نصوص أدبية

نصوص أدبية

تَأَرْجَحي...

وذري السياسة جانباً

إن السياسة أَرْجَحَتْنَا

وبا .............عَدَتْنَا

وحَطَّمَتْنَا بأَقْبَحِ!

حق الطفولةِ أن تطيري

في الهواءِ وتطمحي

وخيالُكِ...فيهِ اسْبَحي

مُدِّي جناحيكِ الفضاء الرحب

يانظمي الأثيرِ وصافحي:

ألعابكِ الكسلى...

هداياكِ الأليفةْ

عُلْبة الألوانِ...

قِطَّتكِ الظريفةْ

شخبطات رسومكِ الجذلى...

مواقيت الصلاةْ!

مصروفكِ اليومي...

هوايتكِ الفريدةِ...

حلمكِ الوردي...فستان الحياةْ!

إنَّ السياسةَ لعنةٌ

- تسري دماها في عروقِ خبيثةٍ -

بالخطيئةِ تَنْبُتُ!

وجنازةٌ

يمشي بها حيٌّ ولايدري بأنهُ ميِّتُ!

إن  الحَرَابيَّ لايُؤَمِّنُ بعضها...كنَواطح ِ!

فَلْتَصْدَحي............

جُرْمٌ بحقِّكِ أن تَظلي...

وأن تغُضي وتسمحي!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

بضعف شديد، كانت تحرك جفنيها، بادلة جهدا عساها تتبين ماحولها، يتغشاها الدوار، فتعيد إغماض عينيها من جديد، فكل مرئي أمامها يثيرها بغثيان، رائحة بخور كريهة كأنها تهف من أرواح شريرة فتملأ خياشمها، تحاصر صدرها، فتوشك على التقيؤ، تحاول النهوض فتترادف عليها مطارق راسها، فتهوي قاعدة، ركبتاها الى صدرها دون أن تدري أنها مكشوفة بلا أدنى غلالة من ستر، نسمة برد تهب ضعيفة، بتثاقل تحرك يدها فتضعها على صدرها، تنتبه انها عارية تماما، تجفل !!.. ويهتز قلبها باعصار قاتل، ماذا وقع ؟ من جردها من ملابسها ؟ وكأن الخوف قد ايقظ حواسها، فتتذكر كاس الشاي، ثمالة الاسياد الذي أعطته لها الجارة قبل أن تدخل خلوة الفقيه، مقصلة اعدامها، سمعت خطوات بعيدة كأنها آتية من قلب بئرعميقة، تحسست راسها، اين حجابها ؟....

ترقبت ان تصل اليها الخطوات فتفتح باب الغرفة، قد يتسرب منها هواء ينعشها فتعرف حقيقة ماحل بها، بصعوبة استقامت في مكانها، تحاول أن تتكيء على جدار يسند ضعفها.. لأول مرة تتذكر أنها لم تأت وحدها عند الفقيه، كانت معها جارتها، أين هي؟، بدأت تقاوم ضعفها، تمسح غبش عيونها عساها تتبين ما حولها، على الأقل لتجد ثيابها فتستتر..

ينفتح الباب، ومع انفراجه يشع ضوء كهربائي في الغرفة، لم تكن غير جارتها، كانت تراها بين تلافيف من كثافة دخانية هي ما يحجب رؤيتها رغم قوة المصباح الكهربائي الذي يشبه مسقاط الضوء لدى المصورين..

اقبلت عليها الجارة ضاحكة بعد أن فتحت أحدى نوافذ الغرفة، عانقتها مهللة مكبرة:

مبروك !.. تسعة اشهر او أقل ونفرح بالضيف العزيز..

وكأنها لم تسمع ماقالت، كانت لا تسأل الا عن ثيابها وقد تكومت على نفسها ووضعت راسها بين فخديها تقي عيونها من وهج الضوء المسلط على وجهها، كانت تريد ان تستتر أولا ثم تعرف ما وقع..

كلما خفت رائحة الغرفة الكريهة استعادت هي بعضا من وعيها، لمحت ملابسها مرمية ككومة غسيل في زاوية من الغرفة، اشارت بيدها الثقيلة الى الجارة التي امدتها بها.. كانت هذه فقط تتابعها دون كلمات وكأنها مرتاحة لما وقع، لكنها حذرة من أن تنبس بأكثر مما هي مأمورة به، وما تعودته في مهمتها كسمسارة مساعدة للفقيه، حدقت في جارتها طويلا بعد ان شعرت بقدرة على التركيزثم سألت:

الآن أخبريني ماذا وقع بالضبط ؟

رسمت الجارة ضحكة نفاق، باهتة صفراء على وجهها ثم قالت:

ـ لا شيء، عادي، كثير من النساء العاقرات مررن من هنا فصرن أمهات..

أرعبتها العبارة فصاحت بملء صوتها، ورغوة زبدية تتطاير من فمها:

ـ أمهات !!.. أمهات بالحرام !!.. والفاعل من ؟ الفقيه !!..ماذا أقول لربي يوم الحساب ؟ ان حقيرا ادعى العلم والبركة صارباسمك يعبث بالارحام ؟!!.. فيكيف أواجه زوجي ؟كيف انظر الى المولود يوم يلفظه رحمي ؟

بدأت الجارة تربت على كتفيها، تمسح على راسها وكأنها تقوم بمهمة قد تعودت عليها، وفي قليل من اهتمام بدأت تردد أمامها:..

مابك ؟ قلق لامبرر له، ومبالغة فوق الحد...الزلة مغفورة لانها مستورة، لاشيء قد تغير منك، هل نسيت ضغوط عشر سنوات وما كنت تعانينه من أهل زوجك ؟هل غاب عنك كم دمرتك نظراتهم ؟ماذا نقص منك امام غبنك واحساسك بالنقص والقصور والعجز امام النساء ؟هي لحظة و قد مرت بسلام.. بلية لكن مستورة لن يعاقب الله عليها !!..

- هل انت تعرفين الله حتى تتكلمي باسمه ؟لو كنت تعرفين الله ما سقتني كشاة بلا إرادة الى مجزرة فقيهك اللعين !..ماذا فعلت بي؟ وكيف تواجهين ربك يوم الحساب ؟...

تركت لدموعها العنان، أخذت تضرب على فخديها، تلطم وجهها وقد صار صدرها كمنفاخ صاعد نازل يعصره ندم شديد:

ـ انت لم تخبريني أن الامر يصل الى حد الاغتصاب، أنت فقط قلت أن الفقيه سيدخلني الى غرفة البخور وأنت معي، ويرسم خاتم سليمان على بطني من فوق ثيابي، لانه يسخر جنا مسلما يخاف الله...هل أنتما معا تخافان الله؟ !!.. وهل انا استحضرت قوة الله حين وثقت بك؟. يا ويلي من غضبك ياالله !!!..

وقفت الجارة وكأنها تدعوها للانصراف، وقد صارت تخشى ان يصل صوتها الى الخارج حيث تنتظر أخريات خاتم سليمان من بركة الفقيه !.. أبدا ما عادت هي الصديقة التي تقربت منها ولازمتها، تغريها بالأولياء الصالحين، وبركة الجن المسلمين، وقدر ة الفقيه على فك عقدة عقمها، وجدت أن الجارة صارت امرأة أخرى تتعامل بغير ما تعودته منها من نصائح واغراءات بحمل سعيد من بركة الفقيه الذي يعرف مابينه وبين الله، عاودتها هزة من بكاء وقبل أن تكمل وقفتها قالت لها الجارة:

الفقيه يريد بقية أتعابه مع فتوح بنجاح المسعى..

صاحت في وجهها:

الفتوح !!.. أما كفاه ما أخذ ؟ كل ذهبي وما سرقته من زوجي من أجل ان اسقط في لحظة زنا لاتغتفر..فتح الله أبواب جهنم في وجهه ووجهك..

قالت الجارة في لهجة آمرة وكأنها تحكي عن عقيدة وعلم ويقين:

ليس هو من يأخذ، هي طلبات الأسياد التي لا تنتهي، وليس هو من يفعل وانما ينفذ أوامر سلطان الجن الذي يأمره بما يفعل وكيف حتى يكتمل المقصود..

ارادت أن تخرج فمنعتها الجارة وهي تقول:

ليس قبل أن تحددي متى ستدفعين الباقي والاعرض الفقيه صورك على زوجك..

ضجت بصراخ كمن أصابها مس من جنون، وقد أرعبتها العبارة:

صور!!..أية صور ؟!!، ومن أخذ الصور ؟ومتى؟.... ادركت من سريان الم يتغشى جسدها لماذا تمت تعريتها بالكامل ؟وما علة وجود المسقط الكهربائي؟ احست بانهيار تام وضعف لم تعد تستطيع معه وقوفا، جثت على ركبتيها، دموعها حفرت سواقي على خديها، ماعادت تستطيع شهيقا ولا صدرها عاد يقبل هواء:

بدات تسعل وكانها على وشك الاختناق..اية ورطة وضعت فيها نفسها ؟ ماعادت تريد خلفة، ليت حرقة عشر سنوات من العقم تحرقها بنار ذات لهب ثم تحولها رمادا بدل ان تجد نفسها في موقف كهذا..شرف ضائع وكرامة مهدورة ثم فضيحة على رؤوس العباد وبالصور..أي عقاب أمكر مما تحسه الآن في نفسها؟

ضاع الزوج، وانهد صرح بيتها، قتلت عشقا قويا، هو ما يكنه لها زوج أحبها ووثق بها، وقد جعل منها صندوق اسراره العملية والمالية، والذي كثيرا ما كان يهدئ من الهوس وسوء الظن الذي يأكل صدرها، وهو يعايش غيرتها خوفا عليه من أن تحول انثى غيرها مجرى حياته معها..

هي دوما كانت تطمع في بنت أو ولد يعمي عيون اعدائها ومن ينظرون الى الزوج بعيون الشماتة رغم ما يبديه لها من تفان وحب:

ـ "لا تقلقي ياحبيبتي فالعقم مني وأنا راض بحياتنا يكفيني وجودك معي..."

كم مرة نصحها ان يتبنيا طفلة من الملجأ تبهج حياتهما، لكنها كانت تمتنع ايمانا منها أنها ستحمل ذات يوم لانها تريد خلفة من صلبه..

دخل عليهما الفقيه، وقد اتسعت على وجهه ضحكة شماتة، فقد فاز بأنثى بجمال كتحفة فنية، تبهر بقدها المتناسق، ووجهها المشرق ببسمة لؤلؤية، وعيون واسعة حجلية، كانت تتركه مقتولا بسحرها كلما زارته مع الجارة؛ لأول مرة تراه كخنزير بري بلحيته السوداء وعمامته الصفراء الفاقعة ؛ قال بعد ان امر الجارة بإعادة ترتيب الغرفة:

ضيوف جدد قد أتوا، لابد ان تنصرفي، غدا سأنتظر مابقي بذمتك..

اشتعل في عقلها أمر، فهي الآن بين يقين اليأس والموت الآتي ولن تتصور بان حياتها سيجري فيها نهر من امل في الزوج والبيت كما جرى من قبل، جفت الحياة من حولها، و الفضيحة آتية لا محالة مهما طال لها زمن، وما اكتشفته في الجارة زاد من مخاوفها، هي امرأة حقيرة قادرة على كل شيء، بين لحظة وأخرى تصير حرباء يتغير لونها، حية رقطاء لا ترحم كل من منها قد اقترب.. تطأطئ برأسها الى الأرض، "ليته ينقطع تحت مقصلة تنهي حياتي ؛غدا يصبح

 ويفتح "..

تخرج وهي تشيع شابة جميلة في بهو الدار تنتظر دورها مع إحدى قريبات جارتها، تستوعب الدرس وتبلغ الحقيقة، لكن بعد ان ذبحتها سكين الطعم الذي رمته لها الجارة مذ لازمتها بالاغراء والتخويف، بان العيون مسلطة على زوجها من سكان الحي، ، وحقيقة الغول الذي ابتلعته كضحية لتنشئة لا تخضع لتبرير عقلي أو مفهوم علمي، حقيقة التصديق بفقهاء الرقية الشرعية وعلماء اغرقوا المجتمع في مغاور التخويف بالجن وقدرته على امتلاك البشر والسكن في اعماقهم، تعرف الآن من تكون الجارة وقريبتها هذه التي مع امرأة أخرى، ينتظرها الفقيه لصب مكبوتاته بلا خشية من خالق او خوف من قانون.. عصابة تستغل جهل الناس بدينهم فتزين لهم طقوس الشعوذة كوعد بتحقيق ما استعصى على العلم والطب.. لم تقصد بيتها، فلابيت عاد لها، وانما كانت الى مركز الشرطة اسرع...

