قضايا

الانتحار والدين والأفكار!!

صادق السامرائيسأقترب من موضوع الدين والإنتحار من زاوية أخرى قد تبدو غريبة وتعارض ما هو متعارف عليه ومسطور في الكتب والدراسات، وهذا الإقتراب مصدره الملاحظة السريرية البحتة، والمتابعة الدقيقة لسلوك المنتحرين بعيدا عن الإفتراضات والدراسات التي ترى مثلما ترى، وما تمكنت من تقليل نسبة الإنتحار وما إستطاعت أن تجد الوقاية الكافية لمنع الإنتحار، فنسبة الإنتحار تكاد تكون ثابتة أو متغيرة بنسبة ضئيلة.

وبرغم تصورنا بأن الكآبة هي السبب المهم في الإقدام على الإنتحار فإن علاجاتنا للكآبة، التي تطورت وتنوعت لم تفلح بالقضاء على الإنتحار، أو تقليل نسبته بدرجة كبيرة.

كما أسلفت فأن هذا الإقتراب سيبدو غريبا ومن الصعب قبوله عند البعض، لكن الملاحظة تشير إلى ما سيأتي.

أن الإنتحار سيكون حتميا عندما يقرنه المنتحر بالدين، ولا يمكن منع أو إيقاف هذا الشخص الذي ربط بين دينه وفكرة الإنتحار العاصفة في وعيه والمهيمنة على وجوده.

فالإنتحار فكرة فاعلة في البشر وهي ليست جديدة، وإنما ترافقت معه منذ الأزل، وقد تعددت أساليبها وآلياتها ومبرراتها وتراكمت وتنوعت وتنامت مع زيادة عدد البشر، وتكاد تكون نسبتها ثابتة، مع فوارق ما بين الجنسين، ولا يُعرف مصدر الفكرة لكنها موجودة وتنتشر وقد تكون ذات وبائية معينة، فلا تشمل فردا بل مجموعة أفراد، وقد تكون عائلية ومتوارثة، وهناك أسباب أخرى نجهلها حاليا وندور حولها، ولهذا فشلنا في منع المنتحرين من تنفيذ إرادة الفكرة.

ويتناسب عمر الفكرة طرديا مع قدرات المنتحر على تنفيذها، أي إذا كانت الفكرة تدور في رأسه منذ الصغر فأنه سيكون مؤهلا أكثر لتنفيذها كلما تقدم به العمر، ولهذا فأن السؤال عن عمر الفكرة الإنتحارية له أهمية قصوى.

وليس صحيحا القول بأن الإنتحار فكرة آنية أو طارئة، فهذه مغالطة سلوكية متداولة، فالإنتحار فكرة تنمو مع الأيام وتخضع لتجارب ومحاولات وفحص دقيق من قبل المنتحر، حتى تبلغ نضجها وتكتسب المهارات النفسية والروحية والعملية لتنفيذها.

 

ومن أعجب الملاحظات في هذا الخصوص، أننا تعودنا على تصديق أن الدين يمنع الإنتحار أو يقلل منه، لكن الملاحظة السريرية تشير إلى عكس ذلك عند ذوي الأفكار الإنتحارية المزمنة، إذ يكون الدين هو المسوغ الأقوى لتنفيذها، فحالما ترتبط الفكرة بما يؤمن به الشخص وتكون ضمن جهازه الإعتقادي، فإنه ينفذها بإقدام مطلق.

ويبدو أنه يحقق تماهيا مع ربه وما يعبده ويتخلص من مسؤوليته عن الإنتحار، ويحسبه إرادة ربانية وأمر إلهي أو واجب إعتقادي عليه أن ينفذه ليفوز بما سينعم به بعد الموت.

