قضايا

أكرم جلال: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ..

اكرم جلالخَلَقَ اللهُ تعالى الوجودَ والموجودات وفقَ قوانينَ مُحْكَمَة وسُنن ثابِتَة لا تَتَبدّل ولا تَتَغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وَجَعَل غاية المُراد وسبيل الرشاد في بلوغ القُرب مِنْ رَبّ العِباد، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ﴾ [النجم: 42]؛ مَقامٌ لا يُدْرَكُ حتى يَبلُغ المؤمن دَرَجاتٍ مِنَ الكمال الروحي تُأهله لِنَيل تلك المَراتب السامية.

 وإنّ مِن أعظمِ نِعَمِ الله تعالى على الناس هي نعمة الإسلام، دينُ الله الخاتم، فيه دعوةُ الرحمن للإنسانِ للسّيرِ في طَريقِ البناء وبلوغ مقامات الكمال، فأعدَّ لذلك العُدَّة، فكان أنْ أرسلَ الأنبياء والمرسلين: ﴿ رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، فأوضَحوا منهاج الدين وأرشدوا الخَلق إلى ربّ العالمين، ثُمَّ نصَّ على هداةٍ مَهديينَ مَعصومين مُطهرين، يَهدون الناسَ بأمرِ الله ويبلّغون رسالته؛ وأمّا الناسُ فانقَسَموا وَتَشَتّتوا: ﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُٰ﴾ [النحل: 36]، وفي ذلك ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قوله: " فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ"1.

 لقد اقتَضَت حِكمَة الله تعالى أنْ تَكون مَسيرة الإنسان نحو التّكامل خاضعةً لصراعٍ دائمٍ بينَ قوى الخَير والشَرّ، وأنَّ مُستوى إحاطتنا، عَن وَعيٍ وَبَصيرة، لطَرَفَي هذا الصراع، وَمَعرفَةَ السُنن الإلهية والقَوانين الكونيّة التي تحدد طبيعة هذا الصراع ونتائجه، والقُدرة على التمييز بين المناهج والسلوكيات الربّانية لأهل الحقّ عن تلك الشيطانيّة لأهل الباطل، هو مَنْ سَيُحدّد الوُجهة التي سَنُوَلّيها، فَعَمَليّة بناء الذّات والتكامل الإنساني لا تتمّ إلا بمعرفة هذه الحقائق عن وعي وإيمان راسخ.

 ولأنَّ الخيرَ جَميل والشرَّ قَبيح، وأنَّ أهلَ الباطلِ هُم مِنْ صُنع الشيطان فَهُم لا يَخرجون على الناسِ بوجوهمُ الحقيقيّة وإنّما يَتَلَبَّسون بلباسِ الخير والصلاح، وإنَّهم وإنْ كانوا يُعدّون من ملازمات عالم التكوين وأنَّ التزاحم والتدافع بينهم وبين أهلِ الخيرِ جارٍ وباقٍ ما بَقيَ اللّيل والنهار، حتى يَرثَ رجالُ اللهِ الأرضَ وَمَنْ عَلَيها فَيَملؤونَها قِسطًا وَعَدلًا بَعدَما مُلأت ظُلماً وَجَورا، لكنَّ الله تعالى لم يَكُنْ لِيَذَر أهل الحقّ في تِيهٍ ما داموا مُستمسكين بالعروة الوثقى، يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في وصف الشريعة السمحاء وراية الحق التي جاء بها النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "وَخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ.."2.

 لكنَّ الزمان حينما يسوده أهلُ الضلال والطُغيان يكون الحقَّ فيه بعيد الأمل والشرّ خفيف الحمل، ولأنّ أهلَ الباطل امتهنوا فنون اللّبسَ والتّضليل والخداع فألبَسوا الحقّ بالباطل حتى باتَ التمييز بينهما عندَ الأنعام مِنَ الناس أشبه بالمُحال، رُغم أنَّ الله تعالى أودع في الإنسان قلباً كاشفاً يفقه به، وعينان يُبصر بهما، وأذنان يَسمَعُ بهما، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله: " ثُمَّ نَفَخَ فِیهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ یجِیلُهَا وَفِكَرٍ یتَصَرَّفُ بِهَا وَجَوَارِحَ یخْتَدِمُهَا وَأَدَوَاتٍ یقَلِّبُهَا وَمَعْرِفَةٍ یفْرُقُ بِهَا بَینَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ .. "3، لكنّ الإنسان حينما تُفقده الدنيا وزبرجها وزينتها حلاوة البصيرة يُصاب بالعَمى فتلتبسَ عليه الحقائق وتختلط عليه الواضحات وتعصف به الشبهات، فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) واضحٌ جليّ: " إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى. "4.