***

محمد الدرقاوي - المغرب

دائماً أُحبُّ المَشْيَ وحيداً وحُرّاً

في طُرقاتِ المدينةِ الشاسعةْ

وشوارعِها الشاغرةْ

خاصةً في الصباحاتِ المُشمسةِ

والعليلةِ النسيم

والعاليةِ المزاجِ

حدَّ الدهشةْ والمَسَرّاتْ

*

هَلْ تُريدونَ الصراحة؟

أَنا لمْ أَعُدْ أُطيقُ الحبيباتِ

والصديقاتِ المزاجيّاتْ

ولا الأصدقاءَ النَفعيين

ولا الأَعدقاءَ الذينَ يتربّصونَ بي

وبخطواتي الطليقةِ في الوجودِ

ولا الذينَ يوهمونني ويوهمونَ الآخرينَ

بأَنهم اصحابي ورفقتي

ولكنَّهم في الحقيقةِ

يضْمرونَ لي الشرَّ والكراهيةَ

والحسدَ والضغينةَ ومآربَ شتّى

والمُضحكُ في نواياهم وخطاياهم

أَنني أَحترمُ وأُحبُّ البعضَ منهم

ولكنَّهم وياللسُخريةِ والمرارةِ

يفُكّرونَ بالقضاءِ عليَّ

والخلاص مني آجلاً أَمْ عاجلاً

بالطبعِ لا لشيءٍ

إلّا لأنني وسيمٌ

/ محبوبٌ / شاعرٌ مُتَوهّجٌ  /

وعاشقٌ للطبيعةِ والأُنوثةِ والجمال

*

أَحياناً يُبهجني أَنْ أَصطحبَ معي

كلبي الأَسمرَ الوديعْ

لا ليحرسَني طبعاً

ولكنَّها الرفقةُ الحانية

والاحساسُ أَنني بصحبةِ كائنٍ

وفيٍّ وطيّبٍ ونبيلْ

وهذا ما هوَ عليهِ حقاً

كلبي وصديقي الحنونُ جداً

*

الحياةُ الآنَ قَدْ أَصبحتْ بالنسبةِ لي

محضَ مناسبةٍ كبيرةٍ

وصعبةٍ وقاسيةٍ أَحياناً

ولكنَّها جميلةٌ حقاً

وأُريدُ أَنْ اعيشَ فيها

ماتبقّى من حياتي،

هادئاً وحُرّاً وسعيداً

بلا أَعداءٍ وبلا أَعدقاءٍ دمويينْ

وبلا اصدقاءٍ مُنافقينَ ومُحتالينَ

ونَصّابينَ وقفّاصينَ وبلا معنى

حتى لايجعلوني أَكرهُهم

وأكرَهُ كلَّ شيءٍ،

في هذهِ الحياةِ

الزاحفةِ نحوَ الجحيم

***

سعد جاسم

2022 - 8 - 15

ضاقت بي الدنيا فكدتُ أضيقُ

وانفضَّ من حولي أخٌ وصديقُ

*

وانهدَّ حَيلي رغم أني باسلٌ

فأنا بحزني لا البحارِ غريقُ

*

ماكان وقع النائبات يُضيقني

لكنَّ هجر  الاقربين الضيقُ

*

وأشدُّ ما يُدمي الفؤادَ ظلامةٌ

وقعت عليه فشبَّ فيه حريقُ

*

عمر تقضّى والحياة سريعة

والروح ثكلى و الهموم عثوقُ

*

تتراكض الأحزان نحوي بعده

ويضيق من فرط الشجون طريق

*

صور  واحلام وحزن هائل

يا طول حلمي كيف منه أفيقُ

*

يمشي معي حلمي  ويجلس جانبي

ظلان إنّا : سيدٌ ورقيقُ

*

عامانِ مرّا والحدائقُ تشتكي

ما يشتكيهِ من الذبولِ رحيقُ

*

حاولت كتمانَ الشجونِ ولم أجدْ

مطراً تجود به عليَّ بروقُ

*

أغلقت بابي وانزويتُ بمعبدي

وبكيتُ حتَّى  جفَّ منِّي ريقُ

*

ووجدتُ أحداقي تزخُّ سخينها

أملاً لِيُدني العاشقَ المعشوقُ

*

يا أيُّها الدهرُ الذي أفجعتني

هلّا رحمتَ الْغصنَ وهو وريقُ

*

أوغلتَ في طعني وتعرف أنني

ليلٌ بلا نجمٍ جفاهُ شروقُ

*

عجبًا تطالعني بوجهٍ باسمٍ

وتذيقني مرًّا كأنّكَ موقُ

*

ايقظتُ فيّ الجرحَ وهو مكفّرٌ

فكأنني للنائباتِ رفيقُ

*

ولدتني أمي والشجونُ مواطرُ

يُتمٌ طويلٌ والحِمامُ يحيقُ

*

فعلامَ هذا الدهرُ أثقلَ عاتقي

وأنا الذي قد ضاق منه الضيقُ

*

وطني فقدتُك بعد  فقد  أريكتي

وأضعتُ زهوي، وهو فوقُ طليقُ

*

ودفنت احلامي وكل سعادتي

وحملتُ جرحي، وهو جدُّ عميقُ

***

د. جاسم الخالدي

من الشعر السرياني المعاصر

شعر وترجمة: نزار حنا الديراني

***

البيضة ، هي التي تحمل الوجود

فلولا البيضة !!!

كيف لك أن تسمع صوت الديك وتحضن كل يوم مار بطرس1

لولا البيضة !!!

لكان المهد مجرد ألواح من الخشب اليابس

ولخلا المهد من سر الوجود ..

والحب ...

والأنسانية ..

وإن عجزت البيضة عن حمل الوجود

فباطلا هو عيد الفصح

ولتلاشى في الأفق ألوان قوس قزح

ولأختفت كليا من تزاوج ألوان البيض2 ..

والشعب ..

وضحكة الطفل ..

وسيخفت صوت الأطفال من البكاء والغناء

فلو كانت البيضة عاجزة ان تحمل الوجود !!

لما أخذ القلب والتفاح شكل بيضة

ولما غوى آدم بجمال حواء

ليترك ، نعيم الجنة

*

البيضة ! هي الولادة والانبعاث

وإن لا !!!

لكان باطلا عيد الفصح وسر القربان المقدس

ولما عاد تموز من العالم السفلي

لتتباهى الأرض بالخضرة والحب

ولما قرأ ششكلو3 سفر أينوما أيلش

ولما إحتفلنا بمسرحية كياسا في الكنيسة يوم العيد

*

البيضة دائرة

وإن لا !!

لما دارت الأرض وإعتكفت شمس السريان عن الشروق

ولما تقمطنا البداوة ونصبنا خيمنا كل يوم في جهة

ونحن نبيع في شوارع المهجر مهدنا وقماطنا

ولولا دوران الأرض

لما أستطاعت الحية أن تلدغ الأنسان من السرة

وتسرق منه  عشب الخلود

ليخلو المشرق من كلكامش وحبر مار أفرام وتوما أودو4 و...

نعم ... سيفرغ المشرق

من أحاسيس بولس بيداري وآغا بطرس وآشور خربوت و...

*

ولو لم تدر الارض

لما سفكت دماؤنا على أرصفة بغداد والموصل وكركوك و...

ونصبح غرباء في قرانا ومدننا

ونستمر بالرقص على ألحان شاذة من أجل زوالنا

ألا يكفي وعلى مدى 7000 سنة دماؤنا ولحومنا تتزاوج

لتحبل الارض ويولد لنا برعما صغيرا

ناديه بما تشاء من أسماء أجدادنا

الممتدة من سومر الى سورث

آلاف الأطنان من الأسماء وترانا اليوم نلصق أوصال أضلعنا لنصنع قطاراً ليكون إسماً لنا

***

.....................

1- مار بطرس: أحد تلاميذ المسيح الذي نكره حين صاح الديك

2- في عيد الفصح يلون المسيحيين في العراق البيض

3- ششكلو: رئيس كهنة معبد بابل

4- ادباء سريان

 

كلما ألقيتُ بنظري إلى

منتهى الأفــق،

داهمتني أهدابُ المعني

المتواري خلف سديم الغروب..

فتصير عينايَ ملتقى للعشاق

لحظة السمر الملفوف بالشوق المضمر خلف الدروب..!!

*

جنوب الرّوح

أيها الساكـن فينا كما الهم..

كما الحلم المتسارع،

نحو غـد هَروب نحو فجر

مغمض العينين..

تثقله أحمال الوهم المتربصة بالأحلام

*

كلما أتعبَني انسلاخ الأحلام

من دُجـى الوهم،

توَسّلت قواميس الهزيمة إليكَ

لعلّي أجدُ مخرجا لخيباتي التليدة..

*

أيها هذا الشقي..

عُج بنا إلى مفرق التاريخ

لعلّنأ نُلْفِي أسباب الهزيمة

بين تفاصيل الأوقات والدروب المعتمة.. !!

*

تشرَبني الكأس عند كل غروب

فتندلقُ الأشواق على مدمعي.

فألوذ دفاتري القديمة

حيث أجد هيكلي المُـسَـجّــىى

وبقايا من أحلامي المردومــة.. !!

*

عندما تنعدم الجاذبية

يصير تخاطر الأفكار بين الكواكب

واتساقُ السّيقان ضربا من جمــال،

وطيفا خافتا من خيال.. !!

*

تعاندني وساوسي الشريدة

كلما جَـنّ الليل وآوى كل إلى مرقده،

فتُلزِمُني على امتشاق مُهــنّــد البوح،

وأسرار الرؤيا تعانقني وتحلق بي

بين جوامع الكلم و تمنع المعانى.. !!

*

هي كما رأيتها منذ الولادة الأولى..

جميلة جذابة وآسِــرة،

وديعـة وواسعة عيون أمّــي.. !!

*

أنت أيها الشقي المنسي..

أَبَعدَ كل هذا الشقاء الأبدي

والحلم العصي ..

ألا زلت لاتعلم أنك مَخْصيّ ومخصيّ ومَخصيّ..؟؟

***

محمد المهدي

تاوريرت

14/01/2023

 

 

يا للحظ السيء!

قبل أن يأتي الربيع

وتشتعل الربوة بالذهب

قبل أن تحمل اللقالق

بريده إلى الله

وترميه الغيوم بالفواكه والدراهم

مات تشارلز

في حجرة ضيقة مختنقا بالغاز

والأسئلة الحرجة

حتى الملائكة فرت مذعورة

من ثقابة عينيه المسمرتين

نحو الأعلى

من أجنحة صلواته المحترقة

من ديدانه القرمة

عاش وحيدا

يشبه أحد الكلاب السائبة

في شمال إفريقيا

يفكر كثيرا في أسرار الحياة والموت..

هبوب المومسات آخر الليل..

زئير نهودهن البضة..

طقطقة كعوبهن

على أديم عظام الأسلاف..

تشارلز يحب الحياة

شطائر البطاطس والهامبرقر

عجيزة جارته الراهبة

نواقيس الكنيسة العذبة

أيقونة العذراء

النور الذي يزرب من دم المسيح

الذين يمشون على أطراف هواجسهم

الحدائق المكتظة بالعميان والمجوس

متناقضاته التي تعوي تحت الشرشف.

تشارلز آخر من يودع الحانة في الليل

ممتلئا بسم الشوكران

بقناديل الدموع والنوستالجيا

يلاحقه تنين الفراغ القاتل

متطوحا مثل سفينة عذراء

في عرض البحر

شاتما مؤخرة العالم الزنخة

غير آبه بعواء ذئاب الموت

ساخرا من لا شيئية الأشياء

من الأشباح التي تعض شحمة أذنيه

من صفير عظام كتفيه.

تشارلز الذي يشيع الأموات

مثل قس من القرون الوسطى

يرتاد المقابر حافيا

يقفز مثل كنغر

يتقرى شواهد القبور

محمولا على أكف النعاس

مطوقا بغربان الشك وفراشات اليقين.