ولا يمكن إستبعاد وجود جينات وراثية تدفع بهذا الإتجاه وترفض الإنتماء للحياة، وكأن هناك علاقة متأزمة ما بين الحيمن والبويضة تتسبب بتنمية الجينات العدوانية ضد المخلوق الناجم عن إتحادهما، ولا يُعرف إن كانت الحالة النفسية للجنسين في لحظة الجماع لها تأثيراتها وإرادتها على تشكيل الجينات المعبرة عن تلك اللحظة بما إحتوته من مشاعر وأفكار وتنافرات أو تقاربات.

ويمكن القول أن في بعض الأحيان تبدو فكرة الإنتحار وكأنها وهم يخيم على مدارك البشر ويمتلكه تماما، ويستعبد حواسه ويرسم معالم رؤاه ويأخذه إلى حيث يريد ويقرر، وكأنها لا تختلف عن أي وهم آخر، ولهذا هناك بعض الأدوية التي تقلل من الإنتحار أحيانا، لكن البحوث بخصوصها ليست مستفيضة.

فالمنظومة الإعتقادية قد تبدو وكأنها كينونة وهمية منغرسة في الوعي البشري، ومرسَّخة بالتوارد والتكرار والإمعان في تقوية الدوائر العُصيبية وتواصلاتها في الدماغ، كما أنها تتمركز في مواقع دماغية فصية تحقق أسرا تاما للإرادة البشرية وتوجهها وفقا لمشيئتها، وعندما تقترن الفكرة الوهمية الإنتحارية بها تكتسب قوة إنجازية عالية، بل أن قدرتها على التعبير عن فحواها ستتضاعف وتبلغ ذروتها.

وتساهم في تقوية السلوك الإنتحاري الثقافة الموتية السائدة في بعض المجتمعات، وبموجبها يتأهل البشر الذي فيه إستعدادات إنتحارية، وتعصف في دنياه أفكار الإنتحار، ولهذا نجد أن الإنتحار يزداد مع تنامي الثقافة الموتية وخصوصا الدينية.

فمعظم المنتحرين في مجتمعات متعددة تجدهم يستمعون إلى موسيقى وأغاني تحث على التحرر من الحياة والتخلص من عبئها وتحبب الموت إليهم، وهذا شائع بين المراهقين والشباب، مما يتسبب بسلوكيات، نتحارية فردية وجماعية، وبأساليب مبتكرة.

 

كما تساهم في الإقدام على الإنتحار الخطابات الدينية الموتية، أي التي تجرد الدنيا من قيمتها وتصفها بما هو سلبي وسيئ، وتحث على الموت، لأن الدنيا فانية وكلها مصائب وشدائد وعناء وجور وظلم، وأن الحياة الحقيقية في الموت الذي يحقق فيه الإنسان جميع أحلام يقظته، ويتحرر من بؤسه وحرمانه.

وبعض الأديان أو معظمها لديها هذا النهج الموتي، وتفقد قدرات الموازنة ما بين إرادة الحياة وإرادة الموت، فتميل إلى تقوية إرادة الموت عند البشر وتحفزه على نكران الحياة، مما يساهم في زيادة الإقدام على الإنتحار، وفي البعض يتحول الإنتحار إلى عمل جهادي ونضالي ووسيلة للإيقاع بالآخر، وفقا لما يوضع في رأسه من أفكار وتصورات  لمنطلقات الدين الذي إستحوذ على وعيه.

ومن هنا فأن العلاقة ما بين الدين والإنتحار علاقة تكافلية وترابطية، فالدين خصوصا عندما يتمكن من المجتمع المتاجرون به والمروجون لبضاعتهم الفاسدة ويغشون الناس بها ويضللونهم ويستعبدونهم، ويبرمجونهم بالتكرار والإقران لكي يحققوا رغباتهم بهم، وما هم إلا أرقام في نظر هؤلاء التجار، عندها يكون الإنتحار مشروعا مربحا ودعائيا وقوة تساهم في جني الأرباح والإستثمار الفائق بالموت.

فالموت تجارة، والإنتحار أحد وسائل الموت الفائقة الربحية!!

