قراءة في كتاب

كيف نقرأ كتاب العقل والحرية عند القاضي عبد الجبار لعبد الستار الراوي (1)

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي  بأنّ النصوص الفلسفية ليست كالنصوص الاعتياديّة التي يمكن ترجمتها بحسب كلماتها، بل هي تندرج ضمن الترجمة الأدبية التي تحتاج إلى وجود حس إبداعي لدى المترجم بحيث يستطيع قراءة ما بين السطور والحفاظ على أسلوب الكاتب الفلسفي وروح النص الأصلي. وهذا يعني وجود مترجم محترف متخصص بالترجمة الفلسفية من أصحاب الخبرة في هذا المجال من الناحية اللّغوية والإبداعيّة (1).

وهنا في هذا المقال نحاول أن نقدم عرضاً تحليلياً ونقدياً لكتاب " العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار" وهو من تأليف العالم والمفكر العراقي المبدع "عبد الستار الراوي"، ذلك الرجل العظيم الذي وهب حياته كلها للجامعة ولخدمة الدولة العراقية : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي وسياسي محنك يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة "وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة " (2).

علاوة علي أن عبد الستار الراوي (مع حفظ الألقاب) مثقف أكاديمي غزير الإنتاج، وذو اهتمامات فكرية متنوعة، وله شخصية مميزة أقدرها وأجلها، فقد كان وما زال يتميز بطابع الجدية، حيث كان الحوار معه من أصعب الأمور؛ وخاصة مع أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم ؛ فهو لا يقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديه ينبغي أن تكون علي قدر معانيها، فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائه ضيقة جدا، ومعارفه قليلين، وصارت الفكرة التي شاعت عنه أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.

واسمح لي عزيزي القارئ أن أتحدث عن موقفي من "كتاب العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار"، فهو من الكتب التي تركت بصمة واضحة في فكرنا الفلسفي المعاصر، حيث يشرع الراوي في هذا الكتاب بمقدمة عامة تتناول تاريخ فكر الاعتزال باختصار ملموس منذ المرحلة التنظيمية مروراً بالمرحلة التكاملية المذهبية، إلي المرحلة السياسية لمعتزلة بغداد وصولا إلي مرحلة الصراع والتراجع " الجبائية" بهدف التوطئة للمرحلة الخامسة، حيث يبرز القاضي عبدالجبار بحسبه ونسبه ومؤلفاته ومكانته العلمية (3).

ومن المفيد – قبل عرضتا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أنه في زمن التناقضات، ما بين ازدهار الحضارة وشيوع القافة العلمية، وبين التراجعات السياسية وسيطرة المرتزقة علي مقاليد السلطة العباسية، ما بين عصر الفلسفة والمباحث التجريبية الفيزيائية وهجمة الحنبلية المحافظة وتصاعد المد الأشعري، عاش المفكر الإسلامي " القاضي عبد الجبار الهمذاني " حياته المديدة " في عصر التقدم والتراجعات في ظل الاحتلال البويهي " في طليعة مفكري القرن الرابع والخامس الهجري، ومن كبار معلمي الحركة الاعتزالية وأبرز قادتها العقائديين في طورها شبه النهائي، وكان عليه أن يواصل النهج الذي بدأته (مدرسة الجبائيين) في الالتزام بقوانين الفكر المذهبي، واقصاء كل الآراء الطارئة والمتطرفة التي اتصلت رؤيتها بالأفكار اليونانية الفلسفية، وبالآراء السياسية لحركة التشيع، فقدم القاضي أطروحاته النقدية لمنظمات الفكر البغدادي، ومنظري مقولاته الفلسفية والسياسية، مؤكداً دور علم الكلام اليقظ في مواجهة التحريفية ، من أجل العقيدة الإسلامية فأعاد صياغة المسألة الدينية برؤيته الامتثالية الاعتزالية واصل الأولي والجبائية بطرفيها " الأب والابن"، وقد اقتضت العودة إلي الينابيع المذهبية الأولي، إيجاد معادلة منهجية وموضوعية – بين العقلانية والنقلية الايمانية عبر مصادرها التشريعية – فكانت فلسفته الدينية مشروع رؤية جديدة لقضية " العقل والحرية" باتجاه – النقدية الانتقائية- فلم يعد ممكناً في رأيه استخدام العقل دائماً إلا في نطاق " التوحيد والعدل " . كما أن نتيجة استعمال المنهج السلفي لحل مشاكل الفكر كان يعني اللجوء إلي ضمان الماضي لإنجاز تغيرات فرضها الحاضر، واللجوء إلي الماضي منهجياً يمنع " أحياناً " من فهم انجازات العصر، وبانعدام الإدراك بالمتغيرات الموضوعية، تنعدم امكانيات الانجاز الفعلي ، من هنا تجيئ شروط تقديم المفكر الإسلامي ومعلم الحركة الاعتزالية عبر المنهجية التوفيقية فسلب الاعتزال حركيته وأفرغ من شروطه التعليلية المتسائلة، إلي القبول والتبريرية علي أن الدور التاريخي الذي قام به القاضي كمراجع للفكر العقائدي والفلسفي يظل نقطة تحول كبري في مستقبل الاعتزالية، التي ولدت في ظل شروط التغير الثقافي والاجتماعي، التي تحملت الحركة العقلانية همومها الحضارية (4).