فعلا مات تشارلز الجميل

مات جائعا مريضا مقرفصا

مثل ملاك في دهليز

تشارلز الذي قاوم عاصفة اللامعنى

تشارلز الذي يحبه المارة النائمون

السحرة والمجانين

صانعو قنابل السخرية

المصطافون في براري الأسئلة

منظرو الحروب الباردة

والذاهبون إلى الوراء

***

فتحي مهذب - تونس

اعود الى موتي بعد كل

قصيدة

ارمي السلام

و اترك الكلام

كل الكلام خلفي

و اسير امام

جنازتي..

افرغ جيوبي من الالوان

و أبقى بين الاسود والابيض

أغسل يداي

جيدا

أزيل حمرة شفاهي

و أعود الى شحوبي

لا شيئ يرفعني

الى الضوء

لا أغنية

لا حلم مرصع

بالندى

يهز اوراق الصباح

و لا صباح يفرغ

جيوب الليل من كل الأحلام

تعود الرمال لتغرق

في شحوبي

تطاردني َمن جديد

أترك لها الصحراء

فتزحف

نحوي ببطء

تحاصرني

حتى مثواي الاخير

زرعت لها الاشواك

على الارصفة

لأتصالح معها

و مع جراحي القديمة

و مع عيون حزينة

تختنق في حلمي

كل ليلة..

هل علينا نحن الأموات

ان نرمي السلام

على القصيدة

الأخيرة

و نمضي

كأننا لن نعود ابدا

و لماذا حين نخرج

من باب حتفنا

يتهاطل علينا البكاء

كالمطر ..

فنعود ونرتطم بالوقت

من جديد

بين الأسود والأبيض

خطاي على طريق طويل

تغرق في الرمل

أكسر صمتي قليلا

لعل الضوء يرفعني

فأرى اثر خطواتي

لا شيئ في القاع

يغري بعودة ناقصة

إذا لن أنهض من غفوتي

سألقي سلامي الأخير

على القصيدة

و أمضي

***

بقلم: وفاء كريم

تمعن آمنة بالتحديق فلا ترى إلا ضوءًا تغيم فيه الوجوه، تتأمّل الضوء وتحدّثه وتسأله فيشرق وجهها ويغيم، يتورّد ثم يشحب ثم يعود يتورّد. تبقى واقفة مثل دمية خشبية فتتخلّى عن الصارمين صرامتهم، والقساة قسوتهم، وعن العتاة عتاوتهم، وتنحشر في أماكن وقوفها أنهار من دموع. (كان الصباح شبيهًا بالمساء، والمساء شبيهًا بالصباح، والليل يرتشي بالنميمة والضحك، وتصيد الغرباء حتّى وهم ميتون). كان الرجال يرتقون إلى السماء، يذهبون ويعودون، يذهبون ثمّ لا يعودون، فتخرج النسوة للانتظار، وقد هزّ الخوف أبدانهنّ، وحفر أخاديده في وجوههنّ. شاهدت آمنة كلّ شيء: الرجّال وهم يتلوون من الهوى والسهر وإيقاد الدموع، الشعراء وهم ينثرون نصوصهم عند قدميها؛النساء ينتظرن، لطم الخدود، الإشاعات وهي تتحوّل لحقائق، والعويل الذي يقطع الفضاء ويشطره ثم يقطع الصمت كما تقطعه أصوات العبوات الناسفة ورشق الرصاص.

علت صرخة في الفضاء فجأة ثم اختفت، لم تكن صرخة استغاثة ولا فزع، بل انفلات أصوات ملوّعة لم تحط بها علمًا. أصاخت السمع، لم يكن هناك إلا الصمت حاضرًا مسموعًا وملموسًا يجلّل الصرخة ويؤكدها، سارت محدّقة بالأبواب والوجوه الجامدة، بدا الطريق مهجورًا وساكنًا ولكنّ الصوت يأتيها بهمهمات مكتومة وعويل مخنوق، أحسّت أنّ حزنًا غريبًا يسري كالعدوى في النفوس، جفّفت عرقها، وتنفّست بعمق ثمّ واصلت السير، تتبّع الأصوات ثم تصغي لها باهتمام، ثم تبزغ من بعيد حشودٌ من الناس، يؤكّدون لها أنّها تنقّب عن عيوبٍ لم تكن بحاجة إلى تنقيب. كانت الجغرافيا خللًا، والتاريخ خللًا، والمجتمع خللًا، والدور الذي أتقنت تمثيله ورطة، وكانت تصغي لهم وهي تنتفض وتهدأ، وتشتعل وتنطفئ، ثمّ تتطلّع إلى السماء وقد بهتت نجومها وكادت أن تسقط. يقولون لها إنّ الحياة جميلة فلا تصدقّهم لأنّها تخشى غدرها، ولكنها لا تفصح أبدًا بل تكذب، حتّى على قلبها.

٢

آمنة تخشى الحياة ولكنّها تكذب على قلبها، تشخص بعينيها في الظلام وتلهج بالدعاء. تهمس وتتوسّل، فتلتمع وتتوهّج كأنّها واحدة من النجوم اللامعة التي تطرّز السماء. تخاف من إذعانها المستمر لعقلها ومع ذلك فهي تخشى أن تقودها عاطفتها المتأجّجة إلى أن تهدم مستقبلها بيديها. وتخشى الزمن أيضًا، تضع وجهها في المرآة لعدّة ساعات، تتحسّس التجاعيد التي قد تظهر، تنهمك في ما تفعله دون أن يطمئنها كلّ ذلك. وسرعان ما تقفز إلى عينيها نظرة الرعب كلّما فتح أحدهم سيرة العمر. آمنة تخاف الحب وتكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هي تكره الخوف والضعف مع أنّها تتقن الاثنين، لكنّها لا تعترف بذلك وإنّما تصرّح دائمًا بأنّها لا تخاف إلّا من ذاتها وعواطفها الجامحة. طبعها حاد ينطوي على كثير من الرغبات المعلنة وغير المعلنة. آمنة ليست آمنة، وهي في الواقع لا تحمل من صفات اسمها إلّا القليل، ولا أدري إذا كان الله قد شاء للأكوان المظلمة التي في داخلها أن تتجلّى وتضيئ، الأكوان التي كُتِب عليّ أن أتبعثر فيها إلى الأبد.

(أحاول الكلام..

مثل طفلٍ لم يعرف نارًا أكبر من عود ثقاب.

وعليه الآن…

أن يصف غابةً كاملةً تحترق).

٣

بقايا النجوم في السماء، كتاباتٌ عنكِ، جمعتها واخفيتها ثم نسختها ووزّعتها على أقنعتي الكثيرة: لكل واحد منّا نسخة…

نقف لنطاردكِ. فتدهسنا عجلات الوقت وهي تنحدر على الطريق أينما تؤدّي، غير آبهة بمن يقف هنا مشدوهًا، حائرًا، وشاعرًا بالبرد. كتابكِ ينفتح كلّما ألقى الله على ظهر هذا الكون بالزُّهر يا آمنة.

ولكنّ الواحد منّا حالما يلمح قبسات منه ويحاول القراءة: يتعاطف مع جمالكِ.. ثم يبدأ بالمغفرة صفحة بعد صفحة، ويقرّر أن يشعل نارًا: يلقي فيها نسخته من الحكاية. حتّى لا يتتبّع أثركِ أحد. كتابكِ ما زال يرتجف تحت النيران ويهتزّ على الأرض، فوقه يعبر النهر، يتقلّب فيه الأحياء والموتى، كان قد ترك عند احتراقه أسرابًا من الفراشات قد حطّت على جسد كلّ واحدٍ منّا وروحه. يومها حلّ طوفان وفرّق حكاياته المحروقة وبعثرها. وفي اليوم التالي كان صباحًا راكدًا، وفي قعر العالم دموع متجمّدة مثل حصاة يتيمة. تذهب الأعاصير بكلّ شيء، النخلات والبيوت، والمحلات التجارية، والعيادات الطبية وتبقى هذه الحصاة في مكانها متألقة بخفوت. وأبو تمّام يراقبها وينشد:

(أَما تَرى الأَرضَ غَضبى وَالحَصى قَلِقٌ

وَالأُفقَ بِالحَرجَفِ النَكباءِ يَقتَتِلُ).

صرنا نتقلّب كالزّبد الجريح على ساحل مقفر في رأسي. كأن الخليقة كلّها تصرخ اليوم باحثة عن شطرها الآخر. وفي غياب السجع والمحسنات البديعية نصغي إلى هذه الموسيقى التي تأتينا من لا مكانٍ مثقلة بعجائب الأخبار. كأنّنا اليوم قد استيقظنا وتتبعّنا أثر الندب والجروح التي أخفيناها عندما عدنا من مطاردتك. كلّ واحد منّا، يخشى على ندبه وحروقه الغالية من سلامة الآخرين. تركتهم يطاردونكِ بندبهم وجروحهم النازفة وحروقهم المتقرّحة، ثم خلعتهم بعد أن أصبحوا أقنعة بالية و متهرّئة فظهر أمين الذي تعرفينه، تنفّست بعمق وبكيت وأنشدت :

(الحبُّ في الناس أشتاتٌ مذاهبه

وللمتيّم من هذه متاعبه

والشوق ألعن لو طالت سحائبه

(والهجر أقتلُ لي ممّا أراقبهُ

أنا الغريق فما خوفي من البللِ)

ثم رفعت رأسي لأرى الغيوم مهرولةً عبر السماء تسوقها نذر مجهولة. لا أهل ولا أصدقاء وليس لي بلد والأرض غضبى والحصى قلقٌ..

٤

حكايتك مفتوحة أمام عينيّ، مصيدة لأرواح موتاي، يمرّون على صفحاتي وهم يرتجفون ويأنّون، أسمع أنينهم مثل لغتي الأولى. عندما يربكك السؤال عن إلحاحي وتشبّثي فيكِ بعد كلّ هذه السنوات، بعد أن عرفت عيوبكِ، ذلك السؤال عن معنى وجودكِ وكيف أنّ ألمي ينسج كلّ هذه الحكايات.

(تذكّري أن عشّاقكِ كانوا مثل الورد البريّ

يطلعون من شقوق النصوص التي تدعو للقتال، تدوسهم الجيوش فتتعطّر الهزيمة

عشّاقك الذين يسحبهم العالم من خندق صمودهم السريّ، حفرة أرواحهم وسقف جسدكِ)

عندما كانت الشوارع جروحًا، كانوا على جوانبها يعبرون نحو بعضهم البعض.. وأنا الضائع في ظلمة هجرك. أنا الدودة الساعية بأنفي الحسّاس في ظلام الرؤية، أنا الذي يعيش حياته ويراها فلمًا رديئًا يخرج المشاهدون في منتصفه . أنا اليائس من مقاماتي وأيّامي وسريري الموحش وأوراقي الملطّخة بتفالة القهوة والميرمية. أنا دمية الفرح الرخيصة التي تعطب بسرعة. أنا جثث القصائد الحزينة التي تحاول النهوض لتبقى في أذهان الناس، وصفّارة الله التي ينظّم بها ازدحامات أكوانكِ المبعثرة . أنا قلبٌ متروك في العراء مثل بوصلة مسافر مات من التّيه.

(أنا اليابسُ…

الذي كلّما عادت يدي منكِ:وجدتُ تحت أظافري غيمةً

وأنا البارد الذي يستعمل غصنًا شابًا من جسدكِ

لينبش رماد العالم: بحثًا عن الجمرة.. )

أنا الذي صنعتك من أخطائك ثم أحببتك، وأنا اللاجئ المستغرق في سرد حكايته، في أعلى المشارف، أو أوطأ الدركات. ومثلما تعرفين هناك دائمًا مقامة، وقصّتها ستروى. أنا سارد حكايتك المضحكة المبكية، الخارج من ثوب الزمان المتهرّئ الذي يجد دائمًا ملاذه أخيرًا لكل أجنّته المذعورة في بنيان الكلمات بضربة طائشة من القلم، لأنّ العالم بأسره في النهاية ليس سوى مقامة بانتظار أن تروى، مقامة تتلو لنفسها ما تبقّى من تفاصيلها، تلك التفاصيل الجديرة بأن تتلى ليسمعها من له أذنان. أنا الذي ربطت جرحي بجسدكِ، كثقّالة ثم قست استقامة العالم. وأنا الذي هزّ حصّالة اليأس، فرنّت في روحه الوحدة، ولعق أملاح الليل ثم قال لكِ أن السهر حلوى.. أنا الذي طليت وجه حزني وصعدت نحوك مثل ضحكة. أنا الذي لا أعرف ما الذي أكتبه لكِ الآن. أنا عشّاقك.

