ترجمات أدبية

اللامبالاة

صالح الرزوقبقلم:  آن إنرايت

ترجمة صالح الرزوق


كان الرجل الذي في الزاوية مغطى بالطحين. معطفه أبيض، وحذاؤه أبيض وعلى رأسه قبعة ورق أبيض غير مستوية تماما. وحول فمه وأنفه علامات حمر بسبب تعرق الجلد حيث ارتدى القناع ليحمي نفسه من الغبار. وما تبقى كان جاهزا ليتحول إلى عجين لو غادر مكانه ووقف تحت المطر.

وكان برفقته زميله. وكانا معا يتأملانها وهي جالسة في طرف الغرفة الآخر ومعها كوب من بيرة غينيس وجريدة قديمة تركها أحدهم وراءه.

سأل الرجل الأبيض:"ما رأيك بها؟".

قال رفيقه:"لا يجدر بي أن أقترب منها ومعي كيس أقراص الخبز". كان الرجل أعسر. أو على الأقل يستعمل يده اليسرى ليحمل مكيال البيرة. وكان له وجه رقيق مثل وجوه مساء السبت. مشاكس. يمكن أن يكون لرجل مستعد لاختطاف بنت شابة ثم ينتهي به الأمر إلى مبارزة مع المغامر إيرل فلاين. لقد شاهدته وهو يختال بمشيته بثياب مخملية، ويقلب الطاولات ويقفز من الثريات،  ويقاتل دون سيف ولكن بكيس من القنب ومنه تسمع صوت قعقعة واحتكاك كأنها تنبئ بالسخط و الغضب. 

لا بد أن يجرحه إيرل فلاين جرحا بليغا وسينحني فوق بلعومه ليطعنه طعنة أخيرة وقاتلة، لكن يسقط كيس أصابع الحلوى، ويتدحرج على السلالم، ثم فوق البنت الشابة الجميلة ويجعلها تئن. وستفك البنت العقدة وتلقي محتويات الكيس.

قالت بذهنها:"يا لهذه اللغة الغريبة التي تتكلم بها". وكان على وجهها نصف ابتسامة. وهزت رأسها كما لو أن لغتها طبيعية. "طبيعي" بالعادة يعني ضمنا أمريكي. ولكن اعتادت أن تقول: أنا كندية. وربما كندا بلد مضجر جدا. ولكن من يفكر بالتاريخ وخبراته السابقة في ظل هذا الطقس المتقلب؟.

ليس عند الايرلنديين معاناة من الطقس باستثناء وقت التبدل المعتدل من الرطب بالضباب إلى المبلول بالمطر، وهم ينظرون للتاريخ كأنه أحداث تجري الآن وأمامنا. وكانا ينشدان لفترة طويلة أغنية وهما بجوعرقي يبعث على الكآبة. واعتقدا أنها إنسانة ضائعة من نفسها.

طبعا أنا رقيقة وضعيفة. فكرت هكذا. وأنتما ستكونان ضعيفين لو أن حياتكما محصورة في منطقة بمحطة وقود واحدة أمام البيت وبجانبها طبيعة تغطي نصف العالم. المشاهد المنبسطة تجعلني ضعيفة، والدببة التي تبحث في النفايات يمكن أن تتطفل على وحدتي، كما تفعل لسعات ذبابة الحصان، ولدغة الجليد، ولسان النار، والشمس القوية التي تشرق مثل قنبلة. السماء تسبب للإنسان الحيرة الشديدة- وهذه هي الطريقة المناسبة الوحيدة لتعيش وتكون موجودا.

استأجرت شقة في راثمينس حيث على ما يبدو لا يعيش غير السود وحيث تفتح الدكاكين طوال الليل. وكان البيت “قديما” لدرجة مقبولة، ولكن أزعجتها الجدران. كما أن الباب الذي يقود من غرفة النوم إلى الصالة كان بلا مفاصل. وأرعبها إطار الباب المفتوح كلما نامت، ليس لاحتمال ما يمكن أن يدخل منه، ولكن خشية أن تسقط من السرير وتنزلق من فراغ الباب إلى حيث لا تدري. (وفي الدوش كانت تغني 'كيف هي الأحوال في غلوكامورا؟' (1) و'عد يا بادي ريللي(2)، إلى باليجامسيدوف’(3)).

ورأت الرجل الأبيض بجوارها، وكان يطلب منها النظر في أوراقها، ثم جلس ليقرأها.

