قضايا

الأفكار والكلام!!

صادق السامرائيهل ثمة علاقة ما بين الأفكار والكلام؟

وهل حقا أن كل ما نفكربه يمكننا أن نضعه في كلمات؟

وهل يمكن الإستدلال على التفكير من الكلام؟

هذه أسئلة تبدو قديمة ومكررة وربما من البديهيات، لكننا عندما نقوم بجولة في مراكز الكلام الحسية  والحركية، وعلاقاتها التواصلية مع مراكز الدماغ الأخرى، يتبين أن لا بد من تمام العلاقة ما بين العديد من مراكز الدماغ، ومراكز الكلام لكي تصل إلى نسبة تفاعلية ذات قيمة توافقية ما بين التفكير والكلام.

فمركز (ورنيكا) للكلام في الفص الصدغي يستجمع الطاقات والمعاني والإشارات وينقلها إلى مركز (بروكا) في الفص الأمامي، لكي يتم التعبير عنها بالكلام، وربما هناك مركزا آخر للتعبير عما كرره (من التكرير) مركز ورنيكا، بالكتابة أو الحركة أو الإشارة والرسم، وغيرها من التعبيرات المتعارف عليها.

ويبدو أن مركز بروكا وكأنه مراكز متعددة ومتنوعة ذات إرتباطات مختلفة مع مركز ورنيكا، ووفقا لقوة وسلامة الإرتباطات والتواصلات تتحقق قدرات التعبير المتنوعة.

وقد يصيب هذين المركزين وما بينهما وما حولهما الأضرار، التي تجعل من عملية صنع الكلام ليست سليمة أو ذات نوعية ممتازة، وكلما إزدادت سلامتهما وما بينهما وما حولهما، كلما تحققت قدرات أكثر تميزا للتعبير بالكلام والقلم والحركة.

وكأننا أمام مصنع معقد لإنتاج الكلام وتصنيع ما تشير إليه الأفكار الداخلة في المصنع.

ومن المعروف عندما تصاب منطقة ورنيكا بالضرر، يتكلم المصاب بأسلوب منفلت، ويعجز عن وضع أفكاره في كلمات، ويتحول إلى جهاز نطق مقطوع عن مركز التحكم والسيطرة والتوجيه.

وكذلك عندما تصاب منطقة بروكا فأن المريض يريد أن يقول لكنه يعجز عن الكلام، فتراه ينفجر أمامك بعواطفه ودموعه وهو يعلن عن حبسته الكلامية، أما إذا فقد الإتصال ما بينهما فحدث ولا حرج.

لكننا لا زلنا لم ندرس ماذا سيحصل لو أصيبت أجزاء الدماغ الأخرى المرتبطة بهما، والمغذية لهما بالمعلومات اللازمة للكلام الذي نراه يدل على التفكير.

أي ان هناك إضطرابات متنوعة نتيجة لإصابة الدماغ بأضرار تختلف بشدتها وباثولوجيتها، وهذا يعني أن الكلام تعبير عن سلامة عضوية أو خلل عضوي اصيب به الدماغ، وأدى إلى إنتاج هذا النوع دون غيره من الكلام.

ومن الواضح أن مركز ورنيكا يكون الأساس الذي تتحقق فيه الإرتباطات النحوية واللغوية بقواعدها وأنظمتها الصوتية والإملائية وغيرها، فتؤسس لما نسميه باللغة الأم أو الأولية، التي تدور حولها محاور اللغات الثانوية التي يتعلمها الإنسان فيما بعد، وعندما يحصل إضطراب في أجزاء الدماغ الأخرى كأن يصاب الشخص بالهوس فأنه يعود إلى لغته الأولية، وينسى لغته الثانوية.

فعلى سبيل المثال: مريض مهاجر يعيش في دولة المهجر لأكثر من أربعين عاما ويتكلم لغتها طيلة تلك الفترة، وعندما أصيب بنوبة هوس، أخذ يتكلم لغته الأم فقط، ويمكن تقدير درجة تعافيه من خلال درجة عودته للتكلم بلغة دولة المهجر.

وهذا يعني أن الكلام الذي نحسبه مقياسا للتفكير يتأثر بالحالة الدماغية وما يجري في داخل الجمجمة من تفاعلات وتأثيرات.

أي أن الكلام لايمكن أن يكون المقياس الوحيد لتقييم التفكير.

فنحن نعيش في عالم يتحرك بخطوات سريعة نحو سبر أغوار الدماغ، والوصول لتفسيرات عضوية لكثير مما يدور في أروقته ودهاليزه التي لا تزال مجهولة.

ويبدو ان الإعتماد على الكلام فقط في تقدير التفكير ومستوياته وآلياته إنما ستكون من الخطوات الأولية، مثل أية ملاحظة سريرية نحاول أن نفهم منها المرض أو نرقب تكرارها مع علامات وأعراض أخرى.

لكن التقدم التقني سيكشف لنا بأن هذه الأعراض ذات أسباب عضوية في مراكز الإتصالات والعصيبات، وإن الكثير من العوامل تساهم في صناعة الكلام.

 

فالعلاقة ما بين الفكرة والكلام ليست ذات مسار واحد، وإنما هي علاقة متشابكة ومعقدة، وبسبب هذا التعقيد تجدنا نحاول أن نعرف شيئا لكن أشياء لا تحصى تغيب عنا وتضيع.

ويبدو أننا نختلف في نوع التواصلات والتفاعلات العصبية وفقا للظروف التي نعيشها ونمر بها، فلكل منا آلته الدماغية التي يرى بها ويعبّر وينطق، لكنها ليست الآلة الأرجح والأصوب، وإنما هي آلة عاملة وتؤثرة في الحياة اليومية.

فما يراه أي منا لا يمكن أن يكون مطابقا لرؤية الآخر، وإنما متفقا مع التفاعلات الحاصلة داخل الجمجمة، ومتأثرا بالمتغيرات المتنوعة التي  يمكن حصرها.

إن الإقتراب الموضوعي المادي من الدماغ سيساهم في صناعته، رغم أن البعض يرى أن أجهزة الكومبيوتر ما هي إلا أدمغة إليكترونية تم إختراعها، وستعوض أدمغتنا التي ستضمحل مع الزمن ونفقد حاجتنا إليها.

وهذا يعني أننا لا نحتاج للتفكير بل أن هذا الجهاز هو الذي يقدّر ويحسب ويوجه ويدفعنا بالإتجاه الذي يراه.

وهذا ما يحصل في عالمنا المعاصر، فالقرارات المصيرية، إنما هي من صنع الكومبيوتر الذي يُغذى بالمعلومات ويستخدمها لإتخاذ القرار.

وفي هذا العالم المتوافد الإختراعات هل سيكون لتفكيرنا قيمة ولكلامنا معنى؟

إنها تساؤلات وتحديات تواجه الطب النفسي وعلوم النفس، ذلك أن الدماغ قد صنع ما يمكن الإستعاضة به عن البشر أوالعقل، فقد صنعنا عقولا تكنولوجية وربما صارت متفوقة على عقولنا البايولوجية، وأصبح كل شيئ في هذا العالم تحت سيطرة وسلطة الجهاز الذي يستنزف معظم وقتنا!!

 

د. صادق السامرائي

5\4\2014

...........................

* هذا المقال منشور قبل سنوات في مواقع أخرى.

 

 

في المثقف اليوم