٥

بغداد نائمة. تسيل على أشجارها قطرات الندى. نوافذي مفتوحة تستقبل حاشية من البعوض، وثمّة من يحمل فانوسًا ويبحث عن شيء ما في الخرابات. مخدّتي تحت رأسي تتكهرب بالأرق وفرط التفكير، فأرمي بها إلى الجدار.

أخبريني دائمًا، أنّ كلّ شيء على ما يرام…عندما أكون حزينًا مثل مشطٍ يحاول أن يسرّح شعر الموتى. وعندما أمشي في الوهاد وأتعثّر بالجثث والهياكل وأستغرب ملمس الدم على وجهي. إنّني أحتاج أن تخيّطي لي هذا الجرح، أخبريني بأنّني لن أموت بسببه، اخترعي أيّ قصة وسأصدّقكِ. كلّ ما أحلم به أن لا تعصف بنا هذه الأعاصير، وأن نجد زاوية نختبئ فيها من ضجيج هذا العالم، صفحة بيضاء حيث لا تكذب الكلمات.

(أنا لا أتعمّد أن أعذّبكِ عندما أكسر حياتي..

وأطلب منكِ تجميعها

أنا فقط أريد أن أراقبكِ وأنت تلتقطيني: شظيةً بعد شظية

وأريد أن أشعر بالأمان عندما تقولين لي: يمكنك أن تمشي حافيًا الآن).

قولي إنّني ضعيفٌ وهشٌ وعاجزٌ وقبيح مثل جرحٍ متقرّحٍ في جثّة العالم لكنّني مهم. فعبري يتسرّب الألم: كلّما جرح الالم أحدًا ما..

(قاسميني تعبي يا مُتعبة، إننّي أحتاج صدرًا موجعًا أبكي عليه، إنّ بي مثلكِ شيئًا من زجاج وصدور المطمئنين رخام).

أخبريني بأنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.. حتّى لو صرت كئيبًا لأنّني لا أملك الكثير من الحزن الجيّد للأيام القادمة، حتّى لو لم تتّخذ الأبواب شكل عينٍ عندما أحتاج أن أخرُجَ دمعة منها. أعلم أنّك غاضبة منّي لأنّني غفوت وتركت باب الأحلام مفتوحًا، وأعلم أنّني لست مرئيًا كما يجب لأحبّك في النهار، وأعلم أنّني كنت أدوس بأقدام الراكضين عنب الصراخ داخل روحي . قولي لي لا بأس حتّى لو افترقنا، برهني أنّكِ سيدةٌ مدبّرة وأنّنا سنعبر هذه الأزمات كما فعلنا سابقًا، أخبريني أنّكِ ستعلّمين غيابكِ وتدرّبينه قبل أن تذهبي؛ على أن يتصرّف معي كامرأة تخبرني دائمًا أنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.

٦

كلّ ما أكتبه هنا في هذه المقامة حقيقةٌ يا آمنة، ما عدا الحقيقة ذاتها، كلّ الأوهام والأكاذيب والثرثرات لها صلابة الحقيقة، ووحدها الحقيقة هي الخاضعة للشك والريبة. لا يزال المشهد ذاته عتمة وشوارع ووجوه يكرّر أحدها الآخر، المشهد ذاته الذي أكون فيه وحيدًا وبعيدًا عنكِ، أرفع نظري إلى السماء. أحدّق طويلًا في فراغٍ كثيف معتمٍ وساكن، تنتابني رغبة مؤلمة بالصراخ. مجرّد صراخ يهزّ هذا السكون، فيتهاوى ويتحطّم ويتفتّت، فأرى خلفه زرقة، أو حقل ظلمة مزروعًا بكتل نيران يسمّونها النجوم. في زمانٍ كانت فيه الكلمات مجنّحة قادمة من اللّامكان، حيث كتل الضباب فيه تلعب بالبراري، وتجوب التلال. في غمرة يومٍ من ذلك الزمان، حين انبعثت من السماء أضواءٌ شقّت ستارة الظلام، وهبّت أبرد النسمات، في غمرة ذلك الضباب، وصل العشّاق من الصحراء إلى النبع، كانوا معفّرين بغبار الألم، معذّبين بأوجاع الضمأ. هرعوا إليه وشربوا، وارتووا وتعافوا، ونسوا تاريخ العذاب وأيّام الفراق والهجر وهم على ضفّته يقيمون، ومن مائه العذب يستلهمون. ثم حلّ زمانٌ يا آمنة، ظهر به جيل ضاق عليه ماء النبع، وقال أنّ له مذاق السّم، يعمي برذاذه العكر الأبصار، ويكبّل أجنحة الأحلام. جيلٌ رأى دروبًا من الضلال، فبحث في الأرض عن نبع آخر، إلى أن نال ماءً من أوهام. شربه فهام في طرق الضياع، هجر الآباء، واجتاز الجبال التي تصدّ الريح عنهم، صعد إلى قممها، ثم هبط إلى الوديان، في ذلك الزمان جفّت الكلمات المجنّحة القادمة من اللّامكان، وماتت اللغة، وأصبحت الكتابة حرفة لعديمي الموهبة، سار الجيل طويلًا في متاهات الوهم والعمى والخرافات. وصل إلى صحارٍ عديدة لا ترى فيها غير امتداد الكثبان. جرداء لا ماء فيها. لا غصن أخضر، لا ظلال. يسيرون كما يسير المرء في المنام متبّعين نداءً من الأوهام، ينهال في منتهى ذلك المدى، ثمّة بحار وشطآن، ثمّة ريح غاضبة، وسفنٌ تبحر في زرقة تمتدُّ إلى السماء، ثمّة أعاصير تدور وتغنّي، ومجهول يأخذهم إلى المجهول. علت في الجوّ صرخاتهم، وتلوّت أطرافهم، ابتلع الماء بعضهم ولم يصل إلى اليابسة غير جماجمهم وعظامهم. لا نايات تغنّي الريح، لا ريح تغنّي المدى. حينها. حينها أدركت أنّني طوال الوقت، في هذا الكابوس، أمام خيارين وحيدين: الأوّل أن أصبح شبيهًا بجميع الناس هنا، أملك وجههم وأشرب ممّا يشربونه، وأحيا بينهم بلا محن الاختلاف وعذاباته، والثاني أن أقتفي أثر ذاتي، أن أكون أمين، ممّا يعرضني لخطر العالم ورغبته في سحقي.

رأيت حزني ينهض. كانت الأكوان نائمة. لا النجوم منارة، وليس في الفضاء الشاسع إلّا خطاه. ورأيت أنّ ما أعيشه بغيابكِ لا يمكن أن يكون واقعًا، بل هو كذبة طويلة. كذبة مأساوية وتبعث على اليأس. بالقدر ذاته التي هي فيه مضحكة من شدّة حماقتها وتلفيقاتها وسذاجتها.

( أنا الذي من الذين يدلّلون يأسهم من العالم: ككلب حراسة..

أرمي له في بداية الليل لحم الضّحك.. وأنتظر

حتّى يشبع وينام

ثم أتسلّل إلى صدري: مثل اللصوص

وأخرجكِ هناك بكلّ هدوء، تحفةً من الأمل).

٧

العجز عجزان، التفريط بالأمر وقد أمكن، والسعي وراءه وقد فات…

حسن أوريد

ربيع قرطبة

٨

الجدران بيننا عالية، ولا أعرف كيف بدأت هذه المحنة وكيف ستنتهي. أنا أعتذر لكِ يا عزيزتي.. لقد علّمتكِ الدرس ثم طالبتُك بأن تخالفيه، وعلّمتكِ الكلام ثمّ تركت لكِ الأيام التي لا يمكنكِ التعبير عنها. أنا أكتب والقنابل تتساقط، والألغام تنفجر، لا طريق يقودني إليكِ، ولا مهرب عن الطريق المفروش بالخناجر والفخاخ. حتّى الشاعر الذي يكتب لك لم ينجُ، هو الذي كان يعرف كلّ شيء منذ البداية، أنا العبد. أنا العاجز، بعكازين تحت إبطيّ أعرج نحوكِ، ويتبعني الموت بأرجل عنزة سوداء، تتبع رأسي سكاكين القتلة وحراب العذّال ذات الرأسين، وأعرف أنّني رغم هذا، سأنجو لأكتب لكِ هذه المقامة التي تتلجلج في صدري، فلم أعد مالكًا لشيء سوى الرجاء ولعلّ هذا البوح أن يضمّد الجراح .

لا يوجد في مدينتنا الآن سوى الكلمات الرديئة، والناس الذين لم يموتوا بعد، وأنا ما زلت أعيش هنا وكلّ يوم أحاول النجاة ككلمة جيّدة. الجدران التي بيننا ترتفع أكثر والناس في الخارج نهشوا سيرتنا ومضغوها ثم شبعوا وناموا، وأنا أبحث عن الكلمات التي تركوها خلفهم محاولًا أن أصيغ منها رسالةً لكِ.

٩

أحبّكِ حتّى عندما تكبرين وتشيخين، وعندما تحاصرك الترهّلات والتجاعيد، ومهما كتبت عن جمالكِ فلا أمل لي على الإطلاق بالعودة إلى الماضي وإخبارك بحقيقة مشاعري حينها، فقط إن قمت بوصف خوفكِ وألمكِ وتردّدك وتفسير ابتسامتكِ الغامضة وعلاقتها بخسوف الأحزان من حولك. ستكون فرصتي حينها عظيمة للعودة هناك ولكن لفعل شيءٍ آخر: إرغامي على الكتابة عنكِ. أنا أحبّك أنت ولا شأن لي بالجسد الذي تسكنينه.

يربكني جمالك العادي تبهرني قدرته الهائلة على جعلك أجمل امرأة في الوجود . لستِ هالزي أو تايلر سويفت، ولا تمتلكين صوت سيّا ولا أديل، أنت بعيدة للغاية عن فتاة أحلامي، ولكن صدّقي إنّه إذا ما حدث واجتمعت كلّ الجميلات عند عتبة قلبي ومددن مفاتنهنّ وقلوبهنّ لي سأخبرهنّ بأسى أنّني أريدكِ وأحبّكِ أنتِ وحدكِ.

(لم أقع في حبك بل تعرضت لإصابةٍ مميتة به، إصابةٌ مباشرة بعثرت حصون القلب و أضرمت القصائد في أحشائي . أنا طَريحُ عِشقك يا هذه .. أنا مريضٌ بك وأكثر ما أخشاه في مرضي .. شِفائي).

١٠

آمنة تصاحب النجوم، إنّها أمّا أنجم ساقطة أو نذر ترعد في وجوهنا بالنبوءات، هناك من يُعبّئ الأجواء بالخوف، بالجنون، والريبة. والليل من العمق بحيث لا تصل الصرخات إلى السماء. الفرق الممزّقة تطفو في الداخل على شكل بقايا: صاحب المقتلة يبدو كأنّه الضحية؛ الصوت الذي لا يعرف صداه. يبدو أنّنا دومًا نأتي إلى هذا المكان. نعدّ خطانا كأنّ الغد يدعونا بجمع كفّه في الأفق، وإذا بنا نأتي بهذه الفسحة من الصمت، هذه التي لا تؤدّي إلى مكان، أريد أن أخبرها فيها وأخبر العالم بأنّني بخير ولكنّني لا أملك أيّة أدلة.

(أحتاج إلى إشارة منك،

إشارة تخبرني بأن كلّ هذا السواد سينجلي ولو بعد حين..

أحتاج أن تضع لي نقطة ضوء في نهاية هذا النفق الضيق والمظلم..

أن تدلني إلى زهرة غافية في هذا الحقل المحروق،

أن تُسمعني صوت قرقعة مفاتيح خلف هذه الأبواب الكئيبة الموصدة..

أحتاج يا الله لحافز صغير

كي أصمد).

