ترجمات أدبية

الباب الأحمر

صالح الرزوقبقلم: ألان وارنير

ترجمة: صالح الرزوق

عندما استيقظ موردو بعد ليلة هالوين “عيد جميع القديسين” وخرج إلى الهواء البارد ليرى إن كان هناك شيء يتحرك في العالم المحيط به، انتبه  أن بابه الذي كان في السابق مطليا بلون أخضر، أصبح الآن مطليا باللون الأحمر. حدق به لفترة طويلة، وحك رأسه ببطء كما لو أنه لم يصدق في البداية أن هذا بابه. والحقيقة أنه عاد أدراجه إلى داخل البيت ونظر لإفطاره المعد باقتضاب - رز بالحليب وكعك وشاي - ونظر بإمعان للبقعة الرطبة على الجدار قبل أن يقنع نفسه أن هذا هو بيته حقا. كان موردو عازبا ولم يجد نفسه يوما يفكر بالزواج. عاش وحيدا، يحضر طعامه بنفسه، ويرفو جواربه بنفسه، ويغسل ثيابه ويعتني بقطعة الأرض التي لديه. وكان محبوبا من الجميع لأنه لم يستفز أحدا بإشاعات ينشرها، والتزم الصمت حيال الجميع ما لم يكن هناك شيء هام يقوله. وفي الليلة السابقة دق الأولاد على بابه وغنوا له بعض الأغنيات. فقدم لهم التفاح والبرتقال والبندق الذي حصل عليه من المتجر. نظر بدهشة لقناع الكوميدي على أحد الوجوه، وقناع القطة الشريرة على وجه آخر، وقناع رجل الفضاء على وجه أصغرهم، والذي أمكنه أن يتعرف عليه بالتأكيد. بعد أن اقتنع أنه في بيته غادره وتأمل الباب لمرة ثانية.  وحينما لمس الطلاء الأحمر تبين له أنه جاف تماما. ولم يساوره الشعور بالغضب مطلقا، فقط الحيرة. حسب علمه لا يوجد باب أحمر في بيوت القرية كلها من قبل. هناك أبواب خضر، وأبواب صفر، حتى أنه هناك أبواب زرق، ولكن أبدا ليس من باب أحمر. بكل تأكيد جعله هذا اللون وحده. كان الباب أحمر مثل شمس الشتاء التي يراها في السماء فوقه. لم يقترف موردو في حياته شيئا يلام عليه. ولأنه حقا عازب كان يشعر بضرورة أن يكون مثل بقية القرويين قدر الإمكان.  يقرأ  جريدة دايلي ريكورد “أخبار اليوم” مثلهم، وبعد الغداء يستلقي وينام قرب النار مثلهم، ويحب تبادل الكلام مع جاره كلما رآه يثبت بالمطرقة عمودا في الأرض. وأحيانا يلعب الضامة مع أحدهم. ومع ذلك ينتابه الشعور في بعض الأوقات أن في الحياة أشياء إضافية لم يضع يده عليها. ويشعر بذلك على وجه الخصوص في ليالي الصيف حينما يشرق قمر الحصاد في السماء - القمر الذي يشرق في ميعاد نضوج الشعير - تكون حينها الأرض تلمع بلون غير معهود كأنها كتاب غريب لا يستطيع أحد أن يفهمه إلا إذا استعمل خياله. وفي بعض الساعات يصعب عليه النهوض من الفراش في الصباح، ويتابع الاستلقاء و الاستمتاع بما تبقى من أحلامه، وأنظاره مثبتة على السقف. ثم يقول لنفسه:”في النهاية، ليس لدي شيء يدعوني للنهوض. ويمكنني إن رغبت أن أتمدد في السرير طوال النهار والليل ولن يلاحظ أحد الفرق، كما كنت أفعل في طفولتي. لم لا يمكنني تكرار ذلك الآن؟”