وعليه فأن الثقافة الموتية هي الأساس والسبب الفعال في تنمية ورعاية سلوك الإنتحار، بما يعززها من واقع حرماني وقهري وجائر يستلب من البشر أبسط مقومات الحياة ويتركه يلهث مرغما وراء الحاجات التي هي من حقه، لكنها مسلوبة منه ومأسور بها أو محكوم بوجوب توفيرها.

فالثقافة الموتية ليست خطابات وحسب وإنما كل ما يناهض الحياة، ويعكر صفو المعيشة الآدمية في أي مجتمع كان ، وقد يصح القول بأن نسبة الإنتحار تتناسب طرديا مع كثافة الثقافة الموتية المبرقعة بدين.

وفي مجتمعاتنا الإنتحار موجود وبنسب لا تختلف عن غيرها من المجتمعات، لكن السائد أكذوبة أن الدين يحرم الإنتحار وبسبب ذلك لا يوجد إنتحار في مجتمعاتنا، بينما أثناء عملي في مجتمعنا لما يقرب من عقد من الزمان عاينت عشرات الحالات الإنتحارية، التي في معظمها ينكر أقارب المنتحر بأنها كذلك، وما أكثر الحرق بالنفط أو إطلاق النار في الفم والقفز من السطوح، وغيرها من الحالات المروعة التي عاينتها، ولا زلنا نعتقد أن الإنتحار حالة شاذة وغريبة على مجتمعاتنا، وهذه خرافة وأكذوبة علينا أن نواجهها.

 

وإذا نظرنا إلى موضوع الكآبة والإنتحار، فأن الكآبة قد تكون عرضا، أي لأن فكرة الإنتحار تريد أن تسوغ لصاحبها التنفيذ، فتدفع به إلى السقوط في مهاوي الكآبة وتحفز في دماغه الذكريات الحزينة السيئة، التي تقلل من قيمة الحياة وتجعلها تبدو سيئة وأن الحياة الحقيقية في الموت.

ومن أخطر الملاحظات التي نغفلها، أن المحاولة الإنتحارية عندما تمنح المحاول أي الناجي من الإقدام على الإنتحار شعورا لذائذيا ومتعة فائقة يصفها كما عاشها، فأنه سيقدم على الإنتحار حتما وكلما تكررت المحاولات إقترب من المحاولة التي ستقضي عليه وتنهيه.

ولهذا يكون السؤال عن معنى وقيمة المحاولة الإنتحارية مهم جدا، لأنها إذا كانت ممتعة فأنها ستتكرر، وإذا كانت قاسية ومؤلمة فأنه سينفر منها ولا يكررها.

ولهذا قد دعوت مرارا في اللقاءات العلمية إلى إعادة النظر في موضوع الإنتحار، وإعتباره إضطراب سلوكي وليس عرضا لإضطرابات نفسية وعقلية وسلوكية أخرى، فلا بد من الإقتناع بالقول بمصطلح Suicide disorder (سويسايد دسأوردر)

هكذا يبدو الإنتحار الذي عجزنا في التوصل إلى آلية وقائية منه ذات قيمة سريرية كبيرة، برغم الجهود الحثيثة والبحوث المستفيضة، وقد يفسر ذلك أننا ل انعتبره إضطرابا سلوكيا وإنما عرضا لإضطرابات أخرى، فنتوهم بأن الكئيب سينتحر بسبب الكآبة وحسب، ونستكين لهذه الفرضية ونعمل بموجبها، لكن المريص بعد أن نعالجه من الكآبة ربما سيقدم على الإنتحار بعد حين، وعندما نبحث في حالته نرى أنه كان كئيبا ذات يوم، أو مصابا بغير ذلك من الأمراض النفسية والعقلية، والحقيقة أن الإنتحار فكرة يتحقق تنفيذها كأي فكرة أخرى تطغى على وعي البشر وتسخره لتنفيذها.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم