آراء

آراء

قد عانت الأمة في غيابها العسف وسامها الطواغيت الخسف، فدين الله الخاتم الذي لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، قد أزاح ذلك الركام الثقيل من الظلم والاستبداد، وكفل للرعية التي تمقت الجور والشطط أن تبسط رأيها في الحاكم دون أن تخشى المهالك والحتوف، ولعلنا لا نُنكر أو نرتاب في أمر تلك الطائفة التي كانت ندية الصوت، حافلة الخاطر، دامغة الحجة، في صدر الإسلام فقد كانت تتدفق تدفق السيل الهادر إلى سهول الحاكم لتهدي إليه دواوين من العبارات الجزلة، وباقات من البيان المشرق، وآكام من الحجج المُفحِمة، نعم لقد كانت تلك الأمة في أزهى عصورها نابية عن الضعف، أبيَّة على السكون، بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يقول الله عزّ وجلّ في مُحكم تنزيله:«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون» آل عمران:104. ويقول المولى جلّ شأنه أيضاً في كتابه المُحكم السبك، الدقيق المعاني، المنسجم التراكيب، الناصع الأسلوب، «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» آل عمران:110. والنبي المرسل عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم الذي جدّد ما رثّ من حبل القيم، وجمع ما شتّ من شمل العرب، أمرنا بمراقبة الحاكم ورده إلى الصواب كلما أخطأ، وتقويمه كلما أعوج حينما قال:«لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ببعض» رواه أبوداود والترمذي، ويقول خير من سار على الثرى أيضاً: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» رواه الترمذي والنسائي، أما حديثه صلى الله عليه وسلم الذي وعته العقول، وحوته الحفائظ والصدور، والذي يأمرنا فيه بدفع الباطل باليد، واستهجان الضلال باللسان أو حتى بالقلب، فلا أوخم مرعى، ولا أزيد في الشناءة من أن نظل موسومين بالعجز، موصومين بالفشل عن تطبيقه، على ضوء ذلك ليس من المغالاة أن نزعم أن التعاون بالهدي، والتعاضد بالنصيحة، فريضة على كل مسلم مكلف، يقوم المجتمع بقيامها، ويزول بزوالها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور فتحي عبد الكريم صاحب كتاب الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي: «ما هلكت أمة يتواصى أبناؤها بالحق، ويتناهون عن الباطل، ولكن دالت دول كما جاء في الكتاب الكريم لأنهم «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون» المائدة:52. والناس جميعاً في خسر «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» العصر:3. اذن هذا الدين السامي الذي يشرق بنور العقل، وينبض بروح العدل، لم يدع الرعية تقاسي معرة الظلم، وتكابد مذلة الحرمان، دون أن تفصح عن دخيلة نفسها، بل حفزها أن تصاول برأيها دون غلو أو مبالغة، وليس شرطاً أن يكون هذا المجاهر برأيه من قبيلة الرجال الذين صقلهم العلم، وهذبتهم المعرفة، فقد ثبت أن الخليفة العادل عمر رضي الله عنه قد اعتلى المنبر وخاف ألا يرده الناس لهيبته فقال فيما معناه: «أيها الناس ماذا تصنعون إذا ملت بعنقي عن الحق هكذا» فقام إليه رجل من عامة الناس ملوحاً بيده وهو يقول: «اذن نقول بالسيف هكذا» فاطمأنت نفس من يجول في غُرته ماء الكرم، ويفوح من شمائلة عُرف المروءة، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف» لله درّهم من رجال ولكن دعني أسالك أيها الأغرّ الأكرم هل يمكن أن يتحفنا زماننا هذا بخليفة عادل مثل الفاروق؟ وأن يكون من بين الرعية أسد هصور يجابه من لا يصعر خده، ولا يلوي عذاره؟ هيهات.. إليك رائعة أخرى تفغر فاهك من الدهشة حدث أن حبس معاوية بن سفيان رضي الله عنهما كما يخبرنا حجة الإسلام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» العطاء عن الناس ذات مرة فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية.. إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال: مكانكم، ثم غاب عنهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: ان أبا مسلم كلمني كلاماً أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِق من نار، وانما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل». وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم..انه ليس من كدي ولا من كد أبي ولا من كد أمي فهلموا إلى عطائكم، ليت شعري من أي طينة صالحة برأ الله هذا النفر؟ ولماذا لم يتأتَّ لنا أن نكون على شاكلتهم؟ حب الدنيا الجارف وكراهية الموت هي العقبة الكؤود التي تحول أن نكون مثل هؤلاء الأفذاذ، دعني أفجؤك بقصة أخرى سيدي الفاضل بطلها تابعي نلتمس في كلامه ضوالُ الحكمة، وفي تعابيره مفاصل الصواب، انه سفيان الثوري رحمه الله فقد أُدخِل على الطاغية المستبد أبو جعفر المنصور فخاطبه من يأخذ الناس بالظنة قائلاً في صغار: أرفع إلينا حاجتك، فقال التقي النقي، اتقِ الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجورًا، فطأطأ أبو جعفر رأسه، ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري انما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، أي شجاعة هذه، وأي جسارة تلك، أحلف غير حانث من صيغ فؤاده من جلاميد الجبال في عصرنا القميء هذا لا يجرؤ أن يخاطب طاغية من طواغيت هذا العصر بمثل هذا الإقدام، ماذا صنع المنصور هل أمر بالنطع والسيف؟ لا بل قال مثل قوله السابق: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري أنزل الله على رمسه شآبيب رحمته: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه كم أنفقت؟ فقال بضعة عشر درهمًا، وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، ثم خرج، ولعل هذه الأمثلة والشواهد التي أوردتها من الصعوبة بمكان أن نحصي أخريات على شاكلتها، كما لا سبيل لإحصائها واستقصائها في هذه العجالة، ولكنها تبرهن بجلاء عن حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته على كيفية ادارته لدفة الحكم، هل أسبغ على رعيته جلابيب النُعماء؟ أم اصطفى نفسه وشيعته بشمول اللألاء؟.

إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن الرقابة في عهد الخلافة الراشدة لم تكن فيها معاظلة أو التواء، كما هو الحال الآن بل كانت حقًا مكفولاً للجميع، فمن وقت لآخر نبصر مشدوهين بعض الصحابة الميامين ينتقدون في رابعة النهار السلوك الذي يند من الخليفة كما حدث بين سلمان الفارسي وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أمر الثياب، هذه الشواهد تجعلنا نشعر بوطأة خزي عجيب أيها السادة، فمجالسنا النيابية والوطنية التي اُنتخبت من قبل هذه الشعوب التي خلت حياتها من قلوب تحنو عليها، يتعالى صهيلها مطالبة «بحقوقها» المهدرة، كما نراها دائمة الوفاق مع السلطة التنفيذية التي لا يعتريها يأس، أو يخامرها قنوط، في تمرير ما توده من سياسات، فجل هذه المجالس تؤدي دون كلل أو ملال نفس الدور الذي تؤديه تلك المجموعات الجميلة التي تقف في شموخ ورفعة خلف مغنٍ فشا ذكره على الألسنة، وقرع صيته الأسماع، تجتر ما يقوله في نشوة، وتدمي أكفها في طرب بالغ.

***

د. الطيب النقر

 

مثلما في الماضي، ففي الحاضر أيضًا ما يزال العالم يدفع أثمانًا باهظة، بسبب الاستخدام السياسي للدين، حيث استُعمل كذريعة أو حجّة لاندلاع أكثر الحروب والنزاعات دمويةً بين الشعوب من جهة وبين جماعات دينية وطائفية مختلفة أيضًا من جهة أخرى، وكان له تأثيرًا سلبيًا خطيرًا، فأزهقت بسببه وما تزال تُزهق أرواح ملايين البشر، وتهدر أموال طائلة، وتُستنزف جهود عظيمة، لا على التنمية والتقدم والصحة والتعليم وتحسين نوعية الحياة والرفاه الاجتماعي، بل على إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة، وتغذية بؤر التوتّر بروح الكراهية والعداوة والحقد والانتقام والثأر.

ولمعالجة هذه الظاهرة، فإن الأمر لا يحتاج إلى إطفاء الحروب والنزاعات فحسب، بل البحث عن السبل الكفيلة لمعالجة جذورها، وتهيئة مستلزمات الوقاية منها، فضلًا عن حماية ضحاياها ماديًا ومعنويًا ونفسيًا.

وحين انطلقت مبادرة عالمية لحظر الاستخدام السياسي للدين، نشرت مقالة بخصوص الدين والاستخدام السياسي، تساوقًا معها وانضمامًا إليها، حيث توّجت الجهود لعقد مؤتمر دولي في الرباط - المغرب (2022)، تبنّى مشروع المبادرة، كيما يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وسبق لعدد من الشخصيات الفكرية والثقافية والبرلمانية أن وقعّت عليه مثل نعوم تشومسكي وأدونيس واللورد جيفري آرتشر وماري كيلي وعشرات الشخصيات الوازنة على المستوى الدولي.

وخلال الأسابيع المنصرمة حققت المبادرة نجاحًا جديدًا، حين أُدرجت على جدول عمل مجلس أوروبا، وحظيت بتأييد 40 عضوًا من 19 دولة، بينهم شخصيات اشتراكية ديمقراطية ومن مجموعات الخضر، وأعضاء من ألمانيا وإسبانيا واليونان والنرويج وسويسرا وغيرها.

أما حيثيات الفكرة وأسبابها الموجبة، حسب لغة القانون، فإنها تقوم على أن الاضطهاد الديني هو أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعًا في العالم، وأن عدد ضحاياه يتجاوز أية إحصاءات، ولا يقتصر على النساء والأطفال و"الأقليات الدينية" فحسب، بل يشمل قطاعات كبيرة من الأغلبيات أيضًا في العديد من البلدان، ويمكننا هنا أن نستعيد تاريخيًا العديد من الارتكابات والحروب والنزاعات الدينية، ونستذكر ما عشناه أيضًا، والتي ولّدت مآسي لا حصر لها في التاريخ البعيد والقريب، وبعضه يستمر بضراوة وحدّة حتى اليوم.

إن المبادرة لإقرار معاهدة دولية لحظر التوظيف السياسي للدين، هي توجّه جديد لوضع قواعد قانونية دولية جديدة وواضحة ومحددة، في إطار القانون الدولي، ووفقًا لمبادئ المساواة، التي هي ركن أساس من أركان المواطنة في الدولة العصرية، وهو ما ينبغي أن تأخذ به التشريعات والقوانين الوطنية لمنع التمييز على أساس ديني، أو تقييد حق الاعتقاد والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية بحريّة.

لذلك سيكون إبرام المعاهدة نقطة انطلاق جديدة لتعزيز السلم العالمي من جهة، والتعايش السلمي المجتمعي من جهة أخرى في أي بلد متعدد الأديان، وسيكون عائقًا جديًا أمام القوى المتعصّبة والمتطرّفة استخدام الدين لأغراض سياسية أنانية ضيقة، بعيدًا عن قيم التسامح واللّاعنف والإخاء والمحبة والمشتركات الإنسانية.

إن النجاح في إبرام معاهدة من هذا النوع، لا يعني أن أعمال الاستغلال السياسي للدين ستتوقف في اليوم التالي، لكن وجودها سيكون عاملًا مساعدًا في تحديد مسؤولية المجتمع الدولي، فضلًا عن الدول التي ستنضمّ إليها للتصدّي لظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، تلك التي تستقي الحركات الإرهابية والقوى المتعصّبة والمتطرّفة من منابعه أفكارها ووجودها واستمرارها باسم الدين، مثل تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما.

ولا ينحصر الاستخدام السياسي للدين على مجتمعاتنا العربية والإسلامية فحسب، بل أن مجتمعات متقدمة ظلّت هي الأخرى تمارسه عمليًا، حتى وإن كانت تحرّمه قانونيًا، ولعلّ الكثير من المجتمعات الغربية تشهد اليوم هجمات ضدّ اللاجئين والأجانب والمجموعات الثقافية الأخرى، لاسيّما في ظلّ صعود نخب شعبوية متطرّفة وعنصرية، وأحيانًا تحت زعم الحفاظ على الهويّة والثقافة الموحدة، يتم التجاوز على الخصوصيات والهويّات الفرعية، بل يتم الاستخفاف بها والتنكّر لها، وأقرب مثال على ذلك أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، اتّخذت قرارًا بمنع رعايا دول محدّدة من الدخول إليها، وهي ذات أغلبية إسلامية، مثلما تُتخذ اليوم بعض الإجراءات القمعية بخصوص بعض أعمال التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وسكان غزّة في العديد من البلدان الغربية بحجّة العداء للسامية.

ولا يقتصر تكفير تلك الحركات الإرهابية والمتطرّفة على أتباع  الأديان الأخرى، بل أنها تقوم بتكفير كلّ من يعارض تعليماتها ولا يؤمن بأطروحاتها، حتى وإن كان من ذات الدين والطائفة، ملتجئة إلى التأثيم والتحريم والتجريم، واضعةً من نفسها قاضيًا وسلطة تنفيذية خارج نطاق القانون والدولة، بما يسيء للدين ذاته، ولاسيّما في إفساد العلاقة بين الشعوب والأمم على المستوى الخارجي، وفي تفجير الصراعات والفوضى والحروب الأهلية بين المجموعات الثقافية وأتباع المذاهب المختلفة على المستوى الداخلي.

***

د. عبد الحسين شعبان

نُشر يوم الجمعة 5 كانون الأول / يناير تقرير إخباري يتضمن خبرا منسوبا إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مفاده تشكيل لجنة ثنائية عراقية أميركية لجدولة انسحاب ما تبقى من قوات الاحتلال الأميركية وما يسمى "قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" من العراق. وبالعودة إلى تسجيل فيديو خطاب السوداني الذي ألقاه يوم أمس في الذكرى الرابعة لجريمة اغتيال قادة النصر على داعش من قبل سلاح الطيران الأميركي، نجد أن التقرير الإخباري الذي تكلم عن تشكيل تلك اللجنة لم يكن دقيقا. فقد ذُكر موضوع اللجنة الثنائية فعلا ولكنها ليست لجنة ثنائية أميركية عراقية شُكلت مؤخرا.

فما حقيقة هذه اللجنة وهل كانت الحكومات العراقية ومنها حكومة السوداني جادة فعلا في إخراج القوات العراقية واستعادة سيادة العراق واستقلاله وبناء جيشه ومؤسساته الوطنية أم أن الوضع سيبقى على ما هو عليه؟ يتبين لنا بعد التدقيق ومقارنة التقرير الإخباري الذي نشر حول الخطاب بتسجيل فيديو الخطاب نفسه ما يلي:

إنَّ عبارة "اللجنة الثنائية" وردت مرتين في التقرير الإخباري الذي نشر عن الخطاب في بعض المواقع الإخبارية العربية ثم حذف (ولدينا صورته كما نشر في موقع بحراني معارض قبل أن يحذفه لاحقا)، والملفت أن هذا الخبر لم ينشر في غالبية المواقع العراقية؛ وقد ورد مرة بصيغة غامضة وبالفعل المضارع في بداية الخطاب، وتقول الفقرة: "إن الحكومة تحدد موعداً لبدء عمل اللجنة الثنائية بما يتماشی مع الترتيبات النهائية المتعلقة بإنهاء تواجد قوات الاحتلال الدولية في العراق، وفي كل ما يتماشی مع توسيع التواجد العسكري في العراق". ويُفهم من هذه العبارة أنها مشروطة بحال استثنائية توجب حدوثها وفي اتجاهين أي باتجاه الإنهاء أوالتوسعة، وربما تكون هذه العبارة قد وردت في أوراق ما سمي جولات الحوار الاستراتيجي في عهد حكومة مصطفى الكاظمي. أي إنها ليست مخصصة لجدولة انسحاب القوات فقط، بل بترتيبات "إنهاء التواجد العسكري الأميركي أو توسعته في العراق".  وربما تكون هذه الفقرة قد وردت في الخطاب سهواً أو نقلاً حرفياً عن وثيقة، ثم حذفت لاحقا، أو أنها لم ترد في الأصل ولكن محرر التقرير قد أضافها وهذا احتمال مستبعد. وفي المناسبة فهذه ليست المرة الأخرى التي يُمَنْتَجُ فيها خطابٌ للسوداني لحذف عبارات منه، فقد سبق وأن حدث ذلك بعد الأزمة التي أثارتها تسمية السوادني للخليج العربي باسمه الصحيح "العربي" خلال افتتاحه دورة البصرة لكأس الخليج العربي لكرة القدم في تشرين الثاني - نوفمبر 2019، ما أدى إلى صدور احتجاجات رسمية من الجهات الإيرانية القومية ضده فتراجع وتمت مَنْتَجَةُ خطابه!

كما وردت عبارة "اللجنة الثنائية" في الفقرة الأخيرة من الخطاب، وفق التقرير والفيديو معا، ولكن بصيغة الماضي حيث قال السوداني: "ونؤكد موقفنا الثابت والمبدئي بإنهاء تواجد التحالف الدولي بعد انتهاء مبررات هذا الوجود. ومن خلال اللجنة الثنائية التي تم تشكيلها لتحديد الاستعدادات لإنهاء هذا الحضور، فإننا نحدد موعد بدء الحوار". ومن المرجح هنا أيضا، أن السوداني يتكلم عن لجنة "تم تشكيلها" خلال فترة ما سُمِّي الحوار الاستراتيجي مع الجانب الأميركي لسحب القوات في عهد مصطفى الكاظمي كما قلنا، ولا يتكلم عن لجنة جديدة تم تشكيلها بطلب من حكومته بعد الجريمة الأميركية الجديدة، ولكنه يضيف إليها مطلب "تحديد موعد بدء الحوار".

يمكن القول، أن هذه العبارة، بل والخطاب كله ليس إلا محاولة من السوداني لاحتواء الغضب الشعبي الذي تسببت به جريمة القوات الأميركية الجديدة باغتيال أحد قادة الحشد الشعبي ومرافقه وإصابة ستة آخرين بجراح في مقر للحشد الشعبي بقلب بغداد بعد استهدافات أخرى قوبلت ببيانات شجب واستنكار حكومية وحزبية كالمعتاد!  والسؤال الذي نطرحه هنا: إذا كانت هذه اللجنة الثنائية قائمة فعلاً في الواقع، أو كإمكانية مشروطة على الورق كما نرجح، فلماذا سكتَ السوداني وإطاره التنسيقي وحكومته عن هذه اللجنة الثنائية - إن كان لها وجود فعلي حقا- كل هذا الوقت، ولماذا لم تُفَعَّل هذه اللجنة وتقوم بواجبها لوضع جدول زمني لإخراج القوات الأميركية والأجنبية كافة من العراق حتى الآن؟.

يأتينا الجواب على هذا السؤال في شكل تصريح لخالد اليعقوبي مستشار السوداني السياسي قال فيه إن واشنطن "أوقفت مفاوضات إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق إثر أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي (طوفان الأقصى)، أي قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لبدء المفاوضات بين الجانبين". وحتى في هذا التصريح فالمستشار يتحدث عن لجنتين مستقلتين جديدتين أحداهما عراقية والأخرى أميركية "لدراسة الخيارات التي تؤدي إلى إخلاء الأراضي العراقية من أي تواجد للقوات الأجنبية" وليس عن لجنة ثنائية لوضع جدول انسحابات. ولكن أحداث السابع من تشرين ومشاركة فصائل عراقية في ضرب المواقع الأميركية تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الصهيونية الجماعية، مثلت "مبررات أمريكية" لتأجيل محادثات إجلاء قوات التحالف، كما قال المستشار، مبيناً أنّ هذه "المبررات ليست مقنعة بالنسبة للحكومة العراقية".

إنَّ الأهم من عدد القوات الموجودة والتي يجب أن تنسحب كلها هي "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" التي وقعها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي مع حكومة أوباما سنة 2011 لتنظم علاقات الهيمنة الأميركية على العراق بعد انسحاب جُلِّ قوات الاحتلال. ولكن جميع الحكومات العراقية وأحزابها والمرجعية التي دعمتها وساندتها تسكت على هذه الاتفاقية سكوتا مريبا، بل وتطالب أحيانا بتطبيق ما تعلق منها بالمساعدات الأميركية للعراق! ولهذا وبناء عليه، سيكون السوداني والإطار التنسيقي الذي شكل حكومته، وجميع أحزاب المنظومة الحاكمة داخل وخارج الحكومة أمام تحدٍ صريح وواضح وهو أن يجرؤوا على مطالبة واشنطن بالانسحاب ووضع جدول سريع لسحب قواتها وإلغاء "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" معها، وإلا فهي تساوى في السوء مع الحكومات السابقة التي فرطت بسيادة العراق واستقلاله وتركت العدو المحتل يسفك دماء العراقيين!.

-ولكن لماذا لم ينجح حكام العراق حتى اليوم بإخراج القوات الأجنبية وفي مقدمتها القوات الأميركية حتى الآن، ولم يراجعوا تلك الاتفاقية ويلغوها بعد أن خرقها الطرف الأميركي مرارا وتكرارا، وخصوصا حين امتنع عن تقديم الدعم العسكري للحكومة العراقية بموجبها حين راحت جحافل جماعات داعش المسلحة تتقدم نحو بغداد وقد سيطرت على ثلث أراضي البلاد تقريبا، وبعض تلك الأسلحة والطائرات الحربية كان العراق قد دفع ثمنها؟.

-الجواب لأن حكام العراق منذ سنة 2005 وحتى اليوم، صنفان؛ صنف يأتمر بأمر واشنطن المباشر فيرفض سحب القوات لأن واشنطن ترفضه. وصنف آخر انطلت عليه الحيلة الأميركية وصدق تهديدات واشنطن بإعادة العراق الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات وفرض الحصار، إذا تجرأ وطالب بانسحاب القوات والخروج من الهيمنة الأجنبية. إنهم يجهلون أو ربما يتجاهلون أن العالم قد تغير، ولم يعد اللاعب الأميركي هو الوحيد في الميدان العالمي كما كان في أيام آل بوش، بل هم في عصر الانحدار وفقدان الهيمنة القطبية الواحدة تدريجيا. وثانياً لا يوجد أي مبرر يسوغ فرض الحصار جديد ومعاقبة العراق إذا طالب برحيل قوات الاحتلال، بل أن بحوزة العراق أطنانا من الوثائق والأدلة التي تسمح له بمقاضاة أميركا وحلفائها في الهيئات الدولية على حرب التدمير التي شنّوها على العراق وما يزال الشعب يعاني منها الى اليوم. بين الصنف الأول والثاني هناك من يخشون من أن يؤدي انسحاب القوات الأميركية إلى سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، والحقيقة هي أن مواجهة الهيمنة والنفوذ الإيراني المتنامي ستكون أسهل كثيراً على الوطنيين الاستقلاليين العراقيين بعد إخراج القوات وكسر الهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية الأميركية فإيران - حين ذاك- لم تعد مهددة من قبل الوجود الأميركي المعادي لها في العراق، وبالتالي يمكن تنظيم العلاقات بين البلدين الجارين وفق مبادئ القانون الدولي وحسن الجوار ومناهضة الكيان الصهيوني وإنهاء التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي الداخلي وخصوصا حماية الفاسدين من الساسة الطائفيين في المنظومة الحاكمة واتخاذ مواقف حازمة بهذا الصدد.

*أما التهديد الأميركي ببعبع إضعاف الدينار العراقي وقطع الدولارات عن الخزينة العراقية فهو أمر سيفتح الباب أمام العراق ليتحرر من التبعية السوداء للاقتصاد الدولاري في زمن تخلت فيه ثلث دول العالم عن الدولار كعملة تداول وتبادل وحيدة. فثلث دول العالم بدأت تتخلى عن الدولار وتسعى لإيجاد وسائل دفع وطنية بعد عقوبات الغرب ضد روسيا، التي حمت اقتصادها بفضل منظومتها المحلية "مير" للدفع الإلكتروني كما قالت وكالة تاس الروسية في تقرير لها واستعرضت فيه تصريحات مسؤولي 193 دولة في وسائل الإعلام الروسية والدولية، انتهت إلى نتائج أفادت بأن 68 دولة تؤيد التخلي عن الدولار وتتخذ إجراءات ملموسة في هذا الاتجاه.

وذكرت الوكالة أن الدول الأكثر شجاعة تدعو علنا لمواجهة الدولار، وبينها قبل كل شيء الدول المشاركة منذ فترة طويلة في منظمات دولية بينها "آسيان" و"بريكس".

وأشارت إلى أن الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا يطالب بشكل مستمر بإطلاق عملة لاتينية بديلة للدولار، ويؤيده في ذلك وزير مالية جنوب إفريقيا غودونغوانا الذي يدعو إلى تعزيز الإقراض بالعملات الوطنية. وأخيرا فالعراق ليس بلدا فقيرا منعزلا بل هو صاحب رابع أكبر مخزون للنفط الخام في العام، والثاني عربيا باحتياط يفوق 140 مليار برميل وذو موقع استراتيجي خطير يضعه في قلب العالم القديم، ولكن مصيبة العراق الكبرى هي أنه يتفقد إلى قيادات وطنية جريئة، وتهيمن على زعامته مجموعات من السياسيين المنفيين الذين جاء بهم الاحتلال الأميركي ليمثلوا الطوائف الدينية والمجموعات العرقية ويحكموه تحت الإشراف والهيمنة الأميركية.

يبقى ثمة تهديد أميركي ضمني وخطر بدأ بعض المحللين السياسيين والساسة الأميركيين أو العرب والعراقيين المشتغلين في خدمتهم بترويجه ومفاده أن واشنطن قد تلجأ إلى تمزيق العراق أثنيا وضرب وحدته أرضا وشعبا إذا أصرَّ ممثلو "الغالبية الشيعية" على مطلب إخراج قواتهم بأن تدعم - واشنطن- الانفصال الكردي الذي تدعو إليه زعامات الاقطاع السياسي الكردي، وقد يتمادون فيُفَعِّلون حركة دعاة الإقليم السني أيضا ويدفعونهم إلى طلب الحماية الأميركية، وهذا تهديد جدي وخطر ينبغي التعامل معه وفق منظور وطني جدي مناهض للهيمنة الأميركية  يصل إلى حدود فتح تحالفات العراق الدولية والاتجاه شرقا للتحالف والانضمام إلى المجموعات الجديدة الخارجة على الهيمنة الأميركية الإنكلوسكسونية  كمجموعة بريكس وغيرها، ثم أن دعاة الإقليم السني وحتى دعاة الانفصال الكردي ليسوا بالقوة والتماسك الذي يخشى منه وهم أضعف من العراق وقدراته الاقتصادية الكبيرة خصوصا وأن  الاقطاع السياسي الكردي وكذلك الساسة من دعاة الإقليم السني يعتاشون على الاقتصاد العراقي ونفط الجنوب العراقي بدرجة رئيسة وسيدخلون مناطقهم في أزمة معيشية طاحنة إذا تجرأوا فعلا على المساهمة في المخطط الأميركي الغربي الصهيوني لتمزيق وحدة العراق أرضا وشعبا!

إن السيد محمد شياع السوداني، والقوى التي شكلت حكومته ودعمتها يواجهون اليوم تحديا تأريخياً وخطراً يمس سيادة العراق واستقلاله وكرامة شعبه وأي تفريط بحقوق العراق واستقلاله وسيادته وكرامته سيجلل المفرطين بالعار، وأي وقفة أحرار يقفونها ستتوجهم بالمجد والفخار على مر العصور، ولكن وقفة من هذا النوع لا يقفها إلا أحرار استقلاليون يرفعون هويتهم الوطنية العراقية الرئيسة راية لهم، وينكسون الرايات الطائفية والعشائرية والعِرقية؛ ومن دون تفكيك منظومة المحاصصة الطائفية والعِرقية التي جاء بها الاحتلال الأميركي ودعمتها وباركتها المرجعية النجفية والتي وصفت هؤلاء المحتلين بـ "ضيوف العراق" كما نقل عنها علنا مستشار الأمن القومي آنذاك موفق الربيعي وما يزال كلامه منشورا ومسجلا بالصوت والصورة على منصة يوتيب، ووجوب إعادة كتابة الدستور العراقي النافذ، من دون القيام بهذه الإجراءات والتغييرات يغدو كل كلام عن الإصلاح و استعادة الاستقلال الوطني العراقي أضغاث أحلام وهواء في شِباك!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

.........................

* رابط يحيل إلى فيديو خطاب السوداني:                

https://www.youtube.com/watch?v=mBulJPlbIQM&ab_channel=%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1

 * فيديو موفق الربيعي: حين اعتبرت الأمم المتحدة الوجود الأميركي احتلالا سنة 2003 واجهتنا مشكلة حقيقية "شرعية" فذهبنا إلى المراجع الذين نقلدهم لنسألهم ما العمل فهذا محتل من دولة أجنبية لأرض المسلمين، فما العمل؟ فقال لنا المراجع؛ هؤلاء ضيوف ويخرجون بالمقاومة السلمية!

https://youtu.be/GcUIO1LKzn8?t=37

يصعب فهم النمو الحضري الذي شهدته المدن العراقية بداية أربعينيات القرن الماضي، ولم تنتهي حتى الوقت الحاضر بسبب تجاهل الحكومات المتعاقبة لها ولأسبابها وعدم إيجاد الحلول المناسبة لإيقافها أو الحد منها على الأقل، دون التعرف على اسباب الهجرة والخروج الريفي. وعلى الرغم من كثرة الدراسات الإحصائية التي تناولت الهجرة الريفية إلى المدينة، إلاّ أن التحليلات النظرية ما تزال محدودة للغاية. وربما كان مفهوماً بين منطقة الطرد في الريف ومنطقة الجذب في المدينة من أشهر الأدوات التحليلية التي يستعين بها الدارس في دراسته عوامل الهجرة الريفية/ الحضرية ونتائجها. ومن الطبيعي أن تختلف العلاقة بين مناطق الطرد ومناطق الجذب؛ بين مناطق الفرات الأوسط والجنوب، والمناطق الشمالية.

ويتعين علينا الإشارة إلى هذين المفهومين (منطقة الطرد ومنطقة الجذب)، فكل العوامل تشير إلى أن منطقة الطرد هي تدفق القرويين نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والخدمية التي تعاني منها القرية. أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل أفضل وظروف معيشية أرقى. ومعنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية؛ بينما عوامل الجذب مكفولة في المدينة. والتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها:

1- مدى التفاوت الحضري بين القرية والمدينة.

2- الموقع الجغرافي للقرية.

3- نوع المواصلات التي تربط القرية بالمدينة.

4- معدل النمو الاقتصادي الحضري.

5- ظروف العمل الزراعي وحجم الملكية الزراعية.

وإذا ما ناقشنا العوامل الجاذبة وجدنا أن ابناء القرى ينجذبون إلى المدينة، لأنهم يعتقدون أنها تتيح لهم فرصاً للحياة، وإن نسباً من الشباب يهاجرون إلى المدينة لغرض الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، لكنهم سرعان ما يؤثرون في الوسط المدني بنقل عاداتهم وتقاليدهم، أو التأثر وكسب الثقافة الحضرية والإقامة في المدينة، فضلاً عن ترك القرية بعد تخرجهم والسعي إلى الحصول على وظائف أفضل، ويشكل هؤلاء نسبة عالية، ويمكن تفسير ذلك على ضوء معدلات الدخل في المدينة إذا ما قورنت بالقرية.

ونلاحظ أن نمواً كبيراً في اعداد المهاجرين خلال العقود الأخيرة الماضية وانتشار الأحياء العشوائية في اطراف المدن منها (أحياء الصفيح) التي انتشرت فيها الجريمة بعدة اشكال. وعلى الرغم من القيود التي كانت تفرضها الحكومات السابقة على الهجرة إلى المدينة وتغيير مهنة المهاجر من الفلاحة إلى العمالة، نظراً لاعتبارات اثنولوجية وسكانية وسياسية.

وقد زادت الهجرة الريفية إلى بغداد العاصمة وعلى الأخص من مناطق الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية، بسبب العامل الاقتصادي وسيطرة الاقطاع على مساحات شاسعة من الأراضي؛ واتخاذ الفلاح كقنّ للعمل في الحقل؛ تعتبر من أهم العوامل المحركة للهجرة إلى بغداد واتخاذ منطقة الشاكرية مقراً لتجمعاتهم السكانية. وقد تركت ولا زالت، موجات الهجرة هذه على مدى العقود الماضية آثارها على الوجه الحضاري الجديد لمدينة بغداد، المدينة التي كانت قد بدأت تنهض ثقافياً وعلمياً وفكرياً واقتصادياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945م، وتركت هذه الهجرة آثارها أكثر ما أثارت على الحياة الاجتماعية لسكان المدينة؛ وطابعها المدني بما حملته معها من ريف الجنوب من عقائد وتقاليد ومفاهيم وعادات وقيَّم وأعراف عشائرية.

لقد أوضح الدكتور مكي عزيز في كتابه (جغرافية السكان): (إن الدخل الشهري الذي يحصل عليه المهاجر إلى بغداد بغض النظر عن مستوى تدريبه ومهارته، يكاد يعادل الدخل السنوي الذي يحصل عليه القروي الذي يعمل في قرية عراقية جنوبية. ففي بغداد يستطيع المهاجر أن يحصل على عملٍ ملائم، مما يمكنه من التحرر من كبار ملاّك الأراضي الزراعية والمرابين). وفضلاً عن ذلك سجلت هذه الدراسة أن المهاجرين إلى بغداد يحصلون على فرص تعليمية ورعاية طبية لم يكونوا يحصلون عليها في قراهم الأصلية، وأنهم قد قبلوا تماماً الحياة الحضرية، حتى أنهم لا يرضون عنها بديلاً.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

كتائب القسام تترد على زيارةَ كبير "كذّابي" البيت الأبيض وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى المنطقة انتهاء ب"إسرائيل" التي بدأت يوم أمس الثلاثاء، أيضاً على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت حول ادعائه بإحكام سيطرة جيش الاحتلال على شمال قطاع غزة، وذلك بتوجيه ضربة صاروخية إلى تل أبيب الكبرى، تزامناً مع مقتلِ تسعِ ضبّاطٍ إسرائيليين في هجومين منفصلين في القطاع.

وقال بلينكن وفق-اسوشيتدبرس- "بأن زعماء الدول التي زارها في هذه الجولة الشرق أوسطية اتفقوا على مساعدة غزة في الاستقرار والتعافي ورسم مسار سياسي مستقبلي وأنهم مستعدون لتقديم الالتزامات اللازمة لاتخاذ القرارات الصعبة لتحقيق الأهداف" دون أن يحدد مكمن الصعوبة فيما لو كانت على صعيد المواقف الشعبية أو السياسية! مؤكداً على ضرورة إقامة دولة فلسطينية تجمع ما بين غزة والضفة الغربية تحت قيادة فلسطينية لم يحددها، مع حرص بلاده على عدم توسيع دائرة الحرب إقليمياً. أي أنّ السلطة كما يُفْهَمُ من ذلك قد لا تكون الخيار الأنسب لإدارة القطاع.

صحيح أن تغييب حماس عن المشهد كان من أهم ثوابت السياسة الأمريكية إزاء الحرب على غزة؛ ولكنّ بلينكن الذي دأب منذ انطلاق "طوفان الأقصى" على حمل شعار "القضاء على حماس أولاً أو نزع سلاحها" قد تخطى ذلك نحو الإشارة إلى ما بعد انتهاء الحرب، فهو يدرك بأنه أمر بعيد المنال -رغم ادعائه عكس ذلك- ، في ظل انقلاب موازين الحرب لصالح المقاومة من خلال ما حققته على صعيدين عسكري وسياسي.

وهذا يفسّرُ قيامَ مسؤوليين أمريكيين بتخيير نتنياهو بين طريقة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير، وحامل حقيبة المالية استموترتش، والقائمة على سياسة التطهير العرقي إزاء الفلسطينيين وتوسيع نطاق الحرب بغية اجتثاث حماس و"دحر" حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني.

أو الطريقة المقابلة التي تتبناها إدارة بايدن الأمريكية من خلال سعيها لإخراج "إسرائيل" من عنق الزجاجة، مع أنها ما لبثت تقدم ضمانات بقاء هذه الحكومة اليمينية المتشددة من خلال الدعم المفتوح لها.

سيما وأن بايدن يسعى إلى ضبط الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة على ساعته كيلا ينجح نتنياهو في رهانه بفوز حليفه ترامب من خلال داعمي السياسة الإسرائيلية في أمريكا عموماً.

وفي تقديري أنّ الطريقتين متوافقتان جوهرياً، ولو اختلفتا في الشكل، فهما وجهان لعملة واحدة.

ورغم مرونة بلينكن المصطنعة فإنه سيؤيد ما يطالبه به إسرائيليون بعدم السماح للفلسطينيين بعودتهم إلى شمال قطاع غزة؛ إلا إذا افرجت حماس عن جميع "الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها".

على الأقل هذا اعتراف إسرائيلي صريح بعدم قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه.

وتزعم الولايات المتحدة أن الضغوط التي مارستها على "إسرائيل" في الكواليس أتت ثمارها في الأيام الأخيرة من خلال سماحها بدخول شاحنات مساعدات إلى غزة وفتح معبر ثان، دون الحديث عن علاقة ذلك بالضغوطات الجماهيرية في أمريكا التي ما لبثت تلاحق بايدن في كل جولاته الانتخابية ومطالبته بوقف الحرب والإصرار على أن إدارتَه شريكةُ في حرب الإبادة على غزة.

وهذا خطير في ظل التسابق المحموم نحو البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.

وبغية أقناع تلك الجماهير المتعاظمة بصدق نوايا الإدارة الأمريكية، أقدمت الأخيرة على تقليص الدعم العسكري ل"إسرائيل" بسبب ما يواجه جيش الاحتلال من استنزاف في المعدات والارواح، أدّت إلى تعاظم فاتورة الخسائر الإسرائيلية بمعدل 260 مليون دولار يومياً ليصل الإجمالي إلى قريب ال 20 مليار دولار.

ولإصرار حكومة نتنياهو على التصعيد الإقليمي بهدف جرّ أمريكا إلى تلك الحرب الخاسرة في بعدها الإقليمي سيّما وأن أمريكا غارقة الآن في أتونها، فقد أوقفت الإدارة الأمريكية صفقة مروحيات "أباتشي".

وعليه قالت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية، بأن الجيش طلب على نحو رسمي مؤخرا من البنتاغون، مروحيات "أباتشي"، لكن لم يتخذ قرارا نهائياً بشأن تلك الصفقة رغم استمرار ضغط إسرائيل لتمريرها.

يحدث ذلك في ظل مقاضاة جيش الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وقادته في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي من خلال الدعوى المرفوعة عليه من قبل جنوب افريقيا، واتهامه بجرائم حرب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة، بغية وقف هذه الحرب المجنونة ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي.

من جهة أخرى تشتد النداءات عبر العالم وخاصة في "إسرائيل" إلى وقف العدوان على غزة وإجراء صفقة تبادل أسرى وفق شروط حماس التي صار تجرعها مستساغاً على صعيد إسرائيلي، كونها باتت تشكل مخرجاً إسرائيلياً من مأزق غزة الكارثي.

وهذا يجعل من دعوة بلينكن إلى وجود حاجة ملحة لبحث الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ومنع تصعيد الصراع في المنطقة -وفق تعبيره- غير منطقية وتأتي في سياق التضليل الإعلامي، كونها دعوة لا تنسجم مع الدعم الأمريكي المفتوح للحرب الإسرائيلية على غزة وهذا أمر يفهمه حتى الطفل في القماط.

ويدرك بلينكن بأن "إسرائيل" باتت تتخبط سياسياً وغير متماسكة في وجه العواصف التي تنتاب مجلسها العسكري المصغر (الكابينت) وكأنها لم تعد تقوى على الصمود أكثر في وجه المقاومة التي تثبت دائماً بأنها كالفينيق الكنعاني إذ تخرج من تحت الرماد أشد عنفواناً.

فإنه بعد مرور 100 يوم على طوفان الأقصى وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها في مواجهات داخلية بين أعضاء مجلس الحرب المصغر (الكيبينت) بعد تشكيل لجنة تحقيق حول السابع من أكتوبر برئاسة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز وهو أحد أشد خصوم نتنياهو ضراوة، إذْ دعا إلى استقالة نتنياهو كون حكومته فشلت في إدارة هذه الحرب الصعبة فلم تحقق إيّاً من اهدافها على الإطلاق..

حتى أوهام النصر التي يحاول الناطق العسكري تسويقها تنهار عند إخضاعها للتحليل ليكتشف الإسرائيليون بأنها محض افتراء.

وذلك على نحو ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت عن اكتشاف مصنع صغير عالي التقنيات في أنفاق وسط غزة؛ تصنع بواسطته المقاومة الصواريخ التي تزيد مدياتها عن 100 كم، وما رافق ذلك من حملة إعلامية إسرائيلية مضللة.

ولكن عصف الأسئلة حول هذا المصنع المتطور وضع السردية الإسرائيلية في حيص بيص.

فكيف حصل هذا التطور في ظل غياب الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية؟

كيف يتم توزيع هذه الصواريخ الضخمة عبر الأنفاق إلى منصّاتها المنتشرة في انحاء قطاع غزة، ثم إطلاقها بزخم كبير لافت، رغم مزاعم جيش الاحتلال في أنه يبسط سيطرته على كامل القطاع؟

الا يثبت هذا الاكتشاف بأن المقاومة تصنع سلاحها بنفسها وتستغل حتى بقايا القنابل الإسرائيلية غير المنفجرة في إعادة تدويرها؟

وعلى رأي الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي يزاك بريك في مقال نشره بصحيفة هآرتس الإسرائيلية إن كبار مسؤولي المؤسسة الأمنية والعسكرية يريدون تصوير الحرب على أنها انتصار كبير قبل أن تتضح الصورة.

وقال إن "إسرائيل" تتعاون مع قنوات تلفزيونية مهمة لتحقيق "صورة النصر"، وأشار أن هذه الحرب قد تكون الأكثر توثيقاً من خلال التسجيلات المصورة في العالم بأسره.

إنها حرب عقول وإرادات تتفوق فيها المقاومة في حرب مرصودة وموثقة إعلامياً عبر الفضاء الرقمي على صعيد عالمي، حتى باتت المعلومة غير قابلة للتزوير والإيهام كما كان الأمر سائداً في الحروب العربية السابقة مع الاحتلال.

***

بقلم: بكر السباتين

10 يناير 2024

واجهت الديمقراطية، التي كثيرا ما يتم التهليل والترحيب بها باعتبارها جسرا للحرية والتناوب على الحكم، نصيبها الوافر من الانتقادات في السنوات الأخيرة بعد الربيع العربي.

إن فكرة الديمقراطية الهشة والنسبية باتت تتجاوز الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأن الدول الغربية، التي كثيراً ما تروج لنفسها باعتبارها نماذج ديمقراطية، تجسد حقاً المبادئ التي تدافع عنها. فضلا عن ذلك، هناك وجهات نظر مثيرة للجدل ومناورة في خلفيتها تشير إلى أن الديمقراطية قد لا تكون حلا سحريا مناسبا للكثير من الدول الفقيرة من العالم الثالث والعربي بالخصوص.

