ترجمات أدبية

المهزلة

saleh alrazukترجمة لقصة الكاتب

إسحاق بوشفيز سينغر

 


 

المهزلة / ترجمة: صالح الرزوق

 

كانت جدران المكتب، الذي يجلس فيه الدكتور بوريس مارغوليس لقراءة مخطوطاته، مرصوصة بالكتب. وهناك على الأرض والأريكة أوراق الصحف والمجلات والمظاريف المهملة. أضف لذلك، توجد سلتا نفايات اختنقتا بأوراق لم يسمح الدكتور للآخرين التخلص منها قبل إلقاء نظرة أخيرة. لقد أصبحت الكتب غير المقروءة، والمخطوطات، التي ألَفها هو أو غيره، والرسائل غير المفتوحة، لعنة على هذا البيت. إنها تشجع على تراكم الغبار، ويمكن رؤية الحشرات وهي تزحف عليها.

كذلك انتشرت في المكان رائحة الحبر، وشمع الأختام، ودخان السيجار. رائحة نفاذة وشاذة. كان الدكتور مارغوليس يتشاحن يوميا مع زوجته ماتيلدا، حول تنظيف الغرفة. غير أن نفاضات السجائر لم تفرغ أبدا من بقايا السيجار وفتات الطعام. لقد وضعته ماتيلدا تحت رحمة حمية خاصة وكان الجوع باستمرار يؤلم الدكتور. كان يواظب على قضم بسكويت بالبيض والحلاوة والشوكولا، وكان يفضل أيضا القليل من البراندي. ولكن تلقى عدة تنبيهات بخصوص الرماد، ومع ذلك، أنت ترى أكواما صغيرة منه على أطراف النافذة وأذرع الكنبات. لقد طلب الدكتور إغلاق النوافذ، فالرياح قد تخطف أوراقه بعيدا. لا شيء يمكن التخلص منه قبل موافقته. ولكن الدكتور مارغوليس لم يكن يسمح بإتلاف ورقة واحدة. إنه يدقق بالأوراق القديمة من تحت حاجبيه الكثيفين ويتوسل قائلا : " كلا، الأفضل أن أحتفظ بهذه في متناول اليد لفترة أخرى من الوقت ".

وما تيلدا تسأل " وكم يطول هذا الوقت؟. حتى عودة المسيح المنتظر؟".

ويرد الدكتور مارغوليس قائلا مع تنهيدة : " حقا كم سيطول الوقت بنا؟".

إذا كنت في التاسعة والستين من العمر، ولديك قلب واهن، لا تستطيع إرجاء الأمور إلى الأبد. لقد فرض عليه طول اليوم القصير أشياء لا تعد ولا تحصى. كان يتلقى هنا في وارسو من شخصيات اعتبارية اتصالات، ومصدرها إنكلترا وأمريكا، وحتى ألمانيا حيث استلم مقاليد الأمور ذلك المعتوه هتلر. ولأن الدكتور مارغوليس ينشر دراسات نقدية، من حين لآخر، في المجلات كان المؤلفون يرسلون له كتبهم ليناقشها. وفي إحدى المراحل اشترك بعدد من المجلات الفلسفية، ومع أنه منذ فترة لم يجدد اشتراكه، كانت تصله الأعداد إلى عنوانه مع إلحاح في سداد قيمتها. معظم الباحثين من جيله لقوا منيتهم. وهو بالذات، لحقبة من الزمن، كان أشبه بالمنسي. ولكن الجيل الجديد اكتشفه كرّة أخرى، وهو الآن تنهمر عليه رسائل الثناء والتقدير مع كافة الطلبات. وبعد أن عزم على غض النظر عن أفضل مؤلفاته المطبوعة (مجهود استغرق خمسة وعشرين عاما من العمل الدؤوب)، اتصل به ناشر من سويسرا. واقترح عليه مبلغ خمسمائة فرنك كمقدم أتعاب. الناشر الآن بانتظار المخطوط. ولكن تبين للدكتور مارغوليس أن هناك في عمله قدرا لا يستهان به من الأخطاء، والتخمينات غير الدقيقة، وحتى التناقضات. وهو على غير يقين أن فلسفته، التي تؤيد العودة إلى الميتافيزيقا، ذات نفع. في التاسعة والستين لم تكن لديه الرغبة برؤية اسمه على مطبوعات جديدة. لو أنه غير قادر على إبتكار منهج منضبط ومنسجم، من الأجدى له أن يلتزم الصمت.

