبة العباسية وجامعة "وارث الأنبياء" للعتبة الحسينية.

ردا على هذا الاتهام بالاستيلاء غير المشروع قالت العتبة الحسينية في بيان لها سنتوقف عنده مفصلا لاحقا، إن هذا الاتهام "يجافي الحقيقة إذ أن الوزارة ذاتها طلبت، بضغط من أهالي كربلاء المقدسة ومن العتبات المقدسة، إدارة تلك المدن لغرض إدامتها وديمومتها، إذ قدمت خدماتها للزائرين والنازحين مجاناً طيلة خمس سنوات، وتم تحويل ملكيتها إلى العتبات المقدسة بعد شرائها من الوزارة"، وهذا كلام لا يحتاج إلى مزيد إيضاح فهو يعلق المسؤولية في ما حدث من "استيلاء" برقبة أهالي كربلاء، فهم الذين ضغطوا على الوزارة فتم تحويل ملكية الأراضي والعقارات إلى العتبة بطريقة الشراء!

مثال آخر، يتعلق هذه المرة بطابعة تجارية، ففي سنة 2013 افتتحت العتبة العباسية التابعة لديوان الوقف الشيعي شركة لطباعة الكتب في مدينة كربلاء، وفي سنة 2015 افتتحت العتبة الحسينية مطبعة ثانية، وقال الأمين العام والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي "إن افتتاح هذه المطبعة يهدف إلى خدمة الثقافة والفكر والإعلام ونشرها بين أوساط المجتمع"، أما عملياً فقد وقعت المطبعتان على عقود بملايين الدولارات مع وزارة التربية والتعليم لطباعة الكتب المدرسية في العراق!

قصة مطار "كراج متعدد الطوابق"

وعلى الرغم من أن دور المرجعية النجفية في هذه المشاريع الاستثمارية موضع أخذ ورد؛ فهناك من يعتقد أن المرجعية، والمرجع الأعلى نفسه، براء من أي فساد، ولا علاقة لها بهذه المشاريع، وإنها معروفة بزهدها وببساطة حياة المرجع الأعلى السيستاني ذاته، وإنها حتى وإنْ كان لها دور في تسهيل ومباركة مثل هذه المشاريع على ألسنة وكلائه وممثليه، ومنها مشروع مطار كربلاء، فربما تكون قد تعرضت للتضليل من قبل الجهات المنفذة والشركات المستثمِرة فيه ومنها شركة "طيبة كربلاء" التابعة لإدارة العتبة الحسينية. وحتى إذا افترضنا صحة هذا الاعتقاد العاطفي، فإن سكوت المرجعية النجفية عن كل ما قيل ونشر في الإعلام حول مظاهر الفساد في هذه الأنشطة الاقتصادية وبعضها بتَّ فيها القضاء علنا، وعن الاستئثار والاحتكار والحلول محل الدولة واستيلاء على أراضيها وبعض مصانعها وأملاكها يبقى مثيرا للتساؤل والعجب.

من هذه المشاريع المثيرة للجدل مشروع مطار كربلاء الدولي، الذي بدأت الحكومة عبر وزارة النقل بالتخطيط له منذ سنة 2013، رغم عدم الحاجة إليه بوجود مطار دولي في ضواحي مدينة النجف المجاورة، ثم أصبح مشروعاً للقطاع الخاص "الديني" خلافا لكل ما ينص عليه الدستور والقوانين الخاصة بموضوع الاستثمار وبطريقة يشوبها الكثير من الغموض. إن المعلومات والمعطيات بهذا الخصوص متضاربة ومتناقضة ولا يمكن الجزم بصحتها لعدم وجود موقف حكومي رسمي من المشروع وتداعياته باستثناء التصريحات المناسباتية الرسمية القليلة والمتناقضة لرئيس هيئة الاستثمار السابق سامي الأعرجي، وتصريحات محافظ كربلاء المقال عقيل الطريحي الذي فتح هذا الملف ولكنْ بعد إقالته من منصبه، وهذا أمرٌ يطرح علامات استفهام قوية على سكوته حين كان في موضع القرار والمسؤولية، وليس على صحة ما طرحه علنا ولم يرد عليه المعنيون الذين اتهمهم بالفساد وذكر أسماء بعضهم.

إن مطار كربلاء واحد من عدة مطارات دولية تقع في محافظات قريبة من بعضها جغرافيا إلى درجة تجعل من إقامتها أمراً عبثياً ومريباً من حيث الدوافع والجدوى الاقتصادية والبيئية، ومخالفاً حتى لقوانين وقواعد الطيران المدني؛ فالمسافة بين مطاري النجف وكربلاء تتراوح بين 50 و60 كليو مترا، يمكن أن يقطعها المسافر بالسيارة في نصف ساعة تقريبا.

نعلم من تقرير صحافي نشر يوم الأربعاء 28 تشرين الثاني 2018، أن رئيس هيئة الاستثمار العراقية سامي الأعرجي، صرح أن "مشروع مطار كربلاء الدولي عمله متقدم ويسير وفق الخطة الزمنية التي أعدت للإنجاز"، في حين أن العمل الحقيقي في المطار متوقف منذ نحو ستة شهور (الكلام هنا في نهاية عام 2018)، بسبب نزاع قضائي بين الممول وائتلاف الشركات المنفذة. ويؤكد شهود عيان صحة ما ورد في هذا التقرير الصحافي ويقولون إنَّ مشروع المطار لم يتقدم عملياً كثيراً خلال ذلك العام، وهو يراوح في مكانه وأن الجهات المسيطرة عليه تواجه مشاكل ودعاوى قضائية عديدة.

غير أن مصادر قريبة من إدارة المشروع قالت قبل سنتين تقريباً إنَّ نسب الإنجاز في برج المطار بلغت 80% وهي النسبة نفسها التي رأيناها في آخر الصور الملتقطة قبل عام للبرج، أما في البنايات الساندة فبلغت نسبة الإنجاز 70% وفي المدرجات فقد بلغت 40%، وهذه الأخبار قالتها مصادر خاصة وفردية غير رسمية، حيث غابت أخبار مشروع المطار عن التداول الإعلامي منذ عام كامل. وها نحن في منتصف عام 2023 تقريباً ولم يفتتح هذا المطار، الذي وصفه وزير نقل أسبق بأنه ليس أكثر "من كراج متعدد الطوابق" حتى الآن، ويبدو أن الانتظار لن يطول كثيرا بعد زيارة المتولي الشرعي للعتبة الحسينية إلى موقع المشروع يوم العاشر من نيسان الماضي لتعيده إلى المشهد الإعلامي من جديد.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

قِف: عُذرا لمن سيتأمل شذرية هاته الحروف والكلمات، التي انقذفت من تلقاء نفسها؟ ربما لتصفية حسابات شخصية مع ذاتها، أو بوح خارج إرادة البوح المعلن؟ مهما يكن، ومهْما كنت قارئا مفترضا أو معلوما أو شبحا؛ عليك أن تقفْ، إنه فعل أمر. جاءنا معَلبا! هكذا نستهلك ما أنتجه النحاة في الكهوف (ربما) في كهوف البصرة أو الكوفة، على ما أعتقد، وتبناها قانون السير!! ففي الوقوف بركة و امتثالا لأوامر العلامة! فلا تتعجل من أمرك. فالعجلة من الشيطان. هكذا علمونا منذ الصغر! فلا تتعجل حتى لا تهيم في مفترق الطرق ويسيح ذهنك، ويقع ما لا يكون متوقعا إنها مشيئة عَدم الانتباه، في زمن تفاقمت فيه نسبة عَدم الإنتباه أو اللامبالاة: أنجع من عدم الانتباه ؛ ربما؟ ولكن الإنتباه مما ذا؟ لا يهم الجواب،لأننا نعلم مسبقا لا أحد سيسأل أو سيتساءل؟ لأن الأغلب الأعم لا يقرأ ما يُنشر(:) ولو كان ضده. مادام لن يزيده درهما من (مال) - المسلمين -على "الدرهم " ذاك المستجْلبُ من تحت (الكواليس) المفتوحة لشراء الذمم (:) حتى أمسى {القلم }قطيعا! {الفكر} قطيعا! {الموقف} قطيعا!{العلائق} قطيعا!إنه زمن {القطيع} قطيعا! مشاهد "البؤس" فنحن أمامها! فالله الأمر من قبل ومن بعْد؛ ونطقت بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية.

إذن فلا يهم الجواب.الأهَم بأن هاته الشذرية من وحي اليقظة، من وعي الذات بذاتها!وليست أضغات كلام! إنها مصوَّبة نحو ابن سينا (ليس) ذاك الطبيب العربي، إنني لا أعرفه شخصيا؛ لأننا لم نكن في زمانه، ولكن اطلعنا على منجزاته، رغم أنه فارسي/ همداني. ولم نطلع على خفايا "ابن سينا "الذي أعْرفه ذاك الذي كان رئيس [الجامعة الوطنية لمسرح الهواة] ببلادنا. لقد نسَته ُالبلاد والعباد! إنه طبْع جملة من النماذج البشرية! على رقعة هَذا البلد.!

وقيل لي في جلسة "رباطية" وليست "فاسية " أنه طريح الفراش منذ مدة. بماذا؟ لا أحَد يعرف؟ ربما لم يعُد أحَد يزوره أو يجالسه؟ إنه طبْع الانتهازيين الوصوليين أكيد لو كان العكس، لأطلعنا على بعض اللقاءات والحوارات مكتوبة أو مصورة معه باستثناء مقالة وحيدة / يتيمة ورائعة حوله أنجزها. ناقد سينمائي وابن بلدته (1) رغم أنه حظي بالعَديد من التقديرات والتكريمات وطنيا / عربيا / دوليا.. ولكن ما أقسى النسيان ونكران الجميل؟

تساءلت ونحْن نتابع فقرات تكريم (عَشر فنانين) مغاربة في المهرجان العَربي (الدورة-13 /2023) بالدارالبيضاء. لماذا لم يتم اختيار المسرحي "عبد الحكيم بن سينا "من ضمن المكرمين؟ هل لأنه ليس مسرحي؟ ربما!هل المشرف عن الاختيار و التنظيم، لا يعرف نموذجا بشريا اسمه " ابن سينا عبدالحكيم" ذاك الذي أعطى للمسرح المغربي الشيء الكثير من زاوية حضوره وحركيته؟ مستبعَد الجواب عن السؤال؟ باختصار: إنه يعرفه جيدا! قبل أن ينسحب من الهيئة العَربية للمسرح. لأسباب لا يعرفها إلا (هو) خارج ما تم التصريح به؟ لا يهمنا » الموضوع « في حقبة (التخربيق /التخرميز) ليس بمصطلح الفن « التشكيلي » ولا "الفلسفي" ولا "الغرافيزمي" بل بمفاهيمنا المحلية / المغربية. ولا نَدري ماهي الظروف: التقنية واللغوية التي أعاقت البروفيسور أحمد لخضر غزال توظيف المصطلحين في معجم الرصيد اللغوي؟

ولكن مهما اختلفنا، ويما اختلفنا! أو بقي الخلاف قائما، مع الأستاذ: عبد الحكيم بن سينا؟ يبقى بالنسبة لي ولتموقفاتي. نموذجا (ثمَّ) نموذجا: بصم بصماته في النسيج المسرحي المغربي، ولا أحْد يمكن أن ينكر ذلك، ولا يمكن أن ننساه من الذاكرة الفردية والجمعية على السواء؛ لكن مصيبتنا، أننا نتنكر، ونلبس أقنعة النسيان واللامبالاة، لابأس! هي ثقافة تعودنا عليها، وذلك من باب التنبيه. ولكن بحكمة الله الباهِرة وصفاته الأزلية والأبدية. إنها تتطور بتطور التحَولات التقنية والتكنولوجية.

وَذكر:

المصادفة العجيبة أن باب {وَذكر} يرتبط بعنوان لمسرحية من تأليف [ادريس معرو ف] وإخراج [ع الواحد الشرايبي] شاركت بها جمعية النهضة المسرحية بمدينة الجديدة، في المهرجان الوطني لمسرح الهواة في (دورته 15 / 1974) والمقام بالجديدة / البريجة. ومن بيان نصه، كان رئيس جمعية النهضة (هو)" عبد الحكيم بن سينا " آنذاك. فبما أننا ذكرنا " ابن سينا" ذاك الفيلسوف والطبيب...فلابأس أن نأخذ من قوله بأن" القياسات الخطابية تكون مُؤلفة من مقدمات مقبولة أو مظنونة أو مشهورة فى أول ما يسمع عبر حقيقية (2) فيا أيها القارئ الذي لديك قريحة القراءة كمتعة واستفادة وفوائد، لك القياسات، وأهم قياس ما هو مشهور، وتأسيسا على ذلك؛ فالأستاذ" عبد الحكيم بن سينا" تمظهر في الساحة بالفعل وليس بالقوة ولا بحركة قسرية، وبالتالي: إذ الجسم لا يتحرك بذاته، وذلك السبب إن كان محركا على جهة واحْدة على سبيل التسخير فيسمى طبيعة، وإن كان محركا حركات شتى بإرادة أو غير إرادة، أو محركا حركة واحدة بإرادة فيسمى نفسا(3) وبدهي أن النفس هي الفاعلة في الحركة، لكن صاحب من عليه الشذرية، كصيغة مخالفة للمقالة والقريبة من المقولات، كانت "نفسه" مضاعفة الحركة في الساحة المسرحية؛ ربما كتحقيق " وجود" بعْدما شارك في مسرحية{وَذكر} لكنه اكتشف بأنه لا يتوفر على موهبة التشخيص، رحم الله من عَرف قدره وحدوده. مما انتهج أسلوب التسيير والتدبير، فحبذا لو كان بعض رؤساء الجمعيات المسرحية والثقافية. التي تحولت بقدرة (الدعْم المسرحي) إلى وكالات/ تعاونيات/ مقاولات/.../ بدون سجل تجاري...مؤسف جدا؟ أن يفلحوا في التسيير والتدبير[ ك ] عبد الحكيم بن سينا، بحيث أدار وكان يديربكل إتقان وفنية إدارية" الجامعة الوطنية لمسرح الهواة" ومكتب الحياة المدرسية التي كان رئيسها في زمان بمندوبية التربية والتكوين- الجديدة- والإشكالية هاهنا فموضوع "الجامعة الوطنية لمسرح" شائك جدا، وحيوي جدا، ولم ينفتح ملفه بعد؟ فرئيس الجامعة لم يتطاول على المنصب؛ بل في بداية التأسيس تقلد (أمين المال) لكن المرحوم "كريم بناني"(مراكش) لم يستطع تفعيل الجامعة كرئيس؟ مما أعيد التأسيس؛ فكان ماكان! بحيث حاول " ابن سينا " تفعيل الجامعة والدفاع عن مسرح الهواة، أمام الوزارة الوصية وغيرها من المؤسسات، ولنعُد للوراء ونتمعن ماذا قال:.. كنا نطالب نحن كجامعة باسم الاتحادات والجمعيات بالإكثار من التداريب التي تنظمها وزارة الشبيبة والرياضة وكانت لا تجد صدى كبيرا.... ولكنه في أمس الحاجة إلى تطعيم قوي. والجامعة ترى أن مستوى التأليف المسرحي لايزال في الترعرع والنشوء ؛وبجانبه الإخراج المسرحي. وفي هذا المجال طالبنا الوزير أثناء افتتاح المهرجان الوطني19 بفاس; بإقامة معهد لتكوين الأطر في ميدان المسرح(4) لنتأمل في هذا القول، علما أن "ابن سينا" لم يكن مُسيسا ولا منتميا حزبيا، إلا بعْد تمظهر الأحزاب الليبرالية...هذا موضوع يحمل بيان نصه ؛ خارج الشذرة (الآن) ولكنه انوجد تلقائيا في معممان الصراع السياسي و الإيديولوجي بين اليمين واليسار "المسرحي" بلغة ذاك الوقت. وصراعه مع القطاع الوصي، لتطبيق أيديولوجيته على المسرحيين! لكنه كان بمثابة طبيب معالج، هكذا لاحظنا تصرفاته وسلوكه، إذ كان يحاول أن يبثر الجراح ويهَدئ الأوضاع ؛ ويرضي الخواطر. من أجل بناء مسيرة مسرحية مشرقة، تلك هي الحقيقة التي كانت. والخفي، أي:نعَم كنا نتصارع معه ك"يسار" ضد الهيمنة، والحيف الذي ينطلي على العَديد من الجمعيات المسرحية؟ ولكن هناك يسار ويسار، فبعض منا كان يدافع بنوايا صادقة، من أجل اللذة "السيزيفية" لكن كانت هنالك شرذمة مكعبة الأطراف!من « المسرحيين »!  تناوره عبر صراعها الظاهر معه (:) باعتباره رئيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة. ليتم استغلاله ماديا ومعنويا في الخفاء، ولأمور شخصية وكان رهْن الإشارة، خدوما منقذا: فتجده أحيانا يوفر تغذية أو إقامة لأكثر من فرد سواء بمنزله... حتى ولو لم يكن النشاط نشاطه وإنما لزميل أو صديق استغاث به حين تخلى عنه مدعم أو وقع في ورطة عجز ميزانية.. وأحيانا وفي زمن قياسي يقتنص دعما ولو رمزيا من مجلس بلدي أو محسن كريم، أو من هيأة لا علاقة لها بالفن والثقافة (5) وشهد شاهد من أهله. فهذا الإحسان أو اتخاذ المبادرة، ربما لطيبوبته؟ أو لطباعه أم لحلاوة المنصب الرئاسي؛ الذي يعطيه قوة وجود؟ من هنا فمن الصعب فتح ملفات (الجامعة/ لأن هناك صناديق سوداء، لا علاقة للمؤسسات بها بل بين المسرحيين، طبعا لنا أخطاؤنا ونقط ضعفنا، مما لا يمكن أن ننزهه عن الأخطاء والسلبيات، ففي لحظات، وفي مواقف (ما) يكون مناورا، داهية، هادئ الأعصاب، تغلب عليه (تلك) الابتسامة! فالغريب هي "ابتسامة" ليست بماكرة ولا تتحمل ضغينة أو عنفا رمزيا، مما يجعلك أن تهدأ بدورك، وتلتمس له الأعذار. لكن المفارقة، فالمحسوبين عن "اليمين" فكان جزاؤهم الأوفى، والحظوة الكبرى في ظِلّ ممْدودٍ من الاستفادة فكانوا يستفيدون من التداريب الدولية والحضور للمهرجانات العربية وغيرها، ولنا قول شاهِد من أهلها: حيث دفع بعَدد منهم إلى الاستفادة من تداريب وتكوينات مسرحية وفنية مختلفة وطنية ودولية.. وأنا شخصيا كنت أول مسرحي جديدي يوفده سنة 1983 إلى مهرجان “أفنيون” المسرحي بفرنسا، حيث تلقيت هناك تكوينا في بعض الشُّعَب المسرحية (6) تلك هي الحقيقة المندرجة في قياسات خطابية، وبالتالي نأمل أن ينفتح ملف (الجامعة الوطنية لمسرح الهواة) التي أقبرت (الآن) فهل كان المسير الكفء، بدون منازع " ح عبد الحكيم بن سينا " له اليد الطولي في: إعْدام {الرابطة الوطنية لمسرح الهواة}أواسط السبعينيات من (ق، م) وفي اغتيال {فيدرالية مسرح الهواة} أواسط الثمانينيات من (ق، م) وإفشال خطوات {الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي}؟ في بداية التسعينيات من (ق، م)؟ أم هنالك أطراف خارج £ - الجامعة الوطنية - £

***

نجـيب طـلال

.....................

استئناس:

1) عبد الحكيم بن سينا، مهما اختلفت معه، لا يمكنك إلا أن تحبه: بقلم خالد الخضري في صحيفة الجديدة

سكوب/ بتاريخ 06/10/2019 ومنشور في جداريته (فايس بوك)

2) عيون الحكمة: لابن سينا تقديم وتحقيق ع الرحمان البدوي- ص35- ط 2/ الناشر: وكالة المطبوعات/

الكويت- دار القلم / بيروت- 1980

3) نفسه - ص40 –

4) المسرح ماهو إلا صورة تعكس أوضاع المجتمعات: حوار مع عبد الحكيم بن سينا - ص113- مجلة الفنون ع 1

س6 في نونبر /1979- الثمن (درهمان)؟؟؟

5) عبد الحكيم بن سينا، مهما اختلفت معه، لا يمكنك إلا أن تحبه: بقلم خالد الخضري في صحيفة " آش واقع "

بتاريخ - 06/10/2019 -

6) نفسه

حتى نخرج من التعميمات المبسطة، والاختزال المعتسف، لهذه الهيجاء التي لم تأتي مصادفة، تلك الكريهة التي تبيح طائفة من المحظورات التي يمتعض منها الدين، وتأباها الفطرة السليمة، وتنكرها الأخلاق، وتتحرج منها المؤسسة العسكرية، التي أجبرتها مليشيات البطش، والخطف، والاغتصاب، لخوض غمار هذه الحرب، حماية للدولة، وصوناً لها من مخاطر التشرذم والضياع، ورغم أن القوة هي أخص ما تحرص المؤسسات العسكرية على أن تمتاز به من المظاهر، إلاّ أن هذه المؤسسة التي لم تؤثر عليها المداورة والالتواء، ما زالت تؤثر القصد والاعتدال في اظهار هذه القوة، رغم سماجة المليشيا التمردة وكيدها، هذه المليشيا التي ساء حالها، واضطرب أمرها، وأوشكت البلبلة أن تفسدها، لم تكن تعيش على نحو متبعثر متناثر قياساً على ما نعرفه عنها اليوم، فمن الحق أن نسأل أنفسنا لماذا تقصتد قواتنا المسلحة في اظهار قوتها، ولماذا تمضي مسيرة معاركها مع مليشيا الدعم السريع التي أوهت المروءة، وأخلقت أديمها، وطمرت الحياء وعفت آثاره في سوداننا بأفعالها المخزية، لماذا يحملنا الجيش على ما نكره؟ ويسوسنا يما لا نحب؟ ولماذا تمضي وتيره هذه الحروب في بطء بطئ، وثقل ثقيل؟ لماذا لا يجهز جيشنا على طغمة السوء هذه ويريحنا من كل هذا العناء؟

إن جيشنا صاحب الذكر الجميل المأثور، والثواب الجزيل الموفور، له مجد لا تهتدي الأيام إلى فسخه، ولا ترتقي الليالي إلى نسخه، حتماً نحن نروم أن يمحق جيشنا المليشيا المتمردة محقاً، ويمحو الأوباش محواً، وأن ينكل ما استطاع إلى التنكيل بها سبيلاً، وألا يؤثر هذه الهدنات بالعناية أو الرعاية،  فالشئ الذي يجب أن يحتفظ به جيشنا ويمضي فيه هو وأد هذه المليشيا، فما نعرفه ونستطيع أن نستنتجه بالظن، والحدس، والتجربة، أن أي هدنة تفرضها تلك الدول التي اشتهرت بولعها الشديد بمصانعة الغرب ومواددته، والحرص على أن تحتفظ بتقاليدها الراسخة التي تفضي في مجملها حول تأثيل مكانتها، فيسوء مثل هذه الدول أن يلحق باسمها وريادتها اهتضام، أو أن تنال أبهتها ومظاهر فخامتها نقص أو اخترام، كما أن بعض نخبها وحكامها يسعى جاهداً أن يخفي مظاهر الصحوة في السودان، لأجل ذلك فهو حريص ألاّ تظهر تقاطيع هذه الصحوة إلا ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى،  لا يريد هذا الشيطان أن نكون أحرارا في بلادنا، يريد هذا المسكين أن يرسم لنا قوام نظامنا الديمقراطي، رغم أن الديمقراطية ليس لها صدى في دولته التي لا تفكر في مدلول هذه الكلمة، أو تلتفت إليها، لنفاذ شمولية الفرد واستبداده، إن الصورة التي صنعها هذا الشيطان باتقان، وحرفية عالية، هي مشاهد هذه الحرب التي تدور رحاها الآن في سوداننا المنكوب، والذي طمحت فيه ثلة طالما اعترض الشجى في حلوقها، والقذى في عيونها، إلى الحكم، وحتى ينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، ويتعظ المسرف، نسوق حديثنا هذا إلى فئات ستلاقي عباراته بشئ غير قليل من الانكار له، والازورار عنه، لا لشئ إلا لأنها تبغض الحركة الإسلامية التي لم يبقى لها رأي ولا مشهد، وترى أنها من ابتدأت المنازعة، وتخطتها إلى المنازلة، وأنها هي من أجهضت الحكم المدني، وأهدت شعبها على مدار الأربعة أعوام المنصرمة القهر والفقر والفاقة والجهل والمرض، ولم تكتفي هذه الجماعات التي شملها الفتور، وأخذ يشيع فيها الفناء بكل هذه التهم الجزاف، بل نسبت هذا الجيش العظيم برمته إلى الحركة الإسلامية، هذا الجيش الصامد على عرك الشدائد، والذي تحمل الميسور وغير الميسور من الجهد والتضحية في سبيل حمياتهم من العاديات، في مخيلة هذه الفئات أن الحركة الإسلامية وجيشها اللجب هم من أشعلوا أوار هذه الهيجاء، وأن مليشيا الخزي والعار التي تضيف لها محاسن تزعم أنها لا تتوفر في غيرها، وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن وجودها وبقاء جرثومتها، وأن الجيش و”الكيزان” لم يحاربوا قوات” الدعم السريع” إلا لأنها ألحت واشتدت في الالحاح باقامة صروح الحكم المدني الذي يعيد الجيش إلى ثكناته، إذن هذه الناجمة تعتقد أن مليشيا “آل دقلو” إذا نجحت في مسعاها، وهزمت الجيش وحيدته، أنها ستمضي حتماً في تنفيذ بنود الحكم المدني دون تردد ولا إبطاء، وأن هذه القوات البربرية الهوجاء  التي رمت دارفور بنصالها المتصلة، وسهامها المتتابعة حتى أفنتها، هي من سترسي دعائم الحكم العادل الخالي من شوائب الظلم والطغيان، نقول لهذه الجماعات الحالمة أن طموح “الفريق أول خلاء حميدتي” هو ورهطه تخللته مقاومة ومعارضة مجتمعية سعت دول محور الشر مع طغام الأمم المتحدة، ويعاونهم زعيم تلك الدولة الخليجية التي نقدر شعبها ونحترمه ونغالي في بغض شيطانها منخوب الفكر، فهو من أثار الشهوات، ودفع الأهواء إلى الجموح، كما أنه هو وإخوته من سعوا لتذليل مناهضة شعبنا لتوغل آل دقلو بتطوير تحالف مع أقزام قحت  الذين أظهروا في سيرتهم وأحاديثهم من خروج على الثوابت ما جعلهم محل بغض السودانيون واستيائهم.

إن الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن قروم “قحت” الذين يؤثرون لذة العمالة على كل شي، هم من زينوا بحبوحة الحكم للمأفون “حميدتي” وأن الحكم في متناول يده، ما عليه إلاّ يبسطها ليأخذه متى شاء وكيف شاء، والمخبول “حميدتي” صدق كل ترهات “أوغاد قحت” وخطرفتهم، وأنه حينها سيضم أرضاً إلى أرضه، ومالاً إلى ماله، وأنه أيضاً سيرد الكيزان فقراء بعد غنى، وأشقياء بعد سعادة، ولم يسئ “حميدتي” الظن بنفسه حينما صدق أضاليل “ياسر عرمان”، ولم يطيل التفكير أو يقلب الرأي في مزاعم “غراب البين” فليس للرجل حصاة أو أداة للفهم، كما أنه كان مأخوذا بفكرة الحكم التي أوردته الآن المهالك.

نعود الآن بعد هذا الاستطراد لأسئلتنا التي طرحناها، لماذا لا تستخدم قواتنا الباسلة القوة المفرطة التي تكفل طي ملف “الدعامة” وتجعل عكارتهم أثراً بعد عين، لأنها ببساطة تخشى عاقبة هذه القوة على أفراد شعبها، ولأنها تسعى لتضييق الخناق على هذه المليشيا التي تحدث نفسها الآن بالانصراف عن هذا القبر التي وضعت نفسها فيه، إن الظفر الذي يبتغيه “جرذان حميدتي” هو أن يفلتوا من العين اللصيقة التي ترقب تحركاتهم وترصد كل سكناتهم، قبل أن تحيلهم فوهات بنادقها إلى مصارع الردى، كما أن تكتيكات الحرب وخططها تقتصي الصبر والأناة، نحن نعرف حنكة هذا الجيش، ونعجب بدرايته ودهائه أشد الاعجاب، ونرى في مسيرته وعزمه فخراَ وأي فخر، وامتيازاً وأي امتياز.

بقي أن نقول أن هذه الصور الدامية ستتلاشى، والأصوات المزعجة ستختفي، والأطياف المروعة ستتداعى، وستبقى تلك الأسئلة التي ما زالت تؤرق مضجعنا، من الذي مكّن “لحميدتي” حتى يمتد ويستطيل؟ ومن الذي أخفق في أن يريه ما يروعه؟ وأن يسمعه ما يخيفه؟ ويحذره من عواقب تحدي القوات المسلحة السودانية التي كانت تنظر إليه هو وجيشه في حب، وتنتظر اندماجهم في مكوناتها في أمل، بعد أن منحته من التأييد ما يجعله يمضي في سبيل تحقيق العزة والكرامة والأمن لهذا الوطن الكبير العاتي، ولكنه كعادته تمرد وخان فالخيانة طبعاً مؤثلاً في شخصه.

***

د. الطيب النقر

بعد معركة إنتخابية تميزت بالشفافية والنزاهة واحتدام التنافس فاز رجب طيب اردوغان في الدورة الثانية لولاية ثالثة، وحظيت هذه الجولة بكثير من الاهتمام المحلي التركي والعالمي وكانت محل اعجاب وتقدير من الجميع وتسابق مسؤولون وقادة الدول لتهنئة أردوغان وعلى رأسهم الرئيس الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.

لن نعرج في هذا المقال المقتضب عن التباسات السياسة التركية تجاه العالم العربي وخصوصاً تدخلها في سوريا، والعراق وليبيا ولا عن التباس سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وخصوصاً احتضانها لحركة حماس، ولكن وبشكل عام فإن السياسة التركية في عهد أردوغان سواء الداخلية أو الخارجية تستحق أن توصف بالظاهرة السياسية Political phenomenon، ولكونها ظاهرة أي متفردة بخصائص لا توجد بغيرها من التجارب الديمقراطية فهي تحتاج لمزيد من البحث والدراسة لعقل أسباب وملابسات ظهورها وعلاقتها بالسياق السياسي المتغير للنظام الدولي وللشرق الأوسط وعلاقتها بالجدل التاريخي حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية، وهل من تعارض بينهم.

كأية ظاهرة سياسية فإن استقراء الظاهرة مهم بنفس أهمية القياس والمقارنة، وعليه يجب عدم مقاربة السياسة التركية فقط من خلال مقارنتها بسياسة الأنظمة العربية أو بالديمقراطيات الغربية بل يجب أيضاً استقراءها كظاهرة تحكمها خصوصية الحالة التركية، حيث موقع تركيا وتاريخها يجعلها تؤثر وتتأثر بثلاث دوائر:

1- الدائرة الأطلسية حيث تركيا عضو في حلف الأطلسي وكانت وما زالت تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي

2- الدائرة الشرق أوسطية، فكونها دولة شرق أوسطية يفرض عليها استحقاقات لا مهرب منها وقد تجلى هذا الدور في تدخلها المباشر فيما يسمى الربيع العربي وفي القضية الفلسطينية.