تتميز "نسبية" الممارسة الديمقراطية في الدول الغربية بتفاعل معقد بين الإطارات المؤسساتية والديناميات الاجتماعية والسياسية. وبينما تلتزم هذه الدول ظاهريًا بالمبادئ الديمقراطية، فإنها تكشف عن اختلافات في أنظمتها، وهياكلها الحزبية، ومشاركتها المدنية. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ، يثير المجمع الانتخابي والتلاعب في الدوائر الانتخابية تساؤلات حول التمثيل الحقيقي لإرادة الناخبين. ومن ناحية أخرى، تعكس الأنظمة البرلمانية الأوروبية توجهات مختلفة في التعامل مع التمثيل النسبي وبناء التحالفات. فضلاً عن ذلك فإن المخاوف بشأن تأثير المال في السياسة لا تزال قائمة في مختلف أنحاء العالم الغربي "الديموقراطي".

إن صعود الحركات الشعبوية قد شكل تحدياً للمعايير الديمقراطية التقليدية، الأمر الذي دفع إلى إعادة تقييم التوازن بين حكم الأغلبية وحقوق الأقليات. وضمن التعامل مع هذه الفوارق الدقيقة، تتصارع الديمقراطيات الغربية مع التوتر بين الحفاظ على المثل الديمقراطية العليا والتكيف مع التوقعات المجتمعية المتطورة، مما يسلط الضوء على الطبيعة النسبية للديمقراطية في هذه الدول.

تشترك التنمية الاجتماعية والممارسة الديمقراطية في علاقة تكافلية، مما يعزز النمو الشامل والمشاركة المدنية. ويكمن جوهر الديمقراطية في حرية الأفراد المسؤولة، وضمان مشاركتهم النشطة في عمليات صنع القرار.

في المقابل، ترتقي التنمية الاجتماعية عندما تدعم المبادئ الديمقراطية السياسات العامة ، وتعزز المساواة وتعميم التعليم والرعاية الصحية وغيرهما .

إن الديمقراطية القوية تعزز التماسك الاجتماعي، وتحد من الفوارق الطبقية، وتمكن الفئات المهمشة من خلق وسائل العيش الكريم. كما أن التنمية الاجتماعية تنشئ مواطنين واعين بحقوقهم ومشاركين أساسيين للحفاظ على ديمقراطية صحية وصحيحة .

إن الترابط بين التنمية الاجتماعية والديمقراطية أمر محوري في خلق مجتمع لا يستفيد فيه المواطنون من التقدم فحسب، بل يساهمون بنشاط وفير في تشكيل مستقبلهم الجماعي.

إن مفهومي الديمقراطية الهشة والنسبية يتجاوز الطرح المقبول على نطاق واسع المحيط بالديمقراطيات الغربية، ويحثنا على إجراء فحص نقدي للتناقضات بين المثل والممارسات الديمقراطية الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الطبيعة النسبية للديمقراطية في الدول الغربية تثير تساؤلات وثيقة الصلة حول فعالية ونزاهة أنظمتها الديمقراطية. فضلاً عن ذلك فإن الحجج القائلة بأن الديمقراطية قد لا تكون مناسبة للدول الفقيرة تتجاوز بعض المفاهيم المسبقة، وتدفع إلى إعادة تقييم العلاقة بين الديمقراطية والظروف الاقتصادية.

***

عبده حقي

 

ليتَ العراق لم يختر المثلث الصعب مكاناً، فلا يمر فارسٌ مِن الغرب إلى الشّرق، أو مِن الشّمال إلى الجنوب، إلا كان ساحةً للمبارزة، هكذا بالأمس واليوم كذلك. فترى أهل العِراق يتسننون ويتشيعون، حسب المتغلبين. نحتوا مِن هذا النّزاع كنايةً: «بيِن العجم والرُّوم بلوى ابتلينا» (العزاوي، العراق بين احتلالين)، وكان يُشار إلى الغرب بالروم، والشرق بالعجم.

لا تقف سنابك الخيل، القادمة من الأقاصي إلا ببغداد، فكم أطاح هولاكو (ت: 664هـ) بممالك، ومهد الجبال والوديان، وأخضع القلاع العصية، لكن لم يعلن استقلاله عن إمبراطورية أخيه، الخان الأكبر، إلا باجتياح بغداد. لهذا نقول: ليتها لم تكن عاصمةً، لنحو خمسمائة عام (145-656هـ)، وتزدهر على بقاع الأرض كافة، ثم تنتهي إلى حيث يتحكم بسلمها وحربها ولائيون لغيرها.

كان العراق وما زال مقصداً، فعندما جرى التفكير بشرق أوسط جديد، اُقترح أنْ تكون البداية خرابه، بعد حروب وحصارات جائرة، وما أثمره الغزو مِن مبكيات، وكان الغزاة جيوشاً وفصائل عقائديَّة، وبعدما صعب غلق الكارثة، ظهر أقطاب الغزاة يعتذرون، ولعبد الله البردوني (ت: 1999) بيتٌ يُغني عن المقال، قاله في كارثة، ما زال يئنُ مِن آثارها أهل عدن ولواحقها، ألا وهو يوم (13 يناير 1986): «ماذا أُسمّي ما جرى؟ حرفاً ولكن صار فعلاً/ الفاتحو باب الرَّدى/ لا يملكون الآن قفلا» (ديوان كائنات الشّوق الآخر/ فنقلة النَّار والغموض).

كان غزو العراق فاتحةً لموتٍ أحمر (لغزارة الدِّماء)، لا يملك أحدٌ غلق بابه، صفقنا له تحت إغراء «العراق الجديد»، وبدافع نظام لم يترك نافذةَ أمل. غير أنَّ العجب، رئيس مليشيا، دخل بفضل فاتحي باب الرَّدى، يتحدث وكأنه يملك رقاب الثلاثين مليون عراقي، لا يهمه ذبحهم قَرابين لعقيدته! يقول أحد فاتحي باب الرّدى، عابري الجغرافيا وحدود الدُّول، مِن ملجئه الحصين: صحيح، تُعرّض المقاومة شعوبها للمخاطر، لكنَّ العقيدة تستحق التّضحية! فلا وجود في عرفه لحكومات ووزارات دفاع تُقدر مصالح أوطانها وشعوبها!

بذلك التصريح وغيره يحبس العراقيون أنفاسهم، مستسلمين لمصائرهم، فطوال عشرين عاماً، مَن شبَّ فيها ومَن شاب، تعايشوا مع الأزمات والكوارث، حتَّى صار الموت عندهم بلا قتال ولا تفجير ولا اختطاف ولا اغتيال، رحمةً. لأبي الطّيب (قُتل: 354هـ)، وإن كان مِن المدائح: «كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِياً/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا» (الدِّيوان، قالها 346هـ، في كافور الإخشيدي).

أقول: يحبس العراقيون الأنفاس هذا العام (2024)، وكلَّ عام، يأملونه عاماً جديداً، استهل بحرب التّصريحات النارية والطائرات المسيرة. فهل سيعاد غزو العراق، والغزو فيه منذ (2003) غزوان، شرقاً وغرباً، مع اختلاف الشّكل. نحو سبعين فريقاً مسلحاً، صارت معسكراتها عواصم ليس لبغداد يدٌ عليها، وقواعد كبرى، ترى أنها صاحبة الفضل في وجود مَن يريد الانفراد بالغنيمة، بينما حكومتها تنتظر الرّحيل، لا تؤخذ كلمتها على محمل الجد، مِن قِبل الطَّرفين، فمَن لا يملك الأمر والمشيئة لتحرير مختطفٍ، هل يُطيعه قائد مليشيا أو آمر قاعدةٍ؟!

هذا، ولأن الحَجاج بن يوسف الثّقفي (ت: 95هـ) كان قد فتح باب الرَّدى، وأبقاه مشرعاً بعد موته، استعفى يزيد بن المُهلَب (102هـ) مِن إمارة العراق عندما كُلف بها. قال أبو جعفر الطَّبري (ت: 310هـ): «إن يزيدَ نظر لما ولاه سليمان، ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إنَّ العراق قد أخربها الحجَّاج، وأنا اليوم رجاءُ أهل العراق، ومتى قدمتها، وأخذت النَّاس بالخراج، وعذبتهم عليه، صرتُ مثل الحجَّاج، أدخل النَّاس الحرب، وأعيد عليهم تلك السُّجون» (تاريخ الأمم والملوك). كان ابن المُهلب بهذا الاستعفاء حكيماً، لكن ما رأيناه بعد (2003)، صار طلب الإمارة، بلا أمرٍ ونهيٍ، كالمتمني: «يَا حَبَّذَا الإمارَةُ ولَوْ على الحِجَارَةِ» (الميدانيّ، مجمع الأمثال).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كسرت حكومة جمهورية جنوب أفريقيا الصمت الحكومي الدولي والموقف المخجل للحكام العرب تجاه الجرائم النكراء لحكومة الصهيوني الفاشي نتنياهو،المدعومة عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً من قبل الإدارة الأمريكية  والإتحاد الأوربي، وبادرت مشكورة الى تقديم دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، متهمة إياها بإرتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وطالبتها بإصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، في حملتها على سكان غزة. وإتخاذ تدابير عاجلة مؤقتة من أجل حماية المدنيين من أي ضرر إضافي جسيم وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وقد أقامت جنوب أفريقيا الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بإعتبارها هي المكلفة بالتحقيق في قضايا جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان ، ومحاكمة مرتكبيها أو من أمر بها أو شارك فيها أو حرض عليها. والمحكمة واحدة من الأجهزة القضائية الرئيسية الستة للأمم المتحدة.

وتألفت لائحة الأتهام من 84 صفحة،أعدها خبراء دوليون في الإبادة الجماعية، وبالإستناد الى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإبادة الجماعية النافذة، ويتمثل جوهر الإتهام بإرتكاب إسرائيل عمداً أفعال الإبادة الجماعية ضد سكان غزة.وتضمنت اللائحة عدة محاور،في مقدمتها حجم القتل العمد والتدمير.

وأكدت صحيفة "الغارديان" بان الدعوى القضائية لجنوب أفريقيا مبنية على أدلة قوية وموضوعية تدين إسرائيل بإرتكابها للأبادة الجماعية في غزة.

وقد أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها ستعقد جلستي استماع علنيتين يومي الخميس والجمعة القادمين(11 و12 كانون الثاني الجاري) في مقرها في لاهاي، بخصوص الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29/12/ 2023، المتعلقة بالوضع في غزة. وأوضحت بان يوم الخميس سيكرس للإستماع الى  مرافعة جنوب أفريقيا الشفهية. فيما ستقدم إسرائيل مرافعتها الشفهية يوم الجمعة..

الأبادة الجماعية والأمم المتحدة

قانونياً، تُعرفُ الإبادة (Extermination) بأنها القتل المتعمد الجماعي لمجموعة كاملة من الناس، وهي تعتبر من ضمن الجرائم ضد الإنسانية. أما الإبادة الجماعية ( Genocides)، فتُعرفُ بأنها الفظاعات التي ترتكب أثناء الحرب أو العدوان، على أساس عرقي أو ديني أو سياسي.

وقد عرفتها المادة الثانية من "اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية"(1948) وكذلك "نظام روما الأساسي"(1998) المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، بأنها(الإبادة الجماعية) أي فعل "يرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة على أسس قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية".وتشمل هذه الأفعال- بحسب التعريف المذكور:  قتل البشر(الجماعة)، وإلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأفراد الجماعة، وإلحاق الأضرار بظروفهم المعيشية بشكل متعمد بهدف الإبادة الفعلية،كلياً أو جزئياً. ومنع الولادات في هذه الفئة السكانية، والإبعاد القسري للأطفال.

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد أعلنت بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11/12/ 1946، أن الإبادة الجماعية هي إنكار لحق وجود مجموعات بشرية بأكملها، لأن القتل هو إنكار حق الفرد في العيش. وإن هذا الحرمان من حق الوجود يصدم ضمير البشرية، ويتعارض مع القانون الأخلاقي وروح الأمم المتحدة وأهدافها. لذلك، تؤكد الجمعية العامة على أن الإبادة الجماعية هي جريمة بموجب القانون الدولي، سواء ارتكبت لأسباب دينية أو عنصرية أو سياسية أو لأي سبب آخر.وهي جريمة تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، ويدينها العالم المتمدن.

وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية،ون تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلب تعاوناً دولياً.ومن هذا المنطلق إعتمدت الجمعية العامة "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" في 9/12/ 1948، والتي دخلت حيز التنفيذ في 12/ 1/ 1951.

وأوضح جاك نوسان بورتر، عالم اجتماع أمريكي أوكراني (1982) : ان الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمد، كليًا أو جزئيًا، من قبل الحكومة أو عملائها، لأقلية عرقية أو جنسية أو دينية أو قبلية أو سياسية. ولا يشمل التعريف القتل الجماعي، فحسب، بل ويشمل أيضاً المجاعة والترحيل القسري والإخضاع السياسي والاقتصادي والبيولوجي. وتنطوي الإبادة الجماعية على ثلاثة عناصر رئيسية: الإيديولوجيا والتكنولوجيا والبيروقراطية / التنظيم.

وأكدت فاليري غابارد، خبيرة القانون الدولي في لاهاي: في السياق القانوني، فإن التعريف دقيق للغاية وغير فضفاض.وأوضحت بان تحديد الإبادة الجماعية لا يتعلق بالأرقام، وإنما المعيار الأكثر أهمية هو نية الإبادة الجسدية لمجموعة ما..

من جرائم إسرائيل

شهد التأريخ الحديث إرتكاب دولة الاحتلال الإسرائيلي،منذ قيامها في 15/5/ 1948، وحتى اليوم، لعدد كبير من الجرائم البشعة والمجازر الدموية بحق الشعب الفلسطيني، أغلبها ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية، حيث عملت العصابات الصهيونية على إبادة وتقتيل وتهجير قرى وبلدات فلسطينية كاملة، وأحلت محلها تجمعات لمستوطنين يهود جلبتهم من أنحاء العالم.

من أبرز الأمثلة على جرائم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ما وقع في حرب 1948 وحرب 1967، ومذابح صبرا وشاتيلا ودير ياسين والطنطورة وخان يونس وكفر قاسم والحرم الإبراهيمي ومخيم جنين.

وأمعنت في الإبادة الجماعية للفلسطينيين في سلسلة من الجرائم  التي ارتكبتها في قطاع غزة في سنوات 2008 و2009 و2012 و2014 و2021،. والمعروف ان كل تلك الجرائم مرت دون عقاب..

وفي تشرين الأول 2023 شن الجيش الإسرائيلي حرباً همجية على قطاع غزة، مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقتل خلالها حتى اليوم أكثر من 24 ألف فلسطينياً، يشكل الأطفال والنساء الثلثين، وأصاب  اكثر من 62 ألف اَخرين. وارتكب مئات المجازر في الأحياء السكنية وفي المدارس وحتى في المستشفيات.

وقد أعلن المرصد الأورومتوسطي أن نحو 4% من إجمالي سكان قطاع غزة(أكثر من مليونين) باتوا في عداد القتلى أو المفقودين أو الجرحى، جراء القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي على القطاع.،وان كثر من 1.9 مليون فلسطيني نزحوا من مناطق سكنهم في القطاع دون توفر أي ملجأ آمن لهم.

وبشأن الأطفال،أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إن أكثر من مليون و 100 ألف طفلآ في غزة يواجهون تهديدا ثلاثيا قاتلا يتمثل في زيادة تفشي الأمراض وسوء التغذية وتصاعد الأعمال القتالية.  وأضافت أن آلاف الأطفال في غزة لقوا مصرعهم بالفعل، فيما تتدهور بشكل سريع الظروف المعيشية للأطفال الآخرين، مع انتشار حالات الإصابة بالإسهال والهزال، بما يزيد مخاطر وفاة مزيد من الأطفال.

وتشعر اليونيسف بالقلق بشكل خاص بشأن تغذية أكثر من 155 ألف امرأة حامل وأم مرضعة وما يزيد عن 135 ألف طفل دون سن الثانية، نظر لاحتياجاتهم الغذائية الخاصة وضعفهم.

وحذر منسق الشؤون الانسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث من أن قطاع غزة لم يعد مكانا صالحا للعيش، بعد أن دمره القصف الإسرائيلي الكثيف. وقال: بعد ثلاثة أشهر من القصف باتت غزة مكانًا للموت واليأس، ويواجه سكانها تهديدات يومية على مرأى من العالم.

وقال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، من أمام معبر رفح، أن "العقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين يرقى إلى جريمة حرب، مثله مثل الإخلاء القسري غير القانوني للمدنيين.

وكانت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، رانشيسكا ألبانيز، قد حذّرت من تحوّل الصراع في غزة إلى "إبادة جماعية".

وفي 28/ 10/ 2023، قدم كريغ مخبير، مدير مكتب نيويورك لمفوضية الامم المتحدة السامية لحقوق الانسان (HCDH)  استقالته،ووصف ما يحدث في قطاع غزة وما يقوم به الجيش الاسرائيلي هناك: ‘مرة أخرى تحدث أمام أعيننا إبادة جماعية ومنظمتنا لا تستطيع ايقافها .

وفي 16/11/ 2023 دعا 36 خبيراً في الأمم المتحدة المجتمع الدولي الى منع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ووصفوا تصرفات إسرائيل منذ 7/10/2023، بأنها إبادة جماعية قيد الإعداد.

إستنفار إسرائيلي

رداً على الدعوى القضايا لجنوب أفريقيا ضد جرائمها، وخوفاً من تداعياتها،أعلنت حكومة المجرم نتنياهو حالة الإستنفار لمواجهة إدانتها بجريمة الإبادة الجماعية أمام المحكمة الجنائية الدولية.ووضعت خطة طارئة لأحباط الدعوى، بضمنها تعيين 4  محامين خبراء، من بينهم خبير النزاعات الأقليمية البريطاني مالكولم شو. وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعليمات عاجلة لسفاراتها طلبت منهم حشد ضغط دولي على الدبلوماسيين والسياسيين في البلدان المضيفة لهم لإصدار بيانات ضد "ملف جنوب أفريقيا".وجاء في التعليمات المسربة: ليكن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل هو أن ترفض المحكمة طلب إصدار أمر قضائي، والامتناع عن تحديد ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، والترويج بأن الجيش الإسرائيلي يعمل في القطاع وفقا للقانون الدولي(كذا !!!)..

من جهته،اعتبر البيت الأبيض أنّ الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل وتتهمها بارتكاب إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة: "لا أساس لها"، وأنه "لا يرى أي أعمال إبادة جماعية في غزة".وقال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إنّ "هذه الدعوى لا تستند إلى أيّ حقائق".وأضاف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر في مؤتمر صحافي اعتيادي: "هذه مزاعم يجب التحقق منها بعناية... نحن لا نرى أي أعمال تشكل إبادة جماعية"...

هكذا، وبكل إستهتار، تتجاهل إدارة الرئيس المختل عقلياً بايدن جرائم الإبادة الجماعية التي إرتكبتها وترتكبها ربيبتها إسرائيل عبر مئات المجازر الدموية بحق الفلسطينيين، والتي شاهدها ملايين الناس في أرجاء العالم، وأدانوها.

***

د. كاظم المقدادي

الحروب يخوضها العسكريون ولكن قرار إعلانها وخوضها، أيضا المفاوضات حول إنهائها والترتيبات على الأرض بعد الحرب هو قرار سياسي بامتياز بمشاركة العسكريين، وهو قرار يحتاج الى درجة كبيرة من العقلانية والابتعاد عن العواطف وقد يضطر العسكريون للتنازل بعض الشيء عن طموحاتهم وكبريائهم العسكري من اجل المصلحة الوطنية.

منذ سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007 وحصاره وتوالي موجات العدوان والحرب حتى حرب الإبادة الراهنة ونحن نتحدث ونكتب محذرين من مخطط صهيوني هدفه إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة وتكريس فصل غزة عن بقية الوطن وحتى تقول إسرائيل للعالم إنها تتعرض لتهديد وجودي من صواريخ وأنفاق وكتائب حماس والمقاومة المحتشدة على حدودها الجنوبية وبالتالي لها الحق في الدفاع عن نفسها، وتحت شعار وذريعة الدفاع عن النفس تمرر كل مخططاتها في فلسطين وفي المنطقة، وما زاد الأمر تعقيداً العلاقات القوية بين حركتي حماس والجهاد من جانب وإيران ومحور المقاومة من جانب آخر.

من مفارقات هذه الحرب التي حركت وحرضت العالم ضد دولة الكيان الصهيوني بحيث تعم المظاهرات كل المدن عبر العالم وتم عقد عدة اجتماعات دولية في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وطرحت كل هذه الجهات مقترحات وتصورات لمواجهة العدوان وحلول مقترحة لوقفه وسيناريوهات لإدارة القطاع ... ومع ذلك لم نسمع عن أي اجتماع أو مجرد لقاء تشاوري بين الفصائل الفلسطينية وهي المفترض أنها تمثل الشعب الفلسطيني، لا على مستوى استراتيجية توحيد الجهود لصد العدوان ولا على مستوى الاتفاق على مستقبل القطاع ومن يديره بعد الحرب.

لن نجدد الجدل حول تفرد المنظمة بقيادة الشعب وتمثيله وموقف حماس من الموضوع منذ أن ظهرت في الثمانينات كبديل عنها وما زال الجدل محتدماً حتى اليوم، وكلما حدثت مواجهة أو حرب بين إسرائيل وحماس كلما ابتعدت فرص المصالحة وتراجعت إمكانية انضواء حماس وحركة الجهاد في المنظمة.

حتى مع التسليم بأن المنظمة تمثل الشعب قانونياً وشرعياً فإن هذه الصفة لم تبرز أو تثبت حضورها عملياً على أرض الواقع لا في الضفة المحتلة ولا في غزة التي تتعرض للإبادة الجماعية حتى حضورها شبه غائب في التحركات العربية والدولية حول مجريات الحرب ومستقبل القطاع، ليس فقط لأن المنظمة غير راغبة في ذلك أو لأنها ضعيفة بل أيضا لأن هناك محاولات مقصودة لإبعادها عن الموضوع، وهو الأمر الذي يجعل إمكانية عودتها لحكم قطاع غزة دونه صعاب كثيرة وخصوصاً أن حماس لن تسمح لها بذلك، أيضاً إسرائيل التي لن تسمح إلا إن كان عودة السلطة والمنظمة لغزة مقابل إنهاء وجودها في الضفة والقدس.

أما بالنسبة لحركة حماس وفصائل المقاومة في غزة ومع تقديرنا لملاحم البطولة في التصدي لجيش الاحتلال إلا أن التباساً يشوب خطابها السياسي حول الحرب بشكل عام ومفهوم وشكل النصر الذي تسعى له وحول مستقبل القطاع بعد الحرب، وتصريحات بعض قادتها تربك المشهد أكثر فأكثر كحديث البعض أن حماس وفصائل المقاومة وأهل غزة جاهزون ومستعدون لمواصلة الحرب لأشهر وسنوات حتى آخر طفل ورجل في القطاع! ولا ندري إن كانت الجيوش والحكومات وحركات المقاومة وجِدت من أجل الدفاع عن الشعب وحمايته والتضحية من أجله أم أن الشعب وجِد من أجل حماية الأنظمة والحكومات وحركات المقاومة، وفي حالة القضاء على الشعب وتدمير كل مقدراته فما قيمة وفائدة أي انتصار؟ أيضاً حديث بعض قادة حماس بأن الحركة لن تقبل بوجود أية سلطة فلسطينية لحكم غزة بعد الحرب إلا سلطة حماس.

صحيح أن حركة حماس لن تختفي من المشهد السياسي بغض النظر عن نتائج الحرب، ولكن استمرار تمسكها بحكمها لغزة بعد الحرب معناه استمرار الحصار وتحكم إسرائيل إعادة الاعمار بل حتى منع دخول متطلبات الحياة اليومية من دواء وتجهيزات طبية وغذاء ووقود واصلاح شبكات الكهرباء والمياه مما سيجعل الحياة بعد الحرب لا تقل قساوة عن حالة الحرب، وهو الأمر الذي يتطلب سلطة محلية مقبولة دولياً وعربياً لإدارة القطاع بعد الحرب.   

هذه الجولة من الحرب وإن كان مركز ثقلها وقوتها التدميرية في القطاع إلا أنها جزء من استراتيجية صهيونية أوسع تهدف لتدمير المشروع الوطني التحرري وتصفية القضية الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وفكرة حل الدولتين أيضا كل شكل من أشكال المقاومة سواء كانت حمساوية أو غيرها، كما أنها حرب لا تنفصل عن مخطط صناعة الانقسام ودولة غزة وتكريس كيان في غزة منفصل عن الكل الوطني الفلسطيني، وبالتالي فإن مواجهتها تتطلب رداً من الكل الفلسطيني وعدم الوقوف في انتظار نتائج الحرب ، ونتمنى تغليب العقل الجمعي الوطني حتى لا تذهب هباء دماء أبناء غزة وعذاباتهم وهذا التعاطف والتأييد الشعبي المتعاظم عالمياً ليس لغزة والمقاومة فقط بل لكل القضية الوطنية الفلسطينية.

وبالعودة لغزة ما بعد الحرب، فبالرغم من عدم معرفة ما الذي يخطط له نتنياهو بالضبط ومتى تنتهي هذه الجولة من الحرب بالفعل، وما إن كانت نهايتها بتهجير أهل القطاع أو الاكتفاء بما جرى، فمن الضروري وطنيا التفكير بكيفية إدارة قطاع غزة بعد خروج جيش الاحتلال وعدم ترك الأمر للمخططات الإسرائيلية والأمريكية.

ومع تقديرنا للمنظمة والسلطة وحركة حماس وفصائل المقاومة إلا أن صعوبة تعقيدات المرحلة والكرب الشديد الذي يعانيه أهل القطاع يتطلب درجة كبيرة من التعالي على الجراح ووضع المشاحنات الحزبية جانبيا ولو مؤقتا لإنقاذ أهل القطاع من التصفية وضمان ثباتهم على الأرض.

ونقولها بصراحة لا يجوز لمن لم يستطيع حماية الضفة والقدس من الاستيطان وعربدة المستوطنين أن يحكم قطاع غزة منفردا وخصوصا إن كانت عودته لغزة بشروط إسرائيلية وعلى حساب التخلي عن الضفة والقدس، وليس من حق من شارك في الانقسام وفصل غزة عن الضفة وتسبب بكل هذه الحروب المدمرة على غزة أن يعود لحكم القطاع. قطاع غزة يحتاج في هذه المرحلة وبشكل مؤقت أن يكون منزوع السلاح تديره حكومة محلية غير حزبية ترتبط فيدراليا بالدولة والسلطة الفلسطينية، إدارة قادرة على التعامل مع كل الأطراف المحلية والعربية والدولية وحتى الإسرائيلية لإنقاذ ما تبقى من الشعب والأرض.

***

د. ابراهيم ابراش

 

على مدى  عام ونصف، ابتعدت أوروبا بسرعة عن روسيا، وبنت جدرانًا حجرية في الدبلوماسية،  وأقامت أسوارًا حقيقية على الحدود، ولكن بشكل غير متوقع بدأت التفاوض مع موسكو، وقد تم اتخاذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، وهي تبدو مثيرة للإعجاب، وكان أول حدث عام بمشاركة دبلوماسي روسي تحت العلم الروسي في أوروبا، بنتيجة إيجابية هو لقاء رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو مع السفير الروسي إيجور براتشيكوف، وقال رئيس الحكومة السلوفاكية عقب الاجتماع إن على براتيسلافا، الاستعداد لفترة ما بعد انتهاء الصراع في أوكرانيا و"توحيد العلاقات مع روسيا"، بيان قوي، إذا كان القدر أن سلوفاكيا كانت مؤخرًا في طليعة الحركة المناهضة لروسيا في أوروبا.

وبالنظر إلى النتائج التي بدأت تظهرها القوى السياسية المحافظة في أوروبا، فإن الوضع في الاتحاد الأوروبي قد يتغير في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام، وبشكل خاص، يتقدم اليمين بالفعل في استطلاعات الرأي في ألمانيا، ويحظى بدعم واسع النطاق في فرنسا، ويُظهِر إمكانات انتخابية عالية في الدول الاسكندنافية، فضلاً عن ذلك فقد فازت القوى المحافظة بالفعل بالانتخابات في إيطاليا، ومن المدهش تماماً أن فازت في هولندا، الدولة "اليسارية" تقليدياً، وتتغير أوروبا كثيرًا، والخطوات الأولى نحو روسيا بهذا النظام المحدث أصبحت ملحوظة بالفعل.

إن وحدة أوروبا - الخيالية والحقيقية - لم تنهار بعد، لكن الإجماع الذي فرضته بروكسل أصبح مرفوضا بالفعل، فأوروبا التي  تشبه الامرأة العجوز ومريضة،  تعذبها الكوابيس في الليل والأخبار السيئة أثناء النهار، وإنها تتوق إلى سلامها السابق وراحتها المفقودة،  وإنها منزعجة من السياسيين الفارغين والشعارات الكاذبة، وقد سئمت من جحافل المهاجرين، والدعوات لمساعدة أوكرانيا وكبح جماح روسيا، وتريد هذه السيدة أن يتم العثور على الأشخاص الذين يمكنهم وضع حد لهذا الهرج والمرج واستعادة النظام، وربما تعتقد السيدة العجوز في أوروبا، أنه في العام الجديد سيكون لديها مخاوف أقل وستتحسن صحتها، وفي هذه الأثناء، لا يمكنها الاستغناء عن الأدوية "الصحيحة".

التغييرات تحدث بالفعل، وهي مذهلة، ويظهر المزيد والمزيد من السياسيين اليمينيين، وهم أشخاص حاسمون لديهم وجهات نظر حول موضوع اليوم، إنهم يدفعون جانباً القادة السابقين، ويكسبون المؤيدين بنشاط، فقد بدأ كل شيء مع رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي يشبه بركاناً هائلاً في وسط أوروبا، وينتقد أوربان شركاء الاتحاد الأوروبي، بسبب سياسات الهجرة الفاشلة التي أغرقت القارة بالوافدين الجدد المضطربين من آسيا وأفريقيا، وهو لا يتقبل موقف الغرب من الصراع في أوكرانيا، والذي أدى إلى القطيعة السياسية والاقتصادية مع روسيا، وهو ضد المواجهة الخطيرة معها، ومع ذلك، فإن أوربان ليس مدمرا، بل هو منافس على زعيم الإصلاح، ويصر على أنه لا يزال يرى المجر جزءًا من الاتحاد الأوروبي، ويريد مواصلة التعاون مع قيادته، لكن مع قيادة جديدة، لأن القديمة، التي ارتكبت الكثير من الأخطاء، فقدت مصداقيتها، وحان الوقت لمغادرة المشهد السياسي.

ومحاولات توجيه أوربان على "الطريق الصحيح" لن تؤدي إلى أي شيء، علاوة على ذلك، فإن انزعاجه يتزايد، ولم يعد يختار الكلمات، وقد اعترف مؤخراً بأنه سئم بالفعل من استمرار الاتحاد الأوروبي، الذي يحشر أنفه في كل مكان، ولذلك فهو يعتزم السعي إلى إجراء تغييرات في قيادة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يأمل أن يحدث في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو من العام المقبل، وإن خطاب أوربان الاتهامي لا يهز أوروبا فحسب، بل إنه ينشط أيضا قوى الاحتجاج في بلدان أخرى، وهذه هي النتيجة - تلقى "المتمردون" المجريون الدعم من الزعيم الجديد لسلوفاكيا روبرت فيكو، الذي يشاركه آرائه إلى حد كبير، كما أنه يعارض استمرار العقوبات ضد الاتحاد الروسي، ويعتقد أنه من الضروري إقامة علاقات بناءة مع موسكو، واعرب فيكو مؤخرا  في مقابلة مع موقع InfoVojna، عن ثقته في أن روسيا لن تترك شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك، ودعا الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، لأن هذا لا يؤدي إلا إلى وقوع ضحايا لا داعي لها ويظهر أن الغرب ينوي القتال حتى آخر الأوكراني،  ولا يُعتقد أن "انشقاق" أوربان وفيكو من الممكن أن يؤدي إلى تدمير الاتحاد الأوروبي، لكن تصريحاتهم تؤدي إلى «تآكل» أسس «التضامن الأوروبي»

وفي سويسرا فاز حزب الشعب المحافظ اليميني (SVP)، والذي يعتبر من المتشككين في أوروبا، في الانتخابات البرلمانية السويسرية، ويدعو زعيمه ماركو كييزا إلى الحد من الهجرة، وينتقد انضمام البلاد إلى العقوبات ضد روسيا، وفي رأيه أن هذا ينتهك مبدأ الحياد التقليدي للبلاد (منذ عام 1815!) ، ولا داعي لسويسرا الهادئة والهادئة، وهي ليست أيضاً جزءاً من الاتحاد الأوروبي، التورط في صراع بعيد كل البعد عن ذلك بالمعنى الحرفي والمجازي، وإن الرغبة في مواكبة الاتحاد الأوروبي، تتسبب بالفعل في ضرر ملموس - فقد ارتفعت أسعار الطاقة بشكل ملحوظ بسبب العقوبات، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تخضع السياسة السويسرية لتغييرات كبيرة، فممثلو حزب الشعب السويسري، كما كان الحال من قبل، لديهم ممثلان في الحكومة - وزير الاقتصاد والتعليم والعلوم ورئيس قسم حماية البيئة والنقل والطاقة والاتصالات.

ويحدث شيء مماثل في هولندا، حيث فاز حزب الحرية (PVV) بالانتخابات البرلمانية هناك، ويدعو زعيمها خيرت فيلدرز إلى "صفر" هجرة، ويرى أنه من الضروري منع المساجد والقرآن والحجاب الإسلامي في المباني الحكومية، وهدف آخر للحزب هو خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، واستعادة الضوابط الحدودية على الحدود المفتوحة حاليًا للبلاد داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك لمنع الضيوف غير المدعوين من آسيا وإفريقيا من دخول هولندا،  وبالإمكان  أضافة  إلى هذا أن فيلدرز، يدعو إلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا، وبعبارة ملطفة، لا يوافق على توريد الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ولكن مرة أخرى، فإن انتصار حزب الحرية لن يغير المناخ السياسي في هولندا، وخاصة في أوروبا.

لكن صعود نائبة البوندستاغ سارة فاغنكنشت، يمكن أن يغير هذا المناخ، وأعلنت بشكل حاسم مؤخراً في مؤتمر صحفي في برلين: "لدينا أسوأ حكومة في تاريخ ألمانيا، وقررنا تأسيس حزب جديد، لأن الطريقة التي تسير بها الأمور الآن لا يمكن أن تستمر"، والملايين من الألمان، ذوي وجهات نظر مختلفة، يتفقون مع هذه السمراء المتحمسة، المولودة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والعضو السابق في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (المشابه للحزب الشيوعي السوفييتي)، وهذا أمر مفهوم - فالأهداف التي أعلنها فاغنكنشت، الملقبة بـ "الستاليني" و"الغضب الأحمر"، قريبة من الجميع، وهذا يحد من هيمنة الاهتمامات الكبيرة، ويضمن المنافسة العادلة، ويزيد الأجور والمعاشات التقاعدية في المظهر، والسياسة - رفع العقوبات المفروضة على روسيا والمدمرة للاقتصاد الألماني، ووقف إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا.

وتريد فاغنكنشت أن يعيد إلى الألمان ألمانيا البطريركية النظيفة والهادئة، وأن ينقذهم من الخطر الذي يشكله "الضيوف" الداكنون غير الحليقين، وإنها متطرفة فيما يتعلق بالمهاجرين، فهي تعتزم وقف تدفقهم بالكامل، وبرأيها  "اليوم يجب أن تكون الرسالة إلى العالم هي: ألمانيا مكتظة، ولا يوجد مكان في ألمانيا، ولم تعد ألمانيا مستعدة لتكون الوجهة الأولى".

وبات اسم عضوة البرلمان الألماني، اليسارية سارة فاغنكنشت، مصدر سعادة في روسيا، بعد أن تزايدت دعواتها لوقف العقوبات ضد موسكو، والعودة إلى تدفق الغاز الروسي نحو بلادها، ما يصب في صالح تعزيز رهانات الكرملين على الزمن لتغيير المزاج الشعبي الأوروبي والغربي لوقف دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً، وأشارت الاستطلاعات إلى أن فاغنكنشت، الأكثر شعبية بين اليساريين، تحتل المرتبة الثالثة عن أكثر السياسيين شعبية في ألمانيا ككل، وهو ليس بمؤشر هيّن للطبقة السياسية التقليدية.

ولن تكتمل اللوحة الملونة التي تحتوي على صور "المتمردين" الأوروبيين بدون صورة ما توصف به  "عميل الكرملين" الرومانية، وهو اسم السيناتورة ديانا شوشوكي، التي تترأس حزب SOS رومانيا، والجمعية نفسها غير واضحة وليست ذات تأثير كبير، ولكن يا لها من قائدة! غالبًا ما تعطل ديانا الممتلئة والصاخبة التدفق الرتيب لاجتماعات البرلمان الروماني بتصريحاتها، و شوشوكي هو "الخروف الأسود" في صف من السياسيين الذين ينفذون دون أدنى شك الأوامر القادمة من واشنطن وبروكسل، وهي، على العكس من ذلك، تتصرف بشكل مخالف لهم، وتدعو  إلى خروج رومانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحتج على المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وتوجه اتهامات غاضبة لزعيمها زيلينسكي،  وشوشوكي غاضبة من الموقف العدائي لسلطات الاستقلال تجاه ممثلي الأقلية الرومانية والحظر السخيف على استخدام لغتهم الأم.

وعندما كان رئيس أوكرانيا، في بوخارست، يعتزم إلقاء خطاب في البرلمان الروماني، قدمت احتجاجا قاطعا، ووصفته بأنه "مجرم، وخائن لشعبه، ونازي"، ووعدت بأنه إذا ظهر زيلينسكي فسوف تضربه بشدة، وبعد هذا التهديد، ألغى الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس اجتماع البرلمان، إما أنه كان خائفًا من أن تفي شوشوكي المصممة بوعدها، أو أن زيلينسكي نفسه أصبح خائفًا، فهذه المرأة لها وزن سياسي كبير!

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

(بين موشيه زيمارمان وتيلر كوين)

لن يكون السؤال صعبا. ولن يكون أيضا مثار تناذر واهتياج، من قبل الباحثين في علم الاجتماع السياسي. فالقضية أثمرت خلال الشهرين الأخيرين من عمر العام 2023، انشغالات جديدة في تسيير البنى الصراعية لمفهوم سلطة الاحتلال والقوة. إذ منذ انطلاق عملية المقاومة الفلسطينية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، أعيدت صياغة أو تقييم "الصهيونية" كحركة يهودية، التي يعتبرها أنصارها " حركة تحرير وطنية لإعادة شعب مضطهد مقيم كأقليات في مجموعة متنوعة من الدول إلى وطن أجداده"، مؤلبة ضمير العالم ضدها، بعد تقليب تاريخ المعاناة (الاضطهاد) إلى ما يشبه محاكاة "الهولوكوست" الألماني بما تعززه آليات الفتك الإسرائيلية في قطاع غزة، وما ينتج عن هذا التقليب من جنوح إلى فرز حقائق مطمورة للتاريخ وملاحقته وتنميطه.

لقد تابعت بشغف كبير خلال أسبوع واحد من استمرار تفكك نظرية الصهيونية وانحسار تمدد هويتها القومية، رأيان قويان في منجز الفكر الغربي والإسرائيلي على السواء. الأول للمؤرخ الإسرائيلي موشيه زيمارمان، والثاني للمفكر الأمريكي تيلر كوين. وهما معا يجسدان وحدة ذاتية رمزية في الصراع التدميري الحالي الذي يتم تنفيذه في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

موشيه زيمارمان الذي يشغل كرسي مركز ريتشارد كوبنر مينيرفا للتاريخ الألماني في الجامعة العبرية في القدس، منذ العام 1986، هو من بين أهم الأكاديميين الإسرائيليين المهتمين بالتاريخ الاجتماعي لألمانيا في القرنين الثامن عشر والعشرين، بالإضافة إلى تاريخ اليهود الألمان ومعاداة السامية. وقد تمت محاكمة زيمرمان مرات عديدة لاتهامه بالتشهير في أعقاب التعليقات التي أدلى بها في عام 1995 بشأن المقارنات التي يعتقد أنه قد يتم إجراؤها بين المستوطنين في الخليل والشباب النازي، في أعقاب مذبحة الحرم الإبراهيمي لباروخ غولدشتاين، لكن الدعاوى القضائية المرفوعة ضده سقطت جميعها. يقول زيمارمان (في في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” العبرية)، إن عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي "كشفت فشل الإيديولوجية الصهيونية". وهو رأي ناذر لصوت أكاديمي مرموق في صفوة النخب الفكرية الإسرائيلية. والأخطر في تفكير المؤرخ زيمارمان، أنه يعتبر حركة حماس قوة حاسمة، وأزاحت الستار عن وهم "إسرائيل التي لا تقهر"، مؤكدا أن "إسرائيل فقدت الأمن منذ 7 أكتوبر"، حيث "دمرت إحساس الإسرائيليين بالأمن".

يعيد الأكاديمي الإسرائيلي قراءة تاريخ الصهيونية، تأسيسا على الأهداف والوظائف التي تقوم عليها وتنهض بها. ويقول، "إنه إذا كان الهدف من تأسيس الصهونية هو تخليص اليهود في الشتات من الوضع الذي كانوا فيه (اضطهاد النازيين لليهود)"، فإن "هجوم حماس في 7 أكتوبر كان بمثابة نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، وهو ما يفضي بداهة إلى “كشف فشل الإيديولوجية الصهيونية”..

 هذا التوجه يدحض نظرية بنجوريون الذي كان يؤمن بأنه "من كان مؤمناً فيجب أن يعيش في إسرائيل، وكل يهودي يعيش خارجها فلا إله له"، وهو ما يشبه إلى حد بعيد زعوم الحق الإسرائيلي العقدي في أرض فلسطين، بما ينحو إلى مثالهم الشهير " بجلد الإبل الذي إذا عطش وجاع انكمش، وإذا شبع وارتوى تمدد".

واللافت في رأي موشيه زيمارمان، اعترافه بفشل الصهيونية، وارتداد أفكارها وعودة الخوف إليها، حيث اعتبر الصهيونية خارح الحل المثالي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستنتجا بجرأة "إننا ذاهبون إلى وضع يعيش فيه الشعب اليهودي في حالة من انعدام الأمن التام، وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك."، مادامت إسرائيل عاجزة عن ضمان أمن الشتات اليهودي، وهو ما يضعف "الحل الصهيوني" ويجعله منقوصا".

وإذا كان الإسرائيليون يثيرون هذا الشكل من النظر، في اعتبار الصراع الأبدي هو جزء من العقيدة الصهيونية، واستمرارها هو مهمة إلاهية قبل أن تكون سياسية، فإن زيمارمان، يذهب إلى أكبر من ذلك وأكثر، إذ يشبه الأعمال التي يمارسها بنو جلدته، شبيهة تماما بالنازية ضد الفلسطينيين (الإبادة)، وهو ما يحتمل قيام الفلسطينيين بنفس الأفعال درءا لما يقاسونه "أن يفعل الفلسطينيون ذلك (بنا)”.

الرأي الثاني جاء على لسان المفكر الأمريكي تيلر كوين، وهو أستاذ كرسي هولبرت إل.هاريس في قسم الاقتصاد بجامعة جورج ماسون الأمريكية، المدير المشارك لمدونة “الثورة الهامشية” على الإنترنت، وكاتب عمود “المشهد الاقتصادي” في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، والذي يحتل المركز 72 في قائمة مجلة “فورين أفيرز” (شؤون خارجية) لأهم 100 مفكر عالمي. يرى كوين (في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء)  أن الدرس الأبلغ من هذه الحرب هو "أن القدرة على الردع لم تعد بنفس القوة التي كنا نتصورها، وإن الإصرار مع إيمان المرء بقضيته وتشبثه بالدفاع عنها يمكن أن يتفوق على القوة العسكرية الكاسحة للخصم".