كلّ ما أفعله هو الانشغال والابتعاد عنكِ ونسيانكِ، سلكت طرقًا متطرفًة من أجل ذلك، وآذيت كثيرًا من الناس، مرّة صرخت في أطفال الحي ووبّختهم بعد أن قالوا (نحبّك) تذكّرت أنّني أسرفت في قولها لكِ من دون أن أحصل على الجواب، كل الأدوية التي تعاطيتها، كل الكتب والأفلام التي حاولت أن أنساكِ وانا أتسلّى بها، وكل ما كان يحدث هو تكاثركِ وتعاظمكِ في قلبي. لكِ أسلوبكِ في الرفض ولي طريقتي في الندم لا ينقصنا الآن سوى التهوّر، واستجلاب إيقاع مكسور يليق بهذا الحب، هناك في مداراتك شاهدتُ كواكبًا صغيرة وأقمارًا ملوّنة ونجومًا مشتعلة، صادفت منها نجمة ناعسة تسرّح خصلة من خيط ضوءها، رأيت مذنبًا صغيرًا يلوّح لي، أتذكّر أنّني كنت عجوزًا عندما رأيتكِ في المرّة الأولى، في المرّة القادمة التي سأكتب فيها عنكِ، لن أنبّش عن طفولتك، ولن افتّش بقائمة أصدقائك ولن أستجوب صديقاتك عمّا تفعلينه وتقولينه وأنت بعيدة عنّي، سأواجهك بالأمر مباشرة وأقول: أثمّة كونٌ تخفينه عنّي؟

(أنظر إلى النجوم التي ترصّع الكون فيخيل لي أنني أحدق في عينيك..

لأن الحال كانت هكذا دائمًا بالنسبة لي :

أيّ ما يضمر الضوء لا بدّ و أن له علاقة بك،

و كل ما لا نهاية له

محاصر بك).

١١

بسم الله

حين تلتقط الشوارع خطواتي المتعثّرة، وتتبدّل عليّ الفصول، وحين تنعقد ألسنة الليل ويأفل نجمه وتلبسه المدينة، وعندما تنالني أفواه الغياب، وأصبح فريسة للوقت، ويأتي الفجر حاملًا اسمي نبوءةً خطرة، أكون فيها إشراقة المأساة على جبين العالم.

حين تمسي البيوت أقفاصًا رحبة، وتكون الشوارع أفاعيًا تلدغ الخطوات، وعندما يموت مغدورٌ واسم قاتله ينمو على لافتات الشوارع ونشرات الأخبار.

باسمكِ

حين أسير على الأرض حائرًا وعلى جبيني نجمة عشق، وفوق رأسي أدلّة على أنّنا الكائن نفسه.

باسمكِ وهو يمنح الليل خطورته، فتتفتّح فيه أبواب إيابٍ لأرواح مخطوفة، فينضجُ فيّ خوف الزوال، كما ينضج ورد الصباح في الحدائق، وتجيئ الساحرات حاملة كتابكِ، ليتوقّف على يديكِ الزمن.

باسم وجهك الجارح وعينيك السوداوين، وسمرة بشرتك وشمسها الساطعة حين يتثنّى منها الضوء ويهزّ قرارة الظلام وترتعد أشباحه، باسم الفراشات التي تحلّق حولك عندما تؤدين صلاتكِ وتقرأين الحمد والإخلاص.

باسمي وارث الجزع والمرض والوحدة، أحمل نهايتنا التي تحيّر الناس وأسألكِ . كم ميتة أحتاج يا آمنة حتّى أولدَ منكِ؟

***

أمين صباح كُبّة

 

وأنت تسافر بين الكلمات

طلبا لمتعة عابرة....أو قصة عاثرة

توخى الحذر

فتحتَ كل حرف قلبٌ ينزف

بين الفواصل جراحٌ لا تندمل

في جوف علامات الاستفهام

هزائمٌ...تنتفض

على ملمح النص دهشةٌ

اكبر من القصيد

من هوامش تبتلعُ لبَّ الحكاية

كيما يصابُ العابرون بوعكةِ ضمير

أو قلقٍ يفسدُ ترتيب الحواس

من أجل سهرة باذخة

أعدت سلفا لربطات عنق لماعة

لجلابيب تتنافسُ في القِصر والطول

وعطور تحمل تواقيع

الضفة الأخرى من الترف

لا تستعجل في القراءة

عل التلاوة تكون علاجا

لداء مزمن أصاب العبارات

فأصبحت عاجزة عن تبليغ الخطاب

ضمادا للغةٍ أثخنتها الجراحُ

وحروف جر.....لا تتوانى عن الجرجرة

مهما كانت المطباتُ سحيقة

ومهدئا لعلاماتِ تعجبٍ

ما عادت تقوى على الانتصاب

كم رخيصٌ جدا

أن يكون الأرق ثمنَ الهزيمة

والقلقُ نديما يجاذبك أطراف الهوان

كلما ارتفعت حرارتك

بادرك بعذرٍ يخفض حمى الخجل

بفيديو يرقيك من اضطرابات الحقيقة

وأدعيةٍ منتقاة بعناية

تبعدُ عفاريت الوقت ..ولو إلى حين

لتظل الجمجمة علبةً سوداء فارغة

همها متابعةُ الحلقات القادمة

من قصة الناس

اقتناعا بالمثل = إذا عمت هانت !

كلُّ عودٍ يابس النبرة لا يستهوينا

قد يداهمنا بنكزة ...وقد يعمينا

كلُّ كرامةٍ جفت على مقعد بالمقهى

لن تمنح اخضرارا

ولن يكون لها امتداد نحو الرصيف الآخر

حيث الانتظارُ يرتّب

وصفاتِ الزمن القادم

في قارورة نسيان يخبئها

ثم يلقيها في البحر عربونَ يأس

ما دام العلاج منعدما

والشفاء مستحيلا

فالحب لا يولد من تبغ المقاهي

ولا الكرامة تطلع من تطويحات

لا تتوقف على أبواب الملاهي

ولا الحرية تحيا في زيف الغضب

ونضالاتِ الأسماء المستعارة

على شاشة الفايسبوك

زادُ القبيلة خبزٌ معجونٌ بالدماء

ونحن نفرقعُ الخطبَ

في الدروب المغلقة للزجاج

ننشر الشعاراتِ في شوارعه

المكتظةِ بأبطال يغيّرون البروفايل

عند كل حدث ...بكلِّ جسارة

نستهزيء من عيون المخبرين

من أصدقائنا الأعداء

حلفائنا المخلصين المخادعين

هكذا يمضي النهارُ

يليه الليلُ وهو يصنّف الزهورَ

هذه حمراءُ للحب...الصفراءُ للموت

بينهما اخضرارٌ باهت ينحازُ للرمادي

حيث تفقد الحكاياتُ معانيها

بين برودة الازرار يموت الأبطال

يتوه الجمرُ عن ماواه

متّهمًا الألفية الثالثة

بإفساد الأخلاق والأطعمة

تسميم مفاجآت جميلة تحملها الأبراجُ

والحظُّ الهارب في أنفاق الوهم

ممتطيًا فرسَ الهوان

حاملا سيفَ الخيبة

وحصانُ طروادة وسط الميدان

ينتظرُ فرصةً سانحة ليحملنا جميعا

في رحلةٍ جميلة بين المآثر التاريخية

لأمجادنا الوهمية

***

 مالكة حبرشيد

 

فلتت منه الإجابات فجأة وهو يجرجره بحبل من الأسئلة البريئة، براءة الذئب من دم يوسف، نحو دوائر الحيرة والسراب. هو ابنه الذي لم يتخطَ عتبة ربيعه العاشر. هاديء، خجول. يحب كتاب القراءة والرياضيات والسباحة والفروسيّة. وصلاة العصر في المسجد القريب. لم تشغله أحاديث السياسة يوما. طريّ العود. مازال مذاق حليب أمه في حلقه.

- لماذا يقتلون الأطفال في حلب يا أبتي؟

وقع السؤال عليه كالصاعقة. بهت، كمن شُلّ لسانه.

ثم تأتأ كالمذهول بين أنياب الخطر:

- لا أدري، يا بنيّ.

- كيف لا تدري؟ ومن يدري إذن؟ ألا تقولون أن الكبار يعرفون كلّ شيء؟

- بلى.

- ربما، لأنهم يخافون منهم، أو يكرهونهم؟

- بلى.

- ألا تقولون – أنتم الكبار بأنّنا – نحن الأطفال – ملائكة، وفلذات الأكباد؟

- أجل يا بنيّ. أنتم مرايانا وعيوننا.

- وأطفال حلب؟

- وأطفال حلب أيضا.

و يلوذ الطفل ببرهة صمت. ارتسمت على وجهه معالم التعجب والحيرة. شتّان بين القول والفعل. أيصدق أباه الذي يتقن فن البلاغة العربية، أم يصدق بصره؟ مئات براميل النار والقنابل الحارقة تلقيها الأيدي الآثمة على رؤوس الأطفال في حلب وإدلب وحماة وووو، وهو يقول له بأنكم مرايانا وعيوننا؟ بينما حكّ الوالد رأسه كأنّه يستنهض فكرة نائمة بين شعيراته البيضاء، البالية.

- هل رأيتهم، يا أبتي، كيف يموتون؟

- من؟؟ آه،آه، عفوا، بني، تقصد أطفال حلب؟

- نعم.

- أعمى من لا يراهم.

- هل العالم أعمى؟

- لا ياولدي، كلهم يرون. لكنّهم صامتون.

- بل مجرمون. أليس كذلك؟

- بلى.

- متى يتوقف القصف عليهم؟

- لهم الله أطفال حلب، يا بنيّ. يرى كل شيء في السموات والأرض. وهو السميع البصير.

- هل هؤلاء بشر مثلنا؟

- من تقصد؟

- الذين يقتلون أطفال حلب بطائراتهم وقنابلهم وبراملهم وصواريخهم.

- نعم.

- ولهم قلوب وعيون مثلنا؟

- نعم.

- ولهم أطفال؟

- بعضهم.

- ربما هم كائنات من كوكب آخر، يكرهون الأطفال.

و بسط الصمت جناحيه بينهما. كل في شأنه غارق. ذبلت جذوة الكلام. شعر الطفل المطعون حتى العظم، بأن أباه، قد تحوّل إلى جذع شجرة هرمة تتبوّل عليها الكلاب الضالة كل الكلام الذي تعلّمه في مدرسته لا معنى له. لقنتهم معلمة اللغة العربية والتاريخ أناشيد الوحدة والحب والسلام.

- ( بلاد العرب أوطاني، من مراكش إلى الشام )

وقالت لهم: أن للعرب جامعة، توحد كلمتهم. وللمسلمين منظمة شعارها، الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وللإنسانية مجلس أمن، ومنظمة متحدة تدافع عن المظلومين، وترد المعتدين. نسيت أن تعلّمهم كيف يحتمون من نيران الإخوة والأعداء. لم تلقنهم سورة يوسف الصديق. لم تقل لهم أن أطفال الوطن الكبير يولدون في الصباح، ليُقتلوا عند الظهيرة.

ما أبعد الكلام عن أطفال حلب؟ سماؤها أزيز وهدير ودخان وطائرات عمياء، مجنونة. ومطرها صواريخ وبراميل معدة للتفجير وقنابل وجحيم.

اكتشف الأب بأنّ ابنه كبُر قبل الأوان. كهل وهو صبيّ. أسئلته الجامحة أكبر من عمره. حاول تغيير مجرى الحديث:

- الامتحانات قربت، يا بنيّ، هل راجعت دروسك جيّدا.

- وأطفال حلب؟ هل راجعوا دروسهم؟

- ممكن....

- هل عندهم مدارس مثلنا؟

- ممكن...

- هل عندهم معلمات ومعلمون مثلنا؟

- ممكن......

- هل عندهم كهرباء ووووو؟

لا تكاد أسئلته تنفد. كأنّه يغرف من بحر. أمّا الأب المعلق من حلقومه، فكان كمن ينحت من صخر غرانيتيّ.

طوقته أسئلة ابنه من كل زاوية. سرت في عروقه رعشة المحموم في جوّ قائظ. هل يصارحه، أنّ السياسة فعل نتن. وأنّها هي سبب كل الحروب التي تقتل الأطفال والأبرياء والنساء. الحرب يا بنيّ تسرق النوم من عيون الأطفال. الحرب لا ملة لها. طعمها مرّ، مرّ..

تمنى في قرارة نفسه، أن يسكت الطفل. فهو يؤجج همّه، ويزجي لهيب ألمه.

ردد في سرّه:

- آه، لو تنام يا ولدي، وتريح قلبي من أوجاع الأسئلة.

لكنّ الطفل مازال – على ما يبدو – في أول الطريق.