جلس الدكتور مارغوليس : منكبان عريضان، رأس يميل إلى الأمام، وشعر أشيب يلف رأسه مثل الرغوة، وأطراف لحية قصيرة ممشطة إلى أعلى وباتجاه شاربه الرمادي، الذي يحترق دوما بسيجار لم يتبق منه غير عقب صغير. ثم وجنتان بدينتان. وبين حاجبين كثيفين، وجيوب جلدية منتفخة : العينان نفسهما، سوداوان وقاتمتان، وعلى الرغم من الاهتمام الذي تعكسانه، والنظرات الثاقبة، تلمح فطرته الطيبة. إنهما عينان تغطيهما نتوءات مدببة سمراء، مع طبقة براقة بدأت بالتشكل، ولابد عاجلا أوآجلا من أن يخضع الدكتور لعمل جراحي. أضف لذلك خصلة من الشعر برزت من منخريه ومن أذنيه. كانت ماتيلدا في كل صباح تذكره بارتداء معطف وخف منزلي، ولكن بمجرد نهوضه من الفراش، يعمد إلى ارتداء بذة سوداء، وخف رقيق، وقميص بياقة جامدة، وربطة عنق قاتمة. لم يكن ينصاع لزوجته أو أطبائه. كان يصب الدواء في المغسلة، ويلقي بالحبوب في النفايات، ولا يتوقف عن التدخين، ويلتهم كل ما أمكن من الحلويات والأطعمة الدسمة. والآن ها هو في مقعده يقرأ ويتمعن. كان يعبث بلحيته، ويشهق بأنفاسه، ويصر بأسنانه.

ثم يقول : " هراء. ثرثرة فارغة. هذا غير معقول ".

ظهرت ماتيلدا على الباب، ناعمة وبدينة كالبرميل، بكيمونو حريري وخف مفتوح سمح لأنامل قدميها المهروستين بالبروز. وحينما وقع بصر الدكتور مارغوليس عليها، شعر بالصدمة. هل هذه هي المرأة التي وقع في حبها، وأخذها من بين ذراعي رجل آخر قبل اثنتين وثلاثين سنة.؟. لقد تضاءل حجمها وترهلت ببدنها، وأصبحت لها معدة مثل الرجال. وبما أنها عمليا من غير رقبة، كان رأسها المضلع والكبير يستقر فوق كتفيها، مع أنف أفطس وشفتين مكتنزتين وفكين يذكران بكلب من نوع بولدوغ. وكانت فروة رأسها واضحة من تحت شعرها. وأسوأ ما في الموضوع اللحية التي بدأت بالظهور، كانت تحاول أن تحلقها، وتشذبها، أن تحرقها، ولكنها لم تتوقف عن النمو. أما بشرة وجهها فقد كانت تغطيها جذور لنتوءات متماسكة لا تستطيع أن تحدد لها لونا. وكان الروج يتقشر من ثنيات وجهها، وكأنه دهان زيتي. وكانت لعينيها نظرات جريئة وذكورية. تذكر الدكتور مارغوليس حكمة لشوبنهاور تقول : للمرأة مظهر وعقلية طفل صغير. لو أنها بلغت بعقلها سن النضج، فإن وجهها سوف تكون له ملامح الرجال.

سألها الدكتور مارغوليس : " ماذا تريدين مني؟".

" افتح نافذة. الرائحة هنا كريهة ".

" حسنا. دعي الرائحة الكريهة حيث هي ".