ولا يتردد كوين في اعتبار الجيش الإسرائيلي يتمتع بالقوة والهيمنة العددية والآلية، أقوى بكثير مما تتمتع به حركة “حماس”، لكنه يستطرد أن هذا الواقع "لم يمنع قوة الجيش الإسرائيلي “حماس” من مواصلة ضرباتها داخل إسرائيل، لافتا في إطار مقارنته بين الصراع الإسرائيلي والفلسطيني والروسي والأوكراني، إلى أن "الولايات المتحدة التي تعتمد على الردع لدعم العديد من حلفائها"،  "ستتقبل هذه النتيجة بسوء وللعالم أجمعه"، "لأن الردع  حسب نظره   يدعم النتائج السلمية والحفاظ على الوضع القائم.."

المسألة الأخرى التي يستقيها المفكر الأمريكي تيلر كوين، هي ما يسميه ب" المكاسب الهائلة التي يمكن تحقيقها في التكنولوجيا بسرعة". حيث إنه "قبل عام، أو حتى أشهر قليلة، لم يكن أغلب الناس يدركون أن الذكاء الاصطناعي، وبخاصة منصة المحادثة الآلية شات جي.بي.تي4، سيؤدي إلى تحولات كبيرة متعددة الأبعاد بهذا الشكل. والآن؛ يتوقع الخبراء أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان في أغلب مجالات التفكير، خلال أقل من 10 سنوات. وهناك الكثير من الخبراء من يتوقع حدوث ذلك خلال أقل من 3 سنوات". وهو ما يمنح قوة إضافية نوعية لتعاظم استعمال "الذكاء الاصطناعي" و"التكنولوجيا الحربية السريعة" في الحروب الجديدة. لكن كوين، لم يشر إلى أضرار هذا التمثل المروع لاستغلال التدمير الآلي تجاه الإنسان، وتناقض المنظومة الديمقراطية إزاء هذا التحول، في الوقت الذي تشكك الآليات الأممية بمختلف توجهاتها وأوضاعها الإدارية والتدبيرية، في نجاعة القوانين الدولية وقوة تنزيلها وإحلالها؟.

والمثير في هذا التوجه لدى الأكاديمي الأمريكي، هو الانحياز المكشوف للآلية العسكرية الإسرائيلية والغربية المدعمة، وتجاهله للتفوق التكتيكي الميداني للمقاومة الفلسطينية، رغم حصارها وتجويعها وتزييفها إعلاميا وأيديولوجيا، وهو أمر لا يؤطر تسويغه المعرفي بالأوضاع وعلاقة ذلك بنفسية "المقاومة"، وتحررها من منطق قوة "العدد والعدة"، إلى ما يصفه كوين بميسم "الإيمان"، الذي يتفوق على كل شيء.

لكن الجدير بالاهتمام، أن يؤسس كوين منطقه العقلاني والعلمي، من كون  "الحوكمة غير مهمة حتى يثبت العكس"، مستدلا بما شهدته ردهات الجامعات الأمريكية مؤخرا، وما استفاضته به ساحاتها من جدل "معاداة السامية" وارتباط ذلك كله بمفهومي "الحرم الجامعي" و"الحرية الأكاديمية"، إلى ما يسري على التعليم الجامعي الأمريكي وسلامة الطلاب وضمان تعزيز ثقافة التبادل الثقافي وما على ذلك.

وقال كوين في هذا المضمار، إن كل ذلك "يمثّل كارثة لصورة التعليم الجامعي الأمريكي. فما يحدث في الجامعات الأمريكية حالياً يعني، على الأقل، أن أداءها سيئ".

القولان يجدان أثرهما في الإقبال المفتوح على التعدد الفكري، وانتعاش دورة الصراع الحضاري من جديد، بعد أفول مؤقت فرضته الزمنية السياسية الدولية، طيلة حقبتين كارثيتين، أو أكثر، من أفغانستان إلى العراق ، ثم فصل الربيع العربي الأسود. وتنفعل هذه القابليات النقاشية المستديمة، رغما عن أنف "الإسلاموفوبيا" المستعرة والمتواطئة مع متلازمة "النظرية الإسرائيلية"  معاداة السامية 

إنها دورة لا تهم موشيه زيمارمان وتيلر كوين فقط، لأنهما أشبعاها قضما واحتدادا، بعد نفض الغبار عما سبق وأن عكسه سابقاهما، صامويل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما، في اعتبار تقييد الأنظمة المؤثرة في صراع الحضارات، بما يلزم لتأسيس النظام العالمي الخامس، الشاهد على تمكين الإمبراطوريات الصناعية الكبرى؛ من الانتقال بالعالم إلى التبعية وتقييد الأحلام وتسطير الوجود؟، فالعالم الجديد الذي تتروعه مفاجآت ما بعد الحرب على غزة، لن يتمكن من ادخار ما تختزله مفكرات علماء الاجتماع والسياسة وتحليلاتهم في علوم المنطق والرياضيات والفيزياء، لأن  القضية المركزية في التفكير الأممي الجديد ستنهض لا محالة على تصنيف "قوة القيم" و"الأخلاق المرجعية" و"تقديس المقاومة" ضدا على "الردع الفاشستي"  و"التدمير الوحشي" و"التهجير والقتل"، دون أن يعني ذلك طبعا، وفي الوجهة المعاكسة، أن يكون لطفرة "الذكاء الاصطناعي" يد آثمة في هذه الجرائم، وسياقا امتداديا لحصر البشرية في ما ينتظرها ويقض من مضاجعها. فالأمل ألا تصمت الشعوب عما يلحق بمنظوماتها الحكمية، وأن تستعيد زخمها الثوري لقيادة العدالة والكرامة والمساواة إلى الوجهة السليمة.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

لقداختلفت وتغّيرت العلاقات الإنسانية بين بني البشر في الكثير من المجتمعات  بمختلف طوائفهم ودياناتهم وأعراقهم الذين اصبحت  تتناسل وتتوالد مآسيهم وكوارثهم،، ولم تعد علاقاتهم كما كانت في السابق يسودها الود والاحترام على الرغم من الاختلاف الجوهري فيما بينهم وعلى مستوى الناس عمومًا من كل الأجناس، ولو ضيَّقنا تلك الدائرة اليوم، وجعلناها على مستوى العائلة الواحدة، بين الأقارب والمعارف في مجتمعاتنا على سبيل المثال، وبين الإخوة الأشقاء، لوجدناها اختلفت اختلافًا كثيرًا، بل جذريًّا، ولم تعد روح التكاتف الأسري والعائلي والعشائري والقبلي - إن جاز التعبير - موجودًا كالسابق؛ ولذلك تغيَّرت كثير من المفاهيم، وتبدَّلت القناعات، بل انقلبت رأسًا على عقب، وأصبحت -مع الأسف- المادة تجمعهم وتُفرِّقهم، تُقرِّبهم لبعضهم، وتُنفِّرهم من بعض، بل أصبحت المظاهر هي السائدة، يحترمون من لديه المال والمكان ومن طراز عالٍ أو ممتاز، بل وصل ببعض الناس أن ينظر لحذائك -أكرمكم الله وأجلكم-!! فإن كان جديدًا رق لك، وهش لك وبش، وإن كان قديمًا ربما ازدراك ولم يعبّرك مع الاسف.

التاريخ يثبت ان المواقف السياسية ليس على حال واحد، فمن كان صديق اليوم، قد يصبح غداً عدواً ومن كان أخ اللحظة يصبح على حين غفلة خصماً كبيراً وتفرقت الكثير من المكونات الاجتماعية  وحصلت بينها القطيعة بسبب الانحيازات في المواقف السياسية او المادية، أصدقاء عمر دبت بينهم القطيعة الكاملة، أخوة تفرقوا وباتوا أعداء، لكن  ونشعر ان الجميع خاسر اليوم حيث ليس هناك منتصر فيهم.

في الماضي كانت الازمات  تستعيد شيئا فشيئا بعضا من العلاقات والصلات المفقودة، والتواصل ولو من باب رفع العتب، لان ذلك أفضل من القطيعة، إذ مهما طال الزمن، سوف يعود التلاقي  يوما ويكتشفون أن لا غنى لهم عن التواصل، وأنهم محكمون بالانتماء الى اصولهم، مهما عصفت بهم الأهوال وأخذتهم الاصطفافات السياسية إلى مساحات أخرى، لان الدم لا يتحول الى ماء فهي الرابطة الاقوى، والسياسة بلا أخلاق غالبا وبلا مصداقية، وقد يتحول عدو اليوم في السياسة إلى صديق الغد، فالمصالح الشخصية والمصالح الفئوية تنتصر في النهاية لدى لاعبي السياسة، لكن الدم يبقى نقياً،  والتجربة العراقية مثال واضح، القادة هم من يشكلون اليوم التحالفات الطوائفية والتوافقية بين حين واخر،لكن ضحاياهم صاروا ترابا، ومن لم تقتله الحرب الطائفية تقتله الازمات والمعاناة، هذا ما يجب أن تدرك الشعوب ان السياسة بلا مصداقية، ويجب التعلم من دروسها ومن كل الأحداث التي عصفت وتعصف في مجتمعاتنا وبلادنا، وحدهم المرتبطون بالأنظمة ومافيات السياسة والمال والحروب والقتل يخربون المجتمعات، أو من يمكن تسميتهم بالأبواق أو العملاء أو المرتزقة، وحدهم هؤلاء، يشعلون النار في جمر الخلافات المجتمعية،  بصنعها للحكام وتقديسهم لهم، وصناعة الحاكم ليس بجديد، فهو موجود منذ قديم الزمان، وفرعون خير دليل على ذلك حتى سمى نفسه "أنه الرب الأعلى عندما أخبروه شعبه بأنه كذلك." هؤلاء من يعطون للسياسة صفتها اللاأخلاقية، هؤلاء، الذين قد ينقلب، بعد لحظات، خطابهم العدائي إلى خطاب تصالحي، حسب ما يتم توجيههم، يجب أن يحاكم هؤلاء في محاكم  الأوطان والشعوب، المرتزقة، لم ينجون يوماًعلى مدى التاريخ، من العقاب، وسرعان ما ينساهم التاريخ ، هم أقل حتى من أن يتذكرهم تاريخ شعب ما، يتذكر التاريخ من اشتغل على تغيير مساره: القادة والسياسيين وكتاب المال وزعماء المال والسياسة والحروب والموت، أما من كانوا أجراء لديهم، مهما كانت أدوراهم في الخراب، فهؤلاء سيركنون إلى زوايا التاريخ المهملة أو إلى مزابله، أدوارهم آنية، رهناء الذي يدفع لهم اكثر، كونهم لا يحملون ذرة من الوطنية ولا المواقف التي هي في صالح الشعوب ولا يهمهم المستقبل  وينسون الحاضر، والقيمة الوحيدة التي ينتمون لها المصلحة الشخصية الآنية، ولهم مريدين الرخص من عامة المجتمعات، ولان يرحمهم وسينسونهم في زمن قصير جدا والتاريخ أيضا مليء بأمثلة لهذه النماذج ويذكرهم كعبرة.

***

عبد الخالق الفلاح  - باحث واعلامي

 

إن الهجمات التي استهدفت رموز قيادية في محور المقاومة سواء الفلسطينية اي حماس او ايران عبر اغتيال كل من القائد الايراني التابع لفيلق القدس في دمشق او الشيخ صالح العاروري تنذر بأوضاع خطرة تهدد بإشعال فتيل حرب اقليمية يتم من خلال استدراج هذا المحور لها، فهل تستجيب ايران لدعوات اسرائيل بشن حرب اقليمية واسعة؟.

بداية لا بد من توضيح ما يجري بأنها محاولة استفزازية وعبثية تعمل من خلالها اسرائيل على جر المنطقة نحو حرب اوسع اقليميا بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها في غزة وارتكاب ابادات جماعية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وذلك بعد ان رفعت سقف أهدافها عندما دعت الى القضاء على حماس وتصفية القضية الفلسطينية عبر قتل المدنيين وتهجيرهم، الامر الذي يمكن اسرائيل من الاستفراد في غزة والضفة وكسب الانتخابات الاسرائيلية واستعادة الرأي العام الاسرائيلي بعد ان بدأ يشعر بالقلق وعدم الرضى اتجاه ما يجري من عمليات خطف للمدنيين الاسرائيليين .

إن رهان نتنياهو على جر ّ المنطقة نحو حرب اقليمية تعد خطوة اخرى تضاف الى سجل الهزائم التي يتكبّد أوزارها في كل مرة لان عملية استهداف رضي موسوي في دمشق وصالح العارودي في الضاحية تطرح علامات استفهام حول طبيعة الخروقات التي يتعرض لها المحور الايراني في عقر داره عبر الجواسيس والعملاء الذين يقدمون إحداثيات عن اماكن تواجد هؤلاء بهدف اصطيادهم وبخاصة ان نتنياهو قد صرح مراراً بأنه ينوي القضاء عليها واستهدافهم فهل تأتي كل تلك العمليات تأتي في اطار الاشارة الى المهادنة مع اسرائيل بعد ان حقق مكاسب كثيرة ولا يريد التفريط بها، فيغض الطرف عن تلك الحواث والاغتيالات أم انه معني بشكل مباشر بالرد وبخاصة أن جريمة الاغتيال وقعت في الضاحية ولما تشكله من رمزية امنية محصنة؟

يقول الصحفي أحمد حسن لمجلة لا لوتشيه الايطالية، بأن ما يجري هو استنفار اسرائيلي يقف خلف تلك السلسلة من الاغتيالات المتزامنة في دمشق ولبنان وايران بهدف جر المنطقة نحو حرب اقليمية تجر ّ اسرائيل الولايات المتحدة اليها بعد أن عبرت عن رفضها وعدم رغبتها في ذلك لانها تعلم علم اليقين بأن حلفاء واشنطن لن يؤيدوها في الحرب لاعتبارات خاصة بهم، فمثلا المملكة العربية السعودية تعمل على مشروع اكسبو 2030 وهي بحاجة لان تنعم باستقرار وامان في محيطها الجغرافي بعيدا عن هجمات الحوثيين وعودة النزاعات والصراعات مع ايران بعد أن تم توقيع اتفاقا امنيا برعاية صينيية يقوم على التهدئة والمهادنة وتخفيض حجم التوتر بينهما.

غير ان اللافت في كل تلك العمليات التي استهدفت قادة ايران وحزب الله وحماس تعبر عن محاولات فاشلة لن تحقق اهدافها لان الايران لن ترد بالشكل الذي يتوقعه الاسرائيلي وربما تستخدم اطرافا اخرى غير مباشرة للرد على العدوان الاسرائيلي مثل الحوثيين وهجمات الصواريخ والقرصنة والخطف للسفن الاسرائيلي وتهديد التجارة العالمية وبحر العرب ليصبح عرضة لاستهداف المسيرات الحوثيين او شن هجمات نوعية في العمق الاسرائيلي وتكون ضربات موجعة تسهم بمزيد حالة النفور والاستنفار والعدوانية لدى اسرائيل .

بالختام، صحيح أن المنطقة دخلت في حرب شاملة في العمق الايراني الا ان المحور الايراني يعلم من اين يؤكل الكتف وتكون فيها الضربة نجلاء كالتي حدثت في السابع من اكتوبر في غزة لكن بالرغم من جميع تلك الحوادث تبقى المفاوضات والاستثمار السياسي هي سيد الموقف بخاصة ان الولايات المتحدة في صدد انتخابات كما انها لا تريد تقويض الهدنة الهشة للحرب الاهلية في اليمن لكن لا احد يعلم متى ينفذ صبر الولايات المتحدة وتعود عن قرارها وتساند نتنياهو في حرب الاقليمية.

***

كتابة: أورنيلا سكر

إن حقيقة التاريخ تراكم وسريان للأحداث والوقائع، أحدهما يكمل الآخر في مجرى تعمق وتوسع وعي الذات التاريخي. فالحقيقة التي سبقت ثورة تموز 1958م هي حقبة بناء تراكم العقلية في مجال الحياة والابداع الثقافي والأدبي، وظهور شخصيات لكبار بدون توظيف حزبي. لذلك نقف أمام تجزؤ للتاريخ العراقي. فقد كان لتتويج الملك فيصل الأول المستورد بحد ذاته دليلاً على ضعف سياسي، وهي اقرب إلى البضاعة الجاهزة والتي اعطت لها الموافقة العراقية.

كذلك لو سلطنا الضوء على ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ونتأمل مقدماتها وقواها وبرامجها، فإنها أقرب إلى الانتفاضة لا الثورة، أما ثمار التضحيات فقد تجسدت كما ذكرت باستيراد حكومة صعدت عرش العراق.

نجد الكثير من المؤرخين والباحثين يدعون إلى الحيادية والتجرد بصورة تامة عن الايديولوجية التي يعتنقها المؤرخ أو الباحث. وهي دعوة ايجابية لأنها تعيد كتابته بتجرد عن التدخلات الحزبية التي ترغب بكتابته كما تريد، أو كما تستجيب لأهوائها السياسية والحزبية، لذلك مثل هكذا توثيق للتاريخ هو اقرب ما يكون إلى التأويل، والابتعاد عن الرؤية العلمية والموضوعية في كتابة التاريخ.

فكتابة التاريخ برأي (تحتاج إلى تأهيل علمي رفيع واحتراف مهني، ونزاهة، والعمل بالمعايير المستقلة. فالجهل بالتاريخ لا ينتج غير التخلف والانحطاط، وهو دليل على فقدان العقل النقدي والرؤية المستقبلية. وحقيقة التاريخ تراكم معقول ومتغلغل في الوحدة الروحية للأمم والثقافة، وإعادة كتابته العقلية هي نفعية ونفعية للقيَّم المعاصرة. لكن كتابة التاريخ يفترض كتابته بمعايير المنهجية والموضوعية والوطنية والمستقبلية، بمعنى إمكانية كتابة تاريخ علمي حي برؤية مستقبلية، لذلك نجد من الصعب أن يصل المؤرخون جميعاً إلى صيغة موحدة في كتابة التاريخ، إلا أن الاختلاف والتنوع طبيعي ومحكوم بالقابلية والكفاءة والاحتراف. بعبارة أخرى: إن الاسلوب الأمثل لكتابة التاريخ هو صناعته استناداً للفكرة الوطنية العامة أو الهوية الوطنية).

كما يرى صاحب موضوع الدراسة في التاريخ (وسيلة فاعلة للحد من اعتبار أن الماضي زمنٍ مات، بل هو الذاكرة التي نحيا بها وتقود سلوكنا وسلوك الأفراد والجماعات في صناعة حاضرهم. والتاريخ يقدم لنا مادة تمتد إلا آلاف السنين، كي تعيد أمام عيننا انتاج شخصيات ماتت مادياً لكنها ما زالت حية من خلال نتاجاتهم، وهذا ما يؤكده الدكتور فالح مهدي في كتابه (تاريخ الخوف) حين يذكر أن "من يقرأ كلكامش يشاركه لوعته بفقدان صديقه انكيدو، ومن يقرأ الإلياذة يحس بما عاناه يوليسوس في رحلته تلك. ومن يقرأ محنة علي بن أبي طالب، يجد نفسه متعاطفاً معهُ. التاريخ لوحده يكفي لإعطاء صورة عن ذلك الذي جرى، إن اسطرت ذلك الحدث أفقده الكثير من مصداقيته. بل حتى عندما نقرأ شكسبير، نتعاطف مع الملك لير في مواجهة دونية ابنتيه. بل نتذكر فعل الليدي ماكبث عندما وجد ضميرها نقطة ضوء ممعنة في الصغر لينطلق منه. تلك الأحداث وتلك الشخصيات حفظها لنا التاريخ وأصبح بعضها جزءاً من ثقافتنا"(1). فالتاريخ يتعلق بمعرفة ماضي الإنسانية والبحث عن إعادة بنائه. لذا "فنحن عبارة عن ذاكرة حيث نحيا اليوم أربعة مليارات من اللحظات عبر الذاكرة الحية لماضينا بما فيه من ظلمات وإشراقات، تلك الذاكرة تؤدي بنا حسب ثقافتنا وتربيتنا إلى تذكر إنسانية كلكامش، وعمق التوحيد، وألمعية المعتزلة، وإشراق الحلاج، كما أنها تؤدي بالبعض منا إلى تمجيد أكاذيب صنعت على شكل ايديولوجيات"(2). واعتبار بعض الظلمة والمجرمين والطغاة نموذجاً للحكام الصالحين الأتقياء.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.....................

المصادر

1-  فالح مهدي، تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري، مصر، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، ط1، 2020، ص50.

2-  المصدر نفسه، ص51.

يجب أن أعترف بأني لا أعرف كيف أبين في عدة أوراق تاريخاً حافلاً لا يبلغ مداه إطناب، ولا يستغرقه إسهاب، تاريخ انتظمت حقبه هالات المجد التليد من كل نوع، وأحاطت به ضروب العز الباذخ من كل ناحية، ولعل اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن هذا التاريخ الذي عاش على أسلات الأقلام، وفي بطون المجلدات والدواوين، قد حجبه ظلامٌ قاتم فاحم في كثير من عصوره، فما سبب هذا الاحتجاب؟ وما باعث هذه الدهمة التي اكتنفت تاريخ هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات؟ وما هو السر في انقطاع وتيرة التواصل بينه وبين دول تربطه بها آصِرة رحم، ونسب شابك، باعث هذا الأمر يتمثل في كيد الشقيق، وتدليس العدو، فتاريخ السودان في وجهة نظري القاصرة قد تعرض لمراقبة دنيئة، وإفتئات مرذول، ولم يقتصر الأمر على السودان، بل تعداه ليشمل القارة برمتها، فقد روجت مجموعة من المستشرقين حتى بداية الستينات من القرن الماضي لمقولة مفادها أن التاريخ نتاج الكلمة المكتوبة فقط، وبناء على هذا الفهم القاصر، ولما حسبوه ندرة بل انعدام للمصادر المكتوبة فيما سمّوه إفريقيا جنوب الصحراء، فقد زعم أولئك المستشرقون بأن ذلك الجزء من العالم لم يكن له تاريخ يستحق المعرفة أو الدراسة قبل اتصاله باوربا في أواخر القرن التاسع عشر. ولعل أهم ما تبنّى هذا الموقف الفيلسوف الألماني هيجل 1770-18031م الذي أطلق زعمه المشهور بأن إفريقيا قارة غير تاريخية وأن سكانها الزنوج غير قادرين على التطور والتعلم. وسار لاحقاً في الاتجاه نفسه المؤرخ البريطاني هوك تريفور روبر الذي زعم في سلسلة محاضرات ألقاها عام 1961م بجامعة أكسفورد بأن تاريخ أوربا هو التاريخ العالمي الوحيد المفيد والذي يستحق الإشادة والاعتبار.

ومن هنا شاع الزعم بأن إفريقيا السوداء عاشت في عزلة تامة وظلام دامس، وبالتالي لم تسهم البتة في إثراء الحضارة الإنسانية، بل ومثلت هذه القارة في الخرائط القديمة بفضاء واسع كتب عليه هنا مرتع السود رمزاً للهمجية والتوحش، وحتى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي عُرِف بموضوعيته، لم يضمّن في موسوعاته التسع المشهورة عن تاريخ وإسهامات الحضارات العالمية أي ذكر لإفريقيا السوداء في هذا المجال.

غير أنّ دراسات علمية أخرى تبنتها مجموعة مرموقة من العلماء الأفارقة  خاصة منظمات اليونسكو الثمانية بعنوان: تاريخ إفريقيا العام  دحضت هذه المزاعم مبينة أنها نتاج للغرض والجهل، فبها أراد أولئك المستشرقون الترويج لما سمّوه  مسئولية الرجل الأبيض  نحو الشعوب المتخلفة، وبذلك تبرير الهيمنة والسيطرة الأوربية على شعوب العالم الثالث عامة والأفارقة خاصة الذين قسمت قارتهم عَقِبَ مؤتمر برلين 1884-1885م تقسيماً عشوائياً بين الدول الاستعمارية، وأهم من ذلك جهلهم التام بأفريقيا حتى القرن السادس عشر، وحتى عندما اتصلوا بها حينئذٍ فقد اقتصر ذلك على سواحلها ولم يتعداه إلى معرفة المجتمعات في دواخل القارة.

أما الجناية على تاريخ هذه الديار التي كل شيء فيها الآن معتل يفتقر إلى علاج، فيتمثل في السعي لطمس عظمة هذا التاريخ، والحرص على إخفاء صداه، فدأبت هذه الأقلام التي لم يدركها قط شيء من الخمول، طاغية باغية، موفقة أو غير موفقة، على اختلاق الكثير من الزيف والبهتان وإلصاقه بتاريخ حاز من الرتب أعلاها، ومن المعالي منتهاها، ذلك التاريخ الذي أوجد حضارة لم تألفها الأمم في ذلك العهد البعيد، ولعل من أهم الحضارات السودانية التي أدت أدواراً متميزة في مسار الحضارة الإنسانية كما يرى البروفيسور عبدالرحيم محمد خبير الحضارة الكوشية المروية 900 ق.م – 350م،  والتي عرف فيها السودان وأفريقيا جنوب الصحراء الكبري ولأول مرة ظاهرة الدولة  State كبنية سياسية مؤسسية ومشروعية سلطة منذ ما يربو عن أربعة آلاف عام بظهور دولة كوش الأولى كرمة والتي بسطت ظل سلطتها على شمال السودان الحالي وكل منطقة النوبة 2500 – 1500 ق.م ودولة كوش الثانية مملكة مروي 900 ق.م – 350م. وبلغت الدولة السودانية أقصى اتساع لها في التاريخ في العهد الكوشي المروي حيث كانت تمتد في أوج ازدهارها من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مصر شمالاً إلى ضفاف النيل الأبيض الكوة والنيل الأزرق جبل موية جنوبا. ولعل من المدهش أن هذا الاعتراف العالمي بتفوق الشخصية السودانية وتبوأها مكاناً علياً في سلم الحضارة الإنسانية لم يصل إليه رواد علم الآثار الأوائل الذين عملوا في هذا القطر. وقد كان هؤلاء وكلهم من الأوربيين قد أنجزوا أعمالاً متنوعة في المسح والتنقيب الآثاري وبخاصة في شمال البلاد منذ فواتيح القرن العشرين، وفيما يلي الحضارة الكوشية المروية فثمة افتراضات ونظريات أثارها نفر من العلماء الغربيين حول أصل هذه الحضارة والجذور الإثنية للأسرة الحاكمة الكوشية التي يرجع إليها الفضل في بزوغ فجرها في فترة باكرة من تاريخ أفريقيا والشرق الأدنى القديم.

ومما شحذ همتي لتسطير هذا الموجز عن أصل الحضارة السودانية كوشمقال نشر باللغة الإنجليزية في مجلة “ناشونال جوغرافيك National Geographic  عدد فبراير 2008م للكاتب روبرت داربر – R. Draper  موسوم بالفراعنة السود: فصل مجهول من التاريخ يحكي عن ملوك من أدغال أفريقيا فتحوا مصر القديمة. وتنبه الكاتب إلى حقيقة هامة وهي أن مملكة كوش الثانية مروي لم تظهر بصورة فجائية على مسرح الأحداث في التاريخ إنما كانت امتداداً لدولة أفريقية قوية هي مملكة كرمةوحاضرتها كرمة عند الشلال الثالث في أقصى شمال السودان. ونوه درابر إلى آراء بعض الرحالة الأوائل من المكتشفين للآثار السودانية في القرن التاسع عشر والذين أثار انتباههم المنشآت المعمارية الرائعة المعابد والأهرامات التي تمثل أطلال حضارة كوش العتيقة أمثال الإيطالي الدكتور ج. فرليني 1834م الذي نهب العديد من الأهرامات المروية والألماني رتشارد لبسيوس 1842- 1844م الذي زعم أن الكوشيين الذين أنجزوا هذه الحضارة الراقية ينتمون إلى الجنس القوقازي شعوب البحر الأبيض المتوسط ولا صلة لهم البتة بشعوب أفريقيا الحامية. ومن الملفت للانتباه أن فرية الأصل القوقازي للحضارة الكوشية وجذورها الوافدة من السواحل البحرسطية لشمال أفريقيا ناجم من التفسير العرقي والنظرية العنصرية للفكر الأوربي في القرن التاسع عشر والذي دون شك أثرَ كثيراً في التحليلات التاريخية والسياسية والاجتماعية وتلك التي تتناول التوجه القومي لعدد غير قليل من الكتاب والمفكرين الذين درسوا السجل الآثاري للسودان خلال أحقاب التاريخ المختلفة. ومما جعل الأوربيين الذين كانوا يسيئون الظن بأفريقيا وبدولها ويستخفون بمن فيها أشد الاستخفاف، يقفون حيال هذا الاعتقاد موقفاً صريحاً واضحاً يزيل الشك، ويجلي الريب، اكتشافهم وجود تطور حضاري سابق للعصور اليونانية الرومانية التي ملأوا العالم بها تشدقاً وضجيجا، فكانوا  كلما ازدادوا قربا وبحثاً عن ذلك التراث تأكد لهم أن أوربا ليست سيدة العالم في التراث القديم، وأن تلك السيادة ربما بل وكل الأدلة تشير إلى أنها تمت على أيدي شعب وادي النيل القديم، فمن هو ذلك الشعب العظيم الذي خلف كل ذلك التراث؟ المشكلة التي واجهتهم هو المفهوم القديم الذي كان سائداً في الأوساط العلمية عن شعوب أفريقيا والذي يقسم سكانها إلى ساميين وحاميين وزنوج.

وقد ارتبط تصنيف الحاميين في ذلك الوقت باللون الأسود، وكان المصريون وقفاً لتلك التقسيمات أبناء كوش التي ينتمي إليها كل السود في أفريقيا، فكيف يعقل أن يرتبط هذا الجنس الأسود بهذا التراث الحضاري؟ وبدأت الفرضيات والتفاسير التي جعل بعضها الشعب المصري شعباً سامياً لا صلة له بالسود، ….ويبدو أن البعض الآخر لاحظ سمات العنصر الزنجي واضحة في بعض الآثار المصرية وبخاصة العناصر السوداء التي تقطن جنوب مصر، فتطورت النظرية التي فصلت الجنس الحامي من الجنس الزنجي، وأصبح سكان أفريقيا في نظر الأوربيين ثلاث سلالات رئيسة هي السلالة السامية والسلالة الحامية ونُسِبَ إليهما كل التطور والإنجاز الحضاري الذي عثروا عليه في القارة، ثم السلالة الثالثة وهم السود باقي سكان أفريقيا الذين ظلوا في المفهوم الأوربي يعيشون في مراحل التخلف وفي حاجة إلى خدمة الرجل الأبيض ينتشلهم من دنيا الظلام والهمجية إلى عالم النور والحضارة، ويرى المؤرخ السوداني الذي قرّب البعيد، وأظهر الخفي، وبيّن المُلتبس من تاريخ أرض النيلين البروفيسور يوسف فضل أنّ هذه النظرية أو التقسيم الذي جرد الزنوج من كل مكرمة لم ينضجه بحث، أو تصاحبه روية، وأن طبقة الزنوج أو الجنس الأسود أو الأفارقة تعبير فضاض يستعمل في غير دقة في هذا البحث للدلالة على السكان الوطنيين الأصلاء السود الذين ربما وضعوا اللبنة الأساسية في تاريخ هذه البلاد وتطور ثقافتها، ومن المرجح أن ذلك الشعب الأسود ظل يعمر السودان في الأجزاء الجنوبية والجنوبية الغربية كما أن مجموعات منه قد تفاعلت مع سكان المنطقة الشمالية والمنطقة الشرقية. ومن الممثلين لهذا الشعب الأسود القبائل التي تسكن دارفور وجنوب السودان والنوبة في كردفان، والنيليون الحاميون في جنوب السودان، وكان رواد هذا الجنس الأسود من سكان منطقة الخرطوم وأنهم بصناعتهم الفخار قد وضعوا اللبنة الأولى للحضارة السودانية”.

ويرى العلامة البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله أن الشيء الذي دلّ عليه البيان، واتسق به البرهان، أن خصيصة اللون هي التي جعلت أخياف من البشر تقطب لتاريخ هذه البلاد، وتعرض عنه، وتتآبى عليه، ويرى الراحل عبد الله الطيب أن مرد ذلك نوعاً من العنصرية جعل يحول بين العلم والعلماء وبين تتبع تاريخ هذه البلاد، وهذا أمر رغب العلامة في الوقوف عنده، ولكنه يحتاج إلى من هو أدرى مني، حسب تعبيره، يقول البروفيسور عبدالله الطيب أن هذه البلاد ابتدأت تهمش كما يقال في اللغة العصرية من حوالي القرن السادس قبل الميلاد، قبل ذلك كانت مهمة، وابتدأت تهمش ويهمش معها لون الناس، السواد يعتبر متأخراً، وأهله يعتبرون متأخرين، وهذه البلاد على حضارتها أخذوا ينكرون وجود حضارتها، وانتقلت هذه العدوى إلى المسلمين، فالصلة كانت قوية جداً بين هذه البلاد وبين الشاطئ الشرقي والتبادل كان مستمراً واستمر حتى بعد الإسلام لمدة طويلة، لأن ابن بطوطة عندما جاء في شاطئ البحر الأحمر وجد بني كاهل ووجد قبائل البجة متصاهرين مع أهل مكة وبينهم صلات واشجة.

***

د. الطيب النقر

 

أشاعت العملية السياسية، بين أوساط المجتمع، وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، الإحساس بضعف التآزر الاجتماعي والخوف والقلق من انعدام الضمان المستقبلي والتعرض المفاجئ للخطر، وانعدام الثقة والشكوك والتطير من إجراءات السلطة وممثليها، وهم ممثلو الأحزاب الحاكمة،  مما جعل الكثرة من الشعب العراقي تجد في العزوف عن المشاركة في الانتخابات، واحدة من أوجه رفض العملية السياسية برمتها كآليات وشخوص. ولم تظهر وعلى مدى تلك الأعوام  قيم توسطية يمكنها جسر الخلاف أو قمع الشكوك وإبعاد المخاوف وتطمين النفوس، لدى هذه الشرائح الشعبية الواسعة من خلال إشراكها الفعلي  بالقرار والمسؤولية وعبر التمثيل الحقيقي والشفاف والتضامن المجتمعي، بل العكس دائما ما كان أداء السلطة وأحزابها يغذي نوازع الفرقة ويكون مجافيا وبعيدا عن طموح الجماهير ومحبطا لمشروعية آمالها بالحرية والتقدم والديمقراطية.

 ونتيجة لهذا الشرخ الفاضح والمؤذي. فنحن بحاجة ماسة لمعرفة وتدقيق مجموعة القيم التي من خلالها نحكم بشرعية مؤسسات السلطة ومدى تمثيلها لطموح الناس وتطلعاتهم، وقبلها معرفة مدى المشاركة الجماهيرية التي تدعمها الوقائع، وعلى وفقها تم تفويض تلك المؤسسات لتمثيل الجماهير التي انتخبتها.  وتتمثل تلك القيم منذ البداية بحقيقة التفويض وشخوصه وغاياته وشفافية البرامج ومسؤوليتها في الشراكة البعيدة المدى القانونية والسياسية،وتوفر نظام اقتراعي منصف وتبني أساليب مكشوفة توفر إجراءات تسجيل وتصويت للجميع،مع قانون ونظام عمل حزبي منضبط يقر بالتعددية السياسية ويقصي بعيدا لغة السلاح، مع تمتع جهة الإشراف باستقلال كامل عن سيطرة الحكومة والأحزاب، وقبل كل هذا، البحث في مدى عدالة وفعالية القوانين التي تحكم التنظيم الحزبي الداخلي وطبيعة الحرية السياسية التي يتمتع بها أفراد التنظيم ووسائل تمويله المالي . وهذه القيم بالذات تستخدم كمقدمة لفهم مجريات العملية الانتخابية الديمقراطية.

 ولكننا دائما ما نجد تلك القيم تختفي ويستغنى عنها لصالح مصالح حزبية وفئوية، مما يجعل النوايا تبتعد ببون شاسع عن خيار البحث عن ضمانات لعملية انتخاب شفافة وحقيقية وفاعلة، وعندها ينتج إثرها وبشكل فج مؤسسات لا تملك غير شرعية الأحزاب والقوى التي أدارت العملية الانتخابية وفق خياراتها وأساليبها، بعد أن أقصت بالقوة والعنت جميع تلك القيم. ونتيجة لطول عهد وتكرار تلك الممارسات والتدخل الفج لقوة المال والسلاح،لذا وجدت آليات لدولة عميقة حقيقية تتحكم وتدير دون حياء وخوف وبعيدا عن رغبة الأغلبية، قواعد وطرق العملية الانتخابية.

فمجموعة القيادات والشخصيات السياسية التي شاركت المحتل الأمريكي وعملت تحت شروطه ووصايته، شرعت بوضع آلية اختزال الحراك المجتمعي وتقنينه عبر تصعيد الانفعالات ونوازع الشد والنفرة والتطير الطائفي والقومي، ونجحت محاولاتها تلك في شطر لحمة المجتمع العراقي على هشاشتها إلى أنداد وخصوم، لتطفو على السطح بشكل فج وقبيح تلك التشوهات وتصبح قواعد ومعايير في احتساب الولاء للجماعة، أو ما روج له وأطلق عليه التخندق أو التآزر المجتمعي القومي والطائفي ومثله المناطقي .

 ومع ضعف السلطة صعدت القبائل من سطوتها ومكانتها كمنظومة اجتماعية سياسية لها دور فاعل في تقرير مصائر الأفراد والجماعات والتأثير في أعمال مؤسسات الدولة، وقبلها في سير العملية الانتخابية. ومثلها فعلت المؤسسة الدينية لتحل رؤيتها وفتاويها في الكثير من الأوقات بديلا عن القوانين الوضعية والدستور، وساعد هذا التصعيد، على استشراء ظواهر هجينة وغريبة في المجتمع، ولعبت البطالة والجهل المجتمعي الفعل المؤثر في تفجير الخصومات وشق الصفوف وبناء استحكامات خاصة لخلق التضادات.

شكل ظهور الفصائل المسلحة وبالذات التابعة للتنظيمات الحزبية والدينية، الملمح الأكثر سطوة ونفاذا في تفجير الخطر الداخلي ورفع مستوى العدوانية في العلاقة بين التشكيلات المجتمعية، ليسفر عن  عداوات وتشنجات تتبنى منهج محاربة وقمع ما سمي بالمخالف فكريا وعقائديا. وخلق مواجهات مفتعلة بادعاء الخوف من الأخطار المحدقة جراء محاولات انتقام يمكن أن يقدم عليها الخصوم.

 وترسيخا لتلك الهواجس وتعميما للغة الخصومة والترقب والخوف، فرض على الكثيرين تسليم زمام قيادتهم واجبروا على الخضوع لقانون الولاء الأعمى للجماعة أوالطائفة والعرق أو العشيرة أو المنطقة، وقبول ما يملى عليهم، ليتحول الفرد إلى رقم في مجموعة الصنف المدجن، ليصل في البعض من الحالات إلى ما يشبه الغيبوبة وفقدان الوعي، حيث يسلم الفرد مصيره لما فوق، دون إثارة التساؤلات، وعندها لا يجد الفرد ضيرا في مواقف التبخيس التي يتعرض لها، ولا حتى في حالة فقدان قيمته الإنسانية.

ففي مثل هذا الولاء الأعمى يكون التنظيم القوي المدجج بسلطة المال والقوة هو الحاضن والرفقة التي تضمن للفرد الحماية قبل أية مؤسسة أخرى. وعندها يصبح ولاء الفرد ناجزا وغير خاضع للريبة والقلق. فالتنظيم هذا يكون مصدرا للاحتماء من الخصوم، وفي ذات الوقت مصدرا للرزق، ويجد الفرد في ذلك الحيز ما يضفي عليه نوعا من التوازن النفسي، ولا حاجة له للتفكير فيما هو صالح أو طالح، فهناك من يفكر بدلا عنه، ولديه القدرة على إبعاد التهديد الذي يراه حسب التفسير العقائدي قادما لا محال من الطرف الأخر

ولا تبتعد العديد من مؤسسات الدولة عن مثل هذه المشاهد المشوهة وتلك الحالات المعقدة. فأوامر وتوجيهات الأحزاب المشاركة بالسلطة تلعب أدوارا حاسمة ومؤثرة في تراتيبية وسلوك تلك المؤسسات، وغالبا ما يكون ولاء مدرائها و الكثير من طاقمها الوظيفي ناجزا ومؤثرا لجهة حزبية بعينها وعلى وفق طرق البناء المحاصصي الذي بنيت عليه مؤسسات الدولة بعد التغيير عام 2003 .

ولذا انعكس تأثير تلك الولاءات في مشاهد ضعف الحراك الجماهيري واقتصاره على مجاميع ليست بالكبيرة نسبة لأعداد المتضررين من سياسات السلطة. ولذا نرى من الخطأ والإجحاف منهجيا دراسة حراك الشارع العراقي وميول أفراده الشخصية وكتله المجتمعية، وتأثير ذلك في النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية المتعددة أو انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، دون البحث في العلاقة الجدلية بين طبيعة تلك الموالاة والإصطفافات الفردية والجماعية، وقوة تأثيرها في مجمل وقائع الحراك الجماهيري أو في نتائج الانتخابات. والتي أصبحت اليوم سمة مميزة لواقع العملية الانتخابية في العراق. فالولاءات الشخصية والدينية والحزبية والعشائرية وحتى المناطقية، وبسبب السياسات التي اتبعتها السلطات الحاكمة على مدى العشرين عاما الماضية، باتت الفضاء الواسع الذي تتمكن من خلاله الأحزاب، فرض سطوتها وخياراتها للسيطرة على نتائج الانتخابات ومن ثم إحكام قبضتها على مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها.  

***

فرات المحسن

التاريخ هو: (الوعاء الذي يحتوي على كل مظاهر الوجود الإنساني. فوجود كل شيء تاريخ. والتاريخ هو وجود الأشياء جميعاً، فمن غير الممكن التحدث عن الإنسان دون تاريخهُ، كذلك نفس الشيء قوله عن الطبيعة والوجود. فضلاً عن اهمية كيفية قراءة التاريخ، ومن الممكن تطبيقها على اوضاع العراق الحالية، أي كل باحث ملزم بقراءة التاريخ وتحليله والنظر فيه. والتاريخ نسبي، والأحداث حقائق ووقائع وتراكم وعي الذات. وحقيقة التاريخ هي تراكم وعي الذات، وهي إنتاج ثقافي ومنظومة فكرية حية، والرؤية الفلسفية للتاريخ تعكس في ملامحها العامة والخاصة الرؤية الثقافية.

