آراء

آراء

أمريكا اليوم ليست كأمريكا الأمس.. الصورة الذهنية لها تغيرت بعد حرب العراق من شرطى إلى قرصان، ومن تمثال الحرية إلى صنم متجبر. ثم انحدرت أكثر لنراها مرتبكة عاجزة أمام وباء كورونا، ومذهولة متفاجئة أمام ثورة الوول ستريت وهجمة أنصار ترامب على مبنى الكونجرس، ثم إذا بها منهزمة اليوم أمام الروس فى أوكرانيا.. هكذا انهارت صورة السوبرمان الأمريكى الهوليودية فى أذهان حلفاء العم سام!

 غير أن كل هذه الانهيارات والانحدارات لم تستطع حتى اليوم أن تهز عرش أمريكا الراسخ كقوة عالمية مسيطرة على القرار الدولى..سواء فى الاقتصاد أو السياسة أو حتى على مستوى الحياة الاجتماعية اليومية للشعوب. ذلك أن نجاح أمريكا الأول كان فى قدرتها الفذة على السيطرة على المزاج العالمى من خلال ما أسماه جوزيف ناى بالقوة الناعمة..

أسرار الهيمنة

 جوزيف ناي. باحث وأكاديمي بجامعة هارفارد ومستشار سابق لوزير الدفاع الأمريكي على عهد كلينتون، وهو صاحب مصطلح "القوة الناعمة" الذى اشتهر من خلال كتابه المعنون بنفس الاسم.. وفيه يشرح لنا كيف أن أمريكا استطاعت بسط سيطرتها على العالم كقوة أولى من خلال قوتها الناعمة المتمثلة فى السينما والفنون والثقافة والإعلام قبل الخشنة المتمثلة فى أساليب العنف والردع بالسلاح أو التهديد بالعقوبات الاقتصادية.. فيؤكد أن أقل من 20% من وسائل التغيير الناجحة لأمريكا ضد بلدان أخرى تمت من خلال استخدام القوة الخشنة. بينما كانت قواها الناعمة هى السلاح الأقوى لها دائماً..

 حدث هذا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرةً؛ إذ يؤكد جوزيف ناى أن انهيار جدار برلين، وذوبان الفروق بين ألمانيا الغربية الرأسمالية والشرقية الاشتراكية لم يحدث إلا بفضل استخدام سلاح القوة الناعمة فقال: (اخترقنا جدار برلين بأفلام السينما قبل زمن طويل من سقوطه عام 1989؛ لأن مطارق الثقافة كانت أقوى من مطارق الحديد!) .. ولعل هذا نفس الذى حدث للاتحاد السوفيتى الذى اغتالته الثقافة الانفتاحية الرأسمالية رغم السياج الصارم الذى ضربته الشيوعية ضد تسرب تلك الثقافة.. معنى هذا أن الماكدونالد والبيبسي والسي إن إن أقوى كثيراً من الباتريوت والهاون والإف 16!

 السينما والإعلام والفنون وسائر أدوات الثقافة وآليات الغزو الفكرى جميعها من مكونات القوة الناعمة للبلدان القوية، لكن العجيب أن مؤلف كتاب القوة الناعمة يؤكد أنها كلها ليست هى أقوى أدواتها للسيطرة، وأن السلاح الأقوى فى يد أمريكا هو عامل الهجرة المقننة، أى قدرة أمريكا على جذب العقول المتفوقة من سائر أنحاء البلاد إليها، وأنها كانت تتربع على عرش البلدان الجاذبة لهجرة العقول منذ زمن طويل ولم يباريها فى تلك المكانة سوى بريطانيا! فما الذى حققته هجرة الأفذاذ لأمريكا؟

 أول تلك المكاسب وأقواها هو ما حدث من اختراق لسياج الشيوعية المتين المضروب حول الاتحاد السوفيتى أثناء الحرب الباردة الطويلة.. فيؤكد جوزيف ناى أن برامج التبادل الطلابى مع الاتحاد السوفيتى آنذاك مثلت عاملاً حاسماً من عوامل تقويض وتفكيك دول الاتحاد من الداخل؛ إذ كان الطلاب العائدين من تلك البعثات على مدى عقود طويلة يفعلون فعل الفيروسات سريعة الانتشار بحيث استطاعوا فى سنوات قليلة من تغيير مزاج السوفييت كلهم من الخضوع لسجن الاشتراكية إلى البحث عن جنة الرأسمالية والحرية المطلقة التى تعد الناس بها زوراً أو صدقاً!

  ثم أن تلك العقول ذاتها أصبحت لبنة رئيسية لتحقيق التفوق التكنولوجى والعلمى والبحثى فى شتى المجالات العسكرية والاقتصادية، ولنا فى فاروق الباز وأحمد زويل عبرة، ولعل نظرة بسيطة فى إحصائيات الحاصلين على نوبل أو المكتشفين والمخترعين الأمريكان على مر السنوات ستؤكد حقيقة أن أغلبهم من المهاجرين الذين انصهروا داخل آلة الصناعة الأمريكية وحولوها إلى آلة جبارة سبقت سائر البلدان بتكنولوجيا صناعات متطورة لا نظير لها.

 ولعل أهم ما تحققه الهجرة الكثيفة لأمريكا قدرتها على السيطرة على أجيال قادمة من صغار السن الذين يتربون منذ البداية على الثقافة الأمريكية فيصيرون أول المدافعين عنها فى شتى المحافل!

كيف تحفر هاوية بإبرة؟!

 الصبر الطويل والعمل الدؤوب بلا كلل والتربص المكتوم بين طيات الضباب هى طريقة ماكرة مدروسة لتلك القوى المتسللة خلسة عبر قنوات الغزو الثقافى تنتظر اللحظة المناسبة لتلدغ بغتة!

 الآن تطورت أدوات التأثير والاختراق الثقافى بعد شيوع السوشيال ميديا وسهولة نقل الصورة والمعلومة المغرضة من خلال قنوات اليوتيوب والتيك توك والفيسبوك، لتزداد قدرة أصحاب الأجندات على الوصول إلى الجميع بضغطة زر؛ ليقوموا بحقن الأذهان بالأكاذيب والأضاليل، وتحريك النفوس بسيل من الشائعات والترهات، بينما الشباب مستسلمون لكل هذه الأجندات الخبيثة استسلام المنوَّمين!

 الخوف ليس على هذا الجيل وحده، وإنما أكثر على الأجيال القادمة التى ستنشأ وتتربى على مثل هذا الغثاء المنتشر فى كل مكان وعلى كل شاشة وخشبة مسرح. هناك هاوية يتم حفرها للأجيال القادمة وإن كانت تحفر بهدوء وصبر وأناة ودأب، فسيأتى اليوم لنكتشف أنها غير قابلة للردم.

القوة المفقودة

 نظرة سريعة حولك تكفيك لتدرك ما يحدث..

البساط ينسحب من تحت أقدامنا شيئاً فشيئاً.. لم نعد نحن رواد الإعلام فى المنطقة؛ بعد أن سبقتنا قنوات إعلامية أقل عمراً وأضعف تجربة واستطاع غيرنا الوصول للعالمية فيما تأخرنا نحن وانكفأنا على أنفسنا! وحتى مجال السينما لم نعد نحن الأوائل، بعد أن تعددت مهرجانات السينما فى المنطقة وباتت لعبة الإمكانيات المادية ولغة المال تتحدث لتفرض سطوتها، وتصبح السينما المغربية والإيرانية والتركية بديلاً عن السينما المصرية العريقة، بدليل غيابنا عن الجوائز السينمائية لمدة طويلة.

 حتى فى الآداب والفنون سبقنا الكثيرون إلى الصدارة، وانزاحت الجوائز الأدبية الكبري لتقع فى حجر دول عربية شابة، وحتى هذه الجوائز انصرفت أغلبها لفائزين من الأدباء غير المصريين!

 لم يحدث هذا فجأة، ولم يتم بمنأى عن النخبة المصرية . فالجميع يشاهدون ويراقبون مع عجزهم عن فعل شئ. لقد انتقلت مقاليد القوى الناعمة من مصر إلى غيرها من دول المنطقة. وهذا ينذر بغياب جزء كبير من قدرتها على التأثير ناهيك عن دور الريادة والتفرد.

 لفترة طويلة ظلت السينما المصرية هى الرائدة والأغنية المصرية هى السائدة، والإعلام المصرى هو المتصدر، والأدب المصرى هو أدب الجوائز والتميز والتفرد والرصانة، والصحافة المصرية هى المعلم الأول لكل المدارس الصحفية فى المنطقة. حتى جاء الوقت الذى تشوهت فيه تلك الصورة وتم استبدالها بصورة أخرى قاتمة تنحدر فيها القيم وتنسحق الأخلاقيات، ويتم الترويج من خلال السينما والدراما والأغنية لثقافة شعبية فى أدنى حالات الانحطاط والترخص والابتذال!!

 مثل هذا الإصرار على الاستمرار فى إضعاف القوى الناعمة لن يؤدى إلا إلى مزيد من انسحاب بساط الريادة والتأثير. ومزيد من قدرة الثقافات الغربية على اختراق العقول والأمزجة وعلى استمالة الأجيال القادمة لتبنى أجندات مغرضة ماكرة تحقق مصالح العدو لا مصالحنا نحن.وتجارب الغرب أثبتت أهمية امتلاك القوة الناعمة لتحقيق التوازن إلى جانب القوى الخشنة ولامتلاك القدرة على التأثير الفعال على الأمزجة والأفكار والعقول.

 المؤكد أن تاريخ مصر يشهد على قدرتها على التعافى السريع من أى ضعف يصيبها. ولا شك أننا قد فقدنا قوانا الناعمة أو بعضها، وأننا قادرون على العودة إلى امتلاك أدوات هذه القوة المؤثرة، لاسيما ونحن مائة مليون حافلون بالتنوع وحاملون لميراث حضارة عريقة.. فقط علينا أن نبدأ من حيث انتهى أصحاب الريادة والصدارة فى ميادين العلوم والأداب والإعلام والفنون.

***

عبد السلام فاروق

"أوبنهايمر" فيلم هوليودي مضلل وخَطِر يحاول تبرئة مجرمي الحرب في هيروشيما!

فيلم أميركي مُضَلِّل وخطر عن "أوبنهايمر" مخترع القنبلة النووية، تحاول هوليود من خلاله دفع الضحايا لتبرئة مجرمي الحرب وقادة الإبادة الجماعية في هيروشيما وكانتزاكي باسم التقدم العلمي! وقبل قراءة الفقرات أود التذكير بالآتي ليكون القارئ على معرفة ببعض التفاصيل ذات الصلة والتي لن يقترب منها في العادة المصفقون للفيلم ولهوليود ولأميركا للغرب بشكل روتيني وببغاوي:

* فحتى اليوم ماتزال دولة الولايات المتحدة الأميركية ترفض الاعتذار رسميا عن مجزرة الإبادة التي ارتكبتها في جزيرتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين واللتين قتل فيهما مئات الآلاف من الناس ومات بسببهما خلال عقود مئات آلاف أخرى بسبب التلوث الإشعاعي اللاحق.

* في المناهج التدريسية الأميركية يمنع التطرق لهذه الكارثة – القصف الذري لهيروشيما وناكازاكي -  والتعليق عليها في جميع المستويات بل وإذا حدث وتطرقت إليها فمن باب إنها عملية حربية مشروعة عجلت بإنهاء الحرب العالمية الثانية وإجبار اليابان على الاستسلام، وهذه كذبة فندها مؤرخون كثيرون من بينهم أميركيون وأوروبيون أكدوا أن القيادة اليابانية كانت على وشك الاستسلام وبدأت فعلا في مناقشة شروطه!3547 oppenheimer

* إن مجزرة هيروشيما وناكازاكي هي عملية ثأرية متخلفة وإجرامية قامت بها الدولة الأميركية ودفع ثمنها الشعب الياباني وهذا ما اعترف به الرئيس الأميركي ترومان لنقرأ "عندما وصلته الأنباء الرسمية بإسقاط قاذفة "بي 29" قنبلة ذرية فوق هيروشيما، ليصف ذلك بأنه أعظم شيء في التاريخ، معتبراً أن أميركا فازت بأكبر رهان علمي في التاريخ عبر تسخير القوة الأساسية للكون بانشطار الذرة، وأن هذا هو وقت القصاص من اليابان التي دفعت ثمن هجومها غير المبرر على قاعدة "بيرل هاربور" الأميركية عدة مرات وقتل الأسرى الأميركيين/ مقالة في جريدة الاندبنديت 6 آب 2021".

* أكثر من ذلك فإن الرئيس الأميركي ترومان نفسه قال ما يدينه تماما حين برر القصف الذري على اليابان بقوله "عندما تضطر إلى التعامل مع وحش، يجب عليك أن تعامله كوحش"، أي أن تكون أن وحشا تتعامل مع وحش!

* أما أوبنهامير مخترع هذا السلاح الفتاك والإجرامي فقد كشف إنه "خلال لقاء خاص مع الرئيس بعد فترة وجيزة من الحرب قال له بأنه يخشى أن تكون يداه ملطخة بالدماء، فطالبه ترومان بأن يتوقف عن القلق، لأنه هو وليس أوبنهايمر من أصدر القرار. م.س".

* ما يزال العالم حتى يومنا هذا يعيش تحت رعب التهديد النووي والإفناء الذري المتبادل بين الدول المتصارعة، وتمتلك هذه الدول ما يكفي لإفناء البشرية عشرات المرات! وما يزال الغرب الإمبريالي بزعامة أميركا وبواسطة التهديد بهذا السلاح المرعب يفرض هيمنته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية على الدول الفقيرة والنامية في جميع القارات ويفرض على الدول والشعوب الرافضة الحصار الشامل ويستهدفها عسكريا بالتدمير والقتل.

* في هذا الفيلم لم نرَ مشاهد قصف هيروشيما وناكازاكي وفظاعات ورعب الموت الجماعي للناس وجثثهم المحترقة هم وأطفالهم وحيواناتهم، والتبرير الذي طرحه أحد النقاد السينمائيين (لم يذكر المترجم قحطان المعموري اسمه أو اسم الجهة الناشرة في مقالة أخرى نشرتها المدى قبل يومين) والقائل إن مخرج الفيلم ربما لم يشأ أن يجعل الحرب جذابة بشكل غير مقصود! أما أن يكون الفيلم كله محاولة لتبرير وتبرئة مخترع السلاح ومستعمليه فهذا شيء مشروع في العقل الغربي الهوليودي كما يظهر!

* فقرات من مقالة نقدية جريئة ولا تتملق آلهة العنف والإرعاب الأميركية نشرتها جريدة الأخبار البيروتية يوم 1 آب الجاري بقلم أحمد ضياء دريدر: «أوبنهايمر» أو كيف تعلّمنا هوليوود أن نحبّ قتلنا الجماعي ونكفّ عن القلق! الفقرات أدناه:

*  بدأت تجربة القنبلة الذرية في صحراء لوس ألاموس فتنحبس الأنفاس. يتباطأ الزمن ويتوقف الصوت فلا تسمع إلا همساً؛ ووسط هذا الخشوع في حضور ميلاد أقوى أسلحة الدمار في ذلك الوقت (وأمام سلاح الدمار الذي سيحدد هوية العصر) نرى ضوءاً ساطعاً، ثم يعود الصوت ونسمع الانفجار مبشّراً بنجاح التجربة.

* قيل إن الجمهور في بعض بلادنا العربية قد وقف مصفّقاً عند هذا المشهد. تدعونا هوليوود دائماً للتماهي مع المستعمِر، ولكن هذه مرحلة جديدة من الانسحاق وانهزام الكرامة تجعل بعض الناس يصفّقون لجلّادينا ولقدرتهم على إبادتنا. هذا لا يمنع أن البعض الآخر من جمهورنا يعي جيداً أن أوبنهايمر هو مجرم هيروشيما وناغازاكي وأن هذا الاختبار الناجح كان بداية الجريمة.

* أمّا علاقتنا، نحن المشاهدين، بهذه النار فليست واحدة، بل تختلف بحسب علاقتنا بالمركز الإمبراطوري: النار التي تنير لهم هي النار التي تحرقنا. وإذا ما قرئ مشهد تفجير القنبلة التجريبية، وقرئت النار التي طغت على آخر المشهد، بروميثيوسيا تصبح هذه النار وتصبح الرهبة التي تبثها في المشاهد علامة من علامات هذه القدرة البشرية المتطورة؛ بينما إذا قرأناه في ضوء المجزرتين في هيروشيما وناغازاكي وفي ضوء القدرة السياسية التي أعطاها لأصحاب القنبلة، فلا نرى في النار سوى أشلاء الأبرياء وهي تحترق – لا أشلاء اليابانيين الذين أصابتهم القنبلة بشكل مباشر فحسب، ولكن أشلاء الذين أحرقتهم أميركا في حروب أخرى بقدرات تكنولوجية مماثلة أو مختلفة وبقدرة سياسية تستند في ما تستند إلى هذه القنبلة.

* يمر حوار الفيلم عرضاً على حجم المأساة في اليابان (من دون عنصر بصري واحد). لكنّ الاستعارة البروميثيوسية، مع تقطيع المشاهد وقفزها ما بين المستويات الزمنية بشكل يضع الثقل الدرامي على ما عاناه أوبنهايمر من بعد القنبلة على يد رئيسيه/غريمه في هيئة الطاقة الذرية وعلى يد البارانويا المكارثية، كل ذلك يجعل أوبنهايمر، كما قال له أحد أشخاص الفيلم، يلاقي عقوبة بروميثيوس -الذي تقول الأساطير إن الآلهة قد عاقبته على المعرفة التي منحها للبشر بأن قيّدته إلى جبل لتأكل العقبان من كبده بالنهار ثم تنمو كبده بالليل لتأكلها العقبان في اليوم التالي. يريد لنا الفيلم أن نظن أن أوبنهايمر قد عوقب وأنه عوقب جزاء الجميل الذي أسداه للبشرية. بينما الحقيقة هي أنه كان مجرماً وأن ما عاناه من جراء الخلافات الداخلية الأميركية، التي يفرد لها الفيلم ثلثاً كاملاً ولا يخلو ثلثاه الآخران منها، وأن هذه الخلافات الأميركية الصغيرة والتافهة لا ينبغي أن تعنينا إلى هذه الدرجة.

* في مشهد تالٍ قريب نرى جمهوراً يلوّح بالأعلام الأميركية ابتهاجاً بالمجزرة ويهتف لأوبنهايمر والقنبلة، ونرى أوبنهايمر واقفاً على المنصة يتلقّى التكريم ثم يباغته الندم فيتخيل كما لو أن القنبلة الذرية قد أصابتهم هم ويرى كل من حوله وهم يحترقون أو يفرون بحثاً عن ملجأ.

* نرى خلال الفيلم أوبنهايمر وهو يريد أن يتعذب ليكفّر عن ذنبه، ونراه مزهواً لأنه اخترع اختراعاً أنهى الحرب وكان من شأنه، بحسب رأيه، أن يمنع الحروب الأخرى. وفي الحالتين تُتخطى دماء اليابانيين ليصبح العالِم الأميركي، بزهوه أو بعذابه النفسي، سيد المشهد.

* في زملاء أوبنهايمر الذين وقّعوا عريضة تطالب بعدم استخدام القنبلة، خاصة وقد أوشكت الحرب على الانتهاء -في مقابل أوبنهايمر الذي كان يتستر بحياد العلم ليشارك في ارتكاب جريمة العصر. وكانا هناك في رفاق أوبنهايمر القدامى من اليساري- الذين تنصّل هو منهم، والذين حاول بعضهم تسريب سر القنبلة إلى السوفيات لكي لا تستأثر قوة واحدة بهذا السلاح المدمّر، في مقابل وشاية أوبنهايمر بهم.

* هاتان النقطتان لم تفيا الفيلم حقهما؛ فبينما بدت عريضة العلماء هامشية، فإن الفيلم قد أسقط تفصيلة مهمة، إذ لم يكن توقّع استسلام اليابان محتوماً فحسب، بل كان اليابانيون قد بدأوا بالفعل في مناقشة شروط الاستسلام وكان العائق الوحيد هو إصرار الأميركيين على أن يكون الاستسلام «دون قيد أو شرط».

* ولكن تنكّر أوبنهايمر لهذا اليسار الأخلاقي لم يبدأ حين وشى بعضو الحزب الشيوعي الذي كان يريد تسريب الأسرار للسوفيات. فعندما بدأ «مشروع مانهاتن» لإنتاج القنبلة الذرية كان على أوبنهايمر أن يقطع صلاته بأعضاء الحزب الشيوعي (بمن فيهم أخوه) وأن ينحّي كل العلماء من ذوي التوجهات اليسارية من فريقه بعد أن يكون قد أدار ظهره لتوجهاته هو اليسارية.

* يجعل الفيلم من إدارة أوبنهايمر ظهره لمبادئه استقلالاً وفردية، ويجعل من تنكّره لزملائه خدمة وطنية، ويساق الهولوكوست بشكل غير أمين في المشهد الذي يتنكّر فيه لزملائه ليبدو كما لو أنه تنكّر لهم ليتسنّى له إنقاذ بني دينه من المحرقة، لا ليصبح إله القتل كما تشي الصلاة الهندوسية الشهيرة التي قيل إنه ردّدها بعد نجاح التجربة: «ها قد أصبحتُ الموت؛ مدمرَ العوالم».

 * الفيلم، فنياً وعلى مستوى التمثيل والحبكة والرواية متوسط - ربما باستثناء بعض المشاهد التي يستعرض فيها المخرج براعته التقنية/السنماتوغرافية. وعناصر الفيلم لا ترتقي إلى مستوى الأسئلة التي يطرحها حدث مثل اختراع القنبلة الذرية واستخدامها. وحكايته تهرب من الأسئلة المصيرية إلى تفاصيل محلية أميركية جانبية تتعلّق بالشد والجذب في ما بين الأطراف المختلفة هناك وبمسألة الولاء لأميركا، ومحاولات تسويقه كأهم أفلام القرن ما هي إلا محاولات لفرض تفاهات المركز الإمبريالي وأسئلته الفرعية على سائر العالم.

* * * 

علاء اللامي

......................

* رابط يحيل الى النص الكامل للمقالة النقدية وهي للناقد أحمد ضياء دردير:

https://al-akhbar.com/Opinion/366516/

حلت علينا قبل يومين ذكرى كارثة غزو الكويت في الثاني من أغسطس 1990م، هذه الكارثة التي مزقت الأمة العربية سياسيًا، ومزقت معها ما تبقى من حديث ومشاعر لمفهوم الأمن القومي العربي.

فقد كشفت هذه الكارثة حجم المراهقة السياسية والسطحية المُعيبة لدى النظام الرسمي العربي أولًا، ثم كشفت حجم التراكم الانتقامي والأحقاد بين قيادات ومكونات النظام الرسمي العربي، والذي نقلها بدوره كسلاح حاد يتناقل مفرداته الرأي العام، فحقق بذلك قطيعة كبرى وأحقاد مجانية بين الشعوب الشقيقة بفعل توظيف مخزون الكراهية والتضليل في تفاصيل الأزمة لدعم هذا الموقف أو ذاك.

كما كشفت كارثة غزو الكويت حجم القطيعة بين النُظم الرسمية والشعوب، والتي تفاجأت بكل الكارثة وتفاصيلها واصطفافها القهري بجانب هذا الموقف أو ذاك.

اليوم وبلغة العقل المُجرد من أي مؤثرات عقلية أو تضليل سياسي أو إعلامي، وبحجم المُعطيات والنتائج على الأرض والتسريبات التي تلت سنوات الكارثة ومازالت، يمكننا تحليل ما حدث وما كان يُفترض أن يحدث بوعي تام، ليس حبًا في نكئ الجراح بل حبًا في استخلاص العبر. لا شك عندي أن كل من العراق والكويت تم استدراجهما من قبل قوى كبرى ترغيبًا وترهيبًا للوقوع في المحظور، وبالتالي اكساب الغرب ذريعة التدخل والتواجد بشكل شرعي وقانوني في أرض العرب، وبالتحديد في إقليم الخليج وما يعنيه ذلك في فصول الحرب الباردة وفي مفردات الأمن القومي للكيان الصهيوني.

دولة بحجم الكويت لم تنجح في قراءة ما يراد لها وبها من القيام باستفزاز النمر العراقي الجريح من حرب عبثية مع الجارة إيران والتي أتت على الأخضر واليابس في كلا البلدين، والعراق في المقابل لم تنجح قيادته - والتي أصيبت بكل أعراض الجهل السياسي لحظتها – في قراءة الضريبة الكبيرة التي ستدفعها نتيجة خروجها من الحرب بجيش مُمارس وكبير في عدته وعتاده وخبراته القتالية، وخطورة ذلك على الكيان الصهيوني ومستقبله. هذا الجيش العربي العراقي بعقيدته القتالية والتي نُسجت لحماية كل ذرة تراب عربية، وقد ترجمها في دفاعه عن فلسطين في نكبتها، وعلى أرض الجولان السورية، وعلى أرض سيناء المصرية، يجد نفسه فجأة وبأوامر عليا من قيادته على أرض عربية ومطلوب منه احتلالها !!

الجيش العراقي وبحسب كلام الفريق أول الركن أياد فتيح الراوي قائد الحرس الجمهوري، وأيده في ذلك عدد من كبار القادة العسكريين في مذكراتهم وتصريحاتهم بعد سقوط النظام والدولة عام 2003، كان يقوم بعمليات استطلاع عسكري وجمع معلومات عن الكيان الصهيوني لمدة أربعة شهور من بلد مجاور لـ فلسطين المحتلة قبل احتلال الكويت بشهور قليلة، وتوقفت العملية بعد انكشاف امرها من قبل الصهاينة وحلفاءهم، وكانت العملية بقصد الهجوم على الكيان والثأر لمفاعل تموز النووي العراقي والذي دمره الكيان الصهيوني، اضافة الى تحرير أراض فلسطينية تم احتلالها في الخامس من يونيو 1967م بحسب الرواية.

هل كانت القيادة العراقية تتوقع مكافأتها والسكوت على فعلتها هذه دون عقاب؟! ألم تُدرك هذه القيادة لاحقًا بأن الكويت كانت طُعم للعراق لاستنزافه وتدمير قوته العسكرية وحرف جُهد المعركة عن جبهة الكيان الصهيوني وجعلها في العمق العربي بكل تداعياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وكما حدث بالتفصيل!! ألم تُدرك في المقابل دولة الكويت بأن دورها المرسوم في استفزاز العراق سيجعلها تدفع الثمن غاليًا ولأجيال وعقود قادمة؟! بعقل ووعي اليوم وقع البلدان في فخ كارثي وبلعا طُعمًا سياسيًا كان يُمكن تداركه بقليل من الحكمة والقراءات العقلانية الصحيحة، ولكن دفع الوطن العربي برمته الثمن من أقصاه الى أقصاه، بفعل سيادة وتسلط عقلية البُعد الواحد الكارثية في النظام السياسي العربي.

أعود الى تكرار قناعتي بالقول إن النظام الرسمي العربي لم يحسم قناعته بعد بالتعرف وبتعريف ماهية الكيان الصهيوني لدى الغرب، والوظيفة المناطة به بزرعه في قلب الأمة، ولا الاستراتيجية الغربية البعيدة لنمو وتسيد وقيادة هذا الكيان للأمة العربية وتقرير مصيرها تحت شعار ومسمى الشرق الأوسط الجديد.

قبل اللقاء.. أتذكر دائما عبارة طارق عزيز من سجنه حين قال لمحاوره: مشكلة العراق أنه كان يعاني من ضعف شديد في قيادته منذ عام 1990؛ فالقيادة في العراق بعمومها لا تقرأ وغير مثقفة، وتدير الدولة وتحلل السياسات والمواقف من خلال تقارير قطاعاتها فقط.

وبالشكر تدوم النعم.

***

علي المعشني

جاء في الحديث الشريف: "علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل". وقيل: "العقل السليم في الجسم السليم ". أجل، الرياضة البدنيّة تحافظ على سلامة الجسد، وتنشّطه وتقوّيه وتمرّنه على مجابهة الصعاب وما تعترضه من طواريء ثقال. ولها أيضا أثرها الإيجابي على الخلايا الدماغيّة والكريّات الدمويّة والإدراك والذكاء والسلامة العقليّة. أمّا وقد تحوّلت الرياضة إلى حرفة تجاريّة (الاحتراف)، وبيع وشراء بملايير الدولارات والأوروات والجنيهات، فالأمر يدعو إلى الوقوف وقفة تأمّل وتعجّب وتساؤل. ومن بين هذه الرياضات، رياضة كرة القدم (الفوت بول). لقد استولت هذه الرياضة الشعبيّة على عقول قطاع واسع من الجماهير، فصار لها أنصارها بالملايين، وأضحت تُشيّد لها الملاعب الفخمة، وتُرصد لها ميزانيّات ضخمة من لدن الدول الغنيّة والفقيرة والناميّة والمتخلّفة حسب احتياجاتها، كما باتت تقام لها بطولات وكؤوس ودورات عالميّة وإقليمية ووطنيّة ومحليّة، وتسخّر لها وسائل الاتّصال المختلفة؛ من قنوات وجرائد ومجلات، وغيرها.

لكنّ، العجب العجاب، ما يحدث في سوق انتقالات اللاعبين في لعبة كرة القدم (الفوت بول) بلغة الانجليز، مخترعي لعبة (الجلد المنفوخ). دول في حاجة إلى التنميّة الاقتصادية والاجتماعيّة والتربويّة والأخلاقيّة، وإلى نهضة فكريّة وعلميّة تبعا لسيرة الأسلاف الذين شيّدوا أعظم حضارة إنسانيّة، بينما نواديها الرياضيّة تنفق ملايير الدولارات على شراء لاعبين وجلبهم إلى الدوريات المحليّة في سباق محموم لم يشهده التاريخ المعاصر.

من أجل ماذا كل هذه النفقات الباذخة والعروض السخيّة؟ ألا يدعو ذلك إلى الدهشة والتساؤل حول ماهيّة الفوائد التي ستجنى من جرّاء ذلك؟ لاعبون، انتهت صلاحيتهم في أنديتهم الأوروبيّة، يجنون، بين عشيّة وضحاها، في أنديّة عربيّة خليجيّة، أضعاف ما جنوه طوال مسيرتهم الرياضيّة في أوروبا.

لو كان الأمر متعلّقا بإبرام عقود وشراء براءات اخترع لعلماء في الغرب والشرق، في مجلات العلوم والتكنولوجيا، لكان الأمر محمودا ومرغوبا فيه. لكنّ أن تُهدر تلك الأموال الطائلة من أجل عيون جلد منفوخ، فإنّ ذلك السلوك ينمّ عن انحراف أخلاقي، وعن غياب الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة والمفيدة.

كان الأولى، ونحن كخير أمّة أُخرجت للناس، أن نوجّه تلك الأموال الطائلة، التي سلبها منّا جنون الجلد المنفوخ، إلى التنميّة البشريّة، وإعادة بريق حضارتنا الإسلاميّة الآفلة منذ القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.

قد يقول قائل، لقد أصبحت كرة القدم هوسا كونيّا، وأكثر الرياضات شعبيّة بين الجماهير تشدّ لها ملايين البشر في العالم، كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا، تقيم لها الأفراح وترتحل من أجلها مدينة إلى أخرى، ومن من بلد إلى آخر. وأكثر من ذلك، لقد صارت أفيون الشعوب في الجنوب خاصة. فلو أخذنا مثلا الظاهرة " الأفيونيّة " لدى مجتمعات في القارة الإفريقيّة أو أمريكا اللاتينيّة أو بعض دول في آسيا، لصدمتنا الحقيقة المرّة ؛ شعوب تتنفّس كرة القدم (الجلد المنفوخ)، بينما مستوياتها المعيشيّة وأوضاعها السياسية ومنظومتها الصحيّة والتعليميّة والثقافيّة غارقة في وحل التخلّف. ممّا أوعز إلى الأنظمة الاستبدادية والديكتاتوريّة استغلال العشق والهوس الجماهيري للكرة، وتحقيق الانتصارات المحليّة والإقليميّة والدوليّة، لمخادعة تلك الجماهير، والتغطيّة على مشاكلها اليوميّة الحادة، واستغلال مشاعرها الكرويّة.

و أصبحت ضمن مخططات التنميّة الشاملة، وجزءا من سياسات الدول في الغرب. لكنّ هذا في الغرب، الذي يشهد تطورا وازدهارا واكتفاء وفائضا ورخاء في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعيّة والتعليميّة، لا يشكو فيه المواطن من نقص أو انعدام ضرورات الحياة المعيشيّة اليوميّة، ولا يعاني من شحّ في المياه والغذاء وضعف في الكهرباء والاتّصالات والمواصلات، وبالمجمل في ضعف البنية التحية، كالموصلات بمختلف أشكالها، وضعف المنظومة الصحيّة والتعليميّة وهجرة الأدمغة وهوان المعلّم وتهميش العلماء....

قد يقول قائل أيضا، إنّ الاموال التي تدفعها تلك الأنديّة الثريّة، هي ملك خاص لها، ولم تُؤخذ أو تُمنح من الخزينة العموميّة. وهي أموال رجال أعمال مساهمين في النوادي. وهي أموال مجنيّة ومردودة من أثمان الإشهارات وتسويق أقمصة تلك النوادي للجماهير والمحبين وتذاكر الملعب وجوائز البطولات والكؤوس المحليّة والإقليمية والدوليّة، وغيرها من المصادر. لكنّ هناك، في بعض الدول النفطيّة خاصة، قد أبرمت بعض نواديها عقودا تمويليّة مع شركات وطنيّة كبرى، مقابل كتابة (لوغواتها) على أقمصة اللاعبين وعلى لوحات الملعب المملوك للنادي أو البلديّة. أمّا النوادي غير المرتبطة بشركات كبرى، فإنّها تغرف المليارات من خزائن الشعب، وكلّها أموال تصبّ في حسابات اللاعبين المحليين والأجانب (المحترفين) والطواقم الفنيّة الوطنيّة أو الأجنبيّة، وتُنفق في المنح والأكل والشرب والنقل والمبيت في أرقى الفنادق، وربّما في شراء المقابلات الحاسمة، أو دفع رشاوي للحكام أو اللاعبين أو رؤساء النوادي.

كان من الأجدر والأفيد، ونحن أمّة تعاني أزمات فكريّة واقتصاديّة وسياسيّة وحضاريّة، أن نعتني بالرؤوس العارفة لا الأقدام اللاعبة، وتُخصّص تلك الأموال التي ملأت جيوب اللاعبين الأجانب – دون فائدة – لحلّ أزماتنا، وتمويل مراكز الترجمة والبحث العلمي والفلسفي، وشراء عقود وبراءات اختراعات العلماء العرب والمسلمين والغربيين من أجل إنجاز وثبة حضاريّة على منوال أسلافنا في العصر عبد الله المأمون (170 هـ -218 هـ)، حين كانت الترجمة رائدة، وكان الخليفة المأمون يعطي المترجم وزن الكتاب ذهبا. بينا اليوم، أمست لعبة (الجلد المنفوخ) غاية كل شاب يرجو الغنى والشهرة. وأمسى اللاعب (من اللعب) المحترف (من الحرفة) علما وسيّدا وشخصيّة وطنيّة مُكرّمة لا يضاهيها معلّم أو عالم أو مفكّر أو سياسيّ محنّك في المال والشهرة. أليس ذلك من عجائب هذا العصر البراغماتي المتوحش؟

وقد يقول قائل، إنّ الأوربيين هم السبّاقون في هذا مضمار الاحتراف الكروي، وهم الذين أوجدوا هذه السوق المجنونة. فما العيب أن نسايرهم أو نسير على سنّتهم. وهذه حقيقة يراد بها باطل. إنّ الأولويات عندهم منجزة ومكتملة، أمّا نحن فما زلنا في طور معالجة مظاهرالتخلّف وآثاره على الفرد والجماعة، وعلى البنيّة الماديّة والنفسيّة، التي خلّفها الاستعمار الصليبي غداة دحره وجلائه عن بلداننا. ثم، نحن لسنا مجبرين على دخول جحر دخلوه، واتّباع سننهم شبرا شبرا. فأوضاعنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة لا تسرّ الناظرين. إنّ معلّمنا وأستاذنا الجامعي وباحثنا وطبيبنا ومهندسنا وفلاّحنا وموظّفنا الإداري وشرطينا ودركينا وجنديّنا وأدمغتنا المهاجرة إلى بلاد الغرب، كلّ هؤلاء في حاجة إلى رعاية وعناية لتوفير عيش كريم، لا تشوبه خصاصة ولا حاجة ماديّة.

تُهدر أموال طائلة، أو بلهجة الجزائريين (شكاير) من الأموال (بمعنى كيس طحين وزنه قنطار)، ونحن في حاجة إلى مستشفيات ومصحّات عصريّة، ومواطنينا يعالجون في مستشفيات أجنبيّة خارج الحدود. فلاحونا يعانون من نقض فادح في المعدّات والآلات الفلاحيّة الإنتاجيّة (معدّات الحرث والبذر والجني والحصاد). تُهدر الأموال الطائلة في شراء اللاعبين (المشهورين) بعد نفاد صلاحيتهم في أوروبا، والمواطن العربي المقهور، النازح واللاجيء، في اليمن وسوريا والسودان وفلسطين المحتلة يتضوّر جوعا وعطشا ويواجه ظروف الطبيعة، من حرّ في الصيف، وقرّ في الشتاء بوسائل عصر ما قبل التاريخ. فإذا كان الغرب الصليبي قد هبّ لنجدة ساكنة أوكرانيا بمئات الملايير من الدولارات، ووفّر لها الغذاء والدواء والسكن والخيّم، وغيرها من الضروريات والكماليات، فإنّ المواطن العربي في بعض الأقطار العربيّة، قد وقع ضحيّة الحروب والكوارث الطبيعيّة، لم يجد ما يسدّ به رمقه، بل فنيّ وهر حيّ، وقد افترش التراب والتحف السماء، ينتظر خروج النفس من الجسد ورجوعها إلى ربّها...

و خلاصة القول، ألا تبّا للعابثين بأموال الشعوب، من أجل جلد منفوخ تتقاذفه الأقدام والرؤوس، وتُدفع من أجله ملايير الدولارات.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

مفاوضات حول معاهدة عام 1922

فرضت سلطات الاحتلال البريطاني مع الكتل الإقطاعية - البرجوازية الكومبرادورية التي التفت حول الحكومة المؤقتة، تنصيب الأمير فيصل بن حسين وهو المعروف بولائه لبريطانيا، على عرش العراق واعتبار 23 آب 1921 يوم تتويج الملك، حيث اصبح العراق مملكة خاضعة. (1) كانت هذه الحكومة تمثل مصالح الاحتكارات الاجنبية والكومبرادورية والاقطاعيين.

فقد جعلت ثورة 1920، الاحتلال البريطاني يفهم جيداً، أن ما تحقق من نجاح عسكري غير ثابت إلى حد كبير يتطلب العمل من أجل تهدئة البلاد إلى استخدام اساليب اخرى جديدة. (2)

اعتبرت بريطانيا تأسيس الحكم الملكي في العراق الخطوة الأولى في نجاح سياستها الانتدابية. (3) بعد أن استطاعت سلطات الانتداب من إرجاع " برسي كوكس" على جناح السرعة الى بغداد، وبدأت تراجعات شكلية في أسلوب الإدارة وشكل حكومة مؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب وتحت إشرافه.

وشرعت سلطات الانتداب بالمفاوضات لعقد معاهدة تكرس الاحتلال بطريقة جديدة وكانت تجري هذه المفاوضات بصورة سرية بين الحكومة برئاسة عبد الرحمن النقيب الموالية لبريطانيا وممثلي سلطات الانتداب. كانت تتسرب بعض المعلومات من داخل الاجتماع إلى سمع الرأي العام العراقي رغم سرية المفاوضات.

تحركات المعارضة ضد معاهدة عام 1922

أثارت سياسة سلطات الانتداب موجة عارمة في صفوف الحركة المناوئة للاستعمار البريطاني في البلاد.

بدأت المعارضة العراقية بتنظيم الاجتماعات والمظاهرات وعرائض الاحتجاج وإرسال البرقيات الى الملك ورئيس الوزراء العراق والى الحكومة البريطانية.

وقد جاء في أحد المواثيق التي قدمها المعارضة العراقية في الفرات الاوسط الى السلطات البريطانية تطالب رفض الانتداب وإعلان بريطانيا بإلغائه رسمياً، واطلاق حرية الصحافة لكي يتمكن الجماهير التعبير عن آرائهم في المفاوضات التي كانت تدور بين الحكومة العراقية الموالية وسلطات الانتداب البريطاني في عام 1922. (4)

وعلى اثر تعاظم الحركة المناوئة لسلطة الانتداب البريطاني فقد أصدر وزير الداخلية بيانا منع فيه الاجتماعات السياسية رداً على المظاهرات التي عمت في بغداد والتي أرعبت سلطات الانتداب والحكومة الموالية لها. (5)

فقد تحولت المظاهرات والاجتماعات الحاشدة التي بدأت منذ ربيع 1922 الى حركة جبارة في الثالث والعشرين من آب في العام نفسه، حيث قرر الحزبان العراقيان: (الحزب الوطني العراقي) و(حزب النهضة) توحيد مساعيهما للمطالبة بحقوق الشعب وكانت المظاهرات الصاخبة مستمرة وكانت من أهم الشعارات التي رفعت في هذه المظاهرات تنادي بسقوط الانتداب وخروج بريطانيا من العراق.

قام المندوب السامي باتخاذ الإجراءات لضرب الحركة الوطنية العراقية وألغي الحزبين ولم يمض على إجازتهما وابعد قادتهما الى جزيرة هنجام وعطل جريدتي المفيد والرافدين ونفى صاحبهما. وأرسل سرباً من الطائرات تقصف مدن وقرى الفرات الاوسط، فدمرت البيوت والأكواخ وأحرقت الزرع والحيوانات كما فصل عدد كبير من الموظفين.

رغم جذرية مواقف الحزبان من الانتداب إلا أن نشاطهم لم يكن مرتبطة بالحركة الجماهيرية

الشعبية. مما حدى بالمندوب السامي البريطاني الى الاسراع في وضع حد لقادة الحركة الوطنية الداعية إلى الاستقلال والمعادية للانتداب ونفي اكثر الوطنيين نشاطاً. وبذا قضى على انتفاضة الشعب ظاهرياً.

وفي التقرير الذي كتبه (بيرسي گوکس) والتي بعثتها (مس بيل) إلى والدتها، والتي نشرتها في الكتاب الذى يضم رسائلها، وصف الظروف التي وقعت فيها هذه الأحداث بأنها

(ظروف مضطربة، وأن اليوم الثالث والعشرين من شهر آب سنة 1922 كان يوماً صاخباُ بالاضطرابات والمظاهرات وأن ولاية بغداد وعشائر الفرات كانا على شفا ثورة. كانت معالمها تدل على أنها لن تكون أقل خطورة عن تلك التي قامت في ثورة العشرين، منظمة من العناصر نفسها.) (6)

عقب الإجراءات القمعية التي أقدمت عليه المندوب السامي وفي ظل انعدام الحريات والتعبير عن الرأي، فقد صادقت الوزارة النقيبية الثالثة على المعاهدة في 10 تشرين الأول 1922 على أن تعلن نشرها في لندن وبغداد في اليوم الثالث عشر من الشهر نفسه. (7)

لم يكن المعاهدة إلا صورة من صك الانتداب، بل جَاءَتْ مفصلة وما حواها من صك الانتداب ولا تعتبر اشد وطأة مما جَاءَتْ في المعاهدة وملحقاتها.