" ماذا عن المخطوط؟. إنهم بانتظاره في بيرن ".

" فلينتظروا ".

" كم من المفروض أن يطول انتظارهم؟. مثل هذه الفرصة لا تأتي في العمر غير مرة واحدة ".

ألقى الدكتور مارغوليس قلمه، واستدار بنصف زاوية نحو ماتيلدا ونفخ في الهواء سحابة من الدخان. أخذ نفسا آخر ثم بصق قليلا من التبغ الذي يتجمع.

وقال : " سوف أعيد لهم مبلغ الخمسمائة فرنك، يا ما تيلدا".

تقهقرت ماتيلدا وهي تقول : " تعيد الأموال؟. هل أنت مجنون".

" لا فائدة. لن أنشر شيئا لا أقر به. ليس من المهم أن يمزقني الآخرون إربا إربا. ولكن يجب أن أقتنع بميزات عملي".

" كل تلك السنوات وأنت تصر إنه عمل ممتاز".

" لم أذكر ذلك. أملت أنه ذو نفع ولكن في الوطن يقولون : الأمل والإنجاز عالمان منفصلان.".

ثم مد الدكتور مارغوليس يده ليأخذ سيجارا آخر. وهنا صاحت ماتيلدا : " لن أعيد فرنكا واحدا ".

" كوني متعقلة. هل ترغبين أن أتحول في هذا العمر إلى لص؟".

" أرسل لهم المخطوطة إذا. إنها أفضل ما أنجزت. ما هذه الفكرة الحمقاء التي وقعت تحت تأثيرها. على أية حال، كيف يمكن أن تكون قاض على نفسك؟".

" من يقوم بهذه المهمة إذا. أنت؟".

" أجل. أنا. الآخرون ينشرون كتابا كل سنة. وأنت تنكب فوق سطورك الغامضة والبائسة كدجاجة فوق بيضاتها... أنت تلهو وتفسد كل شيء... النقود ليست معي. لقد أنفقتها.. النقود لا معنى لها إذا بقيت تخشخش في جيبك. بدأت أشعر أنك على وشك الخرف".

" ربما أنا كذلك".

" النقود ليست معي الآن".

همهم الدكتور مارغوليس لماتيلدا ولنفسه أو ما شابه قائلا : " حسنا، حسنا، لا بأس ".

لعدة أيام كان يتهيأ كي يزف لها هذا النبأ، ولكن كان يخشى من العواقب. الآن بعد أن قضي أسوأ ما في الأمر بطريقة أو أخرى سوف يعثر على خمسمائة فرنك. ولو أنه فشل في جميع مساعيه سوف يقترض من المصرف. سيوافق موريس ترايبيتشير. على أية حال إن ما يسمى بخلوده، فهو موضوع من طي الماضي. مسألة بحكم المفقودات. لقد صرف وقته في السنوات الماضية (سنوات برلين وكذلك سنوات وارسو) على محاضرات ومقالات ومؤتمرات خاصة بالصهيونية. ثم، ماذا لو أن عمله نشر وقرظه عدد من الأساتذة؟. في الوقت الراهن ليس للفلسفة من أهمية، إنها تاريخ الوهم البشري. لقد وصل بها هيوم حتى الأوج ثم دفنها. وحاول " كانت " أن يبعث فيها أنفاس الحياة، ولكنه فشل. وأولئك الذين أعقبوا الألمان لم يكتبوا غير هوامش. بأنامله التي صبغها التبغ شرع الدكتور مارغوليس بالبحث عن أعواد كبريت. كانت لديه رغبة عارمة في التدخين. ثم مجددا استدار نحو الباب.

" ما زلت هنا، أليس كذلك؟".

" أردت أن أخبرك عن نيتي في إرسال المخطوطة غدا، سواء راق لك الموضوع أم لا ".

" أنت من سيقرر إذا، ولكن كلا. سوف ألقي بها اليوم في النفايات ".

" لن تجرؤ. ماذا يبقى لنا من ضمانات في آخر عمرنا؟. هل نتسول؟".

قرض الدكتور مارغوليس بأسنانه.

" آخر فترات عمرنا هي الآن. هل تعتقدين أننا سنعيش مثل جد نوح؟".

" لا أظن أنني سأموت في التو والساعة ".

" لا بأس. حسنا. أغلقي الباب ودعيني بسلام. ولا تتدخلي في شؤوني ".

سمع خبطة الباب، وقبض على الكبريت، ثم أشعل سيجارا. استنشق الدخان المرير بعمق وقرأ ثلاث جمل أخرى، غير أنه لم يعجب بها. لم يتمكن من التعرف على العبارة الأخيرة، كأنها ليست بقلمه. إن لم تكن بخط يده، سوف يفترض أنها من تأليف غيره. كانت تبدو سخيفة. التراكيب مشوشة. والمفردات غير مترابطة مع حجة الموضوع. جلس الدكتور مارغوليس بفم مفتوح. هل إن الروح التي تتناسخ به هي المسؤولة عن ذلك؟. بدأ يهز رأسه كأن شيئا ميتافيزيقيا تورط في الموضوع. وعادت إلى ذاكرته جملة من سفر الجامعة تقول : " وعلاوة على ذلك، يا بني، كن حذرا : لتأليف كتب كثيرة ليس هناك نهاية " (1). من الواضح أنه لا تزال توجد كتابات أخرى لا تحصى على الطريق. وتذكر قارورة الكونياك الموجودة في حقيبته.

" أعتقد سأشرب القليل. في مثل هذه الحالة لن تلحق بي الضرر ".

مرت الأيام دون أن يتمكن الدكتور مارغوليس من اتخاذ قرار. كلما عكف على المخطوط، كلما زادت درجة اضطرابه. هنالك ولا شك بعض الأفكار القيّمة، ولكن الهيكل العام ضحل، مجرد كتلة عامة. حاول الاختصار، ولكن أعوزه المنطق فيما تبقى من فقرات. على الكتاب أن يخضع لإعادة كتابة شاملة. ولكن قواه تخذله. مؤخرا بدأت يداه ترتعشان. وقلمه يستسلم. كان يصنع أحرفا وكلمات فقط. حتى أنه وقع في أخطاء بالإملاء، وعلى ما يبدو أنه ينسى اللغة الألمانية، وينفتح على تعابير شائعة بالييديش.

وعلاوة على ذلك بدأ يدخل في طور الرقاد، الغيبوبة المؤقتة، كلما جلس ليعمل. كان في الليل يتمدد على السرير لساعات طوال ولا ينام، عقله يواظب على حالة التأهب. أحيانا يلقي خطابات خيالية، ويفكر بموضوعات غريبة. ويجادل بعض المشاهير أمثال فاندت، كيونو فيشير، والأستاذ باوخ. ولكن في النهار يلحق به الإرهاق فورا، ينهار كتفاه ورأسه، ثم يحلم أنه في سويسرا، بلا نقود، جائع، متشرد، وعلى وشك الطرد من قبل السلطات. قال الدكتور مارغوليس في قرارة نفسه : " ربما كانت ماتيلدا على صواب. وأنا أقترب من أرذل العمر. الدماغ في الواقع ماكينة مقدر لها أن تنعطب. ربما كان الماديون محقين أيضا ". هذه الأفكار الارتدادية كانت تلهو في رأسه : في عالم حيث كل الأشياء في حالة فوضى، قد يتبين أن فيورباخ هو المسيح المنتظر نفسه.

