قضايا

سجاد مصطفى: حين سجدت الملائكة للمعنى

قراءة عرفانية في الإنسان الكامل عند ابن عربي

لم يكن آدمُ مجرّد بدايةٍ للحكاية، بل هو الحكاية كلّها، مكتوبةٌ بلغة الطين والنور. حين نتأمل فكر محيي الدين ابن عربي، لا نقرأه كحكيمٍ من الماضي، بل نكتشفه كمرآةٍ لوعينا المعاصر.

في فصّه العميق فصّ الحكمة الإلهية في الكلمة الآدمية، لا يقدّم ابن عربي آدم كمجرد نبيّ، بل كمفهوم ميتافيزيقي بالغ الخطورة، كأول مرآةٍ لله في العالم، وكتجسيدٍ للكمال الممكن في الكائن البشري.

السؤال الذي يستفز القارئ إذًا ليس: من هو آدم؟

بل: من نحن؟ ولماذا خُلقنا؟ وهل ما زلنا نستحق سجود الملائكة؟

 أولًا: آدم… الإنسان الذي عكست فيه الأسماء

فآدمُ هو النَّفْسُ الكليّة للعالم، وفيه انكشفت أعيانُ الحقّ، لذا سجدت لهُ الملائكة، لا لذاته، بل لما ظهر فيه من أسماء الله

– ابن عربي، فصوص الحكم

آدم، كما يراه ابن عربي، ليس مجرد فردٍ في سلسلة الأنبياء، بل هو الكلّ: مجمّع الأضداد.

فيه اجتمع الطين والنفخة، العقل والغريزة، الهبوط والاصطفاء.

لذلك، لم يكن سجود الملائكة له تقديسًا لذاته، بل خضوعًا لما تَجلى فيه من أسماء الله وصفاته.

فكل ما في العالم انعكاس جزئي، بينما آدم هو الصورة الكاملة.

 ثانيًا: الإنسان مرآة الوجود الإلهي

فإن العالمَ كلَّهُ خلقٌ مسجّى، وآدمُ هو مُجمَعُه، ولهذا استحقَّ الخلافة

– ابن عربي، فصوص الحكم

في هذا الفصّ، يصوغ الشيخ الأكبر تعريفًا فريدًا للإنسان:

أن يكون الإنسانُ مرآةً، لا جسدًا. أن يكون تجلّيًا للأسماء، لا مجرد كائن بيولوجي.

لهذا استحق الخلافة لا لأنه "أطهر" من الملائكة، بل لأنه أقدر على حمل التنوع والتناقض والتجلّي.

الإنسان الكامل لا يُقاس بطوله أو صلاته، بل بما يعكسه من صفات الخالق

ثالثًا: الهبوط... لا عقاب بل خطة

هبوطُ آدمَ كان ظهورًا لحكمة الاسم الظاهر، ولولا النزول ما عُرفت الأسماء

– ابن عربي، فصوص الحكم

في الفهم الشائع، يُنظر إلى سقوط آدم من الجنة كعقوبة. أما عند ابن عربي، فهو ظهور لسرٍّ أعظم: لا كمال بدون تجربة، ولا معرفة بدون سقوط.

على الأرض، لا في الجنة، يتجلى الإنسان الكامل. هنا تُختبر الأمانة، وتُمارس الخلافة، ويتعلم الإنسان العودة بعد التيه. وانا اقول من لا يسقط، لا يعرف العروج

هذا الفهم يلتقي مع نيتشه، من حيث أن الإنسان ليس مخلوقًا للركوع، بل مخلوقٌ للاختبار والارتقاء عبر الألم.

رابعًا: الإنسان في عصر السطح… صورة بلا معنى

في زمنٍ تتفكك فيه الهوية إلى رموز رقمية، وينكمش المعنى تحت ضغط المادة، يُصبح كلام ابن عربي أشد راهنية:

فما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه

– ابن عربي، الفتوحات المكية

لكن الإنسان المعاصر لم يعد مرآةً، بل صار سِلعة. ترك مهمة الانعكاس، وتحوّل إلى "قناع" بلا ذات. وهذا أخطر ما يمكن أن يفعله إنسان بنفسه: أن يُفرغ روحه من الأسماء، ويعيش في الطين دون نفخة: فيك نَفَسُ الله… فهل عرفت أن تتنفّس به معنىً لا عادة؟

خامسًا: العودة إلى لحظة السجود

ولقد كرّمنا بني آدم

– القرآن الكريم، الإسراء: 70

ليست كرامة الإنسان في شكله أو نسبه، بل في قابليته للتجلّي الإلهي. أن يكون مجازًا عن الغيب، ونقطة التقاء بين المادي والروحي. لذا كانت لحظة سجود الملائكة له تاريخًا للوعي الإلهي في الإنسان. وهذه اللحظة لا تزال قابلةً للحدوث... إذا وعى الإنسان من يكون. كن كما سجدت لك الملائكة أول مرة: مرآةً للحق، ومجازًا للغيب، وتجسيدًا للمعنى

 خاتمة:

هذا المقال ليس شرحًا لفصّ من كتاب، بل دعوة للوعي. ابن عربي لا يحدّثنا عن آدم الماضي، بل عن آدم الذي فينا. لا تكن طينًا بلا نفخة، ولا نفسًا بلا معرفة، ولا صورةً بلا جوهر.

واختتم المقال واقول: عد إلى تلك اللحظة الأولى… حين سجدت لك الملائكة لأنك كنت صورة الله

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

في المثقف اليوم