فإن الاتفاقيات التي الحقت بالمعاهدة كانت تستهدف التركيز على نفود التركيز على نفوذ بريطانيا وسيطرتها العسكرية وتكبيل العراق بصعوبات مالية لا يقوي عليها، الى جانب ربط البلاد بموظفين بريطانيين مدنيين (8)

وقد نصت المعاهدة على أن تسترشد الحكومة العراقية بنصائح المندوب السامي البريطاني بشأن القضايا الدولية والمالية، وإصدار دستور للبلاد بحيث لا يتناقض مع مواد المعاهدة، وعلى أن تحتفظ بريطانيا بقواتها في العراق. (9)

الحركة الجماهيرية تنهض من جديد

بدأ نهوض جماهيري جديد ضد محاولات المندوب السامي البريطاني والحكومة المتعاونة معه لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي الذي كان عليه أن يبرم معاهدة عام 1922.

لم تظهر أي رد فعل عن قادة الحركة الوطنية المعارضة بعد إعلان المعاهدة والشروع في الانتخابات ما عدى صدور نشرة سرية وقعت تحت اسم الاجتماع الاستثنائي للأحزاب السرية العراقية تشترط عودة الحياة الحزبية بعودة المنفيين من الخارج وترفض اجراء الانتخابات في هذه الفترة وتدعوا ابناء الشعب العراقي الى مقاطعة الانتخابات، وطالب إجراء الانتخابات بعد شهرين بعد أن يتم تنفيذ مطاليب الشعب العراقي وابطال المعاهدة كلياً (10)

ولكن رجال الدين لعب دوراً هاماً في هذا المجال. فقد دعا رجال الدين الشيعة برئاسة مهدي الخالصي الى مقاطعة الانتخابات والذى استجابة اليه رجال الدين من الطائفة السنية ودعمه من رجال الدين المسيحيين. (11)

كما قدم رجال الدين المطالب التالية: -

1 - إلغاء الإدارة العرفية (اي الغاء سياسة الإرهاب).

2 - اطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات.

3 - سحب المستشارين من الألوية.

4 - إعادة المنفيين السياسيين إلى وطنهم

5 - السماح بتأليف الجمعيات. (12)

الحركة الطلابية تأخذ زمام المبادرة

فقد خلقت غياب القيادات السياسية النشطة للحركة الوطنية في البلاد بسبب الضربة التي وجهت لهم وإبعادهم إلى " جزيرة هنجام " فراغاً سياسيا في مجابهة مخططات البريطانية لتكريس الاحتلال للعراق بأشكال أخرى. من هنا تكمن أهمية دور الطلبة والطبقة الوسطى في الحركة الاستقلالية المناهضة للانتداب. وكان الطلبة في مركز الصدارة من بين المعارضين في الحركة الاحتجاجية المناهضة للانتداب البريطاني. وما ان اعلنت المعاهدة حتى تلقاه الطلبة بالرفض والسخط الشديدين.

وبدأ الطلبة كسائر المثقفين في عقد الاجتماعات لمناقشة المعاهدة وابعادها لما فيها من قيود تكبل الشعب العراقي وأنها ليست أقل وطأة من الانتداب والتنديد بها. (13)

وقد أقدمت الطلبة حملة دعائية واسعة في المقاهي والأسواق والجوامع على تحريض وتعبئة الجماهير الشعبية ضد معاهدة 1922 وقد جاء في تقرير الاستخبارات البريطانية بأن " جميع الأهالي في المقاهي والأسواق كانوا ينتقدون المعاهدة وكان التركيز يدور حول المواد 4، 8، 12.. ويذكر التقرير نفسه " أن بيان الملك قد لاقى ترحيباً من المعتدلين بينما لم يلاق ذلك الترحيب عند اليسار المتطرف. (14)

كما ساهم الطلبة في الاجتماع الحاشد الذي عقد في مدرسة الشيخ مهدي الخالصي والذي ندد الشيخ بالمعاهدة واعلن قائلاً: " بايعنا فيصل ليكون ملكاً على العراق بشروط وقد أخل الملك بتلك الشروط فلم تعد له في أعناقنا وأعناق الشعب العراقي أيّة بيعة. (15)

لقد حظيت فتوى رجال الدين حول مقاطعة الانتخابات بمساندة وتأييد تلاميذ المدارس الدينية والحديثة وبقية الفئات المتوسطة من السكان في بغداد وبقية أنحاء العراق وخاصة في المناطق الوسطى والجنوبية.

كان طلاب مدرسة التفيض الأهلية في بغداد أول من استجابة لدعوة رجال الدين لمقاطعة الانتخابات. ولعبوا دورا هاماً ومؤثراً في تحريض وتحريك الجماهير الشعبية لرفض المعاهدة وعدم المساهمة في الانتخابات وقاموا بمقابلة رجال الدين وأخذوا منهم الفتاوى واستنساخها على الكاربون وجرى توزيعها على أبناء الشعب في كافة انحاء العراق.

عندما أعلنت الحكومة الموالية للاحتلال البريطاني قرارها في الشروع في الانتخابات، فقد تحرك طلاب المدارس في الكاظمية بشكل واسع بشكل واسع وقاموا بحملة دعائية واسعة في سبيل مقاطعة الانتخابات المزمع عقده لتشكيل المجلس التأسيسي الذي كان عليه أن يبرم المعاهدة فيه. (16)

كما عبر الطلبة عن احتجاجهم ورفضهم للمعاهدة من خلال تنظيم تظاهرة، حيث تجمعوا أمام دار رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب، يتقدمهم نشطاء الطلبة كل من الطلاب عبد الفتاح ياسين، حسين جميل، وعبد القادر اسماعيل ومحمد حديد، فخرج إليهم بنفسه من شرفة داره وصاح بهم (باسم من تحتجون) فأجابوا (باسم البلاد) فرفع عصاه قائلاً:

* من أنتم لتحتجوا، انا اعلم منكم بحاجة البلاد واغراضها، عودوا إلى بيوتكم. * (17)

لقد اكتسب مقاطعة نطاقاً واسعاُ بالرغم من نفي بعض قادة الحركة الوطنية ورجال الدين وعلى رأسهم مهدي الخالصي.

اتخذ مجلس الوزراء قراراً على أن يبدأ الشروع في الانتخابات في 24. 10. 1922 إلا أن المقاطعة الواسعة عرقلت مسيرتها، بحيث لم يتم انتخابات النواب إلا في 25.2.1924، أي بعد سنة وأربعة أشهر من الموعد المقرر سابقاً بعد أن اتخذت الحكومة بعض الإجراءات القمعية من أجل إنهاء حركة المقاطعة. (18)

ان هذه الاجراءات لم تثني الجماهير، بل ازداد من عنادها واستمر في نضالها حتى انعقاد المجلس التأسيسي مما حدى بسلطة الانتداب والحكومة الموالية لها الاستجابة إلى مطاليب الحركة المعادية للانتداب فيما يتعلق بالنفي، فقد سمحت لبعض قادة الحركة الوطنية بالعودة الى البلاد وبشكل تدريجي بعد أن طلبوا منهم نبذ العمل في السياسة. (19)

بدلاً أن ينهمك القيادات السياسية للبرجوازية الوطنية بعد عودتهم في محاولة لاستعادة قواها وتنظيماتها بعد الضربة التي ألمت بها من جراء الحملة الإرهابية الشعواء في مظاهرات (آب 1922). إلا أنه برزت خلافات وصراعات حول المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها وبل انهمك قسم منهم في التمتع بوظائف الدولة. (20)

مع هذا لم تستطع السلطة ومن ورائها من جمع المجلس التأسيسي لإبرام المعاهدة إلا في أيار 1924.

مع اشتداد الصراع السياسي والخلافات بين أطراف قادة الحركة الوطنية حول شكل وأسلوب النضال المعادي للانتداب، لم يكن بمقدور الطلاب أن يقف على الهامش ويلعب دور المشاهد.

بينما كانت سلطة الانتداب والحكومة الموالية لها تعد الترتيبات لعقد اجتماع المجلس التأسيسي التي كانت عليه ابرام المعاهدة فيه. فقد تم التنسيق بين الفئات المختلفة من المثقفين من طلاب الحقوق والمحامين وأساتذة المدارس والشباب المتعلم من جهة وبين رجال الدين من جهة اخرى ليكون المتحدثين باسم جماهير الشعب العامل والتي تناضل ضد الانتداب بعد غياب الأحزاب الوطنية. وبدأت العمل من اجل اقامة المظاهرات والاجتماعات، واصبحوا يعتقدون انه لا مفر من النضال في إعلان سخطهم وغضبهم على المعاهدة الجائرة والمطالبة بتعديلها لكي يحفظ للعراق استقلاله التام، وقد ساندتهم في ذلك بعض الجرائد المعارضة. (21)

عقد محامو بغداد اجتماعاً في بناية بناية "رويال سينما " (22) في يوم 19 نيسان 1924 تكلم فيه خطباء الاجتماع بتوجيه النقد إلى المعاهدة وعيوبها وتوجه الأنظار الى قيودها الثقيلة، حيث قدم المحامون بياناً كان بمثابة عرض للمعاهدة من الناحية القانونية محذرين منها ومن إبرامها وطالب ياسين الهاشمي الذي كان حاضراً في الاجتماع * بوحدة الصف الداخلي من اجل احباط ما يضر البلد التي تعرقل تقدمه. (23)

في 29 أيار 1924 وعندما كان المجلس التأسيسي يناقش المعاهدة، قامت مظاهرة صاخبة في بغداد وأحاطت بمقر المجلس احتجاجاً على تحدي إرادة الشعب ومعارضته للمعاهدة.

كتبت "مس بيل" في 4 حزيران رسالة مطولة عن هذه المظاهرة، عرضتها "بورغون" على الوجه التالي (اكتسح المتظاهرون من أبناء الشعب ضد المعاهدة أعضاء المجلس، واوصلوا جلسة التالية إلى نتيجة شائنة.

وكانت الشرطة عاجزة عن العمل تقريباً، مما اضطر المسؤولين إلى الاستعانة بالخيالة. واستمرت هذه المناورات لو بشيء اقل من العنف بسبب التنظيمات الافضل التي اتبعتها الشرطة، بحيث لم يصبح للاجتماعات التالية في المجلس إلا قيمة قليلة، حتى استقر في ذهن "مس بيل" و"المستر كورنواليس" * انه ليس هناك جهد بشري يتمكن من إمرار المعاهدة من المجلس الحالي * (24)

في 31 أيار من نفس السنة قامت الجماهير بمظاهرة حاشدة أمام المجلس التأسيسي، سرعان ما سيطرت الشرطة على الموقف. (25)

رغم التدابير التي اتخذتها السلطة ضد المعارضين من أبناء الشعب العراقي من اجل ان تؤمن بقاء المندوبين المجلس إلى جانبها، تأثر عدد غير قليل من المندوبين من الذين يميلون إلى المعاهدة باتخاذ مواقف معاكسة، كما تردد عدد من من الوزراء من الإدلاء بآرائهم حول المعاهدة وتحمل تصديق المعاهدة أمام الرأي العام الصاخب (26). وكذلك توقف جلسات المجلس التأسيسي مراراً، إلا أنه قوى حركة الجماهير المنتفضة قد خمدت بسبب أعمال القمع القاسية من جهة، ولأسباب أخرى تتعلق بموقف قادة الحركة الوطنية وضعف علاقته بالجماهير.

ويكمن السبب الأساسي لضعف الحركة الوطنية في الفترة 1922-1924 يعود الى طبيعة قيادتها من قبل البرجوازية الوطنية المساندة من رجال الدين. وهما اللذان حمل الراية ضد الانتداب ومعاهداته الاسترقاقية، ولكن الاعتماد على هذين العنصرين يحمل معها عامل التذبذب والضعف وصلاتها المتينة مع الجماهير وفقدان الرؤية المتكاملة.

تلك الطبيعة لهذه القيادة جعلتها تزرع في الشعب العراقي الثقة بإمكانيه المعارضة من داخل المجلس لا في امكانية تنظيم الجماهير وزجها في النضال الثابت والمستمر لتحقيق أهدافها الوطنية في الاستقلال. وإذا بالمواقف المزدوجة تكشف عن أهداف المعارضة البرجوازية التي كانت تصبو إلى تحقيق غايتها في الحصول على الوظائف أكبر في الدولة وإن سترها بمعارضتها في داخل المجلس التأسيسي وطرح الشعارات الملتهبة بالوطنية والاستقلال واستغلال حركة الجماهير لأغراضها الخاصة. (27)

بينما كان الطبقة العاملة في دور التكوين، لم تكن قد تحولت الى حركة مستقلة، مما اضعف من قدراتها القيادية في الحركة الاستقلالية المناوئة للانتداب. لم تترك الشك أنها كانت متعاطفة مع هدف الاستقلال التام، وكان العمال والحرفيون يشكلون قوة حركة الجماهير لفعلية في المدينة التي لعبت المتعلمون ولا سيما الطلبة دورا قيادياَ.

اما المثقفون ولا سيما الطلبة والمعلمون والمحامون القوة القيادية بعد ابعاد قادة الحركة الوطنية وحملوا راية النضال وهم ينادون الجماهير الشعبية الى الكفاح صد الانتداب ومعارضة المعاهدة.

أن ما يميز نشاط المثقفين في هذه الفترة أنها كانت ذات طابع محلي. لم يتعد الاجتماعات والمظاهرات حدود مدينة بغداد وبعض المدن القريبة منها. ويعود اسبابها الى عدم امتلاكها الى وسيلة منظمة لتحريك الجماهير في كافة انحاء العراق اضافة الى قلة عدد المدارس أما الجامعات تكاد تكون معدومة ما عدا الحقوق وكانت هذه المدارس متمركزة في المدن الكبيرة.

في تلك الفترة كان الطلبة يبحثون عن طريق لكي يخلصهم من هذا الوضع السياسي الشاذ ولم تتحول الى حركة مستقلة بعد، وانما كانت اسيرة البرجوازية الوطنية.

وان مناشيرهم وانذاراتهم كانت تلصق على الجدران وترسل الى اعضاء المجلس والقادة السياسيين في رسائل موقعة من قبل رئيس جمعية اليد السوداء ومختومة بيد سوداء

إن العوامل المار الذكر دفع بعض الشباب الى التفكيرفي تأسيس جمعية اليد السوداء لإبراز سخطهم على الانتداب والمعارضة البرلمانية. لقد نشطت هذه الجمعية في ارهاب النواب على اثر تشكيل هذه المنظمة السرية حيث تم اغتيال اثنين من النواب على ايدي مجهولين وهما عداي الجريان وسلمان البراك لكي يجعلوا منها واسطة لتأديب غيرهما. (28)

***

سهيل الزهاوي

.....................

(1) - مجموعة من علماء السوفيت، تاريخ الأقطار العربية الجزء 1، ترجمة دار التقدم، طبع في موسكو 1975، ص. 292

(2) - ف.أ. كرياجين، حركة التحرر الوطني في المشرق العربي - بلاد ما بين النهرين -

الشرق الجديد، موسكو، الكتاب الثاني، 1922، ص. 243، عن الدكتور كمال أحمد مظهر، ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي، مطبعة الزمان 1977، ص. 36

(3) - الدكتور فاروق صالح العمر، المعاهدات العراقية - البريطانية وأثرها على السياسة الداخلية 1922 - 1948، منشورات وزارة الإعلام سلسلة دراسات 116، دار الشؤون الثقافية 1977.

(4) - عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الطبعة 5، منشورات دار الكتب، المجلد الأول، بيروت 1978. ص. 99 - 100

وقد جاء في الميثاق الوطني ما لي: -

المادة الأولى: تأليف حكومة حرة، نيابية، ديمقراطية، مسؤولة امام الامة العراقية، مستقلة استقلالاً سياسياً تاماُ لا شائبة فيه، عارية من أي تدخل أجنبي.

المادة الثانية: تأييد سياسة الملك فيصل على أساس استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية.

المادة الثالثة: رفض انتداب الانكليز، وكل معاهدة تمس بكرامة الامة العراقية واستقلالها التام.

(5) - عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر السابق، ص. 102

(6) - حسين جميل، شهادة سياسية 1908 - 1930، دار السلام لندن 1978 ، ص. 78-79

(7) - عبد الرزاق الحسني، العراق في ظل المعاهدات، الطبعة 6، مطبعة دار الكتب، بيروت 1983، ص 21 – 22

(8) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 42 – 43

(9) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 48 - 49 وما بعدها

(10) - البلاط الملكي s / 34/ 17

Manifesto of the Iraq secret parties, // Oct 1922.

عن الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص.79 0 80

قدم رجال الدين المطالب التالية: -

(11) - التقرير البريطاني الى عصبة الامم 1923 -1923 ص 6

عن الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 113

(12) - عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر السابق، ص. 142

(13) - رؤوف الواعظ، الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث، 1914-1941،دار الحرية بغداد 1974 ص. 166 عن آفاق عربية العدد 12 آب 1980 ص. 56

(14) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 83

(15) - محمد مهدي كبة، مذكراتي في صميم الأحداث ، 1918-1958، دار الطليعة بيروت 1965، ص. 26

(16) - محمد مهدي كبة، نفس المصدر السابق، ص. 26- 27 عن آفاق عربية، العدد 12 آب 1980 ، ص. 56

(17) - خيري العمري شخصيات عراقية الجزء الاول ض. 20، عن آفاق عربية العدد 12. آب 1980، ض. 56

(18) - حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 112- 113

في 02 حزيران 1923 نفي من العراق الشيخ مهدي الخالصي ومعه ولداه وقريب له وسكرتيره وغادر العراق بعض من علماء الدين احتجاجاً على هذا النفي. وكان سلطات الانتداب يعتبر الشيخ الخالصي من العناصر المعرقلة للانتخابات بعد أن أصدر فتوى جديدة تعرض فيها الى الحكومة، فقد عثرت الشرطة على صورة من الفتوى معلقة على جدران صحن الكاظمية بتاريخ 19 مايس 1923.

(19) - رفض السادة جعفر ابو التمن وحمدي الباجة جي التوقيع على التعهد في بادئ الأمر رُفض عودتهم، فيما بعد رضخ السلطة وسمح لهم العودة الى البلاد.

(20) - كان السيد مولود مخلص أحد المؤسسين للحزب الديمقراطي، عين متصرف لواء كربلاء غير موقفه من المقاطعة.

(21) - فيليب ويلارد ايرلاند، العراق دراسة في تطوره السياسي، ترجمة جعفر الخياط، دار الكشاف، بيروت، ض. 311

(22) - حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 123

(23) - العالم العربي 20 نيسان 1924 عن فاروق صالح العمر نفس المصدر السابق، ص. 113

(24) - كتاب بوغوين، ص. 343 عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص.

(25)- حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 124

(26) - فيليب ويلارد ايرلاند، نفس المصدر السابق، ص. 123

(27) - قال الهاشمي نائب بغداد في جلسة 22 آب 1928 للمجلس التأسيسي وكان البحث يدور حول الميزانية العامة للدولة " إني وجدت في مذكرات المجلس النيابي توجيه اللوم إلى الوزراء واننا نناقشهم على أعمال لم يرتكبونها، وان ارتكبوها فلم يكن ذلك بمحض إرادتهم. ولو أنهم أخذوا في بعض الأحيان مسؤوليات تلك الأعمال على عاتقهم.

انى وجدت دواعي وشواهد عديدة مرت على يد المشورة وهي مغلوطة ولم تظهر منها اي استياء في زمن من الازمان. وما دامت طريقة مداولة امورنا الداخلية والخارجية على أيدي الغير لا اجد اي سبب لتوجيه اللوم على اي احد من الرجال المسؤولين." عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 128.

وفي جلسة المجلس التأسيسي في 29 / 05/ 1924 فضل المعاهدة على الانتداب وقال: "أنه لا محل للقياس بينهما وكان يعلم أن الانتداب قائم لم تلغه عصبة الأمم وهو لا ينتهي الا قبول العراق عضواً فيه. عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 108.

(8 2) - جريدة البرق البيروتية 3 حزيران 1924 عن رجاء حسين حسني - العراق بين عام 1921 - 1927، دار الحرية للطباعة والنشر بغداد 1976.

حديث مع مصطفى علي - الثقافة الجديدة العدد 75 لشنة 1975، ص. 84

طُرح العام (2007) يوم «الغدير» عيداً جزئياً بالعراق، فعَطلت بعض المحافظات الدَّوائر (18 ذي الحِجَّة)، وكأنها خارج الدَّولة. عاد اليوم اعتبار «الغدير» رسمياً للدولة كافة، ومعلوم أن مَن لم يتقيد سيكون عاصياً للدولة والدِّين، لأنَّ الغدير أصلٌ، والمقياس هو الإيمان بـ«الولاية»، هذا ما تفصح عنه رسائل الفقهاء، دستور الطَّائفة، وفي «الغدير» التزمتم بالرَّسائل وتركتم الدَّستور.

ثار جدلٌ عقيمٌ في «الغدير»، فلا تسويةً في اختلاف العقائد، بين مَن اعتبره يوم التتّويج الإلهي لعلي بن أبي طالب(اغتيل: 41 هج)، ومَن اعتبر ما قيل في «غدير خم»(10هج) تكريماً، وكثير مِن الصّحابة كرمهم النَّبيّ بالألقاب، لا المقصود ولاية العهد، لذا يبقى «الغدير» يخص طائفةً.

هل العراقيون اليوم أمام بناء دولةٍ أم طائفةٍ؟! وهل دولتهم ذات عقيدةٍ دينيةٍ، فإذا كانت كذلك، فلتعلن دستوريّاً، وبهذا يُعذر البرلمان والحكومة مِن تشريع «الغدير» عيداً. أمّا إذا كان العِراق ديمقراطيّاً تعددياً، فهذا التَّشريع ليس حقَّاً.

إذا كنتم تتصدون لبناء دَولةٍ دستوريَّة، فطريقها واضح، ليست بويهية (352هج) عندما أعلنت ببغداد «الغدير» عيداً (الكامل في التّاريخ)، وليست فاطميَّة (362هج) يوم أُعلن بمصرَ عيداً (المقريزي، اتعاظ الحنفاء) ولا صفويَّة (1501م). يبدو أنّ المعمم البرلمانيّ استحضر كلّ العهود عندما قال: «الغدير عيد لكلِّ العراقيين». قالها ولم يميز بين الأزمنة، وبين برلمان دولة ومنبر حُسينية.

ماذا أنتم فاعلون بالعراق؟ هل تريدونه: بويهياً أم فاطمياً أو صفوياً؟ فكلُّ هؤلاء لا علاقة لهم بصاحب الغدير، غير «إنَّما هذه المذاهب أسبابٌ/ لجذب الدُّنيا إلى الرُّؤساء»(المعريّ، اللزوميات). فكانت أسرتهم مشيدة مِن الذَّهب! مثل تفاخركم بموالاته، ولو خرج لقال عمن توج باسمه: مَن هؤلاء؟!

عليكم تقدير خطورة «الإمامة» التي تلعبون على حبلها، وقد عقم الجدل فيها، وصارت تاريخاً. يقول أحد أهم أساتذة الحوزة الدِّينية بالنَّجف محمَّد رضا المظفر(ت: 1964): «ولا يهمنا مِن بحث الإمامة، في هذه العصور، إثبات أنهم هم الخلفاء الشَّرعيون، وأهل السُّلطة الإلهيّة، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التَّاريخ، وليس في إثباته ما يُعيد دورة الزَّمن مِن جديد»(عقائد الإماميَّة). فهؤلاء «إخوان الصَّفا»، قدروا خطورة اللُّعبة فقالوا: «اعلم أنَّ الإمامة هي أيضاً من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، قد تاه فيها الخائضون إلى حجج شتى، وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدّماء، وهي باقية إلى يومنا هذا (الرّابع الهجري)...«(الرِّسالة: 42). بل التّناحر يا إخوان الصّفا مازال مشتعلاً إلى يومنا نحن، كأن الألف عام بيننا وبينكم مرَّ ونحن في الكهفِ ناطرون! هذا، وظل الخلاف يدر ذهباً على تُجاره في الأزمنة كافة «إذ ما سُلَ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينية، مثلما سُلَ على الإمامة في كلِّ زمان»(الملل والنّحل).

إنها عودة التَّناحر بين ميليشيتين: الدَّيلم والأتراك (السَّنة 389هـ) ببغداد، وشأنهما شأن العثمانيين والصَّفويين، يوجهون الطَّائفتين كيف شاءوا، «بالكرخ كانوا ينصبون القباب (وتعلق الثِّياب) للزينة، اليوم الثَّامن عشر مِن ذي الحِجَّةِ، وهو يوم الغدير، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم قالوا: هو يوم دخل النَّبيّ، صلى الله عليه سلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، الغار» (ذيل تجارب الأمم). فإذا كنتم أهل العِراق فلا تنحو نحويهما: يوم الغدير ويوم الغار! ألم يفيدكم ابن الحَجَّاج(ت: 391هج) وكان على مذهبكم؟ شاهد عيان ذلك النّزاع المذهبيّ، فقال في خير الحاكمين:«خيرهم مَن رأى لباسيّ قد/ رثَّ وبان اختلاله فكسانيَ» (دُرة التَّاج في شعر ابن الحَجَّاج)، فانشدوا الدَّولة الكاسية بالوطنيَّة لا العاريّة بالمذهبيَّة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

بالأمس القريب تواردت أنباء أن صندوق النقد وافق على أن تسدد الأرجنتين والبرازيل فوائد ديونهما باليوان الصينى! ومن قبلها جرى اتفاق بين الدولتين وبين الصين على أن يتم التبادل التجارى بينهم بعملة اليوان. وهو ما سينعش بنك البريكس القائم الآن فى الصين..

وفى إفريقيا هناك إتفاق تم بين كينيا وجيبوتى للتعامل بينهما بالعملة المحلية بدلاً من الدولار، بل إن هناك اتجاه عالمى عام للتخلص من ربقة الدولار، وتنويع سلة العملات فى التبادلات التجارية..ولن يلبث الدولار أن يجد نفسه تحت حصار دولى خانق!

على الناحية الأخرى بدأ حلفاء الغرب التقليديون فى التسرب من قبضته تباعاً متجهين نحو القوى الجديدة الصاعدة وعلى رأسها الصين. وهاهى الحرب الأوكرانية الروسية تميل كفتها لروسيا على حساب الناتو وأمريكا، ما يشير لهزيمة جديدة للمعسكر الغربي..فهل نشهد بواكير عصر سقوط الإمبراطورية الغربية بأكملها؟!

ثقوب فى قبعة العم سام

الليبرالية الجديدة فى أمريكا يبدو أنها تتراجع وتنتكس..وهو ما سيدفع بالاتجاه المحافظ الذى يمثله الاتجاه اليمينى للحزب الجمهورى بكل طوائفه إلى السيطرة التامة على مقاليد الأمور على حساب الاتجاه الليبرالى الذى يمثله الحزب الديمقراطى. ويبدو أن بايدن سيكون آخر رئيس ديمقراطى تشهده أمريكا بعد تآكل شعبيته وشعبية حزبه لأقصى الحدود..

لم يكن خوض الحرب الروسية الأوكرانية أسوأ أخطائه، ولا انتكاسة الدولار وسقوط البنوك والاقتصاد، ولا تفشى ظاهرة الكراهية العالمية للهيمنة الأمريكية وسقوط الأحلاف، ولكن فى الأساس أن الليبرالية الجديدة على عهد بايدن سقطت سقوطاً أخلاقياً كارثياً ينذر بالأسوأ..إذ خرج الرئيس الأمريكي على العالم يدعو ويروج لمجتمع المثليين، ولم تلبث المدارس فى أمريكا وكندا أن اتجهت لترسيخ مبدأ التطبيع مع الانحلال الأخلاقى عند أطفال المدارس بغض النظر عن أديانهم ورفضهم لهذا الانحلال.. كأن الليبرالية تخطو آخر خطواتها نحو حرية مطلقة تفجر فى طريقها كل المبادئ والأعراف والشعائر والعقائد!

الاقتصاد نفسه يعانى فى ظل النيوليبرالية؛ بعد ابتعاده عن الاقتصاد الإنتاجى تحت دعاوى ما يُدعى "سياسات السوق الاجتماعى" المعتمد على ثلاثية التمويل والتأمين والعقارات "Finance ,Insurance and Real Estate" بغرض تحقيق أرباح مالية عالية سريعة على حساب التنمية الحقيقية القائمة على الإنتاج الصناعى والزراعى.

وإذا بحثنا فى عالم اليوم عن بديل للرأسمالية المتوحشة فلن نجد مثالاً حياً على النجاح أقوى من الصين!

البريكس.. الموضة الاقتصادية الجديدة

طوال الوقت هناك هجوم يومى حاد ضد كل صوت يتحدث عن المعجزة التى حققتها الصين اقتصادياً فى العقود الأخيرة.. وأخطر ما فى موجة تسونامى الهجومية تلك أنها تسعى بشتى الطرق لتنفير وذب وإبعاد الجميع ضد الاقتداء أو الاستفادة من النموذج الصينى فى الاقتصاد، باعتباره مناهضاً ومضاداً للنموذج الليبرالى الغربي.

هذا الهجوم الدائم والإصرار على تخويف الشعوب والقادة ضد الاتجاه نحو النموذج الصينى فى الاقتصاد يكشف مدى الهلع لدى دعاة الرأسمالية من انهيار نموذجهم القائم على الاستغلال وتكديس الأموال وتضخيم الثراء الفاحش على حساب الضعفاء والفقراء. وفى المقابل حقق الاقتصاد الصينى، على الأقل بالنسبة لمواطنيه، طفرة فى الاستثمارات الخاصة والفردية، ونمواً هائلاً فى قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وصنع توازناً بارعاً بين تحكم الدولة فى القرار الاقتصادى والمالى وبين الملكية الفردية والاستثمار الخاص، واستطاع انتزاع 800 مليون مواطن صينى من الفقر؛ أى ما يعادل ضعفى سكان أمريكا وكندا معاً! الأدهى أن الصين تُعتبر اليوم هى المنتج الرئيسي على الصعيد العالمى بحيث لو توقفت عن الإنتاج أو فتَرت سيعانى العالم كله جراء هذا الفتور.. هكذا تفوق الاقتصاد الإنتاجى على الاقتصاد الغربي الاستغلالى الربوى.

خمسة من كبريات الدول فى العالم استطاعوا أن يصنعوا الفرق من خلال مجموعة البريكس، تلك الكتلة الاقتصادية الشابة سريعة النمو، والتى تحولت إلى شبح يواجه الرأسمالية الإمبريالية ويرعبها. وهناك نحواً من خمسة دول كبري أخرى تتجه نحو الانضمام إلى تلك الكتلة الحرجة التى سوف تسرع بالدولار والنيوليبرالية إلى الهاوية، ولسوف تقدم بديلاً عملياً للنظم الاقتصادية المعيبة التى ربما يُنظر إليها الآن كموضة قديمة بالية.

أسلحة جديدة فى الميدان!

لعل أقسى ما نال العنجهية الأمريكية من آلام، ما حدث من تدمير منظومة الباتريوت فى حرب أوكرانيا، وما حققه الجيش الروسي من تفوق عسكري على الأرض!

كل يوم تظهر على ساحة القتال الأوروآسيوية أسلحة جديدة ، كأنها ساحة عملية لتسويق السلاح ! فيدفع الألمان بدباباتهم والفرنسيون بطائراتهم والأمريكان بنظمهم الدفاعية، فإذا بالصواريخ الروسية تدمر كل شئ فى طريقها ولا تدع نظاماً جديداً أو قديماً من نظم السلاح الغربي إلا وفتكت به، ثم يظهر لاعب جديد يريد أن يستظهر بقوته الوليدة، وإذا بطائرات البيراقدار التركية المسيرة تبرز وتستطيع تدمير الدبابات الروسية ، لنكتشف أن هناك من حوَّل ساحات الحرب الدموية التى يهلك فى رحاها آلاف البشر عسكريين ومدنيين ليست إلا نوعاً من التجارة الدموية يريد كل طرف فيها أن يسوق لصناعة السلاح لديه ولو كانت ضريبة التسويق الملعون هى الموت!!

على كل حال يوشك هذا الصراع التجارى العسكرى على الانتهاء وقد حققت روسيا أغلب أهدافها، وانهزم الناتو، وأصبح السلاح الروسي على ما تعرض له من نزيف وتلف ودمار هو السلاح المطلوب لدى الجيوش وقادة الحروب، لدرجة أن نرى فرنسا وبريطانيا يسارعان فى محاولة اللحاق بالركب الروسي فى قدرته على تصنيع الصواريخ فرط الصوتية ، بعد أن دخلت الحرب مرحلتها الخطرة .. مرحلة القنابل العنقودية وقنابل اليورانيوم المنضب، تمهيداً لمرحلة أخيرة نرجو ألا تنفلت نحوها الأحداث.. مرحلة هرمجدون والحرب النووية..

تراخى القبضة.. وتفكك الإمبراطورية!

لو عاد بك الزمن إلى أوائل القرن الماضى وقلت لأحدهم أن زمن بريطانيا قد ولَّى، وأن الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ستزول قريباً فربما رماك بالجنون واتهمك بالغباء! والآن ، ورغم أن الذين يبشرون بقرب زوال إمبراطورية أمريكا والغرب بعضهم من الأمريكيين والأوربيين أنفسهم، فإن الناس لا تكاد تصدق أننا على أعتاب هذا العهد..وأن الدولار والمنظمات الدولية والعالم الجديد وكل المصطلحات التى عشنا فى أكنافها دهراً ستندثر وتنطمر وتنقرض ويأتى غيرها على أنقاضها!

نعم ما زالت أمريكا تملك أوراق اللعبة، وتتحكم فى أنظمة ودول بأكملها من خلال القرار الدولى والبنك الفيدرالى والقوة العسكرية وقواعدها التى تربو على 800 قاعدة عسكرية منتشرة فى أنحاء العالم .. لكنك ربما تتعجب إذا علمت حقيقة أمريكا وأوروبا من الداخل، وأن مجتمعات الرفاهية والحرية الآن تنفر من الحروب، وأن الجيش الأمريكى تقلص إلى أقل من 2 مليون جندى بسبب التهرب من الجندية، وأن المثلية والإباحية أكلت طاقة هؤلاء الجنود، وأن حديث الساعة اليوم فى أمريكا هو الفرار من الالتحاق بالجيش، لدرجة أن النظام الأمريكي يفكر فى تطبيق التجنيد الإجبارى على نطاق واسع.

السويد وغيرها من بلدان أوروبا يصرخون اليوم لأنهم وجدوا أن النظم التكنولوجية والتعليم الرقمى أسهم فى تحويل الطلاب إلى عاجزين، لا يستطيعون الكتابة بأيديهم وقد تدنت لديهم مستويات الجاهزية والقدرة على الإنجاز بسبب الرفاهية الزائدة التى تقدمها لهم وسائل التكنولوجيا الحديثة بحيث تدنت ملكاتهم الفنية ومهاراتهم اليدوية بشكل كبير! الحل الوحيد الآن أمامهم العودة للأصول!

***

د. عبد السلام فاروق

أختتمت في العاصمة الروسية الشمالية سانكت بطرسبورغ ، أعمال المنتدى الاقتصادي والإنساني روسيا – وأفريقيا، التي استمرت لمدة يومين 27-28 يوليو الجاري، رغم كل الضغوط والتهديدات الأمريكية والغربية التي مورست ضد وفود الدول المشاركة ، إلا أن روسيا نجحت في أستقطاب وكما أكد مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية، يوري أوشاكوف، 49 دولة أفريقية من أصل 54 من القارة السمراء، وحضر القمة 17 رئيس دولة و5 نواب للرئيس و4 رؤساء حكومات ورئيسا واحدا للبرلمان، فيما مثل 17 دولة أخرى نواب رئيس الوزراء والوزراء، معظمهم من وزراء الخارجية، فيما مثل 5 دول أخرى على مستوى السفارات.

وعلى هامش المنتدى حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على عقد اجتماعات ثنائية مع نظرائه الأفارقة، وكان من بين تلك اللقاءات، اللقاء مع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ومع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، كما شارك الرئيس بوتين في جلسات المنتدى ليومين متتالين، ليؤكد سعيه على إنجاح هذه الفعالية، وبالفعل تمخضت عن التوقيع على عدة وثائق مهمة ، كالبيان الختامي المشترك، وإعلان القمة حول تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وإعلان حول ضمان أمن المعلومات الدولي، وكذلك اعلان حول منع سباق التسلح في الفضاء الخارجية، بالإضافة الى خطة العمل للشراكة للفترة 2023-2026.

وأتفق المشاركون في القمة الروسية الأفريقية، وكما أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اتخاذ موقف موحد بالقمة الإفريقية الروسية على تحدي النظام الاستعماري ومحاولات القضاء على القيم،والتشديد على إن روسيا والدول الإفريقية تؤكد على موقفها من تشكيل نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب، وتعزيز دور منتدى الشراكة الروسية الأفريقية كعنصر أساسي في التعاون الروسي الأفريقي متعدد الأطراف الذي ينفذ قرارات القمة، وتعميق التعاون المتكافئ والمتبادل المنفعة بين الاتحاد الروسي والدول الأفريقية من أجل إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلاً وتوازناً واستدامة، ويعارض بحزم أي شكل من أشكال المواجهة الدولية في القارة الأفريقية.

والبيان الختامي للقمة، أكد زيادة تعزيز الدور التنسيقي المركزي للأمم المتحدة، كآلية عالمية متعددة الأطراف في تنسيق مصالح الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وإجراءاتها لتحقيق أهداف ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك لضمان الامتثال للمبادئ المعترف بها عالميا وقواعد القانون الدولي المنصوص عليها فيه ، وتنسيق مناهج مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مجال سياسة العقوبات ضد الدول الأفريقية، بما في ذلك بهدف زيادة التخفيف والإلغاء التام للتدابير التقييدية التي فقدت أهميتها، والاعتراض المشترك على استخدام الأدوات والأساليب الانفرادية غير القانونية، بما في ذلك استخدام التدابير القسرية التي تتجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واستخدامها خارج الحدود الإقليمية، فضلاً عن فرض نُهج تضر في المقام الأول بالأشخاص الأكثر ضعفاً وتقوض الغذاء والطاقة الدوليين حماية.

كما شدد المشاركون على أهمية التعاون لإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مع مراعاة الحقائق الجيوسياسية والموقف المشترك للدول الأفريقية، على أساس "توافق إيزولويني" وإعلان سرت لعام 2005، من أجل تعزيز تمثيل أفريقيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والقضاء على الظلم التاريخي الذي ارتكب ضدها، ومعارضة فرض خطوط فاصلة في المنظمات الدولية، وخاصة في الأمم المتحدة، تعيق البحث الفعال عن حلول للقضايا الحادة على جدول أعمال الأمم المتحدة، بما في ذلك تلك التي تمس المصالح الأساسية للدول الأفريقية، بالإضافة الى المساهمة في تعميق الشراكة بين دول البريكس وأفريقيا وإقامة حوار بين منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الأفريقي ومنظمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الأفريقي، واحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والتصدي لتطبيق الدول للقانون الوطني خارج الحدود الإقليمية في انتهاك للقانون الدولي، واستخدام الوسائل الدبلوماسية السلمية، مثل الحوار والمفاوضات والمشاورات والوساطة واللجوء إلى المساعي الحميدة لحل النزاعات والصراعات الدولية وتسويتها على أساس الاحترام المتبادل والتوفيق واحترام توازن المصالح المشروعة

أما خطة عمل منتدى الشراكة بين روسيا وأفريقيا كانت واحدة من الوثائق المهمة أيضا فهي تدعو إلى تنفيذ تعاون متبادل المنفعة بين الاتحاد الروسي والدول الأفريقية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة (UN) ورابطات التكامل الأفريقية الرائدة للفترة في 2023-2026، مع تحديد الأولويات والإجراءات الهادفة إلى تحقيق إمكانات الشراكة الروسية الأفريقية في المجالات ذات الاهتمام المشترك، مع مراعاة أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 "أفريقيا كما نريدها" وخطط تنفيذها، بالإضافة إلى وثائق أخرى، في مجال التعاون بين روسيا وأفريقيا.

وكجزء من خطة العمل هذه، اتفقت روسيا وأفريقيا على تعزيز الحوار والشراكة والتعاون في مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك التفاعل في مجالات السياسة والأمن، والاقتصاد، والقضايا الإنسانية، من أجل تحقيق المنفعة المتبادلة والازدهار، حيث تشترك روسيا وإفريقيا أيضًا في وجهة النظر حول أهمية الحفاظ على الدور المركزي في الهيكل الإقليمي للاتحاد الأفريقي، والذي يعد ذا أهمية كبيرة لتعزيز السلام والاستقرار والنمو الشامل في القارة الأفريقية،  ووفقًا للالتزامات الدولية، وكذلك مع التشريعات الوطنية، تعتزم روسيا وأفريقيا التعاون في المجالات التعاون في المجال السياسي والأمني، وفي المجال الاقتصادي، والتجارة والاستثمار، والزراعة والغابات والاحياء المائية، والطاقة، والصناعة والتعدين ومعالجة المعادن، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والعلوم والتكنولوجيا والابتكار، والتعاون في المجال الاجتماعي والثقافي، والبيئة وتغيير المناخ والتنوع البيولوجي، و التعليم والتبادلات الشبابية والاتصالات والرياضة ، ووسائل الاعلام الجماهيري، والسياحة، والثقافة .

ففي المجال الأمني ركزت الخطة على تطوير الاتصالات بين كبار الممثلين الذين يشرفون على القضايا الأمنية من أجل تبادل المعلومات حول الأمن الدولي والخبرة وأفضل الممارسات في مواجهة التهديدات والتحديات، مواصلة الحوار بين وزارتي الدفاع في روسيا وأفريقيا حول قضايا التعاون العملي ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك من خلال عقد الأحداث المشتركة والتدريبات والدورات التدريبية، وتنظيم المناقشات العلمية والتفاعل بين مراكز البحوث، وتبادل المعلومات بشأن الجماعات الإرهابية، بما في ذلك، عند الضرورة، استخدام مصرف بيانات مكافحة الإرهاب الدولي تحت قيادة دائرة الأمن الفيدرالية للاتحاد الروسي وقنوات الاتصال التابعة له، بشأن الهجمات والتهديدات المحتملة، بما في ذلك الأعمال التي تنطوي على مواد كيميائية، أسلحة بيولوجية أو إشعاعية أو نووية.

أما في المجال الاقتصادي، فركزت الخطة على تحديد قطاعات الاقتصاد في روسيا والدول الأفريقية لتنفيذ تدابير لدعم التجارة المتبادلة، ووضع برامج للتنمية القطاعية وتعميق العلاقات التجارية، ووضع خطط عمل وخرائط طريق شاملة لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري، وتنظيم بعثات تجارية متبادلة منتظمة بين روسيا وأفريقيا من أجل إقامة اتصالات تجارية مباشرة وتبادل المعلومات حول فرص الأنشطة التجارية والاستثمارية، ودراسة وتنفيذ أفضل الممارسات في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص كآلية موثوقة لتنمية التجارة والتعاون الاقتصادي على أساس الشفافية والضمانات للوفاء بالتزامات الاستثمار، وكذلك توسيع الإطار القانوني مع الدول الأفريقية في مجال التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار، وتوسيع استخدام العملات الوطنية في التسويات المتبادلة بين الاتحاد الروسي والدول الأفريقية، مع تطوير علاقات المراسلة بين البنوك المهتمة في الاتحاد الروسي والدول الأفريقية، وتعزيز تنمية القطاع المالي وتقوية الاستقرار المالي من خلال التبادل المتبادل للمعرفة والخبرة والمعلومات المتخصصة، والتعاون في مجال حماية حقوق مستهلكي الخدمات المالية، وتحسين محو الأمية المالية لديهم، وتوسيع فرص الحصول المتبادل على الخدمات المالية، فضلا عن بناء القدرات.