-2-

من سينقذه من عذابات السؤال تلو السؤال. حلب تحترق بنيران الأبناء والأعداء. وهو يحترق بنيران الأسئلة والذل والهوان والخذلان. كأنّ أطفال حلب من كوكب آخر غير كوكب الأرض. كأنّهم أعداء الإنسانية. هل هم من لحم ودم وعظم أم هياكل بلا

روح؟ من ورق الكرتون؟ إنهم بلا ماء، ولا أرز، ولا خبز. ولا كهرباء، ولا أمن. سرقوا لعبهم وأراجيحهم.  هو المواطن المقهور، الغارق في يوميات البحث عن أكياس الحليب لثمانية أفواه، لم تشبع من خبز الوطن. ما أوسع الوطن، وما أخصب تربته. لكن الخبز قليل، والماء شحيح. وهل لشعب لا يزرع، ولا يحصد، ولا ينسج، كرامة وعزة؟ أيقول لابنه الحقيقة؟ كل الحقيقة، بأن أطفال حلب يُقتلون بأيدينا. طائرات الأعداء وسفنهم وبوارجهم، من حديد أرضنا. طيرانها وإبحارها من بترولنا وغازنا. أيكشف له فضائح خير أمة أُخرجت للناس. لا مناص. سيكشف الزمن ما خبأته الأنفس المعتلة. أيفصح له عن حجم المرارة التي تتربع على القلب؟ إن بقيّ له قلب. كان حلمه أن يحيا مصون الوجه في وطن لا يٌظلم فيه حجر، ولا تعثر فيه عنزة بجبال اليمن أو الأوراس أو الأطلس أو الجولان. ولا يغرق فيه مركب بنهر النيل أو الفرات أو دجلة. ماذا يقول؟ المصائب كثيرة، قديمة. متجذّرة. منذ عليّ ومعاوية.

لا يريد أن ينكأ الجراح. أمم تصعد نحو العلا، وصعودنا نحن نحو الأسفل.

أيقول له:

بأننا عاجزون عن مجاراة السلحفاة، لأننا نسير وأعيننا معلقة إلى الخلف. نحن، يا بنيّ، عمي، بكم، صمّ، خونة، لا نستحق الحياة. كائنات زائدة، فضلة، على الأرض.

و أيقظه ابنه من غفوته تلك.. حكّ عينه اليمنى. برقت في مآقيه بقايا دموع. حوقل واستغفر ولعن الشيطان.

- أكنت تبكي يا أبتي؟

- معاذ الله الرجال لا يبكون. البكاء للنسوة.

- وأين الرجال يا أبتي؟

- هم في كل مكان.

- أين رجالنا نحن؟

- في بيوتهم، مع أطفالهم.

- ولماذا لا يحمون أطفال حلب؟

- سيحمونهم إن شاء الله.

- متى، متى؟

- عن قريب.

- هه، قل لي:

ـ سيحمون قبورهم، إن وُجدت، وفي كل عام يحيون ذكراهم.

نظر صوب الساعة الحائطية، وقال:

- انتصف الليل يا بنيّ. ألا تنام؟

- وهل نام أطفال حلب، لأنام؟

أخرسه الألم. كلمات ابنه خنجر مسموم. حبل مشنقة شديد الفتل. كل المنافذ سُدّت في وجهه. ما السبيل إلى النجاة؟ هل يدعي النعاس، وينام؟ هل يتمارض، ويدلف إلى المرحاض، ولا يغادره حتى الصباح؟ أم يخرج من البيت، ويهيم على وجهه حتى الضحى؟ ولا ضير إن عضّته كلاب الحيّ. فإنّ عضاتها أرحم من مطارق ابنه. أويقبض الله روحه. أليس الموت راحة من الخزي والعار؟

- ما بك يا أبتي ساكت لا تجيب؟

أيقول له:

- إنّ السكوت في مثل حالته من ذهب. بماذا يجيبه؟

عاد كفارس أعزل. لا سلاح، لا درع يقيه من سهام ابنه.

و وقع السؤال عليه تارة أخرى كالصاعقة.

- متى تنتهي الحرب في حلب؟

- عن قريب.

- ومن أخبرك بذلك؟

- لكل حرب نهاية.

- عندما يموت كل أطفال حلب. أليس كذلك؟

كاد يغص من حجم السؤال. ابتلع ريقه، كمن أنقذته يد خفية من سقطة مميتة في هوة سحيقة

- سيحميهم الله من عباده الأشرار.

- هل الله موجود في حلب؟

- أستغفر الله. إنّ الله موجود في كل مكان، يعلم ما نسّر به وما نجهر.

- إذن سيحميهم الله يا أبتي.

- يقول للشيء كن فيكون.

ابتسم الطفل ابتسامة عريضة. حمد الأب الله في سرّه. هو يعلم أنّ بذكر الله تطمئنّ القلوب وتعمر الأنفس إيمانا ويقينا.

- بدت لي فكرة يا أبتي.

- ما هي؟

- أريد الذهاب إلى حلب.

- الطريق إلى حلب بعيدة. وماذا ستفعل في حلب؟

- أريد أن أحمل لأطفال حلب لعبي ومحفظتي وكراريس وأقلام.

- نعم الفكرة يا بنيّ. لكن....

- لكن ماذا؟

- نرسلها بواسطة الطرد أفضل.

أنهكته الأسئلة. انقضى من الليل ثلثاه. وقد بدأ الفجر ينشر خيوطه البيضاء من شرفات الكون. بدا الطفل متحفزا للفكرة.

قال بإصرار وعزيمة:

- غدا نرسل الطرد يا أبتي.

- غدا، يوم جمعة.

- إذن بعد غد.

- نعم.

و آوى الطفل إلى فراشه. بينا بقي الأب يجتر آلامه في صمت وحيرة. ينتظر رحيل آخر قوافل الليل. لقد كان أطول ليل في حياته، كأنّ نجومه جمال تمردت على الحادي.

(تمت)

***

قصة قصيرة

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

 

 

فِي يَوّْمِ شِّتَاءٍ البَرْدُ فِيْهِ يَقّْرِصُ الأَعّْضَاءْ.

رَأَيتُ حِمَاري وَاقِفَاً بِجِنّْبِ صَخّْرَةٍ صَمَّاءْ.

حَزيْنَاً كَئيْبَاً قَدّْ أَرّْهَقَهُ البُكَاءْ.

قُلّْتُ:

يَا حِمَارَنا العَزيْزِ مَا الخَطّْبُ ولِمَ ذَا العِوَاءْ؟.

قَالَ حِمَاري، بنَبّْرَةِ مُنكَسِرٍ فِي الهَيّْجَاءْ:-

يَا سَيّدَنَا يَا (ابْنَ سُنّْبَهْ)، لَقَدّْ طَفَحَ الكَيّْلُ واشّْتَدَّ البَلاءْ.

قُلْتُ:

ما الخَبَر؟.. هلّْ مَاتَ أَحَدُ الزُعَمَاءْ ؟.

هَلّْ احتَرَقَ الرَّئيسُ، ولَمّْ تُدركّْهُ شُرطَةُ الإِطّْفَاءْ ؟.

أَمّْ مَاتَ أَحَدُ السِّياسِييّْنَ، حَتّى نُقيْمَ عَليّْهِ العَزَاءْ؟.

أَمّْ انتَحَرَ أَحَدُ الفَاسِدينَ ونَزَلَ بهِ القَضَاءْ؟.

قالَ حِمَارُنَا المُبَجَّلُ:-

لا.. يَا (ابنَ سُنّْبَهْ)، لقَدّْ كُنّْتُ بَليْداً مِنَ البُلَدَاءْ.

وكُنّْتُ أَحْسَبُ هَؤُلاءِ السُّرَاقِ مِنَ الأَحِبَّاءِ النُجَبَاءْ.

وَ أَنَّهُمْ مُخّْلِصِيّْنَ وتَرْعَاهُمّ إِرَادَةُ السَمّْاءْ.

لقَدّْ سَرَقُوا أَمّْوالَ الشَّعّْبِ سَرِقَةً شَنّْعَاءْ.

يَحّْسَبوْنَ أَنَّهُم  حَرَرُونَا مِنَ الطُّغّْمَةِ الطَّغْمَاءْ.

كَلّا.. إِنَّهُم بَاعُونَا بَيّْعَ الأَدّْعِيَاءْ.

سَرَقُونَا.. وسَرِقَاتُهُمّْ أَوّْجَعَتّْ كُلَّ الفُقرَاءِ والأَغنيَاءْ.

سَرَقُونَا.. وسَرِقَاتُهُمّْ أَبّْكَتّْ حَتّى مَلائِكَةَ السَّمَاءْ.

وَيّْلٌ لَهُمّْ.. ثُمَّ وَيّْلٌ لَهُمّْ، مِنْ غَضَبِ رَبِّ الخِلائِقِ جَمّْعَاءْ.

قُلّْتُ يَا حِمَارَنَا المُفَدّْى:-

لا تَثّْريْبَ عَليْكَ.. لَقَدّْ أَبْكَيّْتَ عَيْنَيَّ دِمَاءْ !.

فَأَنّْتَ تُحِبُّ العِرَاقَ وشَعّْبَهُ.. حُبَّ الأُباةِ الشُرفَاءْ.

وَهؤُلاءِ الفَاسِدونَ.. للعِراقِ أَعدَاءٌ أَلِدّْاءْ.

حَفِظَكَ اللهُ يَا حِمَارَنَا النَّبيّْهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ ولأْوَاءْ.

وَ دُمّْتَ يَا عَزيْزِي.. للعِراقِ وشَعّْبِهِ مِنْ أَوْفَى الأَوّْفِيَاءْ.

خِتَامَاً..

دَعّْنِي أُقَبِلُ خَدَّيْكَ وأَكونُ لَكَ فِدَاءْ. دَعّْنِي أُقَبِلُ خَدَّيْكَ وأَكونُ لَكَ فِدَاءْ.

***

مُحَمَّد جَواد سُنّْبَهْ

يــا دُرَّة القـلـبِ إنَّ القـلـبَ يـهـواكِ

وإنـني أنـتـشي شـوقــا لــرؤيـــاكِ

*

جــمـالُـكِ الآسِر.. الأخَّـاذُ قـيَّـدنـي

فصرتُ من فرطِهِ ذكرى.. مُعنَّاكِ

*

يـا عذبةَ الصوتِ، يا لحنا يجاذبني

حبــلَ المـودةِ .. تُحـييني حـكايـاكِ

*

سبحـانَ مَن صوَّرَ الأقـمارَ باسقـةً

مِـن لـونها الـنَّيِّـر الوضَّـاءِ سـوَّاكِ!

*

يـا حُـلـوةَ الـقَــدِّ يـا نـبعـاً أنـاظِـرُهُ

هُـزِّي إليَّ بجِـذعٍ.. مـن عَـطايـاكِ

*

يـا لـذَّةَ العُـمـرِ، يـا طيفـاً يُلازمُني،

متى أُروِّي الحَشا من ضَوعِ حنَّاكِ؟

*

عَشِقتُـكِ مُذ ثمـانٍ قـد مضينَ، فـمـا

عَرفتُ للعشق معنىً، دونَ معـنـاكِ

*

وهِمـتُ فـيـكِ هُيـامـاً لا حُـدودَ لـــهُ

وذُقتُ طَعمَ الهَوى من فيض جدواكِ

*

لا تحسبي أنـني أقضي الحـياة هوى

لـكـنمـا بـغيـتي .. أحـظـى بـلـقـيـاكِ

*

معنايَ فلتَهـصُري نَحوي بغُصـنِ

جنًى، فـإنني ساغِبٌ بـالحُبِّ نـاداكِ

*

قَــد يَـستَحيـلُ زَمَـانـي كُــلُّـهُ أرَقـًـا،

يَـغتـالُـنـي كُــلُّ شَيءٍ فــيِـه .. إلّاكِ

*

لـصيقة الـرُّوحِ جُودي، إنَّني ظَمِئٌ

تـرَفَّـقـي؛ وارْحَـمي قَـلبَـاً تَـرَجَّــاكِ

*

أضناهُ جَمرُ الـهوى، والبُعـدُ حَرَّقَهُ

فـأنـتِ مُنيَتُـهُ .. رُحمـاكِ.. رُحمـاكِ

***

د. ميثاق حسن الصالحي

 

كنا صغارا وكان الحب هاجسنا

حتى كبرنا فضاع الحب والحسُّ

*

فلم يكو اليوم مثل الأمس يحملنا

شوقاً لما كان فيه الشوق والأمسُ

*

كنا صغارا .. صغارَ العمر قالبنا

و قلبنا يزدهي بالحب والنَّفسُ

*

فما بلغنا من الأحلام منيتنا

و قد تنامى على إراقنا اليأسُ

*

عشنا على الحب .. لم يدرك براءتَنا

شيءٌ سوى الصَّمت والإرباك والهمسُ

*

حتى كبرنا ؛ ولم تكبر هواجسنا

مازالت الروح في أحلامها ترسو

*

مازال في القلب طفل من طفولتنا

يلامسُ الجمرَ ما يؤذي له اللَّمسُ !!!