في تلك الأمسية ذهب الدكتور مارغوليس إلى اجتماع. كان موضوعه الموسوعة العبرية التي بدأت منذ سنوات في برلين. وبما أن هتلر هو المستشار الآن، انتقلت هيئة التحرير إلى وارسو. وفي الحقيقة تحولت المسألة إلى عبث لا فائدة منه. لم يكن في متناول اليد دعم مادي ولا مساهون. بالإضافة، يعوز العبرية حتى الآن المصلحات التقنية المناسبة لموسوعة حديثة. ولكن الهيئة الاستشارية لم تستسلم. لقد وقع بين أيديهم متطوع يدفع النقود. وتوفر عدد من اللاجئين أيدوا التجربة. حسنا، المسألة كانت برمتها اتكالية، أقر الدكتور مارغوليس بذلك لنفسه سرا.. ولكن، ولكن لا ضرر من إنفاق النذر اليسير من الوقت مع جماعات من هذا النوع.

كان من المقرر عقد الاجتماع في منزل المتبرع، وذهب الدكتور مارغوليس إلى هناك بالتاكسي. وتسلق السلالم بواسطة مصعد مصفح. وما أن أصبح في الداخل حتى وجد نفسه يرأس الاجتماع. كان المضيف، وهو موريس ترايبيتشير، رجلا ضئيلا برأس أصلع، ووجنتين ورديتين، وبطن مدببة، وقد قدمه لزوجته العملاقة ثم إلى بناته، الشقروات والناصعات البياض، اللواتي ارتدين بذات لها رقبة مفتوحة.

تحدث الدكتور مارغوليس مع الزوجة والبنات بلغة بولندية مكسورة. وحصل على بعض المربى والشاي والحلويات والمشاريب، وهكذا إن الدكتور مارغوليس تناول عشاءه، لقد ضاعفت هذه الأجواء الرقيقة من شهيته. ودخن أيضا سيجار هافانا كضيافة : باختصار لقد أكل، وشرب، وفي نفس الوقت لم يقصر في توضيح المصاعب المتوقعة أمام نشر الموسوعة.

قال : " لو تناسينا المشاكل الأخرى، هناك هتلر. إنه لا ينوي التوقف في حدود بيرختيسغادين. وفي أحد الأيام سوف يصل إلى هنا".

قال ترايبيتشير مقاطعا : " من الممكن أن تبتلع كلماتك يا دكتور مارغوليس. كان شبينغلير محقا. أوروبا تقدم على الانتحار ".

" لقد تخطينا محنة هامان، وسوف نتخطى هتلر كذلك ".

" قد يكون هذا صحيحا. بنى اليهود كل شيء على أساس الإيمان بالبقاء. ولكن ما هو أصل هذه العقيدة؟. آه، دعنا نواصل الطريق وننشر الموسوعة. إنها لن تقتل طفلا في أية حال ".

بعض الحاضرين كان يتكلم بالييديش، وبعضهم بلهجة تشبه الألمانية. وأحد الرجال الذي حمل لحية بيضاء وقصيرة وعوينات لها إطار مذهب كان يتكلم العبرية بلهجة السيفارديم. وتواجد أيضا أستاذ لاجئ من برلين له عدسة على عينه اليسرى، وكان يشبه مدمنا على العقاقير. كان يبدو أكثر قساوة من أي ضابط بروسي مر على الدكتور مارغوليس في حياته. كان ربما ينتمي إلى أوست - غودين. أنصت الدتور مارغوليس قرابة نصف ساعة.

كل فرد من هؤلاء يتمتع بطموح وبنزعات غريبة. لقد كانوا جميعا يهرولون وراء الزولوتي (2) وذلك القدر التافه من المظاهر الذي توفره الموسوعة. وقد اقترح الممول أن يسمى المشروع باسمه : موسوعة ترايبيتشير. ومع ذلك لم يقدم غير جزء يسير من النقود. خطر للدكتور مارغوليس : هذه ميكروبات بشرية، هذه ميكروبات. عالم مادي. أنفاس مشبعة بالكحول. هذا المشروع بحاجة لمخاض طويل ولكنه يولد ميتا، كما ورد في كتاب العبادات.

المشكلة، آه، في دفع الإيجار. وإذا نفدت النقود، سوف تصبح الحياة مريرة ولا تطاق. إن القوى التي خلقت الإنسان لم تستند على معاناته..