وفي مجال الطاقة فقد شددت الخطة ، على ضرورة تسهيل تنفيذ البرامج الهادفة إلى ضمان أمن الطاقة، وترشيد استخدام الكهرباء والحفاظ على موارد الطاقة، لا سيما من خلال تحسين كفاءة الطاقة، فضلاً عن بناء القدرات المؤسسية وإشراك القطاع الخاص بشكل أكثر فعالية، وتعزيز العلاقات المؤسسية بين روسيا وأفريقيا، بما في ذلك مع الهياكل القارية والإقليمية المتخصصة في قطاع الطاقة، وإجراء التطورات المشتركة والبحوث المتعلقة بكفاءة الطاقة، ومصادر الطاقة المتجددة، والانتقال العادل للطاقة وتنظيم أمن الطاقة، وكذلك توسيع التجارة والاستثمار في قطاع الطاقة، بما في ذلك الهياكل الأساسية للطاقة ومشاريع النفط والغاز، وإنتاج البطاريات في أفريقيا، وتحديد فرص الاستثمار في مشاريع البنية التحتية للطاقة الرئيسية، بما في ذلك تكنولوجيات الطاقة المتجددة والتكنولوجيات الموفرة للطاقة، بالإضافة الى زيادة تطوير التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية والصناعات ذات الصلة، وتنظيم منتديات دولية وإقليمية حول الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، و توسيع التعاون في مجالات مثل استخدام تكنولوجيات الفحم المراعية للبيئة، واستكشاف وإنتاج وإنتاج النفط والغاز ومنتجاتهما، وتطوير البنية التحتية اللازمة، بما في ذلك من أجل توسيع استخدام الغاز الطبيعي كوقود بديل للمحركات وتطوير صناعات مصافي النفط من خلال البحث المشترك وتبادل المعلومات وأفضل الممارسات.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

رغم امتلائها بالكنوز والموارد والمعادن النفيسة ظلت قارة إفريقيا هى الأشد فقراً دائماً وأبدا!

كانت دوماً مرتعاً للغزاة والمغامرين والمستعمرين، ومن قبلها موطناً للأمراض والأوبئة، وحالت تضاريسها الصعبة دون إمكانية الربط بين أجزائها بشبكة من الطرق تنعش الاقتصاد بين دولها المختلفة. وعندما جاءها المستعمرون الأوروبيون من بريطانيا وألمانيا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا واستعبدوا أهلها ونهبوا خيراتها وكنوزها، تركوها وقد تم تقسيمها تقسيماً جغرافياً لا يراعى الاختلافات العرقية والخلافات القبلية؛ ما جعل أغلب تلك الدول تعانى ويلات النزاعات والحروب الأهلية والصراعات الحدودية من حين لآخر وهو ما يتعارض مع إمكانية التنمية الاقتصادية على طول الخط.

السنوات الأخيرة شهدت طفرة اقتصادية فى عدد من الدول الإفريقية مثل رواندا وجنوب إفريقيا ونيجيريا إما بفضل الاكتشافات البترولية كما فى نيجيريا، أو بفضل التخلص من النزاعات القبلية والتفرغ للتنمية كما فى رواندا، أو الانتماء لكيانات اقتصادية ناشئة كما فى حالة جنوب إفريقيا مع مجموعة البريكس الاقتصادية.

الآن تتسابق الدول الكبري فى آسيا وأوروبا والأمريكتين على التقرب لقادة إفريقيا طمعاً فى الاستثمار فى تلك القارة الواعدة ذات الكنوز غير المستغلة. فهل تصبح إفريقيا مسرحاً لحرب باردة جديدة، أو حتى حروباً ساخنة فى موجة جديدة لنهب ثرواتها وخيراتها وكنوزها؟

السودان.. هل هى مجرد بداية؟

عام 2011 شهد انفصال جنوب السودان عن شمالها بعد سنوات من الاضطرابات والقلاقل..

واليوم تجدد الصراع بين مكونات الشعب السودانى متمثلة فى قوات الجنجويد المنحدرة من الغرب السودانى وبين الجيش السودانى، ذلك الصراع الذى ينذر بتقسيم جديد للسودان إلى غرب وشرق..

تلك الحرب المستعرة فى السودان لا تغيب عنها الأيادى الخارجية ذات النوايا الخبيثة؛ وإلا ما كانت الحرب امتدت وطالت كل هذا الوقت، ومن المتوقع أن تطول شهور وربما سنوات أخرى بسبب إمدادات السلاح التى لا تنقطع من دول عدة لها مطامع فى ثروات السودان. هناك الذهب واليورانيوم فى الغرب، وهناك الماشية والمياه والأراضى الخصبة فى الشرق. وهو ما يجعل شبح التقسيم ليس مستغربا ولا مستبعداً من مآلات الحرب الدائرة فى البلاد..

اليوم روسيا تحاول توسيع نفوذها فى إفريقيا، بجمع الولاءات وحشد التحالفات فى القارة السمراء ربما من خلال القمة الروسية الإفريقية التى تنعقد هذا الشهر.

القمة الروسية الإفريقية الثانية.. رسائل ودلالات

فى الفترة بين 26 و 28 يوليو انعقدت القمة الروسية الإفريقية الثانية بسانت بطرسبرج، وهى القمة التى من خلالها تم مناقشة الملفات الاقتصادية المشتركة بين روسيا من جهة والدول الإفريقية المشاركة بالقمة من جهة أخرى.. ولا شك أن انعقاد القمة فى مثل هذا التوقيت الحرج له دلالات لا تخفى على أحد..

ثمة حرب تحالفات بين الكتلتين الشرقية والغربية تجرى على قدم وساق.. أمريكا من ناحية تحاول بشتى الطرق جمع كل قواها وأحلافها فى مواجهة الصين وروسيا وأحلافهما الحاليين والمحتملين. وكل أرض تخسرها أمريكا من معسكرها تكسبها روسيا فى صفها عاجلاً أو آجلاً. فالانحياز بات أمراً محتوماً لاسيما مع دول نامية متعطشة للدعم المادى والاقتصادى ممن يقدمه.

العقوبات الأمريكية والأوروبية التى فُرضت على روسيا منذ بدايات الحرب الأوكرانية الروسية ساهمت فى تعميق أواصر الصداقة القديمة بين روسيا ودول إفريقية عدة، لأنها باتت منفذاً محتملاً لبضائعها، ومصدراً محتملاً لاقتصادها..

هناك أسباب عديدة تجعل دول إفريقيا مطمئنة للتعامل والتعاون مع الصين وروسيا أكثر من ميلها لفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية؛ لعل أهم تلك الأسباب أن الغرب يمثل قوى استعمارية مستغلة تهدف فى الأساس لنهب الثروات واستغلال الشعوب. بينما لم يكشف تاريخ الصين وروسيا أطماعاً استعمارية أو رغبة فى استغلال البلدان والشعوب، وإنما التكامل الاقتصادى وتبادل المنفعة على أساس من الندية والاحترام المتبادل. وهو ما يجعل كفة روسيا ترجح خاصة فى توقيت كهذا تعانى فيه الامبراطورية الرأسمالية من كبوات قد تؤدى مستقبلاً إلى ضعف وهزال.

سباق صيني - أمريكي محموم

شهدت نهايات العام المنصرم محاولة تفعيل ما أسمته واشنطن:"استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء"! لقد حددت أمريكا منطقة الوسط والجنوب الإفريقي لإعادة رسم استرتيجية علاقتها مع تلك المنطقة باعتبارها الأسرع نمواً، وأن بها أكثر النظم البيئية تنوعاً،وبها أكبر مناطق التجارة الحرة فى العالم، بالإضافة لحوزها على أكبر الكتل التصويتية فى الأمم المتحدة!

جاءت تلك الاستراتيجية بناء على دراسات وبحوث أرعبت صانع القرار الأمريكي ودفعته للهرولة نحو إفريقيا يريد ضمها لصالحه بأسرع وسيلة. فالدراسات الأمريكية تؤكد أن الصين فاجأت روسيا وفرنسا وكل القوى القديمة ذات التأثير إفريقياً بأنها سحبت البساط من تحت أقدام الجميع!!

لقد نجحت الصين فى نيل ثقة كل الدول التى استقبلت الاستثمارات الصينية؛ ليس فقط بسبب التدفقات المالية والمشروعات التنموية التى أنجزتها الصين فى تلك البلدان، وإنما أكثر بفضل دعمها للاستقلال والحرية الاقتصادية والسياسية عن كل القوى الاستعمارية المستغلة، بحيث باتت الصين بديلاً سياسياً موثوقاً للبلدان الإفريقية. هكذا، تؤكد التقارير، استطاعت الصين الخلط بين العناصر الأيديولوجية والسياسية والتجارية والاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية لدى تعاملها مع إفريقيا.

بهذه الطريقة فازت الصين بقصب السبق إفريقياً على حساب أمريكا وحلفائها الأوروبيين. ليصل حجم الاستثمارات الصينية فى إفريقيا ما يقارب خمسة أضعاف الاستثمارات الأمريكية بما يعادل نحو 250 مليار دولار سنوياً. وليصبح لشركة واحدة صينية كشركة نورينكو مشروعات وشراكات فى نحو 13 دولة إفريقيا من بينها إثيوبيا وكينيا وناميبيا ونيجيريا والسنغال وأوغندا وزامبيا وزيمبابوى! ما يعنى أن الاستراتيجيات الأمريكية والمخططات الغربية تلاقى فشلاً ذريعاً فى مقابل نجاح الصين وروسيا فيما فشلت فيه الولايات المتحدة !

سلة عملات دولية ومحلية!

من برلمان جيبوتى أعلن الرئيس الكينى وليم ساموى روتو ضرورة السعى للتعامل مع جيبوتى بالعملة المحلية فى عمليات تبادل السلع، وهو ما سيفتح الباب واسعاً للتخلى عن الدولار، على الأقل فى التعاملات البينية بين البلدان المتجاورة فى إفريقيا وربما فى العالم أجمع!

في هذا السياق أيضا، جاءت تصريحات نالدى باندور وزيرة خارجية جنوب إفريقيا بأن عملة بريكس الموحدة القائمة على الذهب ستكون على قمة أولويات النقاش فى قمة البريكس فى أغسطس القادم. وهو ما يعكس توجهاً لدى الكتلة الشرقية،فى الصراع الكوكبي المحتدم، للتخلى عن الدولار شيئاً فشيئاً واستبداله بسلة عملات دولية ومحلية أخرى.

مثل هذا التوجه يجد الآن أصداءً واسعة لدى كل المتضررين من سياسات الهيمنة الأمريكية، خاصةً بعدما تسببت فيه موجات رفع الفائدة على الدولار من آثار كارثية على اقتصاديات الدول الفقيرة التى ترزح أغلبها تحت نير ديون صندوق النقد الدولى.

إن ما يبدو فى الأفق أن الصين وروسيا بات لهما اليد العليا فى الاستثمارات والتحالفات الإفريقية . وأن أقدام أمريكا وفرنسا والغرب تنسحب شيئاً فشيئاً مع ضعف قبضتها وتآكل نفوذها الإفريقي والعالمى. ولا شك أن تلك الفترة هى أزهى الفترات التى يمكن للقارة السمراء أن تستغلها لصالحها تنموياً إذا أجاد القادة قراءة أوراق اللعبة بمهارة وذكاء!

***

د. عبد السلام فاروق

توطئة: عنوان هذا المقال هو تصريح حديث لضابط في مكافحة المخدرات بوزارة الداخلية، يعكس تشخيصا لحقيقة واقعة بعد ان اصبحت تجارة المخدرات تأتي بالمرتبة الثالثة بعد تجارة النفط والسلاح باعتراف نائب برلماني من البصرة، وبعد ان صارت مخاطر المخدرات في العراق توازي تهديدات الإرهاب، وفقا لمديرية مكافحة المخدرات.. وبعد ان استطاع المهربون تطوير طرائق تهريبهم للمخدرات باستخدام طائرات شراعية تسمى (درون) تحمل بين (20 الى 30) كيلوغراما من المخدرات، تم اسقاط واحدة منها في البصرة تحمل مليون حبة (كبتاغون)!

ويأتي هذا المقال لتشخيص أهم أسباب شيوع المخدرات، واقتراح استرتيجية علمية تسهم في الحد من انتشار المخدرات في العراق.

الأسباب

منذ (18 كانون الثاني 2012) يوم عقدت في اربيل ورشة عمل لمناقشة مسودة قانون المخدرات، بمشاركة مسئولين في الحكومتين الاتحادية والاقليم وقضاة و و.. ولغاية (تموز 2023) والمؤتمرات والندوات تعقد وتخرج بتوصيات واقتراحات دون تنفيذ، حتى وصل الامر الى ان يكون (السباق للسيطرة على المخدرات أصعب بكثير من أي ملف جنائي آخر) باعتراف ضابط بمديرية مكافحة المخدرات.

لم تكن هناك متابعة ولا اهتمام بمعالجات عملية اقترحتها منظمات ومؤسسات علمية.. بينها، ان كاتب هذا المقال.. حذر من مخاطرها عبر الفضائيات وعقد اكثر من عشر ندوات في بغداد وعدد من مراكز المحافظات، آخرها ندوة في مركز الصيد الثقافي بنادي الصيد العراقي في (15 تموز 2023)، اكتشفنا فيها ان معظم المثقفين العراقيين والأعلاميين يعرفون تلك الأسباب، وان اعادة ذكرها يعد فائض معنى او اجترارا كنّا بدأناه من عشر سنين!.

المخدرات.. اخطر من الأرهاب

حظيت ظاهرة تعاطي المخدرات باهتمام كبير من قبل علماء النفس والاجتماع والقانون وصنّاع السياسة، لما تحدثه من تحلل للقيم وتدمير للأخلاق، ولأن انتشارها بين سكان شعب ما يؤدي ليس فقط إلى الإضرار بالصحة الجسدية والنفسية للمتعاطين لها، بل إنها تؤخر أو تعرقل منجزات الدولة وخططها التنموية، وتضعف أمنها الداخلي والخارجي أيضا حين توظّف المافيا الدولية للمخدرات في قضايا سياسية تكون الدولة منشغلة عنها بقضايا تعدها أخطر مثل الإرهاب.

والذي لم تعره حكومات سابقة الأهتمام الذي يستحقه، أن الأسباب التي تدفع إلى تعاطي المخدرات توافرت في العراق بشكل مثالي!.فالدراسات تشير إلى أن الفرد يلجأ لتعاطي المخدرات في الحالات الآتية:

موت احد أفراد الأسرة، أو شخص عزيز عليه.. ولا يوجد مجتمع بالعالم المعاصر فقد أهله آباءهم وأحبتهم في انفجارات إرهابيه واحتراب طائفي كالذي حصل في العراق، فضلا عن حالات التهجير والهجرة خارج الوطن.

تضاعف حالات الطلاق والتفكك الأسري.. وما يقرب من ثلاثة ملايين يتيم بين أطفال ومراهقين وشباب فقدوا آباءهم في الحروب، وعدد مماثل من الأرامل.

عدم الرضا عن الحياة والقلق من المستقبل، وكثرة البطالة التي زادت نسبتها بين الشباب بشكل خاص.

تطرف ديني وضغوط نفسية، يقابلها انفتاح غير منضبط على الإعلام الغربي يدفع بشباب ومراهقين إلى تعاطي مخدرات صار الحصول عليها سهلا.

نضيف إلى ذلك ما أكدته دراسات أجنبية وعربية من أن انتشار المخدرات يرتبط بدرجة الانفتاح على الثقافة الغربية، والعراق يعد البلد رقم (1) في المنطقة الذي انفتح على هذه الثقافة عبر قنوات فضائية بما فيها إباحية، واختلاط دام تسع سنوات بأفراد قوات الاحتلال. ومن المفارقات أن الدراسات أشارت أيضا إلى أن الرواج النفطي يؤدي إلى زيادة تعاطي المخدرات في البلد المنتج للنفط.. بمعنى إن الثروة النفطية تؤدي إلى الرفاهية، وهذه تؤدي إلى ثقافة استهلاكية.

نظرية عراقية

هنالك اكثر من نظرية حاولت تفسير الدافع الذي يضطر الانسان لتعاطي المخدرات بينها نظرية (انعدام المعايير- الانوميا) لعالم الاجتماع ميرتون.. ويعني بها التعبير عن الاحساس بانعدام المعايير التي اذا ما سادت في المجتمع فانها تحرم مجموعات اجتماعية من تحقيق مصالحها. واشارته الذكية الى ان المجتمعات التي تضع قيمة كبيرة على الامور المادية ومسائل الترف او لا تتمتع بها الا القلة، فانها تبرز فيها حالة الانوميا او فقدان العدالة الاجتماعية، فتظهر جماعات تتجاوز قيم المجتمع ونظامه، وتخرق محرماته ومنها تعاطي المخدرات والاتجار بها.

وترى نظرية (الانسحاب الاجتماعي) ان متعاطي المخدرات هو في حقيقته شخص حرم او عجز عن تحقيق اهدافه بوسائل مشروعه فاضطر الى الانسحاب عن المجتمع فتضطره عزلته الى تعاطي المخدرات لتخلق له عالما بديلا ينسيه عالما هو فيه نابذ او منبوذ .

اما نظريتنا العراقية فقد اسميناها (نظرية التيئيس الأنتحاري)، وترى ان النظام السياسي حين يكون ولاّد أزمات فان الانسان يمر بعملية نفسية دائرية بين: ازمة.. انفراج.. أزمة..، تفضي به الى تيئيسه من انه (النظام) عاجز عن تأمين حاجاته. وحين يصل حالة الأقتناع بأن السلطة اصبحت مصدر شقاء له، وان الواقع لا يقدم حلّا لمشاكله، فان من استنفد طاقته في تحمل الضغوط ووصل حالة الشعور بانعدام المعنى من الحياة.. يلجأ الى تعاطي المخدرات لانهاء حياته بعملية انتحار تدريجي لا شعورية.

استراتيجية علمية

تتضمن هذه الأستراتيجية الخطوات الآتية:

ان معالجة اية ظاهرة اجتماعية سلبية تبدأ اولا بتشخيص اسبابها عبر دراسات ميدانية، وعليه ينبغي تكليف اقسام علم النفس وعلم الاجتماع في الجامعات العراقية كافة باجراء دراسات ميدانية لتشخيص عوامل انتشارها (سياسية، اجتماعية، نفسية، اقتصادية..)، ومعرفة العلاقة بين انتشار تعاطيها وانتشار انحرافات أخرى، وما احدثته من تأثير في القيم والاخلاق، واقتراح المعالجات.

يتم ذلك باصدار توجيهات من مكتب دولة رئيس الوزراء الى الجهات المعنية، واعتبار هذا المشروع (قضية وطنية ومسؤولية اخلاقية ودينية).

تبدأ الأستراتيجية خطوتها الأولى بتفعيل قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (رقم 50 لسنة 2017)، وقيام الجهات المعنية بتطبيقه بحزم مسبوقا بتوعية واسعة بنوعيها.. الأعلامية و الجوالة.

عقد مؤتمر وطني بعنوان (المخدرات في العراق- الاسباب والمعالجات) تناقش فيه الدراسات الميدانية التي اجرتها اقسام علم النفس والأجتماع في الجامعات العراقية، وتوحيد الأسباب والحلول المقترحة.

ترفع نتائج المؤتمر الوطني الى هيئة تضم مديرية مكافحة المخدرات بوزارة الداخلية وممثلين عن مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، (البرلمان، الحكومة، القضاء) ووزارات الصحة والتربية والتعليم العالي والثقافة، والجمعية النفسية العراقية وجمعية الأطباء النفسيين العراقية، ومؤسسة شبكة الأعلام العراقي.. تقوم في ضوئها باعداد استراتيجية تنفذ على مراحل زمنية يجري لها تقويم يحدد الايجابيات والمعوقات.

تكليف الجمعية النفسية العراقية، بوصفها صاحبة المبادرة، بمتابعة التنفيذ وتشخيص ما تم تحقيقه واقتراح الحلول لمعالجة المعوقات بما يضمن تحقيق الأستراتيجية بسلاسة.

اننا سنعتبر هذا وثيقة تم نشرها في الجريدة الرسمية (الصباح)، نأمل من الجهات المعنية العمل على تحقيقها.. فالعلم مع الأرادة السياسية يساعدان جهود مديرية مكافحة المخدرات وتختصر الزمن لصالح ملايين الشباب الذين يتوقف عليهم حاضر ومستقبل اغنى بلد في المنطقة.. يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في ( 6 اكتبوبر 2020) نشرنا موضوعا بالعنوان اعلاه.. والتساؤل: هل ما يزال الحال على حاله في (تموز 2023)؟

على مدى عشرين سنة (2003- 2023) أثبتت الأحداث اننا في العراق لدينا حسينان، (حسين) السلطة وحسين الناس، (حسين) الحكّام وحسين المحكومين، (حسين) الخضراء وحسين ساحات التحرير، (حسين) قتلة أنصاره، وحسين شهداء شعاره(هيهات منّا الذلّة).

وما يدهشك ان ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسية، فيما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم ان القائم بها كان رجلا واحدا، وانه مضى عليها اكثر من الف عام.. والسبب هو ان موت الضمائر وتهرؤ الاخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على امرها.. فتغدو القضية صراعا ازليا لا يحدها زمان ولا مكان، ولا صنف من الحكّام او الشعوب.ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفا متفردا لقضية انسانية مطلقة، مادامت هنالك سلطة فيها: حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل.

وقضية اخرى لم ينتبه لها كثيرون، ان ثورة الامام الحسين تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر اسبابها، والشائع منها تمنحها هوية سياسية او اسلامية فيما الهوية الحقيقية لها انها ثورة اخلاقية.فلو كانت سياسية فان هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة فيما الحسين كان يعرف انه مقتولا.ولو كانت اسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير اسلاميين بينهم غاندي، فضلا عن ان الحاكم (الخليفة) كان يحتاج الى الدين لبقائه في السلطة.

واستشهاد الحسين كان تراجيديا من نوع فريد.. ليس فقط في الموقف البطولي لرجل في السابعة والخمسين يقف بشموخ وكبرياء امام آلاف الرجال المدججين بالسيوف والرماح المنتظرين لحظة الايذان بالهجوم عليه وقتله، ورفضه عرض مفاوض السلطة بأن يخضع لأمرها وله ما يريد، وردّه الشجاع بصيحته المدويه: (هيهات منّا الذلّه).. بل ولأن المشهد كان فيه نساء واطفال، وكأن الحسين اراد ان يثبت للبشرية ان بشاعة طغيان السلطة في أي نظام بالدنيا، تتجاوز وحشية الحيوانات المفترسة.

كان بامكان الحسين ان ينجو وأهله واصحابه بمجرد ان ينطق كلمة واحدة: (البيعة).. لكنه كان صاحب مبدأ: (خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدّي) والاصلاح مسألة اخلاقية، ولأنه وجد أن الحق ضاع: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به)، ولأن الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة.. وكلها مسائل اخلاقية.وكان عليه ان يختار بين: ان يوقظ الضمائر ويحيّ الاخلاق، أو ان يميتها ويبقى حيا.. فاختار الموت.. وتقصّد أن يكون بتلك التراجيديا الفجائعية ليكون المشهد قضية انسانية أزليه بين خصمين: سلطان جائر.. وجموع مغلوب على امرها.

ما زلنا نغلّب الانفعال على القيم

تتذكرون جيدا كيف كانت الجموع الكبيرة تتوجه مشيا على الأقدام من محافظات العراق الجنوبية متوجهة الى كربلاء في عاشوراء. وتتذكرون ايضا ان احزاب السلطة كانت تقيم الولائم على طول الطرق المؤدية الى كربلاء.. وما يعنينا هنا ان طقوس العزاء كانت تستهدف الاستغراق في الجانب الانفعالي على حساب تفعيل القيم الأخلاقية التي تشكل جوهر ثورته.ولهذا سببان سنتحدث عنهما بالصريح وان كان يغيض كثيرين بينهم من هو في السلطة ولديه وسائله في افناء الآخر.

السبب الأول، التوحّد مع تراجيديا الحدث في مشهده الانفعالي.

ولكي نفهم الأمور بعقلانية، نوضح هنا نظرية خاصة بالدماغ خلاصتها: ان كل واحد منّا يمتلك عقلين: انفعالي يتعلق بالحزن، الغضب، الحب، الخوف.. وفكري يتعلق بالادراك والفهم والتعامل مع الأمور بعقلانية.. وأنه اذا نشط احدهما فأن الآخر يضعف او يتعطل.

والذي كان يجري طوال عشرين سنة ان العقل الانفعالي لجماهير واسعة كان يسيطر عليهم فيستغرقون في اللطم والبكاء والمبالغة في تجسيد مظاهر الحزن، ويتعطل لديهم العقل المنطقي الخاص بالقيم والمباديء التي ثار من اجلها الامام الحسين.

وثمة حقيقة سيكولوجية، ان المشهد الجماهيري الذي يوحّده تعاطف عميق مع فاجعة انسانية، يحصل فيه نوع من التنافس او التصعيد في تجسيد الانفعالات يكون فيها المعيار الدال على حب الحسين هو: كثرة الدم المسفوح على الكتفين من ضرب الزنجيل، او شدة احمرار الصدور من اللطم عليها، او غزارة الدموع في بكاء مستمر، او طول مسافة المشي على الاقدام نحو كربلاء.

ان هذه المعايير لا تعبر بالضرورة عن شدة الحب للحسين، فهنالك فئات من الشيعة، ومحبيه من غير الشيعة، يعبّرون عن حزنهم للحسين بأساليب راقية تدلل على ان حبهم له اكثر وعيا بقيمه وتضحيته من اجل الحق والعدالة الاجتماعية.

والسبب الثاني..

ان الاسلام السياسي كان على مدى السنوات السابقة يوظّف الاحتفاء بذكرى استشهاد الحسين لغايات سياسية.ولأنهم جماعات وكتل واحزاب فان التنافس يجري بينهم من خلال ما يصرفونه على الجماهير من طعام وشراب ومنام.. الهدف منها زيادة عدد ناخبيهم.. بعكس ميسورين يصرفون الكثير في حب خالص للحسين منزه من غايات دنيوية.

اساءات السلطة للأمام الحسين

القيم الكبرى في ثورة الحسين هي الوقوف بوجه ظلم السلطة وطغيانها وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حرية وكرامة الانسان التي اكد عليها الاسلام.فتعالوا نطبّق هذه القيم على السلطة في العراق بعد التغيير.

واقع الحال ان العراق.. الى الآن 2023.. فيه عالمان: عالم السلطة المحدد بمنطقة صغيرة في بغداد (10كم مربع)، وعالم كبير هو العراق.والذي حصل ان هذه المنطقة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجع اليومية، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى: الترحم على الأيام التي كانت فيها هذه المنطقة حمراء!.وحصل ان السلطة في العراق عزلت نفسها مكانيا بأن احاطت وجودها بالكونكريت والحراسة المشددة، وعزلت نفسها نفسيا عن الناس.. ولو انها كانت قد اتبعت منهج الحسين لكانت قريبة من الناس لأن الحسين ساكن في قلوبهم.

وللأسف، ان اساءة السلطة للأمام الحسين وصلت الى الخارج.فبدل ان نقدم الحسين رمزا انسانيا لعالم افسدت أخلاقه السياسة فان تطبيقات السلطة واحزاب الاسلام السياسي ارتكبت اساءة بالغة بحقه أمام الأجانب.ففي مقالة لكاتب بريطاني اسمه(دافيد كوكبورن) نشرها في صحيفة الاندبندنت بعنوان: " كيف تحولت بغداد الى مدينة للفساد".. قال بالنص:

(احسست بألم وانا ارى شعارا مكتوبا على لافتات سوداء بساحة الفردوس: "الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن"!.

هذا يعني ان هذا الكاتب الاجنبي ادرك من ذاك الوقت التناقض الحاد بين قيم الامام الحسين وبين من تولى السلطة في العراق ويدعون انهم حسينيون.وللتاريخ فان ميزانية العراق كانت في حينها( 2013 ) تقارب ترليون دولارا.. اي ما يصل حاصل جمع ميزانيات العراق في ثمانين عاما!.وحينذاك ايضا حدث ان زخة مطر أغرقت بغداد وجعلوها العاصمة الأسوأ في العالم.

فأية اساءة أشدّ وجعا من اساءة يدعي اصحاب السلطة انهم (حسينيون) فيما اعمالهم تناقض مباديء الحسين وقيمه!.. وأقبحها انهم افقروا 13 مليون عراقي باعتراف وزارة التخطيط في 2018، بعد ان كانوا معدمين وصاروا يعيشون حياة باذخة ويشترون الفلل والشقق الفارهة في بيروت وعمان وشرم الشيخ ولندن وباريس.

الفاسدون هم.. الأقوى

يؤكد ذلك دليلان، الأول.. اعلان السيد حيدر العبادي يوم تولى رئاسة الوزراء (2014) بأنه سيضرب الفساد بيد من حديد، واصراره على ذلك (حتى لو يقتلوني) ، واعلانه بعد اشهر بأن الفاسدين يمتلكون القوة والمال والفضائيات.. وانهم مافيا ، مبررا انه لا ولن يستطيع.

والثاني، اعلان السيد مقتدى الصدر في (2020) انسحابه من العملية السياسية وامره باستقالة نواب التيار الصدري الذين يمثلون الكتلة الأكبر في البرلمان بعد عجزه عن تأليف حكومة أغلبية ، واعطاء مقاعده الثلاثة والسبعين لخصمه الذي يتهمه بالفساد.. ما يعني ان الفاسدين الذي (يذرفون الدموع عل الحسين) بتعبير الصدر.هم الذين يتحكمون بأمور البلاد والعباد.

وبرغم ان قراءة واقع الحال تجعلك عل يقين بأن الحسين لو خرج الآن في بغداد طالبا الأصلاح في أمّة جده ، فان اول من يتصدى اليه هم ساكنو المنطقة الخضراء، وبينهم من هو اقبح من الشمر بن ذي الجوشن!.. فانه سيبقى يخشاه كل حاكم مستبد بالسلطة والثروة، وان أطمأن قلبه!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لم يبق من جمهوريّة اليمن الديمقراطية الشعبية سوى العَلم، الذي يُرفع بعدن اليوم، وأحاديث الذكريات، يُدلي بها الأحياء المتقاعدون مِن جيل الثّورة والدولة. يتسامر بها الرفاق المتقاتلون ببلدان الاغتراب. سيتعجب من عاش واقعة الاثنين 13 يناير 1986، عندما يرى صورةً، بعد (37 عاماً)، تجمع علي سالم البيض وأبو بكر العطاس، يتوسطهما المحكوم بالإعدام في زمنهما، علي ناصر محمد، وسيقول: ماهو ثمن الدّماء وهدم البناء، ولم يبق سوى الصّدى؟!

لم يؤرخ للدولة الذّائبة، وكأنها نسياً منسياً، بهذه التّفاصيل الدّقيقة، وبهذا الجهد الموثق مِن ظهورها(1967)، وحتى ذوبانها(1990)، غير رئيسها وأمين حزبها الأسبق عليّ ناصر محمَّد، في «ذاكرة وطن»(دار المدى 2020)، فما صدر غيره كان ذكريات ودراسات.

كان علي ناصر محمد، ومِن لحظة إعلانها في 30 نوفمبر 1967 حتَّى 13 يناير 1986)، في موقع المسؤولية: محافظاً، وزيراً، ثم جُمعت له المناصب الأولى: أمين الحزب ورئيس هيئة الرئاسة ورئيس الوزراء، أُخذ منه الأخير، قُبيل مذبحة المكتب السّياسيّ(1986). لذا أتى كتابه موثقاً بالمحاضر والرَّسائل والأسماء، وكأنه نقلَ معه عصر 13 يناير 1986، محمولاً في ذاكرته، وهو يعبر إلى اليمن الشَّماليّ، أرشيف الدَّولة كاملاً، بينما كان يعتقد ما هي إلا ساعات ويعود.

أصفُ «ذاكرة وطن.. جمهورية اليَمن الديمقراطية الشعبيَّة 1967-1990»، بصفحاته الستمئة، بـ«مُتحف دولة». حوى قرارات التَّأسيس، وصراع الجبهتين: التَّحرير والقوميَّة، إلى بناء الحزب الاشتراكي، الوزارات والانقلابات، ومَن قُتل ومَن نجا. كيف تشكلت الدَّولة مِن(23) سلطنةً، كان لكلِّ منها علمٌ وحدودٌ. بدأت تُعرف المحافظات بالأرقام. كيف كان الصِّراع بين اليمين واليسار، والأخير واليسار المتطرف، الذي كان المقهى الحديث عنده مشروعاً برجوازيّاً.

انعكس الصِّراع العقائدي العالمي على رمال ساحل أبين مِن عدن حتى المكلا، والتَّأثر بالعصبية العقائديّة، وكانت عربياً على أشدها، حتى نالت الغزل، فقال أحدهم وشاع: «عيناك مطرقة وأنفُكِ منجلٌ/ والبعدُ عنكِ موقفٌ تكتيكيّ/ والخصرُ فيكِ مُنظَّمٌ ومؤدلجٌ/ لم يرتبط بمخططٍ أمريكيّ». زمن كان فيه إنشاء الوهم أمضى مِن واقع البناء.

غير أنّ ذلك لا ينفي، ما كانت تتمتع به عدن وتوابعها بالأمان، وثبات الأسعار، وقوة التّعليم واختلاطه، والسيطرة على تعاطي القات، ولولا الشّعارات التي أخذتها بعيداً، ما صارت مجرد «ذاكرة وطن». كانت تهمة «انفصاليّ» جريمةً، والمؤتمرات الحزبيّة تعبأ بالعداء للدول المصنفة آنذاك بالرَّجعيّة، على حِساب بناء الدّاخل.

أشار عليّ ناصر محمّد إلى الثَّوريّ الأردنيّ نايف حواتمة في تكريس التطرف، ليس مستغرباً أنّ تكون لحواتمة كلمة بعدن، لصفته التنظيمية في «حركة القوميون العرب»، والجبهة القوميّة الحاكمة بها فرعٌ لتلك الحركة. تحت هذا التثوير تمت التضحية بعقلانيّة قحطان الشّعبي(ت: 1982) وفريقه، بما عرف بـ«الخطوة التصحيحيَّة»(1969)، وتواترت النِّزاعات، التي أعطيت مسميات: «اليسار واليمين»، «الطُّغمة والزّمرة»، والتّسمية الأخيرة نتاج القاضيّة(13 يناير 1986) لتسهل الدّخول في الوحدة، التي كان يتحمس لها الجنوب(الثّوريّ)، يقابله تردد الشّمال(الرّجعيّ)، فالوضع بينهما يتبع ما بين المعسكر الاشتراكيّ والمعسكر الرأسماليّ.

تستغرب كيف ذهبت دَولةٌ أدراج الرِّياح، ويتلاعب بها شخص غريب عليها مثل حواتمة، تهمه راية الثورة لا الدولة. رأينا حواتمة وقد حضر دفن قتلى(1986) بعدن، وكأنه يواري تطلعاته. كانت النَّتيجة أنْ تتحول دولة ذات قوام وثروات إلى كتاب «ذاكرة وطن»، وهو بمثابة ضريحها، فحرب صيف(1994) لم تبق ولم تذر، إلا ما حفظته الصّدور، كصدر مؤلف الكتاب.

أقول: لأنني عراقي مأخوذ بالقلق والشَّجن، شعرتُ كأنّ الرَّئيس قد استوحى عنوانه مِن شعار قتلى ساحات التّظاهر بالعراق: «نريد وطن»، خشية مِن ضياع عراقهم، في خضم المأساة، فيمسي مجرد «ذاكرة وطن»!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

الحرب الأوكرانية التي تشتد خطورة مُتْخَمَةٌ بالمفاجآت؛ لأن التكتيكات العسكرية فيها سريعة الإيقاع في ظل استراتيجيات حربية متصاعدة ومتغيرة وتستخدم فيها الأسلحة النوعية وصولاً إلى القنبلة العنقودية التي يكون حصادها في الغالب من المدنيين، وقد يصل التصعيد الأعمى إلى درجة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية المحتمل! حيث تتوفر لدى الطرفين.

لكنها -أيضاً- استراتيجية تتشابه في الأهداف المرحلية لدى طرفيِّ النزاع، فروسيا الاتحادية من جهة.. وأوكرانيا إلى جانب الناتو من جهة أخرى.

كونها تقوم في هذه المرحلة على مبدأ إطالة أمد الحرب بغية استنزاف كلِّ طرفٍ لخصمه، وبالتالي إخضاعه لشروطه القاسية في أية مفاوضات محتملة.

وحسب بلينكن الذي قال-في مقابلة مع شبكة "c n n"- : "لن ينتهي الأمر خلال أسبوع أو اثنين، نظن أنه سيستمر عدة أشهر".. أي مدة مفتوحة.

وتتجلى أهم الشواهد على تَطَوّرِ الاستراتيجيتين نحو حرب الاستنزاف، بذلك الهجوم الأوكراني المضاد المتعثر والمدعوم من قبل الناتو، حيث فشل بسبب انتشار حقول الألغام الروسية الذكية التي حوّلت ميدان المعركة إلى مصيدة للدبابات المتفوقة.

فأوكرانيا تحاول يائسة الضغط على الروسيين باستهداف العمق الروسي أو ضرب مواقع في شبه جزيرة القرم مثل الجسر الذي يربط القرم بالبرّ الروسي ناهيك عن الهجوم الأوكراني يوم أمس الاثنين بمسيّرتين على مبنى وزارة الدفاع الروسية في موسكو فأصاب مبنى مجاور.

وذلك بهدف زعزعة الأمن في روسيا لحشر بوتين في الزاوية وتهيئة الظروف لانقلاب بعض قوى الداخل عليه تأسياً بتمرد فاغنر المبهم.

وهذا لا يعني بأن أوكرانيا باتت قادرة على الصمود في وجه القوة الروسية الضاربة والقادرة على التحكم بقواعد الاشتباك؛ بل أنها خاضعة لضغوطات أمريكية دؤوبة تسعى لإطالة أمد الحرب كهدف أمريكي بغية تقسيم الاتحاد الروسي، وهذا ليس خافياً على أحد.

فمنذ بداية الهجوم المضاد الأخير قتل أكثر من 24 ألف جندي أوكراني من النخب إلى جانب تدمير 20% من العتاد الغربي المتفوق على نحو دبابة ليوبارد الألمانية وأبرامز الأمريكية.. حيث أن نفاد الأسلحة النسبي في مستودعات الغرب وعدم القدرة على مواكبة غزارة الانتاج الروسي للأسلحة النوعية، دفع الناتو لتحويل المعدات المتضررة نسبياً إلى مراكز الصيانة في بولندا.

وإذا أخذنا في الاعتبار عزوف الشباب على الالتحاق بالجيش الأوكراني وترك مجموعات من الجنود مواقعهم في جبهات القتال، فإن ذلك تسبب بهبوط الروح المعنوية التي يجاهد الإعلام الغربي لرفعها من خلال بث الأضاليل.

وفي ذات السياق قال كبير المستشارين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فرانز غادي: إنّ “القوات المسلحة الأوكرانية لا تزال تفتقر إلى المهارات اللازمة للقيام بعمليات واسعة النطاق".. عازياً سبب فشل القوات المسلحة الأوكرانية في هجومها المضاد- رغم الدعم الغربي المفتوح- إلى عدم القدرة على التصرف بشكل متزامن مع الأسلحة المشتركة، إذ أن طبيعة الهجوم لن تتغير إلا إذا أصبحت الهجمات أكثر منهجية.

وهذه شهادة خطيرة من مركز دراسات مؤيد لأوكرانيا في حربها الطاحنة مع روسيا.

مقابل ذلك تنتهج موسكو نفس استراتيجية الاستنزاف إزاء الغرب فتقوم باستهداف أوديسا التي تضم ثلاثة مواني تستخدم عادة في نقل الحبوب إلى العالم وأوروبا بالتحديد، وتدمير- كذلك-أكبر صوامع الحبوب في المدينة، وغلق منافذ تصدير هذه المادة الغذائية الأهم على صعيد العالم من أوكرانيا بإنهاء اتفاقية الحبوب المبرمة في يوليو 2022، بين روسيا وأوكرانيا التي تمت بوساطةٍ من تركيا والأمم المتحدة، وبموجبها، سُمِحَ للسفن المحملة بالحبوب في الإبحارُ نحو وجهاتها عبر البحر السود الذي تحول بفعل هذا القرار إلى بحيرة روسية مقفلة، فلا يُسْمَحُ بتوجه السفن نحو ميناء أوديسا بذريعة أنها كانت تُسْتَغَلُّ في نقل الأسلحة إلى أوكرانيا ومنصات لإطلاق المسيرات من على متون بعضها، فاستهدفت مؤخراً جسر القرم وقاعدة التدريب الروسية في شبه الجزيرة، ويُعَدُّ هذا بالنسبة لروسيا من الخطوط الحُمْر.

القرار الروسي الاستراتيجي وضع العالم وخاصة أوروبا على محك أزمة قمح ستؤثر سلبياً على الجميع ما لم يفي الغرب بمستحقات روسيا من الاتفاقية على نحو: وقف الحصار عن الشركات الغذائية والأسمدة والأمونيا الروسية إلى جانب رفع الحظر عن البنوك الزراعية المعنية بتطوير هذا القطاع المؤثر عالمياً وإعادتها إلى نظام سويفت.

ويبدو أن استهداف القرم كان ضمن استراتيجية الناتو الجديدة التي تقررت مؤخراً في مؤتمر الناتو الذي انعقد في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، بغية إنهاك روسيا بعد أن تبين لهم استحالة تحقيق الأهداف الميدانية لأكرانيا، لاستحكام الجيش الروسي خلف مزرعة واسعة من حقول الألغام الذكية واستخدام صواريخ 3أم-54 كاليبر التي تطلق من السفن والغواصات بحراً وبراً فيما يصعب رصدها.

وتؤكد مجلة فوربس الأميركية أن "القوات الأوكرانية تكبدت خسائر كارثية خلال محاولتها تجاوز حقول ألغام روسية في مالايا توكماتشكا بجنوب أوكرانيا، وأن المراقبين تفاجؤوا بتلك الخسائر".

ووفق ما جاء في غازيتا الروسية: فإن " هذا الهجوم الفاشل أسفر عن خسارة في صفوف الأوكرانيين تعادل كتيبة كاملة".

وبالنسبة للغرب فكانت الصدمة تكمن في عدم تأثر الاقتصاد الروسي بِحِزَمِ العقوبات التي فُرِضَتْ عليه حتى بإخراج روسيا من نظام سويفت؛ وتجلت العافية في الاقتصاد الروسي أكثر بتحرك روسيا في إطار مجموعة بريكس بإصدار عملة موحدة للمجموعة ستطرح في مؤتمرها المقبل بجنوب أفريقيا في أوغسطس 2023، ما سيشكل ضربة لمكانة الدولار عالمياً.

ووفق ما قاله نائب رئيس مجلس الدوما الروسي ألكسندر باباكوف فإن هذه العملة الجديدة ستُنشأ على أساس استراتيجي، وليست قائمة على الدولار أو اليورو، وإن تأمينها سيكون بالاعتماد على الذهب والسلع الأخرى مثل المعادن النادرة.

وهذا قد يضع تفسيراً منطقياً لدراسة الغرب خيار حظر التعامل مع الذهب الروسي عالمياً مع أن هذا الخيار قد يربك الصناعات الدقيقة التي لا تستغني عن المعادن الروسية النفيسة.

ويأتي هذا خلافاً للأزمات المتفاقمة والاضطرابات التي تشهدها بعض دول الاتحاد الأوروبي- فرنسا على سبيل المثال- بسبب التضخم الناجم عن دعمها للحرب الأوكرانية التي خرجت من عقالها وتحولت إلى حرب استنزاف مفتوحة على المجهول.

أما المفاجأة غير السارة بالنسبة للناتو على هامش الحرب الأوكرانية فتكمن في أن الناتو الذي وضع كل ثقله في الحرب الأوكرانية بات يستشعر خطراً داهماً آخر في منطقة بحر البلطيق.