3- الدائرة الإسلامية حيث تركيا الحالية وريثة الإمبراطورية التركية مركز الخلافة الإسلامية أيضا الطموح الشخصي لأردوغان الذي يتزعم حزباً بتوجهات إسلامية.

من الواضح أن الحكومة التركية بقيادة اردوغان استطاعت حفظ التوازن بين هذه الدوائر وهذا ما أطال في عمرها ومكنها من الاستمرارية والبقاء لأكثر من إثني عشر عاماً متحدية التحولات والتحديات التي عصفت بالعالم والمنطقة، حيث استطاعت حفظ التوازن بين:

1- عضوية الحلف الأطلسي والانتماء للشرق الأوسط ولمصالحها الوطنية وهذا ما ظهر جلياً في حرب أوكرانيا.

2- العلمانية والديمقراطية والإسلام، وقد سبق لأردوغان أن صرح خلال زيارة لمصر أنه رئيس حزب توجهاته إسلامية ويحكم دولة علمانية.

3- العلاقة مع إسرائيل وتأييد الفلسطينيين، فتأييده لحركة حماس وللفلسطينيين عموماً لم يؤثر على استمرار علاقاته الاستراتيجية مع إسرائيل.

4- حفظ التوازن في علاقته مع دول جوار متصارعة مع بعضها البعض وخصوصاً في السنتين الأخيرتين.

بالإضافة الى ما سبق تتميز التجربة الديمقراطية التركية بالمزج ما بين كاريزما اردوغان وبراغماتيته والاستحقاق الديمقراطي حيث كان لكاريزما اردوغان دوراً كبيراً في فوزه، وكاريزما اردوغان لا تعود لخلفيته الدينية فقط كما حاول البعض تفسير أسباب فوزه بل لما راكمه من نجاحات في النهوض بالدولة التركية موظفاً الدين لخدمة الدولة وليس العكس، فأردوغان قومي تركي سبّق مصلحة الأمة التركية على أي اعتبارات أخرى.

خلال زيارة رسمية لنا لتركيا في عام 2012 مع مجموعة من الزملاء التقينا مع الرئيس التركي عبد الله جول وخلال اللقاء طرحت عليه سؤالاً كيف يمكن لتركيا التي يقودها حزب إسلامي أن تحكم دولة علمانية وتقيم علاقة متميزة مع الغرب؟ وكان جوابه أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً دينياً بل حزب قومي بتوجهات إسلامية.

هذا يفسر لنا كثيرا ًمن السياسات التركية الحالية مثلا معاداته للحركة الكردية الانفصالية وكل عناصرها مسلمون وغالبيتهم سنة، أيضاً التدخل التركي الفج في شؤون سوريا والعراق وليبيا وهي دول إسلامية، واحتفاظ تركيا بعلاقاتها الجيدة مع إسرائيل بالرغم من الممارسات العدوانية والإرهابية الصهيونية بحق القدس والمسجد الأقصى الخ.

وأخيراً يستحق أردوغان كل الاحترام والتقدير لأنه أكد على النهج الديمقراطي وعلى أن الشعب هو المرجعية ومصدر السلطة وليس اي مرجعية أخرى حتى وان كانت دينية، كما أن الانتخابات التركية أثبتت ألا تعارض بين وجود مجتمع إسلامي ودولة علمانية وأن العلمانية لا تعني الإلحاد بل تحرير الدولة من سيطرة الجماعات الإسلامية واللاهوت الديني، وبهذا قلب اردوغان المعادلة التي دشنها مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في عشرينات القرن الماضي وهي المعادلة التي تقوم على التعارض بين الديمقراطية والحداثة والقومية والعلمانية من جانب والإسلام من جانب آخر حيث وقف أتاتورك موقفا مناهضاً للإسلام والمسلمين.

***

د. ابراهم ابراش

تم عقد مؤتمر طريق التنمية في بغداد، وهو مؤتمر تم الدعوة له من قبل الحكومة العراقية، وكما قالت عنه الحكومة العراقية؛ من انه مؤتمرا تشاوريا في البحث عن ادوات وآليات تنفيذ هذا المشروع، والذي هو بحق مشروحا طموحا جدا، اذا ما تم تنفيذه، بالطريق او بالمخطط الطموح الذي اعلن عنه، من قبل جميع المسؤولين العراقيين بالإضافة الى خبراء السياسة والاقتصاد. ان هذا المشروع؛ لم يكن جديدا، او انه وليد الساعة، بل ان هذا المشروع ليس جديدا ابدا. هناك اسئلة كثيرة تلح على كل متابع بطرحها فحصا وبحثا عن اجوبة عليها؛ من بينها وليس جميعها؛ هل هذا المشروع بأبعاده التاريخية والاستراتيجية والاقتصادية لجهة التنمية المستدامة لجميع دول المنطقة العربية ودول الخليج العربي ودول الجوار الاسلامي، وربما غيرها من دول اخرى، هي الابعد، الهند والصين وروسيا على سبيل المثال لا الحصر؟ وهل ان هذا المشروع الاستراتيجي، مشروعا عراقيا صرفا من حيث الفكرة والاهداف الاستراتيجية، طرحا وتهيئة مستلزمات نجاحه عمليا؟ أم هو نتيجة شراكات في الاهداف بعيدة المدى مع دول المنطقة العربية ودول الخليج العربي ودول الجوار الاسلامي، والدول الاخرى الابعد كما اشرنا في اعلى هذه السطور المتواضعة؟ عندما اقول أنه ليس جديدا؛ اعتمد في هذا، على ما تم تداوله او طرحه حول هذا المشروع او للتحديد هذه المشاريع قبل عدة سنوات. فقد تم طرح مشروع الربط السككي بين ايران والعراق وسوريا منذ عدة سنوات، لكنه لم ينفذ، وجرى قبل مدة طرحه مرة اخرى. السؤال هنا؛ هل هو عين المشروع اعلاه؟ ان قناة التنمية، أو طريق التنمية، التي قامت الحكومة العراقية بطرحها في المؤتمر التشاوري الاخير الذي تم عقده في بغداد؛ يهدف الى اشراك الدول العربية سواء في الخليج العربي او في المنطقة العربية او دول الجوار الاسلامي. السؤال الأخر؛ هل يرتبط أو ترتبط هذه قناة تنمية هذه،أو طريق التنمية هذا؛ بمشروع اخر لربط السككي بين دول الخليج العربي ودول المنطقة العربية وتركيا من البحر الابيض المتوسط  الى اوروبا وبالعكس؟. ففي السنوات الاخيرة تناقلت وسائل الاعلام سواء ما كان منها عربية او  امريكية او اسرائيلية او غيرها من وسائل الاعلام الاخرى؛ نقلا عن تصريحات لمسؤولين في الدول المعنية، عربية او اسرائيلية او غيرهما؛ عن النية في اقامة او بناء خطوط للسكك الحديد تربط دول الخليج العربي ودول عربية اخرى تقع على هذا المسار السككي، الاردن ومصر وفلسطين والعراق.. في عام 2018تحدث نتنياهو او انه قال؛ عن النية في اقامة خطوط لسكك الحديد تربط دول الخليج العربي ودول عربية اخرى والاراضي الفلسطينية المحتلة، واسرائيل الى البحر الابيض المتوسط، تمتد من ميناء حيفا الى الجزيرة العربية والحجاز، عبر شرقا معبر الشيخ حسين( الحدود الاردنية الاسرائيلية) وجنوبا الى معبر جلمة في الضفة الغربية وباتجاه الشرق نحو الاردن والسعودية. نتنياهو قال موضحا في وقتها؛ ان من الطبيعي هو تسوية او وضح حل للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي حتى يكون بالإمكان البدء بهذه المشاريع، لكن الظروف معقدة على هذا الطريق؛ لذا، من المهم هو عملية تطبيع العلاقات مع الدول العربية ومن اهم ما فيها هو اقامة هذه المشاريع بين اسرائيل والدول العربية وهي الكفيلة بوضع الحلول للفلسطينيين، ولم يقل اقامة دولة للفلسطينيين. في العام ذاته صرح وزير النقل الاسرائيلي؛ يسرائيل كاتس خلال زيارة له لمسقط؛ تناول الموضوع عينه وبذات الرؤية من دون ادنى تغيير. في نفس العام تناولت الصحف الاسرائيلية ذات الموضوع، وبإسهاب. لم ينف في حينها هذه التصريحات او انها ليس لها وجود من اي مسؤول عربي من الدول العربية في الخليج العربي، والدول العربية الاخرى، سواء التي يبدىء بها المشروع او التي ينتهي بها، او التي تقع على خط سيره. من المهم الاشارة هنا الى ان هناك مشروع للربط السككي وهو مشروع ايراني عراقي سوري؛ يمتد من الشلامجة مرورا بالعراق، الى الموانيء السورية وتحديدا الى ميناء اللاذقية، مرورا بالتنف او البوكمال، لربط السواحل الايرانية او الموانيء الايرانية المطلة على الخليج العربي بالبحر الابيض المتوسط. هذا المشروع الايراني طرح منذ عدة سنوات، لكنه لم ينفذ على الارض، ربما لمعارضة امريكا. في الوقت الحاضر جُدد طرح هذا المشروع، في تزامن مع اتفاق ايران وروسيا على مد خطوط للسكك الحديد تربط ايران بروسيا الى الهند، وربما بالعكس اي من روسيا والهند عبر ايران والعراق وسوريا الى البحر الابيض المتوسط. مسؤولو اختصاص هذا الشأن الروسي؛ بان روسيا سوف تعمل على طريق شمال جنوب الى الهند من دون المرور بقناة السويس. في 7 مايو من الشهر الحالي؛ نشر موقع أكسيوس وهو موقع إلكتروني امريكي؛ أن مستشاري الأمن القومي السعودي والامريكي والإماراتي والهندي؛ سيناقشون مشروع بنية تحتية تربط دول الخليج العربي وبعض الدول العربية بشبكة سكك حديدية مع الهند. الموقع نقلا عن مصادر..؛ ان مستشار الامن القومي الامريكي الذي وصل قبل يوم في ذلك الحين، الى المملكة العربية السعودية، لمناقشة مشروع السكك الحديدية وقضايا وملفات إقليمية ودولية أخرى مع نظرائه من السعودية والامارات والهند. الموقع قد بين في ذات المنشور؛ ان فكرة المشروع اي مشروع السكك الحديدية قد ظهرت في المحادثات التي كانت قد جرت قبل ال 18 شهرا الماضية في منتدى مجموعة آي 2 يو 2” (I2U2)، وهو المنتدى الذي يضم إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة والإمارات والهند، والذي كان قد تأسس في عام2021، ويضم اسرائيل الى جانب امريكا والهند. (الحديث لم يزل لموقع أكسيوس) ان الهدف  منه هو اقامة بنية تحتية استراتيجية لمشروع ربط دول الخليج العربي بالهند، وهو هدف استراتيجي امريكي في منطقة الشرق الاوسط  في ظل تزايد النفوذ الصيني في المنطقة من خلال مشاريع الصين في الحزام والطريق. الموقع ذاته في اعلاه قد اشار الى ان اسرائيل، والتي هي عضوا في المنتدى، في العام الماضي وفي اجتماعات المنتدى؛ كانت قد طرحت فكرة اقامة مشروع للسكك الحديد لدول المنطقة وان اسرائيل قد تنضم اليه في حال تحقيق تقدم في الجهود المبذولة للتطبيع مع دول المنطقة وهو هنا يقصد تحديدا المملكة العربية السعودية. صحيفة يديعوت أحرو نوت الصادرة في 30 ابريل من هذا العام؛ أكدت نقلا عن سوليفان، مستشار الامن القومي الامريكي؛ ان البيت الابيض يعكف على مشروع احياء عملية التطبيع بالإضافة الى مناقشة الملف النووي الايراني. الحديث لم يزل لموقع أكسيوس الذي اختتم موضحا؛ ان سفارات السعودية والامارات والهند لم ترد عليه عندما طلب التعليق على التسريبات التي نشرها. تأتي هذه التسريبات في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية وجوارها الاسلامي؛ تهدئة وانفراجات سياسية، وحلحلة وتفكيك للمشاكل والصراعات وحتى الحروب الاهلية في اليمن او في غيرها من الدول العربية، اضافة الى عودة سوريا الى الحضن العربي. هذا من جانب ومن الجانب الثاني وفي هذا الوقت بالذات تشهد المنطقة العربية وحتى جوارها الاسلامي؛ الاتجاه الى بناء علاقات او شراكات مع الصين بالدرجة الاولى والاساس ومع روسيا بالدرجة الاقل والاقل كثيرا. أما من الجانب الثالث فان القضية الفلسطينية او ان ما يتعرض له الفلسطينيين من قتل وتهديم منازل وقصف اسرائيلي مستمر بحجة او بغيرها، واقتحامات مستمرة على مدار اليوم والساعة من دون ادنى شجب او استنكار او موقف رافض وواضح لهذه الاعمال الاجرامية. انه وبكل بساطة صمت عربي واسلامي او انها اصوات خافتة وخجولة لا تتعدى الشجب باقل العبارات واكثرها حيادية لجهة الواقع والحقيقة ، ليس من النظام الرسمي العربي فقط، والسلطة الفلسطينية ايضا بدرجة ما، بل ايضا من النظم الاسلامية وبالذات المجاورة للعرب، باستثناء الى حد ما؛ النظام الايراني فان له موقفا مختلفا على الاقل حاليا. لست هنا في وارد تزكية النظام الايراني، فالنظام الايراني له ما له وعليه وما عليه، إنما في تسليط الاضواء على حقائق الواقع الموضوعي كشفا له؛ يستلزم عدم القفز على تلك الحقائق؛ والتي هي ومن اهمها هو الدعم الايراني للمقاومة الفلسطينية سياسيا معنويا واعلاميا، وتسليحيا في التدريب والتصنيع، وهذا هو ما يقوله قادة المقاومة الفلسطينية بوضوح تام بما لا لبس فيه ولا ادنى غموض، وهنا ان ما اقصده هو المقاومة في فلسطين تحديدا وليس في اي مكان اخر خارج جغرافية فلسطين. من نافلة القول هنا؛ الاشارة الى جولة الصراع الاخيرة، قبل عدة ايام، او اسابيع، بين الكيان الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية؛ والتي فيها استطاعت المقاومة الوصول الى جميع المدن الاسرائيلية، مما اجبر قادة جيش الاحتلال الاسرائيلي الى توجيه اللوم الى نتنياهو. السؤال المهم والخطير هنا بل هو الاهم والاخطر؛ هل هناك خلف الاسوار ما هو متحفظ عليه من قبل الانظمة العربية او حتى من جوارها الاسلامي، وحتى من الدول العظمى والكبرى بما فيها الصين وروسيا وليس امريكا والغرب واسرائيل فقط؛ الفاعلة في المشهد السياسي العربي  في حقائب مقفلة بالسرية التامة حتى يحين وقتها او يتم انضاج الظروف لإشهارها. ان طرح مشاريع السكك كما ورد في اعلاه، لم يكن من فراغ او انها ليس لها وجود في مخططات الدول المعنية بها، بل انها فعلا موجودة في الغرف السرية، والا لما جرى الحديث عنها بين حين وحين اخر، او تسريبها لغرض تهيئة النفوس والاذهان لها في حركة استباقية ليس الا.  من حيث المبدأ؛ هي مشاريع اقتصادية مهمة لجهة التنمية وتعزيز السلام والاستقرار والامن في المنطقة العربية وجوارها. إنما وهذا هو المهم؛ الكيفية السياسية والامنية والاقتصادية، التي يتم بها تنفيذ، هذه المشاريع على طريق حفظ حقوق الدول العربية او غيرها من الدول التي تقع على هذا الطريق، وان لا تكون وسادة ليس الا؛ تتكأ عليها مصالح الدول الاخرى وفي مقدمتها امريكا واسرائيل او غيرهما الكثير من الدول الاخرى التي ربما لا تريد ان تظهر في الصورة والمشهد على الاقل في فترات التحضير لهذه المشاريع. وهل يجري تنفيذ هذه المشاريع على حساب القضية الفلسطينية اي تمييع الحق الفلسطيني في دولة له ذات سيادة كاملة، قابلة للعيش كما قال بوش الاب قبل اكثر من ثلاث عقود. أم يجري الامر بخلاف هذه الارادة كليا، اي تحويل الامر اي امر الدولة الفلسطينية الى خيار الى الفراهية وتوفير فرص العمل مع بقاء القضم الاسرائيلي لما تبقى من ارض فلسطين والذي لا يتعدى 18%منها، الى ان يتم حصرهم في بقعة من الارض لا تأثير لها، بحكم ذاتي تحت الهيمنة الاسرائيلية. ان مشاريع السكك الحديد هذه، (وهنا ان ما قصده ليس مشروع طريق التنمية العراقي، بل المشاريع الاخرى التي اوردها تسريبا الموقع اللإلكتروني الامريكي سابق الاشارة له في اعلى هذه السطور المتواضعة)  تثير الكثير من الاسئلة وعلامات الاستفهام التي تحتاج الى اجابات او انها تحتاج الى تأكيد او نفي من الدول التي يجري اقامة هذه المشاريع على ارضها، وهل ان اسرائيل جزء منها اوانها ستكون لاحقا جزء منها، بعد، كما ورد في تقرير الموقع الامريكي المشار له انفا في هذه السطور المتواضعة؛ عملية تطبيع جديدة ولو بعد زمن ما، في انتظار تحولات المنطقة والعالم التي عند بلوغها محطاتها الختامية سوف تغير شكل الاوضاع، والعلاقات بين دول المنطقة العربية وجوارها. عندها واذا ما تم تنفيذ مشروع ايران للربط السككي بينها وبين سوريا والعراق؛ هل يتوائم هذا المشروع، او يسير بتوازي من دون صدام؛ بمقايضة ما، او تسوية ما، مع مشروع طريق سكك الحديد الأخر الذي اورده الموقع الامريكي؟. هل يتم رفضه من قبل الفاعل الدولي سواء الروسي او الامريكي، في حالة غياب هذه المقايضة او التسوية هذه؟ وهل مشروع طريق التنمية العراقي، ليس له علاقة بهاذين المشروعين، الايراني والاخر؟ وهل مشروع طريق التنمية العراقي ليس الأبن الشرعي للمشروع الايراني العراقي السوري سابق الاشارة له في اعلاه، أو انه توسعة وتطويرا له؟ من وجهة نظري المتواضعة؛ هناك احتمالان، الاول؛ مفاده هو العمل الامريكي على تغيير النظام الايراني بطريقة او بأخرى، كي يتم تنفيذ بسلاسة المشروع الثاني، أو دمج المشرعين معا كمشروع واحد. الاحتمال الثاني؛ هو اجراء صفقة او مقايضة ما؛ يشترك فيها الجميع لتسوية الاوضاع بما يؤدي الى ان يتم تنفيذ المشروعين في آن واحد؛ كمشروع واحد. الاحتمال الأخير هو احتمال بعيد جدا، ان لم اقل ربما هو مستحيلا؛ لموقف ايران والعراق وسوريا من المشروع الأخر. في الختام اقول ان هذه مجرد افتراضات قد تكون صائبة وقد لا تكون..

***

مزهر جبر الساعدي

قراءة في المشهد الإقليمي في ضوء التصعيد المتبادل بين حزب الله والكيان الإسرائيلي وإيران

في سياق التصعيد بين "إسرائيل" وحزب الله لا بد من تقدير مدى جدية حرب التصريحات النارية المتبادلة بين الطرفين، وعلاقة مناورات الحزب الأخيرة التي شاركت فيها قوات الرضوان المدربة على العمليات الخاصة، على نحو احتلال مواقع إسرائيلية داخلية بغية اختطاف ما يتيسر من جنود الاحتلال، والانسحاب بهم إلى قواعد الحزب الداخلية بسلام.. ناهيك عن تجريب إيران لصاروخ خيبر الفرط صوتي بدلالاته المعنوية.

صحيح بأنه لا سبيل إلى المقارنة بين ترسانة الأسلحة الدقيقة التي يمتلكها حزب الله، ونظير ذلك لدى جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يعتبر من القوى الإقليمية العظمى؛ ولكن في حرب الإرادات فالكفة تميل دائماً إلى المقاومة.

وكانت اختبارات الإرادة في كل مواجهات هذا الجيش المصاب برهاب المستقبل، مع المقاومة في قطاع غزة أو جنوب لبنان، تثبت فشله في ضبط ساعة الاشتباك، وعجزه عن التصدي للصواريخ التي أصابت الكيان في العمق؛ ما أدّى إلى هزيمة جيش الاحتلال معنويا.

وكان بوسع خبراء حزب الله الاستراتيجيين التقاط أهم نقاط الضعف في أداء هذا الجيش من خلال مواجهاته مع المقاومة في غزة، والتي تتجلى بما يلي:

أولاً:- اعتماد جيش الاحتلال على قوات الردع الصاروخي التي فشلت في التصدي لثلثي صواريخ المقاومة حيث أصابت أهدافها في العمق الإسرائيلي، كالقبة الحديدية ومقلاع داوود.

ثانياً:- الاعتماد على سلاح الطيران في الهجوم الجوي "الهمجي"، باستخدام المسيرات الانتحارية، بالإضافة إلى سلاح الطيران الذي يستخدم أكثر الطائرات الحربية تطوراً في القصف المدمر للقطاع كطائرات (ف 16) واستخدامها للقنابل المحرمة دولياً دون أن يكسر ذلك إرادة المقاومة.

ثالثاً:- تهميش سلاح المشاة وتردده في اقتحام غزة ما سيجعله عاجزاً عن احتلال جنوب لبنان في أي حرب مستقبلية مع حزب الله، خلافاً لما حدث عام 1982 حينما وصلت هذه القوات إلى مشارف بيروت إلى أن كنستها المقاومة.

ويعزو خبراء عدم كفاءة سلاح المشاة الإسرائيلي إلى العوامل التالية:

- قلة تجربته الميدانية وترهله.

- ضعف عزيمة جنوده، وهبوط الروح المعنوية لديهم.

- عزوف الشباب الإسرائيلي عن الالتحاق بهذا السلاح، ما قد يُفْشِلُ أيةَ دعوةٍ للاحتياط من خلال التجنيد الإجباري.

وهذه الحقائق تاتي خلافاً لقدرة حزب الله النوعية، والتي تتحكم بها إرادة لا تلين، إلى جانب خبرته الميدانية في سوريا، ناهيك عن القوة الصاروخية القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي بكفاءة واقتدار، رغم التفوق الإسرائيلي العسكري، أضف إلى كل ذلك الدعم الإيراني المفتوح للحزب عسكرياً.

إن تصاعد التهديدات الكلامية النارية بين قادة حزب الله والاحتلال الإسرائيلي تبقى مرهونة بتغيير قواعد الاشتباك التي حددت بعد حرب تموز 2006 بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي.

فهل ثمة رهانات جديدة على تغيير تلك القواعد في إطار حرب إقليمية مدمرة؟

إن عوامل التغيير أمست العلامة الأبرز في تلك التصريحات المتبادلة والتي توحي وكأن الحرب باتت وشيكة على الأبواب.

ويتجلى ذلك وفق المنظور الإسرائيلي على اعتبار أن حزب الله من أهم الأذرع الإيرانية "الإرهابية" العاملة في الجبهة الإسرائيلية الشمالية والشمال الشرقي (سوريا).

أما بالنسبة لحزب الله في إطار وحدة الساحات فإنه يعتبر "إسرائيل" احتلالاً بغيضاً لفلسطين ومقدساتها، ناهيك عن احتلالها مزارع شبعا اللبنانية.. وإن علاقة الحزب بإيران استراتيجية فلا فكاك بينهما.

لذلك تدرك "إسرائيل" خطورة الرهان الإيراني على هذه الاستراتيجية في التصدي لتهديداتها الجادة إذا أقدمت على قصف أهم المنشآت الإيرانية النووية التي أقيمت تحت منسوب 100 متر في قلب أحد الجبال.

ومن هذا المنطلق جاءت تصريحات رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي هنغبي، التصعيدية، في أن نتنياهو سيحصل على دعم لضرب منشآت إيران النووية إذا استُنفدت كل الطرق. وفي إشارة للتحصينات الإيرانية في جوف الأرض، قال هنغبي بشكل غير مباشر: “سنصل لكل هدف في إيران أينما كان” وهو يراهن على أم القنابل الأمريكية التي لا تتجاوز قدرتها الاختراقية عمق 60 متراً ما سيحوّل كلامه إلى أوهام.

ويتهم الإسرائيليون إيران بتخصيب اليورانيوم على عتبة 95% ما يمنحها القدرة والجاهزية لصنع قنبلة نووية.. وهو ما انكرته إيران على اعتبار أنها لم تتجاوز عتبة أل 60% من التخصيب.

أضف إلى ذلك قيام إيران بتجربة صاروخ خيبر الفرط صوتي الذي تتجاوز سرعته سرعة الصوت ب 16 مرة ولديه قدرة تفجيرية ضخمة وقادر على حمل رؤوس نووية.

من جهتها كانت المناورات التي أجراها حزب الله في الجنوب اللبناني مؤخراً هي من حرك السجال الكلامي بين الطرفين، كونها تضمنت عمليات اقتحام للحدود الإسرائيلية وتنفيذ عمليات اختطاف افتراضية لجنود إسرائيليين.

وضمن هذا التصعيد اللفظي صدر بيان عن نتنياهو قال إنّه تجول في الفترة الأخيرة بين معسكرات جهاز المخابرات والمؤسسة الأمنية، وأدهشته القدرات البشرية والتقنية لمواجهة التهديدات والتي تمكّن "إسرائيل" من مفاجأة أعدائها ومواجهتهم والتفوّق عليهم مجتمعين.

وهذا كلام منسوخ لا يسمن ولا يغني من جوع فتقديرات حزب الله لجيش الاحتلال وخاصة سلاح المشاة، تأتي خلاف ذلك.

لا بل أن قائد جيش الاحتلال هرتسي هليفي، قال إن إيران تستخدم سوريا منطقةَ حربٍ محتملة مع "إسرائيل"، مشدداً على أن حزب الله “مُرْتَدَعٌ بشدة” عن شنّ حرب شاملة، وأن "إسرائيل" مستعدة جيداً على الجبهة الشمالية. وهذا كلام ليس عملياً وإنما جاء للاستهلاك المحلي.

ورداً على هذه التصريحات قال مسؤول إيراني "الجزيرة"، إن أي اعتداء عسكري على المنشآت النووية سيقابل برد واسع وغير مسبوق، وإن كلام "إسرائيل" مجرد تحريض ودعاية.. مشدداً على أن طهران مستمرة في تطوير قدراتها العسكرية في كافة المجالات، وأن ذلك هو ما يزعج "إسرائيل".

فوفق مراقبين إسرائيليين فإن نتنياهو يستثمر هذه الأجواء ويعود ليستخدمَ إيران وحزب الله معاً فزاعةً؛ حتى يقنعَ الإسرائييليين بأن "إسرائيل" بحاجة لقائد قوي يفهم بالأمن ومجرّب، وذلك من أجل كسب بعض النقاط وزيادة شعبيته في معركته الداخلية الصعبة.

أما خارجياً فيحاول نتنياهو إعادة فزاعة إيران للعودة إلى الخليج كضامن لأمنه، بعد أن عادت العلاقات السعودية الإيرانية إلى مجاريها في ظل حرب أوكرانية اشغلت الناتو والإمريكيين.

***

بقلم بكر السباتين

29 مايو 2023

الشمًّاعة وجمعها شَمَّعات أو العلًّاقة وهي قطعة أثاث يمكن تعليق الملابس عليها، والشماعة عبارة عن مجموعة من الخطافات الملحقة بجدار وتستخدم بشكل أساسي لتعليق المعاطف والسترات والسراويل ولتخزين الحقائب والمظلات وعصي المشي والأحذية وغيرها من الأشياء، هذا ما جاء في تعريفها بالموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، وهذه الشماعات او العلاقات نجحت الأنظمة السياسية الشمولية في شرقنا الأوسط بتطويرها واستخدامها كوسيلة لإدامة حكمها وديمومته، ورغم اختلافها مع بعضها حد الاقتتال أحيانا، الا انها تشترك في نمط السلوك والتفكير، ومن أبرز ظواهر تلك المنظومة من التفكير والسلوك هو تعليق أسباب تشبثها بالسلطة بشماعات الشعارات التي تداعب الجانب العاطفي للشعوب سواء كان دينياً او مذهبياً او قومياً، وهي تستخدمها أيضا لتعلق عليها كثير من إرهاصاتها وأسباب فشلها أو مبررات قيامها بأمر ما مخالف للقوانين أو الأعراف، لتكون سبباً مقنعاً للتمويه واستغفال الشعوب وإدامة حكمها، وهي بذلك أي تلك الشماعات تكفي لكي تكون مبرراً لاتخاذ أي إجراء أو تمرير أي قانون أو مشروع خارج سياقات القوانين المتعارف عليها دستورياً، ولعلّ أكثر الدول والأنظمة استخداماً لهذه الشماعات نجدها في العراق وسوريا وليبيا واليمن وإيران والعديد من الأنظمة المشابهة لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد في هذه الدول.

ولعل أخطر استخدام لتلك الشماعات هي التهم الموجهة لمعارضي النظم السياسية خارج إطار القضاء، ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي حينما بدأت مرحلة الحكم الشمولي في العراق بمذبحة العائلة الملكية، كانت تهمة أي معارض للنظام هي شماعة الرجعية والعمالة للإمبريالية والاستعمار، ثم تطورت لتشمل القومية والتدين، وكانت العروبة والكردية والإسلامية السياسية تهمة كافية لتعلق صاحبها على المشنقة او التصفية الصامتة، وما كادت أن تنتهي تلك الفترة بانقلاب 8 شباط 1963م حتى بدأت موجة انتقام وحشي وصلت الى درجة إصدار بيان حكومي سيء الصيت اسمه البيان 13 الذي أباح قتل كل معارض للبعثيين وفي مقدمتهم الشيوعيين وبقية اليساريين، وقد أتاح هذا البيان لكل شخص لديه مشكلة مع شخص آخر أن يتهمه بالشيوعية او اليسارية أو المعارضة لكي يتم إعدامه فوراً، وخلال أسابيع من شهري شباط وآذار 1963م غرق العراق في حمامات دماءٍ ومذابح قتل فيها الآلاف من المواطنين لا علاقة لأغلبيتهم بالسياسة وتعليق تصفيتهم على شماعة الشيوعية والإلحاد والمعارضة للنظام.

إنها شماعات الموت التي حولت البلاد الى صراعات دموية حادة مهدت لحروب داخلية طاحنة في كوردستان العراق ومن ثم مع الشيعة والسنة ايضاً، راح ضحيتها مئات الآلاف من خيرة أبناء وبنات العراق ومن كل المكونات القومية والدينية والمذهبية والسياسية، لا لشيء إلا لكونهم معارضين او مشتبه بمعارضتهم أو أقربائهم، كما كانوا يصنفونهم حتى الدرجة الرابعة من القرابة، ناهيك عن الحروب الخارجية مع إيران والكويت والتحالف الدولي أدت الى تدمير العراق لعشرات السنين القادمة.