تأخر الوقت، وبدأ موريس ترايبيتشير يتثاءب.

وكالعادة، تم تحدد موعد لاجتماع آخر. غادر الضيوف، مع قبلات للمضيفة التي حملت زنودها الأساور الثقيلة، وازدحم المصعد بهم، حتى أن الدكتور مارغوليس اضطر إلى الضغط على بطنه، وحينما بلغوا الباحة، كانت البوابة مغلقة. حضر الحاجب، ونبح كلب الحراسة، وانشغل الدكتور مارغوليس بالبحث عن سيارة. ولم يجد واحدة. ثم أصاب القنوط الأستاذ البرليني. فقال : " آخ، وارسو مجرد مدينة آسيوية صغيرة ". وفي النهاية توقفت له سيارة عامة، وانطلقت به بعيدا.

انتظر الدكتور مارغوليس لفترة طويلة ثم أصابه اليأس، وذهب للبحث عن حافلة. شعر بالإرهاق، وبعجزه عن الرؤية السليمة في هذه الشوارع ذات الإضاءة الشحيحة، كان يسير وهو ينقر الأرض بعكازه كأنه ضرير. في البداية كان الأمر يشبه الهبوط على سفح هضبة، ثم تكون لديه انطباع أن الرصيف غير مستو. حاول أن يبحث عن عابر سبيل ليستفسر منه عن الاتجاهات. لم يرد أحد. سوف تنتقل العدوى لي من ماتيلدا. بهذا المنحى تطورت أفكاره. إنها لم تتوقف يوما عن الوعظ بضرورة الرقاد باكرا. ثم بدأ يسترسل في تأملاته حولها. في الأيام السابقة لم تكن تتدخل في أموره، كان لديها بيتها وثيابها ومنتجعها حيث أدمنت على المياه المعدنية. وحينما عزم على مناقشة الفلسفة معها، رفضت الإصغاء، ولم تتجشم عناء قراءة التعليقات على كتاباته. لقد تجنبت كل ما له علاقة بالأفكار والثقافة.

الآن وقد فقد طموحه، أصبحت هي التي تطمح بالنيابة عنه. قرأت كتاباته الأولى، وفي أي مكان ترافقه إليه تلبية لدعوة كانت تناديه بالأستاذ وتثني عليه، حتى أنها تكبدت أعباء تفسير فلسفته. وكانت تكرر طرائفه، وتنال من أعدائه، وتتقمص أسلوبه. كان هو يشعر بالخجل من جهلها ومن المبالغة في الإطراء. وهذا لم يمنعها من المشاحنة معه في البيت وباستخدام الكلمات البذيئة. وكما يقول المثل البولندي : في الكهولة لا توجد متعة. كلا، الفترات الأخيرة من العمر عبارة عن سخرية وانتقام من شباب المرء.

في النهاية عثر الدكتور مارغوليس على حافلة مناسبة، وعاد إلى البيت. وانتظر هناك البواب بنفاد صبر ليفتح البوابة. بتثاقل تسلق السلالم المعتمة ثم توقف ليلتقط أنفاسه. كان قلبه يدق بعنف. وأحيانا كانت بعض الدقات مكتومة.

وشعر بالوهن في ركبتيه كأنه يتسلق جبلا، وسمع أصوات أنفاسه كما لو أنه يشخر. مسح العرق من حواجبه، ثم فتح قفل الباب، ودخل على أطراف أصابعه، كي لا يوقظ ماتيلدا. تخلص من ثيابه، في غرفة المعيشة، ولم يبق غير سرواله الداخلي. عكست المرآة خيال جسمه العاري المغطى بشعر أبيض، معدته المنفوخة، ساقيه القصيرتين جدا، والأظافر المصفرة في أصابع قدميه. وهنا وقف الدكتور مارغوليس يتأمل. ليس هناك من حيوان يبلغ هذا الحد من القبح مثل الإنسان المتطور.... ذهب إلى غرفة النوم ولاحظ في العتمة الخفيفة أن فراش ماتيلدا فارغ. ذعر لذلك وأشعل النور.