وكان بوتين يتحرك بذكاء قل نظيره! ضمن الاستراتيجية الروسية في جانبها المبهم، على اعتبار أن روسيا أخرجت قوات فاغنر من أراضيها متبرئة من افعالها بعد الانقلاب الفاشل.

لذلك قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما (البرلمان الروسي) أندريه كارتابولوف في وقت سابق: إن بريغوجين قائد قوات فاغنر أُبلغ بأن قواته لن تشارك في العمليات العسكرية بأوكرانيا بعد رفضه توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية.

لكن فاغنر لم تصفّى؛ بل انتقلت للعمل في بلاروسيا وتعاقدت مع الجيش هناك لتدريب أفراده.. وهذا الأمر جعل البولنديين في حالة تأهب خوفاً من تعرض بلادهم لهجوم مباغت من جهة بلاروسيا.

وقد تزامن ذلك مع تحذير بوتين لأي جهة قد تستهدف الأراضي البلاروسية على اعتبارها جزءاً معنوياً من الاتحاد الروسي.. ثم يأتي تنصل لوكاشينكو الذي قدم الحماية لجماعة فاغنر منوهاً في آخر لقاء له مع بوتين في سان بطرسبورغ في أن هذه القوات تريد الذهاب لبولندا، ولولاً ضغوطه لتوجهوا إلى وارسو.

وشدد لوكاشينكو - خلال اللقاء- على أن تجزئة أوكرانيا وضم مناطقها الغربية إلى الأراضي البولندية أمر غير مقبول بالنسبة لبيلاروسيا، مؤكدا أنه إذا لجأت بولندا إلى هذه الخطوة فإن بيلاروسيا ستقدم الدعم لسكان المناطق الأوكرانية الغربية بكل الطرق المتاحة.

ولكن! ماذا لو أن روسيا باغتت الغرب من خلال مجموعة فاغنر لدرء الخطر المحدق بكالينغراد الروسية المحاصرة بحكم الجغرافيا! من خلال السيطرة على ممر سوالفي البري "ثغرة النيتو في بحر البلطيق" والذي يُحَدُ ببلاوسيا من جهة الشرق، والحدود الشرقية المشتركة الليتوانية البولندية في الجهة المقابلة؟.

ويشكل هذا الممر الطريق البري الوحيد بين كالينغراد وروسيا عبر بلاروسيا؛ لذلك تسعى روسيا من خلال مليشيات فاغنر إحكام السيطرة عليه لقطع الطريق عن الناتو الساعي لعزل كالينغراد الروسية في مرحلة ما.

وتجدر الإشارة إلى أن سكان تلك المنطقة هم سلافيون شرقيون يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ولو تم ذلك فلدى روسيا وبلاروسيا ما يثبت عدم تورطهما في ذلك على اعتبار أن جماعة فاغنر -كما اسلفنا آنفاً- مليشيات مستقلة وتعتمد على المرتزقة وتسعى للانتقام من بولندا التي تحولت إلى مركز لوجستي داعم لأوكرانيا، ما تسبب بمقتل أكثر من 20 الف مقاتل من رجالها في باخموت! فهل ينجح بوتين في ذلك؟.

وهذا من شأنه تهديد الناتو في بحر البلطيق ما لم تنفذ تركيا وعودها بالسماح لستكهولم بالدخول في الناتو.

***

بقلم: بكر السباتين

25 يوليو 2023

هل نحن مقبلون على حرب المعتقدات؟!

في الساعة الحادية عشرة من صباح الاربعاء (7/1/2015) دخل مسلحان مبنى صحيفة (شارلي ايبدو) في باريس وناديا بالاسماء على كادرها بدءا بمديرها وقتلوا اثني عشر شخصا بينهم خمسة من رسامي الكاريكتير كانوا قد نشروا فيها رسوما تسخر من النبي محمد.. وبأقل من عشر دقائق انتهى المشهد الاجرامي الذي وصف بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ اربعين عاما، ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر.. انتقمنا للرسول انتقمنا للنبي محمد).. وانتهت الدراما بقتلهما على ايدي الشرطة الفرنسية في (9/1/2015).

وفي يوم الأحد (11/1/2015) شهدت باريس اضخم مسيرة ادانة وتضامن، قدّرت بملايين يتقدمها رؤساء وممثلو خمسين دولة. وفي (13/ 1/2015) صدر اول عدد من صحيفة (شارلي ايبدو) بعد الحادث بخمس ملايين نسخة بعد ان كان معدل ما تطبعه ستين الفا، و بـ(16) لغة بينها اللغة العربية بعد ان كانت تنشر بست لغات.. تصدرت غلاف العدد صورة للنبي محمد يحمل لافته مكتوبا عليها (أنا شارلي).. مع دمعتين على الخدين.. وقد اعادت نشره صحف يسارية في اوروبا وتركيا فيما تجنبت صحف امريكية ووسائل اعلام مرئية نشر رسوم ذلك العدد.وقد اصرّ القائمون الجدد على مواصلة المجلة نهجها في السخرية من الأديان، فيما استنكر الازهر تلك الرسوم التي وصفها بالخيال المريض، وبانها منفلتة من كل القيود الاخلاقية، وانقسم العالم الى فريقين.. في تظاهرات ومسيرات مؤيدة لنهج (شارلي) واخرى معارضة ومنددة في دول اسلامية.

لم تكن صحيفة شارلي هي اول من تنشر صورة تسخر من النبي محمد، ففي 30 ايلول (سبتمبر) 2005 نشرت صحيفة بولاندس الدانماركية صورا ساخرة للنبي محمد، تبعتها في 10 كانون الثاني 2006 صحيفة (مكازنيت) النرويجية و(دي فيلت) الالمانية وصحف اوربية اخرى باعادة نشر تلك الصور، اثارت غضبا عنيفا تجسّد في احتجاجات شعبية ورسمية كبيرة في العالم الاسلامي.. تبعتها اعمال عنف بينها اشعال النار في مبنى سفارتي الدانمارك والنرويج واحراق القنصلية الدانماركية في بيروت.

كان لتلك الصور هدفان رئيسان، الأول سياسي (رسم رجل ملتحي بعمّة كتب عليها "لا إله إلا الله" وفتيل مربوط بقنبلة).. ما يعني ان الدين الاسلامي دين عنف، والثاني اخلاقي او قيمي تمثله صورة تشير الى ان النبي محمد كان يضطهد النساء.. ما يعني ان الهدفين يفضيان بالتبعية الى مقارنات بين الأنبياء من جهة وبين الأديان من جهة اخرى!. وان ما حدث لشارلي هو البدء باعلان المواجهة الصريحة بين الايمان والالحاد.. قد تفضي الى معارك يسيل فيها الدماء ويسجلها التاريخ بعنوان (حرب الانبياء).

وفي 21/ 7 / 2023 قام شاب من اصل عراقي اسمه (سلوان موميكا) بحرق نسخة من القرآن في العاصمة السويدية ستكوهولم، اتبعها بعد اسبوع بركل نسخة من القرآن بقدمه وحرق العلم العراقي امام السفارة العراقية في استكوهولم.. نجم عنه اقتحام متظاهرين مبنى السفارة السويدية في بغداد وحرق اجزاء منها، وقيام العراق بطرد السفيرة السويدية واستدعاء ممثله في استوكهلم، وتصاعد موجة من الاحتجاجات والغضب الجماهيري في بغداد ومسلمين في مدن سويدية. وقبل (سلوان) قام يميني متطرف دانماركي اسمه (راسموس بالودان) بحرق نسخة من القرآن امام السفارة التركية بالسويد لدوافع وصفت بانها كانت للتنديد بالمفاوضات التي تجريها السويد مع تركيا . ولم تكن الردود العربية الرسمية بمستوى ما وصف بان حرق القرآن يعد جريمة، مع ان الحكومة السويدية وصفت ما قام به سلوان بانه (حرية تعبير).

وللتاريخ فان حرق نسخ من القرآن ليس جديدا بل يعود الى عام 1530، وتكرر الفعل عدة مرات في اثناء الحروب الصليبية، ما يعني ان مسلسل حرق الكتب المقدسة سيستمر.. وانها قد تفضي الى حرب تتوحد مع (حرب الأنبياء) بعنوان اكبرهو.. حرب (المعتقدات).

الأيمان بالعقيدة.. حق ديمقرطي

تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها ماخوذة من الفعل (عقد) الذي يعني الاحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بان العقيدة الصحيحة هي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها صاحبها. ويرى آخرون ان العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به ايمانا جازما، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به. ويرى فريق آخر بان العقيدة تعني الايمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق اليه شك، وانها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن اليها نفسه، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها. ويحدثنا التاريخ عن قادة كبار وسياسيين مناضلين قتلوا لأنهم رفضوا التخلي عن معتقداتهم سواء كانت دينية او سياسية.

هذا يعني ثلاث حقائق:

ان ثمانية مليار انسان في عالم اليوم، يتوزعون على عدد لا يحصى من المعتقدات.

ان المعتقدات التي يؤمنون بها، بينها الضد وضده النوعي، مثال ذلك: الأيمان والألحاد.. وان جماهير الضدين قد يصل المليارين.

ان أي حرب تقوم بين الضدين ستكون ضحاياها بالملايين.

المشكلة في.. حرية التعبير

تعد (حرية التعبير) احد اركان الديمقراطية .. وثمة سوء فهم هنا في الخلط بين المقصود بحرية التعبير للصحافة والأعلام في النظام السياسي، وبين حرية الفرد في التعبير.والشرط الأساس هنا يكون بأن لا تتضمن حرية التعبير الأساءة الى معتقد جماعة، حتى وان كنت تراه سخيفا.ما يعني انه لا يحق للمسلم او المسيحي او اليهودي ان يسخر من الهندوس الذين يقدسون البقرة. ولا يحق لأي مؤمن بدين معين ان يسخر من معتقدات مؤمن بدين آخر .

وفي التشخيص السيكولوجي فأن اخطر الأفراد في هذه القضية هم المصابون بـ(الحول العقلي) .. وهو مصطلح ادخلناه في علم النفس العربي يعني ان المصاب به يرى كل ما هو ايجابي في معتقده ويغمض عينيه عما هو سلبي فيه، ويرى كل ما هو سلبي في معتقد الآخر ويغمض عينيه عما هو ايجابي فيه، وأن معتقده هو الصح ومعتقد الآخر خطأ.. ويمكن ان نصف الحول العقلي بأنه مرض الشعوب العربية.

وعليه، فان الضمانة الحقيقية لأن يعيش ثمانية مليار انسان بسلام هو ان تحترم حكومات العالم معتقدات الأديان ولا تسمح بالأساءة لها. وان يكون الحوار العلمي هو الوسيلة للتفاهم .. وبدونه فأن حرب (المعتقدات) قادمة.. وقد يشعلها من يمتلك الذكاء الأصطناعي للسيطرة على الشعوب المأزومة!.

***

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يخيل لي أن شيخ الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر، كان سيفضل أن تكون زيارته إلى بكين الخميس الماضي سرية، مثلما كانت رحلته الأولى اليها قبل أكثر من نصف قرن. غير أن العالم تغير تماماً، وما كان يمكن أن يكون سرياً في ذلك الزمان أصبح الآن من المستحيلات في ظل التطور الهائل في وسائل الاتصالات والإعلام وثورة التكنولوجيا والمعلومات، وفي هذا الشأن تكتب هيلاري كلينتون في مذكراتها عن عملها وزيرة للخارجية: « مازحتُ هنري بأنه كان محظوظاً لأن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة عندما قام بأوّل رحلة سرية إلى الصين. تخيّل لو حاول وزير خارجية القيام بذلك اليوم».

ومنذ تلك الرحلة السرية التاريخية التي قام بها وزير الخارجية الأميركي في تموز 1971 والتي مهدت لزيارة نيكسون في العام التالي، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس أميركي إلى الصين بعد سنوات طويلة من التوتر والخلاف والعداء بين البلدين، زار كيسنجر الصين بعدد سنوات عمره المائة، لكن يبقى لزيارته هذه التي تحمل الرقم 100 أهمية خاصة تقترب من أهمية الرحلة السرية الأولى، على الرغم من أنه غير مكلف من واشنطن، ولا يشغل أي منصب سياسي أو دبلوماسي فيها، ولا يمثل إلّا نفسه وحجمه وتاريخه ومكانته في عالم الدبلوماسية العالمي خلال قرنين متتاليين، ذلك أن هذه الرحلة تأتي والعلاقة بين البلدين ليست على ما يرام، وقد تكون أعقد من تلك العلاقة التي فككها قبل أكثر من خمسين عاماً، كما أنه يعرف بحكم علاقاته الطويلة مع الصينيين، وصداقته الحميمة مع رئيس وزرائهم التاريخي شو إن لاي، بأنهم يحترمون الصداقة ولا ينسون الصديق الذي يديم التواصل معهم، وهناك مَثل شعبي صيني يدعوك إلى عدم الامعان في الغياب عن الأصدقاء، فقد يؤدي بهم ذلك إلى نسيانك، وكيسنجر يعرف أكثر من غيره أن الصينيين لم ينسوه أبداً، ولم يخب ظنه فقد استقبلوه وهو «المواطن العادي» في المبنى رقم 5 بدار ضيافة الدولة الذي التقى فيه شو إن لاي خلال زيارته السرية الأولى في إشارة ذات مغزى، وأعدوا له استقبالاً بروتوكولياً، واحتفى به الرئيس الصيني شي جين بينغ، وكأنه مازال وزيراً للخارجية، وذكره بأن الشعب الصيني يثمن الصداقة، ولن ننسى أبداً صديقنا القديم، كما التقى عدداً من المسؤولين الكبار ومنهم وزير الدفاع، مما أثار غيض البيت الأبيض لأن مواطناً عادياً يتمكن من لقاء وزير الدفاع وإجراء اتصال، ولا تستطيع الولايات المتحدة ذلك!.

كان كيسنجر قد التقى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لأول مرة عندما كان ضمن طاقم الرئيس ريتشارد نيكسون الذي زار الصين بعد تلك الرحلة السرية لوزير خارجيته، والتقاه مرة ثانية في شباط من العام 1973 وقد بلغ ماو الثمانين، ويصفه كيسنجر في مذكراته بأنه طاعن في السن وقد « تقدّم في العمر كثيراً ليستطيع السير بثورة جديدة «، لكنه لا يشعر اليوم بأنه تقدّم في العمر كثيراً « 100 عام وبضعة أشهر» ليتمكن من فتح باب جديد يفضي إلى تلطيف الأجواء، وتهيئة السبل التي قد تفضي إلى حوار جديد بين بلده والصين وهو من دون أية مسؤولية أو منصب حكومي. ومن طريف ما يذكره هنري كيسنجر عن لقاءه مع ماو تسي تونغ خلال زيارته للصين في شباط 1973 . وكانت صحة ماو غير جيدة في تلك السنة، ومع ذلك فإنه مثلما فعل مع الرئيس نيكسون قبل عام استدرج كيسنجر إلى « حديث سقراطي مرح «، وقد ذهب للقاء ماو مستقلاً سيارة شون إن لاي القديمة، موديل 1939 « وكلّها مخلّعة «، ثم يصف المكان الذي استقبلهم فيه الزعيم الصيني:» كان يجلس، تجاه نصف دائرة من المقاعد، مغطاة بقماش أسمر اللون، الكتب مبعثرة في كل مكان، في الأرض، أمام ماو، على الطاولات الصغيرة، بين المساند، على الرفوف، إلى جانب الجدران!! «. وبعد حوار ونقاش فاجأه ماو بالقول: « انكم تعلمون ان الصين بلاد فقيرة جداً، ليس لدينا أشياء تعتبر زائدة، سوى النساء»!. اعتقد كيسنجر أن ماو كان يمزح معه، فأجاب بلهجة معينة لا تبدو أنه قد فهم هذا الكلام، فأكمل ماو حديثه: « دعوهّن يطأن أرض بلادكم، فانهم مدعاة للسكينة، وبهذا تخففون حملاً عن كاهلنا «. وهنا قهقه عاليا» !!، ثم قال :» لذلك إذا رغبتم في الحصول على بعضهن، فاننا قادرون على تزويدكم ببعض عشرات الآلاف». وكرر ماو مثل هذا الكلام مرة أخرى، لكن كيسنجر لم يفهمه جيداً، مما اضطره ليستعين بزوجة مساعده ومرافقه في الزيارة ونستون لورد التي أخبرته بأن « الوضع في الصين لم يكن مستقراً كما يبدو، والنساء، ويعني منهن جيانغ كينغ زوجة الرئيس ماو، رئيسة الجناح اليساري، وكن هؤلاء النساء يُثرنَ الاضطراب في الصين».

مضت على هذه الذكريات نصف قرن بالتمام والكمال، توفي ماو بعد هذا اللقاء بثلاثة أعوام عن عمر 83 عاماً، وقبله بتسعة أشهر توفي شو إن لاي ولم يكن قد بلغ الثمانين، وتوفي الرئيس نيكسون عن عمر 81 عاماً، أما زوجة ماو فقد شنقت نفسها في السجن وعمرها 77 عاماً.

 وبقي هنري كيسنجر دبلوماسي القَّرنين بلا منازع.

***

د. طه جزّاع

المبحث السادس – الفساد في المنافذ الحدودية العراقية

يمتلك العراق ثلاثة أنواع من المنافذ الحدودية، وهي البرية والبحرية والجوية، إذ يؤكد الخبير في الشأن الاقتصادي “هيثم محمد” في حديثه لوكالة “يقين” على أن للعراق 24 منفذا حدوديا بريا وبحريا مع الدول الست المجاورة له، وهي كل من السعودية والكويت والأردن وسوريا وتركيا وإيران، مشيرا إلى أن معظم هذه المنافذ مسيطر عليها من قبل الميليشيات المسلحة والمتنفذين من قادة الأحزاب السياسية في واحد من أخطر ملفات الفساد في البلاد، بحسبه.

ويعدد محمد المنافذ الحدودية العراقية، وهي كل من منفذ مطار بغداد الدولي ومطار النجف ومطار الناصرية والبصرة ومنفذ الشالجية والشيب وسفوان والزبير والخور، إضافة إلى منفذ ميناء المعقل وأم قصر الشمالي وأم قصر الجنوبي والشلامجة وزرباطية والمنذرية ومندلي وميناء أم فلوس وطريبيل وربيعة والقائم والوليد ومنفذ المنطقة الحرة (عويريج) [1]. ويشير محمد إلى أن هذه المنافذ هي تلك التي تخضع لسلطة الحكومة الاتحادية يضاف لها منفذ مطار الموصل الدولي المتوقف عن العمل فضلا عن منافذ كردستان العراق. هذا وتخضع جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية قانونا لهيئة المنافذ الحدودية وتتولى مسؤولية استحصال الجمارك فيها كل من هيئتي الضرائب والجمارك التابعتين للحكومة.

يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد “وائل عبد الحسين” في حديثه لوكالة “يقين” إن المنافذ الحدودية في جميع بلدان العالم تعد منافذ سيادية تتحكم فيها الدولة بالكامل، ولا مجال لتدخل أي شركات استثمارية أو أحزاب في السيطرة عليها، إلا أن العراق ومنذ العام 2003 شهد انقلابا في الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن تكون عليه المنافذ الحدودية بأنواعها من مسؤولية الحكومة حصرا.  ويخسر العراق يخسر ما يقرب من 8 مليارات دولار جراء الانفلات في السيطرة على المنافذ الحدودية، لافتا إلى أنه ومن خلال دراسة أعدها عبد الحسين مع مجموعة من طلابه، فإنها كشفت أنه وفي حال سيطرة العراق على منافذه الحدودية وإغلاق المنافذ غير الرسمية فيه، فإن واردات هذه المنافذ يمكن أن ترفد العراق بنحو 15 مليار دولار سنويا – كحد أدنى –، باستثناء ورادات منافذ شمال البلاد -كردستان-، خاصة أن العراق يعتمد على الاستيراد في جميع مفاصله الاقتصادية [2]. ويختتم عبد الحسين حديثه بالتأكيد على أن عملية السيطرة على المنافذ تحتاج لإرادة حكومية قوية وقوات أمنية غير ملوثة بالفساد، وبغير ذلك فإن الوضع القائم سيستمر. ولا يكاد يوجد منفذ حدودي في العراق إلا وهناك توغل لميليشيات مسلحة أو حزب سياسي فيه، بهذه الكلمات يصف مصدر أمني رفيع المستوى في وزارة الداخلية الوضع في المنافذ الحدودية العراقية.

ويكشف المصدر لـ “وكالة يقين” أن المنافذ الحدودية التي تنشط فيها الميليشيات والأحزاب تقع غالبيتها في الجانب الشرقي من العراق كحدود مع الجمهورية الإيرانية، إضافة إلى المنافذ البحرية بأكملها ومنفذ حدودي آخر بمحافظة الأنبار. ويؤكد المصدر على أن الأحزاب تسيطر على المنافذ منذ أكثر من  16 سنة ، إلا أن السيطرة الفعلية على المنافذ من قبل الميليشيات بدأت بالتسارع منذ العام 2014. ولهذا فإن ملف المنافذ الحدودية العراقية يعد من أكبر أبواب الفساد في البلاد وأوسعها، وأن هناك سيطرة واضحة للمسلحين على المنافذ الحدودية من شمال العراق إلى جنوبه.  وهناك منافذ تدخل البضائع منها دون تأشيرة جمركية ومن دون فحص لسيارات النقل فضلا عن عدم معرفة مسؤولي المنافذ بنوع المواد أو البضائع الداخلة للبلاد والتي تتخللها كميات كبيرة من المخدرات في كثير من الأحيان. وهذه كلها تسيطر على المنافذ البحرية والبرية الممتدة من خانقين في ديالى وحتى جنوب الحدود الإدارية لمحافظة البصرة جنوبا.

وتسيطر الميليشيات  كذلك بشكل كبير على منفذ القائم الحدودي، ولديها منفذان آخران غير رسميان مع سوريا يتمثلان بما بات يعرف عراقيا بمنفذ (السكك البرية) مع سوريا، إضافة إلى منفذ (السنجك) الذي يمتد عبر المهر ويصل إلى منطقة الباغوز السورية. وبطرق ملتوية وشركات وهمية وأخرى مسجلة تستخدمها الفصائل المسلحة والأحزاب من أجل تيسير سيطرتها على الموانئ العراقية جنوب البلاد، يسيطرون على المنافذ البحرية وأرصفتها.

ويضيف منتظر البدري في حديثه لوكالة “يقين” أن هذه السيطرة تتم من خلال تأسيسهم لشركات تجارية وأخرى مختصة بالاستيراد والتصدير كواجهة لها، إذ تحكم كل ميليشيا أو حزب سيطرتها على مجموعة من الأرصفة، كما أن لكل فصيل أو حزب تخصص معين في التهريب وإدخال الممنوعات أو البضائع غير المرخصة كالمنتجات الزراعية والسيارات وقطع غيارها فضلا عن التهرب الجمركي من خلال التلاعب بكميات البضائع المستوردة وأنواعها. ويضيف البدري بأن هيئتا الجمارك والضرائب وجهاز السيطرة والتقييس النوعي يشوبها الكثير من الفساد، إذ أن هذه الميليشيات والأحزاب أخضعت غالبية العاملين في هذه المؤسسات لسلطتها من خلال إغرائهم بالمال أو تهديدهم بالتصفية في حال لم يمتثلوا لطلباتها، بحسب قوله.  وأن الذي يدخل خزينة الدولة من واردات المنافذ الحدودية هو 20%  أما ال 80% من الواردات تسيطرعليها الأحزاب والفصائل التابعة لها في المعابر الحدودية.  ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة من منع عمليات  تهريب السلاح والنفط والمخدرات وكذلك الاعتداء على موظفي  منفذ زرباطية يشي بأن هذه الفصائل المسلحة لن تتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مصالحها في تلك المنافذ [3].

كما أشار حسن  العبيدي إلى مشكلة أخرى تتعلق بالمنافذ الحدودية وتعد أكثر خطورة من السيطرة على المنافذ الرسمية، إذ يكشف العبيدي في حديثه لوكالة “يقين” عن أن هناك ما يقرب من 10 منافذ حدودية غير رسمية على طول الحدود العراقية الإيرانية، وأن 4 منها تقع في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة كردستان، مشيرا إلى أن الخط الحيوي البري للفصائل المسلحة يمتد من محافظة ديالى وحتى محافظة ميسان جنوبا، فضلا عن منفذين غير رسميين خاضعين لسيطرة ميليشيا حزب الله على الحدود العراقية. ويرى العبيدي أن لا سبيل للسيطرة على المنافذ الحدودية العراقية إلا بتحجيم الفصائل المسلحة والحد من قدراتها في الداخل قبل الحدود، إذ ليس من المعقول أن تستمر هذه الفصائل في سيطرتها وفتحها لمنافذ حدودية جديدة في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة لإحكام سيطرتها على الحدود [4].

تشير الأرقام التي تصدرعن المسؤولين وبعض النواب إلى أن الفساد في المنافذ الحدودية يكلف العراق مليارات الدولارات سنويا، ويكشف الخبير الاقتصادي والأستاذ في الجامعة العراقية “عبد الرحمن المشهداني” في حديثه لوكالة “يقين” أن للعراق أكثر من 22 منفذا حدوديا بريا وبحريا وجويا، إلا أن هذه المنافذ لا ترفد الدولة بإيرادات مالية كبيرة يمكن لها أن تغطي جزء لا بأس به من موازنة البلاد.

وبحسب المشهداني الذي تحدث لوكالة “يقين” فإنه وطيلة السنوات السابقة لم تتجاوز قيمة الإيرادات المالية من المنافذ الحدودية ربع الواردات المفترضة، كاشفا عن أنه وبعملية حسابية بسيطة، فإن الأموال المسروقة والمهدورة جراء انفلات أوضاع المنافذ الحدودية تقدر قيمتها بنحو 100 مليار دولار منذ العام  2003  [5]. أما النائب عن اللجنة المالية البرلمانية “أحمد الصفار” فأشار صراحة في حديثه لوكالة “يقين” إلى أن ما يدخل لخزينة الدولة من واردات المنافذ الحدودية لا يتعدى الـ 20% في الوقت الذي تنتفع به الأحزاب والفصائل المسلحة المتنفذة في المعابر من تلك الأموال [6].

كما أكد الصفار على أن المنافذ الحدودية تعد واحدة من أهم روافد الموازنة في حال سيطرة الدولة عليها، وأن أولى خطوات الإصلاح المالي في البلاد تكمن في السيطرة على هذه المنافذ وإغلاق غير الرسمية منها حسب قوله.

الخاتمة: الاستنتاجات:

ونخلص من خلال ما تقدم آنفا اننا لم نستوفي جميع فرضيات البحث من حيث:

أن المؤسسات المالية والاقتصادية في العراق لم تحقق كافة متطلبات الاصلاح الاقتصادي بما فيها ثبات سعر صرف الدينار العراقي حتى تتحقق رفاهية المواطن العراقي وأنما تغير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي من  1119 إلى 1500.  ولا زالت مشكلة مزاد العملة تؤرق نوم العراقيين بشكل عام والاقتصاديين والسياسيين بشكل خاص.

أن الخطط والبرامج الاقتصادية التي وضعت من قبل وزارة التخطيط العراقية لم تنفذ بالشكل المطلوب حتى تتحقق الاهداف التي وضعت هذه الخطط والبرامج الاقتصادية التنموية من أجلها ألا وهي رفع المستوى المعاشي للشعب العراقي. ولم نعرف نتائج الخطة الاقتصادية للسنوات 2018-2022. وأنما حلت محلها الورقة البيضاء للاصلاح الاقتصادي ومشروع قانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية.

لازال نظم المعلومات في المؤسسات والمشاريع الإنتاجية التي لها علاقة مباشرة بالإقتصاد الوطني ليست على مستوى جيد بحيث يخدم متطلبات الاصلاح الاقتصادي وكذلك لازالت البيروقراطية الإدارية  والتداخل في المهام الإدارية بين الوحدات التنظيمية المختلفة تقف حجر عثرة أمام تقدم الاقتصاد العراقي.

التوصيات

نوصي بإتخاذ الخطوات التالية من أجل انقاذ الاقتصاد الوطني العراقي حتى لايقع في الهاوية:

انشاء صندوق سيادي لاستثمار عوائد ومداخيل بيع النفط العراقي مع تنمية وتطوير قطاعات الاقتصاد العراقي وخصوصا الصناعة والزراعة والبني التحتية بمساهمة القطاع العام والخاص والمختلط.

اتخاذ قرار من قبل البنك المركزي العراقي بأن لايزيد معدل التضخم في العراق عن 2.5 % سنويا

تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل العملات الأجنبية وخصوصا الدولار الأمريكي (1 $ = 1119 د.ع.)

سيطرة الدولة عن ما لايقل عن 51% من أسهم المشاريع الاقتصادية التي يعتمد عليها تطور الاقتصاد الوطني العراقي

ادخال نظام الحكومة الالكترونية في جميع مجالات ادارة الاقتصاد الوطني

ادخال نظم االمعلومات في المؤسسات والمشاريع الإنتاجية التي لها علاقة مباشرة بالإقتصاد الوطني والتي هي من الدعائم الأساسية المساهمة في حل معظم مشاكل النظام الإقتصادي من خلال اتخاذ القرارات الرشيدة والقضاء على البيروقراطية الإدارية وكذلك التداخل في المهام الإدارية بين الوحدات التنظيمية المختلفة.

محاربة الفساد بجميع أنواعه المستشري في جميع دوائر الدولة وفي كافة المستويات وفي جميع قطاعات الاقتصاد الوطني العراقي والقضاء عليه ، لأنه يشكل حجر عثرة أمام تقدم هذه القطاعات.

السيطرة على جميع المنافد الحدودية في العراق من قبل الهيئات المختصة سيطرة تامة وبدون ذلك لا يتمكن العراق من التقدم خطوة واحدة في طريق الاصلاح الاقتصادي والاداري.

القضاء على ظاهرة تهريب رؤوس الاموال العراقية الى خارج العراق والتي تستثمر في البنوك العربية والاجنبية، إذ تعتبر هذه الخطوة من الخطوات المهمة في الاصلاح االنقدي وثبات سعر صرف الدينار العراقي.

تفعيل عمل البنك المركزي العراقي ليكون بحق بنك البنوك وكذلك تفعيل عمل ديوان الرقابة المالية.

تفعيل عمل الجهاز المركزي للأسعار التابع لوزارة التخطيط العراقية ، حتى يأخذ دوره في مراقبة الأسعار في جميع قطاعات الاقتصاد العراقي

تفعيل عمل الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية (COSQC)حتى يأخذ دوره في مراقبة نوعية وصلاحية المنتجات في القطاعين العام والخاص ، وهو وكالة تابعة للحكومة العراقيةتعمل على تعزيز التقييس ومراقبة الجودة وينتمي إلى المنظمة الدولية للتوحيد القياسي.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

الأكاديمية العربية في الدنمارك

............................

مراجع كتابة  البحث:

انظر اطروحتنا للدكتوراه باللغة الروسية الموسومة "Промышленность Растительных Масел Ирака и Экономичех Проблеми её Развия. (المشاكل الاقتصادية لتطوير صناعة الزيوت النباتية في العراق صفحات 14-15)-(معهد الاقتصاد التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية - الاتحاد السوفيتي  ، 1981).

ملخص اطروحة الدكتوراه الذي ترجمته من اللغة الروسية الى اللغة العربية المنشور في شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 08/09/2019.

Made for mind

سوسن جبار عودة ، الإصلاح الاقتصادي:المفهوم، السياسات، الأهداف ، فرع المنطقة الغربية بالهيئة العامة لتشجيع الاستثمار وشؤون الخصخصة. 7/11/2013

العراق - المؤشرات الاقتصادية. National Statistics. World Bank. 2022

وزارة التخطيط العراقية، "تجربة الصندوق الاجتماعي" ، 2021

net

Norges Bank. Investment Management.no. Oslo. 2022

انظر بحثنا : تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف وإمكانية استفادة العراق منها. جامعة التنمية البشرية ، مديرية ضمان الجودة. السليمانية -العراق. المؤتمر العلمي الدولي الحادي عشر يومي 11-12 حزيران 2022.

net

المصدر: معهد صندوق الثروة السيادية SWFI:. CNN بالعربية

مبادئ تسويق الخدمات، أدريان بالمر، ترجمة بهاء شاهين وآخرين، مجموعة النيل العربية، القاهرة، 2009، ص 249

انظر بحثنا: دورالأعمال الإلكترونية وتأثيرها في رفع فاعلية إدارة المشاريع الإنتاجية (مع التركيز على تجربة الأردن). الحوار المتمدن 11/8/2013. وكذلك:

The Influence of e-business development in productive project management, Case study: The Hashemite Kingdom of Jordan” Zarqa University, Faculty of Economics and administrative sciences, The Ninth International Conference, 24-24 April 2013 (17 pp.)

حامد عبد الحسين الجبوري، واقع الحكومة الالكترونية في العراق. 17/3/2019.

جريدة الأمة بتاريخ 5/9/2021.

سمير النصيري. اتحاد المصارف العربية. البنك المركزي العراقي: سياسة نقدية تدعم التنمية الشاملة. الدراسات والأبحاث والتقارير. العدد 435.

هيثم محمد. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020

. وائل عبد الحسين. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

منتظر البدري. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

حسن العبيدي. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

عبد الرحمن المشهداني. نفس المصدر السابق. 25/8/2020.

أحمد الصفار. نفس المصدر السابق. 25/8/2020.

المؤشرات الاقتصادية للعراق (Trading Economics 2022).

منظمة اليونيسف العراق، البنك الدولي، مبادرة أكسفورد للفقروالتنمية البشرية ووزارة التخطيط في العراق، تموز/يوليو 2020.

وزارة التخطيط العراقية، "تجربة الصندوق الاجتماعي" ، 2021.

إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء في العراق في الفترة بين العامين 2018 و2019.

ىسناء عبد القادر مصطفى ، الاقتصاد السياسي لمزاد العملة في العراق أحد أسباب انتفاضة تشرين السلمية، موقع الحوار المتمدن ،17/12/2019

وائل عبد الحسين. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

ضرغام محمد علي ، تصريح لقناة السومرية نيوز بتاريخ 26/1/20.19.

...............

هوامش

[1]   هيثم محمد. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

[2]  وائل عبد الحسين. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

[3]  منتظر البدري. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

[4]  حسن العبيدي. وكالة يقين للأنباء. كيف تسيطر الميليشيات على المنافذ الحدودية. 25/8/2020.

[5] عبد الرحمن المشهداني. نفس المصدر السابق. 25/8/2020.

[6]  أحمد الصفار. نفس المصدر السابق. 25/8/2020.

منذ اندلاع التظاهرات الاسرائيلية في الشوارع ديسمبر الماضي على اثر اغلاق كورونا والوضع الاقتصادي المتأزم، لتختتم بقرارات نيتنياهو بما يسمى الاصلاح القضائي ومحاولته تقليص دور المحكمة العليا باشراك البرلمان تارة لتعيين قضاة المحكمة، واخذ دور اكثر للسلطة التنفيذية التي يمتلكها رئيس الوزراء لتحصين نفسه من اجراءات قضائية تحوم حول موضوع قضايا فساد . يجد اليسار الاسرائيلي نفسه وحيداً في الساحة الداخلية والدولية . اذا عرفنا الفاشية تعتبر القوة هي من تفرض القانون وليست الارادة الشعبية للجماهير نعلم مدى ادراك حساسية الفرد الاسرائيلي تجاه توسع السلطة التنفيذية وتحييد القضاء وتدخله بجميع معالم الاقتصاد الذي لايعير اهتماما كبيرا للافراد بل بقيادة الدولة لطبيعة الانتاج . لاينسى اليهودي ما تعرضَ له في اوربا من ويلات تنامي النازية وتبنيها المبدا الفاشي الذي اوجده موسيليني ليحيل الالاف اليهود ضحايا بين قتيل ومهجر ونازح . رغم ان الديمقراطية الاسرائيلية تبتلع حق الفلسطيني وتغتصب ارضه وتقوم على مبدأ الاحتلال بممارسات تناهض حقوق الانسان وتقريرالمصير، إلا ان قرار نيتنياهو بما يسمى الاصلاح القضائي يعطي الحق بشرعنة واضافة سند قانوني آخر لانتزاع الاراضي بالضفة الغربية لصالح اسرائيل . اليسار الاسرائيلي يحمل ذاكرة مؤلمة لتنامي الديكتاتورية وسيطرتها على مقاليد الحكم، ويعلم جيداً صعود هتلر جاء بالانتخابات ليختمها بسيطرة القوى التنفيذية وتبني مبدأ موسليني الذي لا يعير اهمية تذكرللديمقراطية، لا اعتقد ابدا سيرضى بتمدد سلطة الجهاز التنفيذي على حساب المحكمة العليا حسب وجهة نظر نيتنياهو . المحكمة العليا تتعاطف مع الاقليات ضد المصالح السيادية لدولة اسرائيل . حقيقة نيتنياهو تسانده جميع الانظمة اليمينية التي تحابي توجهه وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية، واضح منذ بداية التظاهرات تحاول امريكا التغطية على الموضوع واجراء مباحثات مع نيتنياهو الذي يعتبر هو اساس المشكلة وتتجاهل الجماهير التي خرجت الى الشارع ضد الاصلاحات المزعومة . اليسار الاسرائيلي معزول عن محيطه العربي بسبب واقع الاحتلال وعدم الاعتراف بالحقوق الفلسطينية كما انه لا يجد تأييداً دولياً في عالم يتسع لمد يميني ويميني متطرف ابتداً من بعض الدول الاسكندنافية الى روسيا التي يحكمها اليمين مروراً بفرنسا وحكومة ماكرون الى بريطانيا المغرقة بتخبطات سياسية وافتصادية،اخيرا ًوليس اخرالولايات المتحدة الامريكية، بالوقت الذي تستنكر جميع هذه الدول الممارسات التي تمارسها السياسة الاسرائيلية بشكل خجول ضد الفلسطينين بالعلن لكنها تؤيد وترسل المساعدات لحكومات يمنية متطرفة بالعلن ايضا وليس بالخفاء . كما ان القوى اليمنية اليهودية المتطرفة والمتعصبة دينياً واغلبها من اليهود المنحدرين من الدول العربية بالداخل تقف بقوة الى جانب نيتنياهو تسانده وتناصر قراراته لمزيداً من الاستيطان داخل الضفة الغربية . يجد الفرد العربي نفسه بالارض المحتلة مكتوف الايدي ولا يدري هل يناصر هذه التظاهرات ام لا نعم عرب 48 يحملون الجنسية الاسرائيلية، لكن واقعهم عربي والبعض يشارك باحتفالات يوم الارض الفلسطيني ويرون مشاركتهم بالتظاهرات ستكون باهته ولا يلتفت اليها أحد من الاسرائيليين انفسهم، بالرغم من بعض الدعوات التي يطلقها الاسرائيليون ملوحين بالعلم الفلسطيني لكن الواقع هم يركزون على قضاياهم الخاصة ليس إلا .

***

نيران العبيدي

الحقوقية نيران العبيدي كندا

اتفق جميع المُراقبين، إنَّ السيد سلوان موميكا، احرق كتاب المسلمين المُقدَّس، مرتين، في 28 يونيو و20 يوليو 2023، مُضيفاً العلم العراقي في الثانيَّةِ، لضمان تجديد مدَّة إقامته في السويد كحدٍ أدنى. هذا التفسير يشبه الأحذية الزجاجية، لسندريلا فيلم "براءة المسلمين"، الممثِّلة سيندي لي غارسيا؛ التي أدَّعت أن السيد نيقولا باسيلي نيقولا، قد خدعها وخدع طاقم الفيلم، بدبلجة ما قالوه، بحوارات مُسيئة للرسول محمد والمسلمين، بعد اكتمال تصويره، وبدون علمهم.

مايكل جوزيف غروس، والذي كَتَبَ قصة صحافية، عن هذا الفيلم، لصالح مجلة "فانيتي فير"، كان مثل جنَّية طيَّبة، لكن بدل أن يعطي موعد، الساعة الثانية عشر ليلاً، لزوال السحر، كان قادراً بـ (4773) كلمة، على فضح الكثير. كشف: " إنَّ الممثِّلة غارسيا، والتي زعمت إنَّها شاركت في الفيلم، لمساعدة زوجها اقتصادياً. قامت بعد شُهرة الفيلم المُسيء، بتأجير شركة أمنيَّة خاصة لحمايتها، طيلة أربعٍ وعشرين ساعة، وبأنَّ هذه الحماية مجانية. كذلك استطاعت أن تحصل، على مساعدة كاتب ومُحرِّرَين، لكي تُنجِز كتاب "براءة غارسيا"، لكي تكشف للعالم مأساتها"!

غروس، رسم أيضاً خارطتها الروحية: "واعِظة إنجيليَّة، ولديها مُجمَّع كُنُسْي خاص بها، لا ينتمي إلى إحدى المذاهب البروتستانتيَّة المعروفة. لكنها بقيت مُصرَّة، بأنها لم تكُن تعرف، إنَّ الفيلم مُسيء للرسول العربي، رغم إنَّ الممثلين الأصغر سناً، والأقلُّ خبرة دينيَّة، بيَّنوا إنهم أدركوا ذلك، بعد أيام قليلة، حيثُ أن فترةُ تصوير الفيلم، لم تتجاوز الأسبوعين، والذي بدأ في أوغست 2011".

السندريلا موميكا بدوره، أعلن إنَّهُ يريد تخليص بلدهِ المستقبلي، السويد، من شرِّ الكتاب المُقدَّس، القرآن. هذا الكتاب الذي يلعبُ دوراً محورياً، في حياة 2 مليار مسلم تقريباً. هكذا يبدو عرض موميكا، على الشعب السويدي، مُغرياً، ومُجبراً الجميع على تناسي الدور الميليشاوي؛ الذي كان يلعبهُ في موطنه الأصل، الموصل العراقيَّة، طيلة سنوات، وليس أسبوعين فقط، كما في حالة شقيقته السندريلا غارسيا.

هذه المقارنة تبدو ظالِمة للسيد موميكا. بدايةً، هناك فارق زمني، إحدى عشرة سنة تقريباً. كذلك، هو بعد كُل شيء، أكثر خبرة من السيدة غارسيا، في فَهِمِ طبيعة المسلمين وكتابهم المُقدَّس، باعتباره مواطناً أصلي، في بلدٍ تقطِنهُ غالبيَّةٌ مُسلِمة. لكن ربّما يجب ان نُمارِس حذراً كبيراً، إذ دائماً ما يكون طريق تدنيس مُقدَّسات المسلمين، مليئاً بـ "الحمير المسعورة"، على حدِّ تعبير المُثقفين الإسكندنافيين، الدنماركيين تحديداً، والذين استخدموه في سبتمبر 2022. إذاً ما سبب حماسة السيد موميكا لحرق القرآن مرّتين، مع تتبيله بالعلم العراقي في المرَّة الثانيَّة؟

الأممية البيضاء توسِّع طابورها الخامس

تقعُ الثقافة السويدية، بحسب علماء اجتماع دنماركيين، ضمن قوَّةِ جذبِ بلادِهم. كما إنَّ الدول الإسكندنافيَّة؛ التي توصف بـ "أرض الشبق"، عموماً، تشهدُ تيّاراً سوبر يميني. هذا المزج بين الشبق والسوبر يمينيَّة، انتج راسموسن بالودان، أحد أشهر "الحمير المسعورة"، وزعيم حزب "مسار ضيَّق"؛ الذي درجت الميديا العربيَّة، على تسمية حزبه بـ "الخط المُتشدِّد"، كإجراءٍ وقائي، ضد إيحاءات التسمية الأولى. إذ إنَّ العالم والشرق الأوسط؛ سيكونان مُجبرين، على التعاطي مع بالودان لسنين طويله، باعتباره أحد مُلَّاك مسرح السوشيال ميديا، وبالتالي لا داعي لتذكيرهما، بأنهما يتواجدان، في عالم "ضيَّق"، الموازي لـ واقعهما.