. لقد كان طفلا جديا ويرى صعوبة بالتفاهم مع الأولاد الآخرين حتى لو أنهم بعمره. مرة واحدة فقط أبدى الاهتمام، وذلك وهو في باحة المدرسة، وشاهد طائرة تحلق في السماء. وهتف باندفاع:”تلك طائرة”، كأنه صوت تعجب غامض وغير مفهوم، ونظر زملاؤه لذلك على أنه علامة من علامات الحمق. فهو طائش ولا يشارك بنشاطات المدرسة. ومساهمته بالرياضيات متواضعة. وعندما وصل لعمر البلوغ بدأ حياته العملية بمهنة طباخ على متن زورق للصيد، وفقد مكانه لأنه وضع السكر عوضا عن الملح في الحساء، وتسبب للجميع بالإسهال. معظم الوقت - بينما أمه وأبوه يحلمان بالطريق الذي سيقودهما إلى الموت - أنفق هو وقته بالعمل في الأرض بطريقة بليدة ومجهدة. في الصيف والخريف يظهر في الحقل ومعه المنجل، والشمس تلمع على النصل بينما هو، مقوس الظهر وغامض، ويهوي بمنجله دون أي كلل أو تردد.  ولكن في الحقيقة مر في حياته بقصة غرامية واحدة. تقدم لخطبة عانس من القرية - لو اعتبرنا تلك الخطوة الحذرة خطبة - كانت المرأة تعيش مع أمها المتدينة الصارمة في بيت يقابل بيته، وكانت بدينة جدا.  ثم توقف عن زيارتها، بعد أن قدمت له في إحدى المرات الكاكاو مع السمك المملح للعشاء، وهذه حمية قاسية، ولم يأمل بتناولها لاحقا. وكانت هناك عانس ثانية في القرية تكتب الشعر وتعيش بمفردها، وخامره نحوها شعور لا  يمكن أن تقول عنه إنه حب. كان اسمها ماري وقد ورثت عن أمها كمية كبيرة من الكتب المغلفة بجلد بني. وترتدي ثيابا لونها أحمر لتتجول بها في النهار وأحيانا في الليل أيضا. مع ذلك كانت أكثر وسامة من سابقتها، ولكنها تهمل أناقتها وتخصص وقتها للعناية بالكتب والشعر، ويمكن أن تعتبر أنها غريبة قليلا  بمقاييس أهالي القرية.  واعتقد موردو أن كل من يقرأ كثيرا ويكتب الشعر يجب أن يكون نبيها وذكيا.  وكلما نظر لباب دارها يشعر بخفقان عجيب في داخله. كان بابها مطليا بلون محبوب، ولذلك يلمع ببريق ناصع وعميق لا يجده الإنسان إلا في الصور. وفي الحقيقة كان يبدو أشبه بصورة بالمقارنة مع بقية البيوت التي فقدت بريق الحداثة والعصر الحاضر، وظهرت كئيبة وقديمة، وبالأخص التي تلتف حولها كالأفاعي، مع أنه لحق بها الصدأ.