***

رعدالدخيلي

 

 

قصتان قصيرتان جدا

الشجرة

هبت ريح قوية فقلعت شجرة التين التي  كانت باسقة في الفناء الخارجي لدار العم منصور فحزن لذلك كثيرا لكن جاره يوسف همس في اذنه قائلا  البارحة رايت احدهم جاثما بين اغصان تينتكم، يبغي القفز الى سطح داركم لعله كان لصا او لا اعرف بماذا انعته.  تفكر العم منصور للحظات كمن لا يعرف ماذا يقول ومن ثم قال بصوت تشوبه حشرجة حزينة شكرا لك جاري العزيز يوسف لاخباري بذلك والا لكنت قد مت حزنا وكمدا على تينتي الحبيبة التي اقتلعتها الرياح .

2 - حديقة الحلم

اقتربت من بوابة حديقة حلمي فدخلت وتبعني ظلي اطلقت الذئاب والثعالب نارا كثيفا باتجاهي، فهبت هربت ونجيت ولكن ... لكن اطلاقتين كريهتين اصابتا ظلي .

***

سالم الياس مدالو

وقصص أخرى قصيرة جدّا

رقيق أبيض

الهواء بارد والسّماء ترشح قليلا قليلا حين خرج من الحانة واللّيل في منتصفه. مشى مترنّحا في ذلك الزّقاق الطّويل الخالي، يتبعه وقع قدمين.. توجّس خيفة لكنّه ملك نفسه والتفت فجأة...

وشملها بنظرة اعجاب لم تلبث أن تحوّلت إلى نظرة ذئب.. وسمعها تقول بصوت مرتجف يتناقض مع سطوة جمالها الصّارخ:

- هلّا آويتَني اللّيلة؟

**

وراء الظّل

انحنت تضع الصّينية على الأرض فألقى نظرة مهملة على ما فيها وزفر. تأمّلت وجهه المكدود وجسمه المنهك...

- هلّا أرحت نفسك؟

- راحتي في القبر!

ويسكت قليلا قبل أن يردف في مرارة:

- وولدك؟ أليس هو الأولى بإعانتي؟

- ادعُ له بالهداية.

- مذ شبّ وأنا منه في كرب.

- لا تقسُ عليه.

- ما أفسده إلّا أنتِ.. قومي قبّحك الله!

**

محلّك.. سِر

كعادته ما إن يفتح بابه صباحا حتّى يرمي به الغضب من شاهق، فيرفع صوته بالسّبِّ والشّتم غير مفرّق بين السّماء وما فيها والأرض وما عليها.. ويصادف أن يمرّ جيرانه فيصيح ممزّقا شعره:

"حُرْمِتْ العِيشَه مْعَاكُمْ..."

ويرفع رأسه إلى جداره الأبيض الصّقيل.. يلتقط فحمة ويكتب بخطّه الرّديء:

"لَا تَرْحِمْ وَلدِين مِنْ إيحُطّ الزِّبله هْنَا! "

**

يوم من أيّام المُسَوِّدَة

جثت على ركبتيها في بزّة برتقاليّة وسكّين ذلك العملاق الواقف وراءها على رقبتها. أدارت عينيها الذّاهلتين: صحراء ومصوّر محترف وكتيبة بِلِحى كثّة.. وعندما بدأ التّصوير ورأتهم يتلثّمون أدركت أنّ نهايتها وشيكة...

وأحسّت بضغط السّكين فأغمضت عينيها.. فجأة ارتدّ الذّبّاح إلى الوراء ساقطا كصخرة.. ثمّ اشتعل الجوّ بطلقات الرّصاص...

"أنتِ بخير؟"

***

حسن سالمي

 

عندما كنتُ صغيرًا

كنتُ أمرّ بجانب مقبرةٍ

أثناء ذهابي الى المدرسة

أيُّ حسدٍ كنتُ أوجههُ الموتى؛

لأنَّ أقدامَهم لم تعدْ تتعبُ من السّير.

كيف كانوا..

سألتُ شحرورًا على الطريق.

كانَ اليأسُ جالسًا على الطريق، هكذا..

خطفتُ أُغنيةً منْ فمهِ،

ومضيْتُ...

قريباً سأموتُ.

*

آهٍ ، أيُّها الملاكُ الطليقُ،

يا خنجرًا ناعمًا في قلبِ الوضوح،

تعالَ، و انظرْ...

ها هو الدمُ يسيلُ في الشوارع.

هذا دمي يسيلُ في الشوارع .

يخرّ منْ بين أصابعي

مثلَ محراثٍ يطعنُ الأرض.

يا لَها منْ حماقةٍ أنْ نثقَ بالعُشب

ويا لَحماقتِنا أيضا بأنْ لا نثق.

ما هذا الوجودُ إلّا كتلةُ أفاعٍ اشتبكت.

*

في بلدي

جميعُهم كانوا يموتون لأجلِ الله.

بعضُهم ماتَ لأجلِ اللهِ جوعًا،

والبعضُ ماتَ لأجلِ اللهِ قتلًا.

في بلدي جميعُهم يتنافسونَ على الله.

إلا أنا..

عندما رأيتُ اللهَ مزدحمًا بكلِّ هؤلاءِ الموتى

حملتُ قبري على كتفي،

وغادرتُ..

رُحْتُ بعيدًا، طائرًا خلفَ مسارح الغيوم

رحتُ أبحثُ عنها.. عدتُ أبحثُ عني.

تلك الجنةُ الضبابيةُ - المشوّشةُ

أبدعَها فنانٌ بوهيميّ.

*

اهٍ أيُّها الموتُ، يا مليكي،

امنحْني السلامَ.

عندما أنظرُ حولي ولا أجدُ منْ إلهٍ لي، غيرَ العدم

امنحْني السلام...

إسحبْني الى عالمِك، كي أعودَ صغيرًا.

عندما كنتُ صغيرًا، كانَ الإلهُ فكرةً،

فتحوَّلَ إلى كاتم ..

وها هو الآن كتلةٌ منَ الجثث

***

ضرغام عباس

 

اعتقد انني كبرت

لم تعد لي تلك الشهية المفرطة

للكتابة عن الحب

افكاري صارت كحقل مر عليه

الصيف

ثم الخريف..

.و شتاؤه الجاف

لم يعد ينتظر الربيع

لم اعد اتدارك

صمتي ..

باغنية عشق

شاهقة

و لم يعد نبضي يشير الى

اسم من الاسماء ..

اكتفيت بقلم حبر  اسود

و رميت كل الأقلام

الملونة في

النهر

لم تعد يداي  تمتد

الى مساحيق

التجميل

و لا اخجل من الخروج

بوجه شاحب و شعر مبعثر

لا ادري ربما كبرت ..

بالامس ذهبت في زيارة

لصديقي  البحر

رايته عجوزا بلحية

بيضاء

جلست اتقاسم معه

اوجاع  المفاصل

و ضغط الدم المرتفع

ووعدته بان اجلب له معي  في

المرة القادمة عكازة

و بعض الادوية

المسكنه

ربما كبرت

حقيقة لست ادري

و لا يمكن ان اجزم

لم صرت

ارى كل الموجودات

متعبة مثلي

و تعاني من اسقامها

ففي عمق الليل

اسمع انين  النجوم

تشكو من

طول  ساعات

الوقوف في

السماء

بلا جدار تستند اليه

حين تتعب..

سمعتها جيدا حين قالت

انها تحتاج

الى ان تطفئ نورها و تغمض

عيونها

و تغط في نوم

عميق..

دون ان تخشى من السقوط

ربما كبرت.. ربما   انني

اعاني من الشيخوخة

المبكرة

لا ادري

منذ فترة ليست ببعيدة

نسيت ان جدتي متوفية من

عشر سنوات

و كنت على وشك الذهاب

لزيارتها ..

و لكن ما حدث

اليوم جعلني

اتأكد انني فعلا

كبرت..

حين  نسيت اين وضعت

مفتاح بيتي

و هذا ليس بأمر غريب

فهو شائع الحدوث

معي

و ليس غريبا ايضا

ان ابحث عنه في الثلاجة

لطالما بحثت فيها عن اشيائي

الضائعة

و لكن

الاكثر غرابة من كل هذا

ان اجد قلبي

المتجمد من البرد

مازال ينبض

داخل  الثلاجة

***

بقلم: وفاء كريم

 

ما أبهى الرحلةَ

حين أرى الشجرَ يلوِّح أنهُ ذاهبٌ الى مدينتكِ ..

صرتُ أطمئِنُّ

مثل حقلٍ تصافحُهُ الريح على مهلٍ ..

صرتُ أجسُّ بحواسّي ما لا تصِله المسافة

وما لا يفتحهُ الهواء مِن رسائل النظرِ العديدة ..

في الصباحِ تهِبين حياةً جديدةً للنافذةِ

يستيقظُ عصفورٌ في حديقتِنا

يُغرِّدُ قريبًا منّي، في حكمةِ العصافيرِ التي تفتحُ بعينِها

ضوءَ الشمسِ والأغاني ..

يُغرِّدُ  بخجلٍ

ويضوعُ صوتُهُ هادئًا مثل قطرةِ ماءٍ تُصحّي ياسمينةً مِنّ نومِها.

قريةٌ تنبتُ في حقلِ رمّانٍ

بينما تُعجبكِ فاكهةٌ في الحديقةِ المجاورة ..

قريةٌ، سقفُها يكاتِفُ الغيم

وأرضُها هوىً يجمعُهُ جناحُ الربيعِ المسافرِ

ما زال يسكنُ داخلي، قرويًّا،

يحبُّ أرضهُ، ويتبعُ الحنينَ الذي يجرِّدهُ  ..

قرويٌ، يهمي كل صبحٍ مع السواقي

ويُشارِكُ ما في الأرضِ من شوقٍ ومن زرعِ.

يُغرِيني الآن هذا الطير، ويُعلِّمُني،

ألّا أحومَ بعيدًا عن بقعةِ الضوء،

حيثُ غيابكِ المترسّبُ،

يكتنفُ الأملَ ويبعثُني مِنّ جديد

***

علي الشلال

 

ظل الصديقان شفة الجمل وأُذن الحمار يتمنيان أن تتغيّر الاحوال وتتبدّل الاعمال، في شارعهما الخامل الصامت، إلى أن ظهرت تلك الحورية الفاتنة تتمايل بقدّها الميّاس، وجسدها الحسّاس، فتبهر الحجر قبل البشر، وتمضي في طريقها غير عابئة بما تتركه وراءها من آهات وحسرات.

رفع شفة الجمل رأسه لأول مرة منذ سنوات، ليتساءل:

-ما هذا؟

فتأوه أذن الحمار قائلًا:

-أنا في حلم أم في علم.

ابتسم الاثنان، لأول مرّة بعد لقائهما في شارعهما ذاك، وكادت عينا كل منهما أن ترقص، ناسية ما مرّ عليهما من لحظات صمت لا تنطق ولا تعرف للنطق مسلًكا. وأطلت الاحلام من عيني الصديقين تجذب كلًا منهما إلى ناحيتها وصوبها، وكان لا بدّ لهما من الافتراق وكل منهما يُضمر أكثر مما يصرح، وفي خياله أكثر من أمل.

ركض الاثنان كلٌ صوبَ بيته.. دارا ولفّا في شوارع مدينتهما.. لفّا ولفّا.. إلى أن جرى كلّ منهما في الاتجاه المتمنّى، وكان أن وصل الاثنان في ذروة المطاف، إلى باب واحد.. غابت وراءه تلكم الجميلة الفاتنة.

عندها، في تلك اللحظة الحائرة، أراد شفة الجمل أن يتخلّص من الموقف المحرج قليلًا فتساءل: ما الذي أتى بك إلى هنا، ليجد صديقه يطرح عليه نفس السؤال.