التسمية الأولى لحزب بالودان، والتي تبدو مُغطاة برقائق خفيفة من البورنو، تُساهِم فيها عدَّة أدلَّة، منها، أحدُ أهمِّ مُرشَّحيْ الحزب، أوي ماكس جِنسن، "فنان القضيب" كما يُدعى. أيضاً، انتماء بالودان واليمين الدنماركي، إلى ما تُعرف بـ "الناشيَّة الجديدة"، تيمُّناً بـ يورغن ناش، مؤسس "الناشيَّة" الأصليَّة. أحدُ أعضاء النُسخة الأصليَّة، المدعو ثورسن، كان قد صنع فيلماً، عن حياة المسيح الجنسيَّة!

السيد موميكا، والذي عبَّر عن إعجابه بـ السيد بالودان، وبحسب الكثير من مقاطع الفيديو، على مِنصتيَّ يوتيوب وتك توك، مارس الإباحيَّة اللفظية، في حواراته الحضاريَّة، لتفسير حرقهِ للقرآن، في المرَّة الأولى، مُسبِّباً هيجان الألفاظ الجنسيَّة، في عالم السوشيال ميديا.

السيد موميكا، ليس رائداً، في الحِراك ضد اللاجئين المسلمين، في أوروبا، أو "الدول الحُرَّة"، على حدِّ تعبير النرويجي اندرس بيرينغ برايفك (بحسب اللفظ الإنكليزي)، والذي قام بحراكٍ قاتل ضدهم. حصد أرواح (77) مواطن نرويجي، معظمهم من أصولٍ إسلاميَّة، في حفلة متفجِّرات ورصاص، منتصف سنة2011!

يبدو موميكا مقارنةً بـ برايفك، مُجرَّد بعوضة سوشيالية، تمتصُ اهتمام المتابعين، وقانون حُريَّة التعبير السويدي، لتضخيم فُرص حصوله على الإقامة، وتاج جنسيَّة هذا البلد الإسكندنافي، المعروف بوداعتِه مع اللاجئين.

هذه النوعيَّة من التفسيرات، الطافية في البحر الليبرالي، تستطيعُ مع الأسف، إغراق شعوبٍ في الدم، وملء السماء بالأشلاء بدل الطيور المُغرِّدَة. السندريلا العراقي، كان يمارس وظيفة الترويج لـ "النيكرو بوليتكل". هذا المصطلح؛ الذي يليق بـ: النازيين الجُدُد، السوبر يمينيين، داعش، الميليشيات، "مسار ضيَّق"، تعريفهُ البسيط: هناك من يستحق الحياة وهناك من يستحق الموت.

السيد نيقولا باسيلي نيقولا، وهو أمريكي، من أصولٍ قبطية مصرية، ومُنتج الفيلم المُسيء "براءة المسلمين"، كان أوَّل تجربة يمينية بيضاء، في استخدام المواطنين الأصليين، من شعوب الشرق الأوسط، لتشويه صورة الإسلام. اختيارُ شخصية الرسول العربي، ليست اعتباطيَّة البتَّة، على اعتبارهِ قيمة مُتفق عليها، بين جميع المذاهب الإسلاميَّة. السيد نيقولا وجماعته، كانت لديهم علاقة وثيقة مع القس الأمريكي، تيري جونز، حارق القرآن الأشهر.

استخدام السيد موميكا، بعد أثنتي عشرة سنة تقريباً، من قبل أحزابٍ مسيحيَّة مُتطرِّفة في السويد، وواقعة تحت ثقافة التطرُّف الدنماركيَّة، بمعية واجهات مثل حزب "مسار ضيَّق"، تُعيد التجربة، بإبدال الرسول محمد، بـ القرآن، وهو قيمة أُخرى، تحظى باتفاقٍ نادر بين المسلمين.

هدفُ السيد موميكا، والذي هو في الحقيقة عبارة عن كُرة قدم، مصنوعة من الجِّلد السوبر يميني، يبقى غامضاً، شعبوياً، وغير قادر على كشف نتائج مُحدَّدة، لحرق القرآن وأعلام الأوطان. حتى السوابق التي تحدَّثنا عنها، لا تُفلح بتوقُّع "مسار ضيَّق" لهذا الهدف. وعليه نسأل: ما هو الهدف؟

صناعة نُسخة ثانية من "بنغازي غيت"

نجحت الأحزاب اليمينية البيضاء في الولايات المتحدة، وبمعيَّة مراكز دراسات، هي في الحقيقة لوبيات ضغط إسرائيلية، مثل مركز "السياسة الأمنية"، والذي يرأسهُ السيد فرانك غافني الأبن، بإقناع الأمريكيين، بأنَّ الأحزاب الإسلاميَّة، الناشِطة في بلاد العم سام، تُريد إبدال الدستور الأمريكي بـ "قانون الشريعة الإسلامية".

نجحت هذه الدعايات، بإقناع المُشرِّعين الأمريكيين، على مستوى المقاطعات، بسنِّ تشريعٍ مُعادٍ للشريعة الإسلامية، رغم إنَّ الخبراء، اعتبروا ذلك شيئاً يُشبه الثرثرة فوق ضفاف المسيسبي (استخدمتُ هذا الوصف تيمُّناً برواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ)، لأن الدستور، خالٍ من ثغرات تسمح باختراقه، وذلك بحسب مركز قانون الفقر الجنوبي، الأمريكي. كُنت قد كتبت مقال (صراع العقيدي مع إلهان عمر.. تنافس حزبي أم إسلاموفوبيا متطورة؟) عن تفاصيل تلك المُبارزة التشريعية، في 2021.

نجح اليمينيون الأمريكيون بذلك، باستخدام مسلمين أمريكيين، من أصلٍ عراقي! ضد مسلمين آخرين، من أصولٍ عربيَّة وأفريقيَّة. لكن هذا الضد المسلم، لم يكن سوى دَّبُّوس باهت، على بدلة هذا النجاح، ولهذا رُمي في الدُرج اليميني كما يبدو.

الأرجح إنَّ السيد موميكا، سوف يكون النُسخة الأوَّليَّة، من ببغاوات الشرق الأوسط، لـ "توسيع واقعية الدولة". هذه الجملة تعود لجوناس ستال، والتي استخدمها لوصف سلوك اليمينيين، في البلاد الإسكندنافية. هذا التوسيع سيحصل بتضييق المرونة الليبرالية للدولة السويدية، عبر تشريعات مُهاجرة من الولايات المتحدة الأمريكية.

الهدف الآخر، هو نقل عدوى السياسة الدنماركية، المسماة بـ "حزمة الجيتو"، إلى السويد. إحدى سياسات هذه الحُزمة، دفعت كوبنهاجن، لوضع طالبي اللجوء في مخيمات، بالقرب من أماكن عسكرية، لضمان إرعابهم بالأصوات الصدرة منها. كذلك هي قد تُشجِّع الدولة السويدية؛ التي تقوم بمراجعات، لسياسة الرعاية الاجتماعية فيها، والتي تُركِّز على أخذ أبناء اللاجئين والجاليات الإسلامية، بحجة العُنف الأُسري، وإعطائهم لعائلات بديلة كيفما اتفق، حتّى لو كانت عائلات مكوَّنة من أفراد مْثليَّ الجنس. من الممكن تتبع ذلك، من 19 فبراير 2022.

الهدف العراقي لموميكا، ونقصد به إحراق القرآن للمرَّة الثانية مع العلم العراقي، يوم الخميس الماضي، الـ 20 من يوليو، حفَّزته عدَّة أحداث، رغم إنَّهُ قد أعلن سابقاً، بأنَّه سوف يعيد الكرَّة، منها، الموقف النبيل، للسويدي من أصولٍ سورية، السيد احمد علوش، في الـ 15 من يوليو، والذي رفض فيه، حرق الإنجيل والتوراة، لأنهما كتابات مُقدَّسان. مبيَّناً، بأنه أراد تنبيه الآخرين، إلى خطورة حرق نُسخة من كتاب المسلمين المُقدَّس. إضافة إلى قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في الـ 16 من يوليو، والذي أدان حرق الكُتُب المُقدَّسة، واعتبرها جريمة "كراهة دينية".

السيد موميكا، يُشارك أيضاً، عراقياً، سواء بعلمه أم لا، في مشروعٍ افتراضي، اسميتُه "بغداد غيت"، وهو نُسخة عن "بنغازي غيت"، الحادثة التي أودت بحياة السفير الأمريكي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، في 11 سبتمبر 2012، وذلك بعد أيّام من نشر الفيلم المُسيء للرسول العربي. السفيرة الأمريكية إلى الأمم المتحدة آنذاك، سوزان رايس، علَّقت على ما جرى، بأنه "ردَّة فعل عفوية". لكن الشك يبقى مُحلِّقاً بجناحيه، عن سبب اختيار هذه العفوية لمناسبة 11 سبتمبر!

تظل ردود الفعل العراقيَّة الحزبيَّة، بعد حرق موميكا الثاني للقرآن والعلم العراقي، والتي كان أبرزُها، طرد السفيرة السويدية، وحرق المقر الدبلوماسي لبلادها، مستمرة بالتصاعد، لتؤشِّر إنَّ هناك "مسار ضيَّق"، مصنوع من المماحكات الحزبيَّة والأجندات الإقليمية، لإيلاج مزيد من الفشل، في جسد المؤسسات العراقية، وربّما المزيد من الاختراق الدولي، لبقية الدولة.

ردود الفعل العراقية، عزيزة جداً على قلوب المتطرَّفين اليمينيين في أوروبا، وتؤكد نجاح السندريلا موميكا. خفض قيمة أسهُم حرق القرآن، تحتاجُ ترويج الأبعاد الروحية لهذا الكتاب المُقدَّس، بشكلٍ مستمر، واللجوء إلى الطُرق القانونية، لا الشعبوية؛ التي تضعُ موميكا ومن ضده في بيتٍ زُجاجي، صالح للفُرجة ولغة الحملات الصليبية، فقط لا غير. تبقى لي أن أُذكِّر، إنَّ أول فيلمٍ مُسيء عن الرسول محمد، كان المفترض عرضهُ، في 18 سبتمبر 2002، في هيوستن الأمريكية، بحسب الأسوشيتد برس. لكن لم يُعرض. ربّما لم يكُن موجوداً حتّى! وهذا تعبيرٌ تهكمي أترك للقارئ تفسيره، بدفعِ دراهمٍ من البحث والتفكير.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، وباحث عراقي

منذ نهاية الثمانينيات بدأ موضوع العولمة يرسم طريقه في اتجاه الإيديولوجية الليبرالية الجديدة، وأصبحت هذه الظاهرة تعني هيمنة على السوق وإلغاء الحدود بالنسبة للسلع والرساميل، وإخضاع السياسة للاقتصاد، وقد كان من نتائجها إضعاف الشعوب والدول إلى درجة يصعب معها تحديد الإطار الخاص بكل مجتمع سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، ناهيك عن احتكار الأقطاب الثلاث المتحكمة في الاقتصاد العالمي ل 86% من المعاملات المالية داخل البورصات، وظهور صراعات ثقافية نتيجة محاولة الغرب تعميم نموذجه الثقافي.

اثبتت الكثير من الوقائع ان الصراعات والنزاعات والأزمات والحروب والقتل والدمار تكون الولايات المتحدة يد فيها حتي تستمر على عرش القمة وعرش الأحادية القطبية ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وان يعيش العالم في سلام يعني خسارة كبيرة لواشنطن وتفرح عندما يحدث هنا ازمات وهناك قتل وهنا دمار وهناك تشريد كل هذا يعطي لها الحياة واستكمال المسيرة واستكمال هيمنتها ..ولكن سبق للمفكر اليساري الامريكي  نعوم تشومسكي  كان قد 'ألمح مِـراراً إلى أن النظام العالمي الجديد سينمو على ضِـفاف المحيط الهادي ويقذف بأوروبا، التي قادت الحضارة الغربية على مدى القرون الخمسة الماضية، إلى أعماق المحيط الأطلسي'

وبالفعل ان سرعة النظام الدولي تغير كثيراً وظهرت بعض الدول تحمل حلم تعدد الأقطاب مما افشلت حلم من كان يفكر ان يكون القوة التي لا تجابه وفعلا ظهرت دول للمواجهة تلك الأفكار على المستوى العالمي وأبرز هؤلاء الدول روسيا والصين هذين الدولتين يمتلكون من الأدوات السياسية والإقتصادية والفكرية والبنية التحتية ما يؤهلهم إلي وصول الحلم وتحقيقه.رغم ان هناك من الدول الأوروبية لا تسيغ استحداث قوى اخرى فلهذا اشعلت الحرب الاوكرانية- الروسية تدعم أوكرانيا بكل ما اتت لها من قوة في قتالها بالمال والسلاح.

في الماضي القوة كانت متمثلة في العدد والعتاد والسلاح والأدوات العسكرية الحديثة والمتطورة ولكن الآن الوضع تغير رأساً على عقب تحولت من قوة عسكرية إلي قوة تكنولوجية واقتصادية ومن يمتلك هذين القوتين ومعاهم القوة العسكرية يذهب إلي مكان بعيد في تعدد الأقطاب وليس الأحادية القطبية التي خططت لها أمريكا في القرن الماضي ونفذتها بنجاح ولكن بدأت تتراجع عن ذي قبل..

الاختلافات بين النظام العالمي الجديد والقديم تبرز في ثلاث نقاط كما تم حصرها من قبل المختصين وهي:

1- الاختلاف الأول، أن أطراف المثلث الجديد أكثر سُـيولة وأقلّ جموداً من المثلث القديم، فأي عمل يقوم به طرف من أطراف المثلث لن يثير بالضرورة ردّ فعل معارض من الطّـرفين الآخرين، كما أنه لا يوجد تحالف إستراتيجي بين طرفين ضدّ الطرف الثالث، وعلى عكس المثلث القديم، الذي لم يكن فيه للصِّين والولايات المتحدة اتصالات مع المجتمع السوفييتي السابق، بينما المثلث الجديد تفاعلى إلى حدِّ بعيد مع الاتصال فيما بين المثلث. والولايات المتحدة تبذل جهود مضنية للتحرك في التقرب الى الصين وتبعث باطراف مختلفة رسمية وغير رسمية للجلوس معها واخر هؤلاء وصول وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر،مهندس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين،إلى العاصمة الصينية بكين، في زيارة غير معلنة في الايام القليلة الماضية، حيث أجرى محادثات رفيعة المستوى مع عدد من المسؤولين.وله دوراً رئيسياً في تطبيع العلاقات بين البلدين في سبعينيات القرن الماضي، حين كان مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية للرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون، وهو شخص مرحب به في الصين في أي وقت، باعتباره صديقاً قديماً للشعب الصيني

2- الاختلاف الثاني، أن هَـمّ الأمن القومي المثلث الجديد لا يُـهيمن على هذا المثلث، كما كان الأمر إبّـان الحرب الباردة. وبرغم أنه (الهم) يلعب دوراً مُـهمّـاً في العلاقات الصينية - الأمريكية، خاصة في إطار تايوان، إلا أن روابط واشنطن وبكين عميقة بشكل استثنائي وتعمل على مُـستويات عدّة تتضمّـن علاقات مهمّـة بين المجتمعين. والأمن القومي، ليس البتّـة سِـمة من سِـمات العلاقات الأوروبية - الصينية التي تستنِـد إلى التجارة والتفاعل الثقافي المتزايد.

3- الاختلاف الثالث، يكمُـن في التباينات المهمّـة بين الأطراف الثلاث. الولايات المتحدة وأوروبا بالتأكيد، خلافاتهما حول العراق، وسلسلة الاتفاقات الدولية ودور الأمم المتحدة في العالم، وحظر الأسلحة على الصين، وأوروبا والصين، تتنازعان حول التجارة وحقوق الإنسان وانتشار الأسلحة وحرية المجتمع المدني، وكل هذه العوامل تُـسفر عن سيولة وتحوّلات عميقة في تركيبة المثلث الجديد، حيث تتقاطع المصالح مرّة وتتباين مرة أخرى.

وثبت لكثير من المختصين في العالم من ان الصين ليس مجرد دولة انما عقل إنتاج فكر تصنيع زراعة مليار ونصف المليار من البشر يعملون ليل نهار لنهضة الصين وبالفعل الان الصين قوة اقتصادية لا يستهان بها ليس يوجد قارة او بلد في العالم الا اذا يوجد استثمارات صينية بمليارات الدولارات..

اما روسيا الاتحادية وحكاية بوتين وقصته وإصراره وعزيمته وإرادته على الصمود والوقوف أمام 169 دولة منفردا لوحده في ميدان المعركة في اوكرانيا، ارهق الغرب وحير امريكا واصبح شوكة قوية في عنق بريطانيا وتريد التخلص منها بأي شكل من الأشكال دول تضررت ودول انتفعت من الحرب الروسية الأوكرانية..

وهناك العشرات من البلدان في نمو مستمر في ظل تشكيل التكتلات الجديدة مثل بريكس وشنغهاي وتكتلات اخرى توحي الى اننا امام تحولات جديدة،هذه التطوّرات أدّت بالتدريج إلى تبلوُر إجماع أو على الأقل شِـبه إجماع، بأن رحلة القطبية الأحادية في العالم انتهت.

***

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

مع تزايد الاضطراب، والانقسام على المستوى العالمي، يتوقع الكثير من السياسيين، والاقتصاديين،  ورجال الاعمال، والاكاديميين، نظام عالمي  متعدد الأقطاب مما سيكون له تأثير كبير على النظام المالي والنقدي العالمي, الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانبثاق نظام بريتون وودز. كان لسياسات الولايات المتحدة الخاصة بمكافحة الجائحة ومن ثم العقوبات الاقتصادية والمالية التي اتخذتها ضد روسيا بعد عمليتها الخاصة في أوكرانيا، والخلاف الأمريكي الصيني تأثير غير مسبوق على النظام الاقتصادي العالمي وبالذات على النظام النقدي ونظم المدفوعات.  هذه السياسات أضعفت من هيمنة الدولار كعملة احتياط عالمية واداة للمدفوعات. ورغم ان التكهن بضعف هيمنة الدولار ليست مسالة حديثة وتم الحديث عنها مرارا،  الا ان الكثير من المراقبين يعتبرون المسالة في هذه الحالة مختلفة.

وتزعم كارلا نورلوف، أستاذة العلوم السياسية في جامعة تورنتو، في مقالا لها في" بروجكت سندكت" انه رغم التضخم العالي، والزيادة المستمرة في الدين العام الامريكي، والمناخ العام المسيطر على العلاقات الدولية الذي يشبه الى حد ما مناخ الحرب الباردة، وزيادة الاهتمام بالتسلح والامن، الا انها تشكك في ان ذلك سيقود الى نظام نقدي متعدد الأقطاب في القريب العاجل.

خلال السنوات الماضية تم اختبار النظام الرأسمالي العالمي ومدى ترابطه، هذا مع وجود ثغرات في الامن الغذائي والطاقة، وخاصة مع استجابة الفدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة ومنح البنوك المركزية خطوط ائتمان وشراء السندات وإجراءات أخرى تحت عنوان ما يسمى" بالتسهيل النقدي"، هذا إضافة الى تعطل سلاسل التوريد مما ادى الى زيادة كبيرة في التضخم العالمي. وقد أدى ذلك لاحقا الى قيام الفدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم مما عجل من  التباطؤ الاقتصادي واضعاف لعملات الدول الناشئة، والتي أصبح معظمها  يعاني من تضخم مرتفع وزيادة في المديونية وعجز يتضاعف في ميزان المدفوعات.

لقد أدت سياسات الولايات المتحدة باستغلال هيمنتها على النظام المالي والنقدي الدولي وهيمنة الدولار على نظام المدفوعات ببحث الدول عن بدائل أخرى لهذا النظام، وخاصة كل من روسيا والصين وذلك من خلال مجموعة البريكس (التي تتكون حاليا من روسيا، والصين، والهند، وجنوب افريقيا، والبرازيل) والتي قطعت خطوات مهمة لتفعيل اليات الدفع بين دولها بعملاتها المحلية، كما قامت كل من الصين وروسيا بتطوير نظم للدفع بعيدا عن هيمنة اليات وأنظمة الدفع الغربية، فالصين على سبيل المثال قد طورت نظام للدفع بين البنوك يعمل كمقاصة بين البنوك حاله كحال مقاصة أمريكا،  كما ان روسيا أنشئت نظاما خاصا بالمدفوعات بين البنوك يتجاوز نظام سويفت التي تم حظر البنوك الروسية من الاستفادة منه، كما قامت الصين بخلق نظام لمبادلة العملات (SWAP) بالرومبيني، هذا إضافة ان بعض الدول قامت بسداد قروضها الى صندوق النقد الدولي بالعملة الصينية حيث ان الرومبيني هو عملة من عملات حقوق السحب الخاصة بالصندوق، كما ان فكرة بيع النفط بغير الدولار هي فكرة واردة تماما. ان هذ التطورات أدت  الى التخوف من ظاهرة التشظي، والانقسام، والانفصام، ونظام عالمي تزداد فيه السياسات الحمائية والعودة عن العولمة.

ورغم هذه التطورات المهمة في خلق بدائل للدولار كعملة للاحتياطيات والمدفوعات الا انه يظل مهيمنا علي النظام النقدي والمالي حتى الان، ان مقترح عملة البريكس على سبيل المثال يواجه تحديات عديدة: حيث تعتبر العملات الوطنية مصدر من مصادر السيادة النقدية وبالتالي اصدار عملة مشتركة يتطلب التنازل عن بعض من هذ السيادة، ويكون من الصعب التوافق على هذه التنازلات. كما ان اقتصادات واولويات دول البريكس تختلف ولذلك توحيد العملة يواجه تحديات في تنسيق وتوفيق هذه السياسات والاولويات. كما ان بعض هذ الدول لا تريد  التخلي عن السيادة النقدية كما هو الحال في التباين الصيني- الهندي حول العملة المشتركة. ان تأثير عملة البريكس على الاستقرار الاقتصادي والسياسي غير واضح وقد يؤدي الى مزيدا من عدم اليقين والتعقيدات، والعمل على اصدار عملة مشتركة يحتاج الى مباحثات غير سهلة للوصول الى اتفاقيات مقبولة من جميع الاطراف. ورغم هذه الصعوبات والتحديات فذلك لا يعني انه لا يمكن التوافق على اصدار عملة موحدة وتجربة اصدار اليورو وبقاءها حتى الان رغم التحديات والصعوبات  لدليل على انه بالإمكان التوصل الى توافق اذا توحدت الإرادة السياسية.

لقد كانت هناك تجربة اصدار عملة خليجية مشتركة خلال السنوات الماضية، وعلى الرغم ان اقتصادات دول مجلس التعاون هي اكثر تكاملا وتشابها من اقتصادات دول البريكس، الا ان تلك التجربة اعترضتها كثيرا من المصاعب والتحديات مما حذا  بدول مجلس التعاون الخليجي التخلي عنها مؤقتا. ومع  انبعاث الأمال في التخلي عن هيمنة الدولار وخلق نظام نقدي متعدد العملات قد يكون من المفيد من إعادة النظر في هذه التجربة والاخذ بالدروس والتجارب الماضية في سبيل الوصول الى نظام نقدي موحدة يكون أداة لكتلة خليجية اقتصادية موحدة، يكون لها حضور على مستوى عملات الاحتياط والدفع وتحفظ مصالح شعوب المنطقة في ظل التكتلات الاقتصادية العالمية الجديدة. وليكون النظام النقدي الخليجي الموحد خطوة نحو تعميق التعاون والتنسيق النقدي بين الدول العربية.   

***

علي الرئيسي

باحث في قضايا التنمية والاقتصاد

في معاينة للأبعاد الاستراتيجية للحرب في أوكرانيا؛ يلاحظ الفاحص لها بقراءة متمعنة؛ ان اطراف هذه الحرب لا تتواني عن استخدام او استثمار جميع ما يتيسر لها من عوامل الانتصار وكسر عنق الخصم؛ ليس الاسلحة كما ونوعا، وليس زحفها الى خارج حدود حركتها جغرافيا؛ في فتح اراض اخرى للمعارك فقط على شراسة هذه التطورات وخطورتها على العالم و على السلام العالمي، بل انها تشتري البشر بأثمان بخسة لزيادة زخم قوات القتال في ارض المعارك. امريكا تستخدم اسلوب شراء البشر للقتال من خلال شركات الخدمات العسكرية، وقد استخدمت هذه الشركات في غزوها واحتلالها للعراق، وتثبيت وجودها فيه لاحقا ولسنوات.. روسيا هي الأخرى استخدمت الشركات الخاصة بالخدمات العسكرية، وفي صدارتها شركة فاغنر للخدمات العسكرية. الرئيس الروسي بوتين صرح قبل ايام ان روسيا في صدد اصدار تشريعات قانونية تنظم قانونيا عمل الشركات الخاصة بالخدمات العسكرية. ان صراع امريكا وروسيا هو صراع مصالح كونية، او ربما مستقبلا بعد عدة سنوات، ربما لا تتجاوز العقد من الآن؛ صراع الصين وامريكا هو ايضا وبكل تأكيد؛ صراع مصالح ونفوذ. لذا، نلاحظ؛ ان هذه القوى الدولية ترصد مبالغ هائلة لتطوير قدراتها العسكرية كما ونوعا؛ لأثبات وجودها وهيمنتها في ساحات الحروب والصراعات الدولية. هذه الحروب والصراعات الدولية سواء ما كان منها في داخل البلد الواحد او بين دولتين في بيئة ملتهبة وساخنة بنيران فوهات البنادق والمدافع؛ تدفع الناس للهروب والنجاة بحياتهم الى ارض الله الواسعة بحثا عن الأمن والسلام والاستقرار. ان هذا القوى العظمى التي يحكمها او يتحكم فيها وفي استراتيجيتها؛ راس المال الذي يشكل وفي جميع الاحوال والظروف خارطة طريق لتلك القوى الدولية العظمى. لقد حوَلت هذه الدول التي تتحكم بمصائر الشعوب والدول الانسان الى اداة او الى سلعة معروضة للبيع والشراء ويتحكم فيها؛ العرض والطلب حسب مقتضيات حاجة الاسواق. الفرق بين سلع الاستهلاك التي يحتاجها الانسان في ادامة حياته او توفير وسائل الراحة والفرح وما الى ذلك من المعروض في الاسواق من السلع الاستهلاكية او غيرها من السلع المعمرة؛ هو انها تطور يخدم البشرية، ويفتح افاق رحبة وواسعة يطل الانسان من خلالها على عوالم جديدة، واكتشافات جديدة لخدمة حياة البشر وحيوية وألق ورونق هذه الحياة.. أما عروض الاسواق من البشر للاستخدامات العسكرية؛ فهذه الاسواق لها شروطها في البشر المعروض جهدا عسكريا للبيع زمنيا ومكانيا؛ من هذه الشروط وليس جميعها ان يكون عسكريا محترفا، او يتم اخضاعه للتدريب حتى يصبح محترفا، وقاتلا لا يرمش له جفن حين يقتل الناس حتى وهو لم يعرفهم في حياته. وليس دفاعا عن حدود وطنه، فاغلبهم قادمون من بلدان لا علاقة لها بهذه الحرب، او عن مباديء يؤمن بها؛ تهددها قوات الطرف المقابل بالسقوط والإمحاء من خارطة الوجود، بل انهم يقاتلون من اجل رواتب مغرية؛ يعيدون بها ربما صياغة حياتهم من جديد وعلى مسارات جديدة. لذا نلاحظ انتشار الشركات الخاصة بالخدمات العسكرية والتي يتم الاستعانة بها في حروب الدول العظمى، وفي العمليات التي في اكثرها تكون عمليات قذرة تقوم بها تلك الدول في غزواتها وفي اي من حروبها، الاستثناء الوحيد من تلك القوى العظمى ولأمانة الكلمة هي الصين حتى الآن، ربما بسبب الكثافة السكانية لشعوب الصين، وربما ايضا احالة سلوكها هذا للعقيدة الشيوعية التي تطبقها جزئيا في عدة وعاءات رأسمالية حاكمة؛ على واقع سياستها الاقتصادية والتجارية والثقافية والسياسية. ان هذا يؤكد بوضوح تام، لا لبس فيه ولا غموض، بل يجري الحديث عن هذه الشركات الخاصة بالعمليات العسكرية بصريح العبارة، وكأنها امرا طبيعيا، يقع في السياق الانساني؛ وليس تجليا قاسيا لوحشية الامبريالية الكونية، وسحقها لإنسانية الانسان، وتحويله الى مادة معروضة للبيع والشراء في عالم الاسواق الحرة. ان هذه الشركات اخذت في السنوات الأخيرة تنمو وتتطور وتتوسع مهامها، اكثر كثيرا مما كانت عليه حالها قبل عقود طويلة، أي ان وجودها في الماضي؛ كان محدودا ويقتصر على تجنيد المرتزقة  للقتال في الحروب.. بصورة محدودة جدا؛ عددا ومهاما واماكن انتشار في حروب دول المعمورة. أما في هذه السنوات الأخيرة فقد صار وجودها يأخذ الاطار القانوني؛ أي انها شركات تعمل في اطار القانون ومحميه بمحددات هذه القوانين، حالها حال بقية شركات المنتجة للبضائع التي تحتاج لها اسواق التجارة الحرة. ان هؤلاء البشر الذين يبيعون جهدهم البدني والعقلي ومهاراتهم القتالية، لقاء رواتب مغرية جدا؛ ليسوا قتلة ومجرمون عند خط الشروع في مقتبل حياتهم، بل ان واقع الحياة وانعدام فرص التطور والحياة التي نتج عنها حكما؛ انعدام فرص تنمية قدراتهم المعرفية، بمعنى اخر اكثر ربما اكثر وضوحا ودقة؛ ان خرائط الحياة التي انتجتها الامبريالية العالمية، سواء في بلدانهم النامية التي تتعرض الشعوب فيها الى استبداد انظمة الحكم المدعومة من القوى العظمى، او بسبب القتال والحروب الداخلية في بلدانهم، او حتى في البلدان المتقدمة؛ طردتهم هذه الخرائط من داخلها الى خارجها ووضعتهم على هامش الحياة. ان هذا الاقصاء من الحياة هو السبب في رغبة هؤلاء في البحث عن اسس او طريق به ومن خلاله؛ يصنعون لهم حياة ولو بعد حين ان كتب لهم فيها النجاة من هذه الحروب التي دخلوها طوعا من اجل صناعة حياة جديدة تليق بهم كبشر. ان هذا لا يعني وفي جميع الاحوال تزكية لهؤلاء وتبرئة لهم ولأعمالهم القتالية، بل ادانة لهم، ولكل من يبيع نفسه وجهده ومهاراته وعقله من اجل المال فقط، بصرف النظر عن ما يلحقه ليس من ضرر فحسب، بل بتصفية حياة لبشر لا يعرفهم وفي وطن ليس وطنه وفي حرب ليست حرب وطنه.. أو في حرب هي لتدمير وطنه.. بحسب المراقبون؛ ان روسيا وتركيا وامريكا؛ تقوم هذه الدول بتجنيد المقاتلين السوريين للقتال في اوكرانيا في خندقين متقابلين أي قسم الى جانب الجيش الروسي والقسم الاخر الى جانب الجيش الأوكراني. قسم في شركات خاصة للخدمات العسكرية والقسم الأخر وهو قليل جدا يعملون منفردين مع الجيشين اللذين يخوضان حربا ضروسا منذ اكثر من 500يوم. وبحسب المراقبون ايضا؛ يجري تجنيد المرتزقة للقتال في حرب اوكرانيا لصالح اوكرانيا من اوروبا وايضا من امريكا. الاعلام الغربي وحتى الاعلام الروسي يؤكد ان هؤلاء يقاتلون نصرة لأوكرانيا او نصرة لروسيا، وهذا امر غير صحيح بالكامل، انه خديعة اعلام ليس الا. أما الحقيقة فهؤلاء المرتزقة يقاتلون من اجل المال والمال فقط..  عليه؛ فأن هذه الشركات الخاصة بالخدمات العسكرية؛ تدفع او تضخ الى المجتمع الانساني عدد غير قليل من القتلة المأجورين؛ بعد انتهاء مهامهم القتالية، ورجوعهم الى المجتمع الذي جاءوا منهم. حتى لو امتلكوا المال وبدأوا حياة جديدة؛ فأن هذه الحياة من الصعوبة جدا؛ ان تكون حياة سوية.. هذا من جانب اما من الجانب الثاني؛ فهؤلاء سوف يكونون اداة جاهزة للبيع في ساحات القتال وفي ساحات خلق الفوضى والاضطراب في المجتمع الذي عادوا له؛ لمن يحتاج في استثمار مهاراتهم القتالية..

***

مزهر جبر الساعدي

المبحث الثاني-  انشاء صندوق سيادي لاستثمار عوائد بيع  النفط العراقي

أنشيء اول صندوق سيادي في العالم في دولة الكويت في العام 1953 . ومن ثم انتشرت  هذه الصناديق  حتى اصبح عددها أكثر من  100 صندوق استثمار في العالم . وهناك معهد اسمه معهد الصناديق السيادية Sovereign Wealth Fund Institute - SWFI الذي مقره في الولايات المتحدة الامريكية يتخصص  في دراسة كل استثمارات وحركات الصناديق السيادية في العالم. وتوجد لدينا تجربة مملكة النرويج ، البلد الذي أقيم فيه منذ العام 1987 . تجربة غنية من الضروري التطرق اليها ولو بايجاز.

يشكل النفط والغاز جزءاً مهماً من ثروة النرويج الوطنية. وقد أعطى ذلك عائدات مغرية للنرويج وفرصة فريدة لزيادة رأس المال للأجيال القادمة. ولذلك استثمرت النرويج بكثافة في صندوق نفطي بلغ رأسماله حتى حزيران العام  2019  أكثر من 1.4 تريليون دولار[1]. وبسبب التقلبات الدورية لسعر بيع البرميل الواحد من نفط الشمال يمكن تخفيض قيمة الصندوق أو زيادته بمئات مليارات الدولارات في فترة زمنية قصيرة. تأسس صندوق النفط الحكومي في العام 1990 ولكن أعيدت تسميته في العام 2005 إلى صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي-العالمي والذي يدار من قبل البنك المركزي النرويجي ويستثمر رأسماله في الأسهم والأوراق المالية في جميع أنحاء العالم .

أن الغرض من صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي هو تمويل نفقات التقاعد المستقبلية للتأمين الوطني وذلك لأن مصروفات التقاعد في خطة التأمين الوطنية سوف تزداد بشكل كبير. وبهذه الطريقة ، يمكننا أن نضمن للمستقبل أولئك الذين يأتون بعدنا ويتجنبون دفع أعباء كبيرة على الأجيال القادمة كما يقول النرويجيون  [2].

وصندوق الثروة السيادي هو صندوق استثمار مملوك للدولة يتألف من الأموال التي تولدها الحكومة، التي غالبًا ما يتم اشتقاقها من فائض احتياطيات الدولة، حيث توفر الصناديق السيادية منفعة لاقتصاد الدولة ومواطنيها.

قال نائب محافظ البنك المركزي، عمار خلف، في تصريح تابعته "العين الإخبارية"، "ندعو إلى ضرورة إنشاء صندوق سيادي للاستفادة من الوفرة المالية للدولة". وأضاف خلف أن "قرار إنشاء صندوق يبقى تابع للحكومة العراقية ووزارة المالية بالأساس"، مشيرا إلى أنه "بالإمكان أن يساهم البنك المركزي في إدارة هذا الصندوق"  [3].

وظهرت فكرة تأسيس صندوق السيادة في العراق في أغسطس/آب 2021، على وقع انقضاء أزمة مالية عاشتها البلاد دفع بالحكومة إلى الاقتراض ولأكثر من مرة لتأمين النفقات التشغيلية بما فيها رواتب الموظفين، وثارت حالة من الجدل في الأوساط العراقية بسبب الفكرة التي مر على ظهورها 10 أشهر.

وأكثر ما يحتاج اليه العراق في الوقت الحاضر هو تأسيس مثل هذه الصندوق الذي سوف يساهم في استثمار مداخيل بيع النفط العراقي في مشاريع اقتصادية تغذي أرباحها صندوق سيادي للأجيال القادمة من الشعب العراقي.

والجدول التالي يحتوي على معلومات عن أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم  [4].

جدول رقم 2  : معلومات عن أكبرعشرة صناديق سيادية في العالم3502 سناء

وكما تبين معلومات الجدول فقد حاز الصندوق السيادي لـ“هيئة الاستثمار الكويتية" على المركز الأول بين الصناديق السيادية العربية، والثالث عالميا، تلاه هيئة جهاز أبو ظبي للاستثمار، ثم صندوق الاستثمارات السعودي في المركز الثالث عربيًا، وفقًا لبيانات معهد SWFI، الذي يرصد تطور قيمة أصول الصناديق السيادية حول العالم. وتصدر الصندوق التقاعدي الحكومي النرويجي المركز الأول عالميًا بقيمة 1.4 تريليون دولار، وجاءت مؤسسة الاستثمار الصينية في المركز الثاني بقيمة 1.2 تريليون دولار.

واستنادا الى بيانات الرسم التوضيحي رقم 2 الذي يبين قيمة صادرات النفط العراقي في العامين 2021 و 2022 يمكننا أن نؤسس صندوق سيادي للعراق للأجيال القادمة وعدم تبذير وانفاق هذه الاموال الضخمة في  مشاريع استهلاكية غير انتاجية ولا يستفاد منها الشعب العراقي. فقد ارتفعت اجمالي الايرادات في أول تسعة أشهر من العام 2021 من 52.98 ملياردولار أمريكي الى 90.31 مليار دزلار أمريكي ، أي بنسبة  70.50 %  [5]. وهنا نقترج التالي:  فرض ادخار اجباري بحدود 20% على رواتب الموظفين اللذين يستلمون 2-5 ملايين دينار عراقي وعلى أن لايتجاوز أعلى راتب في الدولة العراقية عن خمسة ملايين دينار عراقي مع الغاء جميع الامتيازات والمخصصات المالية العالية لأعضاء مجلس النواب والوزراء ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وأصحاب الدرجات الخاصة مع مكاتب رئاسة الوزراء ومكاتب رئاسة الجمهورية مع استثناء فئات الموظفين الصغار والمعلمين والمدرسين والعاملين في قطاع الرعاية والخدمات الصحية.3503 سناء

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

الأكاديمية العربية في الدنمارك

.............................

[1]. www. Norges Bank, Investment Managemet.no. Oslo,

[2] انطر بحثنا: تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف وإمكانية استفادة العراق منها.  جامعة التنمية البشرية ، مديرية ضمان الجودة. السليمانية -العراق. المؤتمر العلمي الدولي الحادي عشر يومي 11-12 حزيران 2022.

[3]    العين الإخبارية - ليث الكاتب . 2022/7/12

[4]  المصدر: معهد صندوق الثروة السيادية SWFI:. CNN بالعربية

[5] Attaqa.net

الشعوب وعلى مر العصور ما فتئت تبحث عن العدل والعدالة لتعينها على تحمل مصاعب الحياة، وما الاديان الا وسيلة من وسائل ذلك البحث الذي ولد مع ولادة أولى المجتمعات الزراعية.. لذلك في عصرنا الحالي انتمت فصائل عديدة من الفقراء عمال وفلاحين وطلبة ومثقفين للاحزاب اليسارية شيوعية واشتراكية من التي ناضلت من أجل تلك العدالة، ومنهم بعض الأغنياء من المتعاطفين مع الفصائل الأخرى او المؤمنين بالقيم الإنسانية السامية. لاشك أن لكل منهم غاياته من وراء ذلك الانتماء، فمنهم من آمن بشكل حقيقي بما طرح من نظريات وأفكار وفلسفة اشتراكية والتزم بها و ناضل وضحى من أجلها، بينما البعض الآخر كان اليسار بالنسبة له مجرد ركوب موجة أو حبا بالمغامرة. ونوع آخر ركب على أكتاف اليسار لتحقيق مطامح شخصية ذاتية أو قومية. والكثير من الفئة الاخيرة صارت اليوم تنتقد اليسار والأحزاب الاشتراكية لأنها تريد تغيير ما فطر عليه الإنسان من حب التملك ! وبعضهم او الكثير منهم متأثرا بالدعايات ووسائل الإعلام الغربية والأمريكية بشكل خاص، والذي قلنا في أكثر من مرة أنه يجند كل امواله وذكاء المبدعين فيه من أجل السخرية والحط من القيم الاشتراكية واليسار.مع انحسار دور اليسار في العصر الحالي يكتشف الانسان الواعي انحسار القيم والمثل الانسانية وانحسار روح التضامن بين الشعوب وارتفاع نزعة الأنا والانانية لدى الافراد. فالماكينة الدعائية ابدعت الافلام والمسرحيات والروايات وحتى افلام الكارتون لتزج فيها سخريتها من اليسار واليساريين وتيئيس الشعوب من فكرة العدالة الاجتماعية التي ينادي بها اليسار، وتشبيههم بفارس طواحين الهواء الدون كيخوته! وجندوا بنفس الوقت الكثير من المغيبين فكريا ليوهموهم بفكرة التعصب الديني مستغلين النزعة الإيمانية وتغلغل الدين بين صفوف الطبقات الفقيرة، والتي لا امل لها سوى في العالم الاخر ليحظوا بما وعدهم الله من حياة مرفهة وجنات تجري من تحتها الانهار. فاوهموهم تجار السلاح الغربيون بانهم يمكن ان يسارعوا الى ذلك العالم من خلال انتحار جماعي كما رأينا وعشنا في الجرائم البشعة التي ارتكبتها العصابات الارهابية باسم الدين.

إذن لا حل لليسار ليستعيد موقعه بين صفوف المتعبين غير مواجهة ذلك الكم الهائل من الخبث والدعاية ضدهم، بما يوازي ذلك الحجم من السخرية من الفكر الاستهلاكي والجشع الراسمالي، وفضح استغلال الفقراء واستخدامهم وقود لاشعال الحرائق وتدمير البلدان لتحقيق مآرب الغرب الرأسمالي وبالأخص أمريكا. وسلاح اليسار أن يعتمد على قوة الحجة والمنطق وقدرات ساخرة توازي السخرية المقابلة. البعض كان يرى في النظام البريطاني (الرأسمالي) الحل الامثل فهو أفضل حتى من بعض الانظمة الاشتراكية وقد حقق مبدأ (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته). وهذا صحيح جدا ولكن من ناضل من اجل تحقيق ذلك هم اليسار البريطاني. فبعد الحرب العالمية الثانية ومعاناة الشعب البريطاني إثر تلك الحرب ضغطت تلك الفصائل اليسارية والثورية، بقيادة الحزب الشيوعي حينها وحزب العمال الذي كان يساريا منتميا حقا للعمال ومنهم المناضل الفذ السيد توني بن، على الحكومات البريطانية لتوفير معيشة كريمة للشعب لتعويضه عن الخسائر البشرية والنفسية والمعاناة التي تكبدها من جراء تلك الحرب. فلولا اليسار لما كان للعاطلين عن العمل والمرضى وكبار السن، من مساعدات تحفظ كرامتهم. وهذا مايحاول بعض من المترفين من اتباع امريكا مثل بوريس جونسن وفرّاج وغيرهم تغيير تلك القوانين والشرائع التي صارت جزء من الدستور البريطاني، ليعودا إلى نظام شريعة الغاب أي البقاء للاقوى أو الاغنى!