والصيغة المثلى للنظر إلى التاريخ من خلال التجارب المتنوعة التي تتوقف آفاق تطورها على كيفية حل الاشكاليات الواقعية الكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع والثقافي، فالتاريخ لا يعرف قوانين حتمية وإنما هو تجارب وبحث عن البدائل، مثال ذلك: لم تكن ثورة تموز 1958م حتمية تاريخية أو ضرورة كما يضعها بعض الكتّاب ذات الميول الايديولوجية الماركسية، فكل ما حدث لهُ اسبابه ومقدماته، لأن فكرة الحتمية والضرورة تصبح أكثر اشكالاً في الحياة السياسية، لأن الحتمية في الحياة السياسية جزء من الاحتمال. فما حدث يوم 14 تموز 1958 بدايته انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط الحرار ثم تحول لاحقاً بعد ألتفاف الجماهير حوله إلى ثورة، فتدّخل الجيش المباشر هو انقلاب على شؤون الحياة السياسية والمدنية، وهو مؤشر لضعف الدولة والنُخب السياسية، مما جعل من العسكريين الذي قادهم الزعيم عبد الكريم قاسم مغامرة لتغيير الحكم الملكي، ثم جرى بعدها سلسلة من الانقلابات وانعدام الاستقرار الأمني، واحتقار القانون من خلال تسخيره كمآربهم الضيقة.

مع العلم أن ثورة 14 تموز 1958 هي فعل تاريخي كبير، لكن تدخل الجيش في حياة الدولة والمجتمع فتح الأبواب لصعود التيارات السياسية الغير قادرة على قيادة الدولة، كما كانت أقرب إلى قوة الطوفان العارم في الذاكرة العراقية. ثم تبعتها احداث أخرى منها انقلاب 8 شباط 1963، وهو استمرار لانقلابات عسكرية أخرى، فتحت الطريق أمام المغامرة لسهولة استلام السلطة، واشتراك الحثالة الاجتماعية في الانقلاب وجعل الدولة تابعة لتلك الحثالة، بحيث تحولت الدولة إلى اضعف شيء، وجعلت هذه الحثالة من السلطة الشيء الوحيد المطلوب والمرغوب ليتمتع بالسلطة وقتل المنافسين، مما ساهمت هذه الفئة بالخروج عن القانون وسحقه مع الدستور، وتحويل تاريخ العراق إلى مجرد تاريخ للجريمة والتخريب، ثم تبعها انقلاب 17 تموز 1968، لتصنع معايير لرؤية الانحلال الاجتماعي وقتل الروح الوطنية، وتبعها الانحطاط الثقافي العام والتخلف السياسي بسبب تفسح الدولة، وجعلت من السلطة الشيء المقدس وعسكرة الثقافة والمجتمع، ثم انتعشت الطائفية كانتعاش الطاعون، لتعود إلى صانها الرئيسي الدولة الأموية بوصفها سنّة للسلطة وقانون يحكم سلوكها، فالطائفية بدايتها ذات ابعاد سياسية، وهي ظاهرة مصطنعة رغم تاريخها العريق، والطائفية الاداة التي تقتل فكرة المواطنة والعدالة والمساواة وتتعارض مع العقل النقدي والروح الإنساني واستعادة للانغلاق والأذية الأولى.

إن اشكالية كتابة التاريخ هي اشكالية التاريخ نفسه، فالتاريخ تراكم يتحول بالضرورة إلى مؤسسات وتقاليد ومبادئ ضابطة للسلوك الفردي والاجتماعي، امثال ذلك: المبادئ والقيَّم والأعراف والتقاليد المغروسة في الوعي والمؤسسات. أما فكرة إعادة كتابة التاريخ فتلك جريمة لا تغتفر، أي بمعنى نقف أمام محاولة جديدة لقطع ما لا يعجبنا لرميه في مزبلة التاريخ، أو كتابة التاريخ وفق الايديولوجية والخطاب السياسي لقلب الأمور كلها رأساً على عقب لنجعل من التاريخ ارجوحة تعلو وتهبط وفق امزجة أزلام السلطة. ومهمة المؤرخين التعامل مع الماضي والحاضر بمعايير موضوعية وفق الانتماء الثقافي لنجعل من الماضي مصدراً مهماً لوعي الذات.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

دخل عراق ما بعد (2003) عامه الواحد والعشرين، وكان الأمل حاضراً قُبيل كلّ انتخاب، وآخرها كان في (18 ديسمبر2023)، لكنْ ظل «القديم هو الجديد»، فصائل تتخذ مِن كهوفها عواصم بديلة عن بغداد، وجرف الصّخر شاهد.

بعد هدم الدَّولة العِراقيَّة تمت السّيادة للقبائل والفصائل، فتكون اللادولة واقعاً، إذا صار «جرف الصَّخر عاصمة، تسجن وتخطف، وحصتها من الميزانيّة معلومة! وكنت كتبت «بغداد لا أبو هاون» (الشرق الأوسط)، عندما أراد أحدهم التباهي بالنعمة، التي هبطت عليه، وكان «أحَذَّ يَدِ القَمِيصِ»، على حساب بغداد، ما زال صاحب هذا العبث بلا مساءلة عن دماء الشباب ونهب الثّروة. فلماذا يُلام العراقيّ على ما هو فيه مِن الهيمنة العشائريّة والفصائليَّة؟! وقد استبدلت القبائل والفصائل بالدَّولة؟ أحزاب وجماعات شاهرة معاولها للهدم، والدّيمقراطية تغسل العظائم، يجري الهدم بغطاء تشييد نظام (جديد)، مع أنّ الذين سرهم الهدم، مِن الأغراب والأصحاب، ستهدم أحلامهم نفسها.

لم نجد في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ مصنفات في القبائل، إلا ما نزر وندر، قياساً بالمصنفات التي تناولت الدّين والدُّول، مع أنّ القبيلة ظلت فاعلة، في الغزوات والفتوحات، ولكن تحت راية الإسلام الشَّاملة، فبدل ديوان زعيم القبيلة ظهرت دار الإمارة والمسجد. من الكتب التي اختصت بالقبائل، ووصلت إلينا «مختلف القبائل ومؤتلفها» لمُحمَّد بن حبيب(ت: 245هج)، و«القبائل»، وأظنه مِن المفقودات، لمحمّد الزَّاهد غلام ثعلب(ت: 345هج)، ناهيك عن وجود كتب اختصت بشعراء القبائل.

ما يخص العراق يبقى «عشائر العراق»(1937-1956) لعباس العزاويّ(ت: 1971)، الأساس لكل مَن كتب بعده، اختص الجزء الثّاني بالعشائر العراقيّة الكُرديّة، وقبله كتب إبراهيم صبغة الله(ت: 1882) عن العشائر العراقيّة، لكنه اقتصر على القبائل العربيّة والكُرديّة، ومع أنه كان كردياً، إلا أنه أخذ بخرافة الأولين عن أصل الكُرد(عنوان المجد 1869).

اشتد الاهتمام بالقبائل بعد (2003)، عندما برزت القبيلة موازية، حتى مجاميع في الوسائط الاجتماعيّة صُنفت بأسماء القبائل، وقد دُعيت شخصياً إلى الانضمام، ولم أجب خجلاً، مِن العراق نفسه. مقابل ذلك لما شعر الفقهاء أنَّ القبيلة، أخذت تُنافسهم ظهر ما عُرف بـ«فقه العشائر»، ففيها ما يُبطل حكم أو دور القبيلة لصالح الفقيه لا الدَّولة، ولم يكن المقصد وطنياً.

لكنَ، خارج مَن عرفوا بشيوخ التسعينيات، غير الأصلاء، لعبَ شيوخ القبائل، منذ تأسيس الدّولة الحديثة، دوراً في بسط نفوذها لا نفوذهم، ومَن يطلع على نص «قانون دعاوى العشائر المدنيّة والجزائيّة 1922» يجد مواده لصالح الدّولة، فأخذ دور القبيلة يتناقص، بظل شيوخ متنورين وواعين لمعنى الوطنيّة، ولا تغفل حملات التسقيط ضدهم، وتقديمهم جهلةً، وهذا مخالف للواقع. ليس كما هو الحال اليوم، تُطارد القبائل الأطباء، وليس أكثر مِن مجالسها لفرض الدِّيات، لأتفه الأسباب.

أما عن الفصائل، وقد غذتها القبائل بأبنائها، وتتدخل عن طريقهم في الشّأن العام، فهذه فصائل مسلحة، وتلك قبائل مسلحة أيضاً، فقد وصل عددها إلى سبعين ميليشيا، منها لها أمنها الخاص وشرطتها الخاصة ومعتقلاتها، ومعسكراتها موزعة على المحافظات، ماعدا إقليم كردستان، الذي منذ (1991-1992) حُصرت القوى الأمنيّة والدفاعيّة بيد سُلطة الإقليم، مع الانفلاق الذي لم يسده توحيد أربيل والسّليمانيّة، لكن مع ذلك لا توجد سلطة أمنية غير ما يعرف بـ«الأسايش»، وقوات «البيشمركة»، أما حرس الحدود فمرتبط ببغداد مباشرة.

تعمل القبائل والفصائل على جعل العِراق دولةً كسيحةً، لتبقى غنيمةً لأمد بعيد، وكذلك عملت قوى خارجيّة الدّور نفسه، خوفاً مما صوره أبو العلاء المعريّ(ت: 449هج)، قبل ألف عام: «وبالعِراقِ وَميضٌ يَستهلُ دَماً/ وراعدٌ بلقاء الشّرِ يرتجزُ/ وآخرُ الدَّهرِ يُلفى مثل أوّلهِ/ والصَّدرُ يأتي على مقداره العَجُزُ»(لزوم ما لا يلزم).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل حقا انقشع ضباب الاستعمار عن سماء الاوطان العربية، أم أن ما يعكسه المشهد العام هو على النقيض من ذلك، حيث يرى عالِم الاجتماع الامريكي إدوارد شيلز، أن المثقف هو الشخص المُتعلم الذي الذي لديه طموح سياسي إما بصورة مباشرة من خلال السعي ليكون حاكماً لمجتمعه، او بطريقة غير مباشرة يسهم في صياغة ضمير مجتمعه. إن الانتلجنسا لها تعريف متعدد الوظائف لا يمكن حصرها بعنصر واحد بحيث تتعدد تعريفاتها. لكن، ما يهمني هو تأكيد طبيعة هذه الاشكالية التي تعتري هذا المفهوم وتأثر على البنية الفكرية للانتلجنسيا العربية ببقايا الاستعمار في فترة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية، لان اي تأثر بالثقافة الاستعمارية هو دليل على حضور المستعمر داخل الجسم الثقافي العربي و استحكامه بفعل القدرة على توجيهه معرفياً وعقائدياً واقتصادياً وثقافياً.

وتظهر القراءات التاريخية أن الانتلجنسيا العربية قد تأثرت تأثراً كبيراً بالكولونيالية بصيغتها الكلاسيكية والمستحدثة التي يخطئ من يظن فيها دور الاستعمار قد ولى لذلك إن هذه المقالة هو التركيز على الهوية العربية المستهدفة والمضطهدة بشتى الوسائل لطمسها والغائها وتغيبها عبر استراتيجيات قاتلة وشيطانية تهدف الى تشويه صورة الانسان العربي والاسلام عن طريق حملات اعلامية تستهدف العقل العربي والذاكرة الجماعية عبر مشجموعة ادوات اسهمت في خرق المجتمعات العربية وتشويهها وتزوير التاريخ من أجل خدمة الاجندة الاستعمارية وذلك عبر القوة الناعمة والمعرفة وعمالقة الاعلام التقليدي والرقمي عبر نشر التفاهة وتسطيحها بفعل طبيق نظرية القطيع من خلال التلاعب بالعقول وتمكين النسيان كما هو الحال مع القضية الفلسطينية.

وهنا، أتساءل لماذا ندور دائما في حلقة مفرغة من الاستبداد والمظلومية المتداولة والتي لا حلول لها سوى بتجديد حكم المستبد دون مساءلة او محاسبة. إن سؤال وجيه، والجواب عليه بديهي بعد سلسلة ممنهجة من التدمير والتخريب عبر عملاء بالوكالة تم زرعها من قبل الاستعمار تخدم المشروع الكولونيالي في المنطقة من خلال مبدأ القوة والهيمنة والسلطة التي استطاعت عبر قرون تأبيد هيمنتها واستفحالها عبر بروغندا تقوم على الكذب حتى باتت الكذبة حقيقة غير أن عملية طوفان الاقصى اعادت الاعتبار لكبرياء هذه الامة من خلال تعرية حقيقة الغرب الذي يتشدق بحقوق الانسان والعدالة والمساواة وكشفت حقيقة الخداع الممتدة عبر قرون والذي يفيد بنشر التعددية والعملمانية المزعومة عبر احترام حقوق الانسان والاقليات، إلا أن كل ذلك كان كذبة كبير تم خداع وايهام العالم به، فالغرب في معظم أحقابه التاريخية لم يكن علمانيا، والكنيسة المسيحية بكل تأكيد لم تدعُ الى العلمانية، فكيف لنا أن نزعم بأن العلمانية مندرجة في تعاليم المسيحية لان ما نشهده من عملية تصنيف وتميز عنصري من قبل الغرب الاوروبي وارثه الاستعماري ليس الا موروث ديني يقوم على تدنيس الاخر بسبب نزعة العرق الاعلى او المتفوق على باقي الشعوب فعملية القتل العباد والاطفال والنساء هي سلسلة ممنهجة لا تنفصل عن التراث اليهودي- المسيحي الذي ينبغي مراجعته لانه يحتمل الكثير من القراءات التي تحث على التدمير والترفع ان العالم السفلي مدنس، فالخطيئة التي منيت بها المسيحية انه تم تسيسها وصهينتها، بدليل تصريحا البابا فرنسيس الذي دعا الى الاعتراف بالمثليين وزواجهم فضلا عن تفاصيل كثيرة تعتري الفاتيكان ومواقفها لكن ما يهمنا، هو ان التعويل فقط على الانتصارات العسكرية فقط دون متابعة ورصد وملاحقة للحدث اي السابع من اوكتوبر، هو بمثابة عملية انفعالية وردة فعل اكثر منه فعل اذا لم تترجم هذه الانتصارات بمشروع فكري مناهض ومواجه لسياسة الاستعمار سواء من خلال الدراما العربية والعمل التوثيقي والاعلام وبخطاب عربي جديد يليق بتضحيات القضية ونضالاتها وشهدائها.

بالختام، إن إعلان محكمة العدل الدولية، بأنها تلقت طلباً من جنوب افريقيا لبدء إجراءات ضد إسرائيل لاتهامها بارتكاب «أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني» في قطاع غزة باعتبار أن نضال شعب جنوب افريقيا يقاسم فلسطين تجربة إسقاط نظام الفصل العنصري للأقلية البيضاء، في حين أن مواقف بعض الدول العربية المؤثرة لم يصدر عنها اي موقف يذكر بهذا الشأن. فمن المهم أن نتعلم من تجرب جنوب افريقيا كيف تصدى لقوى الاستعمار وكيف قام بمراجعة علاقته بالمستعمِر وفق ادبيات جديدة تعبر عن الادب الافريقي المقاوم للرواية الاستعمارية والتي يطلق عليها هوسرل بالاختزال الوضعاني لفكرة العلم، فلطالما كان العلم بحسب الحضارة الغربية عبارة عن معرفة تهدف الى تحقيق السلطة الهيمنة على الشعوب الاخرى من خلال استغلال الرواية التوراتية في خدمة المشروع الصهيوني الاستعماري على ارض فلسطينية، الامر الذي يطرح تساءلات عديدة مطلقة بالمحرقة اليهودية في اوروبا ما اذا كانت حقا استهدف ستة مليون يهودي وابادتهم ام انه كذبة تم استغلال اليهود واليهودية بهدف تحقيق المشاريع الاستعمارية في الشرق الاوسط ؟ وان الغرب التنويري ليس الاّ خدعة تم فيها ايهام اليهود بحقهم بالوجود من اجل هذه الاهداف الشيطانية وتفكيك وتدمير هذه المنطقة وفق مفهوم الانقسامية لبول باسكون (1985-1923)، والذي يقوم على تفسير عامل الانشطار حين يصبح الواحد مصدرا لاجزاء جديدة تتفرع عنها وحدة سلالات جديدة من الانقسام والتمزق بهدف السيطرة؟

إن عدم مراجعة هذا الموروث الاستعماري وتصحيح ادبياته ومناهجه الفكري يسهم في توليد العنف المعرفي والفكري وتوريثه الى الاجيال دون محاسبة، ما يجعل العالم امام قطيعة وانفصال بدلا من المراجعة وتصحيح المسار التاريخي والإستعماري من أجل خدمة المشروع الوطني والهوية الوطنية والحد من نزعات العنف والتطرف والاستعلاء الغربي والتأكيد على لغة الخصوصية لدى الجماعات المحلية والاصيلة بهدف التلاقي والتسامح والحوار والنقد والمراجعة بهدف تطوير الحداثة السياسية، فنزاعات اوروبا القومية لم تكن الا مشروع حرب يهدف الى تطوير تلك المجتمعات بحجة التجانس القومي وتطوير مفهوم الدولة واحداث تحول في السلطة المطلقة والانتقال نحو الحداثة.

***

كتابة: أورنيلا سكر

 

ترجمة: عباس علي مراد

عنوان المقال بالانكليزية

Australia’s institutional silencing of those who dare to object to mass slaughter

BERNARD KEANEDEC 21, 2023

Crikey

***

إذا تجرأت على التحدث علنًا ضد القصف الإسرائيلي لغزة في أستراليا، فإنك تخاطر بالتعرض للرقابة أو فقدان وظيفتك، لأن أي انحراف عن الخط المؤيد لإسرائيل يعتبر مشكلة.

إذا كنت تعرف أين تمكن مصلحتك، فلا تتحدث علناً في أستراليا ضد المذبحة الجماعية العشوائية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة.

لا تدعوا إلى العدالة والتوازن في التغطية الإعلامية. لا تدقق في ادعاءات المدافعين عن إسرائيل وإسرائيل نفسها.

 لا تذكر أن إسرائيل قد ترتكب جرائم حرب. لا تقولوا أن هذا فصل آخر في صراع أطول بكثير شهد فظائع وهمجية وعنفًا جنسيًا ومذابح من جميع الأطراف.

لا تشيروا الى أنه يجب الحزن على الأطفال الفلسطينيين الذين ذبحتهم القنابل الإسرائيلية بقدر الحزن على الأطفال الإسرائيليين الذين ذبحتهم وحوش حماس الفاسدة.

إن الرقابة التي فرضتها مؤسسة القناة التاسعة الأعلامية على الصحفيين كانت بمثابة ضربة خطيرة للصحافة الحرة.

وفي أحسن الأحوال، سيتم تصنيفك كمعاد للسامية، أو مؤيد للاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال. إذا كنت صحفيًا أو عضوًا في البرلمان، فسوف تتعرض لانتقادات علنية من قبل قادتك. قد تكون وظيفتك مهددة، وقد تخضع للرقابة وقد تفقد وظيفتك.

لنأخذ على سبيل المثال رئيس وزراء نيو ساوث ويلز(من حزب العمال)، كريس مينس، الذي كان يدير عملية الدفاع عن إسرائيل. وبعد أسبوعين من فظائع حماس التي بدأت الهجوم الأخير، انتقد مينس نوابه لتوقيعهم رسالة تعرب عن دعمهم لفلسطين وطالبهم "بالتحدث بصوت واحد". كما هاجم مينس أنصار الفلسطينيين، وقال إنه لن يُسمح لهم بالاحتجاج والتظاهر، واشتكى من تكلفة مراقبة الشرطة بشكل مكثف لهم. كما وبخ مينس نواب حزب العمال الذين انتقدوا إسرائيل منذ ذلك الحين.

أيضاً، فقد هاجم مدراء وسائل الإعلام التجارية الأسترالية الصحفيين الذين دعوا إلى التوازن في التغطية. مؤسسة القناة التاسعة الأعلامية  تفرض رقابة على الصحفيين الذين وقعوا على رسالة مفتوحة تدعو إلى التوازن والدقة في تغطية الصراع، حتى صحيفة صحيفة الغارديان الأسترالية والتي عادة ما تكون أكثر وعياً وتوازناً انتقدت الصحفيين الذين وقعوا على الرسالة.

شركة نيوز كورب لم تكتفي بدعم المذبحة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بصورة آلية فحسب، بل عملت جاهدة على تأطير أي شيء أقل من الدعم الكامل لإسرائيل باعتباره معاداة للسامية. وقد انخرطت في مطاردة أي شخصيات إعلامية فشلت في دعم إسرائيل بشكل كافٍ، وسخر أحد صحفيي نيوز كورب من " مدوني المومياء"  الذين يعبرون عن دعمهم لسكان غزة، وتشويه سمعتهم والقضاء على مصداقيتهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن قد يفكر في دعم الغزاويين وانتقاد أسرائيل.

أيضاً، الصحفيون من هيئة البث الأسترالية أي بي سي (ممولة من الدولة) الذين وقعوا على الرسالة المفتوحة تعرضوا لانتقادات، وقد قامت أي بي سي بطرد المذيعة ا أنطوانيت لطوف بسبب دعمها لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت لطوف قد شاركت في كتابة مقال ل"كريكي" أشارت فيها إلى عدم وجود أدلة على الادعاءات التي روج لها أنصار إسرائيل وشركة نيوز كورب بأن المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين هتفوا "بقتل اليهود بالغاز" امام دار الأوبرا في سيدني.

شكك في السردية المؤيدة  لإسرائيل، واخسر وظيفتك – حتى لو لم تكن تعمل كصحفي.

سلوك شركة نيوز كورب هو المعيارونموذج أعمالها هو الترويج للكراهية والانقسام والتظلم الأبيض. وتعتقد نيوز كورب إن صمت المدافعين المتعصبين عن حرية التعبير عن الهجمات على الصحفيين ليس مفاجئًا - فحرية التعبير لا تُستخدم إلا للضغط على شركة نيوز كورب، حتى ولو أدى دعمها لإسرائيل وتشويه سمعة منتقديها إلى المزيد من ذبح الفلسطينيين والخلق الحتمي لجيل آخر من الناس الغاضبين والمظلومين المصممين على الانتقام من إسرائيل، فذلك أفضل لأنه  يمكن استغلال الإرهاب كجزء من نموذج الأعمال. وقد رأينا ذلك في "الحرب على الإرهاب" الفاشلة، التي هللت لها "نيوز كورب" بحماس منذ البداية.

لكن سلوك وسائل الإعلام الأخرى وإن لم يكن بنفس القدر من التطرف، فكان يهدف أيضًا إلى تطبيع موقف غير انتقادي تجاه إسرائيل وتصوير أي شيء آخر غير الدعم على أنه إشكالي. لا يتعلق الأمر فقط بإقالة الأشخاص أو فرض الرقابة عليهم، بل يحدث بطرق بسيطة أيضًا. على سبيل المثال، ركزت الروايات المستمرة من وسائل الإعلام السياسية، وخاصة في صحف القناة التاسعة ، على كيفية انقسام حزب العمال بشأن غزة، وكيف أن هناك شيئًا إشكاليًا في أي شيء أقل من التوافق الكامل مع إسرائيل.

خطاب وسائل الإعلام الأسترالية عن غزة يكشف النضال من أجل الحقيقة في أستراليا، لنأخذ مثلاً تغطية تصويت الحكومة في الأمم المتحدة، إلى جانب 152 دولة أخرى بما في ذلك فرنسا وكندا ونيوزيلندا والنرويج وإسبانيا واليابان، للدعوة إلى وقف إطلاق النار الأسبوع الماضي فالعناوين الرئيسية لصحف القناة التاسعة في تغطيتها كانت هكذا "أستراليا تغضب إسرائيل بتصويت الأمم المتحدة المفاجئ على وقف إطلاق النار".

فقد ركزت تغطية صحف القناة التاسعةعلى ان تظهر للقراء بأن التصويت "لم يذهب إلى مجلس الوزراء للموافقة عليه"، "وكان بمثابة صدمة للعديد من كبار الوزراء" وأزعج بعض "المجموعات اليهودية البارزة". ونقلت آراء السفير الإسرائيلي على نطاق واسع، ومنحت السيناتور الليبرالي ديف شارما البوق الدعائي لنتنياهو مساحة لاتهام بيني وونغ(وزيرة الخارجية)  بـ "الاستسلام". كل ذلك من أجل دعوة لوقف إطلاق النار تتضمن المطالبة بالإفراج عن جميع الرهائن.

ثم أعقب ذلك مقال مفصل حول كيف كان القرار بشأن التصويت "سريًا" وانقسام حزب العمال، ثم مقال آخر ادعى أن حزب العمال "يتعرض لضغوط لاتخاذ موقف كموقف أقرب شركائه الأمنيين الدوليين" واتهام الحزب بعدم التحرك بشأن فرض العقوبات على حماس.وحتى نكتشف حقيقة تلك الادعائات كان علينا  أن نقرأ المقال إلى النهاية لنكتشف أنه كان يعيد تدوير نقاط الحديث لوزير خارجية الظل في الائتلاف سيمون برمنغهام، بدلاً من أن يعكس أي تصريحات أو "ضغوط" أو اتهامات من العالم الحقيقي.

لكنك فهمت الرسالة: أي شيء أقل من الدعم القوي لإسرائيل يمثل مشكلة، ويعكس المعارضة الداخلية ونتاج القرارات المتخذة سراً. فالطبيعي هو دعم إسرائيل دون أدنى شك. أما الأمر غير الطبيعي فهو التشكيك بأي شكل من الأشكال في الرواية الإسرائيلية، أو التعبير عن القلق بشأن مقتل 20 ألف فلسطيني (مع التحذير من أن هذا العدد "وفقاً لوزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة"). أنسى، ذلك على مسؤوليتك الشخصية.

وفي ختام مقالته قدم الكاتب الكشف التالي: وقع برنارد كين على الرسالة المفتوحة في نوفمبر التي تدعو إلى تحسين التغطية للصراع بين إسرائيل وغزة، وفي عام 2016 زار فلسطين كضيف على شبكة مناصرة فلسطين الأسترالية.

***

 

ما يحدث في غزة الآن يحتاج إلى تأمل وإلى دراسة، خاصة ما يتعلق بردود الأفعال الدائرة حول الأحداث الكارثية التي تقع على مرأى ومسمع من العالم كله دون أن يحرك أحدهم، ممن يملكون سلطة اتخاذ القرار، ساكنا. والحقيقة المؤسفة أن الأحداث الكارثية لا يقابلها إلا صمت لا يقل كارثية، لأنه صمت متخاذل أمام عملية إبادة جماعية ممنهجة للقضاء على شعب كامل!

ويقينا لا يحتاج الأمر إلى تأمل ودراسة بقدر ما يحتاج إلى تدخل فعلي لإيقاف آلة الحرب غير الشريفة، التي لم تكتف بالقضاء على النساء والشيوخ، ولكن هجمت بوحشية لتغتال براءة الأطفال. غير أن موقف الصمت العاجز يفرض على الوعي الحائر هذه الوقفة التأملية الدارسة لأسباب الهزيمة النفسية وشيوع روح اللامبالاة تجاه ما يحدث للعرب عموما وللفلسطينيين على وجه الخصوص.

لا يخفي أن هناك اعتبارات سياسية وتاريخية معقدة يمكن أن تفسر موقف الحكام، وهي مسألة تخص علم السياسة، لكن يظل موقف الشعوب، العربية بخاصة، هو الذي يحتاج إلى دراسة من نوع آخر. دراسة فلسفية، فينومينولوحية، تتعلق بالفرد والمجموع، وتبحث في الكيفية التي تأسس بها المفهوم في الوعي، أي حضور القضية في العقل العربي الجمعي.

ولما كان البحث الفينومينولوجي يستوجب البدء من الذات، وتحديدا من اللحظة التأسيسية التي خبر بها الوعي موضوعه، فإننا سنبدأ من الأنا، ولتكن الذات الكاتبة، أو الساردة، هي موضوع هذا البحث.

وبهذا المعنى، أجد لزاما علي أن أعود إلى سنوات حياتي الأولى عندما كنت في الصف السادس الابتدائي وسمعت مدرس الحساب، الذي كان يدرس لنا المواد الاجتماعية! يتهكم قائلا: "فلسطين.. أولها فلس وآخرها طين". وكنت قد سمعت عن فلسطين والقضية الفلسطينية من قبل من خلال التلفزيون والإذاعة المدرسية، لكني كنت أصغر من أن أفهم أبعاد القضية، فظلت الصورة في وعييّ ضبابية. وربما لهذا السبب تفاعلت مع الدعابة اللغوية الممجوجة بالابتسام، لكني، مع ذلك، حاولت أن استنبط معنى القضية من التحليل اللغوي الهزلي الذي قدمه المدرس خفيف الظل! وفهمت أن المسألة ربما تتعلق بالأمور المالية للدولة وكونها أفلست فانحدر بها الحال.

وأذكر أن السنوات الست التالية، أي من الابتدائية وحتى الجامعة، لم ندرس القضية الفلسطينية بنحو يمكنه أن يعمق القضية في وعينا الناشئ، فلا أذكر سوى وعد بلفور وحرب ٤٨، أذكرها كأحداث تاريخية كانت تستوجب الحفظ من أجل الامتحان، في الوقت الذي كان فيه التركيز على أسباب الحملة الفرنسية، التي في مقدمتها إقامة مستعمرة فرنسية في الشرق، وكذا أهداف ثورة يوليو، والتي كان في صدارتها إقامة جيش وطني قوي. وهي، في المجمل، دروس تاريخية تعكس حقيقة العلاقة المتهافتة بين العرب والغرب، التي تعبّر عن ضعف الأنا وقوة الآخر. ولم تكن من أهمية لدرس دون آخر إلا بدرجة احتمالية طرحة كسؤال في الامتحان! لكن تظل التربية السياسية غائبة عن المنهج الدراسي الذي يأبى إلا أن يجعل التربية قاصرة على الأخلاق الفردية دون السياسة التي تمس قضايا المجتمع والأمة العربية والإسلامية بعامة. كما أن مادة التربية الوطنية التي كانت تُعرف بالتربية القومية كانت عبارة عن كتيب صغير لا يتم شرحه في الفصل ولا يُضاف إلى المجموع في نهاية العام مثل التربية الدينية في مفارقة تستحق التأمل!

وفي ظل غياب هذا الوعي أذكر أن صورتي نابليون بونابرت وكليبر كانتا معلقتين على الحائط في الفصل السادس الابتدائي، وسألتنا مدرّسة العلوم عن رأينا في هاتين الشخصيتين: هل نحبهما أم نكرههما؟ صمت الطلبة ولم يستطع أحد أن يجيب عن السؤال غير التقليدي المفاجئ، وهممت برفع يدي لأقول أني أحبهما لأنهما بطلان، وكان هذا هو الاعتقاد الذي ترسخ لدي لأن الصورتين كانتا بالزي العسكري. غير أن أحد الطلبة سبقني برفع يده، وأجاب بأنه ينبغي علينا أن نكرههما، لأنهما من المستعمرين. وهنا أفقت على تلك الحقيقة المباشرة التي درستها ضمن الأهداف الاستعمارية للحملة الفرنسية،  وتبخرت في لحظة أمام التعبير الفوتوغرافي الكاذب عن حقيقة الشخصيتين.

لكني تساءلت فيما بعد، لماذا صورتي نابليون وكليبر، زعماء الحملة الفرنسية، على الحائط بجوار صورة عمر مكرم، الشخصية الوطنية المعروفة،

 ولم أعثر على إجابة مقنعة عدا كون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ممارسة للون من النشاط المدرسي يلتزم به الطلبة والمدرسون دون سياق فكري أو عقيدة سياسية يمكنها أن تميز بين ما يستحق أن يـُعلق على الحائط وما لا ينبغي أن يُعلق.

غياب التربية السياسية والوطنية جعل الوعي لدي، وبدرجة ما لدى جيلي، يتجه إلى موضوعات أخرى بدت أكثر جاذبية ومناسبة للسن الصغيرة التي كنا عليها وقتها مثل الأدب والفن والرياضة. فأذكر أني كنت لا أقرأ من جريدة الأخبار التي دأب أبي، رحمة الله عليه، على شرائها إلا الصفحة الثانية التي كانت تحتوي على برامج التليفزيون والكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ، وكذا صفحة الرياضة خاصة ما تعلق بكرة القدم، بالإضافة إلى فقرة "نص كلمة" التي كان يكتبها الكاتب الساخر أحمد رجب، وكاريكاتير مصطفى حسين ومقال مصطفى أمين في الصفحة الأخيرة، وكلها مواد لا تمس الحياة السياسية إلا مسا خفيفا  من بعيد.

ويمكن أن يقال الشيء نفسه فيما يتعلق بقراءاتي الحرة في تلك السن، فبالرغم من أني كنت قارئ نهم إلا إن قراءتي كانت تقتصر على كل ما هو غريب ومثير مثل الروايات البوليسية وكتب السحر والخيال العلمي، كما كان كتّابي المفضلين هم أنيس منصور ومصطفى محمود ثم زكي نجيب محمود بعد ذلك، وفي كل الأحوال أنت لا تجد لدى هؤلاء ما يغذي لديك الوعي السياسي، أو قل أن اختياراتنا، وربما اختيارات المكتبة المدرسية، ومراكز الشباب التي كنا نتردد عليها لم تكن تتجه إلى ما يكتبه هؤلاء في السياسة وقضايا الأمة!

وبالرغم من أن التليفزيون كان يمثل أداة مهمة لنقل المعرفة السياسية إلا إننا لم نكن نهتم سوى بالأفلام والمسلسلات ومباريات الكرة، وكانت نشرة الأخبار بمثابة الجملة الاعتراضية البغيضة التي تلي مسلسل المساء وتسبق فيلم السهرة! هذا فضلا عن أن البرامج الحوارية السياسية كانت ثقيلة الظل، ولم تكن من الجاذبية بحيث نجلس أمامها طويلا.

اختلف الأمر في الجامعة، لكنه لم يختلف كثيرا، فقد تحولت القضية الفلسطينية، من خلال الأسر الطلابية، إلى صور مفجعة تنقل ما يحدث في فلسطين من اعتداءات سافرة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وإلى شعارات تندد بالأحداث وتطالب المسؤولين، في الداخل والخارج، بالتدخل العسكري. لم يختلف الأمر كثيرا لأننا دخلنا إلى الجامعة بوعي سياسي وقومي متهافت، وكانت النتيجة أننا كنا نستقبل تلك الصور والشعارات بنوع من التعاطف الوجداني اللحظي، الذي ما كان يلبث أن يزول خلال دقائق قليلة، بعدها نواصل حياتنا اليومية وكأن شيئا لم يكن!

وبهذا المعنى كان الوعي متقلبا، يروح ويجيئ وفقا لدرجة سخونة الأحداث، حدث ذلك في الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، التي عُرفت بانتفاضة الحجارة، والانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، التي عُرفت بانتفاضة الأقصى. ففي كل مرة كان يخرج الطلاب باللافتات، وتذيع الفضائيات أغاني فيروز، وتتراوح المواقف السياسية العربية، بل والدولية، ما بين الشجب والمطالبة بضبط النفس، ويعود رجل الشارع للمطالبة بالتدخل العسكري. وفي ظل شعور عام بالضعف والعجز، يتم طرح السؤال المحرج حول حجم قوتنا العسكرية الحقيقية مقارنة بقوة السلاح الإسرائيلي!

وأذكر أن الرئيس مبارك خرج ذات مرة في وسائل الإعلام، وقال، معلقا على وقفة الشباب بالجامعات ومطالبتهم إعلان الحرب على إسرائيل، إنه يقدر هذا الموقف، ولو كان في نفس مكانهم لاتخذ الموقف نفسه وطالب بالحرب، لكنه كرجل دولة في موقع المسؤولية لا يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بسهولة، خاصة أنه رجل عسكري ويفهم معني دخول البلاد في حرب.

وتزامنا مع هذه المرحلة، الثمانينيات والتسعينيات، وحتى بداية الألفية الثالثة تحولت القضية الفلسطينية، في الوعي، من الشعارات والوقفات الاحتجاجية إلى موضوع فني، عندما بدأنا نقرأ اشعار محمود درويش ونستمع إلى أغنيات فيروز الوطنية، ونشاهد كاريكاتير ناجي العلي وشخصيته الأيقونية "حنظلة". وفي هذه المرحلة، كما المراحل الأخرى، لم تقربنا هذه الأعمال من القضية الفلسطينية بقدر ما أبعدتنا، لأننا، وفي مفارقة لافتة، لم نكن نتفاعل مع القضية قدر تفاعلنا مع العمل الفني، أي أننا كنا نتلقى الأحداث، رغم بشاعتها، بوعينا الجمالي لا السياسي، لأننا تربينا على الأول أكثر من الأخير.

وفي هذا السياق، ينبغي أن نلاحظ أن كل الوسائل التي كان من المفترض أن تقربنا من القضية كانت بمثابة المسافات التي أبعدتنا عنها، ما جعل الأحداث التي تدور في الأراضي المحتلة مسألة قائمة على هامش الوعي. ففلسطين بعيدة في الزمان لأنها صارت مسألة تاريخية، وبعيدة في المكان لأننا لا نعيش تحت القصف، وإنما تحت أصوات الأغاني الوطنية والتصريحات السياسية المؤدلجة!

وبقدر بعد هذه المسافات كان الوعي العربي يعيش متفرجا تحت مظلة كاذبة من الشعور بالأمان. وبقدر هذه المسافات كان الوعي العربي يتعامل مع القضية الفلسطينية في نسختها المعاصرة، في الألفية الثالثة، كريموت كنترول معطوب، لا يحرك ساكنا مهما ضغطت على أزراره! ساعد على ذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت القضية إلى أيقونة تاريخية وجعلت النضال العربي، من أجل القضية، رمزيا. فيكفي أن تضع على بروفايلك صورة للمسجد الأقصى أو كوفية لفلسطين حتى تشعر أنك قمت بواجبك تجاه القضية الفلسطينية، بل تجاه القصف والحصار والقتلى الذين يتساقطون يوميا بالمئات!

بعد طوفان الأقصى الذي وقع في السابع من أكتوبر، كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا جدا، ولا إنسانيا إلى أبعد الحدود، لكن الوعي العربي، العاجز دوما عن الفعل، ابتكر طرقا ملتوية للتعبير عن تضامنه مع القضية الفلسطينية، وهي طرق تحقق له راحة الضمير وتنقذه من وطأة الشعور بالذنب، دون أن يدفع فاتورة الإخلاص للقضية الفلسطينية. وكانت استراتيجية هذا الوعي في ذلك السياق هو نقل المعركة من أرض فلسطين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، أي تحويل نضال الرصاص والدم إلى معارك كلامية، وتوجيه سهام النقد إلى أعداء وهميين بدلا من توجيهها إلى العدو الحقيقي!

وضح ذلك في الحملة التي شنها المصريون على محمد صلاح، نجمهم الساطع في سماء الكرة الإنجليزية، ومطالبته باتخاذ موقف مما يحدث في غزة، واستمرت الحملة أياما، وفي ظل صمت صلاح أمام الضحايا الفلسطينيين الذين يتساقطون كل ساعة، بدا الأمر سخيفا، لأن الوعي العاجز جعل القضية الفلسطينية كلها مرهونة بكلمة من لاعب كرة لا يجيد سوى التسديد على المرمى! ولتأكيد هذه الأهمية وسلبها من صلاح في الوقت نفسه عمل الغيورون على القضية (ظاهريا)، الراغبين في التخلص من عقدة الذنب، على استدعاء مواقف ايجابية لنصرة القضية من قبل لاعبين آخرين، مثل "أبو تريكة" و"رونالدو"، بل إن الأمر وصل إلى حد الاستشهاد بموقف لممثلة أفلام بورنو تبرعت بأموالها من أجل نصرة القضية!

ولأن المشهد عبثي في مجمله، خرج صلاح عن صمته ليسجل فيديو مفتعل، يخلو من الروح، ومن خلال صورة داكنة وأداء آلي، يتحدث بكلمات محايدة لا تدين أحدا، فقط تندد بالعنف من قبل الطرفين وتطالب بضبط النفس. وهو الأمر الذي استفز الداعمين للقضية على الفضاء الافتراضي، ودفعهم للقول " ليتك ما تكلمت"! بمعنى أن المسألة لم تكن أن يتكلم صلاح، لكن أن يتكلم بنحو ما يريد هؤلاء. والحجة أن كلمته مسموعة، بحكم شهرته العالمية، وبهذا المعنى يمكن أن يكون معبرا عن صوت الشعوب العربية.

 والحجة هنا منطقية ومقبولة، غير أن الصورة تتضح أكثر عندما يسجل باسم يوسف مداخلة تليفزيونية مع الإعلامي الانجليزي بيرس مورجان وينجح في إفحامه بأسلوبه الساخر، وهنا يهلل العرب، ويتم الاحتفاء بالمداخلة على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها نصرا مؤزرا للقضية الفلسطينية وللعرب بعامة. ومنذ هذه اللحظة يتحول باسم يوسف إلى بطل، و تنتشر مقاطع فيديو تصور باسم في صالات الجيم وهو يؤدي تمارينه الرياضية ببراعة، بعد أن تم نقل الصراع من الأرض الحقيقية (المحتلة) إلى العالم الافتراضي، وصار النصر يقاس بالقدرة على إفحام الخصوم على شاشات التلفزيون والموبايل، وليس في ساحات الحرب الدائرة فوق رؤوس الفلسطينيين!

ويعود المنطق نفسه للظهور، أن باسم شخصية عالمية وأن كلمته ستصل إلى العالم الغربي وهي مسألة تعد مكسبا للقضية في حد ذاتها، لكن الأيام التالية تكشف عن زيف هذا المنطق عندما يقرر المذيع الانجليزي استثمار النجاح الذي حققته مداخلة باسم في البرنامج، والتي لم تتعد الدقائق، ليشرع في تقديم حلقة كاملة حول القضية الفلسطينية، تتجاوز الساعتين بالاتفاق مع باسم يوسف. يصول فيها الأخير ويجول لتحقيق مزيد من المشاهدات. ويستمر باسم في دعمه للقضية بأسلوبه الاستعراضي عندما يشارك في حفل يرقص فيه رقصة الدبكة وهو متشح بالعلم الفلسطيني! في إشارة إلى أن البعد الرمزي للقضية هو السمة الغالبة على الوعي العربي.

فالوعي العربي يتعامل مع القضية من خلال استراتيجية خاصة يمكن اختزالها في مسألتين: البحث عن بطل رمزي، ومعركة افتراضية يمكن أن تُدار بملابس النوم! فنحن دائما في حالة بحث عن بطل للاحتفاء به أو نذل كي نصب جام غضبنا عليه، بعد أن تطهر الوعي من الذنب، وعرف طريقه نحو النضال الآمن. تأكد ذلك في واقعة اعتذار الممثل محمد سلام عن مسرحية كان من المقرر عرضها في السعودية، تضامنا مع فلسطيني غزة، وفي المقابل وقوف الممثل بيومي فؤاد على المسرح في الرياض للرد على موقف سلام بأنه لم يأت للإضحاك ولا لجمع المال، لكن من أجل تقديم فن! فيكفي أن تحتفي بموقف سلام وتكيل التهم لشخصية فؤاد حتى تشعر بأنك أديت واجبك تجاه ما يحدث في غزة!

وفي خطوة أخرى يتم استخدام القضية لأغراض سياسية. وهي مسألة ليست جديدة على مستوى الحكومات، لكن ربما صارت كذلك على مستوى الشعوب. حدث ذلك في الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث روج المؤيدون إلى مقولة أن الرئيس حمى البلاد من التورط في حرب مع إسرائيل، بينما روج المعارضون لمقولة أن عدم وصول المساعدات لمنكوبي غزة تم بالتواطؤ مع أمريكا وإسرائيل لاستكمال مشروع الإبادة الجماعية. والمسألة برمتها إنما تعني أن القضية لم تعد غاية في ذاتها بقدر ما أصبحت وسيلة لأغراض أخرى، وأن وعي رجل الشارع العربي لم يعد مهموما بالقضية الفلسطينية بنحو يتناسب وحجم الكارثة، لهذه الأسباب لم تشهد العواصم العربية مسيرات احتجاجية كتلك التي شهدناها، وما زلنا، في العواصم الأوروبية!