ابتعد عن الباب ونظر إليه من مسافة كافية كما يفعل الناس في المعارض الفنية حين يتأملون لوحة زيتية. وكلما فكر بالموضوع زاد إعجابه به. بالتأكيد هو متميز عن المشاهد الطبيعية كأنه عمل فني حقيقي. من جهة ثانية كلما أمعن النظر به بدا له كأنه يعبر عن شيء في داخله، وكان مدفونا تحت طبقات عميقة لسنوات. بعد فترة من الوقت يصيبك اللون الأخضر بالضجر وبالنسبة للون الأزرق فهو غير مناسب لباب بيت. اللون الأزرق فضائحي وبارد. وعموما السماء زرقاء بكل الأحوال.

ورغم تسليمه بالأمر وإعجابه باللون الأحمر، لا يمكن أن تصف شعوره إلا أنه لغز وحيرة،  انحراف بسيط عن الحالة النفسية الطبيعية، كأنه هو ورأسه يدوران دورات متتالية حول نفسيهما.  وتساءل: ماذا سيقول الجيران عنه. لم يسبق لتاريخ القرية أن شاهد بابا أحمر من قبل.  وبهذا الخصوص لا يمكنه أن يتذكر أنه شخصيا شاهد بابا أزرق، مع أنه سمع عن باب بهذا اللون. كان الصباح يشرق على القرية وهو يمعن نظره ببيته. ودخان أزرق يتصاعد من المداخن، وديك يصيح، بصوت مسموع ومرتفع. ومخالبه الحمر مغروسة بالأرض، وصدره المعدني بمظهر شرقي غريب. وهناك قطرات ندى حوله وتسيل على الأسوار التي أمامه. وأدرك أن القرية تستعد ليوم جديد، وسيلفت الباب الأحمر انتباه الآخرين.  وفكر بسره:”كنت دائما أحرص على التواري بين الناس. وسأوافق على اقتراح أي إنسان. إذا نصحوني باللجوء إلى الكنيسة، سأذهب إلى الكنيسة. وإذا طلبوا مني تنظيف الأرض من المواد العضوية سألبي طلبهم.” وفكر بدهشة:”لم أكن أتخذ قراراتي بنفسي”. ونظر نحو قميصه اللماع وبوطه الثقيل وفكر:”دائما كنت أرتدي هذه الثياب لأن الجميع يرتديها. ولم تكن لي الشجاعة لأرتدي ما أريد .. المعطف الملون القصير والجاكيت الملون”.  كان الباب الأحمر واضحا للعيان وسط محيط من الجليد الأبيض والثلوج الناصعة البراقة. وبدا كأنه يقول شيئا. يسأل سؤالا. ربما هو يتوسل له كي لايستبدله أو يلغي وجوده. لعله يقول:”لا أريد أن أكون أخضر. ولا بد من مكان أمين لي لأعبر به عن نفسي. أريد أن أكون أحمر. ما الخطأ في اللون الأحمر؟”. واستقر في ذهنه أن هذا الباب جريء. النبيذ طبعا أحمر وكذلك الدم. لكنه لم يشرب النبيذ وشاهد الدم عندما جرح نفسه وهو يعمل بصيانة السور أو وهو مشغول بالدق على الخشب، وجرح أصبعه بمسمار معدني. لكن هل هو سعيد؟. هذا هو السؤال. وعندما فكر بالموضوع بحذر أدرك أنه ليس كذلك. فهو لا يحب تناول الطعام بمفرده، ولا يرغب بالبقاء في المنزل وحيدا، ولا يقلقه أنه دون علاقات، وليس لديه من يأتمنه على مخططاته السرية. مثلا: فلان أو علان شيطان رجيم. أو أن ذلك الإنسان جرذ مخادع وغادر. وكان عليه أن يضع دائما على وجهه ابتسامة يغش بها الآخرين، وتلك مشكلته. غير أن الباب الأحمر لا يساعده على ذلك. فهو غريب ومعزول. ويبدو له كأنه يفشي سرا، ولا يقول للناس ما يرغبون به. من جهة أخرى، هو لا يحب بوط ولينغتون ولا جاكيت الصياد. وهو بالواقع يمقتهما: ليس هناك أناقة في هذا المظهر، مثل أناقة ماري، مع أنها غريبة نوعا ما، فهي أنيقة. وإذا كان أهل القرية لا يفهمونها، ذلك لأنها مولعة بالقراءة، ولأن والدها كان معلما.  بالإضافة لذلك، هي لا تتنازل أمام أي إنسان. ويبدو أنها تقول:”يمكنك أن تقبلني أو أن ترفضني”. ولم تكن نمامة. وهي معتزة بنفسها وتحتفظ بمسافة عن الناس.  ولديها عالمها الخاص. وكانت تدفع ثمن كل شيء بالقرش والمليم. وهي مرتاحة ماديا. لكن عالمها خاص بها، وهي لا تعتمد على الآخرين.  وكانت شغوفة بالأطفال وتصنع له الأقنعة في عيد الهالوين. ثم كانت تتجول في الليل بمفردها، مما يعني أنها رومنسية. ويقال إن لها ثورات غضب مفاجئة، وربما هذه إشارة على روحها المتمردة.  الإنسان لا يمكنه أن يسعد بالبرد.

حدق موردو بالباب وبينما هو ينظر له تصور أنه ينجذب له ويتغلغل في طياته العميقه ويضيع بين عروقه وممراته. كأنه باب مسحور وليس من هذه القرية، ولكنه ينبض بنور أحمر ساطع جعله يظهر حيا ويتنفس. من أغرب الأمور المحيرة التي تواجهك أن تعتقد أن بابا بلون أحمر يبدل شيئا من طبيعة البيت أو الحديقة أو جدول المياه القريب.