إذن ظاهرة انحسار اليسار هي ظاهرة عالمية، بعد تعرضهم لكل أنواع التشويه والمشاكسات بل وحتى محاربتهم بسبل العيش والضغوط النفسية، فوسائل الاعلام الغربية تعمل بلا هوادة للسخرية منهم وللحط من أفكارهم. خاصة بعد تعدد وسائل الإعلام والتطور التكنولوجي التي تستخدم لتحييد الشباب وملء فراغهم برغبات الاستهلاك والرغبات الذاتية البعيدة عن القيم الاجتماعية والسمو، بل وتعزيز فكرة حب الامتلاك بكل اشكاله وتحويلهم على عبيد للاستهلاك والشراء من أجل الشراء فقط، والبعد عن القناعة والتضحية من اجل الاخر!

إذن ابتعاد اليسار عن الساحة هي فرصة للآخر لتنتصر قيمه، وبالتالي تضييع كل التضحيات التي قدمتها الشعوب والفصائل اليسارية سدىً. فلا مجال للتهاون ومنح الغرب الرأسمالي الفرصة للإثراء على حساب الدول الفقيرة الناشئة، ومنح الفرصة للشر أن ينتصر على الخير والامل. فلابد من البحث المتواصل لمعرفة ذوات الشباب واهتماماتهم وطبيعة تفكيرهم ومعرفة مدى استعدادهم لتبني الأفكار السامية والقيم الإنسانية لمواجهة التحديات، مستخدمين نفس الوسائل الإعلامية وتجنيد الابداعات الفكرية والفنية ليستعيدوا موقعهم وانقاذ مايمكن انقاذه. والاهم هو تنقية روح الفرد من الأنا والانانية. لا اعتراض على حب التملك لكن بعيدا عن عبودية الشراء وجشع الاستهلاك

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2023

من البداية إلى البداية

في قلب الصحراء الليبية تقع قرية برقن الشاطئ، المكان الذي شهد بداياتي في عالم الحرف والقلم وتدرجي العلمي. لا يمكنني نسيان الأرض التي نشأت عليها والبيئة التي شكلتني. إنها قرية صغيرة ولكنها مكان مميز بسحرها الخاص وجمال طبيعتها المميز. هذه القرية هي مسقط رأسي ومصدر إلهامي،حيث تعلمت الكثير من الأشياء القيمة والمفيدة التي ساعدتني على أن أصبح أكاديمياً وكاتباً وباحثا ومؤلفا .

هي أرض أجدادي، وانا من ضمن أحفاد أحد شيوخ برقن الشاطئ، والذي كان يشهد له بالفصاحة والصرامة، وبالتأكيد فإن المرء يتأثر بالسير الذاتية لأهله الأولين كما ينقلها أبنائهم، أو من أهل المنطقة، ويظل يتمثلهم ويحرص على أن يكون في خطواته مقتديا بآثار أجداده ومهتديا بمناقبهم، ويبقى حريصا على هذه الوديعة الثمينة التي تركوها وهي السيرة العطرة والتي هي أعظم ميراث.

 وهي الأرض التي جعلتني أحب الكتابة والتعبير عن أفكاري بكل حرية وإبداع. فلا أنسى أيام كنت أتنافس وبعض الأصدقاء على إقتناء الكتب من المكتبة القديمة في ثمانينات القرن الماضي، ونستمتع بإعارة الكتب فيما بيننا بكل لهفة وفرح، وأيضاً حين كنت أحمل معي بعض الروايات العربية والمترجمة وبعض الكتب الثقافية للاطلاع عليها تحت ظلال النخيل، وفوق تلال الرمل الذهبية الفاتنة،ولذلك، فإنني أحتفي دائما بهذه القرية الجميلة وأشكر كل من ساهم في تشكيل شخصيتي (خاصة من أساتذتي في المراحل الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية) ومنحني الحب والشغف للكتابة والتعبير.

في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضى، كانت هناك حركة ثقافية نشطة في القرية وفي ليبيا عموماً، وكانت تشرف عليها غالباً وتسير فعالياتها حركة كشفية نشطة، تدير زخماً من الأنشطة الثقافية والرياضية، حيث المسرحيات التي تشد إليها كل سكان المنطقة، وتساهم في لملمة النسيج الاجتماعي، وتقوية أواصر الصداقة والجيرة وتنشر المرح وتجدد الحياة، وكذلك شهدت تلك الفترة تنوعاً في الأنشطة الرياضية، وعلى رأسها الرياضة الأهم كرة القدم وكان الفريق الذي يمثل المنطقة وهو نادي "الأوسط"، يحظى بمتابعة وحب وعشق أهل المنطقة، ولقد شهد بروز مواهب كثيرة لازالت تتداول أسماؤهم حتى اليوم، بأهدافهم الجميلة وانتصاراتهم وبطولاتهم على مستوى المنطقة.

في النهاية، لا يمكنني إلا أن أقول كم أنا ممتن لقريتي ومسقط رأسي ومهبط روحي ولكل من يعيش فيها،وكم أنا فخور بأنني نشأت في هذا المكان الرائع،وأتمنى أن ينعم هذا المكان بالسلام والاستقرار دائماً.

حتى عندما كنت هناك على ضفاف المحيط الأطلسي تحديدا في مدينة "الرباط" بالمملكة المغربية، لم تشغلني هذه المدينة التاريخية الفاتنة بوجهها المبهرالمعاصر وحسنها الأصيل الكامن في كل تفاصيلها، عن الحنين المتدفق في داخلي نحو قريتي الأيقونة..حتى قلت في الرباط:

أَنْت يَارْيَانَةُ الشَّوَارِعِ ..بِفِعْلِكَ الْمَاضِي وَفِعَلَكَ الْمُضَارِعُ..وَفِعْلُكَ الْمُسْتَقْبَلُ الطَّالِعُ.. أَنْتت الْفَاتِنَةُ التي لَطَالَمَا حَلَمْتُ بِأَنْ تَبَيَّنَ لِي وَبِنْتِي..إِخْتَرْتُ الزَّمَانَ وَبَاغَتْنِي وَكُنَّتِي..وَمِنْ أُفُقِ الدَّهْشَةِ إِلَى وَجَعِي بَرْزَتِي وَفِي جُرْحِي إِضْجَعَتِي..يَارْبَاطِ الْخَيْلِ أَنْت.. مَعْشُوقَتِي أَنْت وَأَلْفٌ أَنْت..الخ

ورغم عشق الرباط الخاطف الذي داهمني على حين غرة، ظلت قريتي الأيقونة حبي الاول الذي سرعان ماينقض على أي حب منافس، وذات شوق جارف ومن على ضفاف المحيط الأطلسي، على مقعد في الطابق العلوي لمقهى مميز في "إقامة الصباح" في مدينة الرباط داهمني حب قريتي الأيقونة،حتى صرت أترنم بكلمات شعبية ألفتها في تلك اللحظة:

في حروفها نغمة ولحن ورنة... برقن غلاها فوق مالتوصيف

برقن تنطقها تحس ببنة...غير كيف بنعبر عليها كيف

اللي زينها مافيش واجد منه...واللي عشقها تكتفه تكتيف

ويبقى يهاتي كان تبعد عنه... إلا قربها يبي وبلاها يصيف

وهي فخر للشاطي اللي هي منه...مدينة فقرية للفهم والتعريف

لا يمكنني القول بالضبط إن كانت القرية قد تغيرت كثيرًا منذ مغادرتي إلى ديار الغربة حتى عودتي أو لم تتغير. ومع ذلك، يمكن القول بشكل عام إن الأماكن تتغير بمرور الزمن وتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وشيئا فشيئا تصيب بعضا من التحضر والتمدن أكثر فأكثر،فمن الملاحظ أن هناك تغيرات ملحوظة قد طرأت في القرية، خاصة وقد مر وقت طويل منذ مغادرتي. ومن الممكن أن تشمل هذه التغييرات زيادة عدد السكان، أو تطوير البنية التحتية، أو تغيير في الطبيعة الاجتماعية والثقافية للقرية. وهذه التغييرات قد تكون إيجابية أو سلبية، وقد تتفاوت في درجة تأثيرها على الحياة في القرية، من بين التغيرات الإيجابية هي التطور الملحوظ من حيث حركة التمدن، ومن حيث التغييرات السلبية هو شيء من الجفاء الاجتماعي بين السكان ربما هذا يترافق مع التطور الحضري، حيث يضعف قليلا هذا الوازع الاجتماعي، ومع ذلك مازال هناك قدر لابأس به من التراحم والتكافل.

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

بدأت أسرار قمة الناتو التي عقدت مؤخرا في فيلنيوس، تتسرب الى العلن يوما بعد يوم، و اخطرها هي تلك التي تتعلق بالتحركات البولندية الليتوانية في غرب أوكرانيا، وحقيقة محاولة الناتو فتح جبهة بالوكالة ثانية واسعة النطاق ضد روسيا وربما بدأ الآن التنفيذ العملي لهذه الخطة، فهناك ضخ مكثف لمجموعة أرضية في بولندا وليتوانيا، مما يعزز الغطاء الجوي، بما في ذلك في فيلنيوس وبالقرب من كالينينغراد مباشرة.

حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعه مع اعضاء مجلس الامن القومي الروسي، عزز الشك باليقين حول تلك النوايا، وحذر بوتين وبشكل صريح، من مساعي بولندا لحشد تحالف تحت مظلة "الناتو" والتدخل المباشر في أوكرانيا للاستيلاء على مناطقها الغربية، والاشارة الى إن موسكو تعرف أن بولندا ترغب في الحصول على جزء من الأراضي في بيلاروسيا، وأصدر بوتين تعليمات للمخابرات بمراقبة خطط بولندا الخاصة بأوكرانيا، ويهدف حديث الرئيس الروسي إلى تحذير الغرب من أن رد روسيا سيتبع على الفور، ومن المحتمل أن يكون هذا ردا نوويا، إن لم يكن في صورة معكوسة، فعندئذٍ بشكل غير متماثل، وأن بإمكان روسيا المضي قدمًا في تعزيز وجودها العسكري في بيلاروسيا.

ويؤكد المراقبون، أن الرئيس الروسي، حاول إنقاذ النخب البولندية والليتوانية من خطوات متهورة، وحذر الولايات المتحدة وحليفتيها في الناتو بولندا وليتوانيا، من محاولات تصعيد الصراع الأوكراني، وإيضاحه، بانه بات معروفا ان خطط بولندا لا تقتصر على هذا أيضًا، وأنهم يحلمون أيضًا بالأراضي البيلاروسية، لذلك أكد بوتين إن إطلاق العنان للعدوان على بيلاروسيا سيعني العدوان على روسيا، وفي حال وقوع أي اعتداء على بيلاروسيا، التي هي جزء من دولة الاتحاد، فإن روسيا سترد بكل الوسائل المتاحة، في الوقت نفسه، أشار إلى أن موسكو تعرف أن بولندا ترغب في الحصول على جزء من الأراضي في بيلاروسيا، وتتوقع تشكيل نوع من التحالف تحت "مظلة" الناتو، وبعد ذلك ستتدخل مباشرة في الصراع الأوكراني من أجل تمزيق "قطعة سمينة" في أوكرانيا، لاستعادة أراضيهم التاريخية - غرب أوكرانيا اليوم، وقد لفت الانتباه فقط إلى ما يجب أن تعرفه شعوب بولندا وليتوانيا، إن الغرب اليوم يفتقر إلى "وقود المدافع الأوكراني" في ساحة المعركة.

ويرى الرئيس الروسي إنهم يخططون لاستخدام مواد استهلاكية جديدة - بولنديون وليتوانيون وأقل من ذلك في القائمة، وأكد ان "هذه لعبة خطيرة للغاية، وعلى واضعي مثل هذه الخطط التفكير في العواقب"، ووفقا للمراقبين فانه بالفعل ستكون هناك عواقب، وسيكون رد روسيا حاسمًا وقاسًيا، ووفقا لهم، فإن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام بولندا ودول البلطيق، كأعضاء في الناتو لتصعيد الصراع مع روسيا، لكن ليس بشكل مباشر وليس في أوكرانيا - فهذا يعني الدخول في حرب مفتوحة مع روسيا، لكنهم يشكلون تهديدات لبيلاروسيا، وهذه تهديدات حقيقية، وليست كتائب خيالية من [الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وأوضح العالم السياسي ألكسندر أسافوف، أن هذا تحذير الى بولندا وليتوانيا بشأن عدم الرغبة في اتخاذ إجراءات جذرية، ورسالة الى الناتو مفادها أن روسيا على دراية بخطط الحلف، وأنها تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية دولتها ودولتها الحليفة، ويجب ألا ينسوا بحسب أسافوف، أن بيلاروسيا تمتلك أسلحة نووية تكتيكية ومجموعة عسكرية مشتركة، في غضون ذلك يحاول بوتين منع الموت غير الضروري لسكان هذه البلدان التي تشترك معها روسيا في التاريخ المشترك و"الاختيار متروك لبولندا وليتوانيا".

كما تبين أن الجزء العلني من الجلسة الأسبوعية لمجلس الأمن الروسي، هذه المرة كان أطول من المعتاد، فبعد أن أعطى الرئيس بوتين الكلمة لرئيس جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، سيرغي ناريشكين، فقد كان الأمر يتعلق بالتهديدات الجديدة التي نشأت في الاتجاه الأوكراني، ووفقًا لناريشكين، فإن النخب البولندية تدرك بشكل متزايد، أن القوات المسلحة لأوكرانيا لا يمكنها مقاومة الجيش الروسي، وأن "هزيمة أوكرانيا مسألة وقت ليس إلا "، وانه في هذا الصدد، تعمل القيادة البولندية وفقا لناريشكين على تكثيف مزاجها للحفاظ على سيطرتها في المناطق الغربية من أوكرانيا، والمناطق الغربية، من خلال نشر قواتها هناك.

ويمكن القيام بذلك في إطار مثلث لوبلين، زيادة كبيرة في قوة اللواء الليتواني-البولندي-الأوكراني، وقد وافق الرئيس بوتين على أن هذا تهديد حقيقي، ويمكن لبولندا أن تقرر اتخاذ مثل هذه الخطوة، ومشاهدة فشل الهجوم المضاد للقوات المسلحة لأوكرانيا، وعدم فعالية الإمدادات الهائلة من الأسلحة الغربية لأوكرانيا، فالجنود الروس وضباطها ووحداتها وتشكيلاتها، يقومون بواجبهم تجاه الوطن بشجاعة وثبات وبطولة، في الوقت نفسه، قال الرئيس الروسي ان العالم بأسره يرى، أن المعدات الغربية التي يُفترض أنها غير معرضة للخطر مشتعلة، ومن حيث البيانات التكتيكية والتقنية، غالبًا ما تكون أدنى حتى من بعض أنواع الأسلحة التي لا يزال إنتاجها سوفييتيًا.

كما ان مخزونات الأسلحة في الغرب مستنفدة بشكل كبير، و قدرات الإنتاج لا تسمح لهم بالتجديد السريع لاستهلاك المعدات والذخيرة، في الوقت نفسه فإن روسيا بحاجة إلى موارد جديدة، ليس فقط تقنية، بل بشرية أيضًا، وأكد بوتين أن هذا على الرغم من حقيقة أنه "نتيجة للهجمات الانتحارية، تكبدت تشكيلات القوات المسلحة الأوكرانية خسائر فادحة - هؤلاء عشرات الآلاف من الأشخاص"، في وقت يكون استيقاظ الاوربيين يسير ببطأ، ويرى الأوروبيون أن ما يسمى بدعم أوكرانيا هو طريق مسدود يخدم مصالح القوة المهيمنة العالمية التي تستفيد من إضعاف أوروبا، وإن إطالة أمد الصراع الأوكراني اللانهائي مفيد له أيضًا.

نواقيس الخطر من وجهة المراقبين البولنديين، بدأت تدق بشأن عسكرة بولندا العنيفة في الأشهر الأخيرة، ففي العام الماضي، اعتمدت البلاد قانون "الدفاع عن الوطن"، والذي بموجبه يزداد الإنفاق العسكري بشكل حاد (يصل إلى 2.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 و 3٪ على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023)، بالإضافة إلى ذلك، من المخطط زيادة الجيش البولندي بشكل جذري من 160.000 إلى 300.000 (وحتى 400.000، وفقًا لرئيس حزب القانون والعدالة ياروسلاف كازينسكي)، مما سيجعله أخطر قوة عسكرية في أوروبا، وأخيرًا، يمكن أن نرى بالعين المجردة أن بولندا تجمع قبضة مدرعة، وبالعودة إلى يوليو من العام الماضي، ظهرت معلومات حول نية وارسو شراء دبابات أبرامز الأمريكية، وكذلك K2 Black Panthers الكورية في ثلاثة إصدارات، علاوة على ذلك، كان من المخطط أن يتم تجميع جزء من العربات  الكورية في مصنع جديد في بولندا، بالإضافة إلى ذلك، أعربت السلطات البولندية عن نيتها شراء مدافع هاوتزر ذاتية الدفع AHS Krab من سيول، وكذلك WWR K239 Chunmoo MLRS، بالإضافة إلى ذلك، كان البولنديون سيشترون M142 HIMARS MLRS من الأمريكيين.

ويتضح للمجتمع البولندي أن الحزب الحاكم يقودهم إلى المذبحة، وأن القتال يبدأ في الداخل، ووفقا للمراقبين المحليين، فإن وارسو تستعد لفتح جبهة ثانية ضد روسيا وبيلاروسيا، وبما أن الانتصار الخاطف على روسيا لم يحدث، والآن يمكن للفصيل الحاكم لحزب القانون والعدالة (PiS) أن يخسر كل شيء، لهذا السبب، تواصل الحكومة مفاقمة الوضع المتوتر بالفعل، من خلال الترويج لروايات حول الحاجة إلى الاستعداد "لمحاربة المعتدي"، ويعترف عالم السياسة البولندي حنا كرامر بأن الهدف الحقيقي من إجراء عدد كبير من تدريبات الناتو في بولندا هو علامة على الاستعدادات لفتح جبهة أخرى ضد روسيا على أراضي حليف موسكو الرئيسي، بيلاروسيا، وكتأكيد لهذا الاستنتاج، يستشهد العالم السياسي بكلمات القائد السابق للقوات البرية البولندية، الجنرال فالديمار سكرزيبتشاك، الذي دعا الجمهور البولندي والغربي إلى الاستعداد لانتفاضة شعبية في بيلاروسيا.

ان الاستنتاجات المستخلصة من حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الاجتماع، هو ان بولندا مستعدة مرة أخرى للتصرف بعدوانية، وهذا أمر "خطير" بالنسبة لها، وان موسكو لن تتدخل إذا دخل البولنديون إلى غرب أوكرانيا، أي أن بوتين مستعد لتقسيم أوكرانيا، لكنه يحذر في الوقت نفسه وارسو من أن البولنديين "يجب أن يفكروا في العواقب"، وقد تكون العواقب هي خسارة الأراضي التي "منحها" ستالين - هذا جزء من غرب بروسيا، وجزء من سيليزيا، وشرق بوميرانيا وشرق براندنبورغ، ومدينة دانزيج الحرة (الاسم البولندي الحديث هو غدانسك)، ومنطقة شتشيتسين، وحتى تلك التي تطالب وارسو بتعويضاتها بعد نتائج الحرب العالمية الثانية؟.

كما سبق وان هدد المستشار الألماني أولاف شولتز، خلال خطابه في جائزة M100 Media، بولندا بإعادة النظر في الحدود بين الدول استجابة لمطالب التعويضات، وأوضح شولتز مدى أهمية الاتفاقات التي أبرمها [المستشار الألماني السابق] ويلي براندت، بأن الحدود بين ألمانيا وبولندا قد تم إنشاؤها بشكل واضح ودائم بعد مئات السنين من التاريخ، " ولا أريد أن يبحث بعض الناس في كتب التاريخ لإدخال تغييرات حدودية تنقيحية"، كما انه في ألمانيا، هناك وجهة نظر شائعة هي أن السلطات البولندية نظمت معسكرات اعتقال، ونتيجة للحرب، تم طرد 14 مليون مواطن ألماني من أرضهم الأصلية.

والحديث عن ثلاثة أقسام للكومنولث (1772، 1793، 1795) بين النمسا وبروسيا وروسيا، إلى حقيقة أن الدولة البولندية كانت غائبة عن الخريطة السياسية لأوروبا لمدة 123 عامًا، وتم إجراء القسم الرابع خلال مؤتمر فيينا، الذي أضفى الطابع الرسمي على التقسيم الجديد لبولندا إلى الأجزاء التالية: دوقية بوزنان الكبرى (التي تم التنازل عنها لبروسيا)، ومدينة كراكوف الحرة (في عام 1846 مدرجة في الإمبراطورية النمساوية) ومملكة بولندا (تم التنازل عنها لروسيا).

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

لا يتجادل أثنان سويان على وطنية الزعيم قاسم وعفة لسانه وقلبه ونظافة هندامه وبساطة روحه وشجاعته في مواجهة الموت في مبنى الصالحية ببغداد يوم ٩ شباط ١٩٦٣. لكن حتماً يتجادل أثنان على أداء قاسم الحكومي والوظيفي في إدارة مؤسسات الدولة وشؤون البلد، وتخبطاته في القرارات ونزعته بإتجاه الدكتاتورية والارتجال وتشبثه بكرسيه. في صبيحة 14 تموز 1958 ثمة عسكر أنقضوا على ثكنات ومحميات النظام الملكي ومؤسساته ولولا التأييد الجماهيري والشعبي لبيان رقم واحد من إذاعة بغداد في مبنى الصالحية في شوارع بغداد والمدن الأخرى لبقى ذكرى هذا اليوم ضمن دائرة مغامرات الإنقلابات العسكرية. يوم دموي دشن به بإبادة العائلة المالكة في قصر الرحاب بعد أن خرجوا من فضاءات غرف نومهم رافعين رايات الاستسلام. أطلق النار عليهم من قبل الضابط عبد الستار العبوسي، ولم ينجو منهم الا الأميرة بديعة أخت الامير عبد الإله وخالة الشاب المغدور الملك فيصل الثاني. تابعت بأهتمام طيلة السنوات التي مضت ما كتب حول الزعيم قاسم. فريق وهو المؤيد له. ذهب بعيداً عن حقيقة مجريات الاحداث ليجعل من قاسم قديساً، ونفر آخر جعل منه دكتاتوراً مستبداً.

حتى ننصف الرجل والمرحلة والتاريخ في فترة حكمه التي لا تتجاوز الخمسة سنوات مرت بمخاضات عسيرة. أدت ببعضها الى إسقاطات مشوهة. في رأي أول تلك الاسقاطات كانت محكمة المهداوي تجربة فاشلة. عكست وجهاً سلبياً عن أهداف ثورة تموز. وفي بعض المرافعات أنقلبت سلباً على سمعة الثورة ورجالها وخدمة أعداء الثورة , بل ألبت الناس عليها. محاكمة سعيد القزاز وزير داخلية النظام الملكي نموذجاً. وهناك نماذج أخرى عديدة في ملفات المحكمة لا يقتدى بها بما حملته في جلساتها من تعابير وألفاظ تخدش الذوق العام.

كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشل بأمتياز، تذبذب مواقفه من عدة أحداث ووقائع، كان يفترض أن تكون مواقفه متساوية وبمسافات واحدة تجاه تطورات الاحداث في البلد. الموقف من المقاومة الشعبية وشعاراتها المستفزة وتجوالها في الشوارع العامة بذريعة حماية صورة الزعيم ومنجزات الثورة. خطابه المشهود في كنيسة ” المار يوسف ”عام 1959 ضد الشيوعيين . الموقف من حركة الشواف في الموصل وقطار السلام. محاكمة أياد سعيد ثابت بعد عفو رئاسي وعودته من المهجر على ضوء أحداث حركة مايس 1941 ورشيد عالي الكيلاني. أعدام الضباط الاحرار ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري،  الذي بدأ يبكي في يومها بمكتبه في وزارة الدفاع حسب شهود مرافقيه، مطاردة وإعتقال وأغتيالات الشيوعيين على مرآى ومسمع من بصيرته من قبل جهازه الأمني والقوى المعادية لهم، كل تلك الاحداث والتطورات تؤدي بنا الى دكتاتورية عسكرية في إدارة الحكم والتي كان يفترض أن تسلم الى حكم مدني أقصاه لمدة عامين بعد نجاح ثورة تموز. موقفه المتذبذب وسط التيارات والاحزاب السياسية. مرة يهادن ويغازل الشيوعيين على حساب البعثيين والقوميين. والشيوعيين كانوا أخلص الناس له ولحكمه دعنا من بعض الهفوات التي أرتكبت في حكمه. وفي الختام هادن البعثيين بالضد من الشيوعيين بل غض النظر عن تحركاتهم ونواياهم رغم تحذيره منهم ومن نواياهم , بالأخير أطاحوا به وبنظامه ودفع الثمن مئات الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين. في اللحظات الاخيرة من حياته وحكمه زاد توجسه في الخوف من الشيوعيين، وفي باب وزارة الدفاع كان المشهد درامي تراجيدي أبناء الفقراء وساكيني بيوت الصفيح والشيوعيين يطالبوه بالسلاح للدفاع عنه وعن الثورة يتردد رغم أن زعاف الموت يقترب منه وينهي حياته بعد أن حصر نفسه في وزارة الدفاع وسلم نفسه ذليلا بعد ٢٤ ساعة من بدأ الإنقلاب، كان خائفاً من الشيوعيين لينقلبوا ضده ويقفزوا الى دفة الحكم  وليس خوفاً من سفك الدماء، فالدماء سالت منذ الصباح الباكر في شوارع بغداد.

من الملفات التي سارعت للاطاحه به وبحكمه. ملف دولة الكويت والتلويح به لاحقيتها لدولة العراق عام 1961. قانون رقم 188 لسنة 1959 للاحوال المدنية والمساواة في الأرث وحقوق المرأة مما أرعب الدوائر الرجعية والمتخلفة والحاقدة على منجزات الثورة وتقدمها. فتوة محسن الحكيم نموذجاً ” الشيوعية كفر وألحاد ”. مما أعطى مبرر فقهي وقانوني وأجتماعي في محاربة الشيوعية في العراق والتبرير في الممارسات الدموية ضدهم، والدليل ما حدث في يوم 8 شباط عام 1963 في أرض العراق. وقد جرت محاولة فاشلة من مجلس الحكم الانتقالي بعد إحتلال العراق للاطاحة بالقانون وتم التصويت على الغائه، لكن بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق أنقذه.

 ومن الملفات التي عجلت في إنهاء حياته وفترة حكمه قانون رقم 80 لعام 1961 حول تأميم النفط والتضيق على عمل الشركات الاحتكارية النفطية الامبريالية في العراق، مما دفع دوائر تلك الشركات في دعم القوى المعادية له والاطاحة به، علاوة على ذلك الملف الكردي والصراع الدائم والدائر بين الحكومة المركزية والملف الكردي. تاريخ العراق معقد وغائر من الصعوبة أن يكتب بواقعية وشفافية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والاثنية. منذ الدولة الاموية ومراحل الحكم التي أعقبتها على أرض العراق تاريخاً مغلوطاً بعيداً عن واقعية الاحداث ربما نقلت شذرات منه، لكن هذا لايكفي في تدوين تاريخ كامل، كان لزاماً علينا نحن الشيوعيين أن نقف بجد ونقد عل تداعيات تلك المرحلة بقراءات واقعية ومتأنية حتى على حساب نقد الذات وأستخلاص الدروس. فالبشر خطاؤون.. كما يقول فولتير.

الملفت في الأمر في السنوات الآخيرة من عمر إحتلال العراق يتباهى الشيوعيين العراقيين بصور الزعيم قاسم بعيدأ عن الوقائع الموضوعية في فترة حكمه وموقفه السلبي والمدمىر من الحزب الشيوعي العراقي وملاكاته في التضييق على نشاطاتهم بل في مطاردتهم، إذ لم يسمح لهم بنشاط سياسي واضح من خلال منحهم رخصة عمل ضمن شرعية قانون الاحزاب، وعندما قدموا طلب للحصول على أجازة رفضها بذريعة وجود حزب شيوعي يعمل ضمن قانون الاحزاب والتي منحها الى داود الصائغ فغير الطلب بأسم جريدة أتحاد الشعب الجريدة المركزية للشيوعيين أيضاً رفض طلبهم. وعلى أثر هذا الرفض طلب الشهيد سلام عادل بلقاء به وهو المعارض الى سياسته وتخبطاته مع الشهيد جمال الحيدري ومجموعة من العسكريين، وعندما خرج من اللقاء كان متذمراً ووصفه بالطاغي والجاهل في قراءة تداعيات الشارع العراقي. وعندما توسعت الدائرة بين أوساط الشيوعيين بالضد من سياسته هنا تدخل السوفييت في الحذر من أي خطوة بإتجاه أزاحته، في يومها أخرجوا جورج تلو، الذي كان يرقد في مصحات موسكو وحملوه رسالة شديدة اللهجة الى قيادة الحزب الشيوعي الحذر في النية بأي خطوة، وكما سموها بالمغامرة إتجاه قاسم وحكمه. لماذا يتباكا الشيوعيين عليه وعلى فترة حكمه إذن ؟. 

خاض الشهيد سلام عادل صراعاً حزبياً وسياساً مع رفاقه من أجل تحيدهم بالموقف من سياسة قاسم ومعارضتها مما عرضته تلك المواقف الى أبعاده وبأمر سوفيتي الى خارج البلد وبعيداً عن الفعل الثوري عام ١٩٥٩ بحجة التأهيل الدراسي، وعندما عاد في نهاية عام ١٩٦٢ وبقرار سوفيتي أيضاً. وجد تطورات الأحداث في العراق ” قاب قوسين أو أدنى ” من الشيوعيين في الخطورة ضدهم حيث العناصر القومية والبعثيين محتلين مواقع مهمة وحساسة في الدولة بدعم مباشر من الزعيم ومطاردة وابعاد الشيوعيين ورميهم في السجون والمعتقلات، وعندما أنقلبوا البعثيين عليه في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ وجدوا مئات من الشيوعيين في السجون والمعتقلات مما وفر لهم وقتاً في إنهاء حياتهم. وحسب شهادات مرافقه الشخصي ”جاسم العزاوي ” أثناء مرافقته في جولاته على الافواج والكتائب يطالب قادتها البعثيين والقوميين في تطهير الجيش من العناصر الشيوعية، وهنا سؤال يطرح نفسه بألحاح، ما هو موقف الشيوعيين العسكر من تسلكات الزعيم تجاه رفاقهم وهم القريبين من دائرته الضيقة. مثالاً.. طه الشيخ أحمد، جلال الاوقاتي، وصفي طاهر، فاضل عباس المهداوي، ماجد محمد أمين ؟؟. درس تاريخي مهم في المشهد السياسي العراقي الحديث بحاجة شديدة الى قراءة جديدة ومراجعة نقدية جريئه.

في قراءة شخصية متأخرة حول صبيحة ٨ شباط عام ١٩٦٣ وبيان الحزب الشيوعي العراقي الداعي الى سحق المؤامرة الرجعية ومن متطلبات العمل السياسي  يفترض التأني بما ستؤول إليه الامور وعلى أساسها تتخذ المواقف في حدث مثل هذا، والذي أعطى للبعثيين والقوميين صبغة شرعية في أصدار بيانهم المرقم ١٣ بإبادة الشيوعيين، لكن هذا لاينفي نوايا البعثيين في إستهداف الشيوعيين والقوى الديمقراطية. كما أثبتت الوقائع في ذلك اليوم المشؤوم بأبادة الشيوعيين وأصدقائهم ولم ينجو أحداً من مخالبهم، لقد دمروا البلاد والعباد، وأستشهد زعيم الشيوعيين سلام عادل، عندما إعتقل يوم ١٩ شباط ومات تحت التعذيب يوم ٢٣ من نفس الشهر عام ١٩٦٣. وبعد عشرة سنوات من القتل والدم عاد الشيوعيين ليصافحوا أيادي البعثيين الملطخة بدم رفاقهم تحت يافطة ” جبهة وطنية وقومية تقدمية ”

***

محمد السعدي

مالمو/ تموز ٢٠٢٣

 

ليس أسهل مِن الهدم، عدته عضلة وفأس، أمَّا البناء فعدته رَويَّة وتفكير. الهدم ساعة وتتناثر الأنقاض «طشاريّ»، والبناء شهور وسنوات، لا يحُسنه إلا الكُفاة. أبلغ شعراء العصر قال في محنة ضياع البنائين عند الأزمات: «إذا لم ينلها مصلحون بواسلٌ/ جريئون في ما يدعون كفاةُ»(الجَواهريّ، قصيدة الرَّجعين 1929).

حدث ليلة الجمعة(14/7/2023)، أنْ تجرأت الآلات ناهشةً منارة مسجد السَّراجيّ، المشيدة (1727م)، لتوسعة طريق أبو الخصيب، وبُرر الهدم باتفاق مع «الوقف السُّنيّ»، لكنَّ الوقفَ أوضح: ما حصل جرى ضد الاتفاق، فلم تنقل المنارة، بإشراف فنيين بالبناء لا الهدم. أقول: هذا الاتفاق غير جدير بالتقدير. هوت المنارة، وكأن الثلاثمئة عام لم تشفع لها، كي يُحتفظ بها أثراً تاريخياً.

لم تهدم بشعور طائفيّ، لكنَّ في الوضع العراقيّ الحالي يُقال: ماذا لو كانت المنارة لضريح مِن الأضرحة، الحديثة لا القديمة، أتجرأت الآلات على نقضها بهذه الفاجعة؟! يسأل الأصدقاء: أين ذهبت آثار بغداد، أسوارها وأبراجها، وكانت عاصمة الدُّنيا لنصف ألف عام؟! الجواب مِن المعمار محمّد مكية(ت: 1915): أنَّ المهندس أرشد العمريّ(ت: 1978) أول أمين عاصمة ببغداد، كان مأخوذاً بالحداثة السّاذجة، فأصدر أمراً للبلديات بهدم كلِّ بناءٍ يعترض الشّوارع، وبهذا القرار ضاعت الآثار(مكية، خواطر السِّنين).

قبله أجاب ساطع الحصريّ(ت: 1968)، بمرارة على السُّؤال: توجه أمين العاصمة العمريّ لهدم «جامع مرجان»، لغرض تنظيم شارع الرّشيد، مع ما فيه مِن كتابات أثريَّة (الأجوريّة)، والتي أشار إليها الحصري بـ«أثمن الوثائق التَّاريخيَّة في مدينة بغداد». ثم تجرأت أمانة العاصمة على هدم سور بغداد وبرجه التّاريخيّ، والغرض «إنشاء بهو الأمانة خارج سور القلعة، أخذ (العمريّ) يهدم البرج القائم في نهاية السُّور مِن جهة الشَّط». سمَّى الحصري تلك الأفعال: «نزوات أمين عاصمة» (الحصريّ، مذكراتي في العراق).

كان التّفكير بهدم منارة سوق الغزل التّاريخيّة ببغداد جارياً، فالمنارات هي الآثار قبل المساجد، في حالة السّراجيّ، والتي سميت ربما لوجود نهر تاريخيّ بهذا الاسم بالمنطقة (مجلة لغة العرب)، وفي حالة منارة سوق الغزل كان العُذر احتمال سقوطها، إلا أنَّ العقلاء(1961) فكروا أنْ يُشيد مسجدٌ لها، وقد تم ذلك ومازالت شاخصة، فكُلف المعمار مكية بإنجازه (خواطر السنين).

عندما هدمت منارة «الحدباء» بالموصل (2017)، التي شيدت في عهد نور الدّين زنكي(ت: 569هج)، خلال المعارك مع «داعش»، هزّتَ العالم واقعتها، فتولت دولة الإمارات العربيَّة المتحدة إعادة إعمارها، بينما بلا وخزة ضميرٍ تُهدم منارة بأهمية الحدباء، وأرى «الدَّواعش» بالهدم جنساً واحداً، هذا، ولكم قياس حجم العبث. تأخر تشييد المنائر على بناء المساجد، فقد ظهرت شاهقة في أركانها(السَّنة 53هج)، أوجدها الوالي مسلمة بن مُخلّد الأنصاريّ(ت: 62هج) بمصر(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة)، فلا تُعد مِن المقدسات، بل الآثار النَّفائس.

يُنقل أنّ الفرزدق(ت: 110هج) هجا الوالي خالد بن عبد الله القَسريّ(قُتل: 126هج)، لأنّه هدم المنائر، كي لا يطل المؤذنون على سطوح البيوت: «أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مَطِيَّةٍ/ أَتَتْنَا تَهَادَى مِنْ دِمَشْقَ بِخَالِدِ/ فَكَيْفَ يَؤُمُّ النَّاسَ مَنْ كَانَتِ أمُّهُ/ تَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدِ/ بَنَى بِيعَةً فِيهَا النَّصَارَى لِأُمِّهِ/ وَيَهْدِمُ مِنْ كُفْرٍ مَنَارَ الْمَسَاجِدِ»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). أقول: لو قيظ لمس بل(ت: 1936)، المسؤولة الشّهيرة، مؤسسة مديرية الآثار العراقيَّة(1920) العيش اليوم، لعملت الآتي بالمنارة المنكوبة: اشترت البيوت وعوضت أهلها بدلاً مِن هدمها، أو شقت نفقاً تحتها ولا جرحت التَّاريخ جرحاً بليغاً.

هذا، والعراقيون وحدهم نحتوا مِن «طشر» اسم «مطشر»، وأراه ماركة عراقيّة. الفضل في العنوان للأديبة أنعام كه ججي وروايتها «طِشاريّ»، عندما صارت أسرة بطلتها شذراً مذراً، شرقاً وغرباً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

تُوصَف السياسة بأنَّها فن المُمكن، وتتمتع أقطار الخليج بمُمكنات كثيرة لكنها للأسف خالية من فنون السياسة وبعيدة عن الاستغلال الحميد، وبما أنَّ الحظ -وكما يُقال- لا يدق بابك مرتين، ففي تقديري أننا في اللحظات الأخيرة لهذا الحظ الذي يمكننا التقاطه لنعبر نحو المستقبل ونترجم فن الممكن في السياسة.

لا أحتاج هنا إلى تكرار المُكرر، والحديث عن الثروات الطبيعية لأقطار الخليج من نفط وغاز، والتي جعلت منها أقطارًا جاذبة لأطماع الأقوياء، لكنني أحتاج إلى التساؤل كمواطن عربي خليجي عن كيفية توظيف هذه الثروات الطبيعية والمنح الربانية لتنمية أقطارنا وشعوبنا.

لا شك أنَّ الوفورات المالية الكبيرة اليوم لبعض أقطار الخليج العربية جعلت لها صناديق سيادية مرموقة عالميًّا، وجاذبة لإغراءات الاستثمار شرقًا وغربًا، وهذا ما عزز من مكانة هذه الأقطار ماليًا، لكنه في المقابل لم يعزز من مكانتها اقتصاديًا؛ حيث ما زالت أقطار الخليج تحت رحمة الاقتصاد الريعي أحادي المصدر والدخل، وهو النفط أولًا والغاز ثانيًا، ولم تتمكن بعد من الانفكاك من هذه المعضلة المهددة لوجودها وفي أي لحظة. فالعالم من حولنا يغلي بالمبادرات والأفكار للبحث عن مصادر طاقة بديلة، بل وجغرافيات بديلة لمصادر الطاقة الحالية ونحن ما زلنا نحسب سنوات أعمار مخزوناتنا من النفط والغاز وكأن الزمن توقف عندنا.

وفوق هذا ما زالت أقطار الخليج تُنفق أموالها السيادية في مشروعات ريعية وأقرب إلى طابع الاقتصاد الطفيلي عديم القيمة المُضافة، كشراء سندات الخزينة الأمريكية والأسهم وقطاعات السياحة والاتصالات والرياضة، وجميعنا رأى مصير تلك الاستثمارات في خضم الأزمة الأوكرانية حين جُمدت وصُودر بعضها في وضح النهار. ما لم تتجه هذه الوفورات المالية الحالية في تقديري إلى بناء الإنسان أولًا والاستثمار به ثانيًا، والاشتغال على الاقتصادات الإنتاجية الضامنة للسيادة كالزراعة والصناعة، فسنبقى كمن يزرع في البحر.

ما زالت أقطار الخليج العربية اليوم مسرحًا للمتناقضات رغم مرور عقود من النشأة والتنمية والتجارب الحلوة والمرة، فما زالت الفجوة كبيرة في الدخول والرواتب بين أبناء هذه الأقطار؛ الأمر الذي يستحيل معه عقد اتفاقيات مُريحة وندية ومتكافئة، وكذلك انحسار القوة الشرائية في بعض الأقطار مقابل التبذير والإسراف والبذخ في غيرها، يضاف إلى ذلك وجود ملايين من العمالة الوافدة يشغل العديد منهم وظائف ويمارسون أعمالًا يُمكن أن يقوم بها المواطن، وفي المقابل تكدس ملايين المواطنين الخليجيين على قوائم الانتظار لفرص العمل في بلدانهم، وهذا دليل غياب التخطيط الاقتصادي الموحد بين أقطار الخليج في توحيد أجواء الظروف المعيشية، وغياب سياسات التشغيل والعمل في القطاعين العام والخاص فيها.

إضافة إلى غياب التفكير بحماية هذه الثروات بوجود قوة عسكرية خليجية تحمي الثروات والسيادة معًا، فما زلنا نبحث عمن نستقوي به شرقًا وغربًا في كل أزمة ومحنة وكأنه قدر محتوم علينا.

آن الأوان في تقديري وقبل فوات الأوان ومغادرة المُمكنات لنا وإلى الأبد، أن نفكر جديًّا في تكتل خليجي اقتصادي يستوعب وفوراتنا المالية ويخلق اقتصادات حقيقية بعيدة عن الريع ومظاهر الاقتصاد الطفيلي، ويوحد ظروف معيشتنا وإنفاقنا، ويدمج أبناءنا ومخرجات تعليمنا في سوق العمل؛ فلدينا من المقدرات الطبيعية والبشرية ما يجعلنا في أوضاع مثالية، بقليل من التخطيط والكثير من الإرادة.

يجب ألا نخجل من مواجهة ومكاشفة أنفسنا أولًا إذا أردنا أن نواجه ونكاشف الآخرين، ونخطو نحو المستقبل بقوة وثبات.

***

أ. علي بن مسعود المعشني

بعد سقوط سلطة دكتاتورية البعث في 2003 كان المؤمل أن يجد المواطن العراقي نفسه بعيدا عن غوائل كانت تهدد صحته وأمنه وسلامته، وأن لا يتعرض لسوء تغذية وأمراض وأوبئة وبطالة وحروب، وعجز أمام كوارث الطبيعة مثل الجفاف والحرائق، ولكن ومع مرور الزمن وجد أن قيمته المقدسة كبشر في أقصى حالات البخس والتردي، حيث تفقد إنسانيته قيمتها فيتحول إلى شخص يعيش حالات أسر واستلاب واغتراب عديدة، يفقد معها ابسط شروط الراحة النفسية والجسدية، ويعيش تحت ظروف عنف تقسو عليه وتخيفه فيها الطبيعة والسلطة معا، دون أن يجد وسيلة لحمايته، فيتضخم أمام هذه القسوة والعنف المفرط عجزه وضعفه . وخلال العشرين عاما الماضية، كانت ومازالت الكهرباء وانقطاعها المتكرر واليومي، عقوبة قاسية وبشعة يتعرض لها الإنسان العراقي بسبب القصور والتخلف وسوء إدارة السلطة لهذا الملف، لتصبح الكهرباء واحدة من أساليب العنف الممنهج حين تكون التكنولوجيا ومن يديرها سببا في تعذيب الناس واستلابهم. فمع توقفها وانقطاعها المتكرر وشحها تتعرض حياتهم لانتكاسات عديدة نفسيا وجسديا، أولها شعورهم بهدر القدرات وتعطيل المصالح. ومع توقف الأجهزة الالكترونية والكهربائية في البيت وفي دوائر ومرافق الدولة الأخرى ومثلها باقي المهن الخاصة، عندها تعدم الكثير من الفرص وتعطل العديد من الوظائف. وبشكل غير طبيعي ترتفع كلف الحصول على الكهرباء من المولدات، وتتصاعد معها وتيرة استنزاف الأموال للحصول على مواد بديله لتفادي الحر، وأيضا بسبب عطل الأجهزة المنزلية الموجب تصليحها أو أبدالها بالجديد، وبسبب قطع الكهرباء المتكرر تتعطل الكثير من الأعمال في المصانع والورش وتتلف المحاصيل الزراعية وباقي الخزين الذي يتطلب الحفاظ عليه بعمليات التبريد، ولن يتوقف تعداد تلك الأضرار التي تصيب حياة الناس جراء انقطاع التيار الكهربائي، والذي يجعل الناس تفقد  كامل الثقة بإجراءات السلطة وتجعلهم بعيدين جدا عن حياة الطمأنينة والاستقرار.