والمؤلم ان كل هذه الفواجع وحمامات الدم والمآسي لم تنتج معارضة قادرة على إسقاط تلك الأنظمة الا بمساعدة خارجية، كما حصل في ليبيا وأفغانستان وايران وسوريا الى حد ما، وفي العراق تحولت المساعدة الى احتلال العراق وأسقاط هيكل نظام الأنفالات والأسلحة الكيماوية والمقابر الجماعية والجيش الشعبي والأمن الخاص وبقية مؤسسات صناعة الموت، وقد توفرت فرصة ذهبية امام النخب السياسية وشعوب تلك البلدان رغم مرارة الاحتلال لإعادة بناء الدولة والخروج من ظلمات النظم الشمولية، لكن للأسف ورغم النجاحات التي تحققت في عدة ميادين إلا أنها اصطدمت بإرث متكلس من السلوك وطريقة التفكير التي لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من الأنظمة، بل ربما تجاوزتها في أحيان عديدة، ليس في العراق فحسب بل في كل من ليبيا واليمن وايران وأفغانستان، وبدلاً من دكتاتور واحد وجيش واحد وأجهزة أمن واحدة، انشطرت الى العشرات حيث فرخت الأجهزة الخاصة بصناعة الموت العديد من الجماعات المسلحة والميليشيات الدينية والمذهبية المتطرفة، وكما تتوالد القطط الشباطية توالدت الشماعات فأصبحت شماعة داعش والبعث والسيادة والحشد المقدس وتحرير القدس والصهيونية والتطبيع والطائفية وكل واحدة من هذه الشماعات ترسل صاحبها الى ما وراء الشمس، وترسل البلاد الى حقبة من الصراعات الأكثر عنفاً ودموية من الأنظمة السابقة.

وخلاصة القول لقد نهضت اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا بعد حروب طاحنة مدمرة وتحولت الى قوى عظمى خففت من وطأة الاحتلال في إعادة بناء البلاد وإعمارها، لكن ما حصل لدينا وبعد عقدين من الزمان وأكثر من ألفي مليار دولار كناتج قومي، أكد بما لا يقبل الشك بأن ثقافة الشماعات وعدم قبول الاخر بل والإصرار على إبادته متكلسة في النظام التربوي والاجتماعي ليس للنخب الحاكمة فقط بل حتى لدى غالبية المحكومين.

إن البناء والتقدم ليس في المباني الشاهقة بل في إعداد وبناء العقول الشاهقة!

***

مقدمة: تمر (حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة) بأزمة بنيوية ووظيفية عميقة: أزمة قيادة، أزمة برنامج وطني، أزمة فكر وأيديولوجيا، ثم أزمة انقسام ووصول الخيارات المعلنة أو البرامج الحزبية لطريق مسدود سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل، ومما زاد من تفاقم الأزمة تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت حاضرة عند تأسيس المشروع الوطني في بداياته، فالمتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية التي استجدت على مجريات الصراع كانهيار المعسكر الاشتراكي والنظام الإقليمي العربي وصعود الإسلام السياسي وفوضى ما يسمى الربيع العربي وموجة التطبيع الأخيرة بين أنظمة عربية وإسرائيل، بالإضافة الى الانقسام الداخلي وصعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرفا وعنصرية، كلها أمور زادت من إرباك المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني.

هذه الأزمة المركبة ومع أنها أزمة قوى وبرامج سياسية إلا أن استمرارها يؤثر مستقبلا على الحقوق الوطنية السياسية، فالاستيطان في الضفة والتهويد في القدس والانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة وتراجع الدافعية النضالية لدى غالبية فصائل العمل الوطني والانشغال بهموم ومتطلبات الحياة اليومية وتزايد المراهنة على المتغيرات الخارجية... الخ، كلها أمور ستُخرِج – إن لم تكن أخرجت – الحالة الفلسطينية من سياق حركة التحرر الوطني ووضعته على تخوم متاهة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.

لا شك أن مصير الشعوب وتاريخها لا يرتهنا بتقلب الأزمان ولا بتغير موازين قوى إقليمية أو دولية، والأهم من ذلك لا يرتهنا بمصير ومآل الأحزاب والنخب السياسية التي تفرزها كل مرحلة. فإذا كان صعود وسقوط دول وإمبراطوريات لم يلغ وجود الشعب الفلسطيني فإن هزائم وفشل أحزاب ونخب لن يلغي وجود الشعب والقضية، ولكنها تحتم إعادة النظر في البرامج واستراتيجيات العمل بل إعادة النظر في شرعية تحكم نفس القوى السياسية المأرومة بمصير الشعب الفلسطيني، ذلك أن الأحزاب والنخب لا تصنع الشعب والحقوق الوطنية ولكن الشعب هو الذي يصنع الأحزاب والنخب.

الحالة الفلسطينية المأزومة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية وخصوصا للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وطرأت عليه تغيرات لاحقة لم تحض بموافقة كل القوى السياسية. نظرا للغموض الذي يشوب تشخيص الحالة الفلسطينية الراهنة وتعريف النظام السياسي والمشروع والبرنامج الوطني، فسنتطرق لهذه الأمور قبل تناول إستراتيجية المرحلة المقبلة.

المحور الأول: المشروع الوطني كنظام سياسي لحركات التحرر الوطني

هناك إشكال على مستوى استعمال المفردات والمصطلحات لتوصيف الحالة السياسية الفلسطينية فهل هي حركة تحرر وطني؟ أم سلطة وطنية؟ أم سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال؟ أم سلطة دولة؟ وفي ظل الانقسام أليس الأقرب للواقع الحديث عن سلطتين وحكومتين ومشروعين سياسيين واحد وطني وآخر إسلاموي؟ وينتج عن هذا الإشكال إشكال في النعت المناسب للمؤسسة السياسية الناظمة للحياة السياسية، هل هو النظام السياسي؟ أم منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها ومؤسساتها؟ أم المشروع الوطني؟ أم البرنامج الحكومي؟

إجرائيا سنستعمل مصطلح النظام السياسي لوصف كل أشكال الفعل السياسي والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي تشتغل على القضية الفلسطينية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، في السلطة او في المعارضة وبغض النظر عن أشكال الفعل السياسي الذي تمارسه: عسكريا جهاديا او سياسيا.

1- تعريف النظام السياسي

التعريف التقليدي للنظام السياسي هو نظام الحكم بمعنى المؤسسات الحكومية الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، والتي تقوم بمهمة الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية وضمان الترابط الداخلي، هذا التعريف للنظام يربط النظام السياسي بالدولة، وهو تعريف مستمد أساسا من التعريف التقليدي لعلم السياسة بأنه علم الدولة، إلا أن التطور الذي عرفه علم السياسة مع تطور وتعقد الحياة السياسية وتجاوزها لحدود الدولة، دفع بعلماء السياسية إلى تعريف علم السياسة كعلم السلطة، وعليه، أصبح النظام السياسي يعرف كمفهوم تحليلي أكثر مما هو نظام مؤسساتي مضبوط كما توحي كلمة نظام، وضمن هذه الرؤية عرفت موسوعة العلوم السياسية، النظام السياسي هو " مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (دايفد استون)، أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند)، أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دولُ)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية " .

هذا يعني أن النظام السياسي قد يشمل الدولة ولكنه قد يتجاوزها ليستوعب علاقات وتفاعلات سلطوية إما مشمولة بالدولة كالأحزاب والجماعات العرقية والطائفية ذات الثقافات المغايرة والمضادة للدولة، وإما تتعدى حدود الدولة كظاهرة الإرهاب الدولة أو العنف متعدي القوميات أو حركات التحرر الوطني أو التداعيات السياسية للعولمة.

وفي جميع الحالات، فان مؤشرات وجود الظاهرة أو التركيبة السياسية التي يمكن تسميتها بالنظام السياسي هي التالي:

أ - قيادة سياسية ذات سلطة أكراهية – بدرجة ما-.

ب- مؤسسات سياسية وإدارية مدنية وعسكرية واقتصادية

ج - هدف محل توافق وطني

د-إستراتيجية عمل وطنية

لا بد من الإشارة إلى أن النظام السياسي هو نسق فرعي بالنسبة للمجتمع، فهذا الأخير كنظام أو منظومة كلية يتشكل من عدة أنساق فبالإضافة إلى النسق- النظام- السياسي، هناك النسق الديني والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي، واتساق هذه الأنساق وانسجامها مع بعضها البعض هو الذي يحفظ للمجتمع توازنه واستقراره، واختلال نسق من هذه الأنساق يؤثر سلبا على بقية الأنساق وبالتالي على استقرار المجتمع وتوازنه. وفي هذا يرى ديفد استون " إن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة التي تحيطها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر "، وهو يعتبر ان النظام السياسي مثل (العلبة السوداء) ولا يهم ما يجري داخل العلبة بل علاقات النظام مع بيئته، وهذه البيئة على نوعين :الأول هو النظم الأخرى المكونة للنظام الاجتماعي العام كالنظام الاقتصادي والنظام الثقافي والنظام الديني الخ، والثاني مكون من البيئة الخارجية أو غير الاجتماعية، كالنظام البيئي، النظام البيولوجي، النظام النفسي والنظام الدولي.

هذه المقاربة النسقية لمفهوم النظام السياسي مهمة عند معالجة النظام السياسي الفلسطيني، فالحديث عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني لا يعنى فقط أزمة تشكيل الحكومة ولا الصراع على المناصب بل أيضا وأهم من ذلك تأثير الاحتلال و الأجندة الخارجية والبعد الديني في الصراع سواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين الفلسطينيين وبعضهم بعضا بالإضافة إلى المحددات الاقتصادية الناتجة عن الارتهان للتمويل الخارجي.

2- المشروع (البرنامج) الوطني ضرورة حياتية للشعوب الخاضعة للاحتلال.

لا تستقيم السياسات العامة للأمم والدول بدون رؤية، والرؤية هي الهدف وإستراتيجية تحقيقه، والرؤية عند الشعب الخاضع للاحتلال هي المشروع الوطني التحرري وبرنامج للعمل الوطني قابل للتكيف مع المتغيرات دون أن يفقد بوصلة الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي. لا يمكن أن ينجح شعب خاضع للاحتلال بدون مشروع وطني وثوابت متَفَق عليها تُلهم الشعب وتوحده وتستنفر قواه للدفاع عنها.

ما وراء الفشل المتعاظم والتخبط الواضح والتيه المعمم على مستوى كافة نخب ومؤسسات الحالة السياسية الفلسطينية، يكمن غياب الرؤية أو غياب المشروع الوطني وعدم ثبات برامج العمل الوطني وتعددها بتعدد الأحزاب .فشل المفاوضات والخلاف الداخلي حولها، الاختلاف حول مفهوم المقاومة، فشل المصالحة، الفوضى والفلتان الأمني والاجتماعي، الصراع على سلطة وهمية، فساد نخب ومجتمع مدني وحكومات، هجرة الشباب والانتقال من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الهجرة، العجز عن القيام بانتفاضة جديدة وحتى عدم القدرة على ممارسة المقاومة الشعبية السلمية الخ، ليس ما سبق المشاكل الحقيقية أو جوهر القضية بل هي تداعيات ونتائج لغياب الرؤية أو المشروع الوطني بما يتضمن من ثوابت وطنية. استمرار التركيز على أزمة المفاوضات وأزمة المقاومة وغيرها، إنما هو هروب من جوهر المشكل وهو غياب مشروع وطني وثوابت وطنية، وهو غياب إما لعدم الإيمان بالمشروع الوطني أو لعدم القدرة على تحمّل استحقاقاته.

مع أن سؤال الأزمة صاحب المشروع الوطني الفلسطيني منذ ولادته إلا أنه تحول من سؤال حول أزمة المشروع الوطني إلى سؤال حول ماهية المشروع الوطني ثم سؤال حول الوجود بحيث يجوز التساؤل اليوم هل يوجد مشروع وطني فلسطيني؟

الواقع يقول إنه بالرغم من أن كلمة المشروع الوطني والثوابت الوطنية من أكثر المفردات تكرارا عند القوى السياسية الفلسطينية، إلا انه لا يوجد مشروع وطني ولا ثوابت محل توافق، بل ينتظر الفلسطينيون من يضع لهم مشروعهم الوطني، فكما صنع العرب منظمة التحرير بداية يبدو أن الفلسطينيين اليوم وبعد أن نفض العرب يدهم من القضية ينتظرون من الرباعية أو من إيران أن يصيغا لهم مشروعا وكيانا ولا بأس أن ينعته الفلسطينيون بالوطني أو مشروع مقاومة إن شاءوا.

قد يتساءل البعض كيف لا يوجد مشروع أو برنامج وطني وعندنا أكثر من خمسة عشر حزبا وفصيلا لكل منها برنامجها وإستراتيجيتها ونصفها يملك ميليشيات وقوات مسلحة؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية! وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟ كيف لا يوجد مشروع وطني ولدينا حكومتان وسلطتان لكل منها أجهزتها الأمنية والشرطية ووزرائها وقوانينها وعلاقاتها الخارجية الخ ؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وقد اندلعت حرب أهلية باسمه ودخل آلاف الفلسطينيين سجونا فلسطينية وقُتل بعضهم في هذه السجون وعُذب و آخرون باسم المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية والمجلس المركزي؟!.

وقد يقول قائل إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائيا وجود مشروع وبرنامج تحرر وطني، وهذا قول يحتاج لمراجعة. صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني ويوجد أكثر من 14 مليون فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبنائهم على حب الوطن و التوق للعودة إليه، و صحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة الخ، ولكن، هذه أمور قد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية.

إن كان يوجد مشروع وطني فما هي مكوناته من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية؟ وإن كان يوجد ثوابت وطنية فما هي؟ هل هي المنصوص عليها في الميثاق الوطني قبل تعديله أم ثوابت ما بعد التعديل؟ هل هي التي تتحدث عنها حركة حماس، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة فتح، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة الجهاد الإسلامي الخ؟ أم الثوابت التي يتحدث عنها اللاجئون في الشتات؟

منظمة التحرير في وضعها الحالي لم تعد مشروعا وطنيا ممثلا لكل الشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب تآكلها داخليا ولاعترافها بإسرائيل وصيرورتها ملحقا للسلطة واستحقاقاتها الخارجية بعد أن كانت مؤسِسَة لها، بل أيضا لأنها أصبحت جزءا من الخلاف الفلسطيني ولا تعترف بها حركة حماس والجهاد الإسلامي وتتحفظ على ممارساتها فصائل حتى من داخلها، فغياب توافق وطني حول المنظمة يقلل من أهمية اعتراف كل دول العالم بها، أيضا المفاوضات ليست مشروعا وطنيا، والسلطة و الحكومة ليستا مشروعا وطنيا، ومجرد الحديث عن مقاومة وحتى ممارستها بشكل فصائلي ليس مشروعا وطنيا.

لو كان عندنا مشروع وطني حقيقي ولو كان عندنا ثوابت محل توافق وطني ما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار، لو كان لدينا مشروع وطني ما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008، وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في أبريل 2011 وبروتوكول القاهرة للمصالحة 2017 وكلها لم تنفذ حتى اليوم، لو كان لدينا مشروعا وطنيا وثوابت وطنية ما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يتحدثون عن المشروع الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا حالنا وما كان هذا التدخل الفج من القوى الخارجية في قضيتنا الوطنية .

إن كان كل ما سبق من تشكيلات سياسية وبرامج حزبية ليس مشروعا وطنيا، فما هو المشروع الوطني ؟.ندرك جيدا صعوبة تحديد المشروع الوطني في الحالة الفلسطينية والصعوبة الأكبر في وضعه موضع التنفيذ، نظرا لتداخل الماضي مع الحاضر، الدين مع السياسة مع الاقتصاد، الوطني مع القومي مع الإسلامي، الشرعية الدولية مع الشرعية التاريخية والشرعية الدينية، ونظرا لطبيعة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ألإجلائي الخ، ونظرا لأن بعض مكونات النخب السياسية الفلسطينية وخاصة نخب السلطتين، بدأت تفقد إيمانها بعدالة القضية وبدأت حسابات السلطة والمصلحة الآنية تطغى عندها على حسابات المصلحة الوطنية، ومن هنا فإن أي توجه لإعادة البناء النظري للمشروع الوطني ووضع آليات لتنفيذه يجب أن يبدأ كخطوة أولى خارج حسابات السلطتين وخارج ارتباطات الحزبين الكبيرين ومن خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كساكنة غزة والقطاع بل كشعب قوامه أكثر من 14 مليون مواطن.

إن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتبار أنه يمثل المشروع الوطني، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي فهذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لتأسيس عقد سياسي أو مشروع وطني جديد، وإن كان الحديث عن مشروع وطني جديد يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها تجاوز للأحزاب والنضالات السابقة، وهي ليست كذلك، فلنقل إننا نحتاج لاستنهاض الحالة الوطنية على أُسس جديدة. ومن حيث المبدأ فحتى نكون أمام مشروع وطني يجب توافق الأغلبية على مرتكزات أي مشروع وطني وهي: 1- الهدف 2- الوسيلة أو الوسائل لتحقيق الهدف 3- المرجعية 4- الإطار 5-الثوابت. وسنفصل لاحقا هذه العناصر.

3- المشروع الوطني الأول: مشاريع في مشروع

تم التعامل مع منظمة التحرير منذ قرار إنشائها بداية في قالمة العربية عام 1964 كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني والقضاء الثوري والكفاح المسلح الخ، كما حدد الميثاق القومي 1964 ثم الوطني 1968 الإستراتيجية والهدف، فكانت بداية إستراتيجية الكفاح المسلح ثم بالتدريج ومن خلال صياغات تحويريه ومبطنة تم الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي. هذا التحول بالإستراتيجية رافقه أو بالأدق كان نتيجة استعداد لتحوير الأهداف من تحرير كل فلسطين إلى القبول بدولة على أساس الشرعية الدولية.

كان النظام السياسي وحتى علم 1968 نظام حركة تحرر وطني تتمركز خارج فلسطين وتخضع للقيادة العربية المشتركة، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دورا كبيرا في قيام النظام السياسي- منظمة التحرير- بداية ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقا. هيمنة فصائل الكفاح المسلح على المنظمة عام 1968 حرر منظمة التحرير نسبيا من التبعية العربية الرسمية ثم جاء قرار قمة الرباط 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا ليزيد من هامش الحرية إلا أن منظمة التحرير ومجمل القضية بقيت متأثرة بمحيطها العربي والإقليمي.

لم يكن النظام السياسي الفلسطيني - ومنذ أن وجدت القضية الفلسطينية كقضية كفاح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير - هو الفاعل الوحيد في رسم إطار الصراع وتحديد أهدافه وأبعاده، بل كان طرفا ضمن أطراف متعددة عربية ودولية. لا شك أن الشعب الفلسطيني هو المعني أكثر من غيره بالصراع بفعل وقوعه مباشرة في بؤرة الحدث وبفعل كونه الأكثر تضررا من مجريات الأحداث إلا أن دوره كفاعل كان مقيدا ومحكوما بالفاعلين الآخرين وبموازين القوى التي يصنعونها، وما كان يسمى النظام السياسي الفلسطيني الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية هو في حقيقته ليس مشروعا وطنيا خالصا بل مشروعا خليطا من مشاريع أربعة: المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع القومي العربي والمشروع الإسلامي والمشروع التحرري العالمي. وكنتيجة لذلك أيضا، فإن التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني والنكسات والهزائم التي تعرض لها النظام السياسي الفلسطيني عبر محطاته المأساوية البارزة 1967 هزيمة يونيو وضياع الضفة والقطاع، 1970 أحداث الأردن، 1982 الخروج من لبنان، 1983 الانشقاق داخل فتح و 1990 تداعيات الغزو العراق للكويت، ثم الدخول الاضطراري بعملية السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو، وأخيرا الانقسام ... لم تكن نتيجة لتقاعس أو تقصير الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي بل كان للأطراف الأخرى العربية والدولية المصنفة ضمن معادلة الصراع دور رئيس في حدوثها وتحمل مسئوليتها، كذلك الأمر بالنسبة للإنجازات السياسية التي تحققت، فلم يكن مرجعها فقط النضال الفلسطيني وفعالية النظام السياسي بل لعبت الأطراف الأخرى دورا في تحقيقها أو في تضخيمها.

ويمكن القول إن البرنامج الوطني الذي كان يتصدى له النظام السياسي الفلسطيني اختزن في ثناياه أربع قضايا أو مشاريع أو هو حصيلة لهم:

المشروع الأول: المشروع الوطني الفلسطيني الرافض للوجود الصهيوني في فلسطين والمتطلع للاستقلال إنه المشروع الذي يقف في الصدارة عند الحديث عن القضية الفلسطينية فهو عمادها وجوهرها وعامودها الفقري.

المشروع الثاني: القومي الوحدوي العربي حيث كانت كل القوى والأنظمة القومية تقول بتحرير فلسطين وتعتبر الوجود الصهيوني تهديدا للأمن القومي العربي وعائقا أمام الوحدة العربية، بل إن كثيرا من الأنظمة العربية كانت تعتبر تحرير فلسطين من أولى مهامها، وتحت شعار البعد القومي للقضية وقومية المعركة ووحدة المصير كانت الأنظمة- خصوصا القومية والثورية- تتدخل بشكل سافر في حياة الفلسطينيين وفي مسار مشروعهم الوطني.

المشروع الثالث: المشروع الإسلامي. نظريا جمعت فلسطين والقدس الشريف بما تمثلانه من رموز دينية وبما تجسدانه من معان روحية عميقة لدى المسلمين كافة كل المسلمين عرب وغير عرب، وتضمن خطاب الأنظمة والحركات الإسلامية ما يؤكد التزامها نظريا بتحرير فلسطين ورفض الوجود الصهيوني فيها من منطلق ديني، ولكن على مستوى الممارسة تفاوت العطاء وتباينت أساليب التعامل فهناك من المسلمين من اكتفى بالدعوات الصالحات للشعب الفلسطيني وهناك من رأى أن طريق تحرير فلسطين لا تمر القدس بل عبر كابول وكشمير بل حتى نيويورك وواشنطن. وفي زمن ما يسمى الربيع العربي هيمن الخطاب الديني على غيره إلا أن فلسطين كانت غائبة عن اهتمامات الاسلامويين بل عززت إسرائيل من مكانتها ونفوذها مستغلة فوضى (الربيع العربي).

المشروع الرابع: المشروع التحرري العالمي حيث كانت حركة التحرر العالمية تلتقي مع كل من المشاريع الثلاثة على قاعدة معاداة الصهيونية والإمبريالية ومحاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان على رأس حركة التحرر العالمية الاتحاد السوفيتي والصين ومجموعة دول المسكر الاشتراكي والتي دعمت ومدت حركات التحرر في العالم الثالث بما فيها حركة التحرر العربية وعلى رأسها حركة المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح ونسجت معها علاقات (إستراتيجية) عسكرية وسياسية اقتصادية وكانت أكبر نصير لها داخل هيئة الأمم المتحدة.

هذه المشاريع الأربعة كانت تتداخل مع بعضها البعض، تقترب من بعضها أحيانا فتتعزز مكانة النظام السياسي الفلسطيني، أو تتنافر وتتصادم فيتأزم النظام السياسي الفلسطيني وتنتكس القضية الفلسطينية. وبالرجوع إلى الميثاق الوطني الفلسطيني الذي رسم معالم النظام السياسي الفلسطيني نجد قوة حضور المحددات الخارجية الأربعة سواء عند تحديد الإستراتيجية النضالية، فمهمة التحرير لم تكن مسؤولية فلسطينية خالصة، حيث نص الميثاق أن الفلسطينيين (طليعة) الأمة العربية والإسلامية وحركة التحرير العالمية في معركة التحرير، وهدف التحرير هدف قومي وإسلامي، حيث فلسطين جزء من الأمة العربية ولم يكن مسموح للفلسطينيين بالتفريط بأي جزء منها حتى لدواعي المصلحة الوطنية الفلسطينية، حتى انه تم التنصيص في الميثاق القومي الفلسطيني على أن لا تمارس المنظمة أي سيادة على الضفة وغزة، وفلسطين أيضا وقف إسلامي لا يجوز التفريط بأي جزء منها.

حتى السلطة التي تمارسها القيادة الفلسطينية كانت سلطة معنوية أكثر منها سلطة سيادية، بسبب وجود المنظمة على ارض غير فلسطينية وخضوع الفلسطينيين للاحتلال، فالسلطة الإكراهية للقيادة الفلسطينية كانت تصطدم بالسلطة السياسية والسيادية لأنظمة أخرى، ولم يختلف وضع المؤسسات السياسية بما فيها التنظيمات المسلحة كثيرا من حيث ما تمارس من سلطة وسيادية أو من حيث قدرتها على تنظيم الشعب الفلسطيني.

فلا غرو إذن أن النظام السياسي الفلسطيني قبل 1988 كان محكوما بمعادلة معقدة ومستحيلة التحقيق وهي التوافق بين المحددات أو الشروط الأربعة المشار إليها، فأي إخلال بشرط من هذه الشروط أو تَرَجُع أي طرف عن التزامه سينعكس سلبا على النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي على إنجاز البرنامج الوطني.

كان توازن هذه المشاريع الأربعة وتوافقها ولو على قاعدة الحد الأدنى هو الذي حكم النظام السياسي الفلسطيني خلال ثلاثة عقود، سواء في حالات احتدام الصراع والحرب أو في مرحلة البحث عن حلول سلمية للصراع، حيث كان لكل طرف مصلحة في استمرارية (التحالف) أو التنسيق فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني إما من منطلق المصلحة المشتركة في مواجهة عدو مشترك أو لمصلحة خاصة لكل طرف، وكانت النظام السياسي الفلسطيني معني أكثر من غيره بالحفاظ على الترابط والتنسيق بين المشاريع الأربعة ولو على قاعدة الحد الأدنى، وكان دائم السعي لتعويض أي نقص في فاعلية أداء أي بُعد من الأبعاد الأربعة بتقوية وتعزيز فاعلية الأبعاد الأخرى. فغياب وانتكاسة المشروع القومي بعد حرب 67 تمت محاولة تعويضه بتقوية المشروع الفلسطيني وتصعيد الكفاح المسلح ضد إسرائيل وانتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني بعد أحداث أيلول 1970 تم تداركه بتقوية الوجود الفاعل للقضية على المستويين العربي والدولي، وانتكاسة المشروع القومي العربي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد جرت محاولة التقليل من مخاطرة بتقوية المشروع الوطني الفلسطيني وبتفعيل دور المشروع التحرري العالمي سواء على مستوى تعزيز مكانة القضية الفلسطينية بين دول العالم أو تفعيل قرارات الشرعية الدولية ومكانة المنظمة داخل الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى، إلا أن ما لم يخطر على بال المخططين داخل النظام السياسي الفلسطيني أن تحدث الانتكاسة على كافة المستويات.

ارتهان النظام السياسي وبرنامج العمل الوطني للمحددات الخارجية كان جليا في التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني حيث كانت كل تراجع لأي من المشاريع المشار إليها أو التصادم معها يؤدي لخلخلة البرنامج الوطني وخفض سقف تطلعاته وصيرورته أكثر تطويعا لفكر التسوية وللبحث عن حلول وسط بأجراء تحويرات على المشروع الوطني تحت عنوان التكتيك السياسي تارة والعقلانية السياسية تارة اخرى.

فبعد أحداث الأردن عام 1970 وسلبية الموقف العربي تبنت المنظمة فكرة الدولة الديمقراطية على كامل فلسطيني عام 1971 والتي تمنح لليهود المقيمين على أرض فلسطين حقوق متساوية مع المسلمين والمسيحيين، فيما كان الميثاق لا يعترف بحقوق لليهود إلا الذين كانوا يعيشون فيها قبل 1947، وبعد حرب أكتوبر 1973 تبنت المنظمة فكرة المرحلية وتبنت البرنامج المرحلي الذي يتحدث عن سلطة وطنية مؤقتة، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم حرب لبنان 1982 والتقاعس العربي في نصرة الثورة اعترفت المنظمة بقرارات الشرعية الدولية وتطويع البرنامج الوطني لهذه القرارات وهو ما تم تبنيه رسميا في إعلان الدولة في الجزائر عام 1988، وجاءت حرب الخليج الثانية وما أدت من انهيار للنظام الإقليمي العربي ثم انهيار المعسكر الاشتراكي للارتماء في أحضان التسوية الأمريكية التي أدت إلى مؤتمر مدريد 1991ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993 التي أسست لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وأخرجت البرنامج التحرري الوطني من ماهيته وأدخلته في متاهة جديدة.

المحور الثاني: تعدد البرامج وانقلاب السلطة على المشروع الوطني

1- محاولات متعثرة لإنقاذ المشروع الوطني:

تزامنت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الإعلان عن قيام الدولة في اجتماع المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 مع ظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي من خارج إطار المشروع الوطني والنظام السياسي الرسمي- منظمة التحرير الفلسطينية - وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات متعارضة مع البرنامج الوطني، وإن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا. بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة للبرنامج الوطني أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 خلخلة في مرتكزات النظام السياسي بل شكل خروجا عن البرنامج الوطني الأول، وبهذين المتغيرين باتت ثوابت البرنامج الوطني اقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه.

نظرا لمحدودية الإمكانيات الفلسطينية: العسكرية والاقتصادية والديمغرافية – الشتات والاحتلال- فقد استمرت التدخلات الخارجية في لعب الدور الرئيس في توجيه النظام السياسي، إلا أن القوى المؤثرة اختلفت جذريا عن سابقاتها وهو اختلاف أدى لتحول النظام السياسي عن أهدافه وإستراتيجيته، فإذا كانت سابقا قوى صديقة أو حليفة تجمعها بالمشروع السياسي الفلسطيني قواسم مشتركة، فأنها هذه المرة قوى غير صديقة أو معادية لمنظمة التحرير ومشروعها السياسي، أو صديقة ولكن لها أجندة خاصة بها، أو صديقة ولكن غير مؤثرة.

إذن ما بعد أوسلو حدثت خلخلة للنظام السياسي الفلسطيني بعناصره الأربعة المشار إليها – القيادة والمؤسسات والهدف والإستراتيجية – صحيح انه مع تأزم مسلسل التسوية وتهرب إسرائيل من التزاماتها وخصوصا مع انتفاضة الأقصى – سبتمبر 2000- حاول النظام السياسي الفلسطيني أن يعود لمرتكزاته القديمة و يرمم السفن التي أحرقتها اتفاقية أوسلو سواء من حيث دعم أو السكوت عن ممارسي العمليات الفدائية، أو من خلال التأكيد على حق العودة وعدم التفريط بالثوابت أو إحياء مؤسسات منظمة التحرير وخصوصا اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمؤسسات القيادة لحركة فتح وتغيير القيادة بعد وفاة الرئيس أبو عمار، ثم إجراء انتخابات بلدية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية الخ، إلا أن كل هذه المحاولات لم تفلح في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل وصل الأمر للانقسام الراهن.

التيه السياسي الراهن الذي يعاني منه النظام السياسي الفلسطيني ليس خللا ظرفيا وعابرا، بل خلل بنيويا قبل أن يكون وظيفيا، سواء تعلق الأمر بكل حزب وحركة على حدة أو من خلال ما تم تسميته بالمشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس وحل عادل لقضية ألاجئين.

خلل الفصائل يكمن في كونها فصائل منفردة لا يجمعها إطار وطني واحد ولو ضمن ائتلاف كما كان الحال مع منظمة التحرير في سنوات السبعينيات أو جبهة تحرير فيتنام أو جبهة تحرير الجزائر الخ، والخلل أيضا في غياب استقلالية قرارها وتبعيتها لأجندة دول وأطراف خارجية لأسباب أيديولوجية وغالبا ما تؤدي التبعية الأيديولوجية لتبعية مالية والمال الخارجي له ثمن سياسي لا يتوافق غالبا من المصلحة الوطنية، هذا بالإضافة إلى أن تبعية حزب أو حركة لمرجعية خارجية يؤشر على ضعف الانتماء للوطن: ثقافة وهوية وانتماء، وهي تبعية تعيق الشراكة السياسية الوطنية بما فيها التوصل لإستراتيجية عمل وطني. أن يكون لكل حزب إستراتيجية سياسية وعسكرية خاصة به وميليشيات مسلحة بل ومستشفيات وجامعات ومعسكرات تدريب هذا لا يعني وجود إستراتيجية عمل وطني، ولا يندرج في إطار التعددية السياسية والحزبية التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية، حال الأحزاب والحركات السياسية في فلسطين فئوية مدمرة للمشروع الوطني وكانت أهم أسباب فشله.