قال الرجل المسائي من وراء البار المهجور:"اذهب واسألها إن كانت تود أن تأتي".

"اسألها بنفسك".

"من أين أنت؟". قال رجل المساء وهو يحمل مكيالي بيرة ويقترب من طاولتها.

ثم قال وهو ينظر لبوطها الأبيض اللماع:"يا إلهي. لديك حذاء ممتاز. لا شك أنك اشتريته من مكان آخر".

قالت:"من كندا".

قال نصفه الشرير:"يمكنها الكلام. أخبرتك أنها تستطيع أن تتكلم".

وقال الرجل الأبيض:"لا لا يمكنك أن تصحبيه معك لأي مكان". ولكنها قررت أنها يجب أن تنام معه. لم لا؟. فقد مرت فترة طويلة بعد تجربتها في تورنتو.

سألته:"هل تريد شرابا؟".

وفاجأها الصمت الذي حل عليهما.

قال الرجل الأبيض:"أنا في حالة تقاعس. يعني أتهرب. أتملص من العمل. وعما قريب سيفصلونني منه". ويبدو أنها لم تفهم.

ففتح راحتيه مثل قديس ليريها بقايا العجين بين خطوط الحظ وقال:"انظري. انا أعمل هناك. في المخبز".

قالت:"حزرت ذلك. ويمكن أن أشم رائحة الخبز الطازج".

كتبت هذه القصة في رسالة لشريكتها في المسكن في تورنتو. وهي حول "قليل من الخشونة". أو عن جنس عنيف في زقاق من الطوب الأحمر. وتفاصيل عاطفية عن مسائل تتعلق بالثقافة وبجوانب متعددة من اساليب التعبير عن أنانيتنا المفرطة.  ولسوء الحظ لم يكن الرجل موضوع القصة  بثياب من الجلد. ورائحته ليست مثل مارلون براندو. بل هو نحيل جدا. ولغته مليئة بالأخطاء. ولم يكن يغطيه الزيت والعرق، وإنما العرق والطحين.

ويبدو أن الجنس المكبوت والساخط (أو العنيف) فاجأه. ونظرت لرجل ينزلق من أعلى الجدار نحو الأسفل ويداه على وجهه. وقد فقد قبعته الورقية. وكان هناك طحين أمامها تحت المطر.

قال لها:"لم أفعل ذلك من قبل”.

"حسنا ولا أنا".

"لم أفعل أي شيء مثله من قبل".

"آه. مسكين".

"ومفصول من عملي". ثم دعته إلى بيتها.

انتصاب. يا للسخرية. عمتي الكبيرة موراغ خرجت من تابوتها وهي في الطريق إلى المقبرة. لن أنسى ذلك ما حييت. لو سمعت الزعيق فقط. كان ابن عمتي شون يقود شاحنة صغيرة حينما بتبدل في ثقل ما يحمله. أصبح خفيفا. أو على الأقل يمكن أن تفترض أن هذا ما جرى، فهو لم يتكلم عن ذلك أبدا ولا يمكنك أن تتأكد. غير أنه كان حزينا لموتها ويمسك المقود بيد واحدة ويبكي ويكفكف دموعه بالثانية. وكان يقود رغم ذلك، ومؤخرته مغطاة بالغبار. أقسم أنني شاهدت موراغ تقف على قدميها كما لو أنها تقف على مفاصل وعتلات، كما لو أنها لوح خشبي من الأرض وارتفع ليضربك على وجهك. وصاحت "شون!. عد أدراجك!”. كنت بعمر ست سنوات، ومهما ادعوا أنني أكذب لا يمكنني أن أنكر ما حصل”.

رأت في سريرها رجلا رقيقا أبيض، وحينما نهض ليذهب إلى دورة المياه، اختفى في إطار الباب كما لو أنه خيط ضوء يمر من باب يغلق. لم يكونا مخمورين. وانتظر، لأنه لا يعرف ماذا يفعل غير ذلك. كان ضعيفا، مثل رجل أطلق سراحه من السجن، واصطدم بغريب في الشارع، وشعر بالامتنان لهذه الصدفة. نظر لغريمه، فتحركت القصص التي كانت تسكنها،  وأملت أنها وجدت مأواها الأخير والنهائي.