يذرف السيد الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء العراقية الدموع ويستجدي عطوة من جارتنا الحنون الجمهورية الإسلامية لتزويد العراق المسلم بالغاز المساعد على تشغيل محطات كهربائه التي توقفت، ويعدد بصوت مجروح ومتهدج ما يقارب التسع محطات أصبحت مثلما يصفها، عبارة عن طابوق ليس إلا، بعد أن توقفت عن العمل كليا إثر امتناع جمهورية إيران الإسلامية عن فتح صنبور غازها لتزويد العراق الجار البائس الذي يمتنع عن تسديد ديونه دون مبرر معقول بل يتعمد ذلك وخاصة مع قدوم الصيف، حسب توصيف طهران للقضية.

وتتهم بعض الأوساط السياسية المشاركة في السلطة والقريبة من جمهورية إيران المسلمة، الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على الحكومة العراقية للامتناع عن دفع مستحقات الجانب الإيراني الشقيق المسلم، ويأتي ذلك من خلال هيمنة البنك الفدرالي الأمريكي وتحكمه بعائدات مبيعات النفط العراقي المودعة لديه، وتوقيت صرفها وطبيعة خروجها من بنوك العراق،وبهذا تختار أمريكا التوقيت المناسب أي أشهر الحر اللاهب لرفع وتيرة تذمر الشعب العراقي بالضد من حكومته المسلمة البريئة ولتطعن بعلاقتها بالجانب الإيراني أيضا، وهو المهم في هذه المعادلة التي يقع ضحيتها الشعب العراقي وليس غيره.

معادلة غريبة في بلد العجائب والمفاجآت، فلو بدأ دعاة الإصلاح والدين أحفاد آل بيت النبوة مثلما يدعون، ببناء غرفة واحدة من غرف محطات الكهرباء في كل عام لاكتملت لدينا العشرين وجهزت مع معداتها خلال فترة حكمهم. ولو تم التعاقد مع شركة حقيقية لاستغلال الغاز المصاحب للنفط بعيدا عن السرقات والتهديدات والعطوات وضياع التخصيصات، لوفر ذلك لنا خلال العشرين عاما ملايين المقامق، والأقدام المكعبة من الغاز، ولأصبح لدينا ما يحرك معدات محطات عديدة للكهرباء. ولكن مقمق السحت الحرام تخثر في العقول وما عاد يهمها غير سرقة ما يقع تحت أنظارها.

قطعا هناك من لا يستحي من مثل هذه المهزلة المقمقية. فبلد يحرق الغاز منذ أول ظهور للنفط على أرضه في عام 1927 من القرن الماضي،أي منذ ما يقارب 96  عاما دون أن تظهر معه ولحد الآن حكومة تمتلك الحكمة والرشاد والدراية لاستغلال هذه النعمة التي وهبتها الطبيعة للشعب العراقي  بسخاء مفرط، ولم تتعظ أي سلطة حكمت العراق أو تشعر بالخجل والغيرة من نظيراتها جاراتها التي بات الغاز المصاحب يشكل ثروة وطنية تدر على خزائن الدولة أرباحا طائلة.

فمصر المحروسة ذات الموارد التي لن تنافس العراق بالوفرة، فهي بلد لا يمتلك الخزين النفطي الهائل ولا الغاز المصاحب والمدفون تحت الأرض مثلما عليه العراق ولكن حكمة وإخلاص ونظافة يد وإرادة المسؤول الوطني المصري، جعلها وخلال خمس سنوات تعمل جاهدة على التعاقد دون خوف أو تردد مع شركة كهرباء رصينة من مثل شركة سيمينس لبناء أربع محطات وفرت لمصر تغطية كاملة وفائضا يسمح لها بتصدير الكهرباء.

عشرون عام مضت واليوم نسمع رئيس الوزراء يعلن بأنهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية لأزمة الكهرباء، المهم أنهم وبعد العشرين اكتشفوا، والباقي له رب يعالجه. وقبل هذا وعدنا صاحبهم بتصدير الفائض منها وذهب حيث وعد بجنة عرضها السماوات. وتتكرر مع الظهور الأول لجميع وزراء الكهرباء الذين تداولوا شؤون الوزارة، مقولة الوعد الذي يفقأ العيون ويدمي القلب، انتظروني ليكون صيفكم طافحا بالكهرباء وإنارتكم علينا مثل فطوركم، ويأتي الأخر ليتهم كيزرات حمامات المواطن بالذي يحدث من قطع وشح الكهرباء. فبات العراقي يجد نفسه اليوم بعد أن ضاع من حياته الكثير وخسر سنوات عمره منتظرا الفرج يأتي مع كلمة سوف ذات الرنة الذهبية والصادرة عن المسؤول. فأصبح مع هذا الوعد مولعا بأغنية أم كلثوم عن فلسطين التي غنتها قبل أكثر من خمسين عاما ومازالت  تصدح في قوانة العالم العربي دون ملل وكلل، حيث تقول الأغنية، عشرون عاما وأنا أبحث عن أرضِ وعن هوية، أبحث عن بيتي الذي هناك، عن وطني،عن طفولتي .ليضيف لها العراقي عن كهربائي الوطنية. قولوا.. قولوا لمن يسأل عن قضيتي.. قضيتي صارت الكهرباء الوطنية.

هكذا تكون عقدة الخوف ومشاعر الذل والرخص سببا في هذا الوجع الذي يتحمله الشعب العراقي وليس سكان المثلث الأخضر، فالارتهان للغير أصبح طبعا يحتل ويهيمن على روح المسؤول العراقي ويطوقه بالأغلال، فيبحث عن إرضاء الأمريكان بعد أن ارهبوه بعقوباتهم، ويستجدي عطوة الأخوة في الجمهورية الإسلامية، التي يرزح تحت رحمة غازها الذي يمثل له مظهرا من مظاهر الاعتزاز والهيبة الوطنية التي تساعده على الوقوف شامخا بوجه الامبريالية العالمية وصامدا بمعاندة الاحتلال الأمريكي.

***

فرات المحسن

اشتدَّ الصراع على أوكرانيا بين الغرب بقيادة الولايات المُتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية "البوتينية"، وقد وصل الصراع إلى الحد الذي جهر الغرب بكل معاصيه، وافتخر بها بعد أن كان يبررها سابقًا ويطليها بطلاء الحق والحقيقة؛ فالغرب اليوم وصل به الإفلاس في قوته الناعمة تجاه روسيا إلى الجهر بمنح أوكرانيا أسلحة محرمة دوليًّا وعلى رأسها القنابل العنقودية مُؤخرًا.

الروس بطبيعة الحال أكثر هدوءًا في إدارة هذا الصراع؛ كونهم في موقف الدفاع أولًا، ولأنهم يمتلكون الإرادة الصلبة قبل السلاح الفتاك للحفاظ على أمنهم والدفاع ببسالة واستماتة عن مصالحهم، ولأنهم استعدوا جيدًا لهذه المواجهة منذ قيام الغرب بالسطو على جمهوريات كانت تُشكل ما يُسمى بـ"حلف وارسو" الحلف الشرقي المضاد لحلف الناتو الغربي.

تفجَّر الصراع في السودان اليوم دون مُؤشر حل أو مبادرة جادة للحل، واكتفاء أطراف التدخل بمطالب هُدن ووقف إطلاق نار بين حين وآخر، ووقوف دول جوار السودان والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي موقف المتفرج، مؤشرات تحمل جميعها دلالات تدويل الملف السوداني وتحول السودان إلى ساحة صراع ومقايضة سياسية للكبار فقط.

الغرب يستشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى أنَّ الملف الأوكراني استهلكه واستنزفة أكثر مما كان متوقعًا ومخططًا له، وأفقده مصداقيته أمام العالم، كما أفقد المنظمات الدولية حياديتها ودورها الأممي، إضافة إلى إفلاس الغرب التدريجي من قوته الناعمة ولم يبقَ له سوى البلطجة، وفي المقابل يدير الروس الحرب بهدوء وفاعلية، وحافظوا على اقتصادهم كي لا يتحول إلى اقتصاد حرب وكما كان مستهدفاً من الآخر، وخلقت الحرب الأوكرانية مناخًا سويًّا للدول الخاضعة للهيمنة الأمريكية والغربية بعمومها وجعلها في وضع يمكنها من قول (لا)، والأدهى والأمر للغرب اليوم هو انفراط عقد مصالحه تدريجيًّا في قارة الثروات والخاصرة التاريخية الرخوة إفريقيا؛ لهذا لابد للغرب اليوم أن يعترف بأنه فشل في زرع إسرائيل جديدة على تخوم روسيا، كما زرع في قلب الوطن العربي لتفتيته وحرمانه من أي مشروع نهضوي، كما أن الغرب اليوم لن ينتظر ساعة إعلان هزيمته وتوقيع استسلامه أمام روسيا في أوكرانيا، لهذا سيبقى السودان في تقديري خط رجعته وجبر ضرره من نكبة مُغامرته في أوكرانيا وفشله في استدراج روسيا إلى فخ الإفلاس والتشظي السياسي والعسكري والاقتصادي؛ فالمفاجآت الروسية ما زالت كثيرة وكبيرة، بينما الغرب يتآكل على الجبهة الروسية ويفقد حضوره وهيمنته وثرواته المنهوبة من قبله كغنائم استعمار تدريجيًا في إفريقيا.

ففرنسا اليوم لم تعد دولة عظمى، بل أصبحت دولة مهددة بالجوع والإفلاس التدريجي نتيجة تمرد مستعمراتها السابقة والتي تُشكل ثروات فرنسا وقوت الفرنسيين، لهذا لابد ولا مجال للغرب اليوم سوى توظيف ما تبقى له من قوة وعقل للحصول على السودان كغنيمة حرب وكمقايضة مع الروس مقابل إطلاق يد الروس كاملة في أوكرانيا. السودان الذي لم ينعم بثرواته ولا باستقراره منذ عام استقلاله 1956م ولغاية اليوم، أصبح اليوم في وضع مثالي ليكون بديلًا لأوكرانيا في صراع دولي كبير يفوقه ويتجاوزه من صراع محلي إلى طوق نجاة أخير للمدنية الغربية يحفظها من الزوال الكلي. ثروات السودان ليست الهدف الوحيد فحسب، والبديل عن الدويلات التي أدارت ظهرها وتمردت على فرنسا والغرب، بل موقع السودان كذلك، والذي يُهدد الأمن القومي العربي برمته والسعودية ومصر على وجه الخصوص وبشكل كبير.

السودان سيكون بديلًا عن أوكرانيا والبلدان الإفريقية "المارقة"، وفق تصنيف البورد السياسي الغربي، وسيعجِّل من إغلاق ملفات أزمات مفتوحة منذ زمن كملفات اليمن وسورية وليبيا؛ لأن خيار الغرب اليوم لم يعد البحث عن الحظوة والرفاه والجاه، بل تجنب الجوع والسقوط المدوي المُريع أمام أنظار العالم وشماتتهم.

وبالشكر تدوم النعم...،

***

علي بن مسعود المعشني

.........................

قبل اللقاء: لو أدرك العالم أهمية الصراع على أوكرانيا اليوم وأهمية الوقوف إلى جانب بوتين، لتخلص العالم من شرور إمبراطورية الشر أمريكا، وحلفها العدواني الناتو، وعاد العالم إلى قواعد الصراعات التقليدية الفطرية المتعارف عليها، والخالية من النزعة الشيطانية وأطماع الاحتلالات والاتجار بالشعوب، وسادت الشرعية الدولية الحقيقية، والقوانين المنظمة للعلاقات بين الدول بروحها ونصوصها وفلسفتها.

ليس من قبيل المصادفة، أو لزيادة عدد صفحات كتابه، أن يضع رجل الأعمال والخبير المالي البريطاني العراقي الراحل نمير أمين قيردار مؤلف كتاب « إنقاذ العراق .. بناء أمّة مُحطّمَة « نَّص الخطاب الذي ألقاه نوري السعيد مساء يوم السابع عشر من كانون الأول 1956، ملحقاً وحيداً لكتابه المهم الذي أصدره باللغة الإنكليزية، ثم أسهم في ترجمته وتحريره إلى اللغة العربية والإشراف عليه ثلاثة من كبار الكتّاب والمترجمين والدبلوماسيين العراقيين، نجدة فتحي صفوة، وعطا عبد الوهاب، ومدحة الجادر، ففي ذلك الخطاب المطول الذي ألقاه السعيد من دار الإذاعة العراقية، تتكشف تفاصيل الضغوطات والتحديات الدولية في حقبة تاريخية مفصلية من تاريخ العراق الحديث، كانت من نتائجها المباشرة ما حدث في الرابع عشر من تموز 1958.

ويبدو أن قيردار أراد من نشر نَّص خطاب السعيد الذي وصفه بالتأريخي، الإيحاء بأن المحنة التي كان يعيشها رئيس الوزراء آنذاك وهو يجري مباحثاته الإقليمية والعربية، ويتصدى للتحديات الداخلية والخارجية، ويواجه سوء الفهم هنا وهناك، ولاسيما من الأشقاء المصريين، قد أدت إلى ما آل إليه العراق» من انهيار ملكية هاشمية مزدهرة إلى دكتاتورية غاشمة»، وما انتهى إليه من حطام بعد التاسع من نيسان 2003، والأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها واشنطن في العراق بعد احتلاله، كما أنه يوحي بأن ما جاء في ذلك الخطاب من مفاهيم يمكن أن تكون جزءاً مما أسماه ببرنامج عمل للرخاء والسلام، أو الحل الذي اقترحه وأسماه بالطريق الثالث، مشيراً إلى أنه قدم في كتابه هذا خطة تهدف إلى بناء عراق جديد، ومستقل، وموحد، وعلماني، مستخدماً أفكاراً من ماضيه ومن تجربته الشخصية ومن قصص النجاح في العالم، بعد أن وضع قائمة بالأخطاء الجسيمة التي أُرتكبت منذ الاحتلال والتي أدت إلى تبديد فرصة نادرة لا سابقة لها لبناء عراق جديد مزدهر حسب قوله، وهي أخطاء باتت معروفة للقاصي والداني.

ويُستدل من حديث نوري السعيد وهو يتوجه للعرب، وللمواطنين العراقيين بعبارة « أبناء وطني» أنه يرغب بكشف ما أسماه : «بعض الحقائق التي بقيت محجوبة عن الرأي العام زمناً غير يسير»، فهذا الحديث يأتي بعد جلاء القوات الأجنبية عن الأراضي العربية التي احتلتها بعد العدوان الثلاثي على مصر، وبعد حديثي عبد الناصر وشكري القوتلي، لذلك فهو يوجه رسالة واضحة في أعقاب هذه الحرب، وقد تكون موجهة لعبد الناصر بالذات : «وقبل أن أبدأ حديثي أود أن ألفت الأنظار إلى أن من حق أي سياسي أن يجازف بسمعته أو أن يجازف بحياته ولكن ليس من حقه أن يجازف بسلامة أمته وكيان بلاده»، ثم يمضي في عرضه للعلاقات بين العراق والاتحاد السوفييتي، مهاجماً بقوة الشيوعية العالمية والصهيونية والتعاون بينهما، ومطامع روسيا التوسعية، ومتحدثاً عن استسلام مصدق للشيوعيين في ايران: « وكانت قلوبنا واجفة خوفاً على جارتنا العزيزة «، وعن دور الحزب الشيوعي الفرنسي واتصالاته الوثيقة «بالشيوعيين وخلاياهم في الأقطار العربية التي كانت حينئذ تحت الانتداب الفرنسي». وعلينا أن نتذكر موجة التخويف المبالغ بها من المد الشيوعي التي اجتاحت العالم والمنطقة العربية والعراق في تلك السنوات التي ألقى فيها السعيد خطابه وهو تحت تأثير هذه الفوبيا التي كانت تُدعَم عادة بقرائن وأدلة حقيقية أو مُختلقة عن محاولات التغلغل الشيوعي السوفييتي في عدد من الدول العربية وفي مقدمتها مصر، والتي أوصلته إلى الاعتقاد بأن الشيوعية تقف وراء حملات الافتراء والتضليل ضد العراق، ومن ذلك الترويج لما أسماه بالفرية الكبرى القائلة بأن العراق وإسرائيل متفقتان على اقتسام الأردن. ثم يشير السعيد إلى الاقتراح الذي قدمه للزعيم الهندي البانديت نهرو خلال زيارته إلى نيودلهي بتأليف كتلة حيادية دفاعية قوية تضم الهند والباكستان وأفغانستان وإيران وتركيا والبلاد العربية، ورفض نهرو لهذا الاقتراح بسبب ظروف الهند الخاصة، وعدم رغبته في استفزاز الشيوعية المجاورة، وقلة عدد الجيش الهندي الذي لا يكاد يكفي لحفظ الأمن الداخلي في بلاد تضم أكثر من 350 مليون شخص وما لا يقل عن ثلاثة ملايين شيوعي – عدد سكان الهند يقارب الآن المليار و400 مليون نسمة، ولا نعرف عدد الشيوعيين فيها -! : «ولما رجوته أن يرشد العراق إلى الطريقة التي يمكنه أن يتوصل بها إلى السلام أجابني بضرورة التعاون مع جيران العراق الذين لهم خبرة دولية يمكن الاسترشاد بها».

ومع كل هذه الأجواء العدائية التي كانت تحيط بالعراق، والتي أدت إلى سقوط الملكية  بأقل من تسعة عشر شهراً على هذا الخطاب الذي يصلح لأن يكون درساً في العلوم السياسية وللباحثين والمحللين السياسيين، وعبرة لرجال السياسة، فإن « دار السيد مأمونة «. هكذا توهم نوري السعيد في ختام خطابه المهم :» وأدعو مواطنيَّ وإخواني العراقيين إلى توحيد صفوفهم لمقاومة الدعاية الشيوعية الروسية على لسان شبيلوف ومالنكوف وخريشوف ومطاياهم من الصهاينة والمأجورين واذنابهم البلداء من غير الصهاينة وأن نردد جميعاً في وجوههم الهوسة العراقية المعروفة.. دار السيد مأمونة .. دار السيد مأمونة.»!!».

وأتـضح  بعد زمن قصير جداً، إن دار السيد لم تكن مأمونة أبداً.

***

د. طه جزّاع

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز/يوليو 1958 العراقية المغدورة. وفي مثل هذه المناسبة من كل عام يدخل العراقيون في جدال عنيف فيما بينهم. فالمؤيدون لها يرونها حتمية تاريخية ويسمونها ثورة، وأنها أبنة ثورة العشرين، ومكملة لها في استكمال السيادة الوطنية للدولة العراقية. أما خصومها، وحتى البعض الذين كانوا من المؤيدين لها في عهدها، وساهموا فيها، غيروا مواقفهم منها وتنكروا لها فيما بعد، فسموها إنقلاب عسكري وضع العراق على سكة الانقلابات العسكرية، وفتح شهية العسكر للحكم، و بالتالي جاء بحكم البعث الصدامي الذي أهلك الحرث والنسل. لذلك يحاول هؤلاء تحميل ثورة 14 تموز وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم كل ما حصل من كوارث منذ مؤامرة 8 شباط 1963 الدموي الأسود وإلى اليوم.

وكما قال الكاتب د. عامر صالح في مقاله القيم بمناسبة الذكرى 65 للثورة: (ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .)

لم يكن بودي كتابة هذه المداخلة لولا التمادي والمبالغة في هذه الاتهامات الباطالة المتكررة التي يشنها هذا البعض على هذه الثورة الوطنية الأصيلة، و قائدها في مواقع الانترنت، والتواصل الاجتماعي، وأغلبها يدل على الجهل بتاريخ العراق، وطبيعة المجتمع العراقي، إذ كما يقول المثل الإنكليزي:

(After the event every body is clever)، أي (بعد الحدث كل واحد يدعي الذكاء).

لذا رأيت من الضروري جداً أن أخرج من صمتي، وأرد على هذه الاتهامات لحماية تاريخنا من التشويه والتضليل. والجدير بالذكر أن معظم الأفكار الواردة في هذا المقال مكررة ذكرتها في مقالات سابقة، ولكن ما العمل إذا كان خصوم الثورة يعيدون نفس الاعتراضات، لذلك أرى أن هذا التكرار لا يخلو من فائدة، كما في الآية الكريمة (فذكر إن نفعت الذكرى.)

نعم، لقد بدأ الحدث في صبيحة يوم 14 تموز/يوليو 1958 كإنقلاب عسكري، ولكن بعد إذاعة البيان الأول مباشرة، خرجت جموع الشعب من أقصى العراق إلى أقصاه في تظاهرات مليونية، تأييداً للحدث الذي حولوه من إنقلاب عسكري إلى ثورة شعبية عارمة. وهذا التأييد الشعبي الواسع كان عبارة عن تصويت على شرعية الثورة، و خاصة إذا ما أخذنا بنظرالاعتبار التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المجتمع العراقي، التي حصلت بعد ذلك اليوم. ويشهد بذلك أكاديوميون أجانب من أمثال الباحث الأمريكي من أصل فلسطيني حنا بطاطو. والمستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسن الذي قال: "إن ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية."

قبل أيام نشر الكاتب العراقي الدكتور قاسم حسين صالح على عدد من مواقع الانترنت مقالاً قيماً له بعنوان: (هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟)(1). و قد أنصف الكاتب بحق الزعيم، حيث بدأ بالقول: "كنت تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!"

ويستطرد: "ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958".

ويضيف قائلاً: "ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاق عبد الكريم قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع.")

ويواصل الكاتب ذكر إيجابيات الزعيم، فيضيف: ((ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله (وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين،  فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.)) انتهى

كل ذلك صحيح، ورغم ما في المقال من مبالغات في السلبيات التي وصف بها الزعيم ، فقد قمت  بتعميمه على مجموعات النقاش، وإعادة نشره على صحيفتي في الفيسبوك.

ولكن الأخ الكاتب، وللأسف الشديد قد بالغ في السلبيات التي وصف بها الزعيم حيث جاء في قوله:

"قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61) واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات."

أقول، أن ثورة عظيمة مثل ثورة تموز لا بد وأن تحصل فيها أخطاء، بل وحتى كوارث، إذ كما قال لينين: "الثورة هي مهرجان المظطهدين، وهناك مجال للمجرمين أيضاً." وعن تصرفات الجماهير في الثورات، قال أنجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة." وهناك كتب تبحث في هذا الشأن، مثل كتاب (سايكولوجية الجماهير) لعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، جدير بالقراءة.

نعم، لقد بالغ الكاتب في هذه السلبيات، إلى حد أن أحد القراء علق قائلا ما معناه أنه "لو قارنا بين السلبيات الزعيم وإنجازاته لفاقت السلبيات على الإنجازات!!

فهل حقاً إخفاقات أو سلبيات عبدالكريم قاسم فاقت إنجازاته؟

لذلك أود هنا توضيح بعض ما ذكره الكاتب وما يردده خصوم الثورة عن السلبيات المذكورة أعلاه وخاصة القول أن الزعيم قاسم شن حرباً على الكرد.. الخ.

أولاً، هل كانت هناك ضرورة للثورة على النظام الملكي؟

الجواب وفق قوانين حركة التاريخ: نعم، فالنظام الملكي قد تجمد ولم يتغير، بينما حصلت تغييرات كبيرة في المجتمع العراقي اقتضى التغيير. خاصة وأن العهد الملكي لم يكن مستقراً إطلاقاً طوال تاريخه منذ تأسيسه عام 1921 إلى سقوطه في تموز عام 1958.

وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف دركر قائلاً: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية [السلطات] التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية." انتهى

يعني أنه يجب الحكم على الثورة بأسبابها وليس بنتائجها، رغم أن الثورة حققت نتائج باهرة خلال عمرها القصير.

و يؤكد ضرورة وحتمية ثورة 14 تموز العراقية المؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة".

ثانياً، تهمة أن الزعيم قاسم وضع العراق على الإنقلابات العسكرية

هذه التهمة هي الأخرى لم تصمد أمام أية محاكمة منصفة. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا عمداً، أن قبل ثورة تموز حدثت نحو 8 إنقلابات عسكرية، بين ناجحة وفاشلة، وأول هذه الانقلابات هو الانقلاب الذي قاده الفريق بكر صدقي عام 1936، والذي كان أول إنقلاب ليس في العراق فحسب، بل وفي البلاد العربية كلها.

ثالثاً، حول اتهام الزعيم عبداكريم قاسم بشن الحرب على الكرد، والاتهامات الأخرى

حاول الكاتب قاسم حسين صالح أن يلقي اللوم على الزعيم حيث قال أن من أخطائه أنه شن حرباً على الكرد، وسلبيات أخرى حصلت خلال حكم الزعيم. وهذا خطأ، إذ هناك بحوث أكاديمية تؤكد أن الأغوات الإقطاعيين الكرد مثل حسين المنكوري وغيره، هم الذين بدأوا بشن الحرب على الثورة، و بتحريض ودعم من شاه إيران الذي كان خائفاً من وصول عدوى الثورة والإصلاح الزراعي إلى الشعب الإيراني. وكذلك دور بريطانيا حيث الصراع مع الشركات النفطية وقانون رقم 80.

وأفضل رد على هذه الاتهامات جاء من الأستاذ مسعود بارزاني في خصوص من خان من؟ ومن شن حرباً على من؟ وبقية الصراعات الحزبية التي آلت إلى اغتيال الثورة، وإدخال العراق في نفق مظلم لم يخرج منه إلى الآن، فقال:

«كنت في قرارة ضميري أتمنى أن لا تنشب ثورة أيلول في عهد عبد الكريم قاسم، وأنه إذا قُدر لها أن تنشب فلتكن قبل عهده أو بعده، وربَّما عَذرني القارئ عن خيالي هذا حين يدرك أنه نابع عن الإحساس بالفضل العظيم الذي نُدين به لهذه الشخصية التاريخية، وأنا أقصد الشعب الكُردي عموماً، والعشيرة البارزانية بنوع خاص...

«إني أسمح لنفسي أن أبدي ملاحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذراً لأن أقول وبصراحة بأنه كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائداً فذاً له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبداً. لا شك أنه كان منحازاً إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنياً يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكناً لو أحسن التقدير. يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالإنحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط ، وألهبت الجماهير التواقة للحرية والإستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الإتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟ إن بعض الأحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح الحزبية الضيقة على حساب الآخرين وبدلاً من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيلاً بمنع عبدالكريم قاسم من كل إنحراف، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبدالكريم قاسم ناسية أولويات مهامها الوطنية الكبرى إني أعتبر أن الأحزاب تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية عبدالكريم قاسم في ما حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز (يوليو) لأن الأحزاب لو حافظت على تماسكها وكرست جهودها من أجل العراق، كل العراق ووحدته الوطنية الصادقة، لما كان بإمكان عبدالكريم قاسم أو غيره الإنحراف عن مبادئ الثورة. إن عبدالكريم قاسم قد انتقل إلى العالم الآخر، ويكفيه شرفاً أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا إلى أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية رحمه الله. لم أكره عبدالكريم قاسم أبداً حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لتقصفنا، إذ كنت امتلك قناعة بأنه قدم كثيراً لنا، كشعب وكأسرة لا يتحمل لوحده مسئولية ما آلت إليه الأمور. ولا زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى الآن. »

مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية)) انتهى.

ولمن يرغب في معرفة المزيد عن هذه الثورة وقائدها الزعيم عبداكريم قاسم، أدرج في الهامش مجموعة من روابط مقالات كنت قد نشرتها في السنوات السابقة، كلها موثقة بمصادر لا يشك في حياديتها.

***

د.عبدالخالق حسين

..............................

روابط ذات علاقة بالموضوع

1- قاسم حسين صالح: هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=970099&catid=325

2- د.عبدالخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958، (الوضع قبل الثورة)*

https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=684592

3- د. عبد الخالق حسين:هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة أَم انقلاب؟

https://akhbaar.org/home/2012/07/132954.html

4- كتاب د.عبد الخالق حسين: (ثورة وزعيم) عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958

https://www.akhbaar.org/home/2019/7/260100.html

5- عبد الخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958*

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

6- منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

رابط صحيفة الكاتب على الفيسبوك

https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1?fref=photo

قد يبدو العنوان غريب بعض الشيء، ولكنه يعكس حقيقة الوضع السائد الان بين أوكرانيا ورئيسها (المهرج) فلاديمير زيلينسكي، الذي على ما يبدو نسى انه ليس سياسيا محنكا ولا حتى بسيطا، ونسى انه الخطأ في السياسة واللعب مع الكبار كمن يدخل خلية "الدبابير"، ليتلقى اللسعات الغربية في كل أجزاء جسمه دون استثناء، وبين الغرب، الذي وضع كل رهاناته على "المهرج"، وتقديم وتسخير له كل الإمكانات لأكثر من 50 دولة الكبيرة منها والصغيرة، لتحقيق مبتغاهم، تدمير روسيا واسقاط النظام السياسي، وتقسيمها.

 وسائل الاعلام العالمية تداولت وبشكل كبير، لصورة الرئيس " المهرج " خلال تواجده في قمة حلف شمال الأطلسي، والتي عقدت مؤخرا في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، وهو يقف وحيدا منبوذا، والى جانبه القادة الغربيين يتسامرون مع بعضهم البعض، بضحكاتهم العريضة، وهو (أي زيلينسكي) يعض شفاه السفلى بغضب شديد، وعينيه تقدح بالشرار، صورة فسرها الكثيرون، بانها تنطق بالواقع الان، فقد أستنفذ الغرب " زيزو " وركنه جانبا وحقق مبتغاه، بضم فنلندا والسويد الى (الناتو)، وهما أيضا يقعان على حدود روسيا الشمالية، وإن كان ثمن ذلك غاليا.

 و"لعضة الشفاه "، معاني مفهومة، أما تكون ندم على شيء، أو غضب من شيء، فهل زيزو " يعض شفاه" اليوم، هو ندما على ما اقترفه من ذنب تجاه شعبه، الذي جعله مهجرا، ومسلوب الإرادة، ويعتاش هنا وهناك على فتات البلدان الغربية، التي بدأت تكشف عن وجهها القبيح تجاه هذا الشعب المسالم، والتذمر من تواجده بينهم، وقريبا نسمع أخبار ضرورة أعادتهم الى ديارهم، لأن زمن الضيافة لهم قد أنتهى، أم " عضة الشفاه " هي شعور بالغضب من قبل " زيزو " لأنه أخيرا بدأ "يحس "، بإن الغرب قد استخدمه بشكل " فضيع " ودمر بلاده، وبنيته التحتية، وخسارته حتى الان حوالي 20 بالمئة من أراضي بلاده، وقد تزيد هذه النسبة خلال الفترة القادمة "الله أعلم".

 ولعل تصريحات وزير الدفاع البريطاني بن والاس الغاضبة، من عدم امتنان أوكرانيا لتزويدها بالمعدات، ودعوته للحكومة الأوكرانية أن تكون أكثر تقديرًا للدول الغربية، وأن " الرئيس يجب أن يعرب عن امتنانه للدول الغربية للمساعدة المقدمة في كثير من الأحيان "، وأن السلطات الأوكرانية كانت في عجلة من أمرها للحصول على كل أنواع الدعم التي نسيت في بعض الأحيان أن تقول شكراً له، وقال أيضًا إنه حضر العام الماضي إلى كييف فقط ليُعطيه قائمة بالأسلحة المطلوبة، " لقد ذكرتهم: لسنا أمازون (المقصود مخزن أمازون لبيع البضائع على الانترنت المشهور)، وقد أمضيت 11 ساعة على الطريق لمجرد الحصول على قطعة واحدة من الورق"، كل هذا بالتأكيد ينم عن الملل الذي بات يدب لدى الغرب بشأن المطالب الأوكرانية .

 ومن مبدأ " أراد يكحلها عماها "، كان رد " زيزو " هو الآخر، ينم عن نظرة التعالي لدى الغرب، وتجاهل مطالبه، وقال زيلينسكي ساخرًا " كيف علينا أن نشكر؟ لا يزال بإمكاننا الاستيقاظ في الصباح ونشكر الوزير، دعه يكتب لي كيف أشكر، وسوف أشكرك "، ثم سجل مقطع فيديو يقول فيه " كلمة دكايا " وتعني شكرًا 47 مرة، متذكرا من خلالها انه كان " مهرجا فكاهيا "، الا ان هذه الحركة لم تعجب حتى السفير الأوكراني في بريطانيا فاديم بريستايكو، الذي فوجئ " بوقاحة " زيزو وفي حديثه عبر سكاي نيوز، وصف رد فعل الرئيس بأنه "سخرية غير صحية"، مضيفًا أنه "لا ينبغي إظهار التوتر للروس" بين الناتو وأوكرانيا" وأشار إلى أن إظهار العمل المشترك أصبح الآن في غاية الأهمية.

 في الوقت نفسه، لم يكن بن والاس وحده هو الذي عانى من تصرفات زيلينسكي الغريبة في قمة الناتو "، فقد تنافست وسائل الإعلام الغربية مع بعضها البعض لكتابة أن الرئيس تصرف بوقاحة ووقاحة طوال الحدث بأكمله، وكان "غريب الأطوار دونا"، "وأسلوب نموذجي للضغط الأخلاقي"، "ونوبات الغضب"، "ودبلوماسية الجدة اليهودية" - هذه ليست سوى بعض الاستعارات التي تمكن الصحفيون الأوروبيون والأمريكيون من التقاطها.

 ولم تكن تصريحات والاس الوحيدة التي اغضبت " زيزو "، فقد أعربت رئيسة الوزراء الإستونية كايا كالاس عن تفهّمها التام لخيبة أمل الجانب الأوكراني في قرارات قمة "الناتو" في فيلنيوس، وقالت إن "هذا كل ما يمكن أن نقدمه، لأن أوكرانيا لا يمكنها الآن أن تصبح عضوا في الحلف بسبب مخاوف الدخول في حرب مع روسيا، في حين اكدت بولندا بأنها غير مهتمة بضم أوكرانيا إلى الناتو، لأنها تريد الحصول على أراضي غرب أوكرانيا.

 فالغرب لم يعتبر كلمات "زيزو" داخل قمة الناتو هي ليست وليدة اليوم، ويشيرون الى ان السلوك "الوقح" للنخبة الأوكرانية منذ فترة، ويكفي استدعاء سفير ألمانيا السابق في ألمانيا، أندريه ميلنيك، الذي أهان المستشار الألماني، علاوة على ذلك، لم تتم إدانته على هذا الفعل، بل على العكس، حصل على جائزة، مما جعله نائبًا لوزير الخارجية، ومع ذلك، تم إرساله لاحقًا كسفير في البرازيل، ومع ذلك، أصبحت الفظاظة والفظاظة جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية لمكتب زيلينسكي.

 ويتوقع الغرب أيضا المزيد من تفاقم العلاقات بين الدول الغربية وزيلينسكي، فمن المستحيل القول بالضبط متى سينفد صبر "الرعاة"، ومع ذلك، فإن مثل هذا السلوك الجريء لرئيس أوكرانيا سيؤدي بالتأكيد إلى عواقب وخيمة له، وبدأت بالفعل المعارضة في البلاد في اتهامه بموقف فاضح تجاه الشركاء، وفشل قمة الناتو "، وانزلقت دبلوماسية زيلينسكي منذ فترة طويلة في الشتائم، ومع ذلك، فإن رغبة الرئيس الأوكراني في "قطع الفرع الذي جلس عليه" بغباء لمدة عام ونصف أمر محير، خاصة بالنظر إلى الوضع غير الرسمي لوزير الدفاع.

 ووفقًا للمعايير المحلية، يعد والاس أحد أكثر الشخصيات موثوقية في الحكومة البريطانية، فقد ظل في منصبه في عهد تيريزا ماي وبوريس جونسون، وإنه قادر تمامًا على "تجاوز" رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، علاوة على ذلك، وفقًا لعدد من المحللين، فإن والاس، جنبًا إلى جنب مع رئيس MI6، ريتشارد مور، هم مهندسو الموقف العسكري السياسي لمكتب زيلينسكي، والذي كان الجميع يراقبه في السنوات القليلة الماضية، وفي هذا الصدد، لا يستبعد الخبراء أن استياء والاس قد يكون له عواقب طويلة المدى على الأفراد في مكتب زيلينسكي، ووفقا للأعلام البريطاني، ان فظاظة استجابة الفاسد زيلينسكي لراعيه، كمن "يعض اليد التي تطعمه"، قال.

 وبشكل عام، هناك اليوم تناقضات خطيرة بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، والتي بدأت تظهر على المستوى العام، وعلى وجه الخصوص، يريد مكتب زيلينسكي أن ينضم حلف الناتو إلى الحلف، وأن يتدخل بشكل أكثر فاعلية في النزاع، في غضون ذلك، تسعى الدول الغربية جاهدة لتسليح القوات المسلحة لأوكرانيا قدر الإمكان، لكنها لا تريد تحويل الوضع إلى حرب مباشرة مع روسيا، ففي المستقبل، يمكن أن تؤدي هذه التناقضات إلى مشاكل تنظيمية خطيرة، ووالاس من وجهة نظر المحلل السياسي فلاديمير كورنيلوف، رجل عانى مرتين بسبب أوكرانيا، في البداية، اعتمد على منصب الأمين العام لحلف الناتو، ولهذا السبب أصبح عضو الضغط الرئيسي لتزويد القوات المسلحة الأوكرانية بالأسلحة، ومع ذلك، لم تعجب الولايات المتحدة مثل هذا الحماس، فمن وجهة نظرهم، يجب أن يكون "رئيس التحالف موظفًا هادئًا وهادئًا "، لذا فقد بن والاس فرصة عمل، والآن، الجاني الرئيسي لمشاكله، "المهرج" زيلينسكي، هو في الواقع إهانة وزير الدفاع البريطاني، متناسيا الدور الذي لعبه في دعم القوات المسلحة لأوكرانيا، وان رئيس أوكرانيا يجز "بوقاحة" الفرع الذي كان يجلس فيه منذ عام ونصف العام .

 ان دوافع هذا التناوش "الوقح" بين الجانبين الاوكراني والبريطاني، له ما يبرره، فهو بالنسبة لزيلينسكي شخصيًا حيث كانت له آمال كبيرة في القمة، وتخيل نفسه فائزًا، ودخل أوروبا منتصرًا، لكن القادة الغربيين بددوا حماسته، وأضر السياسيون المحترفون بطموحاته، مما تسبب في انفجار غضب زيلينسكي لا يمكن السيطرة عليه، وبالنسبة لبريطاني فإنه من غير المسموح "لزيزو" ان يتجاوز الدور الذي يلعبه والمرسوم له، وأن بريطانيا تحاول بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي إيجاد مكان جديد في الساحة الدولية، وبدون أوكرانيا لا تستطيع فعل ذلك، ويمكنها إهمال زيلينسكي.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

لم تمر أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة، بعد العاشر من يوليو، على إطلاق رئيس الحكومة العراقية، تصريحاً باليستي، عابر للغاز الإيراني، متجهاً صوب بديلٍ عربي.. وآخر من آسيا الوسطى (قطر وتركمانستان)، حتى عادت تصريحاته، للتدفُّق في أنبوب النفوذ الإيراني، مُعلِناً صفقة مقايضة، نفط البلاد الخام والأسود، مقابل الغاز الفارسي.

الرئيس السوداني، كشف أيضاً، بالتزامن مع الانقلاب القطري – التركمانستاني، ثمَّ العودة إلى التوقيت الإيراني، وعبر الاجتماع الدوري لكابينته الحكومية، الأسبوع الماضي، الموافقة على استيراد الغاز من حقل "كورمور" العراقي! وهو حقل غاز "حر"؛ أي إنَّ استخراجه ليس مُصاحِباً لاستخراج النفط، يقع في السليمانية، تحت عُهدة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. طبعاً، معظم حقول الغاز "الحر"، في إقليم كردستان العراق، تقع في القبضة الجغرافيَّة لـ "اليكتي"، بعيداً عن أربيل.

ولاية الفقيه النفطية

صفقة المقايضة، وشراء الغاز من "كورمور"، كلاهما صالحان ليكونا أنبوباً، لتمرير بعض الفهم، عن دوافع الأولى، وبعض النتائج المتوقعة من تطبيقها. إذاً ما هو الدافع وراء مُقايضة، تبدو إنها تُصيب أقدام التحليل، بـ "فلات فوت"، ويجعلهُا غير قادرة على تحريك جسد الفهم؟

نبدأ أولاُ، إن كانت هناك آثار جانبيَّة، من استخدام طهران للنفط العراقي (خامُهُ وأسُّوَدُه). المتحدث باسم الجمارك الإيرانية، روح الله لطيفي، كان قد صرَّح، بأنَّ العراق استورد: "34 ألف طن من البنزين، من مارس وحتى يونيو الماضيين". هذه الكمية تُغطَّي تقريباً العجز العراقي الشهري، البالغ " 15 مليون لتر" منه، بحسب تقييم شركة النفط الوطنية العراقية، والتي بيَّنت كذلك: " إنَّ حاجة البلاد تصل لـ 30 مليون لتر، شهرياً".

العراق وبحسب بيانات هذه المؤسسة، استورد ما قيمته: " 3 مليار دولار أمريكي ، من المشتقات النفطية في 2021؛ كي يُغطي الطلب المحلي عليها. إضافة إلى إنفاق العراق ما قيمته 2.1 مليار دولار امريكي كدعم للمنتجات النفطية، خاصة البنزين والنفط الأبيض".

إيران كذلك تُصدِّر ما يُقارب الـ(3) مليون لتر، من وقود الديزل إلى العراق، ولا يُعرف إن كانت قد وصلت، إلى طموحها، بتصدير (5) مليون لتر منه إلى البلاد. عموماً، وبحسب حديثي مع لؤي الخطيب، الذي مسك حقيبة وزارة الكهرباء، في زمن رئيس الحكومة الأسبق، عادل عبد المهدي، فإنَّ مقدار الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء وصل إلى "20 مليار دولار أمريكي، في 2023". هكذا، نستطيع وبكلِّ أريحيَّة، أن نستنتج بأنَّ الدعم الحكومي للقطاع الكهربائي، والمشتقات النفطية، مُحيط من الدولارات، تمخرهُ قوارب الفُرص الإيرانية، السريعة جداً.

إيران في صفقة المقايضة، سوف تُسيطر بنسبةٍ أكبر، على الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء. ارتفاع نسبة سيطرتها؛ سيحدث بالتحكُّم في "شركات الوساطة" المحليَّة، والتي تشتري الوقود من الحكومة العراقية، لتُعيد بيعه، إلى وزارة الكهرباء العرقية. بالتالي، سيطرتها على سوق الكهرباء، المعروف عراقيَّاً بـ "المولِّدات الأهليَّة".

حجم خسارة الوزارة الكهرباء، وبحسب تغطية مؤسسة "تشاثام هاوس"، للفترة من 2003 – 2011، يُقدَّر بـ 200 مليون دولار شهرياً. لهذا لم يكُن غريباً، بأن يُعلن مصدر من سومو، بأنها وبحسب صفقة المقايضة الأخيرة ستقوم بـ: "بيع النفط الخام وزيت الوقود إلى شركات مُختارة من قبل إيران". "شركات الوساطة"، أغلبُها واجهات لشراكة مسؤولين حكوميين، مع الشركات الأجنبية؛ التي لا يمكنها نيل العقود بدونهم. الخبير النرويجي العراقي الأصل، احمد موسى جياد، وفي رسائلٍ متبادلة بيننا، اعتبرها دليلاً على "حوكمة اللصوص" في إدارة البلاد.