أما خلل (المشروع الوطني) الذي تقوده حركة فتح ومنظمة التحرير فيكمن، بالإضافة أنه لا يعبر عن توافق وطني حيث لا تقر به حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى، إنه مرتهن بالتسوية السياسية ولن تقوم له قائمة إلا في إطار تسوية سياسية تُقر بها إسرائيل، وذلك بسبب مرجعية هذا المشروع وهي الاتفاقات الموقعة التي تعتمدها المنظمة والسلطة لإنجاز هذا المشروع، وبسبب الجغرافيا السياسية حيث تفصل إسرائيل ما بين الضفة وغزة، ومن هنا تصبح إسرائيل وكأنها شريك في هذا المشروع الوطني.

إن كان هذا كان حال المشروع الوطني قبل الانقسام وفصل غزة عن الضفة وفي ظل وجود أفق للتسوية فكيف الحال الآن مع الانقسام ومع وصول مسار المفاوضات لطريق مسدود ووصول مشروع المقاومة عند فصائل غزة لطريق مسدود أيضا وانغلاق أفق المصالحة الوطنية؟

بغض النظر عن المرامي غير البريئة للبعض من القول بمأزق العمل الوطني الفلسطيني بكل أبعاده الوطنية واليسارية والإسلاموية، فإن واقع الحال يقول بأن النظام السياسي الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها :المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات، هذا النظام يعيش مأزقا وجوديا حقيقيا وخصوصا مع وصول حكومة اليمين الصهيوني مع نتنياهو للحكم في إسرائيل وانكشاف وهم المراهنة على الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تراجعها عن مواقفها بشأن الاستيطان أيضا مع موجة التطبيع العربي الجديدة مع الكيان الصهيوني. أن يؤول واقع الحال بعد خمس وسبعين سنة من النكبة وبعد خمسين عاما تقريبا من تأسيس منظمة التحرير وثلاثين عاما من المفاوضات العبثية، و بعد انتفاضتين أزهقتا أرواح الآلاف من الشباب ودمار شامل في مؤسسات وبنية المجتمع، وبعد ستة عشر سنة من الحرب الأهلية وانقسام النظام السياسي...، أن يؤول الأمر بعد كل ذلك لهذا التيه السياسي وحالة التدمير الذاتي التي تمارسها القوى السياسية بحق بعضها البعض وبحق الوطن وهو الأخطر، فهذا يعني أن كل مكونات النظام السياسي تعاني خللا استراتيجيا بنيويا ووظيفيا.

لو كان الخلل ناتجا فقط عن اختلال موازين القوى مع العدو وتخلي من يُفترض أنهم أخوة وأصدقاء وشركاء لنا في المصير القومي والانتماء الإسلامي عن واجبهم، وهو أمر حاصل، ولو كانت صيرورة الحال لسوء الحال الذي نحن فيه يعود فقط للعدو وممارساته وتحالفاته وللمحيط الإقليمي لهان الأمر، بل وكان دافعا للشعب على مزيد من السير في نفس الطريق و لكان الشعب على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، فلا يمكن أن ننتظر من العدو إلا كل إرهاب وقمع، ولكن الواقع يقول بأن أخطاء داخلية لعبت دورا كبيرا في الخلل الحاصل وفي تمكين العدو من تحقيق أهدافه سواء على مستوى إفشال مشروع السلام الفلسطيني أو محاصرة خيار المقاومة أو إحداث الانقسام والفتنة الداخلية أو تكثيف الاستيطان واستكمال تهويد القدس.

لا تقتصر خطورة الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزه لما هو اخطر، فبدلا من أن تعترف النخب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب إلى الأمام بطرح خيارات لا واقعية أو بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري .

هذه النخب والأحزاب وبسياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية جديدة، عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة)[1]من طرف نفس النخبة بل نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات تحت شعار (الحياة مفاوضات) بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة ووحدة الساحات من خلال تطوير حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل دخول قطاع غزة أو اعتدت على قادة المقاومة، وكأن حماس حققت بالفعل نصرا في كل نهجها المسلح السابق، وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الإمارة الربانية في غزة.

2- ضرورة المراجعة الشمولية للمشروع والبرنامج الوطني

نتحدث عن مراجعة شمولية ليس بهدف التشهير بالقوى السياسية القائمة ولا تبشيرا بقوى ونخب جديدة قادمة قريبا، فلا يبدو في الأفق إمكانية ظهور قوى وطنية جديدة، ويبدو انه غير مسموح بظهور هذه القوى إلا إذا كانت بسقف سياسي أقل. مرد المطالبة بالمراجعة الشمولية والتي طالما طالبنا هو رد الاعتبار لمشروع وطني تحرري أطاحت به المفاوضات العبثية والمقاومة العبثية والصراعات الداخلية والمؤامرات الإقليمية بالإضافة للعدوان الصهيوني المستمر، مشروع لا يستمد مبررات ومشروعية وجوده من النخب السياسية لأنه ليس تجسيدا إرادويا لهذه النخب، ولا يستمد مشروعيته من محصلة موازين قوى إقليمية أو دولية، فهذه فاعلة ولا شك في التأثير على استراتيجياته وتحديد تخوم تحالفاته ولكنها لم تمنحه شرعية الوجود ولا تستطيع أن تلغي وجوده. إنه مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من عدالة القضية الوطنية الفلسطينية وهي عدالة مستمدة من التاريخ ومن اعتراف الشرعية الدولية بالقضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير سياسي لشعب خاضع للاحتلال [2]، مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من واقع وجود شعب فلسطيني قوامه أكثر من أربعة عشر مليونا نسمة بما يميز هذا الشعب من ثقافة وهوية وانتماء للأرض لم تستطع كل سياسات العدو من تغييبها. هذا معناه أن المأزق والخلل هو مأزق نخبة وأحزاب وليس مأزق شعب عمره أكثر من أربع آلاف سنة لم تستطع كل جحافل الإمبراطوريات وتداول أشكال الهيمنة من شطب اسم فلسطين أو تذويبه، وهذا هو مصدر فخر الشعب الفلسطيني ومصدر قلق الكيان الصهيوني.

شعب بهذا العمق التاريخي، وقضية بهذه العدالة التي يتزايد اعتراف العالم بها يجب أن لا يُعلق مصيره ومصيرها بمصير أحزاب ونخب وبتعثراتها ومآزقها، وارتباطاتها الخارجية، القضية الوطنية والمشروع الوطني لا يستمدان شرعيتهم: وجودا وعدالة، من النخب والأحزاب، بل إن هذه الأخيرة هي التي تستمد شرعية وجودها ومبررات استمرارها من قدرتها على تحمل مسؤولية القضية الوطنية والسير بها نحو تحقيق الهدف وهو الحرية والاستقلال .الأحزاب والنخب مجرد أدوات أو تشكيلات مؤقتة، فيما القضية الوطنية كينونة وهوية تتسم بالاستمرارية والدوام. يجب أن تهجر القوى السياسية الأنوية الحزبية والإيديولوجية التي تجعلها تعتقد وتريد من الشعب أن يعتقد بأن التأييد الشعبي والرسمي الذي حظيت وتحظى به القضية الآن عالميا يعود الفضل فيه للأحزاب، هذه الأنوية مرفوضة أخلاقيا وواقعيا، العالم الخارجي لا يدعم القضية الفلسطينية بسبب تأييده لنهج وإيديولوجية الأحزاب لأن العالم يتعاطف مع قضيتنا لأنه يدرك بأنها قضية عادلة، يتعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه شعب ضعيف يتعرض لعدوان همجي بربري من دولة أكبر وأقوى منه عسكريا متحالفة مع دولة عظمى سيئة السمعة-الولايات المتحدة الأمريكية-، ما حرك الرأي العام العالمي ليخرج بمظاهرات ومسيرات ضد إسرائيل وحرك المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية لتطالب بتقديم قادة إسرائيل للمحاكم الدولية... ليست صواريخ حماس ولا مهارة المفاوض الفلسطيني، بل عدالة القضية ومعاناة الشعب.

بناء على ما سبق فلا الزعم بالشرعية التاريخية أو الشرعية الجهادية أو الشرعية الدينية للأحزاب والطبقة السياسية يمنحها الحق بمصادرة القضية الوطنية والاستحواذ عليها بعيدا عن ثوابت الأمة التي يتم صياغتها بالتوافق الوطني، والطامة الكبرى في هذا السياق عندما تدعي القوى السياسية، التي يفترض أنها حركات مقاومة، إنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات! طامة كبرى لأنه لم يحدث في التاريخ أن استمدت حركة تحرر وطني شرعية وجودها من انتخابات تجري في ظل الاحتلال، فالاحتلال بما هو نفي لحرية وسيادة الشعب يتناقض مع الانتخابات الديمقراطية بما هي تجسيد لإرادة الأمة، فأي سيادة وحرية تحوزها القوى التي تزعم بأنها تملك شرعية مستمدة من صناديق الانتخابات في ظل الاحتلال؟ أين الحرية والسيادة عند حركة حماس: تنظيما وحكومة في قطاع غزة؟ وأين الحرية والسيادة لحركة فتح والسلطة في الضفة الغربية.

حركات التحرر الوطني تستمد شرعيتها من الشعب الذي يلتف حولها لأنه يشعر بأنها تمثل أمانيه وأهدافه الوطنية وتقوده في معركة التحرر الوطني، تستمد شرعيتها من مقاومتها للاحتلال بكل أشكال المقاومة، الشعب الخاضع للاحتلال لا يضفي شرعية على حركة التحرر لأنها تمنحه راتبا وتسهل عليه متطلبات الحياة اليومية في ظل الاحتلال. تحويل وظيفة حركات التحرر من المقاومة الشعبية الواحدة والموحدة في ظل قيادة وحدة وطنية إلى سلطة وحكومة تؤَّمِن رواتب ووظائف لمنتسبيها يشكل حرفا لطبيعة مرحلة التحرر الوطني وأولوياتها بل خرقا للقانون الدولي الذي يحدد ويضبط مسؤولية دولة الاحتلال وحقوق الشعب الخاضع للاحتلال إن الوظيفة التي تقوم بها السلطتان والحكومتان في غزة والقطاع وظيفة (غير وطنية) لأنها تخفف عن دولة الاحتلال أعباء ومسؤوليات الاحتلال دون أن تمنح الشعب الحرية والاستقلال! وإن كان مقياس الحكم على شعبية وشرعية التنظيمات والهيئات القائمة في مجتمع خاضع للاحتلال هو قدرتها على تقديم خدمات للمواطنين، فإن أكبر حزب وأكثرها حضورا وتأثيرا هو (حزب وكالة الغوث) حيث تقدم وكالة الغوث خدمات وأجور لحوالي 72% من سكان غزة مثلا.

إن أرادت القوى والنخب السياسية المتواجدة في السلطة: سلطة غزة وسلطة الضفة، أن تُقيِّم نفسها كحركات تحرر وطني وتختبر شعبيتها ومدى تأييد الشعب لأيديولوجيتها ومبادئها وممارساتها، فلتوقِف الرواتب والامتيازات والرشاوى التي تقدمها، آنذاك ستكتشف أن نسبة المؤيدين الحقيقيين لها لن تزيد عن20%. لقد حولت الأحزاب والقوى والنخب المسيطرة في فلسطين المناضلين والمجاهدين إلى موظفين ومرتزقة وسلطت عليهم لعنة الراتب وبات الراتب بالنسبة لكثيرين منهم أهم من الوطن. الحالة الطبيعية أن المناضلين الحقيقيين والشعب بمجمله ينتزع من قوت غذاء أبنائه ليقدمه لحركات التحرر الحقيقية، الانتماء لحركات التحرر وللثورة يقوم على العطاء والبذل وليس الأخذ والاسترزاق. أن تقوم من يفترض أنها قوى تحرر وطني بتشكيل حكومات في ظل الاحتلال وتقدم رواتب وامتيازات للشعب من مصادر تمويل خارجية[3] لكل منها أجندة خاصة بها حتى وإن كانت متعارضة، فهذا يطرح سؤالا حول ماذا تعني الوطنية والمشروع الوطني واستقلالية القرار؟ وماذا تعني حركة التحرر الوطني؟ لقد وقعت كل الفصائل والحركات في مصيدة السلطة وأصابتها لعنة الراتب وهي لعنة ما كانت تصيبها لو لم تكن نخبها مستعدة لهذا الإغراء.

ومن المفارقات في المشهد السياسي الفلسطيني وخصوصا الحزبي، أن نشاهد أحزابا تتحدث عن انتصارات وتحتفل بانتصارات فيما المشروع الوطني والقضية الوطنية برمتها في حالة تراجع! كيف يمكن أن ينتصر حزب وينهزم وطن؟ أضف إلى ذلك ما نلاحظه من تضخم تعرفه أحزاب سياسية: تضخم مالي وتضخم في الشعارات والإعلام في ظل الانقسام والخراب المعمم للوطن، فهل وجدت الأحزاب والنخب لمصلحة القضية الوطنية أم بالعكس؟ يبدو أن بعض الأحزاب والقوى توظف القضية الوطنية ومعاناة الشعب لتعلي من شأن برنامجها وأيديولوجيتها، المهم بالنسبة لها هو الحزب والحركة نفسها أما الوطن والشعب فلهما رب يحميهما أو يُترك مصيرهما للأجيال القادمة، وبالتالي يصبح هدف بعض نخب الأحزاب والحركات السياسية يقتصر على كيفية توظيف معاناة الشعب لتغتني وتُسمن وتضمن حياة كريمة لأبنائهم وذويهم.

المحور الثالث: استقراء أسباب مأزق المشروع الوطني كمدخل لإستراتيجية جديدة

عود على بدء نقول، إن كانت أزمة المشروع الوطني وصلت اليوم لدرجة الاعتراف الصريح من القادة بالأزمة وبالطريق المسدود، إلا أن مأزق المشروع الوطني كان حاضرا وملموسا قبل ذلك بكثير وله محطات كثيرة كانت تستوجب التوقف عندها وعمل مراجعة إستراتيجية، بل يمكن القول إن المشروع الوطني ولد مأزوما، إلا أن المعاندة والمكابرة كانا سيد الموقف، مما فاقم من الأزمة وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم.

كان من المفروض أن تكون وقفة المراجعة منتصف مايو 1999 عندما انتهت المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي دون دفع إسرائيل ما عليها من استحقاقات بموجب اتفاقية أوسلو التي تقول بأن مدة سلطة الحكم الذاتي خمس سنوات بعدها تبدأ مفاوضات الوضع النهائي التي ستؤدي لإنهاء الاحتلال، آنذاك كان من المفروض أن يتم الإعلان عن تجسيد قيام الدولة، ولكن التحذيرات بل والتهديدات التي انهالت على الرئيس أبو عمار دفعته للتراجع عن قرار كان سيتخذه بهذا الشأن، وللأسف فإن التحذيرات والضغوطات جاءت من دول عربية كبيرة وخصوصا مصر وليس فقط من إسرائيل وواشنطن.

وكان يُفترض أن تحدث المراجعة الإستراتيجية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية عندما تم تهديد الرئيس أبو عمار إن لم يوقع على ما عرضه عليه الأمريكيون والإسرائيليون ولكن أبو عمار لجأ لمراجعة بطريقته الخاصة وبغياب إستراتيجية وطنية ونقصد بذلك انتفاضة الأقصى التي كان من الممكن أن تدشن لمرحلة جديدة لولا الصراعات الداخلية وتوظيفها لأغراض حزبية، فبدلا من أن تشكل انتفاضة الأقصى منطلقا لمراجعة تؤسس لحالة نضالية جديدة فاقمت من أزمة النظام السياسي عندما تحولت لحالة من الفوضى والفلتان الأمني وانتهت الانتفاضة بالانقسام، لقد جرى مع انتفاضة الأقصى ما جرى مع انتفاضة 1987 التي انتهت بتوقيع اتفاقات أوسلو أو كانت نتيجتها تسوية أوسلو![4].

وكانت المراجعة واجبة عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية في أوج انتفاضة الأقصى في مارس 2002 ومحاصرة الرئيس بالمقاطعة وهي محاصرة شاركت فيها الأنظمة العربية عندما حالت بينه وبين مخاطبة شعبه والعرب والعالم عبر الهاتف أثناء القمة العربية في بيروت، بل وحوصر الرئيس ونهجه من أطراف فلسطينية أيضا.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل باغتيال الرئيس أبو عمار بالسم في نوفمبر 2004 وممن شاركوا في اغتياله كانوا على رأس مشيعيه، وبعضهم كان في مواقع متقدمة في قيادة المشروع الوطني والسلطة بعد غيابه.

كما كانت المراجعة الإستراتيجية واجبة عندما عم الانفلات الأمني مناطق السلطة خلال عامي 2005 و2006 ثم حدث الانقسام والحرب الأهلية.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل بأكبر عمليات استيطان في الضفة وتهويد القدس وعندما أعلنت عدم اعترافها بالاتفاقات الموقعة ثم شكل نتنياهو حكومة يمينية عنصرية متطرفة يقول بعض أعضائها أنه لا يوجد شعب فلسطيني وتقوم باقتحامات يومية للمسجد الأقصى، وعندما قام المستوطنون بمسيرة الإعلام في مايو 2023.

لو كانت تجري مراجعات دورية ولو جرت مراجعة إستراتيجية بعد أية من المحطات المشار إليها وخصوصا في المراحل الأولى لكان من الممكن تدارك الوضع وما كان وصل الحال لهذا المأزق المعمم.

لا غرو أن موجبات القيام بمراجعة شمولية كثيرة وعلى رأسها وصول المشروع الوطني ومجمل الحالة السياسية إلى طريق مسدود، وقبل محاولة استشفاف ممكنات الخروج من المأزق لا بأس من تلمس أهم أسباب عدم إجراء مراجعات إستراتيجية، وهي كما نرى:

أولا: غياب فضيلة وثقافة النقد الذاتي

المراجعة والمحاسبة جزء من ثقافة النقد الذاتي وهذه ثقافة وفضيلة لا تتوفر إلا عند النخب المنتمية لثقافة الديمقراطية أو التي نذرت نفسها لخدمة الوطن، هذه الثقافة غائبة عن النخب السياسية الفلسطينية كما هي غائبة عند كل النخب السياسية العربية التي تمارس المراجعة والمحاسبة بطريقتها الخاصة من خلال الانقلابات والمؤامرات أو ينوب عنها الخارج في إحداث وتوجيه المراجعة. غياب هذه الفضيلة عند النخب الفلسطينية يعود لغياب الديمقراطية داخل الأحزاب وبسبب مركبات نفسية عند قيادات ونخب العمل الوطني والإسلامي بكل أيديولوجياتها.

ثانيا: ضعف إن لم يكن غياب مؤسسة القيادة الجامعة.

تاريخيا هناك أزمة قيادة لدى الفلسطينيين، سواء بسبب عدم تعود الفلسطينيين على حكم أنفسهم بأنفسهم بسبب الاحتلال، وبالتالي عدم مراكمة تراث سياسي ومؤسساتي حول القيادة، أو بسبب الشتات وبالتالي صعوبة وجود مؤسسة قيادة كلية وشمولية عابرة للحدود. وتاريخيا اشتكى الفلسطينيون من ضعف وطنية قياداتهم التقليدية التي تدافع عن مصالحها أكثر من دفاعها عن الوطن، وما أشبه اليوم بالبارحة، حيث استمرأت قيادات سياسية التفرد بالزعامة والقيادة وتم اختزال الوطن بالحزب أو الحركة ثم اختزال هذه الأخيرة بالمكتب السياسي أو اللجنة المركزية وانتهى الأمر أخيرا بتمركز كل السلطات والصلاحيات بيد القائد الأوحد وثلة المستشارين المحيطين به[5].

سيطرة قيادات كارزماتية أو دكتاتورية: ثورية أو دينية على مركز القرار السياسي والمالي، دكتاتوريات تَزعُم امتلاكها الحقيقة المطلقة، يجعل من المراجعة والمحاسبة إهانة لها وتشكيك بقدراتها القيادية، وما يطيل من العمر السياسي للزعامات والأبوات هو عدم تعود الناس على التعامل مع مؤسسات وقوانين، حيث استمرئوا أن يكونوا رعايا يقودهم راع.

المؤشر الأهم على أزمة القيادة يتجاوز الشخصيات وقدراتها ليمس صفتها التمثيلية، فضعف القيادات جزء من المشكلة، والأخطر هو ضيق نطاق الصفة التمثيلية للقادة حتى وإن عملوا في إطار مؤسسة. غياب قيادة وحدة وطنية ثم الانقسام، أدى لضعف مؤسسة القيادة، فلا توجد اليوم مؤسسة قيادة تمثل كل الشعب ويخضع لها كل الشعب وجود قيادات بعدد الأحزاب والحركات السياسية لا يعني وجود مؤسسة قيادة، مؤسسة القيادة لا تكون إلا إن أخذت طابعا وطنيا كليا شرعيا.

ثالثا: غياب حالة شعبية ضاغطة على القيادات السياسية.

الثقافة السائدة تقلل من شأن المواطن لصالح الحاكم، غالبية الناس تعتقد أن الزعماء السياسيين قدر لا فكاك منه أو أنهم ربانيون (فلو لم يشأ الله أن يكونوا قادة لما كانوا) أو يعتقدون بأن لا حيلة لتغييرهم لأنهم مدعومون ومسنودون من قوى كبرى أو من دول إقليمية. أيضا المواطن لا يفكر بمحاسبة الحاكمين أو مطالبتهم بمراجعة سياساتهم ما دام هو نفسه لا يؤمن بمبدأ المراجعة والمحاسبة داخل بيته أو عمله. ثقافة الخضوع وبرادغم الطاعة هو ما يحكم علاقة المواطن بالقائد وخصوصا إن كان القائد يتصرف تحت غطاء الثورية والجهادية والدين. يضاف إلى ذلك إن شتات الشعب الفلسطيني ووقوع غالبية التجمعات الفلسطينية تحت سيطرة سلطات غير فلسطينية يُضعف من قوة تأثير الجمهور الفلسطيني في الضغط على قيادته. وقد حاول الشباب في مارس 2011 الخروج إلى الشارع مطالبين بإنهاء الانقسام متأثرين بالربيع العربي إلا أن محاولتهم فشلت بسبب قمع السلطتين وتخلي الأحزاب عليهم.

رابعا: انسلاخ الأحزاب عن منظومة حركات التحرر الوطني

حيث أصبحت القيادات التاريخية والمؤسِّسَة محاطة بنخب انتهازية ومصلحية راكمت الثروات وأقامت شبكة مصالح من الصعب التخلي عنها، وبالتالي تشعر أن كل مراجعة ومحاسبة قد تطيح بها ومن هنا تعمل على إفشال أي توجه في هذا السياق، وأسوأ مَن في هذه النخب هم أبناء وأقارب القادة، فتصبح النخبة الفاسدة مستقوية بأبناء وأخوة وأقارب الزعيم والقائد، والمؤسف أن غالبية أبناء قادة العمل الوطني والإسلامي لم يسيروا على نهج آبائهم بل درسوا في أرقى الجامعات الأوروبية والأمريكية وأصبحوا من أصحاب الملايين و الشركات الضخمة في داخل الوطن وخارجه وأسسوا شراكة مصالح حتى مع إسرائيليين وبعض أبناء القادة أصبحوا لصوصا وفاسدين ومتعاونين مع الاحتلال، وهكذا أصبحت هناك حالة انفصام شخصية وخطاب عند النخب السياسية، فهي تتكلم كحركة تحرر وتمارس كسلطة، وبالرغم من أن الشعب كما العالم الخارجي ينظر لهم ويعاملهم كفاشلين كحركة تحرر وفاشلين كسلطة سياسية، إلا أنهم مستمرون في غيهم .

خامسا: فساد السلطة/ السلطتين وتواطؤ النخب ومؤسسات المجتمع المدني.

الأزمات والمآزق التي مر بها الشعب والنظام السياسي كانت تُنتج نخب وطبقات مستفيدة في كافة الفصائل وسواء كانت في السلطة أو في المعارضة. فهناك أغنياء الانتفاضة وأغنياء المقاومة والجهاد وأغنياء السلطة وأغنياء بناء الجدار العنصري وأغنياء الحصار وأغنياء الأنفاق ....هذه النخب المستفيدة أصبحت نافذة في مراكز صنع القرار في غزة والضفة، وتشكلت معادلة ضمنية بأن يبرر كل طرف عدم القيام بمراجعة ومحاسبة داخلية بأخطاء وتجاوزات وتهديدات الطرف الثاني، بمعنى أن كل نخبة سياسية لكل حزب وفصيل وتحت شعار وجود تهديد العدو الصهيوني والمنافس الوطني تروج مقولة إن الظروف لا تسمح بالمحاسبة والمراجعة الآن، وأن يتحدث الطرفان عن الأخطاء السياسية لكل منهما بل وصل الأمر لدرجة الاتهام بالخيانة أو التكفير دون أن يثير أي منهما وبتعمق في ملفات الفساد المالي لدى الطرف الثاني هذا معناه التواطؤ على الفساد، وقد بان أن فساد سلطة وحكومة حماس لا يقل عن فساد السلطة الوطنية إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الزمنية لكل منهما والإنجازات التي حققها كل منهما !. أضف إلى ذلك أن هذا الفساد للنخب والذي تغذية أطراف خارجية متعددة أرتبط به جزء كبير من الشعب الذي أصبح بدوره مستفيدا من الواقع[6]فمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ليست بعيدة عن حالة الفساد والتواطؤ. ولكن أسوء ما نخشاه في هذا السياق، أن هذا التواطؤ للنخب سيتمظهر قريبا في توافق ضمني بين النخبتين المأزومتين، في الضفة وغزة أو في فتح وحماس، على تحويل التقسيم إلى تقاسم غير وطني، ما نخشاه أنه وبالرغم من عدائهما المعلن إلا أنهما سيواجهان معا أية قوة ثورية ونضالية جديدة وصادقة في مسعاها أو أية قوة متمردة تنبثق عن أي منهما وستواجهان معا أي أصوات مستقلة تتحدث عن فسادهما.

سادسا: الجهل السياسي.

كثير من قيادات العمل الوطني ونخبها تعتقد أن ما تقوم به هو الصحيح ويمثل المصلحة الوطنية، فثقافتها وخلفيتها الفكرية والعسكرية تجعلها تعتقد أنها حامية المشروع الوطني وحامية حمى الوطن وأن العثرات التي تواجه مشروعها السياسي تعود للتآمر الخارجي وليس لها ولنهجها. لقد لمسنا عمق الجهل السياسي لدى المفاوضين منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم وذلك من خلال الاتفاقات الموقعة السياسية والاقتصادية ونصوصها الملتبسة والتي كانت تفسر دائما لمصلحة إسرائيل، ولا أدل من ذلك أن نكتشف وكما قال الرئيس أبو مازن إن المفاوضات كانت تسير بدون مرجعية ![7]ولاحظنا الجهل السياسي في التعامل مع الشرعية الدولية حيث تعاملت القيادة مع الشرعية الدولية تارة بالرفض المطلق لها وتارة بالارتماء بأحضانها، وحتى عندما أقرت القيادات بأهمية الشرعية الدولية تعاملت معها وكأنها دار ندوتنا أو احد دواويننا دون فهم وإدراك للآليات التي تحكم التعامل الدولي. وكان الجهل السياسي أكثر وضوحا وخطورة عند ممارسي الكفاح المسلح والجهاد، الذين اعتقدوا أن الكفاح المسلحة والجهاد مجرد حمل السلاح والاشتباك مع العدو جاهلين قواعد وقوانين الحرب وحرب العصابات، و جاهلين تَعقُد وتشابك الشأن العسكري مع السياسي مع الاقتصادي الداخل مع الخارج الخ, ولذا كانت النتيجة آلاف الشهداء وتدمير البنية التحتية دون أي إنجاز سياسي حقيقي .لا يمكن إجراء مراجعات دون الاعتراف بالخطأ ونخبنا السياسية تعتقد أنها منزهة عن الخطأ!. هذا لا يعني أن كل ما جرى من خراب للمشروع الوطني يعود للجهل بل للفساد دورا فيما جرى كما بينا، والخطورة عندما يجتمع الجهل السياسي مع الفساد السياسي عند نفس النخبة.

سابعا: غياب استقلالية القرار والارتهان لأجندة خارجية.

باتت كل مكونات النظام السياسي فاقدة لاستقلالية القرار بغض النظر عن الجهة التي يُصادَر القرار لصالحها، هذا الأمر يجعل القيادات تشعر بالعجز وألا جدوى أية مراجعة أو تصحيح للمسار ما دامت تؤمن بأن التغيير سيكون خارجيا ومهما فعل الفلسطينيون فلن يغيروا من الواقع، ومن هنا تصبح قوة الدفع تجاه الارتباط بالخارج أقوى من قوة الدفع نحو المراجعات الداخلية وبالتالي المصالحة في إطار سياسة الالتقاء وسط الطريق. كما أن الارتهان بالخارج يعيق المراجعات الداخلية لأن الحكم على صحة نهج أي تنظيم أو سلطة فلسطينية لم يعد يقاس اعتمادا على توافقها مع المصلحة الوطنية بل بمدى تجاوبها مع اشتراطات الخارج، وحيث أن الخارج مستفيد من الواقع الفلسطيني بل ويغديه فلن يسمح بأي مراجعات فلسطينية داخلية.

هذه الحالة موجودة منذ تأسيس منظمة التحرير التي تشكلت بقرار قمة عربية واستمرت الوصاية عليها لحين من الزمن، و حتى بعد ظهور نسبي لاستقلالية القرار الفلسطيني بقيت التدخلات العربية المباشرة أو من خلال التنظيمات التابعة للأنظمة تعيق أية مراجعات جذرية للعمل السياسي، كانت سياسة إرضاء كل الأنظمة العربية وحتى غير العربية أهم عوائق المراجعة والمحاسبة، وعندما حاولت حركة فتح عمل بعض المراجعات والمحاسبة تعرض بعض قادتها للاغتيال على يد محسوبين على الأنظمة، واليوم تزايد حجم وتأثير التدخلات الخارجية بالشأن الفلسطيني، فهي عربية وإقليمية إسلامية ودولية، وما نلاحظه من تهديدات إسرائيلية علنية وأمريكية مبطنة للرئيس أبو مازن إن هو أنجز المصالحة مع حركة حماس مؤشرا على هذه الضغوط.

ثامنا: المراهنة على الانتخابات ثم التهرب منها

لا شك أن الانتخابات في الدول الديمقراطية أهم آلية للمراجعة والمحاسبة حيث تتكفل صناديق الانتخابات بعملية الفرز، فمن خلال الانتخابات يعاقب الشعب المخطئين وغير الأكفاء ويوصل لمركز القرار من يعتقد انه الأكثر حرصا على مصالح الوطن، ولكن الانتخابات وحتى تقوم بهذه الوظيفة تحتاج لمؤسسات وثقافة ديمقراطية و فوق ذلك تحتاج لحرية المواطن في الاختيار والتعبير الحر عن رأيه، وهذا أمر غير متوفر في الحالة الفلسطينية حيث الاحتلال هو السيد. ومع ذلك فقد راهن الشعب والنخب السياسية على إمكانية إصلاح السلطة والنظام السياسي من خلال العملية الانتخابية المفروضة بمقتضى الاتفاقات الموقعة، هذه المراهنة أضعفت وغيبت، وخصوصا في الفترة الأخيرة، أي جهد للإصلاح والمحاسبة خارج العملية الانتخابية، وللأسف فإن الانتخابات الفلسطينية بدلا من أن تساعد على إصلاح النظام السياسي زادت من تأزمه وأصبحت الانتخابات بحد ذاتها إشكالا وقضية خلافية. ومع تجدد الحديث عن المصالحة وتوقيع الورقة المصرية للمصالحة تجدد الحديث عن الانتخابات كمخرج لأزمة النظام، ولا نعتقد أن الانتخابات ستُخرِج النظام السياسي من أزمته إن لم تكن مسبوقة بتوافق على أسس البرنامج الوطني.