استمر الباب بمكانه. إنه صلب وثقيل ويقف أمامه، وهو يرتدي بوط ولينغتون ويحك رأسه.  غير أن الباب الأحمر ليس مرآة ولا يستطيع أن يشاهد انعكاس صورته عليه. عوضا عن ذلك كان يبتلعه كأنه منبع للحرارة واللون والوقائع. قال لنفسه: هذا شيء مختلف ويخصني. من المؤكد أن أهل القرية  بعد أن يستيقظوا من النوم سيشاهدونه وربما يسخرون منه، وينصحونه لو يبدل لون هذا الطلاء. وربما لن يقبلوا به بينهم في القرية إذا أصر على باب لونه أحمر. 

وربما يرغب الجميع بهذا اللون و يختارونه لبيوتهم مثله، أو يطردونه من القرية. يطردونه من القرية؟. فكر لحظة، مصدوما من هذه الفكرة. لم يطرأ في ذهنه أنه سيغادر القرية، ولا سيما بهذا العمر، فهو يبلغ ستا وأربعين عاما. مع ذلك غادر غيره القرية، وبعض منهم تحسنت أوضاعه. لكن لا يجب أن يغيب عن باله أن عددا كبيرا منهم فشل فشلا ذريعا. أما بالنسبة له، فيمكنه أن يكد ويجتهد، وهذا ما التزم به طوال حياته. وقد لا يكون هو من هذه القرية فعلا. و لعل انتماءه لها يشبه قناع هالوين. لو أنه قروي حقيقي هل سيغرم بهذا الباب لهذه الدرجة؟. سيغضب منه بقية أهل القرية إذا علموا أنه جعل بابه بطلاء أحمر ليلا، وسينعكس غضبهم على صفحة الباب الأحمر، وها هو أمام هذا الباب. هادئ ولا يشعر بالاهتياج. وفي الحقيقة غمره الرضا الذي سيلفت انتباه الآخرين. هل سيرى الآخرون إمكانية امتلاك باب أحمر وسط طبيعة خضراء وسوداء.  وشعر بشيء من الطفولة تتحرك في داخله كأنه في يوم عيد الميلاد، ويختلس خطواته بقدمين حافيتين فوق بساط الأرض الأحمر ليتناول جواربه المعلقة على المدخنة، وليشاهد إن كان سانتا كلوز قد حضر في الليل خلال رقاده. 

بعد أن تأمل بابه لفترة من الوقت، وتلفت حوله في أرجاء القرية التي كانت تتهيأ ليوم عمل جديد، وتكرر نفسها كما فعلت في الأيام السابقة، عاد إلى بيته. تناول طعام إفطاره وهو ينعم بأفكار هادئة ومبهجة. ثم نظف الأطباق وغادر ليقابل ماري مع أن الوقت لا يزال مبكرا.  وداس بوط الولينغتون على الجليد الناصع. كان ما حوله يلتمع مثل الماس النقي. ملايين الماسات حوله. وقبل أن يقرع بابها نظر إلى بابه من مبعدة. كان يشع بجرأة أمام الجليد وقبالة ما بقي مبسوطا دون جليد أو ثلوج. كان لبابه الآن روح متأهبة وجريئة. كان يبدو كأنه ينفض عنه غباره القديم والمعتاد، ويصبح مشرقا وحساسا مثل من يقول:”من فضلك اسمح لي أن أعيش حياتي الخاصة”.

وعندما صعدت هذه الفكرة في ذهنه، مد يده، ودق على الباب.

ألان وارنير  Alan Warner قاص وروائي من اسكوتلاندا. مواليد عام 1964. له ثماني روايات، وحائز على جائزة سومرست موم،  وجائزة إنكور للإبداع الروائي. يهتم وارنر بالموضوعات السياسية، ويحاول أن يطبعها بطابع حياته الخاصة، وهموم الأفراد. و تمكن بعد صدور أولى رواياته، وهي “مورفين كالار”، من حصد جائزة سومرست موم وأصبح رمزا من رموز “النهضة الإسكوتلاندية”. يتحدث في أعماله بشكل خاص عن حياة الليل والملاهي، وعن التمرد والفوضى ومشاعر الغضب. وتبدو شخصياته عدمية مولعة بالكحول والمهدئات والموسيقا.

***

 

في نصوص اليوم