الوعي العربي، في التحليل الأخير، هو وعي مستلب سياسيا، بحيث لا تجده إلا غارقا في همومة اليومية، واهتماماته السطحية التي لا ترسخ إلا لوضعيته المستلبة، المهادنة للواقع، المستسلمة للتكرار البغيض، الذي لا يضيف إلا مزيدا من القهر والمعاناة، يؤكد ذلك ما حدث بعد الهدنة القصيرة التي توقفت خلالها آلة الحرب.

بعد الهدنة عاد القصف الإسرائيلي مرة أخرى تجاه سكان غزة بشكل أكثر عنفا، وفي ظل مباركة العالم للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، عاد الوعي العربي المتهافت لاهتماماته اليومية الأكثر سطحية، وعلى رأسها متابعة مباريات الكرة، كأس العالم للأندية بخاصة، وأخبار الفنانين من قبيل طلاق شيرين عبد الوهاب وزواج سامح الصريطي!

حدث ذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه نبرة التطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات، وهب الإعلاميون المصريون، ربما لأول مرة،  للتصريح بأن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، ما يعني أن المسافة قد اتسعت بين الوعي العربي والقضية الفلسطينية، لتعود محض مسألة رمزية لدى رجل الشارع، يتم اختزالها في شعار "فلسطين في القلب"، وهو شعار يعلقه الناس فوق مركباتهم وداخل محالهم التجارية، لتظل فلسطين في القلب، لكن دون أن يتحول الشعار إلى فعل مؤثر في العالم الخارجي!

***

د. ماهر عبد المحسن

ها هي مقارنة مع (مجموعات وهويات مشابهة)

افريقيا، الهنود، الترك، الأمريك لاتين، الاوربيون!

ان افضل طريقة لمعرفة مدى صلاحية (تسمية عرب) وصحة القول بـ(هوية عربية مشتركة)، ان نجري عملية مقارنة مع  (هويات المجموعات الاخرى) المعروفة في العالم. سوف نكتشف بوضوح كيف ان كل واحد من هذه المجموعات تعاني من نقص بـ(الصفات الهوياتية المشتركة)، وان (المجموعة العربية) هي اكثرها توفرا لصفات الهوية الجامعة:

اولا، مثال قارة افريقيا:

1ـ بالحقيقة ان هذه القارة ، مثل قارة آسيا المتعددة الاقاليم الجغرافية والمجموعات الهوياتية المختلفة عن بعضها البعض بيئيا وبشريا،  فليس هنالك هوية مشتركة بين الصيني والسعودي والسيبيري، رغم انهم من آسيا.  كذلك افريقيا رغم وحدتها الجغرافية الا انها منقسمة الى مجموعتين مختلفين من النواحي البيئية والبشرية:

ـ القسم الشمالي البحر متوسطي: (وادي النيل المصري السوداني) مع بلدان شمال افريقيا المغاربية.

ـ القسم الجنوبي (افريقيا السوداء: جنوب الصحراء): المنفصل جغرافيا وبيئيا عن الشمال بصحارى شاسعة (الصحراء الكبرى) حيث يسود المناخ الاستوائي والغاباتي، والنوع الافريقي الزنجي.

ـ ان هذا القسم الجنوبي، بسبب موانع بيئية: (مثل المناخ الاستوائي وصعوبة تربية حيوانات النقل من خيول وجمال)، ادت الى عدم انبثاق دول كبرى وحضارات كتابية.

ـ  بسبب هذا الضعف العسكري والثقافي عانت هذه الشعوب، خصوصا المطلة على المحيط الاطلسي، من العبودية  في الحقبة الاستعمارية الاوربية، مما ادى الى خلق جاليات من زنوج  افريقيا في الامريكتين الشمالية والجنوبية، مرتبطة عاطفيا وعرقيا بافريقيا السوداء. وهذا الوضع التاريخي العالمي ادى الى تعميق الشعور لدى شعوب افريقيا السوداء بـ(هوية زنجية عالمية: Negritud) كما عبّر عن ذلك مثقفيهم الكبار.  لهذا ليس صدفة انه في جميع انحاء العالم  يفهم من تسمية: (افريقي)، ليس المصري والمغاربي، بل (الزنجي الاسود)، بحيث صار اسمهم الرسمي في امريكا بدلا من (زنوج): (افريقي امريكي: African Americans).

ـ من كل هذا، فأن العلاقة بين القسمين الشمالي والجنوبي لقارة افريقيا، هي علاقة جغرافية اسمية وليس (هوياتية)، اشبه بعلاقة عرب آسيا مع باقي شعوب الهند والصين واليابان.. الخ.. أي يصح الحديث عن مجموعتين بهويتين  مختلفتين في قارة افريقيا: المجموعة العربية في الشمال: (بلدان النيل والمغاربية)، والمجموعة الزنجية السوداء في الجنوب. ([1])

ثانيا، مثال (دولة الهند)، و(شبه القارة الهندية):

من المعلوم ان (اسم الهند) يطلق على (الدولة)، وايضا على (شبه القارة) التي تشمل سبع دول، اكبرها الهند وباكستان وبنغلادش (الخارطة مرفقة). هذه معلومات اساسية بخصوص (اسم وهوية الهند):

1 ـ بالنسبة لدولة الهند نفسها، فأن الناطقين باللغة الهندية فقط 47% من السكان، ثم عدة قوميات ناطقة بلغات اخرى: (تامول وبنجاب وبنغال.. الخ..).

2ـ لكن (العقيدة الهندوسية) هي الجامع الاكبر لاقوام (دولة الهند)، إذ يعتنقها 80% ، اما باقي بلدان (شبه القارة) مثل باكستان وبنغلادش، فهي مسلمة.

3 ـ  هذه معلومة مهمة: ان (الزعيم غاندي)، مؤسس الهند الحديثة، ليست الهندية لغته الاصلية رغم انها لغته الوطنية الثقافية، بل (اللغة الغوجاراتية) التي ينتمي الى مجموعتها، وحتى كتاباته بها، لكنه على (الديانة الهندوسية) ايمانا وتطبيقا.(عن الهند)([2])

ثالثا، مثال (منظمة الدول التركية):

وهي تجمع سبعة دول: تركيا وآذربيجان مع خمسة دول من آسيا الوسطى (الخارطة):

1 ـ  هذه الدول تتكلم عدة لغات مختلفة، لكنها ضمن:(عائلة اللغات الاتراكية: 35 لغة)، بعضها متشابهة مثل (اللغات الاوغزية: الآذربيجانية والتركية والتركمانية والتترية)، وبعضها كاختلاف العربية عن السريانية، مثل (الاوغورية والاوزبكية، والكازخستانية..).

2ـ كذلك هي تستعمل انظمة كتابية مختلفة: السيريلية الروسية واللاتينية والعربية.

3ـ في مجموع هذه البلدان، هنالك حوالي 20 % من السكان يتكلمون لغات خاصة بهم بعيدة تماما عن (العائلة الاتراكية) ، بنسب مختلفة، مثل: الروسية والكردية والعربية، وغيرها.. بل ضمنها (دولة هنغاريا الاوربية) المختلفة تماما جغرافيا ودينيا ولغويا عن (الاتراك)، ولمجرد ان (لغتها) مرتبطة من بعيد بالتركية: (عائلة اللغات الأورالية – ألالتائية).)

4ـ اكثر من 80% منهم (مسلمون) مع اقليات مسيحية مثل الروس. كذلك (هنغاريا) كلها مسيحية.

5 ـ غالبية هذه الدول غير مترابطة جغرافيا، ولا يجمعها غير التشابه اللغوي. ومنقسمة عموما الى اقليمين جغرافييين منقطعين تماما عن بعضهما بدولة ايران وبحر الخزر: (بلدان آسيا الوسطى)، ثم (تركيا وآذربيجان وقبرص التركية).

6 ـ ان هذه القطيعة الجغرافية، ادت طبيعا الى ضعف (الرابطة التاريخية) بسبب حصول الهجرات الكبرى منذ حوالي الف عام، للـ(القبائل التركية المسلمة: السلاجقة والعثمانيون)  من (آسيا الوسطى) الى (أذربيجان) والى (الاناضول: تركيا الحالية)، لمواجهة التهديد المسيحي الصليبي والبيزنطي. ([3])

رابعا: مثال امريكا اللاتينية

وهي  شعوب (قارة امريكا الجنوبية والوسطى)(الخارطة):

1ـ تحمل اسمها: (لاتينية) لانها تتكلم بلغتين لاتينيتين: (الاسبانية والبرتغالية) بالاضافة الى المذهب الكاثوليكي(اللاتيني).

2ـ لكن هنالك بجانب الاسبانية والبرتغالية، عدة لغات مهمة لـ(شعوب الهنود الحمر). في عدة دول، بالاضافة الى لغات اوربية متداولة بصورة محدودة: الانكليزية والهولندية، كذلك العربية التي ينطق بها عدة ملايين.

3ـ علما بأن اسم (امريكا) قد فرضه المستعمرون الاسبان والبرتغال تيمنا بالمكتشف الثاني بعد(كولمبس)، القبطان الايطالي (أمريكو فسبوتشي: Amerigo Vespucci: 1497).

4ـ صحيح ان هنالك الرابطة الجغرافية (في قارة واحدة) رغم الموانع الطبيعة الكبيرة بين البلدان: (غابات الامازون وسلاسل جبال)، لكن بالحقيقة هنالك اشكالية جغرافية داخلية مهمة: ان هذه القارة تمتد طوليا بين عدة اقاليم مناخية متناقضة جدا:  خط الاستواء الساخن شمالها، الى القطب الجنوبي المثلج جنوبها. وهذا يعني الاختلاف الكبير بين شعوب القسمين من جميع النواحي الثقافية والنفسية، رغم المشترك اللغوي التاريخي.

5ـ ان شعوبها تشترك بالتاريخ الشامل في مرحلتيه: الاولى القديمة السابقة للغزو الاوربي: (تاريخ من اطلق عليهم جزافا تسمية (هنود حمر) ودولهم القديمة: (المايا والانكا والازتك). ثم التاريخ الحديث مع الغزو الاوربي في القرن 15، الذي ارتكب عمليات ابادة جماعية كبرى حربية ووبائية ضد الشعوب الاصلية. وقد احتاجت الكنيسة الكاثولية حوالي القرن كي تقر بأن (الهنود الحمر) بشر وبتوجب نشر المسيحية بينهم.

6ـ انها تتكون من ثلاث مجموعات عرقية مختلفة تماما من الناحية التاريخية والاصل الجغرافي: الاوربيون الذين نزحوا بعد الغزو (حوالي 43%)، ثم (الهنود الحمر وهم السكان القدماء)، ثم (الزنوج) الذين جلبوا كعبيد من قبل الاوربيين.  وبين الجميع هنالك ايضا(المختلطون من هذه الاعراق). ([4])

خامسا ـ مثال قارة اوربا

1 ـ تشترك في جغرافية قارة واحدة اسمها(اوربا) وهو اسم اشاعه اليونان من اصل فينقي: (غوربا: الغرب: منطقة الغروب)..

2ـ مع اختلاف كبير جغرافي وبيئي بين القسمين الغربي والشرقي من القارة، ادى تاريخيا الى انقسام (ديني ولغوي ومصالحي) بينهما: (اوربا الغربية: الكاثوليكية والبروتستانية، واللغات الجرمانية واللاتينية)، وارتباط غالبيتها بـ(الاتحاد الاوربي)، ثم  (اوربا الشرقية: الارثوذكسية، واللغات السلافية). وهذا الانقسام سبب العداء التاريخي لـ(روسيا) بسبب موقعها كمصد طبيعي يمنع تمدد الغرب نحو شرق اوربا وآسيا.

3ـ منذ اكتشاف امريكا في القرن 15 راح يتفاقم الانقسام بين القسمين الشرقي والغربي، بعد تعمق انتماء (اوربا الغربية) الى (امريكا الشمالية) ثقافيا وسياسيا وتعاطفيا ومصالحيا، تحت اسم: (العالم الغربي).

4 ـ ان شعوب اوربا لا تشترك بلغة واحدة بل بعشرات اللغات المختلفة، مع نظامي كتابة لاتيني وسيرلي. ولكنها متفقة اكثر واكثر على استخدام الانكليزية لغة الثقافة والتداول والتفاهم.

5 ـ انها متفقة تقريبا على ان جذورها الثقافية تعود الى التاريخ الحضاري(اليوناني ـ الروماني) وهو التاريخ الاوربي الاول. ثم الحقبة المسيحية في القرون الوسطى. ولا زالت المسيحية بطوائفها، هي الديانة الغالبة.

6 ـ ان شعوب اوربا تتكون من نوعين(جنسين) من البشر: النوع الشمالي الاشقر، والنوع الجنوبي البحر متوسطي الحنطي وغلبة المختلط بينهما. رغم اصرارهم وخصوصا في الوقت الحالي على الادعاء الاستعلائي العنصري بتمثيلهم الاوحد لـ: (النوع الابيض) واعتبار جميع الشعوب الاخرى:(ملونين)، رغم انهم هم الملونون بالشقار والحمار والسمار!؟

7 ـ رغم التداخل التاريخي والميراثي والديني، الا ان شعوب اوربا طيلة تاريخها عاشت بينها حروبا كارثية دينية وعرقية وطبقية ابادت مئات الملايين من الاوربيين، وآخرها واهولها: الحربين العالميتين.

8ـ ان شعوب اوربا الغربية خصوصا، تتفاخر بان بلدانها معقل انبثاق الحضارة الغربية الحديثة، وانهم (مع امريكا الشمالية) لا زالوا ومنذ عدة قرون يتحكمون في باقي العالم.([5])

***

المجموعة العربية وصفات هويتها المشتركة

الامثلة المذكورة اعلاه، تساعدنا على المقارنة والاجابة على هذه الاشكالية المصطنعة، من خلال تحديد (المشتركات) بين هذه (الشعوب العربية) التي تسمح لنا بالقول بأنها بـ(هوية جماعية مشتركة: عربية):

1 ـ لأنها تجتمع بجغرافية (ارضية: منبسطة عموما وبوادي مترابطة من الجزيرة العربية وسيناء حتى الصحراء الكبرى المغاربية. كذلك (مناخ شبه صحراوي)، مع ضفاف مشتركة على (البحر المتوسط) ممتدة مفتوحة (عكس ضفاف اوربا المتعرجة والمتقطعة)، تمتد شبه مستقيمة من (اسكندرونة سوريا) حتى (طنجة المغرب).

2ـ أي ان بلدان هذه (المجموعة العربية)  جغرافيا وبيئيا مشتركة ومتداخلة ولا توجد بينها موانع كبرى وانقطاعات. فمثلا لو ان(قناة السويس) كانت موجودة منذ التاريخ القديم، يقينا لحصل انقطاع جغرافي تاريخي بشري كبير بين القسمين بسبب صعوبة تنقل القوافل والجيوش والاختلاط  والتجانس السكاني والثقافي بين المجموعتين ألآسيوية المشرقية والافريقية المغاربية.

3 ـ  لانها تتمتع بشرط مهم جدا وحاسم تفتقده كل التجمعات المذكورة اعلاه: اللغة العربية الواحدة، هي اللغة الرسمية والثقافية الاولى والشعبية والعائلية لاكثر من 80% من الشعوب العربية.  مع وجود نسب معينة من الناطقين بلغات مختلفة اهمها لغات: الاكراد والبربر(الامازيغ)، مع السريان والتركمان  والارمن، وغيرهم..

4 ـ لأنها بغالبية دينية كبرى: (مسلمة)، مع نسب مسيحية ويهودية.

5ـ لأنها جميعها تشترك في التاريخ  الحضاري العربي الاسلامي،  الذي لا زال حاضرا وحيا لدى هذه الشعوب ونخبها ودولها.

6 ـ لأنها تنتمى ايضا الى تاريخ حضاري اقدم: (الحضارة الشرقية الاولى: مصر والشام والعراق، مع قرطاجة) والاساس الثقافي واللغوي الاقدم: (السامي ـ الحامي). لكنها لاسباب عديدة و(سوء فهم قومي وبلداني) لم تبادر النخب العربية حتى الان باعتبار هذه الحقبة القديمة، هي اساسنا التاريخي الحضاري الاول السابق والمرتبط بالاسلام والعربية، مثلما اتفقت الشعوب الاوربية  باعتبار: (التاريخ اليوناني الروماني) هو جذورها وتاريخها الحضاري الاول، قبل المسيحية.

7ـ لأن جميع الشعوب العربية تشترك بالتكوين العرقي الخلقي الشكلي المزيج والمختلط الى حد كبير من مختلف الانواع البشرية: الحنطية والسمراء الافريقية والشقراء والاسيوية.

8ـ لأن  هذه الشعوب العربية، مهما اختلفت وتآمرت واغلقت الحدود بينها، الا انها طيلة التاريخ لم تشتعل بينها حروبا كارثية طاحنة تبيد الملايين،  مثلما حصل في التاريخ الاوربي. حتى الصراعات الطائفية(بين الشيعة والسنة، المسيح والمسلمين) لم تبلغ حدتها وعدد ضحاياها عشر العشر ما حصل في اوربا الغربية بين(البروتستان والكاثوليك: حرب الثلاثين عام) وعمليات الابادة ضد اليهود: (الهولوكوست)

9ـ لأن هذه الشعوب العربية في المشرق والمغرب، تشترك بمصالح عديدة تفرض عليها (التجمع وتقوية هويتهم المشتركة) لمواجهة المخاطر التاريخية التي تواجهم جميعا بدون استثناء: العداء التاريخي الجغرافي (الاوربي: ضفة البحر المتوسط المقابلة)  ومشاريع السيطرة والاستحواذ، منذ حقبة الاحتلال اليوناني ثم الرومان وحروب قرطاجة قبل اكثر من الفي عام، وحتى الآن.  وما تأسيس (اسرائيل) الا تعبير عن هذا الهوس الاوربي الممزوج بروح الجشع والسادية.([6])

10ـ هذه الشعوب في طريقها للتتخلص من الفهم(العرقي القومي العروبي وغيره)، واعتبار الروابط بينها اكبر واقدم من حكاية الاصول العرقية والجينية وغيرها، بل هي: روابط جغرافية تاريخية ثقافية مصالحية تعاطفية ووو..

11ـ بما انه لا توجد حاليا (دولة اتحادية تجمعها) فمن الخطأ الحديث عن:(امة عربية ووطن عربي) بل هناك: (عالم عربي) يتكون من(امم عربية) بعدد دولها، وكل (امة) تتكون من قوميات وطوائف خاصة بها.  كما هو حال(امم اوربا) التي قد تصبح: (امة اوربية واحدة) لو استمرت بتوحدها الى حد تكوين:(الولايات المتحدة الاوربية) على غرار(الامة الامريكية).

12ـ من المهم جدا التذكير: ان الانتماء الى(الهوية العربية الجامعة) يجب ان يكون جزءا من الانتماء الى(الهوية الانسانية الجامعة) لكل شعوب الارض، المتجنبة للعنصرية والاستعلاء.

اخيرا، يتوجب تذكير ذوي الخطاب العنصري ضد العرب: انتم تستكثرون على (العرب) انهم نشروا العربية والتعريب بين شعوب العالم العربي الحالي، لكنكم تتقبلون قيام الاوربيين الغربيين بتغريب قارات امريكا واستراليا وفرض لغاتهم  وثقافتهم  ودينهم على شعوب الارض، بواسطة الحروب والعبوديات والابادات.

***

سليم مطر ـ جنيف

...........................

لمن يرغب بمطالعة دراستنا مع الخرائط التوضيحية العديدة، والمصادر المفصلة، فانها في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/162-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9.html

المصادر:

تماشيا مع الدور الكبير للعالم الرقمي(الانترنت) فأننا تسهيلا للقارئ، نسجل له المصادر التي يمكن بسهولة مطالعتها على شاشته:

[1] ـ عن موضوع افريقيا، ابحث عن: إفريقيا جنوب الصحراء../ سنغور وحركة الزنجية الأفريقية من منظورإفريقي../ أصل كلمة Negro (النسخة kamite) - الأفريكيبري

[2] ـ عن الهند وشبه القارة الهندية وعن غاندي، ابحث عن:

ـ  دولة الهند والهندوسية../ شبه القارة الهندية../ لغات الهند../ لغة غاندي الغوجاراتية

[3] ـ عن موضوع الاتراك، ابحث:

ـ منظمة الدول التركية../ اللغات الاتراكية../ دول آسيا الوسطى.

[4] ـ عن قسم: امريكا اللاتينية، ابحث عن المواضيع المنشورة التالية:

ـ تاريخ امريكا اللاتنية../الشعوب الأصلية في الأمريكتين../عرب أمريكا اللاتينية/ الجرح الغائر لأميركا اللاتينية: صفحات من تاريخ العبودية../الفاتيكان كيان إجرامى دولى.. / معسكرات الإعتقال الكنسية والقتل العرقى../ Catholic Church and the Age of Discovery../ الكنيسة الكاثوليكية وعصر الاستكشاف../ البابا يطلب العفو من سكان المكسيك الأصليين../الكاثوليكية في كندا تعتذر للسكان الأصليين.../ التنوع العرقي للقارة الأمريكية الجنوبية: Demographics of South America/ Diversité ethnique de la population sud-américaine).

[5] ـ عن موضوع اوربا، ابحث عن:

ـ الاتحاد الاوربي../ الحروب الدينية في اوربا../ روسيا، البعبع الدائم لاوربا الغربية: سليم مطر.. /معاداة الروس../لغات اوربا وطوائفها.. اوربا الغربية والولايات المتحدة

[6] ـ عن موضوع (العرب) راجع دراساتنا العديدة  عن العرب، المنشورة في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/

كثير من الأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية صاحبت حرب الإبادة في غزة سواء فيما جرى يوم السابع من أكتوبر أو حول مجريات الحرب أو مسماها (الحرب على غزة) وهو مسمى مضلل وبالتالي هناك حقائق يجب تسليط الضوء عليها والتأكيد عليها وهي:

1- بالرغم مما يتعرض له قطاع غزة من حرب ابادة غير مسبوقة تاريخياً وفلسطينيو غزة الأكثر معاناة الا أنها في الحقيقة حرب على كل الشعب في غزة والضفة والقدس وعلى القضية الوطنية برمتها؛ وهدف العدو من هذا المسمى تعميق الانقسام وتجاهل الحرب الدائرة في الضفة والقدس

2- الحرب على الشعب الفلسطيني لم تبدأ يوم إعلان إسرائيل الحرب على غزة بل هي متواصلة طوال ٧٥ عاما ولو لم يكن هناك احتلال لكل فلسطين وحصار لغزة ما كانت حرب غزة وما بعدها.

3- قطاع غزة وأهله جزء لا يتجزأ من فلسطين: الدولة والشعب ولن تنجح اية تسوية تتجاهل هذه الحقيقة.

4- مقاومة حركة حماس وكل الفصائل مقاومة شرعية للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال

5- لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني يخوض قتالاً حقيقياً يكشف أكذوبة الجيش الذي لا يقهر ويؤكد أن إسرائيل قابلة للهزيمة بل وللزوال.

6- المشاركة المباشرة والفعلية لواشنطن ودول غربية في الحرب مّكن العدو من إطالة أمد الحرب والقتال على عدة جبهات.

7- واهم الاحتلال إن اعتقد أنه بمجازره وإرهابه سينهي القضية الفلسطينية وحتى لو تم تهجير سكان غزة والضفة فالمقاومة ستستمر أشد مما كانت؛ حيث انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات من خارج الأراضي المحتلة قبل أن تمتد للداخل.

8- الحرب لم تعد عسكرية في غزة فقط بل توسعت للضفة وتحولت لحرب سياسية أيضاً على القضية والقيادة بهدف إنهاء الصراع كما ورد في (خطة الحسم) التي طرحها المتطرف سموترتش.

9- المجازر في غزة والضفة أنتجت جيلاً فلسطينياً أكثر حقدا وكراهية للاحتلال وأكثر تصميماً على مواصلة النضال.

10- مجازر الاحتلال في غزة والضفة أكدت أن عدونا ليس فقط نتنياهو واليمين الصهيوني بل اليهودية الصهيونية كديانة وعقيدة شكلت المرجعية لكل أشكال الإرهاب والتطرف.

11- جرائم وعنصرية الكيان الصهيوني وممارسات اليمين الصهيوني المتطرف بددت كل فرص السلام في المنطقة وأكدت صعوبة التعايش بين الشعبين بل والديانتين.

12- أسقطت جريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال أوهام التطبيع الذي يصنع السلام لأنها كشفت الوجه الحقيقي لدولة الكيان وأحرجت الأنظمة المطبعة أو على الأقل حدت من اندفاعها نحو التطبيع.

13- بطولات وصمود المقاومة في غزة الصغيرة بمساحتها والفقيرة بإمكانياتها للشهر الثالث يؤكد أن الجيوش العربية لم تحارب بجدية في كل حروبها السابقة بل كانت حروباً تآمرية وخيانية كانت السبب في ضياع فلسطين.

14- أكدت الحرب أن أمريكا هي العدو الرئيس ولا يمكنها أن تكون وسيطاً للسلام.

15- ما زالت واشنطن مسيطرة ومهيمنة على الشرق الأوسط مما يتعارض مع مراهنات وتحليلات البعض على تراجع حضورها لصالح روسيا والصين.

16- هناك كثير من الأمور مازالت خفية وملتبسة سواء المتعلقة بقرار (طوفان الأقصى) أو العلاقة بين حماس الداخل وحماس الخارج أو بمحور المقاومة

17- هزال وتردد المواقف الرسمية العربية يؤكد أن هذه الأنظمة متواطئة وشريكة في العدوان وليس فقط عاجزة.

18- غياب إيران عن المشهد وهي الداعم الأكبر عسكريا لفصائل المقاومة واكتفائها بمناوشات وكلائها في اليمن ولبنان والعراق يطرح أكثر من سؤال حول دورها في الإقليم؛ ونفس الأمر بالنسبة لتركيا وقطر اللتان تتصرفان كمحايدين.

19- صمود المقاومة ورفض الشعب لمخطط التهجير يؤكد عظمة الشعب الفلسطيني وبدد أوهام العدو وأنظمة التطبيع بأن الشعب الفلسطيني استسلم للأمر الواقع وتخلى عن حقوقه الوطنية.

20- حتى لو افترضنا جدلاً أن العدو تمكن من القضاء على حركة حماس أو إضعافها فحماس مجرد فصيل أو حزب والقضاء عليها لا يعني القضاء على الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، فالمقاومة ستستمر بحماس أو بدونها

21- الحراك الشعبي في العالم المندد بجرائم الاحتلال أعاد القضية الوطنية للواجهة وأكد أن لا سلام الا بدحر الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

22- للأسف، بالرغم من الخطر الوجودي الذي يهدد حاضر ومستقبل القضية الوطن إلا أنه لم يحدث أي اجتماع وطني للحث قي كيفية مواجهة الخطر والاتفاق على مستقبل القطاع، بل هناك تصريحات تعكس خلافات كبيرة حول الموضوع كتصريحات السنوار وهنية.

23- بالرغم من أهمية المواقف العربية والإسلامية والدولية المنددة بالعدوان وقرارات الجمعية العامة بوقف العدوان إلا أن كل هذه الدول لم تتخذ أي خطوات عملية في مواجهة المعتدي كقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني أو مجرد سحب السفير.

24- بالرغم من تراجع الحديث عن التهجير الى سيناء إلا أن دفع حوالي مليون فلسطيني إلى رفح على الحدود المصرية مؤشر خطير.

بعد كل هذه الحقائق أو الملاحظات ما هي سيناريوهات نهاية العدوان ومستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام؟

لا شك أن العدو بجرائمه ألحق أضراراً هائلة في القطاع وقد يفرض معادلة سياسية جديدة ولن يكون القطاع ما بعد الحرب كما قبلها على كافة المستويات وستكون الحياة فيه أكثر قساوة؛ ولكن أهالي غزة مصممون على الصمود ورفض التهجير حالهم كحال أهلنا في الضفة.

ولأن لكل حرب نهاية الا أن نهاية هذه الحرب لا تعني نهاية الصراع ولن تجلب للعدو الأمن والأمان.

بالرغم من عدم معرفة ما هي مخططات العدو الحقيقية جنى الان إلا أن السيناريو المحتمل في حالة فشل التهجير خارج حدود القطاع وفشل مشروع دولة في غزة فقط أن يسحب العدو جيشه من داخل القطاع مع الحفاظ على منطقة أمنية على طول حدود القطاع الشرقية والشمالية

أما مستقبل القطاع وكما نتوقع ونأمل:

1 - صدور قرار أممي ومرابطة قوات دولية وعربية.

2 - أن تدار غزة مؤقتاً من طرف حكومة أو سلطة مدنية غير حزبية؛ مرتبطة بالسلطة والدولة الفلسطينية فيدرالياً بقيادة وطنية عليا مشتركة.

3- ان تكون منزوعة السلاح مقابل التزام دولي بحل عادل للقضية من خلال مؤتمر دولي للسلام.

***

د. ابراهيم أبراش

 

لقد ورثت النخب السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد 2003 تراكماً سلوكياً وفكرياً وأنماطاً من الممارسات التي كان يمارسها الرئيس السابق صدام حسين ويستخدمها مع تمتعه بكاريزما عالية مدعمة بقوة وشدة في التعامل وإفراط في الإنفاق من المال العام، حتى أصبح بنظر العراقيين وغالبية الشعوب العربية إمبراطوراً يمتلك كل مقدرات العراق وله حق التصرف بها لوحده دون غيره.

هذا الإرث وغيره من الموروثات التاريخية تحول بدراية أو بدونها الى سلوك لدى كثير من الزعامات السياسية التي تبلورت خلال العقدين الماضيين، وأصبح جزءاً من ممارساتها اليومية في تقليد شخصية صدام حسين أو غيره بوعي أو كشعور انعكاسي وتحصيل حاصل لتراكم تاريخي من الحكم الفردي والشمولي المتكلس في الذاكرة الفردية والاجتماعية، ورغم أن صدام حسين في تاريخنا المعاصر يكاد أن يكون الأكثر تميزاً في هذا السلوك الطاغي في الفردية المطلقة إلا أن جولة سريعة في دهاليز التاريخ القريب والبعيد سنجد فيها المئات من أمثاله في مجتمعات مثقلة بالتخلف وغياب الوعي إلى درجة أن كل ما حدث في العراق وفي العديد من البلدان المتشابهة معه من تغييرات ترقيعية في النظام السياسي لم تزل تلك المتكلسات المتوارثة في التفكير والسلوك، بل ربما زادت اكثر في توالدها منذ تحطيم الأصنام الحجرية التي صنعها الانسان قبل آلاف السنين بديلة لرب يعبده أو قوة يخشاها أو مرجع يعود إليه في انكساراته وهزائمه حتى يومنا هذا، حيث تم استبدال الحجارة بالإنسان في صناعة الأصنام!

هذه الصناعة بحد ذاتها هي عملية بحث عن ملاذ او ملجئ يهرب اليه الفرد والمجتمع من حالة الانكسار للخلاص من التردي المتراكم، ولعلنا نتذكر قصة الحذاء الذي قذفه أحد الصحفيين بوجه الرئيس الامريكي في بغداد وتهافت كل وسائل الاعلام العربية على ذلك الحذاء الحدث الذي حولته خلال ساعات إلى رمز من رموز المقاومة والوطنية، وحولت الصحفي إلى شخصية تكاد تنافس عنترة بن شداد في ذاكرة التراكم الانكساري!

وبجولة سريعة في تاريخ منطقتنا المعاصر نرى أن هزائم الحروب في أربعينات القرن الماضي أفرزت ثورة مصر وزعيمها الرئيس عبدالناصر، كما أنتجت هزائم حزيران عام 1967م صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي، وأخيرا انتجت ماكنة الهزائم بعد اجتياح لبنان وسقوط بغداد العشرات من المنظمات المتطرفة والميليشيات وزعمائها التي تعمل ليل نهار في تخدير شعوب هذه المنطقة وسوقها الى أتون حروب مدمرة وانتكاسات جديدة كما حصل في هزيمة حزيران وحرب الخليج الثانية وسقوط بغداد وتدمير لبنان واخيراً ذبح غزة من الوريد الى الوريد تحت شعاراتهم وعنترياتهم الفارغة التي جاءت كالعادة صدى لتلك الماكنة الإعلامية العوراء التي تستهين بعقول الناس كي تحول تلك الهزائم المخزية الى انتصارات وهمية تشبه ذلك الانتصار البائس في حرب الخليج الثانية وجعله (ام المعارك) بعد تدمير العراق بالكامل، واعتبار تدمير غزة وقبلها لبنان انتصاراً لفرسان الأمة ومجاهديها؟

إن إطلاق وتداول تسمية الرئيس أو القائد على رؤساء مجموعات مسلحة وميليشيات وأحزاب واختزال الشعب أو الأمة فيها، هو بحد ذاته انعكاس لشعور داخلي متأثر جداً بسلوك صدام حسين وأمثاله في التاريخ، وهي أيضاً بداية عملية تصنيع أصنام بشرية وإدامة ثقافتها في بيئة نفسية واجتماعية لم تتغير بإسقاط نظام صدام حسين، وما زالت تعاني من تراكمات نفسية واجتماعية أدت الى الفشل في تكوين دولة ونظام سياسي معاصر تسوده القوانين وأسس الدستور تحت مظلة المواطنة، حيث بدلاً من إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة لجأت تلك الأحزاب والمجموعات والأفراد تحت مطرقة تلك الأنظمة الفاسدة وتراكماتها وبغياب الوعي وتسيّد النظام القبلي والمذهبي وانتشار الفساد المالي والإداري إلى تقزيم الدولة بمجموعات مسلحة وميليشيات تتزعمها شخصيات مافياوية تحولت الى حيتان للفساد الذي ينخر مفاصل الدولة والمجتمع.

لقد اثبتت تجارب الشعوب أن إقحام الدين ورجالاته والقبيلة ورموزها وأنظمتها في تكوين وإدارة الدولة سيربك عملها ويزيد الفجوة بينها وبين بقية مكونات وتوجهات الشعوب، خاصة وان القبيلة كنظام اجتماعي في مجتمعاتنا محل احترام وتقدير له ولرموزه حاله حال الدين وقدسيته، ولذا فالنأي بهما عن الدولة والسياسة سيحفظ لهما مكانتهما ويبعد الدولة من ارهاصات تشابك وتشتت مراكز القرار ومن ثم اضعاف سلطة القانون والدولة واقحام هذين المكونين في الاعيب السياسة واداء الدولة، ولعل في تجارب دول أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا دروس تؤكد أن طريق الخلاص يبدأ بالعلم والمعرفة والتربية الحقة وبناء دولة السلام والعدالة والعلم بعيداً عن هذا الإرث المتكلس في ذاكرة وسيكولوجية هذه الشعوب.

***

كفاح محمود

استحوذ الصراع فى فلسطين المحتلة على الاهتمام الإعلامي عالمياً فى نهايات عام 2023، وإن لم يكن الصراع الوحيد، بل سبقه الصراع فى السودان، وقبلهما الصراع الروسي الأوكراني. ثم هناك ما حدث فى الغرب الإفريقي من تداعِي للهيمنة الفرنسية على عدة دول انحازت للمعسكر الروسي سياسياً. وهو ما يجعل كل تلك الصراعات تصب فى المعركة الكبري القديمة والمستمرة بين القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والقطب الشرقي بقيادة روسيا والصين. وليبدأ عام جديد وفصل مختلف من فصول الصراع الممتد بين الفريقين فى مستهل عام 2024.

9 شهور سوداء

كأنها ولادة متعسرة لجنين سوداني مشوه خارج من بوتقة حرب لم يخسر فيها إلا الشعب السوداني.

تقترب الحرب السودانية من إكمال شهرها التاسع، وقد تحول أكثر من 60% مما تبقي من السودان إلى ساحات حروب، وبدأت المناطق الآمنة للنازحين من ويلات المعارك تتقلص. وبات نحو ثلثي الشعب السوداني معرضين لأخطار المجاعة والمرض، ناهيك عن تعرضهم لمخاطر القتل والنهب والسلب والخطف والاغتصاب. ولتعلن الأمم المتحدة عن تعرض الشعب السوداني لمأساة إنسانية وشيكة، وأن هناك سبعة ملايين نازح سوداني غادروا بيوتهم متجهين إلى المجهول.

آخر الأخبار تتحدث عن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة (ود مدني) فى الجنوب الشرقي من مدينة الخرطوم بعد انسحاب الجيش منها. وهو الأمر الذي يوسع رقعة الصراع ، ويزيد الانقسامات بين عناصر النسيج الداخلي للمجتمع السوداني. ذلك المجتمع القبلي الذي وصل فيه عدد الحركات المسلحة به إلى نحو 92 حركة، أكثر من 90% منها فى دارفور وكردفان. وبعد نحو 300 يوم من الحرب، اختلفت انحيازات تلك الحركات إما نحو الجيش أو نحو الجنجويد، وإن أعلن أكثر تلك الحركات وقوفه على الحياد.

القطاع الصحي فى السودان يتداعَي، وحتى منظمات الهلال والصليب الأحمر توشك أن ترفع راية الاستسلام بسبب انعدام قدرتها على مواصلة خدماتها فى ظل صراع دموي بغيض ينتهك الأعراف. والمناطق التي اجتاحتها قوات الدعم السريع شهدت عمليات نهب وسرقة واسعة النطاق، وانتشرت مشاهد لسيارات محملة بأكوام من النقود يتم تداولها بين جنود الجنجويد. كما انتشرت أخبار النازحين والمفقودين والقتلي فى الطرقات. كما انتشرت فظائع الاغتصاب وانتهاك الأعراض لدرجة حدوث نقص حاد فى أدوية منع الحمل بسبب الطلب الشديد عليها من جانب ضحايا الجنجويد من نساء السودان!

وما تزال عمليات تدفق السلاح تمثل الخطر الأكبر على تمدد واتساع نطاق الصراع، فحتى لو جلست أطرافه على مائدة المفاوضات كما هو مرتقب خلال أيام أو أسابيع. سوف تبقي شعلة الخلاف متأججة بين مجتمع انقسم على ذاته وتحولت كل مكوناته إلى ميليشيات يحارب بعضها بعضاً، بما ينذر بإعادة تقسيم السودان جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. والأخطر من التقسيم أن يستمر الصراع بين الدويلات المقسمة ويستمر التدمير والتهجير حتى يتم تفريغ السودان تماماً من كل مواردها البشرية والطبيعية، وتصبح مرتعاً للقوى الخارجية تتحكم فيها كيف تشاء!

إن الاتفاقات القادمة بين أطراف النزاع فى السودان لن تكون اتفاقات سلام ووقف للحرب بقدر ما ستكون تفاهمات حول تقسيم الكعكة السودانية، وليذهب كل طرف بما كسب! وليكون الشعب السوداني هو الخاسر الوحيد فى أى اتفاق قادم!

إسرائيل تصرخ!

الإعلام الإسرائيلي تحدث فى الأيام الأخيرة عما أسماه انتصارات نوعية لجيش الاحتلال، تمثلت فى اكتشاف نفق كبير شمال جباليا. ثم نفقين جديدين وجدوا بأحدهما خمسة من الأسري قتلي داخل النفق. كما أعلنت إسرائيل تمكنها من اغتيال أحد قادة الحرس الثورى الإيراني فى سوريا. وكل تلك الأخبار تصب فى حالة تصعيدية تشير لتوسيع الحرب بدلاً من إنهائها. بينما يتحدث الإعلام الأمريكي عن الضغط فى اتجاه إنهاء الحرب وبدء المفاوضات قبيل بداية العام الجديد. فأي السيناريوهات أقرب للحدوث؟

هناك أنباء عن ضربات موجعة وجهتها كتائب حزب الله اللبناني ضد مستوطنات ومواقع عسكرية قريبة من جنوب لبنان، بينما الإعلام العسكري الإسرائيلي يتكتم حول حجم الخسائر ومواقع الضربات. وهو ما يشي بمحاولات التحجيم والتعتيم. فى نفس الوقت الذي تسببت فيه تهديدات الحوثيين للسفن الإسرائيلية المارة بمضيق باب المندب ذهاباً وإياباً لوقف الكثير من الرحلات وتحويلها إلى مسارات بحرية وبرية بديلة، وهو ما تسبب فى رفع تكلفة التأمين على جميع الرحلات التجارية المارة بالمضيق. ويبدو أن التحالف الأمريكي الذي تم توجيهه للوقوف فى وجه تهديدات الحوثي لم يفلح فى تحقيق أية نتائج تكتيكية ملموسة، وهو ما يعني تفاقم الوضع  وازدياد التهديدات ضد إسرائيل من جهة اليمن.

لقد أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخراً عن استعداده لبدء المرحلة الثالثة من الحرب على غزة. وبدأ تلك الخطوات بسحب لواء جولاني من منطقة الشجاعية، وربما ألوية أخرى من شمال غزة، ليركز أعماله القتالية فى منطقتي الوسط والجنوب. والحديث الآن يدور حول ترتيبات ما بعد الحرب. وأن المطلوب هو تقويض قدرات حماس فى غزة، وإنشاء منطقة معزولة تقع تحت سيطرة إسرائيل خاصة عند المعابر والمحاور الرئيسية، وهو ما يعنى مزيداً من إحكام الحصار حول غزة والمقاومة. غير أن ما يحدث على الأرض يسير فى عكس الاتجاه الذي تخطط له إسرائيل..

الأرقام تؤكد حدوث خسائر حادة للجيش الإسرائيلي على كل المحاور.. هناك أكثر من خمسة آلاف جندى وضابط إسرائيلي سقطوا فى أرض المعركة بين قتيل ومصاب ومعاق. ونحو مليار شيكل خسائر يومية لاقتصاد إسرائيل. وأهالي الأسري ما زالوا يضغطون على حكومة نتنياهو وقادة الجيش لاستعادة أسري فشل الجيش فى استعادتهم بالعمليات القتالية، ولم يعد أمامه إلا استعادتهم من خلال المفاوضات. وربما كانت استراتيجية "هانيبال" لقتل الأسري قائمة فى أعراف الجيش، بعد أن أعلن الأخير عن قتله لثلاثة من الأسري الإسرائيليين عن طرق الخطأ!

ومهما كانت نتائج الحرب، فإن ما بعدها أسوأ بالنسبة لإسرائيل، فالنازحون والهاربون من جحيم الحرب قد لا يعودوا للمستوطنات، وسوف تتعرض حكومة إسرائيل لهزة سياسية كبيرة وستحدث بها استقالات وانشقاقات بالجملة، بخلاف التحقيقات الرسمية التي ستسفر عن انكشاف فضائح وأسرار كثيرة تم التعتيم عليها طوال فترة الحرب.

المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادمة لا محالة، لأن إسرائيل تنزف بشدة وتبحث لنفسها عن مخرج. وكلما ضغط دعاة الحرب فى حكومة نتنياهو لمزيد من إطالة أمد المعارك، فهم يستنزفون إسرائيل أكثر وأكثر، ويجعلون المفاوضات القادمة أشد صعوبة على المفاوض الإسرائيلي. وليس عندى أدني شك أن إسرائيل هى الخاسر الأكبر من هذه الحرب.

أمريكا وبداية النهاية

أسابيع قليلة وتبدأ أعنف وأسوأ انتخابات رئاسية أمريكية تحدث فى ظل انقسامات داخلية حادة هوت بشعبية بايدن وحزبه الديمقراطي إلى الحضيض. وعلاقات خارجية هى الأسوأ فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. والعداء والكراهية ضد أمريكا وسياساتها فى تصاعد مستمر.