تاسعا: ضعف دور الانتلجنسيا

دون الخوض بجدل أبستمولوجي حول وجود أو عدم وجود انتلجنسيا فلسطينية وعربية بشكل عام فواقع الحال وما أُصطلح عليه كمكون من مكونات المجتمع، وجود طبقة أو فئة المثقفين والمفكرين الذين يتميزون عن غيرهم بحرفة الكتابة والتنظير والتعبير عن كل ألوان الثقافة الوطنية، إنها الطبقة أو الفئة التي تعبر عن الثوابت والقيم الوطنية المتحررة –أو هكذا يجب أن تكون- من الحسابات الحزبية الضيقة.

تاريخيا كان يقال إن الشعب الفلسطيني يتميز بالثقافة وبمثقفيه الذين تركوا بصماتهم عبر العالم، ولكن الملاحظ أن دور هؤلاء في الوقت الراهن ضئيل وليسوا في مستوى الدور المُنتَظَر منهم، وهذا يعود إما لواقع الشتات وما يفرضه من قيود على حرية المثقف الفلسطيني في التعبير عن هويته الوطنية وممارسة دوره الوطني، أو لان المثقف لا يشعر أن السلطة والأحزاب القائمة تعبر عن تطلعاته الوطنية أو تجسد المشروع الوطني كما يرتئيه، أو لأن السلطة استقطبت كثيرا من هؤلاء المثقفين الذين تحولوا لأبواق تُجمل صورة السلطة ونهجها وبالتالي خانوا الأمانة وتخلوا عن دورهم الطليعي، كما أن عديدا من المثقفين فضلوا الانكفاء على أنفسهم والابتعاد عن الحياة العامة معتبرين أن المرحلة مرحة فتنة والأفضل تجنبها.

عندما يصبح الشعب المُحبَط منشغلا بضمان استمرار تأمين قوت يومه وخائفا على مستقبله، وعندما تصبح النخب السياسية منشغلة بالصراع على السلطة ومراكمة الثروة، فمن يدق الجرس ويدعو لكسر جدران السجن؟ إنهم المثقفون وأصحاب الرأي، وعندما يغيب هؤلاء يضعف الأمل بالتغيير أو تتقدم قوى جديدة تحت عنوان ثقافي أو أيديولوجي لتملأ الفراغ وتدق الجرس وهذه القوى اليوم هم المفتون والوعاظ ورجال الدين، فتملأ الثقافة الدينية المشوهة الفراغ الذي تركه المثقفون الوطنيون، ويحل رجل الدين محل المثقف وبالتالي يمارس رجال الدين عملية المراجعة والمحاسبة حسب رؤيتهم ومنطقهم ويؤسسون لبديل أيضا حسب رؤيتهم ومنطقهم وهو بديل كما بانت ملامحه لن يؤدي إلا لمزيد من التيه والضياع.

عاشرا: السلطة الفلسطينية

كان من المفترض أن تحل سلطة وطنية فلسطينية محل سلطة الاحتلال، ولكن الذي جرى انه أضيفت سلطة إلى جانب سلطة الاحتلال. حتى القوى التي كانت تنتقد السلطة تعيش اليوم على فتاتها أو تسعى لتصبح سلطة. ولأن غالبية الشعب والقوى السياسية أصبحت مستفيدة من السلطة، ولأن التفكير بالمراجعة يعني التفكير بحل السلطة، فقد باتت المراجعة والبحث عن بدائل للوضع السياسي الراهن يثير القلق عند شرائح اجتماعية وقوى سياسية متعددة.

لقد وقعت كل القوى السياسية تقريبا بإشكالية التوفيق بين السلطة السياسية المؤسساتية والعلنية والتي تعمل داخل الأراضي المحتلة وتعيش بمداخيل الدول المانحة التي تربط ما بين التمويل والالتزام بالأجندة السياسية الخاصة بهذه الدول من جانب، و زعمها بأنها حركة تحرر وطني مهمتها مقاومة الاحتلال من جانب آخر. الثورة وحركة التحرر لها فقهها واستحقاقاتها والسلطة الدولانية لها فقهها. واليوم باتت السلطتان والحكومتان عبئا على المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر، مما يتطلب إعادة النظر بوظيفة السلطتين.

المحور الرابع: نحو إستراتيجية وطنية جديدة.

اليوم، لم تعد المراجعة التي تؤسِس لمشروع وبرنامج وطني جديد خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية. إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها. منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية خصوصا، لا تسمح بوجود فراغ سياسي. تاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب الفاعل الفلسطيني، ومنظمة التحرير في بداية ظهورها مثال على ذلك، هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والتدويل تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة لم تعد تجدي اليوم، الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية ولا جيوش المسلمين والعرب ولا محور المقامة. نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض، إلا أن كل هذه الأمور لا تنوب عن فعل الشعب صاحب القضية.

المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد أو المصحِحة لمسار المشروع الوطني كفكرة حاضرة ومبهمة عند الجمهور، يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع أصولها ومسبباتها الحقيقية.

المطلوب مشروع وطني جديد، ليس مشروع سلطة وحكومة بل مشروع حركة تحرر وطني يجمع ما بين مشروع سلام فلسطيني من جانب والحق بالمقاومة من جانب آخر.

1- مرتكزات المشروع الوطني المنشود:

المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ليس شعارا أو صياغة لغوية جميلة ومتناسقة وليس محاصصة وتقاسم مغانم السلطة بين القوى السياسية، بل برنامج عمل وأسلوب حياة وإستراتيجية كفاحية للفلسطينيين كشعب ما زال خاضعا للاحتلال، كما أن الهدف من تأسيس أو إعادة بناء المشروع الوطني المنشود ليس فقط إيجاد مخارج للأزمات الراهنة كالانقسام ووجود سلطتين وحكومتين وأزمة انتخابات وأزمة مفاوضات الخ، بل هو بمثابة خطة طريق تسير عليها الأجيال الراهنة والأجيال القادمة إلى حين تحقيق الاستقلال الوطني.

المشروع الوطني أكبر وأشمل من السلطة والانتخابات والأحزاب، فهذه إن كانت تخدم هذا المشروع وتعززه كان بها وإن لم يكن فلا يمكن التخلي عن المشروع الوطني من اجلها. أيضا المشروع الوطني لا ينفصل عن الثقافة والهوية الوطنية ولا عن الثقافة الديمقراطية كثقافة تعددية، ففي ثقافتنا الوطنية متسع للجميع، ومن لا يؤمن بثقافتنا وهويتنا الوطنية وتنوعها وامتدادها لأكثر من أربعة آلاف سنة لا يمكنه أن يكون جزءا من المشروع الوطني فبالأحرى قيادته.

ثوابت الأمة وحقوقها الوطنية ليست حقل تجارب للإيديولوجيات عابرة الوطنيات، ولا تخضع لموازين القوى الإقليمية والدولية، عندما لا يعرف الشعب ثوابته ومرجعياته ولا تتوافق قواه السياسية على تعريف لها، فهذا يشكك في عدالة قضيته الوطنية. ما كان لأصحاب الإيديولوجيات القومية والإسلامية أن يتراموا على قضيتنا وينصِّبوا أنفسهم أوصياء لولا ضعف الحالة الوطنية وتفشي الخلافات الداخلية[8].التدخلات سواء باسم العروبة أو باسم الإسلام امتهان لكرامتنا الوطنية وتشكيك بحقنا بدولة، فلماذا يجوز للمصريين والسوريين والإيرانيين أن يكون لهم دول وطنية خاصة بهم فيما يُحرَم علينا إقامة دولة فلسطينية خاصة بنا؟ الدولة الوطنية الفلسطينية لا تعني القطع مع الأبعاد القومية أو الإسلامية للقضية.

عندما يكون للعرب والفكر القومي وللمسلمين والحركة الإسلامية عنوان واحد متفق عليه، فسنكون أول من يسير من ورائه ونسلمه مقاليد أمورنا، ولكن لن نتخلى عن هويتنا وثقافتنا الوطنية ولا عن حلمنا بدولة وكيان وطني يحفظ لنا كرامتنا وإنسانيتنا لصالح الآخرين، وطن يعيش فيه أبناؤنا مرفوعين الرأس بلا احتلال صهيوني ولا وصاية عربية، ولن نستمر معلقين بحبال وهم مدعو القومية والإسلاموية ليوظفونا كما يوظفوا شعارات القومية والإسلام لخدمة مشاريعهم الوطنية أو الإقليمية أو الحزبية إن لم يكن الشخصية.

هذا الكيان الوطني الفلسطيني ضرورة لأي مشروع قومي وحدوي عربي صادق أو مشروع وحدوي إسلامي صادق، مشروعنا الوطني رأس حربة لوقف توسع الكيان الإسرائيلي ببعديه الصهيوني واليهودي، فمن لا يقف إلى جانب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لا يمكنه أن يكون قوميا عربيا وحدويا ولا إسلاميا حقيقيا، كما أن المشروع الوطني الفلسطيني لن يكتب له النجاح بدون بعديه :العربي والإسلامي .هذا الهدف/المشروع الوطني يتطلب إخضاع كل الأيديولوجيات له بحيث تصبح إحدى مكوناته لا أن يُلحق المشروع الوطني بمشاريع قومية وإسلاموية مأزومة.

هذا الهدف الوطني يجب أن يكون محل توافق وطني ويتجنب التصادم مع الشرعية الدولية التي تعترف للشعب الفلسطيني بالحق في تقرير المصير السياسي على أرضه وبحقه في دولة خاصة به. الدولة هدف مشروع ولكنها ليست المشروع الوطني، فهذا سابق في وجوده على هدف الدولة وهو سيستمر ما استمر الاحتلال ويجب ألا يخضع للتجاذبات والمناورات حول مفهوم حل الدولتين. ولكن وحيث أنه يوجد توجه دولي لحسم الصراع في المنطقة على أساس حل الدولتين، فيجب أن نتوحد على مفهوم الدولة التي نريد، سواء كانت حسب قرار التقسيم أو دولة في الضفة وغزة، حتى إن كانت دولة على كامل فلسطين التاريخية فالمهم هو توافق وطني على هدف يناضل كل الفلسطينيين من اجله تحت قيادة وحدة وطنية، آخذين بعين الاعتبار عدم جدية إسرائيل في التعامل مع حل الدولتين وعدم قدرة المنتظم الدولي الآن على إجبار إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين. هذا يعني أن الدولة هي إحدى المعارك التي على المشروع الوطني التحرري خوضها، وقد يضطر أيضا لخوض معارك ضد التوطين والتدويل والوصاية.

إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني يعني التعامل مع شعب قوامه أكثر من 14 مليون فلسطيني في الداخل وفي الشتات، يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي رُكن على الرف منذ توقيع اتفاقات أوسلو دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة، الأمر الذي يتطلب أن يضع هذا المشروع على سلم اهتماماته رفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.

مدخل هذا المشروع ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني، لو تمكنا من بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة فسيكون حل بقية القضايا أيسر كثيرا، لن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، لأن منظمة التحرير ليست حزبا أو فصيلا بل الكيانية السياسية التي يعترف بها العالم اجمع [9]. هذا المشروع الوطني الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للأبعاد القومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية على أسس جديدة لا تجعل المشروع الوطني ومجمل القضية ملحقة بهذا البعد أو ذلك.

من حيث المبدأ فالمشروع الوطني التحرري محل النقاش يجب أن يحسم من خلال التوافق في الأمور الخمسة التالية التي تشكل مرتكزات أي مشروع وطني وهي ما يجب أن تشتغل عليها أية مصالحة وطنية حقيقية:

أ‌) – الهدف:

نحن هنا نتحدث عن أهداف شعب خاضع للاحتلال وهي أهداف إستراتيجية متعالية مؤقتا عن المشاكل الفرعية الناتجة عن الصراعات الداخلية وتعقيدات الحياة اليومية والمناكفات السياسية الناتجة عن الانقسام. بعد صياغة والاتفاق على المشروع الوطني وتشكيل قيادة وحدة وطنية سيكون لهذه المشاكل الأولوية في التعامل وكثير منها سينتهي تلقائيا في حالة التوافق على المشروع الوطني. عندما نتحدث عن أهداف لمشروع وطني فإننا نتحدث عن بدائل لحالة التيه القائمة وللمشاريع غير الوطنية التي يتم العمل عليها علنا أو بطريقة خفية.

وعليه، فالهدف الاستراتيجي هو الإجابة عن: ماذا يريد الفلسطينيون؟ أو كيف يرون حقوقهم المشروعة؟ أو ما هو الحق الذي يناضلون من اجله؟ هل يريدون تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر؟ أم دولة في غزة والضفة بما فيها القدس؟ أم دولة ثنائية القومية على كامل فلسطين الانتدابية؟ أم دولة غزة؟ أم دولة غزة الموسعة لتشمل أجزاء من سيناء مقابل التخلي عن الضفة والقدس؟ أم دولة مؤقتة على جزء من الضفة وقطاع غزة؟ أم تقاسم وظيفي ما بين أجزاء من الضفة والأردن وإسرائيل؟ أم اتحاد كونفدرالي ما بين غزة وأجزاء من الضفة وربما الأردن أيضا؟ أم الأردن وطن للفلسطينيين؟ هل يقبل الفلسطينيون مبدأ تبادل الأراضي؟ هل يريد الفلسطينيون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة؟ أم يريدونها عاصمة لدولتين؟ هل يريد الفلسطينيون عودة كل اللاجئين إلى قراهم ومدنهم الأصلية؟ أم عودتهم لمناطق السلطة؟ أم حل مشكلة اللاجئين حسب قراري الأمم المتحدة 242 و 338؟

هل الفلسطينيون مستعدون لحسم الأمر بهذه الأمور بدلا من البقاء في حالة تردد وتوظيف خطاب سياسي علني شعاراتي وعاطفي وانفعالي وساذج ومستفز حول القبول بهدف مرحلي دون التخلي عن الهدف الاستراتيجي كالقول بقبول دولة في الضفة وغزة مع عدم التخلي عن الهدف الاستراتيجي وهو تدمير إسرائيل وتحرير كامل التراب الفلسطيني؟ وقبول حماس بسلطة محاصرة تحت الاحتلال في غزة مع استمرار رفع شعارات تحرير كل فلسطين! وهل من مصلحة الفلسطينيين ترك الهدف مفتوحا حسب التطورات وموازين القوى بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر اعتمادا على موازين قوى إقليمية ودولية ليسوا طرفا أصيلا فيها؟ وهل يمكن للعالم القبول بمشروع وطني يقول بهدف مرحلي قائم على الشرعية الدولية وهدف استراتيجي معلن يقول بإنهاء دولة إسرائيل؟ وكيف يتم صياغة العلاقة بين المرحلي والاستراتيجي؟ وهل يمكن تحديد أهداف وطنية واستراتيجيات لتحقيقها اعتمادا على ممكناتنا الوطنية؟ كيف نفصل ما بين ما نريده كفلسطينيين، وما تريده أطراف عربية وإقليمية توظف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الخاصة لأن المشروع الوطني لن يكون وطنيا إلا تحت راية الوطنية الفلسطينية كثقافة وهوية وانتماء؟ الخ.

ب) - وسائل وآليات تحقيق الهدف:

الاختلاف حول الهدف أثر سلبا على وسائل تحقيقه، بحيث باتت الوسائل تتكيف وتتحدد في كل مرحلة حسب الهدف المُعلن أو المُضمر وحسب موازين القوى الداخلية وحسب المصلحة والارتباطات الخارجية لكل حزب وحركة. ففي بداية الثورة الفلسطينية كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين ثم أصبح الكفاح المسلح والعمل السياسي يسيران جنبا لجنب كوسائل للتحرير وأخيرا آل الأمر للسلام والتسوية السياسية كخيار استراتيجي وفي كل مرحلة كان التغيير في الوسائل مرتبطا بالتغيير في الهدف وفي التغير في النخب وفي تغليب حسابات السلطة على حسابات الوطن، مع عدم إسقاط دور الضربات التي تعرضت لها الثورة من العدو الصهيوني ومن الأنظمة العربية.

ضمن نفس السياق سارت حركة حماس ففي البداية كان الجهاد بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر الطريق الوحيد للتعامل مع اليهودية والصهيونية وإسرائيل، وكانت المفاوضات والتسوية السلمية والسلام والاعتراف بإسرائيل كلها أمورا مرفوضة، وعندما بدأت التسوية الخفية منذ قرار شارون بالانسحاب من غزة عام 2004 – تسوية فصل الضفة عن غزة - لإدماج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني ووعدها بسلطة في قطاع غزة، أوقفت حركة حماس العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر ثم أوقفت المقاومة المسلحة داخل الضفة الغربية وأخيرا أوقفتها انطلاقا من قطاع غزة، هذا التحول في الوسائل عند حركة حماس مرتبط بتحولها لسلطة ومرتبط بالتغير في الهدف، حيث باتت اليوم وكأنها تقبل بسلطة في قطاع غزة.

المشكلة لا تكمن في المقاومة كما لا تكمن في التسوية السلمية من حيث المبدأ، بل من الخطأ وضع تعارض ما بين المقاومة والسلام والتسوية السلمية، لأن المقاومة ليست قتالا من أجل القتال بل نضال من أجل الحق والسلام، والمقاومة بدون رؤية سياسية وهدف سياسي قابل للتحقيق تصبح نوعا من العمل الانتحاري أو الارتزاق الثوري والجهادي. المشكلة تكمن في غياب التوافق الوطني حول الوسائل واستراتيجيات العمل، فلا يجوز لحزب أو حركة – حماس والجهاد الإسلامي- أن تنهج نهج المقاومة المسلحة بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل إسرائيل فيما منظمة التحرير تعتمد خيار التسوية السياسية وتجلس على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين لتنفيذ اتفاقات موقعة، كما لا يجوز لفصائل مقاومة أن تستمر في إطلاق صواريخ والقيام بعمليات عسكرية فيما تلتزم السلطة الرسمية بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، ولا يجوز لحركة حماس أن ترفض التهدئة وتستمر بإطلاق الصواريخ وهي خارج السلطة وعندما تصبح سلطة في غزة تعلن وقف إطلاق الصواريخ بل وقف المقاومة، بل وصل الأمر أن حركة الجهاد في القطاع دخلت في مواجهة بالصواريخ مع إسرائيل بينما وقفت حماس موقف المتفرج كما جرى في مايو 2023. هذا لا يعني رفض الجمع بين المقاومة والسلام بل رفض وجود استراتيجيات متعارضة بشأنهما، لو كانت المقاومة والمفاوضات تمارسان في إطار إستراتيجية وطنية وتحت رعاية قيادة وحدة وطنية لعضدت المقاومة من موقف المفاوض وأضفت المفاوضات شرعية على المقاومة.

الانقسام وفصل غزة عن الضفة أثر كثيرا على قدرة تحقيق الفلسطينيين لأهدافهم بأي وسيلة كانت، فلم تعد المشكلة في المقاومة المسلحة والمفاوضات فقط بل تجاوزت ذلك للوسائل الأخرى كالانتفاضة السلمية والمقاومة الشعبية. الفلسطينيون اليوم عاجزون عن إطلاق انتفاضة ثالثة أو مقاومة شعبية واسعة، هذا ناهيك أن نصف الشعب الفلسطيني في الشتات مُحيد عن ميدان المواجهة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مشروع وطني في ظل عدم اتفاق الأغلبية على وسائل تحقيق الهدف أي على الموقف من المقاومة والموقف من التسوية السلمية والموقف من المفاوضات، ما ذكرناه حول الموقف من المقاومة المسلحة يقال عن الموقف من المقاومة الشعبية ومن الانتفاضة ومن المفاوضات والتسوية السياسية، فلا يجوز القول بأن المفاوضات محرمة ومرفوضة إن مارستها حركة فتح والرئيس أبو مازن ومحللة وشرعية إن مارستها أو سعت إليها حركة حماس. ومن الواضح أن عدم الاتفاق على آليات ووسائل العمل لا يعود فقط لحسابات تغيير الهدف والتغيير في موازين القوى بل أصبح اليوم لحسابات تتعلق بالسلطة ومغانمها وبالارتباطات الخارجية لكل طرف.

ج) المرجعية:

المرجعية هي موئل الحق والهوية والثقافة، ومنها تُحدد الأهداف ووسائل العمل وهي التي تمنح هوية للمشروع الوطني الفلسطيني، هذه المرجعية إشكال أيضا، بسبب التداخل ما بين التاريخي والديني والسياسي والقانوني، وما بين الوطني والقومي والإسلامي، وبسبب الشتات وخضوع أغلبية الشعب الفلسطينية لسلطات غير وطنية لكل منها أجندتها ورؤيتها الخاصة للصراع في المنطقة. عندما تغيب استقلالية القرار وتتداخل الهويات يصبح الحديث عن مرجعية وطنية ومشروع وطني وثوابت وطنية أمرا صعبا. هذا التداخل صاحب مسيرة المنظمة منذ تأسيسها كما أشرنا سابقا وهو تداخل ما زال مستمرا حتى اليوم مع تغير في ترتيب المرجعيات من حيث الأهمية وهو تغير ناتج عن تغير القوى إقليميا ودوليا فأصبحت واشنطن والغرب أكثر حضورا من المعسكر الاشتراكي سابقا وروسيا حاليا، وحلت المرجعية الإسلامية محل المرجعية القومية العربية وزادت المرجعية الوطنية وهنَّا وتراجعا.

المرجعية اليوم تحتاج لإبداع خلاق ما بين الوطنية والقومية والإسلام، وما بين المرجعية التاريخية ومرجعية الشرعية الدولية، وما بين المرجعية الوطنية ومرجعية الأجندة الإقليمية. ولكن هل أن الاتفاق على المرجعية يكون من خلال الإطار القائم وهو منظمة التحرير الفلسطينية؟ أو من خلال حوارات بين المنظمة والقوى خارجها؟ أم يتم الاتفاق عليها من خلال الانتخابات؟ نعتقد أن مجلسا تأسيسيا منتخبا من فلسطينيي الداخل والخارج هو الجهة المؤهلة لصياغة المرجعية والأهداف.

د) الإطار:

نقصد بالإطار الكيان أو النظام السياسي أو قيادة وحدة وطنية. الإطار هو ما يستوعب ويوجه كل العملية السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج ويتصرف ويتحدث نيابة عن الكل الفلسطيني. لا يكفي أن يكون الإطار معنويا كما يقال عن منظمة التحرير بأنها الوطن المعنوي للفلسطينيين بل يجب أن يكون مؤسساتيا أيضا.

قبل ظهور حركة حماس وقبل تأسيس السلطة الوطنية كانت المنظمة تمثل هذا الإطار، أما اليوم فالحاجة تدعو إما لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير لتستوعب كل القوى السياسية الجديدة ليس على مستوى الكم فقط بل أيضا على مستوى الكيف أي على مستوى البرامج والتوجهات، أو التفكير بإطار جديد ينبثق عن مؤتمر شعبي وطني لجميع الفلسطينيين في الداخل والخارج. وجود إطار يعني وجود قيادة واحدة وممثل واحد للشعب الفلسطيني يتحدث نيابة عنهم ويتصرف باسمهم في كافة المحافل الدولية، والأمر ليس سهلا، فمثلا هل الدول والمنظمات التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا مستعدة لتحويل اعترافها لإطار جديد يختاره الفلسطينيون بحرية أو يتكرر ما جرى مع تجربة انتخابات يناير 2006؟ وهل سيرث الإطار الجديد كل الالتزامات والاتفاقات التي وقعتها والتزمت بها منظمة التحرير أم يبدأ عهدا جديدا برؤية جديدة؟

هـ) الثوابت:

الثوابت كل ما هو محل توافق وطني، في حالة الاتفاق على العناصر الأربعة المشار إليها أعلاه تصبح ثوابت للأمة. داخل الثوابت يمكن للقوى والأحزاب السياسية أن تختلف في برامجها السياسية ولكن لا يجوز لها أن تختلف حول الثوابت ما دام الشعب يعيش مرحلة التحرر الوطني. بعد إنجاز الهدف وقيام الدولة يمكن للقوى السياسية وللشعب بشكل عام أن يعيد صياغة بعض الثوابت من خلال التوافق أو من خلال الانتخابات والاستفتاء العام.

2- آليات تنفيذ البرنامج الوطني الجديد:

المراجعة الإستراتيجية المؤسِسة لمشروع وطني جديد يجب أن تشتغل على مستويين وهدفين أحدهم عاجل وقصير المدى والآخر استراتيجي بعيد المدى مع تزامن العمل على المستويين: -

الهدف/المستوى الأول: عاجل ومرحلي (تقاسم وظيفي وطني)

لأننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود القوى السياسية القائمة وخصوصا حركتي فتح وحماس، ولا نستطيع تجاهل وجود سلطتين وحكومتين متعاديتين، لذا يجب العمل على مصالحة أو تهدئة فلسطينية داخلية، مصالحة مؤقتة تضع حدا لحالة الانحدار بين كياني غزة والضفة. إنجاز هذا الهدف المرحلي والعاجل سيتعامل مؤقتا مع واقع فصل غزة عن الضفة وواقع وجود حكومتين وسلطتين، ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل التعامل معه مؤقتا للانتقال لمرحلة جديدة، وخصوصا أن شروط إنهاء الانقسام الاستراتيجي لم تعد خاضعة لقرار فلسطيني وهي غير متوفرة الآن، فحتى لو قررت حركتا فتح وحماس التصالح فلن يعود التواصل بين الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة بدون موافقة إسرائيل أو بدون تسوية سياسية تشارك فيها إسرائيل[10].

إذن بدلا من استمرار الحالة العدائية بين غزة والضفة يجب عمل مصالحة ضمن واقع الانقسام لحين تغير الأحوال. هذه المرحلة من المصالحة تحتاج لاعتراف كل طرف بأن الطرف الآخر شريك في النظام السياسي وله حق تقرير مصير هذا النظام ورسم خارطة المشروع الوطني الجديد، وتحتاج لوقف حملات التحريض والتخوين والتكفير، وتحتاج لوضع حد للاعتقالات المتبادلة، ونعتقد أن الثقافة والإعلام من أهم آليات تجاوز هذه المرحلة من خلال العمل على رد الاعتبار للثقافة والهوية الوطنية وتفعيل كل رموزهما. ونلفت الانتباه هنا أن ورقة المصالحة المصرية تقوم على أساس مصالحة مؤقتة في ظل استمرار الانقسام لحين من الزمن.

حيث إن عقبات متعددة تحوُّل دون إلغاء السلطة سواء في الضفة الغربية أو في غزة وتعيق إنجاز المشروع الفلسطيني للسلام، وتهدد السلطة والحكومة في غزة من خلال استمرار الحصار، فيمكن للمصالحة في هذه المرحلة أن تأخذ شكل توافق وطني في الضفة بين كل القوى السياسية والشعبية بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي في ظل الحكومة القائمة هناك، هدف هذا التوافق أو المصالحة الجزئية هو مواجهة سياسة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس. في المقابل يجري توافق في قطاع غزة تشارك فيه جميع القوى بما فيها حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، لرفع الحصار عن القطاع في ظل حكومة حركة حماس.

هذه المصالحة الوطنية المؤقتة والتي ستأخذ طابع التقاسم الوطني الوظيفي تشكل المدخل للمرحلة الثانية للإستراتيجية الجديدة أو المصالحة الوطنية الإستراتيجية من خلال تهيئة الظروف للانتخابات وفتح حوار جاد حول ثوابت ومرتكزات المشروع الوطني المشار إليها.

لا شك أن هناك مزالق وتخوفات من التعامل مع هذا المفهوم للمصالحة أو التقاسم الوظيفي المؤقت، حيث الخشية بأن يستغل بعض المستفيدين من حالة الفصل أي نجاح في المصالحة الأولى لتبرير حالة الفصل أو أن تستغل كلا الحكومتين التوافق الداخلي لإضفاء شرعية دائمة على وجودها يدفعها للتقاعس عن إنجاز المصالحة الوطنية الإستراتيجية. لتحاشي وقوع ذلك يجب العمل في آن واحد على المرحلة الثانية للإستراتيجية الوطنية، وهناك علاقة تفاعلية أو تأثير متبادل بين المصالحتين، بمعنى أن أي تقدم في أي مصالحة سيؤثر إيجابا على إنجاز المصالحة الأخرى والعكس صحيح.

الهدف /المستوى الثاني: إستراتيجي (التوافق والتراضي على ثوابت ومرجعيات القضية الوطنية).

الاشتغال على المرحلة أو المهمة الأولى للإستراتيجية الوطنية يجب أن يكون مواكبا للاشتغال على المرحلة الثانية بل يجب أن يكون الالتزام بإنجاز الهدف الأول (التقاسم الوظيفي الوطني) مشروطا بالالتزام بالهدف الاستراتيجي الاتفاق على الثوابت والمرجعيات، حيث يستحيل التقدم نحو الهدف الاستراتيجي دون إنهاء الانقسام. وعندما نقول تساوق الاشتغال على المستويين فذلك لأننا نحشى من أن واقع فصل غزة عن الضفة قد يستغرق وقتا طويلا لأن إسرائيل والقوى المستفيدة من حالة الفصل ما زالت قوية وفاعلة.

هذا التساوق لمساري المصالحة هو ضمان عدم تحول التقاسم الوظيفي الوطني المشار إليه إلى كيانين سياسيين دائمي الوجود. لهذه المصالحة الإستراتيجية مدخل أيضا وهو تفعيل وتطوير منظمة التحرير كمرجعية ناظمة للجميع، وفي هذا السياق يمكن الاستعانة بما ورد بورقة المصالحة المصرية حول تشكيل لجنة مشتركة عليا لضمان أن يستمر كيانا غزة والضفة ضمن مشروع وطني واحد. إذا كانت المصالحة الأولى، أي المصالحة العاجلة في ظل الانقسام القائم تتعامل مع الانقسام الأخير الذي نتج عن أحداث يونيو 2007، فإن المصالحة الإستراتيجية يجب أن تتعامل مع الانقسام الإستراتيجي السابق على تلك الأحداث والسابق لسيطرة حركة حماس على القطاع، هذه السيطرة وما لحقها من توترات وصدامات مسلحة هي نتيجة وإفراز لأزمة سابقة.

الإستراتيجية الجديدة ستكون مضطرة لإعادة طرح تساؤلات تم طرحها منذ تأسيس المنظمة ولم يتم الحسم فيها، ولأنها لم تحسم فقد عادت مجددا وبشكل أكثر تعقيدا. منذ أن وجِدت قضية سياسية تُسمى القضية الفلسطينية، وهي محل تنازع بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لم ينه حضور هذه الأبعاد وإن كان غيَّر في الأولويات. فهل نحن نقاتل إسرائيل لأنها عدو ديني تاريخي وبالتالي يجب اجتثاثها من الوجود، وفي هذه الحالة فالصراع يتجاوزنا كفلسطينيين ليشمل كل الأمة الإسلامية؟ أم نقاتلها كفلسطينيين لأنها ترفض حقنا بدولة مستقلة سواء كانت هذه الدولة حسب قرار التقسيم 194 لعام 1947 أو دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ غياب الرؤية الواضحة للهدف عند أصحاب الحق ينتج حالة من الإرباك حول تحديد وسائل تحقيق الهدف وحول معسكر الحلفاء ومعسكر الأعداء وحول مفهوم استقلالية القرار الوطني وجدواه، وهي أمور تجر أصحاب الحق إلى صراعات وحروب داخلية. غموض وعدم الاتفاق على (الأنا) في أي صراع يؤدي تلقائيا لغموض وتعميم مفهوم (الآخر)، الأمر الذي يربك الحالة السياسية وهو ما تعاني منه القضية الفلسطينية. هذا الغموض حول الأنا والآخر هو الذي مكن إسرائيل من تحشيد الصهيونية العالمية واليمين المسيحي ودول أخرى في مواجهة النضال الفلسطيني، وهو ما مكن تل أبيب وواشنطن من إدراج نضال الشعب الفلسطيني ضمن الإرهاب الدولي.