“وهكذا أخبرني تود عن هذه المرأة التي أغرم بها.لا عيب في ذلك، ولكن لماذا على الرجال أن يتخلوا عن كل ثيابهم قبل أن يخبروك عن المرأة التي يحبونها؟. وها نحن، نجلس على مقاعد بشكل U في مشرب للشاي، وأنا أقول:" من فضلك يا تود. لا عليك. لن يلحق بي مكروه. ومن فضلك ارتد ثيابك".

'ما الفرق الآن. يمكنني أن أنفق بقية حياتي معه، وأنا أمارس الجنس الممل. بصدق. هو يمارس الحب كما لو أنني فقمة، شيء ضخم وعجيب. وأنفقت نصف ساعة وأنا أربت بيده على طرف مؤخرتي اليسرى، تصرف لا يريحني كثيرا، المؤخرة أكثر أجزاء جسمي تبلدا وسقوطا بالأخطائ. ثم كأنني اندفعت نحوه، كما لو أنني زقاق في طريق المدرسة. ولم أكن متأكدة انه جاء، أو أن الصورة سقطت من الجدار.. فهو حب حقيقي'.

انتظر لليوم التالي ولكنها لم تذهب إلى المدرسة. وفتحت رجاجة نبيذ طيب وبدأت بتعليمه، ونسيا الطعام. وفتحا غطاء نافذة غرفة النوم زفاجأهما مذاق الهواء. كان رقيقا جدا ومس قلبها لكن كانت ضحكته عريضة.

'مررنا بمحاذاة هذه البركة، في الغابة، في وسط مكان مجهول. وكانت جافة، وقاعها من البلاط، وينمو العشب من بين التشققات. وكان هناك سلم معدني في الزاوية لا يفيد شيئا. وهكذا هبطنا وشعرنا كأننا تحت الماء. وكأننا نسبح في الهواء. ثم جاء هذا الشاب الأحمق، وقف على الحافة وقال إنه سيغوص. يا ربي. هل كنت مرعوبة. تخيلت رأسه ينكسر على الرخام. وبدأت أصيح حتى أغمي علي. الرجال يعتقدون دائما أنني عصابية وأفترض أن هذا صحيح”.

“هل أنت كذلك؟”.

“أفترض”.

كان ممتنا لذلك. مهما كان الأمر. بالمقارنة مع جسمها، كان ذهنها سهلا ويمكن فهمه. كانت هناك بقع نبيذ على الملاءات التي لف نفسه بها كأنه قيصر. وبدأ يغني، ويذرع الغرفة بخطواته، ويتأمل قدميه الحافيتين، ولم تكونا قبيحتين كالسابق. أما شفرة الحلاقة في حمامها فقد سببت له الهلع وسأل عن الرجال الذين مروا من هنا ولم يشاهدهمم. وهكذا مارست معه الحب عند المغسلة ونظر لوجهه في المرآة، كما لو أنه أعمى.

ولكن الجنس لم  يدهشه مثل الناس الذين يفعلون ذلك دائما ولا يفشون سرهم. لم يفعل شيئا باستثناء إطلاق ضحكات بلهاء. قال:”هم يفعلون هذا في الليل والنهار. ولا يعترفون. لو تجولت في الشارع ستعتقدين أنهم مختلفون. وتعتقدين أنهم يتعرفون على بعضهم بعضا ويتبادلون الابتسامات. مثل <أنا أعلم وأنت تعلمين>. إنه السر الذي يشترك به الجميع. باستثنائي”. 

وزاد إشراق النور. وسأل:”وماذا عن المرأة. كيف يبدو لها؟”.

قالت:”وأنى لي أن أعلم. أخبرني ماذا عن الرجال؟ أحيانا بعد فترة من الوقت يبدو الأمر كأن جسمك كله يرتعد من الشهيق والبكاء، حتى يمكن أن تقول كأن كبدك مغمور بالحزن من هنا وهنا. لكن هذا طيب المذاق  ليس مر الطعم.”.

“قلت أين بالضبط؟”.

وغمرته لمستها حتى ابتلت العظام واضطر أن يحرر نفسه، خشية أن يحصل شيء لم تخبرنا عنه. وهذا ما كان.

في اليوم التالي خابر رجل المساء الذي عبر عن دهشته بصوت مسموع من الطرف الآخر من الغرفة. طلب ثيابا من شقته ونظر إليها وضحك بينما الأسئلة تنسكب من الهاتف.