يحدث هذا فى الوقت الذي حققت روسيا عدة انتصارات كان آخرها السيطرة على منطقة محصنة شرق أوكرانيا، فى نفس الوقت الذي يقرر فيه الكونجرس الأمريكي تجميد المساعدات المقدمة لأوكرانيا. وربما جاءت انتخابات أمريكا القادمة بتغيرات دراماتيكية فى المشهد السياسي لا فى أمريكا وحدها بل فى العالم أجمع. إذ أن الحديث يجري عن إمكانية عودة ترامب لسدة الحكم، وهو ما قد يعني إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بالمفاوضات وبدء حلقة جديدة من الصراع الأمريكي الصيني، فى ظل تقلص حجم الحلف الأمريكي الغربي مع تزايد كراهية الدول للعنجهية الأمريكية فى مقابل علاقات اقتصادية أسرع نمواً نحو الحلف الصيني ودول البريكس.

لاشك أن عام 2024 سيحمل الكثير من المفاجآت هنا وهناك. وهو ليس عام الحظ بالنسبة لأمريكا ولا إسرائيل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

"إذا كانت الحرب تقوم على قضايا معينة، فيجب أن تكون هذه القضايا بالضرورة قضايا عادلة. فلا حرب عادلة من دون قضية عادلة"  ديفيد فيشر

كسٌر العام الميلادي الجاري الذي نودعه بعد أيام قليلة، جدل الاحتيال الأخلاقي والسياسي، الذي يبتدعه الغرب، وينافح عنه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وصار الاختزال النمطي للتدجين بالأساليب الادعائية، مجرد قشرة رقيقة، تجتزؤها فراغات قيمية وإنسانية، سرعان ما ترعوي وسط ركام فظيع من التخرصات التاريخية المليئة بالندوب والآلام والقذارات الممارسة خلال أحقاب وعقود.

فالغرب الديمقراطي، المتفاخر بإنجازات الحداثة والعولمة والتكونولوجيات العالية والحروب السيبرانية المتسارعة، المجاهر بسمو النظام العالمي لحقوق الإنسان والحيوان، والمناصر لقضايا العدالة والسلام والمساواة، هو نفسه، المستعمر القديم، المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة، المستنزف لثروات بلدانها الثالثية، المستبد بالحكم الأممي المصيخ إلى قالب الفيتو الظالم.. لا ينفعل مع نهضته الفلسفية والعمرانية، في أقرب تصوراتها ومرجعياتها. فقد افتقد روح الأخلاق الأرسطية المنزوعة، المرتبطة بالسعادة الإنسانية، غاية الوجود والعقل والتسامح. بل إنه هدم قيم كانط، المرتكزة على الواجب الأخلاقي والمثالية الإنسية المتبعة للعقل والوجدان.

خلال عقدين من الزمن، ارتكزت بروبجندا الغرب الأخلاقي، على الترويج الإعلامي للأخطار المحدقة بالعالم، على سبيل مواجهة التطرف الديني، ومجابهة التيارات الإسلامية المتحالفة مع المشاريع السياسية المشبوهة، وبرامجها لتزييف حقيقة "الإسلام" و"المسلمين"، فكانت الأحداث الكبرى التي اهتز لها ضمير العالم، هجمات 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من الحروب الإبادية والتخريبية، في العراق وأفعانستان. ثم بزوغ نظرية الربيع العربي عام 2011، التي صارت وبالا وشنارا مأفونا على البلدان العربية، في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.

صار لزاما علينا، أن نعيد تقييم سؤال الغرب والإسلام، أو في الحد الأدنى، إثارة الاستفهام السيروري المتصل ب: "ماذا يريد منا الغرب؟ أو لماذا يكرهوننا؟"، والذي يؤسس في العمق، لمحاولة استجلاء عناصر التشكيل الحضاري الإسلامي المتجاور مع التشكيل الحضاري الغربي (المسيحي)، وعلاقة ذلك بالتحريض الصهيوني واندغامه في السياسة والاقتصاد الموجهين؟.

هل ثمة ما يحيل إلى هذا التشاكل بين عقيدتين أو منظومتين أخلاقيتين متباعدتين، تؤثثان حقولا تاريخية ضاربة في القدم، من البغضاء والتنافر والعداء والقطائع؟

لقد أفرزت المساحة الثقافية والهوياتية للأحداث المترابطة، في سياقاتها المتشعبة، نوعا من التصادم في إنتاج جبال من المشاكل وما تفرزه من عراقيل وإكراهات، لم تكن لتحجب مستوى القلق المرتفع بين الطرفين، وتجاذبات المصالح السياسية بينهما، لدرجة الإسفاف وضعف القابلية، وتمكين توجيه طفرة التبادل وتصحيح المسار وتنظيم العقد السياسي وتخفيف حدة التوتر وتقبل وجهات النظر وترسيخ مبادئ السلوك الحضاري والتفاهم والاحترام المتبادل. ما أضحى يغلب على واقع التباس غامض ومناكف للواقعية والنظرية الأممية القائمة على "السيادة" و"الهوية الوطنية" و"الانتصار للقيم الكونية"، من جهة كون الغرب، يزجي بفوقيته وأنانيته وانتقائيته واستغلاله، بل وانتقامه وغصبه للحقوق؟.

لم تكن سنة 2023، سوى نافذة لفرز هذا التوجه. وفيها ظهر للعيان، كيف يمكن للغرب أن يعود لسابق عهده، وأن ينقاد من قبل منظومته لتأكيد تسامي "الاستراتيجية الاستعمارية"، و"الخيار الحربي" على كل المفارقات السلوكية والأخلاقية المغايرة.

وعلى الرغم من أن "التاريخ يعيد نفسه"، كما يقال، فإن الحروب اللاأخلاقية للمثالية الغربية "الأمريكية"، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، وغرينادا 1983، وبنما 1989، وحرب الخليج الثانية 1990، وحرب العراق 2003، وقبل ذلك كله حرب الفلبين ومورو 1899/ 1913، وفيتنام 1955/1975، ثم أفغانستان 2001/2021، أزاحت القناع عن الوجه الحقيقي لتمثال الحرية المصطنع، وأعادت صياغة مفاهيم "الغرب الحداثي الحقوقي" ، وأبصرت الفوارق السياسية والمجالية والثقافية للخلفية الإيديولوجية والبراغماتية التي يرتديها مديرو العمليات في الغرف الموجهة، بلبوسات متعددة، منها ما هو تنموي، ونسائي وبيئي ومالي وشبابي ..إلخ.

لقد تحدث بعض أبناء هذا الغرب، في الكثير من المحطات النقدية المتفردة، عن أزمة الغرب الأخلاقية، وانتقالها إلى "الهمجية" و"الإسراف في العداوة"، والتأليب الميؤوس. فكان من بعض هذه الأمثلة، ما ينصف ويرد الصاع، لدرجة أن أحدهم وهو عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، استعمل أداة "أزمة الغرب" لنقد الحداثة وما تشكله من تناقضات وتأثيرات سلبية على الفكر والحياة، ليستقوي بعناصر أسئلته الحارة والمؤلمة، كسؤاله عن:"هل نسير نحو الهاوية؟" و"الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا" و"عنف العالم" و"الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة" و"دوامة الحاضر" و"أزمة الحداثة"؟."

لكن قسوة الغرب ونكوصيته، فاقت كل تصور ونظر، قبل أن تغادرنا سنة 2023 الدموية والعصية على التأويل. فقد أعمت سلطة الغرب أخلاقية المنظمة الأممية، وعرت كل ما تبقى من أقنعته الخفاشية، بعد أن استوعبت قناعاته المشؤومة، الفاشستية الصهيونية في أيشع صورها. حيث انقضت الأخيرة بحلف شيطاني مع "الغرب" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لإبادة غزة المحاصرة المحتلة، وتدميرها وتهجير ما تبقى من ساكنتها ...

تكشفت نوايا الغرب بشكل لا يدعو للشك، بعد أن فشلت المنظومة الدولية، حتى في أبسط قراراتها لوقف إطلاق النار وإبادة الشعب الغزاوي وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، وإيقاف تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والخدمات الإنسانية ...

تأكد كذب الغرب واحتياله على النظام العالمي، وزيف ادعاءاته بالانتماء لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر و....

لقد جأر الغرب بما لم يكسبه أملا في إعادة تصحيح صورته، التي أدغمت بين الاحتلال والقتل والعدوان، إلى كسر الشأفة وإبطال القوة والجبر على الخنوع والخضوع. فصار هذا الغرب، شوكة في حلق، وطغمة في نحر، ونصبا في قعر.

لقد باتت "سياسات الغرب غير مستقرة، وهي إلى ذلك مترددة ومتأرجحة في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب"، كما يذهب إلى ذلك حسن أوريد في "أفول الغرب"، لكن هذه السياسة لم تكن محجوبة أو غائبة، عن أنظار أصحاب التفكير والاجتماع، بل إنها تتمترس في سياق تأويل براديجم التغيير في صلب مجتمعاتها ومكوناتها الثقافية، التي تشكل إحدى أهم خصوصيات ديمقراطيتها النخبوية، وهو ما يظهر جليا في رفض الشارع الغربي، بشكل عام، لسياسات إداراته وتناقضاتها الصارخة. ولنا في مثال غزة أبلغ نموذج لرفض الاحتلال والعدوان والإبادة والظلم.

***

د مصطَفَى غَلْمَان

جاءت كلمة الامين العام للأمم المتحدة في الذكري الخامسة والسبعين لحقوق الانسان في العاشر من الشهر الجاري، متزامنة مع مرور خمسة وسبعين عاما ايضا على احتلال اسرائيل لأرض فلسطين العربية .

هذه السنوات الطوال حرم فيها الفلسطينيون من الأمن والسلام وحرية التنقل واقامة دولتهم المستقلة على أراضيهم، بل استبيحت دماؤهم بالقتل، واستبيحت أنفسهم بالاعتقال، وسلبت اراضيهم ومنازلهم وسرق عمرهم في الصمود على الارض .

عبرت كلمة أنطونيو غوتيريش عن كل انسان علي كوكبنا الارض ذاق مرارة الظلم والاضطهاد والتهجير وسلب الحقوق الأساسية للحياة، فتفاعلت معه العقول والافئدة الانسانية الشريفة، خاصة عندما ذكر وذكّر بالفاتحة الشهيرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على: " يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق".

هذه الحقوق الأساسية للإنسان لم تجد لها محلا من الاعراب الا بإرادة القوي العظمى، فهي التي تحدد الدول التي تحظى بالديمقراطية وتتحقق فيها العدالة والمساواة في الكرامة والحقوق الأساسية، وتحرم دولا أخرى منها في منطقتنا العربية من الفوز بهذه الحقوق وشعب فلسطين المحاصر يعد المثال الصارخ لانتهاك هذه الحقوق.

نعم ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان قد كرس قيما شريفة تحفظ كرامة الانسان وتصون حقوقه، ولكن البشرية أو بالأحرى قادة المنظومة الدولية المسيطرة على العالم، جعلت هذا الميثاق بمثابة حبرا على ورق، حينما انتشرت الحروب في العالم شرقا وغربا ولم تسع لوقفها، لسبب بسيط وهو تجارة السلاح العالمية ومكاسبها الخرافية .

وانتشار الفقر في العديد من قارات العالم، بل تعمد افقار دولا كانت غنية أو على الأقل تحقق الاكتفاء الذاتي من غذائها ودوائها مثل العراق و اليمن وسوريا، لسلب خيراتها من نفط وغاز وجعلها خاضعة وتابعة للقوى العظمي وميراثها الاستعماري .

 جرى تغييب قيم السلام العالمي سواء من خلال الكيل بمكيالين كما في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعدم تطبيق قواعد القانون الدولي لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الواقع تحت نير الاحتلال، أو بافتعال الفتن الطائفية والعرقية والدينية لتقسيم وتفتيت منطقتنا العربية في العراق ولبنان والسودان واليمن وسوريا وغيرها .

نشر الأوبئة في العالم لسنوات طويلة لصالح شركات الأمصال والأدوية وتجارتها الرابحة على حساب صحة المرضى وأموال الدول والشعوب . ومع تعاظم الإجرام العالمي خارطة طريق لإنهاء الحروب .

دول القوى العظمى هي التي تنعم بحقوق الانسان، لان دولها ليست موطنا لدفن النفايات الخطرة كما يجري في قارة افريقيا، وتنعم الدول الكبرى بحقوق التعليم الجيد، بينما فتات العلم يساق الينا دون ان نستفيد منه الا اذا حصلناه في المدراس والجامعات العالمية .

حق الحياة نفسها لم يعد مضمونا ليس فقط بسبب الحروب والنزاعات، ولكن بسبب رغبة بعض القوى العالمية في حصد أرواح الناس وتقليص سكان البسيطة الى مليار نسمة فقط والعمل على تحقيق هذا المخطط الشيطاني بأساليب متنوعة مثل اوبئة كورونا وغيرها، وإحداث خلل متعمدا في المناخ بقطع الاشجار وإحراق الغابات، واشعال حروب المياه وغيرها .

ان وصف الامين العام للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنه: " بمثابة خارطة طريق تهدى الى السبيل لإنهاء الحروب ورأب الانقسامات وتعزي العيش في سلام وكرامة للجميع، وصف حق وخريطة حق ولكن لم يريد السلام للبشرية، بينما الواقع ان البشري رجعت القهر في حقوق الانسان، بل انها تعيش رغم تطورها العلمي والتكنولوجي الفائق في ظلام جاهلية توظف فيه العلم لدمار الانسان وسحقه بدلا من امنه وسلامه وكرامته .

***

 سارة طالب السهيل

 

كتبَ عبد الرحمن الكواكبيّ(ت: 1902): «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعيّ للأديان، على أن الاستبداد السّياسيّ متولد مِن الاستبداد الدّينيّ، والبعض القليل يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التّغلب وأمهما الرَّئاسة»(الكواكبيّ، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). قال الكواكبيّ ذلك في زمن الإمبراطوريات، التي لا تهيمن بلا عقيدة دينية، وقد عاش ورَحل في الزَّمن العثمانيّ(1849-1902).

انتهى التَّلازم بين الاستبداديَن، الدَّينيّ والسّياسيّ، بانتهاء الإمبراطوريات، ولهذا التّلازم جهد الإسلاميون على إحيائها بعنوان «الحاكميّة»، «ولاية الفقيه» بعينها، لكنَّهم تحولوا بالظَّاهر إلى الهتاف الوطني، فاختصر معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) التَّحايل ببيته: «أُحبولة الدِّين رَكت مِن تقادمها/فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطنِ».(الدِّيوان 1959، الدِّين والوطن).

كنا نقرأ في المدارس، وما تداولته كتب المعاصرين، مِن مقالة للخليفة الرّاشديّ عُمَر بن الخَطَّاب، قالها قبل دهرٍ طويلٍ: «متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».. سمعناها وقرأناها هكذا، وقبل العثور على مصدرها، قلنا اُختلقت لأجل التّربية والتّعليم، ولم يُكلف المعاصرون أنفسهم البحث عن مصدرها، فصاغوها بلغة أقرب إلى ألسنة العصر الحديث.

لكن المقولة ليست مِن مختلقات المعاصرين، ولم ترو لهدف سوى كتابة التّاريخ، رواها المؤرخ عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257هج) كالآتي: «مذ كم تعبّدتم النَّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً»، (ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429هج)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537هج) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562هج) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم. رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هج).

كان بين زمنيَ الخليفة الرّاشديّ الثّاني وعبد الرّحمن الكواكبي نحو 1300 عام، قالها الأول وهو صاحب أمر، ونفذها قولاً وفعلاً، أمَّا الثّاني فكان مثقفاً داعيّةً ضد الاستعباد، وكذلك تبناها قولاً وفعلاً، وراح ضحيتها.

ستكون مقالة الخليفة سنداً قويّاً لكتاب الكواكبيّ ونقده للاستعباد لو ذكرها، وقد استعان بأمثلة كثيرة مِن تراث الخلفاء والأمراء في الاستعباد، مِن التّاريخ والدّين، كما ذكر الخلفاء الرَّاشدين: «أظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين، التي لم يسمح الزّمان بمثال لها، بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ، كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد(قصد نور الدّين زنكيّ (الكواكبيّ، طبائع الاستبداد...).

يغلب على الظّن أنه لم يلاحظ مقولة عُمَر بن الخَطَّاب، وإلا لم تفته، وكانت موثقة مِن مؤرخين أقدمين، لكنها لم تنتشر، عندما كتب الكواكبيّ كتابه، وهو القرن التَّاسع عشر الميلاديّ، فالمصادر التي وردت فيها لم تُحقق آنذاك وتُنشر، وإلا لو لاحظها الكواكبيّ لكانت جوهرة كتابه.

قد يقول قائل، ومن أدراك أنّ الخليفة قالها؟! فعادمو التّاريخ أخذوا يتكاثرون ويتكاتفون. جوابنا ليكن ابن الخَطَّاب لم يقلها، لكنّ خذوا قِدمها مِن تاريخ روايتها المتصل بعصرنا، وهو زمن ابن عبد الحكم، وزمن رواتها عن تاريخه «فتوح مصر والمغرب»، كالثّعالبيّ والزّمخشري وابن حمدون، واتركوا مِن رواها قبلهم وبعدهم!

هذا، وقد يثور سؤال آخر، إذا كان عمر قالها فلماذا لم يلغ العبوديّة، التي استمرت حتَّى بداية قرننا العشرين؟! الجواب، كانت العبوديّة سمة اجتماعيّة واقتصادية سائدة، يُنزع إلى رفضها والتّخفيف عنها، لكن لم تحن الظّروف لإلغائها بالكامل، والحِقب الاجتماعيّة لا تلغى بأمر أو رأي، إنما مثل تلك المقولة كانت بداية التّدرج في إلغائها، وفكرة التَّدرج، عبر العتق، جاءت في خطاب عبد الرّحمن الكواكبي، راداً على مَن شكك في مؤتمر زنجبار العالمي بخصوص إلغاء الرِّق(الكواكبي، الأعمال الكاملة).

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

اجتماع المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، الذي اختتم في العاصمة الشتوية الروسية سانكت بطرسبورغ، انتهى بالتوقيع على وثائق مهمة في المقدمة منها، التوقيع مع ايران على اتفاقية للتجارة الحرة مع إيران، والتي ستحل محل الاتفاقية المؤقتة المعمول بها منذ العام 2019، ووقعها رئيس مجلس إدارة اللجنة الاقتصادية الأوراسية ميخائيل مياسنيكوفيتش ونائب رئيس وزراء الروسي أليكسي أوفتشوك، ووزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني عباس علي آبادي، كذلك وقع على الاتفاقية ممثلو بيلاروس وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان..

وسبق وان تم إبرام اتفاقية مؤقتة بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوراسي (والذي أنشأ مطلع عام 2015 على أساس الاتحاد الجمركي الذي كان قائما آنذاك بين روسيا وبيلاروس وكازاخستان، وانضمت إليه لاحقا كل من أرمينيا وقرغيزستان في السنة ذاتها). وإيران في 17 مايو 2018 وهي سارية اعتبارا من 27 أكتوبر 2019، وتضمن اتفاقيات، للاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، ويقدر سوقه بنحو 190 مليون مستهلك، لجميع أعضائه حرية تنقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال واليد العاملة، وانتهاج سياسة متفق عليها في قطاعات التجارة والطاقة والصناعة والزراعة والنقل.

أن اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران، لها أهمية كبيرة في تعزيز العلاقات الاقتصادية، وفقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أكد خلال الاجتماع على إمكانية أن تكون هذه الاتفاقية مهمة حقا في سياق تعزيز علاقات الاتحاد الأوراسي، مع أحد أكبر الاقتصادات وأكثرها تقدما من الناحية التكنولوجية في منطقة أوراسيا، وبمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، فإن جميع فئات السلع المنتجة في الاتحاد تقريبا ستتمتع بإمكانية الوصول إلى السوق الإيرانية الواسعة، والتي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة بدون رسوم جمركية، وسيتم تخفيض العوائق الغير الجمركية بشكل كبير.

كما ووقع زعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي على إعلان مشترك حول تطوير التعاون الاقتصادي حتى عام 2030 ووثيقة "الطريق الاقتصادي الأوراسي" للفترة حتى عام 2045، واعتبرت روسيا هذه الوثيقة الجديدة بأنها ذات طابع منهجي، تنص على إجراءات محددة لتكثيف الجهود المشتركة في القطاعات الرئيسية، وهي تحدد كذلك المجالات الإضافية للتعاون مثل جدول الأعمال الخاص بالمناخ والطب والسياحة وغيرها، وأكد بوتين أن الاقتصاد يسجّل نمواً في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأن روسيا تعول على مصادقة الدول الأعضاء في الاتحاد على انضمام إيران إليه على وجه السرعة.

وحرص الرئيس الروسي خلال كلمته على تذكير الدول الغربية بعقوباتهم، التي لم " تهز " تبادل بلاده التجاري ودول الاتحاد، واكد نمو إجمالي الناتج المحلي في روسيا خلال الأشهر التسعة من العام بنسبة 3%، بينما بلغت نسبة النمو في أرمينيا أكثر من 9% وكازاخستان نحو 5% وقرغيزستان أكثر من 4% وبيلاروس 3.5% خلال الفترة ذاتها، لافتا الانتباه إلى أن حصة العملات الوطنية في التعاملات التجارية بين دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بلغت 90%، مشيرا إلى أن هذه النسبة ستزداد في المستقبل بفضل الإجراءات المشتركة التي تتخذها هذه الدول في القطاع المالي.

في غضون أربع سنوات فقط، قطع الاتحاد الأوراسي وايران، الطريق نحو التفاعل العميق، قدر الإمكان في الظروف الحديثة، في مجالات الاقتصاد والتجارة، وهو ما استغرق تحقيقه عقودًا أخرى، ويمكن التوصل إلى هذا الاستنتاج ليس فقط من خطابات كبار المسؤولين، وليس فقط من نتائج الاجتماع بين قادة إيران وروسيا، العضو القيادي في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، من نتائج المعرض السادس من إمكانات التصدير الإيرانية التي انتهت مؤخرا .

والاتفاقية بالنسبة الى ايران يمكن تسميتها من وجهة النظر الإيرانية، بانها بداية انتقال علاقات إيران مع الدول إلى مستوى مختلف، وفي الواقع، سيتم توسيع نطاق اتفاقية التجارة التفضيلية المعروفة، والتي تم التوقيع عليها في عام 2018 ودخلت حيز التنفيذ في 27 أكتوبر 2019، قدر الإمكان، ولنتذكر أنه بموجب هذه الاتفاقية، خضعت حتى الآن حوالي 862 مادة سلعية للتعريفات التفضيلية، وليس هناك شك في أنه في إطار اتفاقية التجارة الحرة، سيتم توسيع هذه القائمة بشكل كبير للغاية، وفي الوقت الحالي، ينمو حجم التجارة المتبادلة بين إيران والدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بوتيرة تتطلب تحديثًا فوريًا، قبل الإطار القانوني بشكل ملحوظ، وهكذا، في الأشهر الثمانية الأولى فقط من السنة التقويمية الإيرانية الحالية (21 مارس - 21 نوفمبر)، زادت قيمة الصادرات الإيرانية إلى دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بأكثر من 20٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ويتم توفير هذه البيانات من قبل لجنة العلاقات الدولية وتنمية التجارة التابعة لغرفة الصناعة والتعدين والتجارة في جمهورية إيران الإسلامية.

يذكر أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، وتتمتع كوبا ومولدوفا وأوزبكستان بصفة عضو مراقب فيه، ومن المقرر أن تستضيف موسكو قمة الاتحاد في عام 2024، حيث ستحل الذكرى العاشرة لإنشاء الاتحاد.

ولايقتصر التعاون بين دول الاتحاد وايران، فهناك وكما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى وصول اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر " الى مرحلة متقدمة"، مؤكدا الحرص على التوقيع عليها بأسرع ما يمكن، وفي الوقت الراهن هناك مفاوضات هامة قيد الإعداد مع دول أخرى ذات قدرات اقتصادية كبيرة، والحديث يدور عن اتفاقية حول التجارة التفضيلية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر، "أحد شركائنا الرئيسيين في العالم العربي وفي القارة الإفريقية بحسب تعبير الرئيس بوتين، مؤكدا "أننا معنيون بالتوقيع عليها بأسرع ما يمكن"، والإشارة أيضا إلى أنه بالإضافة إلى ذلك تجري المفوضية الأوراسية مفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا، والتأكيد أن إقامة مناطق التجارة الحرة مع هاتين الدولتين ستسمح بزيادة صادرات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وزيادة التوريدات إلى أسواق الدول الصديقة وتحفيز التنمية الاقتصادية لدول الاتحاد وستزيد من حجم السوق المشتركة وتنويعها.

وكثيرون على استعداد لاعتبار تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع إيران خطوة أولى نحو انضمام الجمهورية الإسلامية إلى الوحدة الاقتصادية للجمهوريات السوفييتية الخمس السابقة، ومع ذلك، ومن خلال نظرة رصينة إلى آفاق التعاون بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، لا يسع المرء إلا أن يعترف بمثل هذا التقييم، باعتباره رغبة في تمرير ما هو مرغوب فيه على أنه حقيقة واقعة، والنقطة المهمة هي، أولاً وقبل كل شيء، أن الظروف الموضوعية لا تسمح ولن تسمح لإيران بالتحول الكامل نحو الشمال لفترة طويلة، ومع تزايد حجم التجارة وأنواع التعاون الأخرى بين إيران وروسيا وشركائها في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فإن الاتجاه الشرقي هو السائد تقليديًا في الاقتصاد الإيراني، وهو أكثر توجهاً نحو الدول المجاورة، وليس من قبيل الصدفة أنه بالتوازي مع توسيع التعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، هناك تقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية والدول الصديقة لها.

وفي الوقت الحاضر، تواجه قدرات النقل والخدمات اللوجستية في إيران وعلى الجانب الجنوبي من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي صعوبات كبيرة بسبب الحاجة إلى خدمة التبادل التجاري المتنامي، وذلك على الرغم من أن حصة الأسد من الصادرات والواردات بين إيران ودول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تقع على المنتجات الزراعية والغذائية والحيوانية، وتمثل البضائع من هذا النوع أكثر من 84% من حيث الوزن وما لا يقل عن 71% من قيمة الواردات الإيرانية من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، أما حصتها في صادرات إيران إلى الاتحاد الأوروبي فهي أقل ــ 20% من حيث الوزن و39% من حيث القيمة.

ويجب الاعتراف بأنه في المستقبل، بدون تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، فإن احتمالات التكامل الأعمق لإيران مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ستكون موضع تساؤل، ومما يزيد أهمية ذلك أن طهران أوضحت أكثر من مرة أن أولويتها الرئيسية في التجارة الخارجية هي تصدير الخدمات الفنية والهندسية، وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي قطاع في الاقتصاد الإيراني أن يضاهي تصدير النفط والمنتجات النفطية من حيث الحجم والقيمة، لكن هذا لا يعني أن هذا سيكون هو الحال دائمًا.

وبالنسبة لروسيا وكما يؤكد المراقبون، فإن الصراع في أوكرانيا لا يشكل عائقًا، بل يشكل عاملاً محفزًا لتعميق التكامل الأوراسي، وهناك تفسيرات عديدة لذلك، أولاً، تعمل روسيا، آخذة في الاعتبار تقليص الحوار متعدد الأشكال مع معظم الدول الغربية، على تنويع وجودها في مناطق أخرى من العالم، وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يسمى بالتحول نحو الشرق، بل هناك تجسيد لسياسة روسيا متعددة الاتجاهات، ثانيا، تم إعلان دول الجوار أولوية لأنشطة السياسة الخارجية الروسية منذ عدة سنوات، ولم تنته هذه المهمة، بل على العكس من ذلك، تكتسب زخما إضافيا، وثالثًا، ان العقوبات الاقتصادية غير القانونية التي فرضتها الدول الغربية والصراع في أوكرانيا على روسيا، تدفع إلى استخدام مزايا التكامل في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي بشكل أكثر نشاطًا، مع الأخذ في الاعتبار عددًا من العوامل، بدءًا من غياب الحدود الجمركية وانتهاءً بانتقال الروس إلى الدول المجاورة.

وبطبيعة الحال، ومع الأخذ في الاعتبار الأهداف الحالية وطويلة الأجل، تسعى روسيا إلى تعميق التكامل، ضمن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ودولة الاتحاد بين روسيا وبيلاروس، وكذلك ضمن اتحادات أكبر مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، و بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والشراكة الأوراسية الكبرى. وتنعكس هذه الاتجاهات أيضًا في تطوير الإطار القانوني لتشكيل اتحادات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يكثر القادة الإسرائيليون من استخدام مصطلح «تغيير الوعي الفلسطيني»، منذ بداية الحرب على غزة، كأحد أهداف هذه الحرب وتبريرات لنوعية العمليات الحربية التي ترافقها، وفيها يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنا مريعا، وليس صدفة أن وزير الدفاع، يوآف غالانت، ردد الكلام بعد ساعات من تنفيذ القصف الدموي على مدرستي الفاخورة وتل الزعتر، وفي مخيم جباليا، والتي أوقعت في يوم واحد نحو ألف قتيل من المدنيين، لكن هناك أساسا عقائديا لهذا التصعيد وهذا الثمن الباهظ من الدمار، يأتي من مكان آخر. لقد أسماه الوزير غالانت «تغيير الوعي الفلسطيني». وهذا المصطلح ورد للمرة الأولى في الوثيقة التي وضعتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، نهاية الشهر الماضي، لغرض التوصية بترحيل جميع أهالي قطاع غزة إلى مصر. وتضمن المخطط فقرة تؤكد أن أي حل لمستقبل غزة «يجب أن يترافق مع حملة كي للوعي الفلسطيني يتم فيها تغيير المفاهيم والعقائد المعادية لإسرائيل، بحيث يقتنع الفلسطينيون بأن هجوم حماس على إسرائيل كان فاشلا وتسبب لهم في الدمار وسقوط الضحايا والتشرد،هذا التعبير ظهر قبل ذلك في الأبحاث التي أجريت في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي عام 2018، عندما كان رئيس الأركان غادي آيزنكوت، يتحدث عن حرب متعددة الجبهات. وآيزنكوت هو أحد أعضاء المجلس الخماسي لإدارة الحرب على غزة

نتنياهو اختار مبدأ تقوية حماس عن طريق تعزيز الانقسام الفلسطيني، الضامن الأكبر لمنع مفاوضات على إقامة دولة فلسطينية. لكن نتنياهو هذا كان قد تحدث عن تغيير الوعي الفلسطيني في سنة 2005، أيضا بمعرض الحديث عن غزة. ففي حينه ظهر أمام مؤتمر القدس وقال إن الفكرة التي رسمت عن إسرائيل في اتفاقيات أوسلو وخطة الانفصال عن غزة هي أن ديننا الهرب. ويجب أن نهاجم بقوة شديدة حتى يبدأ لديهم تفكير جديد عن إسرائيل. وقال: «بهذه الطريقة تصبح مسألة تغيير الوعي والثقافة والمفاهيم لدى العرب أصعب حتى من فكرة تغيير المفاهيم لدى الألمان واليابانيين،، فليس صدفة أن نتنياهو عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين في بداية الحرب على غزة. وغالانت، الذي كان في سنة 2005 قائدا للواء الجنوبي في الجيش ومسؤولا عن قطاع غزة، عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين، في المؤتمر الصحافي الذي ظهر فيه مع نتنياهو وبيني غانتس في الليلة الماضية. المشكلة في هذه التصريحات تكمن في الأسلوب الذي اتبعه الأميركيون والغرب لتغيير الوعي في ألمانيا واليابان،، وبحسب المؤرخين، كان تدمير مدينة دريسدين الألمانية في فبراير (شباط) سنة 1945 وقتل 35 ألف مواطن فيها بمثابة الحدث الذي حفر في ذاكرة الألمان على أن النازية جلبت له الكوارث وأن الغرب مصر على سحق النازية. وأما في اليابان فقد تغير الوعي عندما ألقى سلاح الجو الأميركي أول قنبلة نووية في التاريخ على كل من هيروشيما فدمرها بالكامل وقتل من سكانها 66 ألفا، وناغازاكي التي قتل من سكانها 40 ألفا، ودمرت المدينتان بالكامل، بعد فشلهم في إخضاع الفلسطينيين بقوَة السَلاح، صار الهدف الإسرائيلي الجديد هو احتلال الوعي العربيّ وطمس الهويّة الإسلامية في فلسطين، وذلك لمعرفتهم بكون العنصر العربي عنصرًا أكثر شراسةً وإقدامًا وصبرا على الحرب من العنصر الأشكينازيَ الحاكم ومن الجنود الّذين لملمتهم إسرائيل من شتى بقاع العالم لتكوّن شعبًا غير متجانس يعينها على تصدير روايتها البائسة إلى العالم. كون الإسلام قد شرع الجهاد ضد المعتدين، فقد باتت إسرائيل تذوق الأمرّين من التفنّن والتنوّع الفلسطيني في أساليب المقاومة مع البسالة منقطعةِ النظير التي أبداها المجاهدون والمجاهدات في سبيل إيلام هذا الكيان وإضعافه ودبّ الرّعب بين سكانه

تصريحات المسؤولين الصهاينة ومن شايعهم تحيل إلى أمر آخر تمامًا، وتنطلق من قاعدة أنّ حماس “حركة إرهابية” ذات أيديولوجية دينية متطرفة تهدف إلى إبادة اليهود، وهذه الأيديولوجية متغلغلة في العقل الجمعي الفلسطيني، ومن ذلك مقال منشور على موقع “ميدا” العبري ذي التوجهات اليمينية المتطرفة، بعنوان “حماس هي عرضٌ لمرض فلسطيني“، ويردُ فيه أنّ الفلسطينيين هم من يمكّنون حماس من الوجود، وهي تتمتع بتأييد في المناطق الفلسطينية بسبب أنها تمثل الهدف الديني المتطرف، وهو إقامة دولة إسلامية تقتلع إسرائيل

حيث بات جليًا أنّ دولة الاحتلال تهدف إلى إحداث تغيير في الوعي الفلسطيني يهدف إلى التخلص من فكرة حماس، كما يراها قادة الاحتلال،وتجاهلوا ان حركة حماس فكرة وأيديولوجيا مغروسة في الوعي الفلسطيني، ولذلك يصعب القضاء عليها، وتجاهلوا مقولات شارو ن ويهود باراك حين وصفوا حماس من غير الممكن القضاء على حماس، لأنها فكرة أيديولوجية، وإنما يجب ضربها وإضعافها بصورة لا تتعافى منها.

***

نهاد الحديثي

 

قد يستغرب البعض من العراقيين المتفائلين انتكاسة التيار السياسي (المدني) المنضوي تحت مسمى (قيم) في الانتخابات المحلية التي جرت يوم الاثنين المصادف الثامن عشر من الشهر الجاري (كانون الأول)، بعد أن داعبت مخيلتهم المجيشة بالشعارات والمعبأة بالخطابات الكثير من الأحلام والأوهام . من منطلق ان الشارع العراقي قد ذاق ذرعا"بممارسات القوى السياسية التقليدية (الشوفينية والطائفية والقبلية)، التي أدخلت البلاد في دوامات من الخراب الحضاري واليباب الإنساني على نحو غير مسبوق، جراء تعميم الفوضى واستشراء الفساد في كل مرفق من مرافق الدولة وضمن كل قطاع من قطاعات المجتمع . بحيث ان هؤلاء اعتقدوا ان فرص نجاح التيار في هذه الانتخابات (المحلية) ستكون مجزية لا بل وفيرة، وبالتالي سيشهد العراق باكورة تحولات نوعية على كافة الصعد والمستويات .

وعلى أساس من هذا الاعتقاد الخاطئ، فقد ظن أولئك البعض أن العراقيين هذه المرة سوف لن يكرروا ذات الأخطاء التي ارتكبوها في السابق، لاسيما حيال اختيار مرشحيهم (ممثليهم) - كما حصل في الانتخابات التشريعية الماضية - وفقا"لقواعد الانتماء الأصولي والولاء العصبي الأثيرة لدى الجميع، بعد أن تكشفت لهم عواقب ذلك الاختيار وتعرت أمامهم أكاذيب وادعاءات من سوقوا أنفسهم ك (منقذين) و(مخلصين) لنيل أصوات الناخبين المخدوعين بالوعود . وإنما سيغيرون بوصلة توجهاتهم صوب القوى (المدنية) المستقلة التي روّج الكثير عن أهدافها (الوطنية) وبرامجها (الإصلاحية)، متجاهلين حقيقة ان مكونات المجتمع العراقي – ضمن جغرافية الوسط والجنوب - لن تفضّل مصالح (المواطنة) على مصالح (القبيلة / العشيرة) أو (الطائفة / المذهب) . مثلما ان مكونات الشطر الشمالي من جغرافية الإقليم العراقي، لن ترجح انتمائها (الوطني) الشكلي على ولائها (القومي / الاثني) الأساسي، لاسيما وان جميع المكونات العراقية – شمالا"وجنوبا"شرقا"وغربا"- باتت غارقة في مستنقع الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، وانه يستحيل عليها التخلص من هذه الروابط الأولية والتملص من تلك الوشائج العاطفية بهذه السهولة مهما كانت التحديات التي تواجهها والتضحيات التي تتطلبها .

والغريب في الأمر ان مرشحي التيار السياسي (المدني) المهمشين، فضلا"عن الجمهور المنخرط في حملاتهم الانتخابية الفقيرة، لم يروادهم أدنى شك حيال معطى سوسيو – سياسي أضحى واقعا"ملموسا"مفاده ؛ ان الشعارات التي تبناها هذا التيار وراهن عليها، لم تعد تجد لها ضمن تكوين المجتمع العراقي الحالي صدا"يمكن الركون إليه والتعويل عليه كما كان يظن، خصوصا"وان الأفكار والرؤى والتصورات التي أسس عليها هذا التيار وجوده الاجتماعي وشرعيته السياسية، لم تعد تحظى بذاك الاهتمام والتعاطف الذي كانت تتمتع به في السابق، وذلك جراء مجموعة من الأخطاء والانحرافات التي تورط بها رموزه بعد أحداث (السقوط) التي تمخضت عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 . وهو الأمر الذي أفضى – ولا يزال - الى عزوف الكثيرين ممن كانوا يحملون تلك الأفكار ويروجون لها، كما لو أنها كانت تمائم دينية تستحق التوقير والتقدير .

وبدلا"من أن يصار الى مراجعة هذه التجربة الكسيحة مراجعة (نقدية) صارمة ودراستها دراسة موضوعية معمقة، تتوخى البحث عن الأسباب الفعلية والكشف عن العوامل الواقعية التي أفضت الى حصول هذا الفشل والإخفاق، رغم كل العوامل الذاتية والموضوعية التي كان من المتوقع أنها ستحقق (فوزا") كاسحا"لمرشحي هذا التيار على منافسيهم، فقد ارتأى (الفاشلون) - لتخفيف وطأة الصدمة – صبّ جام غضبهم على فساد المؤسسات المسؤولة عن فبركة نتائج هذه التجربة، فضلا"عن اتهام القوى والكتل السياسية (الفائزة) في التلاعب بأعداد الناخبين لصالح هذا الطرف أو ذاك، وكأنهم لم يكونوا على دراية تامة بطبيعة هذه العملية التي مهما طبل وزمر عن طابعها (الديمقراطي) المزيف، لم يكن مخطط لها تحقيق العدالة وضمان المساواة بين المتنافسين .

والحقيقة ان كل من تناول تجربة هذا التيار (المدني) ظلّ – حتى بعد مفارقات وتداعيات ما بعد السقوط – متمسكا" باعتقاد ان كل ما جرى ويجري، لم ولن يؤثر على سيرورات البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات التاريخية التي كانت فاعلة في مضامير الواقع الاجتماعي للعراق، وبالتالي فان معظم الجماعات المنضوية تحت شتى مسميات (اليسارية) و(العلمانية) و(الليبرالية) و(الديمقراطية) استمرت محافظة على رصيدها الشعبي وصيتها الجماهيري، حتى بعد أن جردها الواقع المعاش من صدقية الكثير من الادعاءات والمزاعم التي كانت تتحصن خلفها وتحتكم اليها، بحيث استمر وهم الاعتقاد بأنها لم تفقد مواقعها ولم تخسر أنصارها رغم كل ما طرأ على الواقع من انهيارات مدوية وانكسارات مفجعة . أي بمعنى انه كان ينظر الى واقع المجتمع العراقي الحالي نظرة استاتيكية جامدة لا جديد فيها سوى الثبات والاستمرارية، وان كل الذي حصل من تغيرات جذرية وتحولات عميقة وانقلابات واسعة، حيث عصفت بهذا الواقع المتداعي على نحو دراماتيكي لم تطال سوى أبعاده (الفوقية) السياسية والاقتصادية والعسكرية، في حين حافظت أبعاده (التحتية) السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية على ثباتها الأصلي وسكونها الدائم .

وهكذا يمكن القول؛ ان الانتكاسة التي مني بها التيار السياسي (المدني) في الانتخابات المحلية، لم تكن حالة شاذة خارج السياق أو واقعة طارئة غير متوقعة، بقدر ما كانت تعبير عن واقع حال جرى نسيانه وإهمال معطياته، الأمر الذي لم يتأخر في الثأر لنفسه من كل أولئك الذين اهتموا بكل شيء، سوى أنهم وضعوا سيرورات الواقع ودينامياته خلف ظهورهم ! .

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

القانون الفرنسي الجديد للهجرة هل هو تقنين للعنصرية؟

(لهذه الأسباب فشلت منظمة "سوس راسيزم" S.O.S racisme المناهضة للعنصرية)

رغم تمريره على البرلمان الفرنسي لا تزال الشكوك تراود الجزائريين في القانون الفرنسي الجديد المتعلق بالجالية الجزائرية في المهجر، والتدابير التي ينص عليها القانون الفرنسي، من حيث التنقل والإقامة والعمل في فرنسا، إلا أن مصادر مطلعة أكدت أن القانون لا يخص الجزائريين وحدهم، حيث اعتبره البعض تقنين للعنصرية، يبقى السؤال هل سيعاد النظر في ملف القانون الفرنسي الجديد؟ أم أنه مؤجل؟ خاصة وأن الرئيس إيمانويل ماكرون قلبه وعقله مع المسيحيين الكاثوليك في غزة، وقد أعلن عن قلقه العميق إزاء الوضع المأساوي لرعية اللاتين في غزة.

فقد أحدث قانون الهجرة الفرنسي الجديد جدلا على كل المستويات والأصعدة خاصة ما تعلق بالشروط التي وضعها المشرّع الفرنسي ومنها، عدم ازدواجية الجنسية، أي التمسك بالجنسية الفرنسية، ومن يرفض يعيدون إلى بلده، احترام شعار الجمهورية ورموزها، وهذا يعني الانضباط وعدم المساس بالرموز الفرنسية،حتى لو كانوا يرفضون أن تقام الشعائر الدينية (الإسلامية) فوق أراضيهم، كما شمل القانون المهاجرين الغير نظاميين وترحيل مرتكبي الجرائم إلى بلدانهم الأصلية، وهذا الشرط كما يرى ملاحظون مبهم وغير دقيق، فهل يمس النشطاء السياسيين أم لا؟، خاصة وحسب التقارير هناك هاجس انتخابات 2027 والفوز المحتمل لمارين لوبين زعيمة حزب "التجمع الوطني" أقصى اليمين التي فشلت في الوصول إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية السابقة التي عادت فيها اغلب الأصوات لإيمانويل ماكرون.