من المفهوم في السياسة، التعامل مع أهداف مرحلية وأهداف إستراتيجية، ومن المفهوم أيضا تعدد أساليب العمل لتحقيق الهدف، إلا أنه في جميع الحالات يجب على المرحلي أن يكون في خدمة الإستراتيجي كما أن تعدد أساليب النضال يكون ضمن نفس الهدف وفي إطار إستراتيجية وطنية واحدة وموحدة وليس لكل حزب هدف استراتيجي ووسائل خاصة به لتحقيق هذا الهدف. في الحالة الفلسطينية الأنا مبهم – وطني أم قومي أم إسلامي – ولا يوجد اتفاق على الآخر –إسرائيل أو اليهودية العالمية أو الصهيونية أو المسيحية أو أهل الكفر- والوسائل متعددة ومتعارضة –كفاح مسلح وجهاد؟ أم انتفاضة شعبية؟ أم مفاوضات وحل سلمي[k1] ؟_هذا الأمر يخلق حالة إرباك في تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، أيضا فإن عدم التحديد يجعل العالم لا يعرف ما الذي يريده الفلسطينيون بالضبط وما هي مرجعيتهم السياسية.

إن لم نتدارك الأمر بالمصالحة الإستراتيجية، فسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك. حركة فتح لن تبقى موحدة وكان المؤتمر السادس بداية التصدع فبعد المؤتمر فقدت حركة فتح كينونتها كحركة تحرر وطني، وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالهدنة، وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف .بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية بالأفضل، وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين، إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.

التخوفات الأكثر مأساوية هي فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا حربا أهلية في قطاع غزة. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية، وحتى تبعد الأنظار عما يجري في الضفة وحتى تلهي الفلسطينيين وتُرضي أصدقاءها ممَن لهم تطلعات سلطوية غير قادرين –أو غير مسموح لهم-على تحقيقها في الضفة فستخلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع، كما سبق وهيأت المناخ لـ (الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في يونيو 2007.حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة: حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة. سكوت إسرائيل عن حكم حماس في الضفة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا، بل لهدف تكتيكي، وعندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام فستنقل المعركة لقطاع غزة.

خاتمة

بالرغم من أن الثورة الفلسطينية المعاصرة مرت بعديد الأزمات والمنعطفات الخطيرة منذ أيلول الأسود في الأردن 1970 إلى خروج قوات منظمة التحرير من لبنان 1982، والخلافات السياسية الناتجة عن توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية، وأخيرا الانقسام وفصل غزة عن الضفة، إلا أنه في كل هذه المنعطفات كان يوجد أمل بتجاوز هذه الأزمات، ولكن مع التحولات والمتغيرات الأخيرة منذ تولي ترامب للإدارة الأمريكية والتزام خلفه بايدن بنفس السياسة المعادية للفلسطينيين والمنحازة بلا حدود للكيان الصهيوني، ومع وصول حكومة يمينية عنصرية برئاسة نتنياهو تضم متطرفين عنصريين أمثال بنغفير وسموترتش ينكرون حتى وجود الشعب الفلسطيني، ومع التطبيع العربي الزاحف، ومع وصول حوارات المصالحة لطريق مسدود... مع كل ذلك فإن حركة التحرير الفلسطينية والمشروع الوطني باتا محل تهديد وجودي بل يجوز التساؤل إن كان ما زال هناك مشروع وطني تحرري بالفعل؟

وهذا يتطلب سرعة التحرك والعمل لإنقاذ القضية والشعب، ومهمة الإنقاذ لا تعود للأحزاب والطبقة السياسية المأزومين ولا للسلطتين بل لحراك شعبي عام يستنهض منظمة التحرير الفلسطينية أو يُنتج مشروعا وطنيا جديدا وقيادة جديدة.

***

أ. د. إبراهيم أبراش

أستاذ العلوم السياسية - جامعة الأزهر بغزة

.............................

[1] -(كل الخيارات مفتوحة) شعار الأقوياء وليس شعار الضعفاء، وبالتالي فلا محل ولا قيمة لهذا الشعار في الساحة الفلسطينية وخصوصا في ظل حالة الانقسام، فعندما يفشل خيار التسوية ويفشل خيار المقاومة فأية خيارات أخرى. إن استمرت حالة الانقسام لن تنتج إلا مزيدا من الهزائم أو خيار(عليَّ وعلى أعدائي).

[2] -نشير هنا أن الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني عام 1974 وصدور عشرات القرارات الدولية لصالح الشعب الفلسطيني جاء في وقت كانت تمارس فيه المنظمة الكفاح المسلح وتصنف كحركة إرهابية في غالبية الدول الأوروبية. فرضت المنظمة نفسها بالرغم من كل ذلك لأنها بالإضافة إلى الظروف الدولية المواتية كانت تمثل الكل الفلسطيني، بمعنى أن وحدة الشعب ووحدة ووحدانية القيادة هو ما جعل العالم يحترمنا.

[3] - عملت إسرائيل على تدمير الاقتصاد الفلسطيني من خلال بروتوكولات باريس الاقتصادية المتممة لاتفاقات أوسلو ومن خلال إجراءات على الأرض كمصادرة الأراضي الزراعية أو تقطيع أوصالها ومن خلال تدمير المنشئات الصناعية وفرض قيوم على تصدير المنتجات الفلسطينية وإدخال المواد الخام أيضا من خلال شراكة مذلة مع نخب اقتصادية فلسطينية. كان الهدف من هذه الإجراءات تجويع الشعب لإجباره على القبول بأي حل سياسي. هذه السياسة لم تنجح ولكنها أدت لتبعية الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني لجهات مانحة أجنبية وهي تبعية مضرة بالمشروع الوطني ومعيقة له.

[4] - انتهت انتفاضة 1987 بتوقيع اتفاقية أوسلو وانتهت انتفاضة الأقصى بالانقسام. فهل كانت الانتفاضتان عفويتين أم موجهتين ومخطط لهما؟ إن كانتا عفويتين فيمكن تفهم ما جرى لهما وبالتالي لا نحمل القيادات السياسية مسؤولية مآلهما ولكن القيادات والفصائل تقول بأن الانتفاضتين كانتا موجهتين من قبلهما، معنى هذا أن الفصائل وخصوصا حركتا فتح وحماس وجهتا أو وظفتا الجماهير المنتفضة لهذه النهاية، حركة فتح وجهت انتفاضة 1987 لتمرير نهج التسوية وتوقيع اتفاقية أوسلو، وحركة حماس وجهت انتفاضة الأقصى للانقلاب على النظام السياسي ولتسيطر على قطاع غزة.

[5] -غالبية مستشاري الرئيس أبو مازن، شخصيات غير شعبية وبسمعتها سيئة وفشلوا إما في الانتخابات التشريعية أو انتخابات مؤتمر حركة فتح أو فشلوا وأبعدوا عن أحزابهم، مما يثير التساؤل حول المعايير التي على أساسها يتم اختيار هؤلاء وهل هم متواجدين بإرادة الرئيس أم مفروضون عليه من قوى خارجية؟

[6] -يوجد ما يمكن اعتباره رشوة جماعية للشعب: الدول المانحة من خلال الرواتب والمشاريع، وكالة الغوث، المنظمات الأهلية، الدول الإقليمية والعربية من خلال الأموال التي تقدمها مباشرة للسلطة أو غير مباشرة للتنظيمات، جماعات الإسلام السياسي عبر العالم الخ، كل ذلك جعل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يتقاضى راتبا أو ما يوازيه من المساعدات وهو جالس في بيته، وهذا خلق مجتمعا غير منتج وبالتالي مرتبطا بهذه الجهات الخارجية، وبالتالي غير متحمس لتغيير الحال ما دامت نخبه وأحزابه غير معنية باستنهاض الحالة الوطنية.

[7] -جريمة المفاوضين الفلسطينيين لا تقل عن جريمة إسرائيل في موضوع الاستيطان لأنه لا يُعقل أن يستمر المفاوضون الفلسطينيون بالتفاوض حول موضوع الاستيطان لمدة ثمانية عشر عاما فيما الاستيطان يتواصل بتسارع وفيما يوجد مرجعية دولية تقول بعدم شرعية الاستيطان في الأراضي المحتلة؟ والأخطر من ذلك أن نفس الفريق المفاوض الفاشل ترقى تنظيميا ووظيفيا وقاد ماراتون إعلان تجسيد قيام الدولة! وقد رأينا نتيجة ذلك، فلا يعقل أن الذين يفشلون في إنجاز المهام الأصغر يمكنهم إنجاز المهام الأكبر؟

[8] - إذا كانت حركة حماس والجهاد الإسلامي تمثلان تيارا إسلاميا مرتبطا بالإسلام السياسي الخارجي، فلماذا لا تتوحد القوى الوطنية في إطار واحد لمواجهة هذا التيار الأصولي؟ لماذا لا يعيد التيار الوطني بكل فصائله بناء منظمة التحرير ثم يطلب من حماس والجهاد المشاركة وإن رفضا يتم مواجهتهما متحدين؟

[9] -ندرك الحالة المتردية لمنظمة التحرير مؤسسات وشخصيات وبالتالي لا ندافع عن واقع المنظمة بل عن صفتها المعنوية والسياسية حيث من خلالها يعترف العالم بالشعب الفلسطيني وبقضيته السياسية ومن خلالها يتواجد تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المنظمات والمحافل الدولية لو انتهت المنظمة أو شكل الفلسطينيون هيئة جديدة سيحتاج الأمر لجهود مضنية حتى تكتسب اعترافا دوليا وقد لا يحدث ذلك في ظل واقع النظام الدولي الجديد وعليه سيكون من الأفضل الحفاظ على المنظمة مع تطويرها وتوسيعها لتستوعب كل القوى السياسية، وفي داخلها يمكن تجديد المشروع الوطني .

[10] -لم يعد حل السلطة قرارا فلسطينيا خالصا بالرغم من أنها تأسست شكليا بقرار من المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية فحيث إن السلطة باتت تخدم استمرار الوضع القائم وتحضا بقبول الرباعية فإن إسرائيل والرباعية مستعدون لضمان استمرارية السلطة ضدا عن إرادة منظمة التحرير، وبالتالي يصبح المطلوب إعادة النظر بوظائف السلطة لا حلها.

***

أختتم في موسكو المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي الثاني (EEF-2023)، بمشاركة رؤساء روسيا، وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، وكذلك رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، وكان توقيته متزامنًا مع اجتماع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الأعلى للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بمشاركة رؤساء الدول الأعضاء والمراقبين، وأقيم هذا الحدث كجزء من رئاسة الاتحاد الروسي في هيئات (EAEU) المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، والمجلس الحكومي الدولي الأوراسي ومجلس (EEC) في عام 2023.

ويعد المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، حدثًا تجاريًا سنويًا لـ EAEU في المجال الاقتصادي، ويركز على مشاركة كبار المسؤولين في الدول الأعضاء في EAEU، ورؤساء الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة من الدول الأعضاء والدول الثالثة، ورؤساء وممثلي سلطات دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بالإضافة إلى رؤساء وأعضاء حكومات البلدان الثالثة، وممثلي المنظمات الدولية والعلمية والتعليمية المهتمة بتطوير التفاعل مع الاتحاد، والغرض من المنتدى هو زيادة تطوير التعاون الاقتصادي بين دول EAEU، وتحسين علاقات التعاون في الفضاء الأوراسي، وتشكيل روابط موثوقة بين الكيانات الاقتصادية، وتحقيق تأثير الجمع بين إمكانات الاستثمار والابتكار.

ان التغييرات العميقة التي تحدث الآن على المسرح العالمي، دعت المزيد والمزيد من الدول، ان يسلك مسارًا نحو تعزيز السيادة الوطنية، ولفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الجلسة الكاملة للمنتدى الاقتصادي الأوراسي، الذي اختتمت اعماله في العاصمة الروسية موسكو، الانتباه إلى التغييرات العميقة التي تحدث في العالم، والتي تهدف المزيد والمزيد من الدول إلى تعزيز السيادة الوطنية، والسياسات الداخلية والخارجية المستقلة، والالتزام بنموذج التنمية الخاص بها، وتوسيع شبكة الشراكات، ومعاملة بعضها البعض باحترام، وكلهم يؤيدون بناء بنية جديدة أكثر إنصافًا للعلاقات الاقتصادية، وتسعى جاهدة للتأثير بشكل بناء على العمليات العالمية، ومع مثل هذا النهج، ووفقًا لبوتين، فإن غالبية المشاركين في الاتصالات الدولية متضامنون، وأشار إلى أن كلاً من روسيا وشركائها في الاتحاد الأوراسي مهتمون بالتعاون الصادق والمنتج والعملي.

ويحاول المعارضون الغربيون إعاقة هذه العملية، لذا وكما أكد بوتين، فأنهم يحاولون تقليص تعاون الدول الأخرى مع روسيا، عن طريق الإقناع والابتزاز، ومع ذلك، من المؤكد أن سيناريو "الانهيار" للاقتصاد الروسي لن يتحقق، وأن روسيا تنتهج سياسة تقليص حصة عملاتها في التسويات المتبادلة، وأشار نائب رئيس وزراء الاتحاد الروسي، أليكسي أوفرشوك، متحدثًا في المنتدى، بشكل عام، الى ان دول الاتحاد تحولت بالكامل تقريبًا إلى التسويات بالعملات الوطنية في التجارة المتبادلة في السلع: بلغت حصتها في الربع الأول من عام 2023 تقريبًا 90 ٪، وإن حجم التجارة بين دول الاتحاد هذا العام وصل إلى مستوى قياسي بلغ 83.3 مليار دولار، وبحلول نهاية العام، قد يتجاوز هذا الرقم 200 مليار دولار، ومع ذلك، انتقد نائب رئيس الوزراء البيلاروسي إيغور بترشينكو وتيرة التجارة.

واقترح الرئيس الروسي إنشاء وكالة تصنيف أوراسية تابعة للاتحاد الأوراسي، والتي من شأنها أن تضمن توافر أدوات التقييم المناسبة لخدمة النشاط الاقتصادي المتنامي في منطقة الاتحاد، ولكن المطلوب هنا، بالطبع، مبادئ رئيسية ومعايير صارمة وقدرة على الامتثال لهذه المعايير، "حتى نتأكد من موضوعية التقييم، وهنا تكمن الفائدة الحقيقية، فإذا لم يتوفر ذلك، فلا جدوى من الفكرة".

وعلى الرغم من الطبيعة الاقتصادية للمنتدى، فقد تم إيلاء الكثير من الاهتمام للسياسة، وهكذا، قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، متحدثًا عن تاريخ الأوراسية والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وكيف إنها ولدت بشكل صحيح "في مطبخ" فلاديمير بوتين، وكانت خصوصية هذه اللحظة هي أن أوكرانيا، في شخص ليونيد كوتشما، شاركت في العملية في ذلك الوق، أشار لوكاشينكو إلى التغييرات العميقة والجوهرية التي تحدث على الساحة العالمية، والتي سيتعين على الجميع أن يحسب لها حساب. وقال إن روسيا خاطرت بتحدي العالم أحادي القطب وهي في طليعة التغيير الدولي.

ومع ذلك، فقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، وأشار بوتين أيضا إلى أن كييف تصف الآن الاتحاد الروسي بالمعتدي، لكنها لا تتوقف عن الاستفادة من نقل الموارد الروسية، وأكد في الوقت نفسه أن روسيا تفي بجميع التزاماتها بالكامل، وفي سياق تقييمه للوضع في سوق الطاقة في أوروبا، وأن فشل العديد من المشاريع لم يكن بخطأ من موسكو، فقد تم تفجير نورد ستريم 1، ولم يتم فتح نورد ستريم 2، وتم إغلاق طريق الغاز يامال - أوروبا عبر بولندا من قبل بولندا، واكد أن كل أولئك الذين ما زالوا يدافعون عن أحادية القطب لا يضرون بالاقتصاد العالمي فحسب، بل إنهم "يطلقون النار على أنفسهم".

ومع ذلك، كان معظم النقاش لا يزال مكرسًا لجدول الأعمال الاقتصادي وتعزيز التعاون في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأشار رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف إلى أنه من الضروري الآن تطوير ليس فقط البنية التحتية المادية، ولكن أيضًا تطوير البنية التحتية "اللينة" - الرقمنة وتبسيط التنظيم الجمركي وتقليل العبء الإداري، في حين أقترح رئيس قيرغيزستان، صدير جاباروف، إنشاء مؤسسة أخرى، في رأيه، سيساعد ظهور أمين المظالم التجاري في الاتحاد في تطوير الجمعية.

و لم تتجاوز حصة التجارة البينية النقابية مقارنة بحجم التجارة مع البلدان الثالثة على مدى سنوات عديدة 15٪، وهذا رقم منخفض للغاية للاتحاد، واعرب نائب رئيس الوزراء البيلاروسي، عن اعتقاده أنه بحلول عام 2030 يجب زيادة حصة التجارة داخل النقابات إلى 20٪ على الأقل، وبحلول 2040-2045 إلى 30٪ وأكثر، واشار الى أن هناك أيضًا صعوبات في إنشاء سوق واحد للطاقة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ويشك إيغور بتريشينكو في أنه سيتم تشكيلها بحلول عام  2025 وبادئ ذي بدء، هذا بسبب الخلافات على الغاز، في حين دعا نائب رئيس وزراء أرمينيا مهر غريغوريان، متحدثًا في الجلسة العامة بدلاً من رئيس مجلس الوزراء، إلى توسيع إمكانات التصدير للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي رأيه، من الضروري تعزيز مكانة الاتحاد في سوق الخدمات التعليمية والطبية.

إن شروط تشغيل الأسواق، بما في ذلك المنتجات النفطية والغاز، برأي وزير الطاقة نيكولاي شولجينوف مختلفة، وأيضًا، هناك بالفعل مشكلات غير منسقة في هذا المجال، لكن البلدان تعمل على حلها، وانه في الآونة الأخيرة، ظهر بعض سوء التفاهم بين الشركاء في الاتحاد بسبب أسعار الغاز، واكد وزير الطاقة الكازاخستاني المصادم ساتكالييف بدوره بأن روسيا مستعدة لبيع الوقود الأزرق لتزويد شمال وشرق البلاد بسعر أرخص من بيلاروسيا، ومع ذلك، سرعان ما نفت غازبروم هذه المعلومات، وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ودول أخرى، ولا سيما مع الصين، آخذة في التوسع، وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ، في رسالة بالفيديو إلى المشاركين في الحدث، إنه يرى الإمكانات الهائلة للتعاون بين البلاد ودول أوراسيا.

وأشار الوزير المفوض للسفارة الصينية لدى الاتحاد الروسي ليو شيوسونغ، الى إن حجم التبادل التجاري بين الصين ودول EAEU وصل العام الماضي إلى 244 مليار دولار، كما أكد أن بكين "مؤيد لا يتزعزع لتعزيز التعددية القطبية في العالم"، وان دول EAEU تقدم مساهمة كبيرة، في غضون ذلك أشار الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف إلى أنه من المهم لأعضاء الاتحاد بناء تفاعل فعال مع الصين.

وفدم خلال المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، اقتراح للتحول إلى العملات الرقمية الوطنية في التجارة داخل EAEU، و من المفترض أن العملات الرقمية المطورة في روسيا وكازاخستان ستخفض التكاليف في التسويات عبر الحدود، ومع ذلك، ومن أجل التشغيل الصحيح، ستكون هناك حاجة إلى أدوات عملات رقمية جديدة وقواعد سعر الصرف والإطار التنظيمي المقابل، ووفقًا للنائب الأول لرئيس البنك المركزي، كسينيا يودايفا، فقد تكثفت عملية الخصم، التي انفصلت فيها روسيا عن أنظمة الدفع العالمية، وقد أصبح النظام المالي العالمي مفككًا، ويمكن أن تصبح ممارسات مثل العملات الرقمية بديلاً لقنوات الدفع التقليدية باستخدام الحسابات المصرفية المراسلة، والآن ينخرط المنظمون الماليون في روسيا وكازاخستان في تطوير العملات الرقمية.

وتقول يوليا ماكارينكو، نائب مدير معهد التنمية المصرفية، إن للروبل الرقمي إمكانات كبيرة، يمكن للشكل الجديد تسريع المعاملات المالية وتحسين كفاءة الخدمات العامة وتوفير سيطرة أفضل على التدفقات المالية، وسيؤدي ذلك إلى تقليل تكلفة العمليات ومكافحة الفساد، فضلاً عن تعزيز الثقة في الاقتصاد الروسي، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يصبح الروبل الرقمي حافزًا لتطوير صناعة التكنولوجيا المالية، وتحفيز الابتكار وخلق وظائف جديدة، وسيساعد هذا في خلق فرص جديدة وزيادة كفاءة العمليات المالية، حيث تمثل العملات الرقمية الوطنية (DNCs) حقًا آفاق تنمية التجارة والاقتصاد كضمان للممتلكات. الفوائد الرئيسية: معاملات أسرع وأرخص، وزيادة الأمن والشفافية.

ومع ذلك، في الوقت الحالي، ووفقا للخبراء، لا يُعرف بالضبط كيف سيعمل نظام العملات الرقمية، فالنظام المصرفي العالمي غير كامل ويتطلب التحديث، لكنه يستمر في العمل في جميع أنحاء العالم، ويعد إنشاء أنظمة جديدة في السوق المالية مهمة شاقة، حيث سيكون التكامل مطلوبًا، بما في ذلك مع الأنظمة القديمة، التي تم إنشاؤها في الثمانينيات على تقنيات غير متوافقة في كثير من الأحيان.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

برنامج تلفزيوني قديم شاهدته اليوم وكان يدعو الفلاحين الى العودة الى الريف في زمن المرحوم عبد الكريم قاسم.

في الاربعينيات والخمسينيات ازدحمت المدن وخاصة بغداد باعداد كبيرة من الفلاحين الذين هجروا الريف وجاءوا طلباً لحياة افضل. عاشوا حياة مزرية في هوامش تلك المدن بعد ان ساءت اوضاعهم في الريف واشتد استغلال الاقطاعيين لهم. في ذلك البرنامج يصدح صوت المطربة الراحلة وحيدة خليل وهي تناشد الفلاحين " الاوفياء" العودة الى قراهم وزراعة اراضيهم، بشكل ساذج ومباشر وشعاراتي فارغ!!

في بداية السبعينيات قامت الحكومة بحملة مشابهة ولنفس الغرض واعلنت عن استصلاح اراضي وتقديم دعم للفلاحين الخ..... تلك الجهود الفاشلة تفضح طبيعة التفكير الحكومي السائد وجهله بقوانين الحياة وجهله بتجارب العالم في هذا الصدد.

عدد سكان الريف في العالم يتقلص مع زيادة الانتاج النباتي والحيواني (تبلغ نسبة السكان العاملين في الزراعة في الولايات المتحدة حوالي ٢% ، ولكنهم ينتجون مئات الملايين من الاطنان من المنتجات المختلفة)  وهذا دليل على:

- ازدياد استخدام المكننة والعلوم في الريف وتقليص العمل البشري.

- تطور القطاعات الاخرى كالصناعة والبناء والانشاءات والخدمات والتجارة والنقل، واستيعابها للنازحين الريف بعد تدريبهم.

- تطور المناطق الريفية السابقة وتوفر خدمات ورفاه المدينة فيها بحيث لاتدفع سكانها الى الهجرة للمدن بحثاً عن حياة افضل. بل اصبحت تجذب سكان المدن للعيش فيها (العيش في الضواحي).

- تغيير تصنيف بعض المناطق من ريف الى حضر بسبب التغييرات التي طرأت عليها وجعلها تشابه المدن التقليدية.

اما لدينا في العراق، فان الحكومات عجزت عن تحقيق ذلك ولذلك لجأت الى حملات دعائية تناشد وطنية الفلاحين وتصوّر لهم عظمة الحياة في الريف وكأنهم غرباء لم يختبروا ويعيشوا قسوة الظروف في الريف.

الحياة راكدة ولا يحركها سوى ريع النفط الذي تم توظيفه لاغراض لاتخدم التنمية. لذلك لاتوجد فرص عمل جيدة لهؤلاء النازحين.

***

د. صلاح حزام

في كل مرة نكتب فيها عن الدور الأمريكي "النشاز" في الازمة بين روسيا والغرب عامة، نستغرب كثيرا على استماتة الولايات المتحدة الامريكية ورئيسها جون بايدن و أصرارهم على " تسخير " كل قدرات العالم، التسليحية والمالية واللوجستية، والأقمار الصناعية، وغيرها من الإمكانات، من أجل تحقيق ما يسمى " النصر " لأوكرانيا، على الرغم من علمهم المسبق، ان مثل هذا لن يحدث،إلا وكما يقول المثل الشعبي العربي " بالمشمش "، وهو موجود فقط في مخيلة " العجوز " بايدن، وجلاوزته .

ولكن بعد البحث والتمحيص، في مواقع التواصل الاجتماعي، او في مواقع البحث الرئيسية، أو العديد من الصحف والمجلات، تمكنا من العثور عن سبب رئيس وراء " استماتة " بايدن، للدفاع عن أوكرانيا، وهنا لابد من التذكير، من ان بايدن وابنه متهمين، حتى قبل تسنمه منصب رئيس الولايات المتحدة، بتلقي رشاوى وصفقات مشبوهة من أوكرانيا، وقد تم التستر عليها حال تسنم " العجوز " مقاليد الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة عن كيفية الاستيلاء على رأس المال الأجنبي في أوكرانيا، وبعد 24 فبراير 2022، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بالفعل حربًا ضد روسيا، باستخدام "أوكرانيا " كنقطة انطلاق.

فكما هو معروف، فانه يوجد على أراضي أوكرانيا أغنى احتياطيات المعادن (تم استكشاف واكتشاف أكثر من 90 في المائة من الاحتياطيات خلال الحقبة السوفيتية)، وتمتلك أوكرانيا سابع أكبر احتياطي في العالم وثاني أكبر احتياطي فحم في أوروبا - حوالي 34 مليار طن-، وهي واحدة من ثلاث دول (إلى جانب أستراليا وروسيا) بها أكبر رواسب خام الحديد في العالم، وحتى العام الماضي، كانت من بين أكبر عشرة منتجين لخام المنغنيز في العالم، ولديها أكبر احتياطي لخام المنغنيز في أوروبا، كما أن لديها أكبر احتياطي من التيتانيوم في أوروبا (حوالي 20 ٪ من احتياطيات خام التيتانيوم في العالم من حيث التيتانيوم النقي)، كما وتمتلك أوكرانيا أكبر مخزون من اليورانيوم في أوروبا (1.8٪ من احتياطي اليورانيوم في العالم)، و 70 ٪ من مخزون الجرانيت عالي الجودة في العالم يتركز في أوكرانيا، والموارد المعدنية الهامة الأخرى هي الزئبق وملح البوتاسيوم والنيكل والكبريت والغرافيت والذهب، بالإضافة إلى: 40٪ من احتياطيات التربة السوداء في العالم، ومياه معدنية وحرارية فريدة من نوعها.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وعلى مدى ثلاثة عقود، استحوذ رأس المال الأجنبي على الثروة الطبيعية لـ "الساحة"، والأراضي الزراعية ليست استثناء، ووفقًا للمجلة الوطنية الأسترالية، التي نُشرت في مايو من العام الماضي، كانت 17 مليون هكتار من الأراضي الزراعية الأوكرانية مملوكة لثلاث شركات أمريكية: Cargill و Dupont و Monsanto، وهي مساوية تقريبًا لمساحة جميع الأراضي الزراعية في إيطاليا، وحسب الخبراء فأن المساحة المخصصة هي حوالي نصف مساحة الأراضي الزراعية "المربعة"، والمساهمون الرئيسيون في جميع الشركات المذكورة، هم المقتنيات المالية الأمريكية وصناديق الاستثمار BlackRock و Vanguard و Blackstone، وحتى قبل بدء العملية العسكرية الخاصة، لم يكن لدى أحد أي شك في أن أوكرانيا كانت تحت السيطرة الخارجية للغرب.

ولكن في 24 فبراير 2022، سقطت كل الأقنعة، وأصبح صندوق الاستثمار في شركة بلاك روك (المُدرجة في الدليل الشركات، كشركة استثمار دولية مقرها في نيويورك ؛ واحدة من أكبر شركات الاستثمار في العالم والأكبر في العالم من حيث الأصول المدارة، ففي بداية العام الماضي، قدرت قيمة هذه الأصول بنحو 10 تريليونات دولار، وهو ما يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا وفرنسا مجتمعين )، والتي كانت موجودة بشكل غير مرئي في الاقتصاد الأوكراني حتى 24 فبراير من العام الماضي، والموضوع الرئيسي لمثل هذه الإدارة، وعلى وجه التحديد، في شركات الطاقة مثل Metinvest و DTEK و الزراعة MHP و Naftogaz  والسكك الحديدية الأوكرانية و Ukravtodor و Ukrenergo.

وبلاك روك، هي أكبر صندوق لإدارة الأصول في العالم، وبلغت قيمتها الإجمالية اعتبارًا من 1 يناير 2023، ( 8.594 تريليون دولار )، أي ما يعادل تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي (PPP) لألمانيا وفرنسا مجتمعين، ومع ذلك، فهذه ليست الميزة الوحيدة للشركة، حيث تمتلك شركة بلاك روك، تأثيرًا سياسيًا هائلًا بما لا يقاس حول العالم، وإنها ليست فقط مساهمًا في جميع الشركات المالية والصيدلانية الكبرى والشركات الصناعية العسكرية العملاقة والشركات الإعلامية، ولكنها أيضًا راعية للبنك الدولي، وتدير أيضًا جميع برامج نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لشراء سندات الشركات، والتي هو أنها تدير مباشرة واحدة من أهم الأدوات النقدية سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي.

كما هي أخطبوط مالي أربك معظم الاقتصاد الأمريكي و جزءًا مهمًا من الاقتصاد العالمي بشبكاته، جنبًا إلى جنب مع صناديق الاستثمار العملاقة مثل Vanguard و State Street و Fidelity، وتشارك في رأس مال جميع بنوك وول ستريت وشركات Big Pharma و Silicon Valley IT، وإذا حكمنا من خلال بعض العلامات، في "الأربعة الكبار" من الصناديق المذكورة، أصبحت شركة بلاك روك هي الشركة الرئيسية، وحصلت على صفة الوسيط الرسمي (الوكيل) لنظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لجلب أموال البنك المركزي الأمريكي إلى الشركات الأمريكية، وأصبحت BlackRock يطلق عليها كأداة مهمة للسياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي، وهناك دلائل على أن هذه الأداة تتحول إلى موضوع مستقل نابض بالحياة للسياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.