إيران ستستفيد كذلك، من استخدام هذه الصفقة، لتسويق المزيد من نفطها الأسود، بغطاء النظير العراقي. هذا الاحتيال الإيراني، كُشف عنه لأولِّ مرَّة، في مارس 2020. طهران، استخدمت خور الزبير العراقي لهذا النشاط. يُساعِدها في ذلك، عدم وجود عقوبات امريكية مُحدَّدَة، على تصديرها لـ "النفط الأسود"، عن طريق طرفٍ ثالث.

وارد جداً، أن تفكِّر إيران، نتيجة ارتفاع مخزون النفط الأسود لديها، بفضل صفقة المقايضة، في إقناع الحكومة العراقية، بإنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، باستخدام هذا النوع من الوقود، لترفع بذلك حصَّة ما تبيعه من كهرباء. هي تبيع حالياً (1200) ميكا واط للبلاد. طبعاً، هناك شركات إيرانية مثل "مابنا"، تحصل على  نسبة ثمان وسبعين في المائة! من عوائد بيع الكهرباء لشركة غاز البصرة. أي إننا نتحدَّث هنا عن توسع، لا المبدأ المعمول به أصلاً.

العراق يشتري الغاز من العراق

صفقة المقايضة، لا تُسبِّب تأثيرات جانبيَّة إذاً على طهران. ولكن ما الدافع الحقيقي لسماحها، بأن يُزاحم غاز "كورمور" العراقي غازها الآري!؟

الرئيس الحكومي، محمد شياع السوداني، أعلن شراء الغاز من حقل "كورمور، الواقع في السليمانيَّة. هذا ليس جديداً من ناحية المبدأ. الاختلاف الوحيد، هو التصريح عنه، بصيغة أكثر مباشرة، وتزامناً مع الإعلان، عن صفقة المقايضة. عند كشط سطح البيان الرسمي؛ فإنَّ الطبقة الأعمق منه؛ ستكشفُ لنا، إنَّ ما تقوم به الحكومة، يعطي القوى المتنفِّذة في الإقليم، ومنها حزب "اليكتي"، "سابقة قانونية"، بالتعامل مع حقول الغاز فيها كملكٍ صرف.

العلاقة الوثيقة بين طهران و"اليكتي"، استطاعت ضرب الدستور العراقي، بعُرضِ الجدار الإيراني. خاصَّةً إنَّ رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، كان قد تهكم، في تصريحٍ سابق، من إمكانية تصدير الإقليم للغاز، قَصَدَ أربيل تحديداً، بدون تشريع قانون النفط والغاز!

يُفسِّرُ ذلك، حرارة بعض المحطات الفضائية المحلية، التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني "البارتي"، بدعوة بغداد، تلفازياً، في الأيّام الماضيَّة، لشراء الغاز من الإقليم، تحديداً أربيل، بدلاً عن إيران، لكي يُصبح ذلك سابقة، تُضاف إلى سياسة الأمر الواقع "الهورامية" – نسبة إلى وزير الموارد الطبيعية الأسبق في الإقليم اشتي هورامي – في التعاطي مع موارد الطاقة العراقية. عدم الاستجابة للدعوة، دفعت بلبل "البارتي" الفضائي، إلى تسريب فضيحة، سرقة إيران للنفط، من الحقول المشتركة مع العراق، وبما يُعادل 17 مليار دولار، سنوياً.

أضعف الإيمان المتوقع، أن سعر غاز "كورمور"، لن ينخفض كثيراً عن سعر المليون وحدة حرارية بريطانية؛ التي تبيعُها طهران للعراق! وبذلك سوف تكون إيران قادرة، عبر حليفها، بإبقاء سيطرتها على سوق الغاز العراقي، وفي المستقبل، عبر الوكلاء المحليين. أمّا مزاعم عدم دفع الحكومة العراقية لإيران، ما تشتريه من غاز؛ فهو لا يمكن تأطيره إلّا بالكذب الفج. وزير الكهرباء العراقي، كان قد أعلن في يونيو الماضي، إنَّ الحكومة العراقية، دفعت كُل المستحقات!

إيران وبحسب " الفايننشال تريبيون"، تُنتج: " 850 مليون متر مكعب من الغاز يومياً. وهي تستطيع تصدير عشرة في المائة منه، فقط.. أي (85) مليون متر مكعب". أيضاً، وبسبب عقودها التصديرية للغاز، مع دول أُخرى، مثل تركيا وأرمينيا، وتنامي حاجتها محلياً، هي كانت وما زالت، غير قادرة ، على تلبية احتياجات العراق، البالغة (50-55) مليون متر مكعب يومياً، بناءً على هذه المعطيات.

سعر الغاز الإيراني.. ثرى اقتصاد وثريا سياسة

سعر شراء الغاز الإيراني من قبل العراق، يبقى لغزاً مُحيَّراً. يعتمد سعر الشراء، عراقياً، وبحسب لؤي الخطيب، على معادلة: " إحدى عشر في المائة من معدل بيع برميل نفط برنت الخام لستة أشهر، تُضاف إليه نسبة 0.08". هذه المعادلة تجعل العراق، يدفع (11.23) دولار أمريكي، بحسبة أحد الخُبراء السياسيين.

الخطيب، والذي عمل في عدَّة شركات نفطية عالميَّة، قبل استيزاره، قام بجراحة تفسيرية للمعادلة: "إنَّها مُتغيَّرة، لأنها تعتمد على عوامل عديدة، مثلاً، إن كان تصدير الغاز، يتم عبر ناقلات الـ LNG أو عبر الأنابيب، والمسافة، وكُلف تكثيفه عند مراكز التصدير، ثم إعادة تسييله عند مراكز الاستلام، والكميات المُشتراة". الخطيب، اقترح هذه المقارنة للتوضيح: " لو استوردت الحكومة العراقية الغاز من قطر، كما أعلنت قبل أيام؛ فإنها ستدفع ضعف ما تدفعه لإيران، مقابل كل مليون وحدة حرارية بريطانية BTU ".

حمزة الجواهري، وهو خبير نفطي، رأى إنَّ سعر الشراء "مجحف جداً". وإنَّ المعادلة السعرية المُرتبطة بالنفط الخام " قد هجر العالم استخدامها". أُشير إلى إنَّهُ وبسبب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ فإن معظم دول العالم، فضَّلت اعتماد معادلة سعريَّة، مُرتبطة بسعر برميل نفط برنت الخام، وبعقود طويلة الآجل، تضمن استقرار الأسعار. وعن السعر المناسب للغاز الإيراني، بحسب الجواهري: "2.50 دولار، لكل مليون BTU ، مثلما كانت تبيعهُ روسيا لألمانيا، قبل الحدث الأوكراني". أمّا عن كُلفة استيراد الغاز من قطر، وباستخدام ناقلات الـ LNG، علَّق: " سعر المليون من الـ BTU سيكون أقل من سعر شراء نظيره الإيراني".

قُصر المسافة بين العراق وإيران، وصعوبة تصنيف نوعية "العقود الآجلة" بين العاصمتين، حيث إن العقود طويلة الآجل، هي للمدَّة التي تتجاوز الخمسة سنين، يجعلنا نرى إنها عقود "قصيرة الأجل"، والتي تتراوح مُدَّتُها عادةً، من 1-4 سنوات. إضافة إلى عدم وجود عقوبات على الجانب الإيراني، في حال عدم توريده لكمية الغاز المتفق عليها مع الجانب العراقي، وتوضيح الجانب العراقي لطريقة الدفع.. أي وكمثال: هل يتم الدفع بعد كُل ستة أشهر أو سنة أو.. إلخ، تُخبِرُنا وبالفصيح: إنَّ عقد الغاز بين العراق وإيران، هو عقد مبني على البركة المذهبية. ولهذا ربّما جُدِّدَ العقد، في مايو الماضي، لخمسة سنين جديدة، رغم أن الحكومة العراقية، كانت قد زعمت في 2023، شرقاً وغرباً، بأنها ستصِل بالبلاد، إلى الاكتفاء الغازي، بعد ثلاث سنين!

بقي لي التذكير بأن الغاز الإيراني يؤثِّر على ما نسبته خمسة وأربعين في المائة من كهرباء العراق؛ التي لا تتجاوز الـ (15) ألف ميكا واط، بحسب تقديرات خبير الطاقة، هاري استيبانيان، المنشورة في 28 مايو 2021، والتي زعمت الحكومة، إنَّها (26) ألف ميكا واط، في 2023.

 التصريحات الرسمية، عن النفط والكهرباء في العراق، عموماً، "كلام لا يدفع الضرائب". استقالة الحكومة كمثال، أو الصمت عن صدقها الفاضح جداً! كتوضيحها: " إن أحدى أسباب صفقة المقايضة، هي لتصريف الـ (450) ألف برميل من نفط كردستان العراق، والتي نصَّت عليها موازنة 2023، المُتعذَّر حالياً تصديرها إلى تركيا". رغم أن أربيل بدأت، منذ الـ 25 من يونيو الماضي، بتسليم (50) ألف برميل لاغير! وإنَّ مكافحة الفساد في الأنبار، لا علاقة له بحقل عكَّاز الغازي، أو أن تدهور ديالى الأمني، لا ذنب فيه لحقل المنصورية.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، وباحث عراقي

مرت الذكرى الـ 65 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار في الجيش العراقي وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958. وأسست للحقبة الجمهورية. ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا.

قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 65 عاما بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي، الى جانب طبيعة الصراع الذي كان سائدا انذاك بين المعسكريين الغربي والشرقي وانعكاس مصالحمهما المتناقضة على الأوضاع في المنطقة  وعلى الوضع في العراق بشكل خاص، حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز، الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير ". الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي، فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.

وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية. قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية،  وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل المنطقي للحفاظ على الثورة وزخمها، وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا، فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه.

ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .

ولتكن ذكرى الثورة درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار، الى جانب الأستلهام من دروس الثورة في عمرها القصير وانجازاتها الكبيرة في ميدان الخدمات العامة، كالصحة والتعليم والكهرباء، والتخطيط لبناء بنية تحتية اقتصادية متينة والى جانب التشريعات في ميدان حقوق الأنسان والمرأة بشكل خاص والأحوال المدنية العامة.

***

د.عامر صالح

أي نوع من الرجال تحتاجهم ليبيا في مرحلتها الانتقالية المتعسرة هذه، والتي تتسم بالكثير من التعقيد في بيئتها السياسية الداخلية؟ هل هي تفتقد إلى رجال دولة حقيقين؟ أم أنها بحاجة إلى رجال سياسة يستطيعون أن إدارة المجال السياسي وتدبير هذه المرحلة الصعبة، إن لم يوجد رجال دولة؟

على أرض الواقع، وبنظرة فاحصة ومتمعنة في المشهد السياسي الليبي خلال العشرية المنصرمة بعد تغيير مابعد عام2011ظلت ليبيا تفتقد إلى رجال دولة حقيقين، كما أنها لازالت تفتقد إلى رجال سياسة بمعنى الكلمة، والذين يظهرون في المشهد اليوم جلهم أوأغلبهم يمكن تصنيفهم ب.. عاملين في السياسة، وما أبعدهم من أن يكونوا رجال دولة، وبعض هؤلاء العاملين في السياسة في ليبيا أصبحوا محترفي سياسة يجيدون فقط اللعب على الحبال والتلون حسب إتجاهات مصالحهم الذاتية الضيقة.

في نظر المفكرين والفلاسفة، يكون رجل الدولة؛ هو الشخص الذي يتمتع بالقدرة على فهم الأمور المعقدة والتفاصيل الدقيقة لإدارة الدولة، والذي يسعى جاهداً لتحقيق الصالح العام والمصلحة الوطنية،ويكون لديه القدرة على توجيه السياسات واتخاذ القرارات الحكيمة والمدروسة بما يضمن أمن الدولة واستقرارها ورفاهية مواطنيها.بالمقابل، يعتبر رجل السياسة؛ هو الشخص الذي يتمتع بمهارات التحكم في الأحداث السياسية والإعلامية والرأي العام، والذي يستخدم هذه المهارات للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها. وغالبًا ما يكون رجل السياسة مهتمًا بتحقيق أهدافه الشخصية والحزبية بدلا من التفكير في المصلحة العامة.

 أما العامل في السياسة ؛ فهو الذي لا يمتلك تأهيلا علمياً أو مهنيا في السياسة، وهم يشكلون المنتخبين والمتعينين والناشطين السياسيين والصحفيين السياسيين والمستشارين السياسيين إلخ.. والمنتخبين هم غالباً جاءوا من مهن ووظائف لاعلاقة لها بالسياسة، هم فقط نتاج صناديق الاقتراع، حيث أن الانتخابات لا تنتج  بالضرورة رجال دولة أو رجال سياسة، وعلى الأغلب تأتي بعاملين في السياسة، قد يصبحون لو إجتهدوا رجال سياسة، ولكنهم على الأغلب لن يصلوا أبعد من ذلك أي لن يتحولوا إلى رجال دولة، حيث تبقى تتقاذفهم إما مصالحهم الفئوية أو الحزبية أو مصالح الجماعات الاجتماعية التي ينتمون إليها.

 والعاملين في السياسة من المنتخبين في ليبيا اليوم، جاءت بهم كما أسلفنا صناديق الاقتراع سواءا في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت البرلمان المنتخب الأول في ليبيا المتمثل في ؛ المؤتمر الوطني العام عام 2012، أو الإنتخابات البرلمانية الثانية التي أفرزت مجلس النواب الليبي عام2014، وجاء بعض العاملين في السياسة في ليبيا عبر إنتخابات داخلية كما حدث ويحدث في مايسمى بالمجلس الأعلى للدولة المنبثق عن إتفاق الصخيرات عام 2015. وللاسف فإنه رغم هذه الطفرة الانتخابية والتي تشكل خطوة في كل الأحوال، إلا أنها لم تنتج رجال الدولة الذين تحتاجهم ليبيا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، وظل أغلبهم مجرد عاملين في السياسة، إلا قلة منهم أصبحوا فقط رجال سياسة ماهرون في حشد الأتباع، يمكن أن يصبحوا رجال دولة إذا تساموا على مصالحهم ووضعوا مصلحة ليبيا العليا نصب أعينهم، ويمكن إستجلاء أهم المعوقات التي تحول دون ظهور رجال دولة أو تكون عقبة أمام خطواتهم حتى وإن وجدوا  في ليبيا على النحو التالي:

أولا/المعوقات الأمنية: حيث تعاني ليبيا من انعدام الأمن والاستقرار وصعوبة في إرساء حقيقي للسلام في العديد من المناطق، وتشهد البلاد انتشارًا واسعًا للأسلحة والجماعات المسلحة، وتغولا للميليشيات التي أصبح لقادتها سلطة حقيقية في البلاد، ويربطون ويحلون في كل المجريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى أن الكثير من الباحثين يرون أنها يجب أن تكون جزءا من أي معادلة قادمة لتحقيق التوافق والاستقرار في ليبيا.

ثانيا/شيوع ظاهرة الفساد: حيث مع إستفحال الفساد  والتلاعب بالسلطة والمال، وتعدد الأطراف المتورطة والمستفيدة منه من أشخاص نافذين ومؤسسات متورطة وميليشيات متسلطة، يصبح من الصعوبة بمكان ظهور رجال دولة وحتى وإن وجدوا، فلن يمكنهم التعامل بسهولة ويسر مع هذه الخيوط المتشابكة من المصالح والتحالفات الغارقة في مستنقع الفساد، من أجل إرساء الشفافية ومكافحة هذه الظاهرة.

ثالثاً/ المعوقات الاجتماعية: في ظل الإنقسام السياسي والبلقنة الحكومية،  مما جعل القبائل والجهات تنقسم بشدة بين هذه السلطة الحكومية والأخرى، أو وراء هذه السلطات الأمنية والعسكرية المتناقضة، فيصبح من الصعب العثور على رجال دولة حقيقين يستطيعون خلق الإجماع حولهم، أو التعامل مع كل هذه الأطراف المتنازعة، وحتى وإن وجدوا في ظل هذا المشهد الضبابي، فأما أنهم غالبا سوف يتعرضون للطمس أو يتم إحتوائهم عبر إنتماءاتهم الاجتماعية والجهوية أو يتم شراء ولاءاتهم.

رابعاً/المعوقات الدولية: بعد أن بلغ التدخل مداه بل وأكثر في ليبيا، وحيث أصبحت أغلب الأطراف المتنازعة بل وحتى المليشيات وكلاء لهذه الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة في ليبيا، فكيف يمكن لرجل أو بضع رجال دولة أن يظهروا في ظل هذا الوضع الشائك والمتشابك، وحتى وإن ظهروا وهم يحملون مصلحة ليبيا العليا على كواهلهم فكيف سيتعاملون مع هذا الاخطبوط من التدخل الدولي الغاشم؟ هذه الأطراف التي تقيس وتفصل حسب مصالحها المتناقضة أوالمتقاطعة، ولا ترضى الإ ببعض الأشخاص الذين  تحركهم كالدمى حسب مصالحها.

الخلاصة؛ لن ينقذ ليبيا ولن يستطيع أن يضعها على جادة طريق ممهد نحو البناء والسلام والاستقرار إلا رجال دولة حقيقين، يعلون مصلحة الوطن العليا، ويديرون السياسات وفقا لهذا المنطلق، وهؤلاء إما أن ينبثقوا من أوجاع الوطن ويتنادون لنجدته، أو بتحول بعض رجال السياسة إلى رجال دولة، وأما العاملين في السياسة ومحترفيها، والذين يظلون يطاردون مصالحهم فقط،فهم أحد الأعباء الثقيلة على كاهل الوطن.

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

قبيل إنعقاد قمة مجموعة دول بريكس في جنوب افريقيا في 22 أغسطس المقبل، طفت على السطح بوادر تخلي الهند عن مشروع إنشاء عملة البريكس الموحدة، من قبل دول مجموعة بريكس التي تضم خمسة من كبريات الاقتصاد العالمي، كالصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، بالإضافة الى دول أخرى تصل الى 20 دولة في انتظار انضمامها الى هذه المنظمة، ويتجاوز عدد سكان دولها الخمس 40٪ من سكان العالم، وتمثل ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي و 18٪ من التجارة العالمية، وقال وزير الخارجية سوبرامانيام جايشانكار، إن الهند لا تؤيد إنشاء عملة واحدة لدول البريكس، والسؤال هو ماذا يعني ان تتخلى الهند على مثل هذا المشروع بالنسبة لروسيا والغرب والعالم ككل، وهل هناك طريقة للخروج من هذا الوضع؟ .

وتعمل دول البريكس منذ سنة تقريبا على مشروع العملة، والموقف الأكثر نشاطا بشأن هذه القضية اتخذته كل من البرازيل وروسيا، ودعمت الصين وجنوب إفريقيا هذا المشروع، لكن بحذر، في حين ظلت الهند صامتة، لكنها اتخذت الآن موقفا سلبيا، وبالتالي وضعت نيودلهي العصا في دولاب المنظمة، وبالتالي إفشال المشروع، والخيار الأكثر وضوحا هو أن الأطراف لم يتمكنوا من الاتفاق على شروط طريقة تحديد سعر العملة الجديدة، وإنشاء سلة متعددة العملات لبلدان البريكس وتحديد نسبتها - حقوق السحب الخاصة، وتقريبا بنفس ما هو متاح بعملة صندوق النقد الدولي.

الصحافة الهندية ربطت مثل هذا الموقف للدولة فيما يتعلق بعملة البريكس الموحدة، مع توسع العلاقات الهندية الأمريكية، حيث تتمتع دلهي بعلاقات جيدة جدًا مع الولايات المتحدة وأوروبا بسبب الصفقات التجارية والعسكرية، وبالتالي يُزعم أن الهنود لا يريدون المخاطرة بالتجارة مع القوى الغربية، مقابل عملة البريكس المستقبلية، وسبب آخر هو تعزيز الصين، والتي، في رأيهم، أصبحت القوة الدافعة الرئيسية لمجموعة البريكس، وهذا يقلق دلهي اليوم.

والسؤال المهم هنا، هو كيف يتم الاتفاق على تحديد النسب، فبطبيعة الحال، تريد كل دولة حصة أكبر، والتي يجب أن يكون لها في المستقبل تأثير إيجابي على استقرار العملة الوطنية، حيث إن الطلب عليها يتزايد، وإن كان بشكل غير مباشر، والمرحلة التالية مع السياسة النقدية السيادية هي زيادة المعروض النقدي لهذا الطلب، والذي يمكن استخدامه لتطوير الاقتصاد الوطني، ويطرح المراقبون خيارين محتملين لرفض الهند دعم مشروع العملة المشتركة .

ويكمن الخيار الأول، في إن الهند غير راضية عن الحصة التي تم طرحها في سلة العملات المتعددة، إذا نظرت إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، فإن 70٪ من دول البريكس تحتلها الصين والهند - 13.5٪ فقط، وفي هذه الحالة، هناك تأثير مباشر في اعتماد عملة البريكس الجديدة على اليوان، في حين يشير الخيار الثاني الى ان الهند لا تريد أن تصبح معتمدة على العملات شديدة التقلب، (فقط اليوان مستقر)، فقيمة الريال البرازيلي والراند الجنوب أفريقي تنخفض باستمرار مقابل الدولار، كما أن سعر صرف الروبل يقفز باستمرار، ويحدث أيضًا انخفاض قيمة الروبية، ولكن إذا كان مرتبطًا بعملة البريكس الجديدة، فقد يزداد هذا الانخفاض في قيمة الروبية.

كما ان الهند التي تحتل مكانة خاصة ليس فقط في دول البريكس، ولكن بشكل عام في السياسة العالمية، هدفها القومي ليس الاعتماد على أحد، ولكن بشكل خاص على الصين، وإن عملة البريكس، حيث يمكن للروبية الاعتماد على ربع "الوزن" كحد أقصى، هي الحالة ذاتها، والفكرة العامة للطبقة السياسية الهندية هي أن الهند اليوم أضعف بكثير من الصين عسكريًا واقتصاديًا، وبالتالي لا ينبغي أن تشارك في أي شيء إذا كان الأمر يتعلق بمركز تابع للصين، ويمكن استخدام أي شيء لمثل هذه الأغراض.

وبدأت مراكز الدراسات الاقتصادية والاستراتيجية المهتمة، بطرح خيارات جديدة، لتقريب وجهات نظر دول البريكس، وأحد الطرق للخروج من هذه الازمة برأيهم، هو إنشاء "نادي من خمسة مؤسسين" يتمتع بحق النقض وشيء من هذا القبيل، لكن هذا كما يقولون ليس ديمقراطيًا للغاية ولن يعجب أحد، ولكن الخيار الثاني يمكن تعلمه من آلية APEC المنسية الآن تقريبًا، على الرغم من وجودها وتحاول تطوير العديد من برامجها لتكامل اقتصادات المحيط الهادئ، وعلى الرغم من العداء الشرس للاثنين الرئيسيين - الولايات المتحدة والصين، وباستمرار في اجتماعات معينة، تولد الأفكار حول البرامج الجديدة، لكن كل من اقتصادات أبيك البالغ عددها 21 ليست ملزمة بالمشاركة فيها، فالجميع طوعي هناك، ويمكن لمن لديهم شكوك الانضمام لاحقًا.

إن فشل دول البريكس في الاتفاق خلال عام، هو خبر سلبي للغاية فيما يتعلق بآفاق اتحاد جيوسياسي وجغرافي اقتصادي جديد، ومع ذلك، ليس كل شيء سيئًا كما قد يبدو، وكبديل لـ "سلة العملات" لتحديد سعر العملة الجديدة، يمكن دائمًا إحياء معيار الذهب، علاوة على ذلك، تمت مناقشة هذا الخيار بالفعل في دول البريكس، وكان هذا هو الخيار الأفضل، ويرى المحلل الاقتصادي كونستانتين دفينسكي، إن هذا من شأنه أن يستبعد إمكانية سيطرة عملة واحدة (اليوان) على دول البريكس، ويزيل مخاطر التقلب المفرط ويضمن التسعير الأكثر عدلاً للعملة الجديدة، والحديث عن الذهب، والتغييرات الحالية في العالم لم تتجاوز الغرب، وكذلك النظام الذي بناه، فبعد العقوبات غير المسبوقة ضد روسيا، اتضح فجأة للعديد من الدول أنه من الأفضل إبقاء احتياطيات النقد الأجنبي أقرب إلى قلبك.

وكانت الأجراس المزعجة في هذا الصدد تعود إلى عام 1965، عندما اضطرت فرنسا بالفعل إلى شراء ذهبها من الولايات المتحدة، وكانت ألمانيا أقل حظًا في هذا الصدد، حيث أُعلن لبرلين أن وجود الذهب الألماني في الولايات المتحدة، بمثابة ضمان لوجود القوات الأمريكية في ألمانيا لحماية الألمان من "العدوان السوفيتي" المحتمل، وتخلت الولايات في وقت لاحق تمامًا عن معيار الذهب، مما جعل من المستحيل تكرار المخطط الفرنسي، وفي الآونة الأخيرة، كانت فنزويلا هي الاشارة الأكثر إثارة للقلق، ثم اتضح أنهم قد لا يعطونها ذهبها، لأن "الديكتاتور" يحكم البلاد، وان من هو الديكتاتور، ومن ليس كذلك، سيقرره الشخص الذي يحتفظ بالذهب، وهكذا، رفض بنك إنكلترا إعادة احتياطي الذهب إلى فنزويلا بسبب الرئيس "الخطأ"، و لم يقدم البريطانيون أيضًا سبائك ثمينة للهند، على الرغم من أنها عادت منذ فترة طويلة جميع ديونها، لكن الذهب لا يزال في المملكة المتحدة، لم تتم إعادته بسبب "قضايا التأمين والأمن".

بالإضافة إلى ذلك، حتى عندما يتخلى الغرب عن الذهب، فقد يتضح أنه مزور، وأحرق هذا الصين في عام 2009، عندما اشترت حوالي 70 طنًا من الذهب، ومع ذلك، عندما تم تسليم السبائك إلى بكين، اتضح أنها تتكون من التنجستن، فقط من الخارج مغطى بطبقة صغيرة من الذهب، الامر الذي أدى الى انخفاض الثقة في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك إنغلترا إلى الصفر بالتأكيد، ووفقًا لاستطلاعات الرأي، في عام 2023، يفضل ما يقرب من 70 ٪ من المشاركين من مختلف البلدان تخزين الذهب في المنزل، حتى على الرغم من التكاليف المرتبطة بذلك، في حين أنه حتى قبل ثلاث سنوات كان هناك حوالي 50٪ ممن يثقون في الغرب .

من الواضح أن الصراع حول خطط إنشاء عملة جديدة للتجارة المتبادلة بين دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) يتكثف، وبغض النظر عن قرارات المسؤولين الهنود، أنهم لن يشاركوا في مشروع عملة البريكس، الذي سيقلل من استخدام الدولار الأمريكي في المدفوعات الدولية،، فإن العديد من دول العالم ترغب في تقليل مخاطر استخدام الدولار الأمريكي، والذي عانت منه روسيا بشكل واضح، و إن فكرة إنشاء عملة موحدة داخل البريكس من وجهة النظر الروسية، ف‘ن فكرة المشروع تستحق الاهتمام، وتعرب رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، عن اعتقادها، بأن الامر سيكون من الصعب جدًا تنفيذه، فهي مثل أي فكرة عن عملة فوق وطنية، تتطلب موافقة العديد من الأطراف، فهو ليس مشروعًا سهلًا على الإطلاق، لذلك، وحسب قولها "ما زلنا نعمل ونركز جهودنا على تطوير التسويات الثنائية باستخدام العملة الوطنية، وتطوير البنية التحتية التي تربط أنظمة الدفع لدينا، وما تحتاجه الشركات اليوم، الآن".

كما أن الفكرة الأكثر طموحًا ستكون إنشاء عملة موحدة مثل اليورو، ولكن قد يكون هناك الكثير من القيود على ذلك، وستكون المفاوضات بشأن عملة موحدة، وفقا لمجلة Fortune، صعبة، بالنظر إلى عدم تناسق القوة الاقتصادية والديناميكيات السياسية المعقدة داخل البريكس، ولكي تعمل العملة الجديدة، تحتاج دول البريكس إلى الاتفاق على آلية سعر الصرف، وأن يكون لديها أنظمة دفع فعالة، وأن يكون لديها سوق مالي منظم جيدًا ومستقر وسائل، ولتحقيق مكانة العملة العالمية، ستحتاج دول البريكس إلى خبرة جيدة في إدارة العملات المشتركة من أجل إقناع الآخرين بموثوقية العملة الجديدة.

كانت البريكس منذ البداية وسيلة للتواصل بين دول مختلفة للغاية تقع في مناطق مختلفة وحتى التنافس مع بعضها البعض، والآن نشهد تدفقًا حقيقيًا للدول الراغبين في الانضمام إليها - وليس أقلها جهود دول البريكس لإنشاء نظام مالي خاص بهم، ومستقل عن النظام الغربي، ولكن إذا كان هناك عدد أكبر من الأعضاء، فسيكون هناك المزيد من الاختلافات (على سبيل المثال، بين الأرجنتين والبرازيل)، وإن تصريحات الهند بأنها لا تدعم فكرة عملة واحدة لبريكس، هي حقيقة مزعجة للأعصاب، لكنها حقيقة صغيرة، وراءها حقيقتان هائلتان، أولها يتعلق بما يمكن أن تتحول إليه بريكس، وهي آلية التفاوض العصرية للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والواقع الثاني هو ما تريده الهند ويمكن أن تتحول إليه.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

واحدة من أكثر المقولات شيوعا في دولنا حينما يدور النقاش حول تولي أشخاص لإدارات في شتى مفاصل الدولة ومستوياتها هي (الرجل المناسب في المكان المناسب) التي تعكس حالة التذمر لدى الأهالي بسبب تولي مجاميع من الفاسدين والفاشلين او غير المؤهلين لمواقع سلطوية وبأساليب بعيدة عن السياقات الإدارية والتكنوقراطية وفي بازارات يتصارع فيها طلاب السلطة على الامتيازات والتكسب وليس لخدمة تلك المؤسسة او الموقع ومن ثم خدمة الاهالي، حيث يحمي وطيس بازار المناصب في العراق ليصل الى عشرات الملايين من الدولارات للمناصب العليا ومئات الالاف للمناصب الأقل شأنا في مواردها وليس في مكانتها.

حينما تشتد تلك الصراعات وتتبوء تلك الشخصيات كراسي السلطة والإدارة ندرك عظمة مقولة (لا يولى طالب الولاية) وروعتها في إعطاء صلاحية الاختيار لهيئة رأي أو جهة تشريعية أو حاكم عادل، لكي يمنع ذلك التهافت والمتاجرة بالمناصب التي ابتليت بها بلداننا ناهيك عن التوسط والرشاوى التي ترافق عملية التنصيب بعيدا عن الكفاءات والاستحقاقات المهنية وميزان الرجل أو المرأة المناسب والمناسبة في المكان والمنصب المناسب، ولا شك بأن ذلك هو الطريق الأقصر والأسلم لتحقيق الهدف المرتجى في تقدم مجتمعاتنا وأداء حكوماتنا وإداراتها بعيداً عن الوساطات والبيع والشراء لكراسي السلطة والمناصب.

ولعل الكثير من المصطلحات الشعبية الدارجة تنطبق على العديد الغالب من متبوئي المناصب في بلداننا وخاصة تلك التي تشبه عريس الغفلة الذي يؤتى به على غرة أو دون سابق إنذار لتزويجه من مطلقة كي يصح إعادتها شرعيا إلى زوجها الأول، أو ربما يؤتى به زوجا لتغطية فضيحة ما، وفي كل الأحوال ليس عليه إلا حمل لقب زوج شرعي لتفادي مشكلة معينة ولملئ فراغ محدد حتى أجل مسمى!

في معظم بلداننا الشرق أوسطية وخاصة العربية منها ومن شابهها عالم عجيب ورهيب هو عالم المناصب والإدارات على مختلف مستوياتها ودرجاتها وامتيازاتها الكارثية وقد اردت بمسمى عريس الغفلة ان الج هذا العالم المقزز الذي يأتي بالمغامر من حلبات الجريمة أو العصابة أو النكرات إلى أعلى المراتب في الدولة، كما قال عنه ومارسه ذات يوم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (نحن نطلق صراح المتهم من على كرسي الإعدام إلى الشارع فوراُ ومنه إلى كرسي الوزارة)، وليس أدل على فوضى المناصب وتقلدها في بلادنا من الانقلابات وما جرى بعدها من أحداث أدت الى دفع أفواج من النكرات والمغامرين وحمقى العسكريين والفاسدين وبقالي السياسة الذين حولوا دولنا إلى هذا الشكل المعوق بعد ما يزيد على قرن من تأسيسها؟

لقد واجهت شعوب هذه الدول التي انتجت تلك الأنظمة المعاقة سياسيا وثقافيا واخلاقيا وموروثها المشحون بالألم والإحباط واليأس تحديات وكوراث أكبر من تحملها أدت الى قبولها بأي تغيير حتى لو كان خارجياً كما حصل في العراق حيث كانت شعوبه تتأمل خيراً بسقوط نظامه الطاغي وبداية حقبة جديدة يفترض أن تكون بالضد تماماً من سابقتها التي اندثرت مع سقوط النظام، لكن الأمور لم تك هكذا في بلاد قضت أكثر من نصف عمرها تحت ظل أنظمة دكتاتورية وزعماء متخلفين أنتجت أجيالاً وأنماطاً من السلوكيات والثقافة البائسة التي نشهدها اليوم في شكل النظام السياسي وأداء عناصره سواء في البرلمان أو الحكومة ومؤسساتها.

فقد حملت سفينة الديمقراطية المستوردة مجموعة من الأحزاب وكتلها واصطفافاتها المذهبية والقبلية مئات النكرات والمتخلفين ممن يحملون لقب عريس الغفلة، الذين حملتهم ثقافة البداوة والعقلية العشائرية أو الطائفية المقيتة لكي يكونوا في مواقع بريئة منهم تمام البراءة، وهم يشغلونها بالتأكيد لحساب منظومة المحسوبية والمنسوبية الخارجة بالتمام والكمال عن أي مفهوم للمواطنة والكفاءة والقيادة، فقد امتلأت مجالس الاقضية والمحافظات والبرلمان وكل الوزارات دون استثناء بالمئات من الراقصين على كل الحبال منذ زعيمنا الأوحد وحتى بطل التحرير القومي ومختار زمانه، وهم يقومون بواجباتهم في تدمير البلاد وإفسادها حتى غدت الأكثر فسادا وفشلا في العالم حسب توصيف مؤسسات الشفافية العالمية؟

بعد عقدين من تغيير نظام الحكم وتطبيق مفترض لنظام ديمقراطي يضع الانسان المناسب في مكانه المناسب؛ يخرج علينا أحد الوزراء معترفا بأنه تلقى مكالمة هاتفية في منتصف الليل من زعيم احدى الميليشيات تبلغه بانه أصبح وزيرا لوزارة يفترض ان يكون وزيرها على اقل تقدير من علماء البلد!

وتبقى مقولة لا يولى طالب الولاية موقوفة عن التنفيذ حتى يظهر الشخص المناسب الذي يعتلي مكانه المناسب!

***

كفاح محمود

على الرغم من أن العلاقة ما بين الريف والمدينة هي من نوع العلاقات العضوية التي لا تستلزم فقط وجود كلا الطرفين في سياق تاريخي واحد فحسب، وإنما تستدعي حصول تفاعل بيني وتواصل متبادل لضمان انتظام سيرورة التطور الحضاري، بالشكل الذي يحقق مصالح المجتمع الكلي (الحضري والريفي) على نحو متوازن ومتناغم . ولكن مع ذلك، تبقى ظاهرة (الأريفة) بمثابة لعنة تطارد المدن وتتربص بها الدوائر، كلما تهاونت هذه الأخيرة في الذود عن مكونات (حضريتها) إزاء مظاهر (التأريف) المتوثبة للانقضاض عليها مع كل لحظة تغافل أو تكاسل . وهو الأمر الذي دللت عليه العديد من تجارب المدن والحواضر في بلدان العالم الثالث، التي وجدت نفسها في أتون انعطافات تاريخية حادة، واختلالات بنيوية مزعزعة .

وإذا ما وضعنا باعتبارنا تجارب المدن العراقية بصورة عامة ومدينة بغداد بشكل خاص بشأن نصيبها من عمليات (الأريفة) التي تعرضت لها، سنلاحظ ان كل ما وقع من أزمات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ضمن نطاق الجغرافيا العراقية، كانت مدينة بغداد – ولا تزال – هي المستهدف الأول والمتضرر الأكبر لجهة تآكل مدماكها الحضري وتشوه معمارها المديني وتبدون محتواها السكاني . ليس فقط كونها القطب الأبرز في إطار قوى الجذب المادي والإغراء المظهري التي تتمتع بها نظير مدن العراق الأخرى، لاسيما في مجال توفر الخدمات الإدارية والبلدية والصحية، فضلا"عن تكاثر الفرص الاقتصادية والوظيفية والتعليمية فحسب، وإنما نتيجة لطابع عمرانها التاريخي المتقادم والسريع التأثر بالحراك العمراني (العشوائي) المنفلت، جراء طبيعته الهشة بنيويا"والحساسة حضاريا"إذا ما قورن بنظيره العمران الحداثي الذي يمتاز بالمتانة والصلابة، فضلا"عن قدرته على التكيف مع المتغيرات والتطورات في طرز العمارة والاستجابة لأنماطها المدينية .

ولعل من أخطر مظاهر (الأريفة) التي يمكن أن تواجهها المدن التاريخية – وبغداد مدينة تاريخية بامتياز – إزاء موجات (الهجرة) الريفية والقروية التي لم تفتأ تستهدفها بشكل يكاد يكون يومي، وخصوصا"خلال العقدين الماضيين اللذان شهدا عمليات نزوح هائلة لم تتعرض لها هذه المدينة المستباحة منذ خمسينيات القرن الماضي، وذلك لأسباب عديدة لا يسع المجال هنا ذكرها والتطرق إليها . نقول ان من أخطر مظاهر تلك (الأريفة) كونها لا تقتصر فقط على مفاقمة الكثافات السكانية الخانقة، ومضاعفة ما ينجم عنها من مشاكل مجالية واجتماعية ونفسية وصحية ليس من السهل ضبطها والسيطرة عليها فحسب، وإنما – وهي الأهم بنظرنا – إحداث تغييرات جوهرية وتحولات عميقة داخل بنى الوعي الجمعي ومنظومات القيم الأخلاقية لدى الساكنة، والتي من شأنها زيادة معدلات التآكل والاندثار في أساسات المدماك الحضري للمدينة، بعد أن تكون كفة العوامل المسؤولة عن مظاهر (الأريفة) و(البدونة) قد تغلبت وتفوقت على ضدها النوعي العوامل الداعمة لمظاهر (التمدن) و(التحضرن) التي طالما كانت تعاني الضعف والهزال .

والجدير بالذكر ان الاهتمام بمدينة (بغداد) التاريخية وغيرها من مدن العراق الأخرى ؛ لجهة الحفاظ المستديم على أنماط عمرانها المديني والرعاية المستمرة لطابعها الحضري، قلما شكلت هاجسا"وطنيا"وحضاريا"لدى معظم الذين توافدوا على سدة الحكم في هذا البلد المستباح والمنتهك، لاسيما وأن أغلب أصول هؤلاء (المتسلطين) تشير الى أنهم ترعرعوا في بيئات ريفية وقروية لا تزال تعيش في أطوار بداوتها الأولى، فضلا"عن كونهم لم يفتأوا يمتحون من نسغ قيم وأعراف أبت أن تفارق نوازعها القبلية والعشائرية . ولذلك قلما اكترثت رموز تلك الأنظمة السياسية (المتريفة) بالمصائر التي آلت – وستئول - إليها هذه المدن، جراء سيول (الهجرة) الريفية والقروية المتدفقة نحوها على مرّ العقود من جهة، مثلما لم تحفل بتسلل وتغلغل القيم والأعراف والعادات والرموز ذات الطابع (البدوي) و(القبلي) داخل أوساط المجاميع السكانية التي سبق وأن اكتسبت الطابع (المديني) و(الحضري)، الأمر الذي لم تلبث آثاره السلبية  تنعكس على تواضعات (الانتماء) للمكان / المدينة و(الولاء) للجماعة / المجتمع .

وبقدر ما تتمكن المجاميع الريفية والقروية ذات الأصول (البدوية) التي دفعت بها موجات (الهجرة) المستمرة لاستباحة المدن وانتهاك حضريتها من تغيير موازين القوى لصالحها، بقدر ما تشرع ظواهر (التأريف) المديني و(التبدون) الحضري بالظهور العلني والانتشار السافر بين جنباتها، على وقع (التآكل) التدريجي و(الاندثار) البطيء لمداميك عمارتها المدينية وعمرانها الحضري .

***

ثامر عباس

كنت تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف.والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!

ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958

فما الذي بينهم وبينه من اضداد؟

لنبدأ من حقيقة ان مهمة السياسة هي تدبير شؤون الناس، وأن من اولويات الديمقراطية.. تحقيق العدالة الأجتماعية، فكيف ستكون المقارنة بين حكومات استمرت عشرين سنة، وحكومة استمرت اقل من خمس سنوات؟

هذه المقارنة تحديدا هي التي تجعل رؤساء حكومات ما بعد 2003 صغارا . فبمنطق سيكولوجيا الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.

ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاق عبد الكريم قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع).

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61) واستئثاره بالسلطة ، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات.ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين ، فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.

والحقيقة التي تسكن اعماق قلوب من حكموا العراق بعد 2003 أنهم يكرهون عبد الكريم قاسم، لأنه يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.فالرجل كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة.وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم (ولم يجعله ضابط دمج!).

وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع، ومنحه العراقيون لقب (ابو الفقراء).. لأنه بنى مدينة الثورة( الصدر) لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما الذين حكموا بعد 2003 حولوا الوطن خرابا ، وافقروا 11 مليون و 400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020) وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وسرقوا كذا مليار دولار من وزارة الكهرباء وتركوا الناس في تموز 2023 بلا كهرباء لأكثر من عشر ساعات متواصلة في اليوم!. وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لا بو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة.. كلنا نبوك من القمة للقاعده) .. ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد.. حيتان!. ولهذا فهم يخشون احياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من اعمارفي أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار، وأخرى تخزيهم في اربعة اضعاف مدة حكمه!.

فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى.

ولهذا فهم (يغلسون) عن الأحتفاء بثورة 14 تموز.. لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم.والمخجل ان كثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا ، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي.. ولا يخجلون!.وما خجلوا يوم خرج العراقيون يهتفون (الله واكبر يا علي الأحزاب باكونه.. و نواب الشعب كلهم حراميه).

وهم فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم.. اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة. وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم.. لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي.. دكتور وبروفيسور.. بلغ الستين!.. فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك:

ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية).. نزيهة الدليمي(بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تاسست في زمنه.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم: (عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع!).

ولهذا فان حكومات وقادة العملية السياسية بعد 2003 يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم.. ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح في الأخلاق.

وتبقى حقيقة.. أن عبد الكريم قاسم برغم مرور ستين سنة ونيف فانه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.

ونعود نتساءل:

ان السيد محمد شياع السوداني يختلف عن سابقيه.. فهل سيختلف عنهم ويعلن عن الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟

***

أ. د. قاسم حسين صالح

10 تموز 2023

في المثقف اليوم