ويأتي صدور القانون الجديد من باب التخوف من الجاليات المغاربية التي وسعت وجودها عن طريق الجمعيات وبنائها المساجد، حيث تمكنت من فرض عقيدتها فوق التراب الفرنسي، الذي يكن عداءه للإسلام، كما تتدخل عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، هذه الأخيرة شكلت في الفترة بين 1968 و1971 أزمة "بترولية" أثرت على الهجرة المغاربية، فقد كانت الهجرة مسموح بها وخاصة بالنسبة للجزائريين في إطار اتفاقيات أبرمت، حسب التقارير، يعود أول اتفاق حول الهجرة أبرم بين الجزائر وفرنسا إلى أفريل 1964 وهو ينص على أن عدد المهاجرين إلى فرنسا يتحدد في ضوء اليد الجزائرية العاملة المتوفرة من جهة ومن جهة أخرى إمكانيات سوق العمل الفرنسية، وتواصلت الاتفاقيات حول هجرة الجزائريين إلى فرنسا إلى غاية 1973، السنة التي أعلنت فيها الجزائر وقف الهجرة الجزائرية إلى فرنسا.

ولعل السبب الرئيسي في القرار الجزائري بتوقيف الهجرة الجزائرية إلى فرنسا إلى الوضع الموجود آنذاك في فرنسا والذي تميز بصراعات ومشاكل واجهتها الجالية في فرنسا بسبب استفحال البطالة، قبل أن تظهر قضية الحجاب التي هزت الرأي العام الدولي، كون هذه القضية أبرزت مدى عنصرية فرنسا تجاه الجاليات المغاربية، حتى أن منظمة "سوس راسيزم" S.O.S racisme المناهضة للعنصرية فشلت بل عجزت عن حل مشاكل المهاجرين، بعد فقدان هيبتها خاصة في الفترة التي أعيد فيها ترشح فرانسوا ميتران لولاية جديدة في سنة 1988، وراهن أبناء المغرب العربي على إعادة انتخابه بعدما ساندوه في انتخابات ماي 1981 وما إن وصل إلى الرئاسة حتى تجاهلهم، بعد أن ظهرت مفاهيم ومصطلحات جديدة، فعلى سبيل المثال كان البعض يقول أن أرض فرنسا لم تعد "دار عهد" بالنسبة للمسلمين، بل تحولت إلى دار للتبشير بالإسلام، ومن هنا أصبحت الجالية المغاربية تطالب بحقوقها القانونية كمواطنين فرنسيين، مثلهم مثل البروتستانت واليهود، الذين كانوا يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها المسلمون.

في ظل الفشل الذي عرفته الفدرالية الوطنية للجزائريين بفرنسا وتقاعسها في التكفل بملف الجالية الجزائرية في المهجر، بات السؤال يطرح وبحدة حول الوضع البائس للجالية الجزائرية في فرنسا وما مصير المبادرة التي قامت بها مجموعة تمثل النخبة الجزائرية في فرنسا بإنشاء حركة سياسية تمثل صوت الجالية الجزائرية في فرنسا التي كما يقول أحد المهاجرين تعيش غربتين غربة الذات وغربة المكان، من هنا ارتفعت أصوات الحاملين للجنسية الفرنسية من الجزائريين، وكذلك أبناءهم الذين ولدوا داخل التراب الفرنسي وحصلوا على الجنسية الفرنسية للمطالبة بحق المواطنة، ويكون ذلك في إطار التسامح وثقافة السلام، باعتبارها من بين المبادئ الهامة التي اهتمت به اليونيسكو.

وكانت المنظمات اليهودية ومندوبيها (الكريف) ولا تزال تقر بأن الإسلام والمسلمين هما العدو المشترك، وفي هذا فالجالية الجزائرية في فرنسا والتي تحمل الجنسية الفرنسية باتت مخيرة بين إسقاط جنسيتها الأصلية (الجزائرية) أو العودة إلى بلدها وهذا يشكل تضييقا على الحكومة الجزائرية في ظل الوضع التي تمر به البلاد، للعلم وحسب التقارير فإن معظم المنخرطين بهذه الحركات الصهيونية الفرنسية هم يهود مزدوجي الجنسية (جنسية فرنسية وجنسية إسرائيلية)، وبالتالي فولاءهم الأول لإسرائيل، ويحاول" الكريف " منذ سنوات استخدام الدعاية (البروباغاندا) Propagande لإبعاد الشبهة عن يهود فرنسا مزدوجي الجنسيات) بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال التأثير على الرأي العام الفرنسي والأوربي، لانشغالهم بالجالية المسلمة، في وقت يستمر فيه الصهاينة العمل في الظل وسنّ القوانين من أجل التحكم في الأحزاب ويوجهونها في السياسة الخارجية، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها فرنسا تروج المنظمات اليهودية ومندوبيها لأشكالٍ من المغريات الخاصة باليهود الفرنسيين، غير أن النخبة الفرنسية الأصيلة وهي الطبقة الممثلة في الفرنسيين البسطاء (فنانون ومثقفون وسياسيون) تفطنوا للمخطط الصهيوني، بطرح هذه النقاط وانتقاد المنظمات الصهيونية وكشف حقيقتها واللعبة القذرة التي يمارسونها في حق المسلمين.

***

ورقة علجية عيش الجزائر

يدور الحديث هذه الأيام في الاعلام الغربي ولدى المسئولين الغربيين، عن الجوع الذي تصدره روسيا للعالم، خصوصا بعد ان أوقفت العمل باتفاق إسطنبول 2022، ومحاولة  الدول الغربية، وتحت ذريعة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء العالمية، و هنا يكمن التناقض، فقد  أصبح الغذاء باهظ الثمن ولا يمكن الوصول إليه في بداية الوباء،  وبدأوا في إنتاج كميات أقل منه، ونشأت صعوبات في الإمدادات، لذلك بدأت الدول الأكثر ثراءً، على سبيل المثال الولايات المتحدة، في الشراء بأسعار باهظة، وطبعت تريليونات الدولارات مقابل ذلك.

ومعلوم  ان  القمح  يعد الغذاء الأساسي، لأكثر من ثلث سكان العالم، لكن أسعاره ارتفعت بنسبة 60% منذ بداية العام،  ووفقا للتوقعات، قد ترتفع تكلفة طن القمح في المستقبل من 430 دولارا حاليا إلى 700 دولار، وفي الواقع، لم يؤثر ارتفاع الأسعار على القمح فحسب، بل على المنتجات الغذائية الأخرى أيضا، ومع بداية شهر مايو من هذا العام، ارتفع مؤشر أسعار الغذاء العالمية بنسبة 41% مقارنة ببداية العام الماضي، وارتفعت تكلفة الذرة بنسبة 54%،  ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قد تواجه البشرية "أكبر أزمة غذائية منذ الحرب العالمية الثانية"، وسيرتفع عدد الجياع في العالم، ونتيجة لذلك، فإن مئات الملايين من الناس معرضون لخطر المجاعة، ويتزايد نقص الغذاء في بعض المناطق بمعدل 40-50%.

وبصرف النظر عن تأثيرات الظروف المناخية الطبيعية، فإن السبب الرئيسي هو التحكم الاصطناعي، فقد  كانت الشبكة العالمية لتجارة الحبوب الدولية، دائمًا في أيدي أكبر أربعة تجار زراعيين، ويرتبط الارتفاع السريع في أسعار الحبوب العالمية،  ارتباطًا وثيقًا بالتلاعبات التي تقوم بها هذه الشركات،  ولا يمكن حل التقلبات الحادة في أسعار الغذاء العالمية ومشاكل الإمدادات إلا من خلال الآلية الحالية،  والسبب الرئيسي هو أنه لم يكن هناك حافز يذكر على مدى سنوات عديدة لدى اللاعبين المهيمنين العلنيين أو السريين في سوق الغذاء العالمية لمعالجة المشكلة، (شركات التجارة الزراعية "الأربع الكبرى" - آرتشر دانييلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس -) يشار إليها مجتمعة في كثير من الأحيان باسم ABCD  InoSMI) ) والشركات التي تقف وراءها هي المستفيدين الرئيسيين)، وبشكل خاص، أصبح بوسعهم الآن احتكار صوت العالم من خلال تقديم معلومات كاذبة وتحويل اللوم،  ولحل هذه المشكلة في المستقبل، يحتاج العالم إلى آلية بديلة جديدة، تتشكل على أساس توحيد الغالبية العظمى من دول العالم، وليس لعبة المحصلة الصفرية للولايات المتحدة وحلفائها، كما يحدث الآن، والتعاون وحده هو الذي سيساعد في حل المشاكل العالمية.

إن الفجوة بين روسيا والغرب آخذة في الاتساع، لكن موسكو تعمل على زيادة التعاون في أجزاء أخرى من العالم،  وأصبح هناك اتجاه مختلف تمامًا، فقد زادت موسكو من نفوذها في العديد من البلدان المهمة، بما في ذلك تلك التي لها أهمية كبيرة بالنسبة لواشنطن، واستغلت هذه الدول بدورها الانقسامات العالمية الجديدة لتعزيز سلطتها الإقليمية والدولية، كذلك حولت روسيا الماضي السوفييتي، إلى أداة فعالة لتحقيق أهدافها السياسية الحالية، وفي علاقاتها مع الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا، تعتمد روسيا على الدعم التاريخي الذي يقدمه الاتحاد السوفييتي للحركات المناهضة للاستعمار،  ويضع الوزير لافروف روسيا في صف الدول التي تعارض "محاولات الغرب لتزوير التاريخ ومحو ذكرى الجرائم الفظيعة التي ارتكبها المستعمرون، بما في ذلك الإبادة الجماعية".

الولايات المتحدة الامريكية تتهم  روسيا بابتزاز العالم في أزمة الحبوب، بدلاً من المساعدة في حل أزمة الغذاء العالمية، ويؤكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يسمح بإمدادات الغذاء" ويحاول جعل العالم يوافق على مطالبه ويرفع العقوبات، " وبعبارة أخرى، بكل بساطة، هذا ابتزاز"، والاشارة الى إن أوكرانيا الآن غير قادرة على نقل الحبوب "بسبب الحصار البحري الروسي"،  وبحسب تقديره فإن «هناك ملايين الاطنان من القمح محتجزة في منشآت التخزين قرب أوديسا وعلى متن السفن العالقة في ميناء أوديسا بسبب هذا الحصار الروسي».

كما تواصل الولايات المتحدة صب الزيت على الصراع بين روسيا وأوكرانيا،  وتزيد العقوبات ضد موسكو، بالإضافة إلى ذلك، اتخذت أمريكا تدابير داخلية، واستولت على حصة روسيا في سوق الغذاء العالمي، ويقال إن الرئيس الأمريكي جو بايدن زاد عدد المقاطعات المؤهلة للتأمين المزدوج على المحاصيل على مستوى البلاد من 681 إلى 1935، كما رفع استثمارات الحكومة الفيدرالية في إنتاج الأسمدة المحلية من 250 مليون دولار إلى 500 مليون دولار، مما عزز الصادرات الزراعية الأمريكية،  وزيادة الاعتماد الخارجي على الغذاء الأمريكي، ويبدو أن النية الحقيقية للولايات المتحدة هي بسط هيمنتها على مجال الأمن الغذائي.

كذلك  اتهامات رئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، سامانثا باور، التي اتهمت روسيا في برنامج تلفزيوني أمريكي PBS NewsHour باستفزاز أزمة الغذاء العالمية، ووصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها  جراء عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا، وهذا الحصار المتعمد بالكامل حول تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وردا على سؤال أحد الصحفيين عما إذا كانت تدرك أن العقوبات الأمريكية المفروضة على شركات النقل التي تصدر الحبوب الروسية، قالت "كل ما هو مطلوب هو ضمانات السلامة لجميع السفن الجارية، وبعد ذلك ستنعكس ضمانات السلامة هذه في أسعار التأمين"، فضلاً عن قيود أخرى مماثلة، «ساهمت في ارتفاع أسعار الغذاء العالمية».

وكل ما تقدم من اتهامات فندتها روسيا عندما أعربت موسكو عن استعدادها لتقديم 50 مليون طن من الحبوب للمساعدة في التغلب على أزمة الغذاء، فقد أتهمتها الولايات المتحدة وأوروبا بـ "الابتزاز"، حيث طالبت روسيا برفع العقوبات،  ووفقا لمتحدث باسم البنتاغون، فإن روسيا "تستخدم الغذاء كسلاح"، وفي الواقع، يعد تحويل الغذاء إلى "أسلحة" ممارسة شائعة في الولايات المتحدة، ولأن أمريكا استخدمت الغذاء مراراً وتكراراً "كسلاح" فقد أصبح الغذاء نقطة ضعف في التجارة العالمية.

تصريحات المسئولين الروس وعلى كافة المستويات ترفض الاتهامات الغربية عموما والأمريكية بشكل خاص، مسئوليتها عن الازمة العالمية في الحبوب، ويؤكدون أن  أزمة الغذاء العالمية لم تنشأ  بسبب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وكما يروج له الغرب،  بل هي بسبب تصرفات الدول الغربية، ويؤكد  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ان هذه الازمة قد نشأت نتيجة أن الدول الغربية، سواء الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، بدأت في الانخراط في انبعاثات غير مبررة وغير مبررة اقتصاديا من أجل حل مشاكلها المرتبطة بوباء فيروس كورونا.

إن الوضع الحالي المتمثل في نقص المنتجات الزراعية في العالم قد تطور من وجهة النظر الروسية، بسبب عدد من العوامل، وعلى وجه الخصوص، بسبب عواقب الوباء، والاضطرابات في سلاسل التوريد، والتضخم، والتوسع الحضري المتسارع، وإرهاق التربة المتراكم، وكذلك تغير المناخ،  ومع ذلك، فإن مكانًا خاصًا في هذه القائمة تحتله مجموعة من العقوبات غير القانونية المناهضة لروسيا، ويركز الجانب الروسي  أيضًا على حقيقة أن العقوبات المفروضة في مجالي النقل والمجال المالي، هي التي تزيد من تفاقم الوضع الصعب الذي تطور في أسواق الغذاء العالمية.

وبدافع من الاحتياجات الاستراتيجية، تعمل الولايات المتحدة وأوروبا وفقا للمسئولين الروس،  على تحويل المسؤولية عن أزمة الغذاء العالمية إلى روسيا، وتمارس الضغوط عليها بطرق مختلفة، لكن فلاديمير بوتين،  نفى ذلك، وقال إن اتهامات روسيا بوجود صعوبات في توريد المنتجات الزراعية "لا أساس لها من الصحة"، معللا في الوقت نفسه ان الأزمة الحالية، ناجمة عن العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، فقد كانت القيود المناهضة لروسيا هي التي أدت إلى تفاقم الوضع، ويعود ذلك في الواقع إلى تعطل سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية بسبب العقوبات الاقتصادية الشاملة، مما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية، وفي الوقت الحاضر، لم تقترح أمريكا وحلفاؤها بعد حلولاً حقيقية للمشكلة، ولكنها تواصل تصعيد الصراع من خلال تزويد أوكرانيا بالمزيد والمزيد من الأسلحة والمعدات الجديدة، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى زيادة خطر الأمن الغذائي العالمي في المستقبل.

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدوره، يؤكد إن التكهنات التي تروج لها الدعاية من الدول الغربية وأوكرانيا بأن روسيا "تصدر الجوع" ليس لها أساس من الصحة، ووفقا له، فإن مثل هذه التصريحات في الغرب تحاول مرة أخرى "تحويل المسؤولية من رأس مريض إلى رأس سليم"، وأشار الوزير إلى أنه خلال أصعب أوقات جائحة فيروس كورونا، قام الغرب الجماعي، باستخدام آلية انبعاث العملة، بسحب تدفقات السلع والغذاء، مما أدى إلى تفاقم الوضع في البلدان النامية التي تعتمد على الواردات الغذائية، وذلك عندما بدأت الأزمة في سوق المواد الغذائية بالتشكل.

والأمر الأسوأ من ذلك هو أن العقوبات غير المدروسة ضد الغاز والأسمدة الروسية، أدت إلى ارتفاع الأسعار في العالم وزيادة التقسيم الطبقي، واستمر الأغنياء في شراء ما يزيد على حاجتهم، وخلال الوباء، زاد عدد الجياع في العالم بمقدار الثلث، وبمجرد أن أصبح من الواضح أن أسمدة لن تكون متاحة في السوق العالمية، ارتفعت أسعار الأسمدة والأغذية على حد سواء على الفور، لأنه إذا لم تكن هناك أسمدة، فلن يكون هناك الحجم المطلوب من المنتجات الزراعية المنتجة،  وروسيا ليس لها علاقة بالأمر على الإطلاق، فقد  ارتكب الغرب نفسهم الكثير من الأخطاء، "وهم الآن يبحثون عن شخص يلومونه عليه».

وتصف موسكو محاولات الولايات المتحدة إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء بأنها "سخيفة" وهكذا، ردت على اتهاما، سامانثا باور، التي وصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا، وإن تصريحات الجانب الأمريكي غير مهنية، وتخلو من التحليل والفهم الصحيح للوضع، “أو بالأحرى الرغبة في فهم جوهر المشكلة”،  وإن الولايات المتحدة تلوم روسيا بلا أساس على هذا الوضع من أجل المزيد من شيطنتها.

الاستنتاج الأخير هو إن واشنطن تتعمد تضخيم مشكلة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود بشكل مصطنع من أجل “إخفاء دورها الكارثي في أزمة الغذاء”، وإن الغرب يحاول "تحويل" المسؤولية عن المشاكل في سوق الغذاء العالمية إلى روسيا، ولكن أوكرانيا لديها العديد من قنوات نقل الغذاء للاختيار من بينها، وروسيا لن تتدخل في الإمدادات الغذائية، بالإضافة إلى ذلك، وأن صادرات القمح الروسي سترتفع إلى 50 مليون طن في العام الزراعي المقبل.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

الشعب في غالبيته العظمى يعتاش بالمعنى الحرفي على ما تمنحة الدولة من مرتبات ومخصصات ومعونات، والدولة بدورها تدير أكبر رأسمال في البلد والمتمثل باستخراج النفط وبيعه وصرف ما تجنيه من أموال على ما يعرف بالميزانيات التشغيلية، من دون تفكير في مشاريع تطوير تنموية مستقبلية، أو إنعاش قطاعات الصناعة أو الزراعة، أو الخدمات التي من المفروض أن توفر دخلا للدولة عبر ما تجنيه من الضرائب، والنتيجة هي أن الحكومة في العراق ممسكة بمصدر الدخل الأكبر، الأمر الذي يرسخ غياب مفهوم المواطنة والمواطن (دافع الضرائب) الذي من حقه محاسبة الحكومة إذا قصرت في عملها، والمطالبة بكشف الفاسدين ومعاقبتهم. النتيجة أصبح المواطن يعيش نوعا من الفصام، إذ يطالب بأعلى صوته بالقضاء على الفساد والمحسوبية والمحاصصة، طالما كان الأمر مجرد شعارات يصرخ بها في ساحات التظاهر، لكن حالما تُمس مصالحه نراه يتحول إلى متواطئ مع الفساد، بل ممارس له وساعٍ للاستفادة من علاقاته بقريب سياسي، أو نسيب يشغل منصبا حكوميا، وربما كان المثال الاوضح الذي يمكننا الاشارة له هو السياق الجاري عندما يذهب شخص ما لإنجاز معاملة في دائرة خدمية، إذ نراه يبحث عن معارف في هذه الدائرة أو تلك، لينجزوا له ما يطلبه من خدمة حتى إن تجاوز في سلوكه على حق الآخرين. وهذه هي أولى خطوات ترسيخ الفساد, ويحق لكل موظف الإبلاغ عن مخاوفه من خلال استخدام مجموعة متنوعة من قنوات الإبلاغ المتوفرة في جميع أنحاء الشركة، مع تعهدنا بالحفاظ على السرية وحظر أي نوع من أنواع الانتقام تجاه أي شخص بسبب الإبلاغ عن مخاوف تتعلق بالنزاهة أو المساعدة في تداركها, نحن جميعًا مسؤولون عن الالتزام بقواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة) وفهم مخاطر الامتثال التي تؤثر على وظائفنا، فجميع الموظفين يقرون سنوياً بفهمهم لقواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة) ويكملون التدريب المخصص على السياسات الواردة فيه. ونتحمل جميعًا مسؤولية الإبلاغ على الفور عن المخاوف المتعلقة بالنزاهة أو الانتهاكات، وقد يؤدي عدم القيام بذلك إلى عواقب وخيمة على شركتنا وموظفينا والمجتمعات التي نعمل فيها,, عليه يتمثل أساس ثقافة النزاهة لدينا في قواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة). وتتطلب هذه القواعد في  سلوكًا مسؤولًا في العمل كقيمة أساسية، مع إيلاء أولوية عالية للنزاهة، فالنزاهة لا تبني بيئة عمل وثقافة جيدة للشركة فحسب، بل تجذب الاستثمار أيضًا وبالتالي ترعى النمو الاقتصادي وتعزز التجارة الدولية

إن انتخاب الحكومات المحلية انتخابا ديمقراطيا حقيقيا من أبناء المحافظات أمر جيد، لكن فساد هذه الحلقة من حلقات الحكم في العراق مماثلة لما جرى ويجري في الحكومة المركزية، وإن الحل هو المعالجة الحقيقية التي ترسخ قيم النزاهة ومعالجة الفشل والفساد، وذلك عبر ترسيخ أنظمة فعالة وجدية لتقويم أداء المؤسسات الحكومية، من خلال مبدأ محاسبة تكاليف الفساد المادية وغير المادية، لكي لا تكون مبرراً لتجميد إلغاء خطط مكافحة الفساد لارتفاع تكاليفها عن تكاليف الفساد. كما يجب خلق طرق فعالة للحد من ظاهرة تسهيل غسيل الأموال التي تتبعها شبكات التخادم بين الطبقة السياسية ومافيات الفساد المنتشرة، وبضمنها مافيات السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر، وتداخل ذلك مع بعض الانشطة السياسية والاجتماعية في العراق. والتأكيد على التحفيز على القيام بالواجب وعدم ارتكاب المخالفات عن طريق الترغيب والترهيب،انتهت الانتخابات، وبنى البعض عليها الدراسات والتحليلات، وبعضهم شغلوا أنفسهم بالاستنتاجات والتوقعات والتنبؤات المستقبلية،فيما عد البعض أنفسهم للافراح والليالي الملاح، لأنهم عرفوا كيف يختارون من يتولى جلدهم بسياط الفساد.,, لست متشاؤم، لكن هذا ماسمعته بأذني خارج احد المراكز الانتخابية، حيث شراء الذمم والأصوات والضمائر، بخفافيشية ومن تحت الطاولة, هؤلاء ( مرشحين ومروجين وناخبين ) بنظرهم الانتخابات مجرد لعبة قذرة، يفوز فيها من يتحايل فيها، ومن يتقن الالتفاف على القانون الذي يحكم هذة الانتخابات، وعملية تزوير لإرادة الناخبين، وتغيب وعيهم، وفرض الوصايه عليهم، ومن أهم شروطها ان لا تمارس بشرف ووطنية.- ولا تخص المرشحين أصحاب الشعبية الجيدة والمعتدلة، بل تخص تحديدا من لا شعبية لديهم،

إن الثقافة هي الركن األساسي لبناء النزاهة وتعزيزها في المجتمع، باعتبارها رافدا من روافد الثقافة المستقبلية، وبما أن النزاهة هي مجموعة من القيم والمبادئ المتعلقة بالصدق واألمانة واالخالص بالعمل مهمتها تعزيز ثقافة السلوك األخالقي للعاملين داخل العمل المؤسسي لتسهم في تحديد وتعزيز العمل باالتجاه الصحيح، فإن الوعي بأهمية النزاهة يجب أن ينعكس على أهداف النزاهة، فاألهداف التربوية الصحيحة هي التربية الصحيحة، لذا فإن األهداف البد أن تكون مشتقة من قيم المجتمع وأهدافه ومراعية إلمكانات الواقع وظروف كل عصر وأن تكون قابلة للتنفيذ وعلى مراحل. فالتعليم الفعال يوصلنا إلى الغاية واألمل المنشود, والقانون ليس هو الرادع الوحيد للفساد، بل يجب أن تكون هناك ثقافة النزاهة وحفظ المال العام، وهنا يجب إعطاء الدور الريادي لوزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي لوضع مناهج دراسية لكل المراحل، للمساعدة في خلق ثقافة الحرص على المال العام والنزاهة في التعامل، وتقليص روح الأنانية الفردية والسمو بالروح الجماعية. والعمل على تثقيف المجتمع وتحويل ولائه الضيق بصورة تدريجية من العائلة والعشيرة إلى الوطن، عبر ترسيخ قيم المواطنة

وختاما نؤكد على أهمية تفعيل القانون ووضع مناهج تربوية وثقافية يتم ترسيخها عبر وسائل الإعلام المختلفة، لخلق ثقافة النزاهة وحفظ المال العام عبر استراتيجية طويلة المدى، لغرض ترسيخ سلوكيات الولاء والانتماء لدى الأفراد وتعزيز قيمنا الوطنية الخالدة,, ونجاحنا يعتمد على ترسيخ ثقافة النزاهة، التي تعزز بدورها الجودة والإبداع، وتحافظ على معايير عالية للبيئة والصحة والسلامة، وتوفر فرص العمل العادلة والاستدامة. ولذلك فالنزاهة تعد جوهر كل ما نقوم به, والتزامنا بمعايير الامتثال وثقافة النزاهة في المجتمع يمتد إلى ما هو أبعد من محاولة منع العواقب المرتبطة بالانتهاكات، مثل العقوبات والغرامات، حيث نؤمن أن أداء العمل بنزاهة، وترسيخ ثقافة نزاهة قوية على مستوى الشركة، عاملان أساسيان في تحقيق ألاهداف على الأمد البعيد.

***

نهاد الحديثي

تحرير الأنسان "... هذا ما قالهُ الروائي والكاتب الروسي نيكولاي وستروفيسكي وهو على فراش الموت بعمرٍ مبكروهو سعيد لا يشعر بندم ولسع الذات طالما شارك الجموع الغفيرة في تحقيق الأمنية الغالية (النضال في سبيل تحرير الأنسان)، في موسكو تجد متحفاً وسط المدينة أسمهُ متحف نيكولاي ويستروفيسكي، إن أول ما يلفت النظر في محتويات المتحف  قولهُ نيكولاي على لسان بطل روايته الطفل بافل والذي نقش على قاعدة تمثاله " تعلم أن تعيش حتى ولو أصبحت حياتك لا تطاق " ويأتي أليه تلاميذ المدارس والجامعات ليتعلموا الصبر والشجاعة والصمود من روايته الشهيرة (كيف سقينا الفولاذ) فالرافعة المنقذة هنا الأدب الأشتراكي صاحب المدرسة الواقعية وقادة هذه الرافعة المنقذة هم نخبة اليسار  التقدمي في أعادة بناء الطموحات الأسترأاتيجية المستقبلية في تحقيق آمال الجماهير ودحض النظريات الرأسمالية المتهالكة فتكون هذه النخب مؤهلة في تكوين كتلة قيادية لمواجهة الزحف الأستعماري المتلهف لمراكز الطاقة في وطننا العراق، والذي نراهُ على صفحات الخارطة السياسية العراقية تثير ظاهرة الأستقطاب الحاد بين المعادلة السياسية وغياب وتشظي قوى اليسار التقدمي في العراق التي باتت تميزه في ظل أنحساره وتراجعه وأنشقاقاته وتشرذمه إلى ماركسية وماوية وتروتسكية وجيفارية وو، بعد أحداث غياب التجربة السوفيتية، والواقع المخيف بأعتقادي: إن هذا المد السريع لأحزاب اليمين والمتطرف خاصة أصبح رقماً صعباً في المعادلة السوسيولوجية الجمعية الغربية أصبح بأمكانه ِ (أزاحة) التكوينات اليسارية بطرق شيطانية متاحة أخبثها الأنقلابات العسكرية كما حدثت في أمريكا اللاتينية أو اللجوء إلى عكازة الديمقراطية الأمريكية العرجاء  وإلى صناديق الأقتراع بمقاس أمريكي، وتطفح حينها على السطح نكوصات وخيبات، وعبر الصراع الطبقي الغير حميد تبرز الحروب الأهلية كالحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي، وأنقسام المجتمع حسب مصالحها الطبقية حيث العصبيات الأثنية والطائفية، وتشظي اليسار العراقي بفعل تلك الفايروسات الهوياتية والشعبوي في سبعينيات القرن الماضي إلى يمين متطرف وثم إلى يسار متطرف بكفاح مسلح بتأثير المد القومي الناصري الذي أصبح عاملا فعالا في أنجاح أنقلاب 63 ضد ثورة 14 تموزوالأطاحة بقائدها الزعيم الخالدعبدالكريم قاسم .

وللوصول إلى مفهوم دقيق لليسار يجب أن يقوم على اسس متينة نقية من الشوائب الطفيلية والنفعية والأنتهازية، وأن يكون مستعداً ومشاركاً فعالاً في الصراع العالمي اليوم المتمثل في سطوة الأمبراطورية الأمريكية القائمة على الأحتلال والأستحواذ على خيرات الشعوب، وهنا يحتم على اليساري أن يكون المدافع الأصيل على طبقته أي مصالح الطبقات الفقيرة والكادحة شغيلة اليد والفكر، وأن يكون اليساري في قلب عاصفة الصراع الطبقي ليصيح حقاً ( أيقونة ) الشعوب المضطهدة وبالسعي الحثيث لتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية .

أسباب أنشقاق وتشظي اليسار العراقي

فهوحدث تأريخ مأساوي ذو شجون ومن الصعوبة لملمة ما قيل وقال في الأعلام المحلي والعربي والعالمي حول هذه الأنقسامات المزرية، وأبرز وأهم سبب أجمع عليه المختصون في هذه  الظاهرة المعيبة هو أنفراط عقد منظومة الأتحاد السوفييتي المدافع عن الشرعية والعدالة ودفاعها المستميت عن الديمقراطية والحرية وتبادل السلطة سلميا والوعي الأنتخابي وثقافة الناخب .

ونعود للبحث عن ثمة أسباب وأسباب متعددة أخرى فرضت نفسها في فوضى الرأي وخوائه منها : دكتاتوريات (بعض) الأحزاب الشيوعية على قواعد حزبها المؤدلجين خصوصا بدوافع أثنية ودينية، ولاننسى دور العولمة في قطب الرحا الواحد وتغول الرأسمالية المتوحشة في زعزعة بوصلة الأعلام العالمي الموجه وهي تلك القوة الناعمة الخفية في تعميق الصراع الطبقي الذي أدى لأظهاربيئة خصبة بالفقر والجهل والتخلف وخاصة في الدول النامية وكان عاملا مساعدا في أنقسامات اليسارالتقدمي، أضافة إلى تحالفات الأحزاب الشيوعية والقومية والدينية كانت لها آثار واضحة في أنقسامات وتشظي اليسار التقدمي .

ومن تداعيات غياب اليسار التقدمي في العراق

كان لأفول نجمه أثراً واضحاً في ظهور اليمين المتطرف في الغرب الأوربي وأمريكا وتطلعاتها السلبية المثيرة على الساحة السياسية الأوربية خصوصاً، وهي أحدى أكبر الظواهر السياسية أهمية خلال العقدين الأخيرين حيث قلبت الأجواء السياسية بشكل مقلق ومثير، حينها أصبحت أدارة الملفات الأمنية تحت تأثير ممثلين اليمين المتطرف من مؤسسات وأفراد، وأن الخطاب الأمريكي بعد الألفية الثانية من هذا القرن قد مال نحو اليمين المتطرف فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط العربي وخاصة أنهيار مفاوضات كام ديفيد للسلام الأولى عام 2000 (قبل الثانية) بزعامة بيل كلنتون وياسرعرفات، والوافع المخيف من هذا الطوفان السريع لأحزاب اليمين الغربي أصبح من الصعب في توازن المعادلة السوسيولوجية الجمعية لأزاحة اليساربالطرق الديمقراطية، وكانت أقوى ضربة قاصمة وجهت لليسار في العراق والشرق العربي كانت الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي بسبب الغلو في ألأثنية والقومية والطائفية ومع الأسف الشديد ظهرالفايروس الأثني والطائفي والهوياتي والشعبوي إلى العراق المجاور سنتي التعصب الفكري والطائفي المقيت وظهوره بنموذج شبه حرب أهلية 2006 - 2014 ولولا عناية الله في التهدئة في أنقسام الجماهير حسب مصالحها الطبقية وتشظي اليسار العراقي إلى اليمين المتطرف بتأثير المد القومي الناصري، وإلى اليسار المتطرف برفع شعار الكفاح المسلح من قبل تيارات يسارية متطرفة منشقة من آيديولوجيات معتدلة ومسالمة، وتوسعت الهوة بين التيارات والآيديولوجيات مما أدى إلى ظهور دكتاتوريات قمعية بوليسية قطعت العمل السياسي بشكل ممنهج وظهور التخندق الطائفي واضحاً جداً بعد 2003 .

العلاج...؟!

ليس هناك حسب النظام العالمي الجديد وصفة جاهزة لعلاج أنقسامات وتشظي اليسار التقدمي في العراق والأقليمي والدولي بل هنا وهناك مسؤليات (طوعية) في تصور ورؤية اليساري التقدمي في أيمانه الوطني بالتغيير ببرنامج قريب للواقع وبديل لما نعيشه اليوم، وهذا البرنامج –حسب أعتقادي – خطير يمس تأريخ اليساري بأفتقاده مبدأ الأختيار فهو يقف على فوهة بركان فأما أن يقف سداً مانعاً أمام الخطاب الطائفي والعرقي والشعبوي ليس هذا فقط بل القفز على الفكر السياسي المتكلس وأن يعي الوعي الأنتخابي وأدراك ثقافة الناخبين والرضوخ لمبدأ المساومة والأنتقائية وأزدواجية المواقف والوقوف على التل لمشاهدت أحتلال العراق وضرب الكرد بالكيمياوي وأحتلال أفغانستان وحرب تقسيم يوغسلافية وأطلاق يد اللوبي الصهيوني في أستباحة غزه (او) الرجوع  إلى حزبه الشيوعي إن كان ماركسيا أو إلى حزبه  الذي يمثل طبقته وكفى اللهُ المؤمنين شر القتال، ولآن :كل ما طُلب من اليساري التقدمي من واجبات لحلحلة التفكك والقبول بالنظام العالمي الجديد هي حلول آنية ترقيعية، ولآنها لم تعد اليوم وضوحا بين خطوط التماس في خارطة القطب الواحد بين اليمين العالمي بزعامة أمريكا واليسار (اليتيم) بعد أنهيار الأتحاد السوفييتي، وأخيراً لا يصح إلا الصحيح وهو اللجوء إلى الحل الجذري  الثورة (التغيير) للوضع المتخلف بالدولة المدنية الديمقراطية وهي كفيلة بتوحيد قوى اليسار التقدمي

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

كانون أول \ سبتمبر23

 

ظهر مصطلح "الكذبة الكبرى" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد أن سعى هتلر إلى إلقاء اللوم على السكان اليهود وغيرهم من الأعداء في هزيمة ألمانيا.

في كتابه "كفاحي" أوضح هيتلر فكرة مفادها أن الناس أكثر عرضة لتصديق الأكاذيب الهائلة من الأكاذيب الصغيرة، لأنهم لا يتوقعون من الآخرين اختلاق شيء بهذه الجرأة. وأصبح هذا المفهوم حجر الزاوية في الدعاية النازية، مما مهد الطريق لنشر الأكاذيب الهائلة التي غذت الكراهية والتعصب.

غالبًا ما يعتمد نجاح الكذبة الكبرى على العديد من التكتيكات والآليات الرئيسية التي تتلاعب بالرأي العام وتستغل نقاط الضعف النفسية ومنها التكرار المتواصل للأكاذيب الذي يمكن أن يضفي عليها لونا من المصداقية. كلما زاد عدد الأشخاص الذين يسمعون دعاية أو ادعاءً ما، حتى لو كان كاذبًا، زاد احتمال قبولهم له على أنه حقيقة. ويستفيد هذا التكتيك من الظاهرة النفسية المعروفة باسم "تأثير الحقيقة الوهمية" حيث تنتج الألفة عنصر الاعتقاد.

غالبًا ما تلعب الأكاذيب الكبرى على عواطف الشعوب، وتثير الخوف أو الغضب أو غيرها من المشاعر القوية. من خلال دغدغة الغرائز البدائية، يمكن للمتلاعبين تجاوز التفكير العقلاني وإقامة علاقة عاطفية عميقة مع جماهيرهم.

إن تحديد عدو مفترض أو كبش فداء يمكن أن يكون بمثابة قوة موحدة للأمة . غالبًا ما تتضمن الكذبة الكبرى إلقاء اللوم على مجموعة معينة في القضايا المجتمعية، وصناعة عدو مشترك وتعزيز الدعم من أولئك الذين يشعرون بالتهديد أو التهميش.

والكذبة الكبرى لا تنطوي دائمًا على التلفيق الكامل؛ وقد تتضمن عناصر من الحقيقة لتعزيز مصداقيتها. من خلال تقديم نسخة مشوهة من الواقع، يمكن للمتلاعبين التضليل دون الابتعاد تمامًا عن الأسس الواقعية.

وتمتد تداعيات الكذبة الكبرى إلى ما هو أبعد من عالم الدعاية؛ فمن الممكن أن يكون لها عواقب وخيمة على الأفراد، والمجتمعات، بل وحتى الشؤون الدولية .

يؤدي توظيف الكذبة الكبرى إلى تآكل الثقة في المؤسسات ووسائل الإعلام والمواطنين. وعندما يصبح من الصعب تمييز الأكاذيب عن الواقع، تسود الشكوك، وتتضاءل الثقة في مصادر المعلومات.

تساهم مؤامرة البحث عن كبش الفداء والخلافات المتأصلة في الكذبة الكبرى في الاستقطاب والتكتل الاجتماعي. ومن خلال تعزيز عقلية "نحن في مواجهة عدو مفترض" يزرع المتلاعبون بذور الشقاق ويضعفون النسيج الاجتماعي.

إن قبول الكذبة الكبرى يمكن أن يؤدي إلى تطبيع الخداع في الخطاب العام. عندما يعتاد المجتمع على الأكاذيب الكبرى، قد تمر الأكاذيب الصغيرة من جهتها دون أن يلاحظها أحد أو يتم تجاهلها باعتبارها غير ذات أهمية.

في المجتمعات الديمقراطية، الكذبة الكبرى تشكل تهديداً كبيراً. إن التلاعب بالرأي العام من خلال الخداع من الممكن أن يقوض أسس الديمقراطية ، حيث يفسح اتخاذ القرارات المستنيرة والعقلانية المجال أمام الاختيارات العاطفية والمتحيزة.

من جانب آخر يعد محو الأمية الإعلامية أمرا ضروريا في العصر الرقمي. ومع انتشار المعلومات عبر منصات إلكترونية مختلفة، يحتاج الأفراد إلى المهارات اللازمة لتمييز المصادر الموثوقة عن المعلومات الخاطئة. يمكن لبرامج محو الأمية الإعلامية تمكين الناس من التنقل في المشهد الرقمي بطريقة مسؤولة.

إن الكذبة الكبرى، بجذورها في التاريخ وتشابكها في المجتمع المعاصر، هي بمثابة قصة تحذيرية حول قوة الخداع السياسي. إن فهم الآليات التي تقوم عليها هذه الظاهرة أمر بالغ الأهمية لتطوير استراتيجيات لمواجهة تأثيرها. بينما نبحر في عصر يتسم بوفرة المعلومات والتلاعب بها، أصبحت ضرورة تعزيز التفكير النقدي، ومحو الأمية الإعلامية، والتواصل الشفاف أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وفي مواجهة الكذبة الكبرى، تصبح القدرة الجماعية للمواطنين المطلعين والفطنين على الصمود أقوى دفاع ضد تشويه الحقيقة.

***

عبده حقي

 

بعد 70 عاما من الحياد الفنلندي، أقدمت هلسنكي على خطوة تخليها عن ذلك الحياد، بالتوقيع على اتفاقية تعاون ثنائي مع الولايات المتحدة الامريكية، وقالت ان هذه الاتفاقية ستعزز التحالف الثنائي بينهما، أمن فنلندا ودفاعها وتسمح للبلدين للتعاون في أي حالات متعلقة بالأمن، كما أن هذا الاتفاق له أهمية إقليمية وسيساعدها على المساهمة في جهود الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي، وبحسب وزير الدفاع الفنلندي، فإن الاتفاق لا تستبعد نشر الأسلحة النووية، لكنه ينص على وجوب مراعاة التشريعات الفنلندية، ويحظر قانون الطاقة النووية تخزين ونقل الأسلحة النووية في فنلندا.

واتفاقية التعاون الدفاعي بين فنلندا وواشنطن، والتي وقعها وزير الدفاع الفنلندي أنتي هاكانن ووزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في واشنطن، تسمح لواشنطن من إرسال قوات لفنلندا، الواقعة شمالي أوروبا، والتي تشارك حدودا مع روسيا، لتعزيز دفاعها وتخزين أسلحة ومعدات عسكرية هناك وغيرها من البنود، وقد أفتتحت فنلندا لهذا الغرض 15 منشأة لنشر الأسلحة والأفراد العسكريين الأمريكيين، وقال وزير الدفاع الفنلندي أنتي هاكانن عشية التوقيع، بأنها "تحمل رسالة قوية للغاية في هذا الوقت، مفادها أن الولايات المتحدة ملتزمة بدفاعنا أيضا في اللحظة الصعبة"، وطالب الوزير الفنلندي برلمان بلاده المصادقة على الاتفاقية  لأنها برأيه " مهمة للغاية لأمن ودفاع فنلندا"، وبالإضافة إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، فإن هذا يشكل رادعاً قوياً إلى حد ما " لجيراننا، ولا أحد يجرؤ على ممارسة ضغوط عسكرية علينا أو زعزعة استقرار الوضع”.

وتقول القيادة الروسية إن مجرد ضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي لا يثير قلق موسكو بشكل خاص، وليس لديها نفس المشاكل مع السويد وفنلندا التي لديها للأسف مع أوكرانيا، وليست لديها قضايا إقليمية، ولا نزاعات، وليس لديها أي شيء يمكن أن يزعج فيما يتعلق بعضوية فنلندا أو السويد في الناتو ، ويشدد الكرملين الذي سبق التعليق على اتفاقية التعاون الدفاعي التي وقعتها فنلندا مع الولايات المتحدة، وشدد على إن الأمر “سيشكل بوضوح تهديدا لروسيا”، وكجزء من الاتفاقيات الجديدة، سيكون للأميركيين إمكانية الوصول على نطاق واسع إلى القواعد العسكرية والمرافق الأخرى في فنلندا، وسيكونون قادرين على نشر القوات والأسلحة والمعدات هناك، والتي سبق وأن حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أنه إذا تمركزت قوات الناتو والبنية التحتية في فنلندا، فإن روسيا سترد بنفس الطريقة .