وغالبًا ما يذهب موظفو بلاك روك السابقون رفيعو المستوى إلى العمل في البيت الأبيض، ويوجد الآن ثلاثة منهم في إدارة جو بايدن، وهم نائب وزير الخزانة والي أدييمو، ومستشار الخزانة الأول للشؤون الاقتصادية لروسيا وأوكرانيا، وإريك فان نوستراند، ومايك بايل، كبير المستشارين الاقتصاديين لنائب الرئيس كامالا هاريس، وحتى فبراير 2023، كان برايان ديزي مديرًا للمجلس الاقتصادي الوطني، وكان رئيس مركز أبحاث بلاك روك، توماس دونيلون، مستشارًا للأمن القومي منذ فترة طويلة لباراك أوباما، وكان شقيقه مايك كبير الاستراتيجيين لحملة جو بايدن الرئاسية، وبعد ذلك تم تعيينه مستشارًا كبيرًا في إدارته، ومن بين كبار مديري BlackRock العديد من ضباط وكالة المخابرات المركزية المتقاعدين، وتمول الشركة نفسها صندوق رأس المال الاستثماري In-Q-Tel الذي أسسته وكالة الاستخبارات المركزية.

وفي العودة إلى أوكرانيا، فقد انتعشت بالفعل في ربيع العام الماضي، العديد من الشركات والبنوك والصناديق الغربية، وشعرت أن بإمكانها جني الأموال في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، من خلال تنظيم "المساعدة" المالية إلى "اوكرانيا" وتلقي على هذه الخدمة "عمولة" خاصة بهم من هذه المساعدة، ويمكن أن تكون مصادر التمويل الأموال المتلقاة من مصادرة أصول روسية المنشأ، بالإضافة إلى ذلك، هذه أموال عامة تخصصها حكومات الدول "الصديقة" لأوكرانيا، بالإضافة إلى "التبرعات الطوعية" من الشركات الخاصة كنوع من الدفع مقابل الحق في تنمية الموارد الطبيعية لأوكرانيا في المستقبل، وكان أحد مظاهر هذا الاهتمام غير المتوقع في أوكرانيا ظهور عدد كبير من صناديق "المساعدة" المختلفة لأوكرانيا، وبحلول نهاية الصيف الماضي، بدأت هذه الإثارة تتلاشى، بسبب دخول شركة بلاك روك إلى الساحة التي قررت وضع الاقتصاد الأوكراني تحت سيطرتها الاحتكارية.

وفي 19 سبتمبر 2022، عقد فلاديمير زيلينسكي والرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك لاري فينك اجتماعًا عبر الفيديو، واقترح الأخير إنشاء صندوق إنعاش لدعم الاقتصاد الأوكراني، وإن القسم الاستشاري للأسواق المالية في BlackRock جاهز لتقديم المشورة المجانية للحكومة الأوكرانية، وكان فلاديمير زيلينسكي سعيدًا بهذه المقترحات: "بالنسبة لي، فإن جاذبية الاستثمار في دولتنا لها أهمية خاصة، من المهم بالنسبة لي أن يكون مثل هذا الهيكل ناجحًا، ولكل الأطراف المعنية، نحن قادرون وراغبون في استعادة مناخ الاستثمار الطبيعي".

ووفقا للخطوة التالية التي اعلنها مكتب الخدمة الصحفية لوزارة الاقتصاد الأوكرانية في 11 نوفمبر، فقد وقعت هذه الوزارة وشركة بلاك روك للاستثمار مذكرة تفاهم، والتي اتفقت على تطوير منصة خاصة لجذب رأس المال الخاص لاستعادة أوكرانيا، وقالت وزارة الاقتصاد "تُضفي المذكرة الطابع الرسمي على المناقشة الأولية لفرص جذب الاستثمار العام والخاص في أوكرانيا، والتي عقدت في سبتمبر بين رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي والرئيس والمدير التنفيذي لشركة بلاك روك لاري فينك"، ثم جاءت فترة توقف وقفة قرابة ستة أشه، حيث كانت الاستعدادات جارية ولم يتم الإعلان عنها، وفي الخامس من مايو من هذا العام، أعلن فلاديمير زيلينسكي على قناته على Telegram، أنه ناقش مع إدارة شركة إدارة الأصول الأمريكية BlackRock تفاصيل إنشاء صندوق استثماري لاستعادة الدولة: "الهدف الرئيسي من إنشاء الصندوق هو لجذب رؤوس الأموال الخاصة والعامة لتنفيذ مشاريع تجارية واسعة النطاق في أوكرانيا ".

وفي 8 مايو، ذكرت وسائل الإعلام الأوكرانية أن الحكومة الأوكرانية والمؤسسة الأمريكية BlackRock Financial Market Advisory (BlackRock FMA)، وقعتا اتفاقية بشأن إنشاء صندوق التنمية الأوكراني، وفي الواقع، والهدف الرسمي للمؤسسة هو جذب الاستثمارات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والزراعة، وفي الواقع، هذا يعني الانتهاء من بيع إجمالي الأصول الرئيسية للدولة الأوكرانية - من التربة السوداء إلى شبكات الكهرباء، وعلى ما يبدو، تعتزم كييف بالتالي سداد ديونها، ومع ذلك، فإن مثل هذا لن يحدث، فقد أصبحت أغنى الجمهوريات السوفيتية ذات يوم ملكًا لرأس المال عبر الوطني.

ويشدد المحلل الاقتصادي فالانتين كاتاسنوف، على ان هذا يعني الانتهاء من الخصخصة الكاملة، واستيعاب أوكرانيا من قبل رأس المال الأجنبي، الذي يتوقع أن يصبح المستفيد الرئيسي (حتى الوحيد) من المذبحة الحالية في أوكرانيا، والسؤال المهم هو من يختبئ خلف لافتة بلاك روك؟ لا يوجد سوى رقمين في الأفق، هما Laurence Fink، الذي تم اختياره كمؤسس ورئيس مجلس إدارة BlackRock و روبرت كابيتو، المؤسس والرئيس، ومن هم المساهمون؟، ووفقًا لبورصة نيويورك، حيث يتم إدراج أسهم Black Rock، امتلك المستثمرون المؤسسون 80 ٪ من الأسهم في بداية عام 2023، منها 7 ٪ كانت أموالًا خاصة، وكان المساهمون الكبار الآخرون: The Vanguard Group( 9.1 ٪)، وستيت ستريت غلوبال أدفايزورز (4.2٪)، وبنك أوف أمريكا (3.5٪)، تيماسيك هولدينجز (3.4٪)، ومجموعة شركات كابيتال (3.3٪)، وتشارلز شواب كوربوريشن (2.2٪)، ومورغان ستانلي (2.1٪)، وجي بي مورغان تشيس(2.0٪)، وWells Fargo (1.8٪)، Geode Capital Management (1.7٪)، وFMR Co.، Inc. (1.6٪)، و Wellington Management Group (1.3٪)، ونورثرن ترست (1.3٪)، هنا مثل هذه المالية الدولية تغزو أوكرانيا.

ويوضح الخبير الاقتصادي أندريه كوزماك، أنه بموجب شروط الصفقة مع أوكرانيا، فإن شركة بلاك روك ستدير الأصول الأوكرانية، بما في ذلك الأموال من حجم "المساعدات الدولية"، وهكذا، فإن المؤسسات الاستراتيجية الأوكرانية، بما في ذلك تلك التي تم "تأميمها"، تخضع للمراقبة عبر الوطنية، وفي إطار هذا المخطط، سيتم أيضًا إدارة الديون الخارجية الأوكرانية، والتي بلغت وفقًا لوزارة المالية في البلاد، بحلول نهاية مارس ما يقرب من 132 مليار دولار، أو 89 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبصفته زعيم حزب الوطن الأم المجري، لازلو توركاي، تحدث بإيجاز شديد عن دور شركة بلاك روك في الأزمة الأوكرانية وقال "لقد تم بيع أوكرانيا بالفعل، وسوف تدمر الحرب كل شيء".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مقدمة: في 4 آذار/مارس 2023، شارك الدكتور أليكسي فيديف، رئيس مختبر البحوث المالية في معهد غيدارللسياسات الاقتصادية في موسكو، في اجتماع للمجلس الاستشاري العلمي لقسم العلوم الاجتماعية بالأكاديمية الروسية للعلوم حول المشاكل القانونية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، المكرس لتوقعات تطور الاقتصاد الروسي في العام 2023. حدد في تقريره "توقعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية لروسيا في 2023-2025"، العوامل الرئيسة التي سيعتمد عليها وضع الاقتصاد الكلي في البلاد، بما في ذلك العقوبات والطلب على موارد الطاقة الروسية وتطوير القطاع B 2B [1]، وكذلك تحفيز السياسات الحكومية. وفقا لأليكسي فيديف، في العام 2023، يمكننا أن نتوقع ركود الطلب باعتباره العامل الرئيسي لخفض التضخم مع انخفاض الدخل المتاح للسكان، وسيكون النجاح في استبدال الواردات متواضا للغاية، لكن الانخفاض في الاقتصاد سيكون صغيرا نسبيا [2] .

الأعمال الروسية تركز على "البقاء"

تتفاقم مشاكل مناخ الأعمال في روسيا بسبب سعر صرف الروبل والواردات الرخيصة كما تعكسه بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، فقد توصل الخبراء إلى إجماع على أن هذه التدابير الادارية تركز على البقاء.

وفقا ل 43٪ من المستجيبين، كان للوضع الاقتصادي تأثير سلبي بشكل عام على الأعمال. وفقا ل 48٪ من المستجيبين، فإنهم يهدفون في العام أو العامين المقبلين إلى الحفاظ على مؤشرات الإنتاج الحالية أو ببساطة الحفاظ على الأنشطة على هذا النحو. المتفائلون الذين يخططون لزيادة الإنتاج بأكثر من 30 ٪ يشكلون حوالي 12 ٪. كما أن ارتفاع التكاليف، ونقص أو عدم استقرار الطلب في السوق يمنع تطوير وإطلاق منتجات جديدة في السوق [3].

وفقا لمعهد غيدار، الذي قام بإجراء مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022، أظهر الإنتاج ديناميكيات قريبة من الصفر، مما أعطى أسبابا للمسؤولين والمحللين للحديث عن استقرار الصناعة الروسية. وتشير الدراسة إلى أن خطط الإنتاج بعد الفشل في آذار/مارس 2022 "تخلصت لاحقا من التشاؤم" وحتى نهاية العام كانت متفائلة للغاية، لكنها لم تستطع إظهار النمو إلى مستويات ما قبل الأزمة [4].

تشير غالبية رواد الأعمال الذين شملهم الاستطلاع الى وجود قيود خطيرة على الأعمال التجارية وإلى عدم كفاية حماية حقوق رواد الأعمال وهيمنة الدولة على الاقتصاد. وكذلك يتفق كبار المديرين والمالكين على صعوبة الوصول إلى الأموال المقترضة للأعمال. بالإضافة إلى ذلك، اشتكى رواد الأعمال من عدم كفاية مستوى تطوير البنية التحتية، ومشاكل الخدمات اللوجستية، والعبء المالي المرتفع، وضعف حماية حقوقهم - على وجه الخصوص .

وفقا لمعهد غيدار، في كانون الأول/ديسمبر 2022، توقف متوسط الحد الأدنى لسعر الفائدة على القروض المقدمة للمؤسسات الصناعية عن الانخفاض وارتفع إلى 11.2٪ سنويا بعد أن كان 10.9٪ في تشرين الثاني/نوفمبرمن نفس العام، إذ بلغت حصة الشركات التي أعلنت عن التوفر الطبيعي للقروض بنسبة 51٪ [5]. ونتيجة لذلك تفاقم الوضع بسبب قيمة الروبل المبالغ فيها والعبء المالي المرتفع، مما وضع الشركات الروسية في وضع غير مؤات مقارنة بموردي الواردات الرخيصة، والتي نتيجة لذلك يمكن أن تحول المستهلكين الروس إلى واردات رخيصة من الصين وغيرها من الدول الصديقة المحايدة.

تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات

وفي معرض أجابة أليكسي فيديف، رئيس مختبر البحوث المالية في معهد غيدار، في برنامج "اليوم" على قناة RBC (Russ.Bussiness Consult) على أسئلة حول كيفية تأثير العقوبات المفروضة على الاقتصاد وحياة الروس والبلد ككل، فقد تم تخصيص موضوع البرنامج لذكرى فرض العقوبات بعد أن اعترفت روسيا باستقلال جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك. أجاب أليكسي فيديف إلى : " أن السلطات تستعد لخسائر اقتصادية أكثر خطورة، لكن التدابير المتخذة في الوقت المناسب والاستراتيجية المختارة بشكل صحيح ساعدت الاقتصاد على إعادة البناء بسرعة. وفقا لتصريح فيديف من المتوقع أن يتراوح الانخفاض المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي للعام 2023 من 2٪ إلى 10٪. كان معدل الانخفاض في العام 2022 بمقدار 2.1٪، ولكن مع الأخذ في الاعتبار مؤشر الاستهلاك للسكان - 5٪، يمكن تصحيح الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي إلى 4٪. وللمرة الأولى، اختارت الحكومة التكتيكات الصحيحة لسياسة محفزة تهدف إلى تثبيت استقرار العمليات الاقتصادية. ولا يرى الخبير تهديدا تضخميا إذا ظل سعر صرف الروبل مستقرا، فبحلول منتصف العام 2023 سيكون معدل التضخم 3٪ - 5٪. أن توقعات تخفيض قيمة العملة مهمة، ووفقا للخبير، فإن الاستهداف الحديث هو أفضل آلية للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي [6].

تشير نتائج دراسة أجراها رئيس مختبر أبحاث السوق في معهد غيدار سيرجي تسوخلو إلى أن القناة الأكثر شعبية لاستبدال المعدات الغربية من الشركات المصنعة الروسية كانت قناة الموردين الصينيين.

في كانون الثاني/يناير 2023، أجرى خبراء معهد غيدار دراسة استقصائية بين رؤساء المؤسسات الصناعية الروسية واكتشفوا كيف حلوا محل الواردات الخاضعة للعقوبات. تم إجراء مسح للمشاركين في 3 فئات من السلع - المعدات وقطع الغيار والتجهيزات المكملة. شارك حوالي 1000 شركة صناعية في مسح المختبر.

أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الشركات الروسية في العام 2022 اشترت معدات وقطع غيار بديلة من الصين. لكن المصنعين الروس تمكنوا من تجاوز الصينيين في مبيعات التجهيزات المكملة، حيث أن استبدال الواردات المحلية أكثر كفاءة. بالإضافة إلى المشتريات من الشركات المصنعة الصينية والمحلية (هاتان القناتان الرئيسيتان لاستبدال الواردات)، دعت الشركات طرقا أخرى لاستبدال البضائع الساقطة. تمكن شخص ما من تأمين الإمدادات من الدول الصديقة الأخرى - من تركيا إلى كوريا الشمالية، رفض شخص ما تماما استخدام البضائع المختفية في إنتاجها، واعترف شخص ما بأنه استمر في تلقي الواردات الخاضعة للعقوبات.

أعلنت 67٪ من الشركات الانتقال إلى المعدات من الصين، في حين احتل المنتجون المحليون المرتبة 2 بين قنوات استبدال الواردات، ولكن بهامش كبير: بدأ 39٪ من المستجيبين في استخدام منتجاتهم والمركز الثالث بنتيجة 23 ٪ خيار "نظائرها من بلدان أخرى". لا يشمل ذلك البلدان التي يتم توفير خيارات إجابة منفصلة لها: على وجه الخصوص، وجد 21٪ من المستجيبين نظائر منتجاتهم من شركاء في الاتحاد الاقتصادي الآسيوي EAEU (أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان)، و 17٪ من تركيا. وأفادت 15٪ من الشركات الروسية أنها لا تزال تتلقى الآلات والآلات الخاضعة للعقوبات. ومن بين سلاسل التوريد أيضا خيار الشراء من الهند وإيران وفيتنام ومصر وكوريا الشمالية (12٪) [7] .

كما يحتل المصنعون الصينيون في سوق قطع الغيار، أيضا مكانة رائدة (63٪ من الشركات الروسية تحولت إليهم)، في حين أن فجوة الصين من الشركات المحلية هنا أصغر - قرر 46٪ من المستجيبين استخدام المنتجات الروسية. بالإضافة إلى ذلك، تحولت 24٪ من

الشركات الروسية إلى "نظائرها من دول أخرى"، وقالت 22٪ إنها استمرت في تلقي الواردات الخاضعة للعقوبات. إن استبدال الواردات بمعنى استبدال نظائرها المستوردة بأخرى محلية في فئة المكونات (المواد الخام والمواد المكملة والمنتجات شبه المصنعة).

وفي حقيقة أن الشركات الروسية لا تزال تتلقى معدات ومكونات "خاضعة للعقوبات" وهذا لا يعني التحايل على أنظمة العقوبات في الغرب. وبالتالي، تنص عقوبات الاتحاد الأوروبي على فترات انتقالية يمكن خلالها التسليم بموجب العقود الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، أدخل الاتحاد الأوروبي إعفاءات للإمدادات المستمرة، على سبيل المثال للأغراض الطبية أو الإنسانية. أيضا، إذ يجوز لأي دولة في الاتحاد الأوروبي، كاستثناء، إصدار تصريح لتوريد السلع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا. قد تستمر الشركات التابعة الروسية للشركات الأجنبية في تلقي هذه السلع. وتسمى هذه الحالة بآلية "الاستيراد الموازي" .

كما يلاحظ رئيس مختبر استطلاعات السوق سيرجي تسوخلو، فإن الشركات الروسية تظهر أعلى استقلالية عن المنتجات "الخاضعة للعقوبات" مقارنة بالمعدات وقطع الغيار بالنسبة للمكونات (المواد الخام والمواد المكملة والمنتجات شبه المصنعة) التي تظهرها. إذ لم يتم استخدام المكونات الأجنبية من قبل 20 ٪ من الشركات الروسية من قبل، وفي حالة المعدات وقطع الغيار، قامت 11 ٪ من الشركات باستيراد تلك المكونات [8].

الصناعة تبدأ بالإيجابية

سجلت مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، التي أجريت في كانون الثاني/يناير 2023، زيادة في الطلب الفعلي في القطاع الصناعي وانخفاضا طفيفا في نقص الموظفين المؤهلين، والذي زاد بسبب التعبئة العسكرية. إذ كشفت نتائج الأداء الفعلي في الصناعة (اعتبارا من 19 يناير) والتوقعات (اعتبارا من 26 يناير)، وفقا لمعطيات معهد غيدار، عن بداية إيجابية نسبيا لهذا العام في هذا القطاع. فقد وصل مؤشر التفاؤل الصناعي بحلول يناير 2023 إلى مستوى أقل من نقطة واحدة فقط إلى أفضل قيمة (أيلول/سبتمبر) في العام السابق 2022. والسبب الرئيسي لذلك هو الديناميات الإيجابية للطلب. حيث ارتفع رصيد المبيعات الفعلية بعد الانخفاض في تشرين الأول/أكتوبر بمقدار 15 نقطة وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022 – كانون الثاني/يناير 2023 بمقدار 20 نقطة وتبين أنه أفضل قيمة في الأشهر ال 11 الماضية. ويشير الانخفاض في حصة التقديرات "العادية" لأحجام الطلب في يناير إلى 56٪ والزيادة في حصة التقديرات "الأقل من المعتاد" إلى 36٪ إلى أن الشركات كانت تأمل في مبيعات أفضل في بداية العام. في الوقت نفسه، لم تتغير توقعات الطلب فعليا منذ سبتمبر، حيث كانت عند مستوى "غير كاف للدخول في مسار النمو الصناعي المميز إحصائيا"، كما يلاحظ خبراء معهد غيدار (IEP) [9].

ساعد النمو في الطلب على المنتجات الصناعية، والذي يرتبط في المقام الأول بزيادة الطلبات العسكرية الشركات على زيادة خطط الإنتاج والانتقال من سياسة تقليل مخزونات المنتجات النهائية إلى تكوين فائض فيها. وانطلاقا من ما ىسبق، أظهرت توقعات التضخم في الصناعة في كانون الثاني/يناير، وفقا ل IEP، أكبر زيادة منذ آذار/مارس 2022 - بمقدار 13 نقطة. ولذلك من غير المرجح أن يتم تفسير هذه الزيادة بالتحسن المتوقع في المبيعات وتعكس الانخفاض الحالي في قيمة الروبل، والذي بدأ في أواخر العام 2022.

رسم بياني رقم 13224 رسم بياني

توقعات تغيرات في الأيدي العاملة في الصناعة. (التوازن = نسبة الزيادة – نسبة الانخفاض)

المنحني الأحمر يمثل روسيا

المنحني الأزرق يمثل المنطقة الاوروبية

المصدر: معهد غايدار، موسكو، روسيا الاتحادية

أظهر تقييم الشركات لتزويدها بموظفين مؤهلين في يناير انخفاضا في توتر الوضع. في الوقت نفسه، لا تزال حصة 28 % من الشركات التي تعاني من نقص في الموظفين (في ذروتها في تشرين الأول/أكتوبر 2022، كان هناك 33٪) أعلى من مستوى كانون الأول/يناير 2022. «الانخفاض الطفيف في يناير في التفاؤل بخطط التوظيف لم يغير بشكل جذري صورة مشاكل الموظفين في القطاع: نقص العمال المهرة، الذي وصل إلى أعلى مستوى تاريخي في تشرين الأول/ٍ أكتوبر، يجبر الشركات على الحفاظ على ارتفاع الطلب على العمالة»، (انظر الرسم البياني). الرصيد الحالي لهذه الخطط أعلى بكثير من قيم الفترة 2010-2019.

ركود الصناعة

أظهرت ديناميكيات الصناعة الروسية في يناير 2023 المزيد من علامات الركود، كما كتبت صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، معتمدة على تحليل الدراسات الاستقصائية التي أجراها الجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية [10].

وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية في كانون الثاني/يناير 2023، انخفض الإنتاج الصناعي في الاتحاد الروسي بنسبة 2.4٪ من حيث القيمة السنوية وبنسبة 0.6٪ مقارنة بشهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، مع مراعاة الموسمية في الانتاج وعلى الرغم من الدعم الهائل للميزانية والمستويات العالية من التفاؤل من الشركات. مستثنيا من ذلك الصناعات التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بالانتاج الصناعي العسكري وتركز على طلب المستهلكين.

كان الانخفاض في الإنتاج الصناعي بنسبة 2.4٪ على أساس سنوي في يناير 2023 في سياق القطاعات الصناعية الموسعة في كل مكان: انخفض التعدين بنسبة 3.1٪، والمعالجة - بنسبة 2.3٪، والصناعات المتعلقة بإمدادات المياه والصرف الصحي، والتخلص من النفايات والقضاء على التلوث - بنسبة 7.5٪. ظهرت زيادة طفيفة (0.7 ٪) في الشهر الأول من العام فقط من خلال الطاقة.

ومن بين الصناعات التحويلية، تجلى النمو في الإنتاج من خلال إنتاج المركبات الأخرى (27.4٪)، والمواد الغذائية (4.4٪)، والمشروبات (7.1٪)، والملابس (5.5٪)، وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الطرفية (الأطراف الصناعية)، والمنتجات البصرية والإلكترونية (5.5٪) والمعدات الكهربائية (0.7٪). وسجل أكبر انخفاض في إنتاج السيارات (54.6٪) والآلات والمعدات (22٪) والخشب (22.1٪).

الصناعة لم تنفصل عن الاستيرادات الخاضعة للعقوبات

أظهر مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية حول كيفية استبدالهم للاستيراد الخاضع للعقوبات للمعدات وقطع الغيار والمكونات في العام 2022 أن المصنعين الصينيين أصبحوا "بدائل استيراد" غير مشروطة. 67٪ من المستجيبين تحولوا إلى منتجاتهم، كما كتبت صحيفة كوميرسانت. ومع ذلك، في وقت سابق، في العام 2022، ادعى الصناعيون أن الانتقال إلى هذه الإمدادات من الصين كان قسريا وأن الشركات تفضل نظائرها الأوروبية. حتى ولوكان عالي الثمن .

تشير الدراسة إلى أن 15٪ من المستجيبين أفادوا بأنهم يستمرون بطريقة ما في تلقي الآلات والمعدات "الخاضعة للعقوبات". أصبح المصنعون الروس، الذين واجهوا في العام 2022 نقصا في كل من المكونات والموظفين، موردين ل 39٪ من المستجيبين لمتطلبات معهد السياسات الاقتصادية (معهد غايدار)، وشركات من الإتحاد الأسيوي الاقتصادي EAEU - بنسبة 21٪ ومن تركيا - 17٪.

أصبحت الصين أيضا رائدة في استبدال قطع الغيار التي وقعت تحت العقوبات - 63 ٪ من الشركات الصناعية تحولت إلى منتجاتها. تم استلام نظائرها الروسية من قبل 46 ٪ من الشركات، وأفاد 22 ٪ أنه تم الحفاظ على توريد قطع الغيار "الخاضعة للعقوبات". تمكن الموردون من دول الاتحاد الاسيوي الاقتصادي EAEU وتركيا من تلبية الطلب على قطع الغيار بنفس الحصص تقريبا كما في حالة المعدات. ومع ذلك، تمكن المصنعون الروس من استعادة المكانة الرائدة في إنتاج المكونات من المنافسين الصينيين بنسبة تصل إلى 2 نقطة مئوية، كما قال 54٪ من المستجيبين. ولا يتم استخدام المواد الخام والمواد "الخاضعة للعقوبات" من قبل 20 ٪ من الشركات والآلات والمعدات إلا ب 11 ٪ فقط. وفي نفس يستمر 23٪ في الحصول على المكونات المستوردة "المحظورة" [11].

دخول الصناعة الروسية دورة نمو جديدة

تشير بيانات المراقبة التشغيلية للصناعة الروسية إلى تحسن في المؤشرات الرئيسة واستعادة تفاؤل الشركات. ويأتي الانتعاش من بعد إعلان أيلول /سبتمبر 2022 عن "التعبئة الجزئية"، عندما خسر تفاؤل المستجيبين لاستطلاعات السوق في معهد غيدار أربع نقاط. وبحلول 16 فبراير 2023، ارتفع المؤشر بمقدار سبع نقاط ووصل إلى أعلى مستوى له في 12 شهرا. وعلى النحو التالي من الدراسة، فإن نمو تفاؤل الصناعة هو نتيجة لزيادة الطلب، والتي، وفقا للمؤسسات الصناعية، وصلت في الفترة من يناير إلى فبراير 2023 إلى أفضل القيم لهذا العام وحتى تجاوزت مستويات 2018-2019. ومع ذلك، تم تسجيل نفس المستوى من الرضا عن الطلب بالفعل في سبتمبر 2022 . وعلى الأرجح، ترتبط القفزة في الطلب بنمو الانتاج للمعدات العسكرية من قبل الدولة [12].

على الرغم من انتعاش الطلب، انخفضت خطط الإنتاج، وفقا ل IEP، بمقدار 4 نقاط في فبراير بعد قفزة قياسية في يناير (انظر الرسم البياني). "على ما يبدو، قررت الصناعة تعديل خططها قليلا، دون الانحناء، إلى التشاؤم من الأزمة. قال مؤلف الدراسة سيرجي تسوخلو إن التوازن الإيجابي للمؤشر، الذي تم تسجيله بشكل مطرد من خلال الدراسات الاستقصائية منذ أغسطس 2022، يشير إلى أن الشركات لا تزال مستعدة للانتقال من "نمو" قريب من الصفر إلى زيادة واضحة في الإنتاج. وفي الواقع، لم تتمكن الصناعة بعد من تحقيق التفاؤل العالي لخطط الإنتاج. تعمل بيانات فبراير مرة أخرى على إصلاح ميزان التغييرات الفعلية في الإنتاج داخل الصفر، حيث كان منذ سبتمبر 2022.

الانتاج الصناعي المتوقع والحقيقي للشركات الروسية في شهر كانون الثاني (مقدار النمو والانخفاض % حسب المواسم الانتاجية).

منحني اللون الأحمر- الانتاج المتوقع

منحني اللون السماوي – الانتاج الواقعي

المصدر: معهد غايدار، موسكو، روسيا الاتحادية

نما مستوى التفاؤل في الصناعة الروسية إلى الحد الأقصى خلال 12 شهرا، كما قال سيرجي تسوخلو، رئيس مختبر استطلاعات السوق في معهد غيدار، في دراسة أخرى للقطاع الصناعي. وفي 2 مارس 2023، قدم سيرجي تسوخلو في ندوة في كلية موسكو للاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية تقريرا عن نتائج مرور سنة على "حرب العقوبات" للصناعة، والتي استعرضتها قناة RBC التلفزيونية . كما هو موضح في استطلاعات المديرين، بعد مرور سنة على بدء العملية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات الغربية الصارمة، فإن الصناعة الروسية إيجابية بشكل عام: مؤشر التفاؤل الصناعي وتوقعات الطلب عند الحد الأقصى خلال 12 شهرا.

وقال سيرغي تسوخلو إن نتائج 12 شهرا من "حرب العقوبات" لا تبدو مأساوية على الإطلاق كما توقع جميع المشاركين فيها في البداية. كما هو موضح في الدراسات الاستقصائية للمؤسسات، أنهت الصناعة الروسية العام التالي لبدء العقوبات بأفضل ديناميكيات الطلب لهذه الفترة، واستقرار توقعاتها، وتظهر أيضا مستوى جيدا من رضا المبيعات. ومن خلال ديناميكيات الطلب يوجد توازنا للتغيرات الفعلية في الطلب، مع إزالة الموسمية، والتي يتم حسابها على أنها الفرق بين حصة الشركات التي أشارت إلى زيادة في الطلب والحصة التي أشارت إلى انخفاضها. ان مستوى هذا المؤشر في الوقت الحاضرعند الصفر تقريبا (في المستوى الإيجابي، كان في العام 2021 وحتى فبراير 2022، خلال فترة الانتعاش الاقتصادي بعد كوفيد). وقال تسوخلو إنه في فبراير 2023، أصبح المؤشر هو الأعلى منذ بداية العملية الخاصة، بل تجاوزت قيمته مستوى عدم وجود الأزمة في السنوات 2018-2019.3225 رسم بياني 

يتم الاحتفاظ بهذا المؤشر، الذي يعكس مستوى الرضا عن المبيعات المحققة، عند مستوى عال إلى حد ما. ففي فبراير 2023، كانت حصة التقديرات العادية (أي المرضية) لأحجام الطلب الحالية تساوي 61٪، وهو ما يتوافق مع أو حتى يتجاوز مستوى السنوات "الهادئة".

مجموعة أخرى من المؤشرات التي تميز الإنتاج تعكس أيضا المزاج المتفائل للصناعيين. أظهر مؤشر التغييرات الفعلية أنه في فبراير 2023 تم إنتاج المنتجات أقل بقليل مما كانت عليه في يناير نفس السنة، لكن هذا المؤشر كان مستقرا منذ سبتمبر 2023: فهو لا ينخفض كثيرا، ولكنه أيضا لا ينمو بشكل ملحوظ. في الوقت نفسه، يتم الاحتفاظ بمؤشر الخطط بثقة في اللون الأسود بعد سبتمبر، "مما يشير إلى جميع الأطراف المعنية حول الرغبة العالية وغير المتأزمة تماما للشركات في إظهار "النمو الصناعي"، وفقا لمراجعة أجراها معهد غيدار بموسكو.

كما أوضح سيرجي تسوخلو في عرض التقرير، لم يكن لدى تقديرات الشركات في فبراير لتعكس العجز القياسي في الميزانية لشهر يناير بمقدار 1.8 تريليون روبل. والضعف اللاحق للروبل (في فبراير فقد حوالي 6 ٪ للدولار لهذا الشهر، أو حوالي 4.5 روبل). ووفقا له، يمكن أن تظهر هذه العوامل في استطلاعات الربيع.