كان اسم رجل المساء جيم ودخل إلى بيتها بروح فكاهية وهو يعتذر. ولكن كيفن نهره برأسه قرابة مفاصل إطار الباب فطالب بثيابه. قال ل متهكما:” أيها المخصي” . ثم غادروا جميعا ليشربوا.

ولاحظت في الحانة جفنيه. كانت تختفي حينما ينظر إليها، فيبدو مقيتا ومتعجرفا. لم يكن بمقدورها أن تفهم معظم كلامهما وكانا يضحكان طوال الوقت. كان يرتدي بلوزة من النايلون، وسروالا من الجينز الرخيص وحذاء رديئا.

قال:”اعتقدت أن الصديق من نوع.. آه، ابن حرام مدهش”. وتكلم و“عينه تبرق بريقا موجعا. هل سمعت بحرف ب بالخط العريض. إنه بدائي. من النوع الذي يحب رؤية الدم على الملاءة أو أن تكون عروسه عاهرة. أعني... ما يلبي رضا المازوشيين. وكما نعلم جميعا، هذه هي طبيعة الحي الذي أعيش فيه مع أن الإيجار مرتفع. وأنا بحاجة لمزارع إيرلندي رومنسي بقلب طيب ولكن ابن حرام في نفس الوقت. وهكذا كان ينظر  إلينا على كل حال كأننا نرتكب خطيئة أو نتصرف بأخلاق كاثوليكية أيضا، وبدأت أتشاحن معه كل الوقت. قال:”وهل استمتعت بوقتك؟”. قلت له إن كيفن أفضل من يمارس الجنس في هذاالجانب من المحيط الأطلسي. يا غبي! أعرف ذلك!. وضحك كيفن وتحسنت ... مشاعري. ثم قلت:”ربما فاجأك؟”. قال:”أبدا. هذا ما يتناقلونه في شارع ليسون”، إنها طبيعة حياتهم في زقاق الإسراف بممارسة الحب. ضحكت وقلت: “يصعب أن تراه كأنه لم يفعلها من قبل”... ثم خيم الصمت.

ثم ذهبت إلى دورة المياه، وبعد عودتها، كان صديقه قد اختفى.

سألتها:“لماذا وقع اختيارك علي، ما دمت لا أعني لك شيئا؟. هذا ما تقولينه، أليس كذلك؟. كنت تقولين المفروض أن أنصرف”.

“لا تيأس. أنت إنسان عظيم!. وستجد عشيقة عظيمة”.

قال: “كان عليك ممارسة الحب مع جيم. كنتما متفاهمين وأنا بينكما مثل أحمق”.

قالت:”آسفة”.

 

تخلى عن حذره وتهذيبه معها. ورافقها في طريق العودة إلى الشقة وكان المفروض أن يعود أدراجه إلى بيته.

قالت:”إذا. مرحبا بالجنس العنيف. لقد استمتعت بذلك”. فقد كسرها نصفين كأنها عود ثقاب.

”أنت كثيرة الكلام”.

 وبعد قليل التفت إليها وتحسس جسمها من كتفيها وحتى وركها، وهويمرر يديه على بشرتها ببطء وبمعنى. وشعرت بنفسها تسرع إلى السرير على بساط أسود وتخترق الفراغ الذي يفترض أنه باب. وكان يبدو أنها تكبر بالعتمة وتبتلع الغرفة.

“حينما كنت صغيرة، كان هناك منحوتة تذكارية في المقبرة وكانت غرفة التحضيرات مغطاة بغبار الرخام. كانت الطاولة بيضاء، والأرض بيضاء، وعلبة الكوكاكولا الموجودة في الزاوية بيضاء. وهناك خزانة قديمة أمام الجدار وبابها مفتوح. وكل شيء خامد وصامت كأنه مصنوع من الحجر. وفي الخارج كانت الصخرة بالنقوش المحفورة عليها “للتكريم والذكرى” أشبه بنكتة. مجرد دليل”.

بعد أن غادر، شاهد ظل الطحين على السجادة، مكان كومة ثيابه، كأنها معالم جثة. وهذا دليل حديث عليها.

***

 

....................

1- غلوكامورا: قرية متخيلة في إيرلندا.

2- مطرب إيرلندي شعبي و عازف غيتار.

3- بلدة صغيرة في مقطعة كافان الإيرلندية.

 

في نصوص اليوم