وقال بوتين في لقاء تلفزيوني عشية توقيع الاتفاق الأمريكي الفنلندي، أن علاقات روسيا مع فنلندا كانت من أفضل العلاقات، ولكن انضمام الأخيرة إلى الناتو" أجبرنا على تركيز الوحدات العسكرية في منطقة لينينغراد العسكرية"، وتابع بوتين، متحدثا عن عواقب انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي "لم تكن هناك مشاكل، والآن ستظهر هناك، لأننا سننشئ الآن منطقة لينينغراد العسكرية هناك ونركز وحدات عسكرية معينة"، ووفقا له، في السابق "لم تكن هناك أي تهديدات" لهذه البلدان، والآن، إذا استضافت الوحدات العسكرية والبنية التحتية للحلف، فإن موسكو "ستضطر إلى الرد بطريقة مرآة وخلق نفس التهديدات للمناطق التي تنطلق منها (روسيا).

بدوره اعرب وزير الدفاع الروسي سيرغي شايغو عن اعتقاده أنه "في المستقبل القريب، لا يمكن استبعاد نشر قواعد عسكرية للتحالف وأسلحة هجومية على أراضي هذه الدول"، ووصف الوزير الروسي الشراكة الاستراتيجية بين موسكو ومينسك بأنها مهمة في الظروف "عندما تدهور الوضع على طول محيط حدود الدولة الاتحادية بشكل حاد بسبب الأنشطة العدائية العلنية لحلف شمال الأطلسي"، مشددا في الوقت نفسه على ان روسيا تعمل على تعزيز حدودها الغربية، بما في ذلك ردا على إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا من دول الناتو، المركبات المدرعة، وأنظمة الدفاع الجوي، والصواريخ عالية الدقة، وقال إن روسيا تعمل على تعزيز حدودها الغربية،، واعترف في وقت سابق بأن الناتو سينشر أسلحة في فنلندا قادرة على ضرب أهداف روسية مهمة في الشمال الغربي، واكد خلال اجتماع للإدارتين العسكريتين في روسيا وبيلاروسيا، إن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي وإجراء مناورات مشتركة في السويد "خلق مصدرا إضافيا للتوتر".

وبعد توقيع الاتفاقية، يجب أن يتم التصديق عليها من قبل برلماني البلدين، ولدى الولايات المتحدة اتفاقيات مماثلة مع لاتفيا وليتوانيا والنرويج وإستونيا، وفي 5 ديسمبر/كانون الأول، وقعت الولايات المتحدة مثل هذه الاتفاقية مع السويد،، واستكملت الدنمارك مؤخرًا المفاوضات بشأن تطوير نفس الوثيقة مع الولايات المتحدة، ويؤكد المراقبون أن هذا الاتجاه يؤدي إلى تشكيل تحالف جديد من الدول ذات المصالح المماثلة .

ويعود التعاون الدفاعي الوثيق بين فنلندا والولايات المتحدة إلى أوائل التسعينيات، ولم يكن توقيع اتفاقية جديدة ممكنًا بدون هذا التاريخ الطويل من التعاون، وقد تم اتخاذ قرار إعداد مثل هذا الاتفاق بين هلسنكي وواشنطن في أغسطس 2022، وبدأت المفاوضات الموضوعية حول هذه المسألة في مارس 2023، ووصفت وزيرة الخارجية الفنلندية إيلينا فالتونين، الاتفاقية بأنها "ليست نقطة نهاية"، ولكنها "خطوة جديدة نحو تعاون أوثق بين وزارتي الدفاع في فنلندا والولايات المتحدة"، وان الاتفاق يعكس التزام الولايات المتحدة بأمن فنلندا، ويخلق بيئة للتعاون في أوقات الأزمات، وإن فنلندا لن تدافع عن نفسها بمفردها، بل كعضو في حلف شمال الأطلسي ومع الولايات المتحدة.

ونشرت الحكومة الفنلندية نص الاتفاقية قبل أيام قليلة من التوقيع، و تحتوي الوثيقة المكونة من 37 صفحة على 30 مقالًا وملحقًا واحدًا، تنص الديباجة فيها، على وجه الخصوص، على أن الوجود العسكري الأمريكي سيعزز أمن واستقرار فنلندا نفسها والمنطقة ككل، و"إن الظروف الأمنية المتغيرة في فنلندا وأوروبا نتيجة للحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا تؤكد مرة أخرى أهمية التعاون الثنائي، وهو مناسب لمختلف المواقف الأمنية"، حسبما ذكرت وزارة الخارجية الفنلندية على موقعها الإلكتروني.

ويحدد الاتفاق كيف يمكن للجنود الذين يصلون إلى هلسنكي العمل في المنطقة وإعادة الإمداد في وقت مبكر، وإن الطرفين سيتفقان مسبقًا على نشر القوات الأمريكية على الأراضي الفنلندية، ولم تناقش الوثيقة عددها أو موقعها على وجه التحديد، وأشار هاكانن إلى أن الولايات المتحدة تتمتع بالولاية القضائية النهائية عليها، ولكن في بعض حالات الجرائم الجنائية، مثل الجرائم الجنسية، يمكن لفنلندا المطالبة بأولوية الولاية القضائية، وقال "سيتم مناقشة دور الجنود الأمريكيين مع الولايات المتحدة في المستقبل".

والاتفاقية الجديدة بين واشنطن و هلسنكي، جاءت استكمالا لمشوار فنلندا الذي بدأ في في الرابع من أبريل من هذا العام، حيث انضمت فنلندا رسميًا إلى حلف شمال الأطلسي، لتصبح العضو الحادي والثلاثين في حلف شمال الأطلسي، على الرغم انهما يتعاونان منذ تسعينيات القرن الماضي، لكنهم قرروا مراجعة سياسة عدم الانحياز التي انتهجوها منذ أكثر من 70 عامًا مع الكتل العسكرية فقط بعد بدء العملية الروسية في أوكرانيا،   وبدأت فنلندا، التي حافظت على شبه الحياد منذ عام 1948، في التحرك بشكل أقرب إلى حلف شمال الأطلسي في منتصف التسعينيات.

ففي عام 1994، انضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لمنظمة الحلف، وأرسلت قوات حفظ السلام إلى أفغانستان وكوسوفو، وبدأت القوات المسلحة الفنلندية في التحول تدريجيًا إلى معايير الناتو، وبدأ ممثلو الدول في حضور مؤتمرات القمة والاجتماعات رفيعة المستوى للحلف بانتظام، وفي سبتمبر 2014، وقعت فنلندا والسويد اتفاقية مساعدة عسكرية مع ( الناتو )، مما يعني تعميق التعاون بشكل كبير، ومنذ عام 2021، بدأت فنلندا في إنفاق أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي، على الرغم من حقيقة أنه لم يحقق جميع أعضاء الحلف بعد هذا الهدف الذي اعتمده الناتو، وفي بداية عام 2022، أبرمت فنلندا صفقة مع الولايات المتحدة لشراء 64 مقاتلة متعددة المهام من طراز (F-35 بقيمة 8.5 مليار يورو تقريبًا)، ولم تنضم أي دولة إلى حلف شمال الأطلسي بهذه السرعة من قبل، قدمت فنلندا والسويد طلبا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في 18 مايو من العام الماضي، وبعد أقل من 11 شهرا أصبح الفنلنديون أعضاء كاملي العضوية، ولكن كان من الممكن أن يجتمعوا في فترة زمنية أقصر لو لم تجعل تركيا والمجر مشروطة الموافقة على طلبهما بمطالبهما السياسية، والتي لا تزال السويد تحاول تلبيتها.

فنلندا لم تتخلى عن حيادها اليوم، مع توقيعها الاتفاق الثنائي مع الولايات المتحدة، فهلسنكي، التي حافظت على شبه الحياد منذ عام 1948، بدأت في التحرك بشكل أقرب إلى حلف شمال الأطلسي في منتصف التسعينيات، ففي عام 1994، انضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لمنظمة الحلف، وأرسلت قوات حفظ السلام إلى أفغانستان وكوسوفو، وبدأت القوات المسلحة الفنلندية في التحول تدريجيًا إلى معايير الناتو، وفي سبتمبر 2014، وقعت فنلندا والسويد اتفاقية مساعدة عسكرية مع (الناتو)، مما يعني تعميق التعاون بشكل كبير .

ومنذ عام 2021، بدأت فنلندا في إنفاق أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي، على الرغم من حقيقة أنه لم يحقق جميع أعضاء الحلف بعد هذا الهدف الذي اعتمده الناتو، وفي بداية عام 2022، أبرمت فنلندا صفقة مع الولايات المتحدة لشراء 64 مقاتلة متعددة المهام من طراز (F-35 بقيمة 8.5 مليار يورو تقريبًا) .

ان الاتفاق الجديد هو (مسيس) بالدرجة الأساس، ومحاولة أمريكية لخلق استفزاز لروسيا، فالإدارة الامريكية في الوقت الراهن، تمني النفس بأي انتصار من شأنه ان يعزز مكانتها داخليا، بعد الفشل الذريع لها في أوكرانيا والشرق الأوسط، ورفع شعبية الرئيس بايدن التي تدنت الى اقل مستوى له، كما أن الوضع مع فنلندا يختلف جذريا عن الوضع مع أوكرانيا، فهلسنكي لم تصبح قط معادية لروسيا، ولم تكن لدى روسيا أي خلافات معها على الإطلاق.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

محاضرة جريئة للباحث السوري الكردي فاروق إسماعيل حول الكرد والتاريخ يدحض فيها أوهاماً وتلفيقات ومبالغات كثيرة لأشخاص لا علاقة لهم بعلوم التأريخ والإناسة والآثار واللغات القديمة: يُعتبر الباحث الانثروبولوجي والمؤرخ والأستاذ الجامعي د. فاروق إسماعيل سوري (كردي) من الباحثين والمؤرخين المتخصصين الشجعان والمخلصين للمنهج العلمي. وهو بهذه الصفات ربما سيواجه بعض ما واجهه الباحث الراحل والشجاع بهنام أبو الصوف حين وقف بوجه العابثين بتواريخ الشعوب والمهرجين والساعين إلى الشهرة فشنوا عليه وقتها حملة ظالمة لأنه قال لهم: "لا علاقة لكم ولنا بالآشوريين والكلدانيين القدماء فنحن سريان آراميون نسطوريون تحولنا إلى مذاهب مسيحية أخرى!".

والمثير للإعجاب في أداء الباحث فاروق إسماعيل هو أنه حين شنت ضده الحملة المتوقعة من التشنيع والتحريض من طرف أولئك الذين كشف حقيقتهم من متعالمين وجهلة يحشرون أنوفهم في الشؤون العلمية التي يجهلون كل شيء عنها ويكتبون عنها بدوافع أيديولوجية وحزبية وقومية متطرفة لم يتراجع أو يتنازل عن أحكامه العلمية ففي محاضرة ثانية له تحدث وبنبرة حزينة عما قيل عنه ولكنه ظل صلبا علميا وكرر كلامه وأحكامه دون أي مساومات ويختمها بالقول "هناك من اتهمني بالإساءة الى قومي الكرد والعلماء الكرد والحط من شأنهم وأنا أقول إنَّ من يسيئون للكرد وللعلوم الحديثة هم أولئك الذين ينشرون الآراء الخاطئة وغير العلمية حتى إذا كانوا يحملون شهادات أكاديمية رفيعة"!

الباحث فاروق إسماعيل يُعَدُ من أبرز المختصين في اللغة الأكّادية والكتابات المسمارية، والنقوش الآرامية والفينيقية، كما يهتم بالنقوش اليمنية القديمة والمخطوطات الكردية وقد مارس التدريس في عدد من الجامعات السورية والعربية كاليمن والعالمية في تركيا وألمانيا. وتأتي محاضرته هذه لتكشف عن الأوهام والخرافات والتلفيقات والمبالغات التي انتشرت في السنوات الأخيرة حول الكرد ودورهم في التاريخ وذهب بعضها إلى جعل الأكراد أحفاد من نسل السومريين وهم الشعب الغامض والمشكوك بوجوده أصلا.

في هذه المحاضرة - الأولى - التي نستعرضها هنا يسجل الباحث وبصرحة أن هناك نزعة عنصرية لدى بعض الكتاب والباحثين الكرد في دراسة وكتابة التأريخ، وأن هناك محاولات في هذه الكتابات للربط العرقي بين الكرد والشعوب القديمة في المنطقة كالسومريين وغيرهم وقد أصبح هذا هو الهم الأساسي في كتابة التاريخ.

ثم يتساءل: هل هي محاولة لإثبات الوجود؟ ولكن إثبات الوجود لا يكون بهذه الطريقة. ويضيف: وقد يقول قائل إن جيراننا يفعلون ذلك ويزورون ويشوهون وأنا لا أرى أن ذلك الأمر مبرر.

  ويضيف الباحث: "مَن يكتب التأريخ الكردي؟ الآن، كثيرون هم مَن يكتبون تأريخنا الكردي ولكن هل تتوافر فيهم صفات المؤرخ الحقيقي أو حتى هاوي التاريخ؟ لا أعتقد ذلك. ثم يذكر تلك والصفات فيقول إن كتابة التاريخ تعتمد على مثلث قاعدته العمل الأثري الذي يكتشف مخلفات الإنسان القديم أيا كان عرقه. وكذلك ما كتبه ذلك الإنسان وما بناه وأبدعه من فنون وآداب. ثم يأتي اللغوي ليقرأ تلك الآثار والكتابات ويترجمها ويحللها ثم يأتي المؤرخ ليكتب التاريخ في ضوء تلك المكتشفات والنصوص المترجمة.

يذكر المحاضر أن أول من كتب عن الكرد أو ذكرهم في كتاب هو شرف خان البدليسي في كتابه "شرفنامه"، وذلك في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. وكتب كتابه هذا بين (1597 وحتى سنة 1599) وهذا تأريخ متأخر نسبيا أي قبل أربعة قرون ونيف. وليس هناك أي عمل مكتوب عن تاريخ الكرد قبل ذلك. والبلديسي كان أميرا كرديا ولكنه لم يكن يعرف اللغة الكردية، وكان يعيش في المنفى في بلاط الصفويين في إيران قبل أن يغير ولاءه ويصبح مواليا للعثمانيين وقد ألف كتابه باللغة الفارسية وبالحروف العربية.

* ولد شرف خان البدليسي في قرية كرهرود أحد نواحي محافظة اراك في إيران عام 1543 للميلاد وعند بلوغه التاسعة من العمر تلقى تعليمه في البلاط الصفوي في زمن الشاه طهماسب وفي عام 1576 قام شاه طهماسب بتلقيبه بلقب أمير الامراء وأوكل إليه قيادة جميع العشائر الكردية الإيرانية قبل شرف خان بلقبه الجديد ولكنه بعد سنتين غير موقفه وأصبح مواليا للعثمانيين في حروبهم ضد الصفويين فقام السلطان العثماني مراد الثالث بتلقيب شرف الدين بلقب الخان ونصبه أميرا على بدليس في عام 1583 وفي عمر 52 عاما قام شرف الدين بتوليه ابنه شمس الدين بك أبو المعالي شؤون الإمارة، توفي في 1005 هـ 1603 م.

* وأول نص كُتب باللهجة الكردية "الكورانية" في إيران هو من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر الميلادي هو للشاعر ملايا بريسان كتب شعراً ومصنفات دينية شيعية بعنوان (فيرسان نامه).

في المراحل التالية، وحين أصبح بين الكرد مثقفون ومتعلمون بدأ البعض بالاهتمام بالتاريخ وكتابة التأريخ. ولكنهم فقدوا الموضوعية التي كان عليها محمد أمين زكي. وأصبحنا نسير إلى الوراء من حيث المنهج. وبدأت تظهر أفكار عنصرية وشوفينية كما كان يكتب التأريخ بعض الفرس وبعض العرب في تقليد غير مبرر تماما لهؤلاء.

بعض الكرد ممن تخرجوا من الدول الاشتراكية كروسيا وبلغاريا وحملوا شهادات الدكتوراة ولكنهم لم يمتلكوا من العلم ما يكفي. فخلطوا في المعلومات واعتبروا كل الشعوب التي وجدت في إقليم كردستان هي شعوب كردية. حتى الآشوريين جعلهم جمال رشيد أحمد من أسلاف الكرد وكتابات آرامية واضحة جعلها كردية لمجرد أنها وجدت في منطقة هورمان الكردية. ثم ظهر بين الكرد ما يشبه ما ظهر عند العرب من كُتاب من موضة فاضل الربيعي وأحمد يوسف داود وبهجت قبيسي. وفي سنة 1992 ظهر كتاب " ذه كرد" لمهريداد إزادين. وفيه كتب عن تاريخ الكرد للفترة الممتدة من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حتى أربعمائة ق.م، واختصر كل هذه القرون في أربعين صفحة فقط بمعلومات عامة جدا مستقاة في معظمها من مقالات متفرقة. وقد تبين أن الرجل ليس متخصصا في التأريخ بل كان متخصصا في الاستشعار عن بعد ويكتب في الجغرافيا والتاريخ ويعمل في الجيش الأميركي وحلف الناتو في العراق وأفغانستان!.

ويعدد المحاضر بعض الكتب عن الكرد التي كتبها أجانب بعضهم ألمان يذكرهم بالاسم حتى سنة 2019. وهي كتب تجارية يحاولون نشرها وترويجها بذكر الكرد في العنوان الرئيس. في السنوات الأخيرة تحسن الوضع قليلا وظهر بعض الباحثين المهتمين بالتاريخ القديم ولكن عددهم قليل قياسا الى عدد الجامعات الموجودة في إقليم كردستان وهو 35 جامعة؛ 17 جامعة حكومية و18 خاصة!

* هناك أيضا مشكلة المندسين الذين قدموا من خارج الاختصاص في التأريخ والدراسة المنهجية، ووسائل الإعلام بيدهم لأنهم يقولون ما يرضي قلوب الكرد ويكتبون على هواهم بلا أية قاعدة تخصصية. ويذكر مثالاً من كرد سوريا فيقول يبدو إننا – كرد سوريا - الأكثر عنصرية من سائر الكرد حتى أن زملاءنا من كرد العراق تعجبوا من درجة العنصرية في مجال التأريخ لدينا نحن الكرد السوريين! فهذا الشخص وهو مدرس تاريخ أصبح نجم الإعلام وهو يقول مثلا إن الإنكلوسكسون يعترفون بأنهم جاؤوا من كردستان، وان المثرائية (هي ديانة رومانية باطنية ترتكز على الإله ميثرا) هي ديانة كردية، وأن المسيحية ظهرت منها، فالميثرا هو المسيح عيسى بن مريم، وجلجامش هو دركاميش الكردي... وتعني كلمة "دركاميش" القوي والضخم، والحيثيون كرد والعيلاميون كرد وووو كلهم كرد!

أما في اللغة فهذا الشخص متخصص أيضاً فقد حول الكثير من الكلمات في اللغات القديمة إلى أصول كردية فكلمة "البروكار" وهو القماش الدمشقي الشهير يقول إنه قماش اخترعه شخص كردي اسمه بروو كان يعيش في دمشق فسموا القماش على اسمه (بروكارد/ بروكردي). وأن هناك كلمات في القرآن هي كردية مثل كلمة ضنك في عبارة (عيش ضنك) هي كردية، حتى كلمة (دين) كردية. ويضيف الباحث فاروق ساخرا؛ أي إنه لم يترك للعرب شيئا!.

وهؤلاء كُثُر ومنهم مَن يُدَرِّس في جامعات كجامعة القامشلي! هذه أشياء مضحكة مضحكة إلى درجة البكاء! فقبل أيام كتبت عبارة في محرك البحث على الانترنيت هي "الكرد سومريون" فظهرت أمامي الكثير من المقالات والمواد الإعلامية التي تقول إن السومريين أصلهم كردي ولغتهم كردية وقد ألف أحدهم كتابا قال فيه: مَن يكون السومريون إن لم يكونوا كردا؟ وكأنه ضابط شرطة أمام القارئ ويصيح به: انتبه ووافق على أن السومريين كرد وإلا!

وهناك طبيب أسنان في القامشلي ألف كتابا عنوانه "الألفاظ المشتركة بين السومرية والكردية"! وأنا دَرَسْتُ السومرية لأربعة فصول دراسية في جامعة ألمانية أي لمدة سنتين وأقرأ وأترجم السومرية ولكني لم أجد ما هو مشترك بين السومرية والكردية.

ويختم الباحث محاضرته بالتساؤل عن أصل الكرد فيقول: لا علاقة للبحث في أصول الكرد بالتأريخ بل هو متعلق بعلم الإثنولوجيا ولغرض البحث العلمي وليس للتفاخر وبهذا الخصوص نقول إنَّ الكرد هم أحد الشعوب الإيرانية، شأنهم شأن الشعوب الإيرانية القديمة، مثلهم مثل الفرس والبلوش والطاجيك والإذريين (يقصد أن الكرد شعب من الشعوب الإيرانية وليس شعب فارسي بل إيراني مثل الفُرْس). وقد ارتبط الكرد بسلسلة جبال زاكروس.

إنَّ الذكر الصريح للكرد تأخر حتى القرن الرابع ق.م، وورد لأول مرة في كتابات للمؤرخ اليوناني سترابون. وقد أخطأ الباحث فاروق إسماعيل هنا، فالمعروف أن المؤرخ سترابون ولد في القرن الأول قبل الميلاد ومات في بداية الأول الميلادي وبالتحديد (من 63 ق.م - إلى 24م) وليس في القرن الرابع قل الميلاد.

 ويضيف الباحث أن الكرد ذكرهم سترابون بلفظ كاردو أو كردوخي، أما اسم كردستان فقد تأخر ظهوره إلى القرن الثاني عشر بعد الميلاد ففي زمن الحاكم السلجوقي أحمد سنجر اقتطع هذا الحاكم أرضا من إقليم الجبال في إيران حتى سهل شهرزور شرقي السليمانية في العراق وسماها كردستان وعين عليها ابن أخيه حاكما أو أميرا ولكن هذه القطعة من الأرض توسعت لاحقا. وفي هذا الإطار الجغرافي كانت هناك شعوب قديمة ليس لها أية صلة عرقية بالكرد، هي شعوب قديمة كانت تسكن في كردستان القديمة. هذه الشعوب ليست أجداد الكرد ولكنها كانت تسكن في منطقة سكن الكرد فيها لاحقا ومن حق الكرد ومن واجبهم أن يهتموا بتاريخ هذه الشعوب القديمة.

***

علاء اللامي

............................

رابط يحيل إلى الفيديو وهو اللغة العربية ماعدا المقدمة باللغة الكردية:

https://www.youtube.com/watch?v=SzugO3MtsY4&t=772s&ab_channel=Ehmed%C3%AAMeymo

* رابط لتحميل كتاب "شرفنامه" لشرف خان البدليسي:

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%B4%D8%B1%D9%81%D8%AE%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%85%D9%87-1-pdf

هل لغزة حقاً كل هذا التأثير..

هل يمكن للمنظومة العالمية بأسرها أن تتأثر بفعل بقعة جغرافية صغيرة كانت منذ سنوات محاصرة ومعاقبة ؟! الحقيقة أننا نري بالفعل إرهاصات تغييير دراماتيكي سيأتي بعد سنوات أو شهور من توقف الحرب فى غزة. وهي تغييرات حتمية لمن يريد أن يقرأها ويستعد لها.

أول تلك التغييرات وربما أهمها أن تكتيكات الحروب واستراتيجيات المعارك تغيرت بالفعل. ليصبح السؤال الأهم هنا: كيف يمكنك التغلب على أعتي الجيوش بإمكانيات محدودة وبواسطة ميليشيات قتالية منظمة، أو قوة عسكرية ضعيفة؟

البعض رأي أن أقوى أسلحة المقاومة الفلسطينية تجاه القوة الغاشمة الإسرائيلية سلاح الأنفاق. وبالفعل تم استخدام الأنفاق عسكرياً بشكل بارع من جهة المقاومة. فمن خلالها كان يتم احتجاز الأسري ونقلهم لتغيير أماكنهم باستمرار. كما تمت من خلالها كل العمليات النوعية الناجحة. والأهم فى تلك الأنفاق أنها تظل مجهولة أمام العدو، فهو لا يدري حجمها ولا امتدادها ولا خريطتها. إنما هى مجرد تكهنات وظنون وتوقعات. والكلام يدور فى إطار أنها تمثل شبكة عملاقة تفوق فى تعقيدها وامتدادها الشبكة البريطانية للأنفاق، وكأنها مدينة كاملة تحت الأرض، بها من العتاد والمؤن، بل والمصانع، ما يكفي لتزويد القوات المقاتلة لعدة أشهر قادمة، ما يعني أنهم مستعدون لحرب طويلة لا تستطيعها إسرائيل ولا تحتمل تكلفتها الباهظة.

فى تلك الأثناء كان بوتين يحقق مكاسب مستمرة على أرض أوكرانيا بعد أن فقدت الأخيرة دعمها الأمريكي والأوروبي لصالح جيش الاحتلال الذي بدأ يتلقي كل ما كانت تتلقاه أوكرانيا وأكثر. فالأولوية القصوى لدي الغرب هى إسرائيل!

ثم أشيع أن بوتين بدأ تحت تأثير إعجابه بالملاحم القتالية التي سطرتها المقاومة الفلسطينية يبني شبكة أنفاق شبيهة بشبكة مقاتلي غزة. وربما لا يكون الوحيد الذي يفعل هذا الآن سراً. غير أن الأنفاق لم تكن هى العامل الوحيد للانتصار. فلا بد أن هناك عوامل أخري نعلم منها القليل، وهى محل دراسة الجيوش الآن فى كل العالم.

النموذج الأمريكي يتآكل!

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية هى الأفضل. فالنموذج الأمريكي فى الأفضلية والتفوق ينهار بالفعل.

كنا نقول هذا ونبرهن عليه بأدلة مختلفة فيما سبق. أما الآن فالكلام مختلف؛ لأن هناك أصوات كثيرة بدأت ترتفع فى كل الدنيا ضد الغطرسة الأمريكية. بل أزيد فأقول إن الداخل الأمريكي نفسه مناهض لسياساتها وأفكارها. لدرجة أن الكثير من قادة الفكر فى أمريكا ذاتها يحذرون من أنها تفقد قواها الناعمة داخلياً وخارجياً. وأن النغمة السائدة الآن هي نغمة الوقوف فى وجه أمريكا وصلفها وغطرستها التي لم تعد تُحتمل. وهو ما بدا واضحاً للغاية فى الاجتماع الأخير لمجلس الأمن حينما وافقت جميع الدول على الضغط لوقف إطلاق النار فى غزة، فإذا بأمريكا تقف منفردة فى جانب وحدها لتعلن الفيتو ضد كل هؤلاء، وكأنهم بلا قيمة تذكر.

الحرب في غزة دعمت تلك النغمة. لأن فشل إسرائيل أمام المقاومة الضعيفة، وانهزامها الذي بات واضحاً للعميان هى فى الواقع انهزام أمريكي. لأن السلاح الإسرائيلي بكامله سلاح أمريكي، والدعم الأمريكي كان حاضراً فى المعركة منذ اللحظة الأولي. الآن دعونا نفكر بطريقة الصين أو روسيا، وهي تري خصمها الأمريكي اللدود ينهزم فى غزة، بل وفى باب المندب. فكيف يكون تصوره لمعركته مع مثل هذا العدو الذي أبدي ضعفاً وانكساراً؟ بل كيف يكون استعداده للمعركة القادمة المؤجلة بين الفريقين التقليديين. فريق الشرق والغرب؟

ثمة مؤسسات ومنظمات ودول كانت على الحياد أو حتي فى الجانب الأمريكي اضطراراً، بدأت تفقد ثقتها وتأييدها لأمريكاـ لا لشئ إلا أنها تري طريقتها فى دعم المجازر الوحشية التي تنفذها إسرائيل دون رادع من قانون دولي أو مبدأ إنساني. وعلى الناحية الأخري رأينا تأييداً شعبياً عالمياً للقضية الفلسطينية سحب البساط من إسرائيل الآن وإلى الأبد. ولن يكون تعامل شعوب العالم مع الاحتلال الإسرائيلي كما كان قبل حرب غزة.

نحو فلسفة اقتصادية جديدة

الفلسفة الاشتراكية تداعت وحدها منذ زمن لأنها لا تفي بمتطلبات العمل الحر المتجاوز للحدود. والفكر الاستعماري بشكليه المباشر وغير المباشر أثبت أنه يؤول مع الزمن للانهيار والضعف عندما تواجهه قوة أعتي وأكبر، كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية. ثم ها هو الفكر الرأسمالي الاستغلالي يثبت كل يوم أنه قائم على مبادئ رخيصة تفضي إلى انهياره. مثل استغلال ثروات الشعوب ومقدراتها وهو ما تمت مقاومته فى غرب إفريقيا مؤخراً. ومثل الاعتماد على سياسات العمل المصرفى والائتماني الورقي والتي تقفد الاقتصاد قوته الحقيقية وتحوله لاقتصاد هش قابل للانهيار مع أي هزة، كما حدث فى انهيارات البورصة والبنوك  عام 2008 ثم عام 2020. ومثل السماح للاقتصاد الموازى والأسود والخفي أن يكون جزءاً من الاقتصاد القومي لبعض الدول، فيتحول مع الزمن إلى غول فاقد السيطرة، يقضي حتي على الاقتصاد النظيف ويتغول عليه، وتبدأ أنواع المافيا المختلفة فى التكون حتي تصبح مشكلة مزمنة غير قابلة للحل.

بعد حرب غزة ستحدث عدة متغيرات اقتصادية. منها أن المشروعات الإسرائيلية لتسهيل عمليات النقل انتهت للأبد، ولا أظن أنه سيوجد مغامر غبي يأمن على بضائعه فى هذا الطريق المار بإسرائيل بعد أن بات استهدافها سهلاً ومتاحاً. ثم إن ما حدث فى باب المندب قد يدفع المؤسسات الدولية لتغيير قوانينها الملاحية طبقاً لتلك المستجدات، بحيث يتم تحييد القوي المسيطرة على المضايق حتي وإن كانت طرفاً فى معركة. أو أن يتجه العالم للطريق الآمن القادم، وهو الطريق الذي ستوفره الصين قريباً جداً، وهو طريق الحرير، وهو ما سيضمن للصين نفوذاً أكبر يخصم من النفوذ العالمي الأمريكي.

مصير القضية

التغير الأكبر فى مشهد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن المعادلة كلها انعكست. لأن إسرائيل ستكون مضطرة لتقديم تنازلات كبيرة ليس الآن فقط وإنما لسنوات طويلة قادمة. وستصبح المقاومة الفلسطينية هي ورقة الضغط الدائمة ضد إسرائيل وداعميها.

القضيىة الفلسطينية صارت لها الآن حاضنة شعبية عالمية أكثر اتساعاً وتأثيراً عن ذي قبل. بغض النظر عن الاستراتيجيات التي رسمتها الإدارة الأمريكية لما بعد حرب غزة، فإن كل تلك الاستراتيجيات ستظل رهناً بما توافق عليه المقاومة. وهى الآن فى موقف قوة. وستظل كذلك لفترة طويلة قادمة.

أغلب المحللين فى إسرائيل يؤكدون أن المهاجرين والنازحين من إسرائيل إلى أوروبا وأمريكا لن يعودوا من جديد للمستوطنات، وأن المستوطنين داخل إسرائيل فقدوا ثقتهم في وعود وأكاذيب حكوماتهم. وستصبح هناك صعوبة كبيرة لإقناع العمالة القادمة من خارج إسرائيل لتدوير مصانعها وشركاتها التي توقف أغلبها بسبب الحرب. كل هذا يعني أن الحياة لن تعود فى الداخل الإسرائيلي كما كانت من قبل. بل سيزداد التهديد والشعور بانعدام الأمان لدي كل المقيمين فى المستوطنات، لاسيما تلك القريبة من بؤر القتال، كالمستوطنات الشمالية ومستوطنات الغلاف.

التفاهمات التي ستأتي فى أية مفاوضات قادمة. وهي قادمة لا محالة. سوف تعزز موقف المقاومة الفلسطينية، بل وستصبح هى النموذج الأمثل لدي كل الفلسطينيين الذين رأوا كيف أخضعت المقاومة أعتي الجيوش وهزمتها هزيمة سيظل العالم كله يذكرها لسنوات وسنوات.

هكذا ستصبح المقاومة تتحدث بلسان نفسها دون الحاجة لوسيط. وسوف تكون قادرة بعد أيام قليلة أن تضع شروطها على موائد المفاوضات. وهذا للعلم والعمل به عند اللزوم!

***

د. عبد السلام فاروق

كان الشّعراء يظنون أنَّ ثورةً انفجرت، ستغيّر مجرى التّاريخ في المنطقة؛ وبالفعل غيّرت الثّورة الإيرانيَّة، التي تحوّلت إلى إسلاميَّة، المنطقة، بإنعاش الإسلام السّياسيّ، والمنظمات الدِّينية المتطرّفة، وكانت للصّحوة الدّينية القاتمة أحد أبرز المنابع، وليس لنا القول إنّها خلقت الصّحوة، فالأخيرة بدأت بعد (1967) حتَّى وصلت الى ذروتها في الثَّمانينات، بالثّلاثي: الثورة الإيرانيّة (شباط / فبراير 1979)، وإحدى المتحفزات بها حادثة جهيمان العتيبي (تشرين الثّاني/ نوفمبر 1979) في الحرم المكيّ، واجتياح أفغانستان (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، وكلُّ تلك الحوادث حفلت بها السّنة (1979)، وبهذا تكون لهذه السّنّة حكاية لن ينساها التّاريخ، تُذكّر بسنين الطَّواعين الكبرى.

 كان اليسار والشّعراء (اليساريون أو القوميون أو المعتقدون بالاثنين)، يرونها ثورةً مِن نوعٍ آخر، أيّ لم تكن انقلاباً عسكريّاً، ولم تحمل سمة عقائدية، كانت مطلبية، حالها حال انتفاضة تشرين (2019) في بغداد، مطلبية كادت تقود إلى تغيير شامل للوضع المزري، لكن قُضي عليها بنتائج الثّورة الإيرانيّة نفسها، فمدير تشتيتها وقتل شبابها كان أحد أولاد تلك الثورة قاسم سليمانيّ (قُتل: 2020)، والقوى الدِّينية التي انقضّت عليها هي مِن صناعة تلك الثّورة. فكان الاعتقاد أنّها ثورة في طهران نبعت من بين النّاس، وكانت في بدايتها هكذا، قبل التفاف الإسلاميين عليها، وتحويلها إلى عقيدة دينية طائفيّة، وهذا يحتاج إلى حديث طويل، ليس مِن صلب مقالنا.

 لم يكن نزار قباني (تـ: 1998)، ومظفر النَواب (تـ: 2022) وحدهما من مجدا آية الله الخميني (تـ: 1989)، أو ما اُصطلح عليه مِن قَبل بـ"لاهوت التَّحرير"، فيساريون كبار صفقوا للخميني وتراجعوا، ومنهم مَن دس رأسه في الرّمال، بعد النَّتائج التي أسفرت عنها الثّورة في شهورها الأولى، ومنهم مَن ظلّ معتزاً بخطيئته، كالشّاعر الذي قضى جلّ حياته يمدح رئيساً، وهو يعرف كغيره كان رئيسه يشرب الدّماء، وبعد سقوط الرَّئيس، ظلّ معتزاً بالمديح، لأنه وجد له مصفقين.

قد يكون نزار قبانيّ سبق الشّعراء بقصيدته إلى الخمينيّ، وما كنا نظن أنَّ نزاراً كان بهذه السّذاجة، معتبراً الخميني سيدحر "الفرس"، وأنّ ثورته لإخراج الفرس مِن إيران، ولم يكن يعلم أنَّ عروبة (بحسب ما تقول عمامته السَّوداء إنّه مِن آل النَّبي الهاشمي) الخميني وهنديته (أسرة هندية نزحت من كشمير إلى النَّجف ثم إلى خمين بإيران)، سيكون ضدّ الحلم الكسروي، بالإطاحة بتاجه، ولا يعلم نزار أنّ العمامة استُبدلت بالتّاج، فقال فيه بعد وصفه بـ"قمر شيراز" عنوان قصيدته:

  "زهرُ اللّوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصِّيامَ/ ها هم الفُرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهرٍ وزلزلوا الأصنامَ/ شيعٌ سُنةٌ جياعٌ عطاشٌ/ كسروا قيدهم وفكوا اللّجامَ/ شاه مصرَ يبكي شاه إيران/ فأسوا ملجأ لليتامىَ/ والخُمينيّ يرفع الله سيفاً/ ويُغني النّبيّ والإسلامَ/ هكذا تصبح الدِّيانةُ خلقاً مستمراً/ وثورةً واقتحامَ" (تسجيل فيديو بصوت الشّاعر).

لكنَّ نزاراً، غير المتثبت، كغيره مِمن عجلوا بوضع الخميني في موضع النّدى، رجع العام (1988)، وقرأ قصيدة بمناسبة ما أعلنه العراق مِن انتصار في الحرب، بين إيران والعراق، وأنشد هاجياً الفُرس كافة، بعد أن مدحهم بالإطاحة بتاج الشّاه: "اليوم عرسٌ خرج الفرسُ"! وهكذا العواطف غلبت نزار شاعر "الأنثى" في وطنياته وثورياته.

 أّما محمَّد مظفر النَواب، فربّما كان متأخّراً في سكب ثياب مديحه على الخمينيّ، ومِن تفسير قصيدته فيه، أنّها جاءت عتباً، لكنَّه عتب الأحباب. فالإعدامات والدّماء، التي عَمّدت بها الثّورة رؤوس الإيرانيين، وكتب في حينها الإخواني الكويتيّ عبد الله النّفيسيّ "أثخن بهم يا خميني بوركت يداك"، لم يسمع بها لا نزار ولا محمَّد مظفر، ولا مَن دسّ رأسه في الرّمال بعد تكشير الثّورة عن أنيابِها.

 أنشد النَواب للخميني يعاتبه بالحملة الشّعواء التي وجّهها ضدّ مَن يعتبرهم رفاقه في النّضال العالميّ، قيادة الحزب الشّيوعي الإيرانيّ (تودة) وقاعدته، وكان هذا الحزب أحد عناصر الثّورة الإيرانيّة، فقد شوهد نور الدّين كيانوريّ (تـ: 1999)، على شاشة التّلفزيون الإيراني، معترفاً بالإكراه بأنّه كان عميلاً، كي تشطب عنه الثوريّة التي شارك بها الخميني وبقية العمائم، بانتصار الثّورة. غير أنَّ النَواب الذي استصرخ الشُّعوب بفضح الأنظمة التي مارست قمع اليسار، جعل عتابه للخميني اعترافاً بإمامته، ليس على المعتقدين بولاية الفقيه فحسب، بل وعلى العالم أجمع. عندما خاطبه، خطاب المنتمي: "مبايعٌ طيني وحبٌ كُله/ روح بلا منزلها بلا سَلام/ مبايعٌ أنَّك بين الدُّول الكُبرى الإمام".

ثم يذمّ اليسار، في قصيدته، الذي لم يتحالف مع الإسلاميين، وكأنّ حزب تودة لم يُشارك في الثّورة، قبل الإسلاميين أنفسهم، ولم يتحالف تحت قيادة الخمينيّ، لكنه الخطأ نفسه، عندما صار الزّمام بيد الإسلاميين، اكتشفوا أنَّ هذا اليسار كافر، يجب أن يُمسح مِن على وجه الأرض، على يد الذي أعلن مظفر مبايعته، وألقى زهرة البيعة في يده! فقال: "أما ترى الذِّئاب قد عوت أجوافها مِن الوحام/ كيفَ اليسارُ كاليمنِ/ هكذا الضّياء كالظَّلام/ مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ قومية/ الذّئاب أو منافق زُئام/ كيف اليسارُ كالظَّلام/ بعض اليسارِ سيدي به فصام/ عاش على موائد الحرام/ بعضٌ وليس البعضُ في الكُّلِ احتكام/ لا لم يكن يوماً عليٌّ/ وسطاً بين الوراء والأمام"(تسجيل بصوت الشَّاعر).

كان النِّظامان، العراقي بزعامة صدام والإيراني بزعامة الخمينيّ، ضربا الحزبين اليساريين، في بلديهما، ولا يُزايد أحدهما على الآخر في خطاباتهما مع القضية الفلسطينية، وما فعله الخميني باليسار عين ما فعله صدام حسين (إعدام: 2006)، لكن ترى مظفر يتحدث مع الخميني معاتباً، وبينما ناشد مظفر الخميني مادحاً ضمن مديحه ذماً لصدام: "مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ/ قومية الذّئاب أو منافق زُئام". لكنّ ذوي قتلى الشّعب الإيرانيّ، ومَن شملته (عدالة) قاضي الخمينيّ صادق خلخاليّ(تـ: 2004)، وحدهم يعرفون الدَّرس الذي تعلّمه الخميني مِن صدام، في ضرب اليسار واليمين غير المنصهر فيهما. كذلك وحدها تفضح الميليشيات التي أنتجها الخميني الطّائفية الثّعلبيّة في إيران الثّورة.

انتقاد مظفر لليسار "بعض اليسار سيدي به فصام"، يقصد الذين لم يلتحقوا بجهيمان والخميني، لكن أليس حزب تودة وقف في صف الخميني، ومهّد له ما صار به مِن سُلطة، فماذا فعل به؟! ما تقدّم، مِن إعلاء شأن جهيمان والخميني الثّوري، ونقد اليسار لعدم الالتحاق بالأول وتمجيد الخميني ثورياً، كان مظفر السَّبعينات والثمانينات، لكنه بعدها وجد نفسه في حلٍّ مِن ذلك، فلم يذهب إلى إيران الخميني، وقاسم سليماني يؤسس الميليشيات المدمّرة، ويسطو على بغداد بها، ويقتل بها شباب العراق، ولم يرَ في  مخلّفات جهيمان، "داعش" و"القاعدة"، غير الدمار والترويع، فاستقرّ في الخليج الذي دعا إلى حرقه وإسقاط أنظمته، ولم يعاند ما شاهده مِن عُمران، وهو القائل في ما مضى "مرحباً مرحباً أيها العاصفة".

لم نكتب هذا تخطئةً ولا تصويباً، وإنما تعجباً مما حصل، لو انتصرت بالفعل دعوة مظفر: "اِشعل مياه الخليج تسلّح/ وعلّم صغارك نقل العتاد/ كما ينطقون/ إذا جاشت العاطفة"، وقد جاشت العاطفة فأفرزت ما أفرزت، حتّى عجبتُ مما قاله الخميني وهو يزور مقبرة جنة الزّهراء، حال عودته إلى إيران(1979): "ينبغي القول بأنّ محمد رضا بهلوي، هذا الخائن الخبيث، قد رحل وفرَّ، وترك كلَّ ما لدينا هباءً منثوراً، لقد دمّر بلادنا، وعمّر مقابرنا"(3 ربيع الأولى 1399)! لكنّ كم مِن المقابر عمّرها الخميني، حتّى أنّ مراجع دين، مِن درجة آيات الله العظمى، لم تُعرف لهم شواهد قبور، كآية الله محمد كاظم شريعتمداريّ! وضحايا الميليشيات وسليماني تملأ مقابرهم البلدان، فكيف ببقية الخصوم، والإصرار على استمرار الحرب!

أقول: ما زلنا ننشد مدائح أبي الطَّيب المتنبيّ (اغتيل: 354هـ)، ملاحمَ أدبيّةً، مناسبة لعصرها، مِن ممدوحين ومادحين، وجرت في عصرنا أمثالاً وكنايات، لكن لم يكن ذلك العصر عصر ثورات وطبقات ويسار، لذا ما جاء على لسان الشاعرين كان مديحاً مُرَّاً.

***

د. رشيد الخيّون

في المثقف اليوم