لا تزال الشركات تفشل في توفير نمو إنتاج ملحوظ إحصائيا حتى مع التفاؤل الكبير بخططها، كما اعترف تسوخلو. لكن تنفيذ الخطط يعوقه "عدم اليقين في الوضع الحالي وآفاقه" - على مدى الأرباع الأربعة الماضية، وصفت معظم الشركات هذا الخطر.

وخلص الخبير إلى أن «العواقب الأكثر ضخامة للعقوبات على الصناعة الروسية كانت نمو التكاليف، واكتشاف عدم وجود موردين ومصنعين بديلين في روسيا وتغيير كبير في السلاسل التكنولوجية بسبب استحالة استبدال المكونات المستوردة».

في 2 فبراير 2023، تحدث سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر أبحاث السوق في معهد غيدار، على الهواء مباشرة في برنامج "الأخبار الرئيسية" على قناة RBC التلفزيونية، بأن المصنعين الصينيين حلوا محل المصنعين الغربيين الذين غادروا السوق الروسية. وكيف يؤثر تغيير موردي المعدات الصناعية على جودة الإنتاج وما إذا كانت هناك فرصة للمصنعين المحليين لاتخاذ مكانة رائدة في هذا القطاع.

آثار رحيل الشركات الغربية من روسيا الاتحادية: ارتفاع في تكاليف الانتاج

كان الأكثر ضخامة هو ارتفاع تكاليف الانتاج في ظروف التضخم العالمي. وكان هذا متوقعا فيما أكدته 64٪ من الشركات، حيث أفاد المستجيبون أنه في فبراير (لأول مرة منذ مايو 2022) تم رفع أسعار بيع المنتجات، وتغير ميزان توقعات تغيرات الأسعار لصالح نموها في سبتمبر 2022، وفي الفترة من يناير إلى فبراير 2023 استقر عند مستوى زائد 20 نقطة. بقي غياب الموردين والمصنعين البديلين في الاتحاد الروسي في المرتبة الثانية في قائمة المشاكل، لكن حجمه بين الدراسات الاستقصائية انخفض بنسبة 9 نقاط مئوية إلى 53٪. في المرتبة الثالثة في قائمة عواقب مشاكل الواردات، أعطت الصناعة "تغييرا قويا في السلاسل التكنولوجية بسبب نقص المكونات الغربية". وبذلك انخفضت أهمية هذه المشكلة بشكل طفيف، بنسبة 3 نقاط مئوية، إلى 38 ٪. " ولم يتم استبدال جميع الإمدادات الغربية دون الالمام بنظائرها الروسية أو الصينية"، كما أكد ذلك معهد غيدار بموسكو.

وانخفض ذكر مشكلة "إيقاف أو استبدال المعدات المستوردة بسبب عدم القدرة على الصيانة" للسنة 2022 من 40٪ إلى 22٪، وهو ما قد يشير إلى زيادة الواردات الموازية. كان نمو الطلب على استبدال الواردات أقل قليلا من التوقعات: 33٪ مقابل 36٪ في أبريل 2022 [13].

الخاتمة

يشعر العلماء بالقلق إزاء الوضع الديموغرافي الحالي في العالم. وصل عدد سكان العالم إلى رقم قياسي بلغ 8 مليارات شخص، وهو، وفقا للتوقعات العلمية، عتبة حرجة لكوكب الأرض. ومع ذلك، يذكر علماء الديموغرافيا أن هناك ما يكفي من الغذاء للجميع، ولكن معدل النمو السكاني يتناقص بسرعة، وفي عدد من البلدان، بما في ذلك روسيا، يتم تسجيل ديناميات سلبية. لذلك، على عكس النبوءات حول الاكتظاظ السكاني للأرض، يولد تهديد جديد: هناك خطر حدوث نقص خطير في الناس، وهذا سوف يسبب فوضى اقتصادية عالمية.

وفقا للأمم المتحدة، لوحظ الآن اتجاه ديموغرافي سلبي في 61 دولة. يتركز الاهتمام الرئيسي في هذا الصدد على الصين: في نهاية العام الماضي، ولأول مرة منذ 60 سنة، أظهرت انخفاضا في عدد السكان (ناقص 850 ألف)، متنازلا عن المرتبة الاولى للهند.

من المؤكد أن سياسة "أسرة واحدة وطفل واحد" التي انتهجتها السلطات ساعدت الصين على انتشال نفسها من الفقر، ولكنها أصبحت أيضا قنبلة موقوتة. ظهر اتجاه جديد في البلاد: لم يعد الصينيون يسعون إلى الإنجاب، موضحا ذلك بحقيقة أن الأطفال يأخذون الكثير من الموارد. وبالتالي، فإن حصة الشباب الأصحاء آخذة في الانخفاض، وحصة كبار السن آخذة في الازدياد، والتي، وفقا للعلماء، ستؤدي بحلول العام 2050 إلى ضغط خطيرعلى نظام المعاشات التقاعدية في جمهورية الصين الشعبية.

في البلدان الأوروبية، بلغ الانخفاض الطبيعي في عدد السكان، وفقا لعلماء الديموغرافيا في الأمم المتحدة، في العام 2022 بحدود 168,085 شخصا، مع مراعاة الزيادة في متوسط العمرالمتوقع. ويتم إنقاذ الوضع الديموغرافي والاقتصاد في الاتحاد الأوروبي من قبل المهاجرين - وإلا فإنه سيكون في انخفاض كبير بسبب النقص المتزايد في الأيدي العاملة.

الوضع الديموغرافي في اليابان أسوأ لأن الانخفاض الطبيعي في عدد السكان هو 0.5-0.6٪ سنويا، ونسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة تقترب من 30 ٪ (أعلى معدل في العالم)، في حين أن البلاد غير مضيافة تقليديا للمهاجرين.

أما من حيث نسبة المواليد والوفيات، يتم تضمين روسيا في مجموعة البلدان ذات النوع التنازلي المتناقص من الهرم الديموغرافي. وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، استؤنف الانخفاض الطبيعي في عدد سكان الاتحاد الروسي في العام 2016 بعد فترة من النمو لمدة ثلاث سنوات، وغطاه تدفق المهاجرين لمدة سنتين فقط . ومنذ العام 2018 انخفضت الزيادة في السكان. أما خلال فترة وباء كوفيد-19، أصبح حجم الخسائر كبير (في العام 2020 انخفض عدد السكان بمقدار 689 ألف شخص، وفي العام 2021 انخفص بمقدار 1 مليون و 43 ألف شخص). وفقا للبيانات الأولية للعام 2022، بلغ إجمالي الانخفاض في عدد سكان الاتحاد الروسي 555 ألف شخص، بينما تم تسجيل تدفق هجرة للسكان يبلغ 20.6 ألف شخص. ولكن على عكس أوروبا واليابان، فإن السكان في سن العمل في الاتحاد الروسي أعلى بأكثر من مرتين من عدد المواطنين غير العاملين. ومع ذلك، فإن هذه النسبة تفسر بانخفاض متوسط العمر المتوقع مقارنة بالعديد من البلدان المتقدمة.

تتساءل حكومات العديد من البلدان المتقدمة الآن من أين تحصل على الأشخاص الذين سيوفرون نوعية حياة لائقة للسكان المسنين، الذين تتزايد حصتهم باستمرار. الآن يتم سد هذا العجز من قبل الدول - الجهات المانحة لموارد العمل، ولكن في العديد منها، لا سيما في تلك التي ترتبط ارتباطا وثيقا بروسيا، من المتوقع حدوث انخفاض في إمكانات الهجرة، حيث يتطور الاقتصاد بسرعة كبيرة هناك ويتم إنشاء فرص العمل. وهناك المزيد والمزيد من البلدان التي تعاني من نقص في موارد العمالة والتي تتطلب مهاجرين. "بالنظر إلى الديناميات الديموغرافية، من الآن ممكن أن نقول إنه في العقود القادمة ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين، وليس تسييج نفسها بالحظر، كما هو الحال الآن"، يعتقد إيغور إفريموف. "بمرور الوقت، سيصبح من الصعب بشكل متزايد على روسيا التنافس على هذا المورد مع أسواق العمل في تركيا وكوريا الجنوبية ودول الخليج والصين وبولندا ودول أوروبية أخرى" .[14]

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

الأكاديمية العربية في الدنمارك

.........................

مصادر البحث:

1. الأعمال التجارية (B2B)، وتسمى أيضا B-to-B، هي شكل من أشكال المعاملات بين الشركات، مثل تلك التي تنطوي على الشركة المصنعة وتاجر الجملة، أو تاجر الجملة وتاجر التجزئة. تشير الأعمال التجارية إلى الأعمال التجارية التي تتم بين الشركات، وليس بين شركة ومستهلك فردي. يتناقض التعاون بين الشركات والمعاملات بين الشركات والمستهلكين (B2C) والمعاملات بين الشركات والحكومة (B2G).

2. أليكسي فيديف في اجتماع المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة، 04.03.2023.

3. بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، 8/1/2023 .

4. معهد غيدار، مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022. 8/1/2023.

5. نفس المصدر السابق، 8/1/2023.

6. أليكسي فيديف حول كيفية تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات وما ينتظرها، معهد غايدار للسياسات الاقتصادية. 18/1/2023 المصدر السابق. 3/2/2023.

7. مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، موسكو، 28/1/2023.

8. سيرجي تسوخلو: "استبدلت الشركات الروسية قطع الغيار والمعدات المستوردة من الدول غير الصديقة بأخرى صينية" . معهد غيدار للسياسات الاقتصادية، موسكو، روسيا الاتحادية 3/2/2023

9. صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، االجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية. 25/2/2023.

10. صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، م مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية.7/2/2023.

11. سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر معهد غيدار لاستطلاعات السوق، صحيفة كوميرسانت . نتائج حالة مناخ الأعمال في الصناعة في شباط /فبراير 2023. 20/2/2023.

12. صحيفة كوميرسانت، نتائج الموجة الثانية من استطلاعات فبراير2023 للشركات الصناعية حول عواقب وقف توريد الواردات ورحيل الشركات المصنعة الغربية من الاتحاد الروسي، التي أجراها معهد غيدار، موسكو، 4/3/2023.

13. إيغور إفريموف: "في العقود المقبلة، ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين. مجلة الخبير باللغة الروسية. 13/2/2023.

[1] الأعمال التجارية (B2B)، وتسمى أيضا B-to-B، هي شكل من أشكال المعاملات بين الشركات، مثل تلك التي تنطوي على الشركة المصنعة وتاجر الجملة، أو تاجر الجملة وتاجر التجزئة. تشير الأعمال التجارية إلى الأعمال التجارية التي تتم بين الشركات، وليس بين شركة ومستهلك فردي. يتناقض التعاون بين الشركات والمعاملات بين الشركات والمستهلكين (B2C) والمعاملات بين الشركات والحكومة (B2G).

[2] أليكسي فيديف في اجتماع المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة، 04.03.2023

[3] بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، 8/1/2023 .

[4] معهد غيدار، مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022. 8/1/2023.

[5] نفس المصدر السابق، 8/1/2023.

[6] أليكسي فيديف حول كيفية تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات وما ينتظرها، معهد غايدار للسياسات الاقتصادية. 18/1/2023

[7] سيرجي تسوخلو: "استبدلت الشركات الروسية قطع الغيار والمعدات المستوردة من الدول غير الصديقة بأخرى صينية" . معهد غيدار للسياسات الاقتصادية، موسكو، روسيا الاتحادية 3/2/2023.

[8] المصدر السابق. 3/2/2023.

[9] مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، موسكو، 28/1/2023.

[10] صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، االجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية. 25/2/2023.

[11] صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، م مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية.7/2/2023.

[12] سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر معهد غيدار لاستطلاعات السوق، صحيفة كوميرسانت . نتائج حالة مناخ الأعمال في الصناعة في شباط /فبراير 2023. 20/2/2023.

[13] صحيفة كوميرسانت، نتائج الموجة الثانية من استطلاعات فبراير2023 للشركات الصناعية حول عواقب وقف توريد الواردات ورحيل الشركات المصنعة الغربية من الاتحاد الروسي، التي أجراها معهد غيدار، موسكو، 4/3/2023.

[14] إيغور إفريموف: "في العقود المقبلة، ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين. مجلة الخبير باللغة الروسية. 13/2/2023.

البشرية اليوم في نضال دؤوب من أجل تغير العالم إلى تعددية الاقطاب بدل القطب الواحد.

سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى، وسيتحدث الناس عن عصر عظيم وعن أبطال مجهولين صنعوا التاريخ، وليكن معلوما أنهم ما كانوا أبطالا، انهم بشر لهم أسماء وقسمات وتطلعات وامال، وأن عذبات أصغر هؤلاء شأنا ما كانت اقل من عذابات من خلدن أسماهم.

(يوليوس فوتشك)

لقد عانت البشرية معانات كلفتها الكثير من الخسائر البشرية بالدرجة الأولى وكذلك المالية والاقتصادية والاحتلالات لبلدنا، من خلال الحروب التي اندلعت في القرن العشرين الأولى ادت بسقوط الدولة العثمانية التي سيطرت على الكثير من البلدان، وكان الدين الاسلامي، الذي سارت رافعة رايته حتى فاتحة في استمرار البلدان الأوربية ذات التوجيهات الدينية، اليهودية والمسحية، وانتهت الحرب العالمية الأولى، إلى سقوط الدولة العثمانية في المشرق والمغرب، وهيمنت دول استعمارية جديدة على الكثير من البلدان سيطرة فرنسا وانكلترا على بلدان الشرق الأوسط، وفي أفريقيا غزا الاستعمار البلجيكي دولة الكونغو وغزت البرتغال دولة انغولا وغينيا بيساو وموزنبيق، كما هو معروف ان الاستعمار لهذا البلدان جاء من أجل نهب ثروتها الطبيعية مثل النفط والغاز والكبريت والذهب واليورانيوم والقهوة والكاكو وغيرها من المعادن وكذلك المحاصيل الزراعية.

وجاء المستوطنون البريطانيون البيض الى جنوب افريقيا واحتلوها واقوموا دولة المستوطنين البيض وضطدهدوا سكانها الاصليين من ذو البشرة السوداء وتعاملوا معهم بمبدأ العبودية، ولم يدم بقائهم بنهب ثروات الشعوب وتعاملهم تعامل (السيد للعبد) وحتى طال الزمن ام قصر.

و بدء أدلوف هتلر وحزبه النازي في نهايةالثلاثينات من القرن الماضي بشن الحرب على دول اوربا وسيطر على دول في اوربا واحتلالها الواحدة تلو الاخرى، حتى نقض اتفاقية عدم الاعتداء مع الدولة الاشتراكية السوفيتية، وبدء الحرب على بلد السوفيت واحتل أجزاء كبيرة وفرض الحصار على المدن الرئيسية ومنهامدينة لينينغراد والذي دام الحصار لفترة طويلة عانى من هذا الحصار سكان المدينة البطلة، وعندما أنتهت الحرب في التاسع من أيار عام 1945 ، برفع راية الجيش الأحمر السوفيتي على الرايخستاغ الألماني وانتحر هتلر، وعقد مؤتمر يالطا للدول المشاركة في الانتصار، حيث شارك فيه جوزيف ستالين والحلفاء، ونستن تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة وكذلك رئيس الولايات المتحدة الامريكية روزفلت، وفي هذا المؤتمر تشكلت سياسة الاقطاب التي شاركت بهزيمة النازية الهتلرية والفاشية الإيطالية بقيادة موسليني، وتشكلت الأمم المتحدة ومجلس امنها بعد عصبة الأمم، ولقد لعب الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية المشكلة بعد الانتصار، دورا كبيرا في مساندة حركات التحرر الوطني في اسيا وأفريقيا للتخلص من الاستعمار بكل أشكاله، وذلك بتقديم المعونات المالية والاقتصادية ودعم القوى والاحزاب الوطنية فيها، وكان للدول الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة، أن تشكل حلفا عسكريا سمي بحلف الناتو (حلف شمال الأطلسي) وضم دول اوربا الغربية وأقيمت في بلدانها قواعد عسكرية موجهة ضد الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بحجة الخوف من التمدد ما سمي انذاك بالخطر الشيوعي، مما جعل الاتحاد السوفيتي أن يقوم بخطوة مماثلة، بتشكيل حلف عسكري سمي بحلف وارشوا باسم عاصمة جمهورية بولونيا الاشتراكية، وأصبح هذا الحلف الند لحلف الناتو.

و في قيادة ميخائيل غربوتشوف للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وطرح برنامجه في (العلانية وإعادة البناء)، استغل الغرب ومجموعة من داخل الحزب وفي مقدمتهم بوريس يلسن تدهور الوضع الاقتصادي وبدء التامر على الحزب والسلطة السوفيتية مما أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وبذلك انتهى عصر الدولة الاشتراكية الأولى التي قادها لينين ورفيقه ستالين وقادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وأصبحت روسيا الاتحادية تسير وفق النظام الاقتصادي الراسمالي وسمي (بسياسة اقتصاد السوق)، وانتهى حلف وارشوا ولكن الغرب تمسك بحلف الناتو، بقوته وتسليحه، وأصح العالم يسير بسياسة القطب الواحد وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

واليوم وبعد اوغلت امريكا بسياستها المعادية للشعوب، للهيمنة على اقتصادياتها وثرواتها المعدنية والنفطية والزراعية، وفي التامر على الأنظمة التي تمردت عليها وانتهجت سياسات مستقلة، وذلك بالانقلابات العسكرية وكانت المهمة الأساسية تقع على تنفيذها بيد المخابرات المركزية (CIA)، وهناك أمثلة عديدة مثل تشيلي ونيكارجوا وفنزويلا والبرازيل والعراق وايران واندنوسيا وغيرها من البلدان في اسيا وأفريقيا.

و بعد أن وصل السيل الزبى في أوكرانيا عند استلام النازية الجديدة السلطة وأصبحت بقيادة زلينسكي، اقدمت الولايات المتحدة الامريكية على انشاء قواعد عسكرية ومختبرات للحروب الجرثومية، متأخمة لحدود روسيا الاتحادية، وأصبحت جمهورية روسيا الاتحادية بين فكي كماشة أوكرانيا من جهة وحلف شمال الأطلسي(حلف الناتو) من جهة أخرى والمخابرات الأمريكية هي المخطط لكل ما يعمله ويقدمه لهم الرئيس الاوكرايني زلينسكي وحكومته والاعتداءات بالقصف المستمر على جمهوريتي دانيسك ولوغانسك ذات الحكم الذاتي والتي تقطنها أغلبية روسية، مما حدى بالقيادة الروسية تدارس الوضع الذي يشتد خطورة يوم بعد آخر، وخرجوا بقرار سمي (بالعملية العسكرية الروسية الخاصة)، من أجل دفع الخطر المحدق بالاتحاد الروسي، ودخلت الحرب عامها الثاني مع تصاعد الضربات العسكرية لكلا الطرفين روسيا واسلحتها المتطورة وكذلك امريكا ودول الاتحاد الأوربي والناتو تومول أوكرانيا بالسلاح والمال ولهما مصلحة في استمرار المعارك بين الطرفين من أجل انهاك روسيا عسكريا وماليا علما بأن الولايات المتحدة الامريكية اتخذت قرارات في الحصار على روسيا وكذلك شاركتها دول الناتو في الغرب الأوربي، وامريكا لها مصلحة في بيع السلاح إلى أوكرانيا التي هي اليوم بات مثقلة بالديون وهذا سيكلف الشعب الاوكرايني الدفع لسنوات بعد انتهاء الحرب، وانقطاع الغاز الروسي عن اوربا في ظل شتاء قارص وتخريب انبوب الغاز لسيل الشمالي.

وفي هذا الوقت الذي تعلن جمهو ية الصين الشعبية أن تيوان هي جزء من الجغرافية الصينية ويجب أن تعاد كما عادت هونك كونك إلى أحضان الصين الام، ولكن الولايات المتحدة تمد تايوان بالسلاح، وتقوم بفعاليات حربية على حدود الصين ومنها المناورات العسكرية المشتركة بصنوف من التشكيلات الجوية والأرضية وكذلك البحرية، والصين كانت تراقب هذه الاستفزازات العسكرية من قبل تايون والولايات المتحدة الامريكية. ومن هنا تعالت الأصوات من جمهورية روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية، لوضع حد لسياسة وهيمنة القطب الواحد في العالم امريكا، وأصبحت تعددية الاقطاب مسألة مهمة يجري العمل بجد عليها، وهناك دول أخرى تقف إلى جانب التعددية ومنها الهند والبرازيل وجمهورية جنوب افريقيا، وأصبحت المجموعة المسماة مجموعة البريكست وهي تحالف أقتصادي ضم كل من جمهورية روسيا الاتحادية وجمهو ية الصين الشعبية ودولة الهند والبرازيل وجمهورية جنوب أفريقيا.

أمريكا اليوم تعاني من انقسامات حادة بين الرئيس بايدن الديمقراطي ومكارثي رئيس مجلس النواب من الحزب الجمهوري حيث بلغ سقف الدين الأمريكي 31،4 ترليون دولار أمريكي، وحذر خبراء اقتصاديون: (من أن فترة طويلة من التخلف عن السداد من الممكن أن تؤدي بالاقتصاد الأمريكي إلى حالة من الركود العميق مع ارتفاع معدلات البطالة ومن ثم زعزعة استقرار نظام مالي عالمي يعتمد على السندات الأمريكية، ويساعد المستثمرون لمواجهةأثر ذلك). وبذلك تسير الأمور بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نحو الانهيار الاقتصادي، وازدياد البطالة، وكذلك عمليت القتل للسود اي زيادة التميز العنصري وضرب حقوق الإنسان، أضافة لما جرى في منطقة الشرق الأوسط من مصالحات بين السعودية وايران بوساطة جمهورية الصين الشعبية والموافقة على أقامة علاقات دبلوماسية، وعودة الجمهورية العربية السورية إلى عضويتها في مجلس الجامعة العربية، بعد إحدى عشر عاما، لتأخذ مكانها الفاعال، وكل هذه الأمور تسير بعيدة عن التدخل الامبريالية الأمريكية في المنطقة، والأمل اليوم سيكون هو القرار للشعوب والدول في أقامة عالم متعدد الاقطاب.

***

د. محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

لم يعد العالم ينظر لإسرائيل ويتعامل معها كما كان الأمر في العقود الماضية وخصوصا في العقدين المواليين لقيام هذا الكيان، وبدأ التحول بعد عدوان 1967 واحتلال إسرائيل لبقية فلسطين بالإضافة الى الجولان السورية وسيناء المصرية. قبل ذاك الزمان كانت تسود الرواية اليهودية الإسرائيلية الصهيوني التي تزعم أن إسرائيل دولة وواحة للديمقراطية وتسعى للسلام ولكنها محاطة بملايين العرب المتوحشين وغير الديمقراطيين الذين يريدون رمي اليهود بالبحر وأن الفلسطينيين إرهابيون يريدون تدمير دولة إسرائيل، ومع قبول الفلسطينيين والعرب بعملية السلام واحتكامهم للشرعية الدولية ثم تنكر إسرائيل لهذه الشرعية وللاتفاقات الموقعة ومواصلة عدوانها على الفلسطينيين وخصوصا في عهد حكومات نتنياهو العنصرية خدت انزياح كبير عن الرواية الصهيونية لصالح الرواية الفلسطينية التي تقول بأن إسرائيل ككيان كولونيالي عنصري ومعاد للسلام، وأنه كان مخدوعا بالرواية الإسرائيلية. 

نلمس هذا التحول في تبني الأمم المتحدة لذكرى النكبة وإحيائها في مقر الجمعية العامة و هذا تأكيد من الأمم المتحدة بأن المشكلة الفلسطينية بدأت عام 1948 وهو عام النكبة وتشريد الفلسطينيين من أرضهم وهذا التصرف من الجمعية العامة للأمم المتحدة يساعد الفلسطينيين على العودة للمطالبة بقرار التقسيم بعد فشل التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338، أيضا نلمسه من خلال حملات المقاطعة الأكاديمية والرياضية والتجارية الخ للكيان الصهيوني التي تعلن عنها جامعات ومؤسسات وحتى برلمانات غربية، أيضا المظاهرات والمسيرات المؤيدة للفلسطينيين والمعادية للممارسات الصهيونية في كثير من مدن الغرب.

وفي نفس الوقت نشهد تحركات للملمة الخالة العربية تبشر بصحوة تُخرج العالم العربي من حالة الفوضى التي خططت لها واشنطن ونجحت فيها جزئيا من خلال ما يسمى الربيع العربي، والمصالحات العربية العربية، والعربية مع دول الجوار، وعودة سوريا للجامعة العربية أبرز هذه التغيرات، وحتى إن لم تكن القضية الفلسطينية على رأس أولويات قمة جدة إلا أن مجرد التئام شمل العرب وتجاوز خلافاتهم السابقة قد يفتح مجالا للاهتمام بالقضية الفلسطينية لاحقا.

هذه الصحوة والمتغيرات على المستوى العالمي يمكن إرجاعها إلى ما يلي:

1- وجود جيل جديد في الغرب تحرر من سطوة الخطاب والرواية اليهودية والصهيونية التوراتية والسياسية، كما أنه متحرر نسبيا من مواقف وسياسات دولهم، هذا الجيل أكثر انفتاحا على العالم ومتواصل مع شعوب العالم من خلال الثورة المعلوماتية وما أنجزته من تعدد لشبكات التواصل الاجتماعي.

2- سلوك وممارسات إسرائيل الإرهابية والعنصرية مع الشعب الفلسطيني، وحملات العدوان على قطاع غزة وما تنشره الفضائيات من مناظر قتل المدنيين والأطفال وهدم البيوت الخ صدمت الشعوب الغربية وحركت لدى بعضها الكامن في ضميرها وثقافتها من احترام لحقوق الإنسان ورفض العنصرية وتجربتهم السابقة مع النازية.

3- التحركات الدبلوماسية للقيادة الفلسطينية في الأمم المتحدة وخارجها وحملات المقاطعة مثل P.D.S بالإضافة الى فعاليات وأنشطة أبناء الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج.

4- وصول حكومات يمينية عنصرية ومتطرفة للسلطة في إسرائيل استفزت ممارساتها وتصريحاتها العنصرية ليس فقط الرأي العام في الغرب بل استفزت أيضا بعض الحكومات، مثل تصريحات وزير الأمن بنغفير وتصريحات الوزير سموترتش الذي نفى حتى وجود شعب فلسطيني.

5- تراجع الوضع الاقتصادي في غالبية دول الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية، والشعب في تلك البلدان يحمل المسؤولية للسياسات الخاطئة لحكوماتهم في التعامل في مجال السياسات الدولية وأنها تنفق على الحرب في أوكرانيا وعلى إسرائيل كثيرا من المال على حساب الاحتياجات الأساسية للشعوب.

أما بالنسبة للمتغيرات على الساحة العربية فتعود إلى ما يلي:

1- انكشاف مؤامرة ما يسمى الربيع العربي والدور الأمريكي والإسرائيلي في انطلاقها وتوجيه مسارها لتدمير الدول العربية.

2- ما مارسته الإدارة لأمريكية وخصوصا في عهد ترامب من سياسة الابتزاز للعرب بل وإهانة قادتهم كما تجلي في زيارة ترامب للسعودية ودول الخليج في مايو 2017.

3-وقوف واشنطن وتل أبيب موقف المتفرج على اعتداءات دول الحوار- خصوصا تركيا وإيران- على دول عربية وانتهاك سيادتها حتى تلك الصديقة للغرب مثل استهداف قوات الحوثي للسعودية وقصفها بالصواريخ.

4- زيادة الممارسات الإرهابية والعنصرية بعد الموجة الثانية من التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، وهو ما أدى لحالة غضب عند قطاع شعبي يتزايد كل يوم، وتبلور رأي عام عربي يتلمس الخطر الصهيوني وأهدافه الخطيرة في العالم العربي وليس في فلسطين وحدها وخصوصا بعد تصريحات وزراء في حكومة نتنياهو كما تم ذكره، وهذا يقلق الأنظمة ويجعلها تخشى من ردة فعل شعبية.

5- استمرار صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على المقاومة والتصدي لقطعان المستوطنين في محاولاتهم اقتحام المسجد الأقصى.

6- تلمس دول عربية بأن دول الجوار وبعض جماعات الإسلام السياسي وظفت القضية الفلسطينية لخدمة اجندتها ومشاريعها القومية مستغلة تراجع الاهتمام والدعم العربي للفلسطينيين.

هذا التحول في الرأي العام العالمي والعربي حتى وإن كان متواضعا ومعرض لانتكاسات يحتاج لتغييرات في السياسة الفلسطينية الرسمية والحزبية لتوظيف ما يجري لصالح القضية الوطنية، وللأسف فإن منظمة التحرير وبقية الفصائل الفلسطينية ما زالت تدور في حلقة مفرغة بل وتكرر نفس الشعارات والمواقف والممارسات وأحيانا بشكل أكثر رداءة، وهذ1 ما نلمسه من خلال:

1- غياب أي بوادر لتفعيل حوارات المصالحة أو إعادة بناء واستنهاض منظمة التحرير، حتى مبادرة الجزائر للمصالحة تم نسيانها إن لم يكن وئدت في ايامها الأولى.

2- تكريس الانقسام بشكل نهائي خصوصا بعد الحربين الأخيرين على غزة وعدم مشاركة حماس، ويبدو أن هذه الأخيرة حققت ما كانت تصبو له منذ قيامها بالانقلاب على السلطة وهو فيام كيانية إسلامية إخوانية تحكمها حماس.

3- حل الدولتين بالمنظور الفلسطيني وصل لطريق مسدود ولا يوجد في الأفق القريب إمكانية قيام دولة وحتى سلطة واحدة تجمع غزة والضفة.

4- كما أن رفع بعض الفلسطينيين لشعار الدولة الواحدة لم يعد عمليا وواقعيا لعدم التوافق عليه فلسطينيا ولا توجد معطيات تساعد على نجاحه، وفي المقابل تسعى إسرائيل وتعمل على حل الدولة الواحدة اليهودية والعنصرية.

5- بالرغم من صمود الشعب والعمليات البطولية الفردية أو التي تقوم بها كتائب جنين وعرين الأسود إلا أنه من غير المتوقع الانتصار على العدو أو حتى إجباره على الجلوس لطاولة المفاوضات، لأن هذا الشكل من المقاومة يحتاج لعنوان سياسي يوظف المقاومة في إطار مشروع سياسي وطني. ويحتاج لحاضنة شعبية وإسناد بأشكال متعددة من المقاومة في كل أماكن الشعب الفلسطيني

6- ما زالت حركة حماس تعمل خارج منظمة التحرير ولا تعترف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب ولا تخفي تطلعها للسيطرة على المنظمة أو الحلول محلها في تمثيل الشعب، كما أنها تعمل على إضعاف وإنهاء السلطة في الضفة.

7- خروج غزة من ساحة المواجهة مع العدو خصوصا بعد الجولتين الأخيرتين من المواجهة والانقسام الحاصل في جبهة المقاومة.

وأخيرا، إن لم تتحرك قيادة منظمة التحرير بسرعة وتستوعب جيدا ما يجري في العالم فسيتم تجاوز القضية الفلسطينية كقضية سياسية لحركة تحرر وطني وسيتم التعامل معها كقضية إنسانية كما كان الأمر قبل ظهور الثورة الفلسطينية منتصف الستينيات، أو تسعى دول وجماعات وتحت شعار مناصرة ودعم الحق الفلسطيني إلى صناعة قيادة ونظام سياسي فلسطيني جديد يتجاوز المنظمة وفصائلها.

***

إبراهيم ابراش

في المثقف اليوم