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أنه إذا كانت أصالة المفكر المعتزلي عبد الجبار تعينت باعتباره تعبيراً عن روح الإسلام وحضارته فيما طرحه من موضوعاته الجدلية في العدل والتوحيد، فإن هذه الأصالة تتأكد في صياغته لمقولاته علي الطريقة التقليدية لنظار المسلمين، في منهجيته الاستدلالية، ذات الطابع الإسلامي، ففي أكثر مواضع كتبه وأعماله وشروحه، يستخدم قياس " الغائب علي الشاهد" انتقال الذهن من الأثر إلي المؤثر ومن المعلول إلي العلة؛ وبالرغم من اخلاصه الاعتزالي وموافقته العامة لأصوليات مذهبة ونظرياته التقليدية، فإنه كان أثرياً لطرائق المتكلمين في مجال الدراسات الإسلامية العامة ؛ وعلي ضوء النقد التحليلي لنصوص كتبه الخيرة يتضح التزامه الديني في خروجه علي منطق المعلم الأول، ورفضه الأخذ بالقياس الأرسطي، لملابسته للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد، فتابع عموم الأصوليين في اقصاء (الحد) الذي يعرف الشئ بالتوصل إلي ماهيته حسب رأي أرسطو ومدرسته، وهو يكون بالجنس والفصل، بينما لجأ في مباحثه الفيزيائية إلي الحد (الأصولي) الذي يستهدف التمييز بين المحدود وغيره فقط (5).

أما التوجه الثالث فيتمثل في عرض المؤلف لمنهجية القاضي والمتمثلة في استخدامه العقلي في المرويات السلفية واخضاعها للمنهج النقدي، لإنقاذها من حشد الخوارق والكرامات والمعجزات والأساطير التي علقت بها، متبعاً المنهج المقارن في استخلاص الحقيقة الموضوعية من الروايات المتعددة، والمتباينة، وهو نهج احتذاه المحدثون والقدامى فيما يعرف بـ" الجرح والتعديل"، وعبر هذا الجانب المنهجي (العقلي) أثبت القاضي تهافت المنهج الاتباعي بمختلف انتماءاته الكلامية ومدارسه الفكرية، ابتداء بالحشوية (الحنبلية والظاهرية)، التي اكتفت بظاهر النص من غير مجاز أو تأويل، مروراً بالتقليدية النقلية وانتهاءً بالتلفيقية الأشعرية . فالعقل هو الذي يقود إلي معرفة الله " بعدله وتوحيده" معرفة قوامها النظر والتفكر والاستدلال. وعلي ذلك رتب القاضي أدلته، فجعل حجة العقل هي الأولي . أما الكتاب والسنة والإجماع، فهي حجج مكملة لحجة العقل ومثبتة لها . لأن الدين لم يعد تعليماً بل تعليلاً وتساؤلاً لا قبولاً . ولذلك فإن صياغة القضية الدينية، صياغة عقلانية واضحة لم تقتصر علي وحدانية الله وحسب، وإنما تناولت كذلك النبوة والإيمان والأخلاق. وعلي هذا الأساس قدم القاضي اعتراضاته علي المدارس الفكرية الإسلامية، فأقام برامجه علي قوة العقل النقدية التحليلية التي تتحرك دوماً باتجاه ما يجب أن يكون، لا باتجاه ما هو كائن وهذه القوة في المحصلة النهائية قوة تفاؤلية مستقبلية، تقابل موقف الثبات الاتباعي وولائها المثالي للحرفية النصية، التي أبدت مقاومتها من واقع فلسفتها السلفية . فالماضي كمال لا يصل إليه الحاضر(6).

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في استخدام المؤلف لثلاثة مناهج، تجلت في المنهج التاريخي، والمنهج المقارن، والمنهج النقدي (7)، هي من الأسباب الرئيسية التي جعلت البحث عاما وشاملا لمجمل منظومات الفرق الكلامية مرورا بالمعتزلة كافة، مما أدي إلي تناثر أفكار القاضي عبد الجبار، وهو المعني في البحث لا ترضي نهم فضول المتخصص، وإن كانت ترضي القارئ .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع

1- د. محمود محمد علي: أنور مغيث.. عاشق الترجمة الفلسفية، صحيفة المثقف، العدد: 5154 المصادف: الخميس 15 - 10 - 2020م

2-المؤرخ والمحقق عبد الستار الراوي ـ تأليف: إبراهيم العلاف ـ مجلة الديار اللندنية ـ 2014.

3- الدكتور عبد الستار الراوي: العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص5-6.

4- نفس المصدر، ص 455.

5- نفس المصدر، ص 456.

6- نفس المصدر، ص 457.

7- نفس المصدر، ص 6-7.

 

في المثقف اليوم