سأل الدكتور مارغوليس نفسه بأعلى صوته : " ما هذا الهراء؟. لا يمكن أن تلقي بنفسها من النافذة ".

وعاد إلى الصالة وهناك فقط شاهد إضاءة في مكتبه.

ماذا بوسعها أن تفعل في هذا الوقت المتأخر؟. اقترب من الباب وفتحه. كانت ماتيلدا نائمة على منضدته وهي ملتفة بردائه المنزلي وخفيه. وكانت المخطوطة أمامها مفتوحة. ونصف سيجار على نفاضة السجائر مع قارورة كونياك وكوب وسط الأوراق المبعثرة. لم يلمح من قبل لحيتها كثيفة وطويلة و غروتسكية إلى هذا الحد. كأنها كانت تنمو بسرعة خلال ساعات غيبته.

 

كان رأسها تقريبا في حالة صلع. وكانت تشخر بصوت منفّر. وفي الرقاد كان حاجباها معقودين. وأنفها الذكوري المغطى بالأوبار له منخران مسدودان بخصل من الشعر. بطريقة غامضة لا تتكهن بها كانت تشبهه. إنها مثل الخيال الذي شاهده للتو في المرآة.

تذكر الدكتور مارغوليس الحكمة التالية : الرجل والمرأة اللذان يتقاسمان نفس الوسادة لفترة طويلة يتشابه رأساهما.. ولكن، كلا، هناك أمور أخرى تعزى لذلك. هذه محاكاة بيولوجية، مثل تلك المخلوقات التي تحاكي الأشجار والأدغال، أو مثل الطير الذي يتشبه منقاره بثمرة الموز. ما الغاية من هذه المحاكاة في عمر متأخر؟. كيف تفيد النوع؟. وهكذا شعر في وقت واحد بالعاطفة التي يخالطها استنكار.

من الظاهر أنها أقنعت نفسها بضرورة نشر الكتاب. وهناك على ملامحها المحكمة الإغلاق أنت ترى الإحباط، ترياق الوهم الذي ينتشر أحيانا على وجه الجثة. هنا بدأ بإيقاظها قائلا : "ماتيلدا ـ ماتيلدا".

تحركت، ثم أفاقت ونهضت على قدميها. تبادل الرجل والزوجة النظرات بصمت ودهشة، في إطار من الاستغراب الذي يعقب أحيانا أية علاقة حميمة. رغب الدكتور مارغوليس أن يشتمها، ولكن لم يستطع. هذا ليس خطأها في أية حال. إنها ولا شك المرحلة الأخيرة من تدهور الأنوثة.

عند هذه النقطة من أفكاره قال لها : " تعالي لننام، تأخر الوقت بنا، يا صغيرتي ". هزت ماتيلدا رأسها وأشارت إلى المخطوطة، ثم قالت : " هذا كتاب ممتاز، إنه مشروع ينم عن العبقرية "

(1)– وردت هذه العبارة في سفر الجامعة / الإصحاح الثاني عشر، كالتالي : " وبقي فمن هذا يا ابني تحذر، لعمل كتب كثيرة لا نهاية ". انظر الكتاب المقدس، مطبوعات جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى، بيروت، دون تاريخ. ص 984. والجامعة هنا بمعنى : المجمع الكنسي أو الكهنوتي.

(2)– الزولوتي: وحدة نقدية بولندية.

 

        إسحاق بوشفيز سينغر: كاتب أمريكي من أصول بولونية. درس اللاهوت اليهودي ويكتب بالييديش، لغة يهود شرق أوروبا. حاز على نوبل في الآداب عام 1978. من أهم أعماله إسبينوزا في شارع السوق، ساحر لوبلين، يوم مخصص للمتعة، الحب والمنفى، الأعداء قصة حب، صديقي كافكا، وغيرها...

 

في نصوص اليوم