 إنَّ الخيرَ لَنْ يَرى النور حتى يَكشف الشرّ عَن نَفسه وَتَرتَسم بوضوح تام معالم الجبهتين، وأنْ لا بُدَّ مِنْ نارٍ تُنَقّي الذَهب مِنْ كُلّ ما عَلق به مِنْ رَواسب حَتى ينكشف لَمَعانه وتبرز حقيقتة؛ وأنْ لا بُدَّ مِنَ الشمس الحارقة مِنْ تَطهير الأرضِ مِنَ الجراثيم والنجاسات، إذن ما نراه ونتصوّره شَرًا قَدْ أُحيط بنا إنَّما هوَ خيرٌ أريدَ بنا، فَلَو لَم يَنكشف الباطل لَمَا عُرِفَ الحقّ، ولو لم يلتحق أهل الضلال بمعسكر الشرّ لما زَادُونا إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَنا يَبْغُونَنا الْفِتْنَةَ، وأنّ فينا سَمَّاعُونَ لَهُمْ، فَلَو بَقِيَ الناسُ كُلّهم يَدَّعون الحَقَّ لَما عُرِفَ رجالُ الحقّ الحقيقيون، ولو أنَّ جميع البشر كانوا كيوسف (عليه السلام) لما عُرِفَ الجمال، ولو لم يكن أبا سفيان ومعاوية ويزيد لما عُرفَ سلمان وأبا ذر والمقداد، ولما عُرفَ حبيب بن مظاهر ولا سليم بن القين ولا مسلم بن عوسجة؛ إنَّ ارتماء مَنْ في قلوبهم زيغٌ في أحضان أهل الشرّ هيَ نِعمَةٌ ما بَعدها نِعمَة، بَل هوَ بداية الفَتح المبين، وَبشارَة على أنَّ النصر بات قاب قوسين.

 إنَّ ما نَراه قَبيحاً ونتصوّره خسارةً أحيطت بنا إنّما هو الخير والصلاح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11]، فالسُنن الإلهيّة تقتضي أنَّ أبعاد التكامل الإنساني لا تجتمع حتى  يَميزَ أهل النّفاق والفساد، وحتى تنكشف راية الضلال، ليستشعرهم المؤمنون وليكونوا منهم على وَجَل، فالناسُ حينما تَختلط عليهم الحقائق تراهم  ينجذبون نحو ذوي الدنيا ولا يطيقون صبراً على طريق ذات الشوكة.

 إنَّ خروجَ أهل الباطل من بين صفوف أهل الحقّ لهُ الأثرُ العظيم في تكامل الإنسان المؤمن، بَلْ أنَّ فيه تَقوية لجبهة الحق، إنّها نعمة نشكر الله تعالى عليها حيث كانت سبباً في تحريكِ ما كان راكدًا، وإنشاء حالة من التفاعل والدَّفع بها نحو الرُقيّ والتكامل؛ لولا سقوط الأقنعة وأنكشاف حقيقة الوجوه لَما تَوَحّدَت الجهود وَلَما مَضى الجميع في حَرَكَةٍ وَتَسابق، وأنَّ الحضارات لا تُصنع إلا بنهضة أهل الولاء، وبالتضحية والفداء، ولولا الحرب وإراقة الدماء لما رأينا النصر، ولما دَرَجنا في مَسير التّكامل والبناء.

 إنَّ نفيَ الباطل لأبي ذر الغفاري إلى الربذة لم يكن لشيء إلا لأنه رضوان الله تعالى عليه قد رأى بعين البصيرة أنَّ الباطل ودنيا الزخارف والغرور قد أوشكت أنْ تفتن الكثيرين، لقد رأى الحقّ وحيداً قد استفرد به أهل الضلال، فضاق بذلك ذَرْعاً، ورأى كيف أنَّ الجَمع قد تفرّقَ عنه، فأرادَ إلا أنْ يواسيه بنفسه؛ لقد رأى المال الذي أراده الله تعالى وسيلة للمؤمن في طلب الآخرة وقد تحوّل إلى إلهٍ يُعبد من دونه، فقرر إلا أن يقول كلمته: "لا حاجة لي في دنياكم"، فخرج رافضاً صابراً ثابتاً، وقد شَيَّعه وودّعه أمير المؤمنين بكلمات ستبقى خالدة، ويبقى صداها يقضّ مضاجع الفاسدين، ويَرنّ في آذانِ مَنْ يَتَشَنْدَقون بحُبُّ عَليّ وَعَليٌّ مِنهم بَراء، بقوله: " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ [حَسَداً] حُسَّداً، وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ، لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً. لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ "5.

 

د. أكرم جلال

.........................

المراجع

 1- نهج البلاغة، الخطبة 157.

 2- نهج البلاغة، الخطبة 100.

 3- نهج البلاغة، الخطبة 902.

 4- نهج البلاغة، الخطبة 50.

 5- نهج البلاغة، الخطبة 130.

 

 

في المثقف اليوم