افترق الصديقان يومًا وليلتين، دون أن يسأل أحدهما عن خدينه، وكان أن قرّرا بعد انتهاء تلك الفترة من الغياب والحلم، أن يخرج كلّ منهما من بيته على حدة.. وخرج كل من الصديقين من بيته وهو يتلّفت يَمنة ويَسرة، وعندما يتأكد من خلوّ الشارع، ينطلق ليتوقف في النهاية قُبالة ذلك الباب الساحر الخلّاب. توقّف الاثنان.. كلّ يحدّق في عيني الآخر، ولا يتقدّم، وكان لا بدّ لهما من كلمة فقال كلّ منهما في الآن ذاته: هي لي لن تكون لأي من بني البشر سواي.

ما إن نطق الاثنان بهذه الجملة حتى اشرأب كلٌّ منهما بعنقه تجاه صديقه القديم.. وراح يقترب منه دافعًا صدره بصدر قرينه.. بقي الاثنان يتضاربان بالصدر إلى أن وقع أُذن الحمار على الارض، فما كان منه إلا أن تناول خشبة وقعت قريبة من يده ورمى بها قاذفًا إياها باتجاه خصمه. انحرف شفة الجمل لتخطئه الخشبة وتشقلب في الهواء ضاربًا.. ضارِبَه بقدمه، تلقّى أُذن الحمار الضربة بصلابة ليجد نفسه يتشقلب بقوة أكبر وليوجّه ضربةً أعنف إلى خصمه العنيد. عندها بدا للاثنين أنه لن يكون بإمكان أحدهما أن يهزم الآخر، فتوقفا عن المصادمة.

-لن تكون لك. قال شفة الجمل.

-ستكون لي.. قال أُذن الحمار بتصميم وتابع ..بأي حق تريدها أن تكون لك.

عندها بات واضحًا وقد ادعى كل من الصديقين أنه أحق بتلك الجميلة الفاتنة، وأبدى كل ما أبداه من الشجاعة غير المعهودة، أن كلًا منهما مُصِّر على أن تكون له، فماذا سيفعلان؟ هل سيلجآن لإجراء القُرعة؟ أم سيتنافسان عليها ضمن مسابقة للخيل، كما فعل الاجداد في مواقف تاريخية سابقة؟ ماذا عليهما أن يفعلا؟ مضت الأيام، الاسابيع، الشهور والسنين، إلى أن عثرا على الحل.. لماذا لا يُحاول كلٌّ منهما أن يتقرب منها؟ ومَن ينل حظوتها.. تكون له.

هكذا ابتدأت معركة المنافسة الحقيقية بين الصديقين القديمين، وكان كلّ منهما يتحوّل في لحظة ما إلى خصم يريد الموت لمن قُبالته، وتعقّدت المنافسة أكثر خاصة عندما برع شفة الجمل في التسلّق على الحيطان رغبة منه في الوصول إليها، إلى تلك الجميلة، وفي المقابل عندما أتقن أُذن الحمار العزف على آلة العود، وتمضي السنوات وكلٌّ من المتنافسين يبذل المجهودَ المضاعف ليحظى بمُفجّرة حلمه الجميل، دون أن تظهر تلك الجميلة الفاتنة مرة أخرى.

عندما يئس الاثنان من اللقاء بها، بجميلتيهما، أخذا بممارسة ما تعلّماه للحظوة بمودتها، وراحا يمارسان ما تعلّماه وبرعا فيه.. شفة الجمل أخذ يُمارس العاب الخفّة والقفز، واأُذن الحمار شرع بممارس العزف، خلال فترة قصيرة تدفق إليهما المعجبون من كل حدب وصوب، وتحوّل الشارع الخامل.. تحوّل مع مضي الوقت.. ورويدًا رويدًا.. إلى شارع بالمسرّات حافل، وكان مَن يعرفون ذاك الصديقين الخاملين يسالونهما عن سبب تحوّلهما الايجابي ذاك، فينظر كلٌّ منهما إلى الآخر أولًا إلى مُحدثهما ثانيًا لينطقا بصوت واحد:" لن نكشف لك عن السر". وكانا يُغمضان عيونهما.. ليريا تلك الجميلة الفاتنة قادمةً.. من بعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

يمكن القول إنه نسيها، تماما، ولم يعد يتذكرها إلا أحيانا قليلة، في الصباح عندما يقف أمام مرآة الحمام يدعك أسنانه بالفرشاة ويقول لنفسه:" ادعك أسنانك جيدا، ربما تتصل وتأتي اليك فنجلس صامتين نحدق ببعضنا البعض، تتشابك أيادينا بعصبية ولهفة ، وفي غمضة عين قد نندفع بشوق جارف نتبادل القبل". يخاطبها ربما تسمعه:" بالعذوبة نفسها تحبين وتذبحين، في صمت ورقة من دون كلام". ربما تتصل، ومع أنه ينساها فعليا، إلا أنه حين يتلقى مكالمة هاتفية ليست منها يجتهد أن يختصر الكلام وفي خاطره : أنه لا ينبغي أن يكون الخط مشغولا. ربما تتصل. يفتح يفتح باب الشقة ويهبط الدرج، يقول لها :"صارت الدنيا ملونة منذ أن رأيتك ثم أمست مشاهدها أبيض وأسود، الماضي كله، والآن كله، وغدا كله، مدى رمادي مفتوح لطيور بلا أجنحة، ولو أنك كنت قد سددت إلى قلب فارغ، لكنه عامر بك، فمن منا – أنا أم أنت- أسالت يداك دمه؟. يجلس إلى مكتبه في العمل. ربما تتصل. نسيها بالطبع، وإن كانت ترد على خاطره من حين لآخر، إذا غادر البيت في مشوار ينتقي ملابسه بعناية، يرتدي أفضل ما عنده، يلمع حذاءه. ربما يصادفها وهو في الطريق. "سأبقى احبك بكل قوة حضوري في الدنيا، وكل قوة غيابي إذا لم أكن في الدنيا". لكنه ينساها بالطبع، وإن كانت تفاجئه أحيانا واقفة أمام عينيه بوجودها المشع. يحجز وجبة من المطعم ويتردد قليلا، ثم يقرر أن يطلب وجبتين. ربما تتصل فأقول لها لماذا لا تأتين الآن نتناول الغداء ؟. تأتي ويسرح في صوتها الذي يشبه قيثارة من الجنة. يقول لها " لا أحزن على كل ما كان ، أحزن على كل ما لن يكون". لكنه ينساها. هذا مؤكد. و مع ذلك فإنه حين يرقد للنوم يترك المحمول قريبا من رأسه. يقول لنفسه من يدري؟ ربما تتصل فيكون جرس المحمول مسموعا، فإذا اتصلت سأقول لها أمسيت أمد يدي إلى النور فلا تقبضان إلا على الفراغ، وكانت ألوانك تخفق في العشب والسماء، وسوف تلزم الصمت كعادتها، نعم إنني أعرفها. ستلزم الصمت، لأنها لم تعرف بعد أنني أنساها. أقول لها:" ها نحن عند مفترق الطريق، يمعن كل منا النظر في الآخر، طويلا وببطء، ننفصل عن روحينا، مثلما تنفصل الوردة والغصن، ينفصلان ويبقى عطرها فيه، وفيها دمه". يستولي عليه النعاس، يهمس أنه ينساها، ينساها.. لكن.. ربما.. ربما ماذا؟

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

هل يُرتجى العطرُ مِن وردٍ تُصنِّعُهُ

أيدٍ تَفنَّنُ إبداعًا وإتقانا؟!

*

أو يُرتَجى الخيرُ مِمَّنْ خيرُهُ عَدَمٌ

وإنْ تهادى بزيّ السّحرِ مُزدانا؟!

*

بعضُ القلوبِ بحارٌ موجُها عَكِرٌ

يعمّها اللّوثُ أعماقًا وشطآنا

*

وبعضُها صَخبتْ أمواجُها وصَفَتْ

والحبُّ يسكُنُها دُرًّا ومرجانا

*

والمرءُ يُكشَفُ بالأعمالِ مَعدِنُهُ

وليس بالقولِ ما استخفى وما بانا

*

إنّ النّوايا هي الأفعالُ سيمتُهُا

أمّا اللسانُ فقد يجترُّ بُهتانا

*

لا خيرَ في المرءِ إنْ ساءتْ بواطِنُهُ

مهما تبدّى بسحرِ القولِ فتّانا

*

قد يخدَعُ النّفسَ والدّنيا إلى أمَدٍ

والوقتُ يكشفُهُ، لا بُدَّ عُريانا

***

د. عناد جابر

مضطر لاضطهاد ظلي ورشقه بالحجارة.

جاسوس يتبعني على أطراف أصابعه.

كلما تختفي الشمس.

يأكله الفراغ مثل شطيرة بيتزا.

مضطر لإفراغ مثانتي

وقطع أحبال الفوبيا.

لأحرر القبطان الذي خسر أمواجه في قاع النوم.

مضطر لاكتشاف المركب الذي إبتلعته مياه رأسي العميقة.

البنادق جائعة والفهود تعتلي قامتي.

يزهر الموسيقيون في حديقة المخيال.

وفي دمي يرفرف نورس سكران.

مضطر لاستدراج النسيان إلى شرفة جارتي العدمية.

العالم مبولة والموت هو الفارس الفصيح.

سنطعم الوردة مزيدا من الضوء.

ليمطر البستاني

ويفرنقع المعزون

نخذل الجنازة بالموسيقى.

نملأ الوراء بالمصابيج.

مضطر لمناداة القردة

لبعثرة السائد والبدهي.

أنا أسد صغير يعض صورته في المرآة.

في الكواليس يجر أشلاء الكلمات.

كلما صحوت نمت.

كلما نمت صحوت.

كم كان مرا غناء الثعلب في المبغى.

مضطر لأنام مطوقا بستين مترا من الجنون الخالص.

لأختلس اللوز من جنائن اللاوعي.

أعزي الذي إختفوا مثل صحون طائرة في عمودي الفقري.

أعزي الثعلب الجائع والشجرة المليئة بالغيوم

***

فتحي مهذب

يَهِلُّ الشَّيْبُ فِي سِرْبِ الْعَذَابِ

وَيَبْكِي الْعَنْدَلِيبُ صَدَى الشَّبَابِ

*

وَتَزْدَحِمُ الْمَوَاجِعُ فِي فِنَاهُ

وَمَا عَادَ الْمُحِبّ سِوَى اكْتِئابِ

*

تُوَدِّعُهُ الْغَوَانِي آسِفَاتٍ

ويَصْحَبُهُ الدَّوَاءُ بِالِانْتِحَابِ

**

فَيَا رَجُلَ الْمَشِيبِ احْذَرْ شَقَاهُ

وَدَارِ جِرَاحَ هَمِّكَ فِي الجِرَابِ

*

وَصَطِّبْ أُغْنِيَاتٍ خَالِدَاتٍ

لِذِكْرَى الْحُبِّ مَا بَيْنَ الصِّحَابِ

**

فَيَا أَسَفَاهُ يَا عَهْداً تَوَلَّى

هَجَرْتُ زَمَانَهُ بَعْدَ اغْتِرَابِ!

*

وَلَمْ أَذُقِ الْفَوَاكِهَ مِنْ جَفَاهُ

وَلَا اللَّحْمَ الشَّهِيَّ فَمَنْ دَرَى بِي؟!

***

شعر: د. محسن عبد المعطي – مصر

 

وطني المحفورَ على قَفَصي الصدري

لماذا تقفز الذكرياتُ على رُموشي؟

أحْمِلُ تابوتَ الغابات في حقيبة سَفَري

فلا تسألي عَنِّي أيَّتُها الغُيومُ

قُولي للشمسِ إنَّ الغريب تزوَّجَ الغريبةَ في دَهشةِ الياقوتِ

وَحْدَها البُروقُ مَن سَتَرِثُ أمجادي الوهميَّةَ

ماتتْ عائلتي في الشَّفَقِ الدامي

وصارتْ قِطَطُ الشوارعِ عائلتي

فلا تَسأل أرشيفَ البُحَيرةِ العمياءِ

لماذا تتشمَّسُ بَين فِقراتِ ظَهْري الذئابُ الكريستاليةُ ؟

أُذَوِّبُ أحزاني في فِنجانِ قَهوةٍ تشربه النُّسُورُ

لِكَي تأكلَ جُثَّتي بهدوء

أيُّها الفَيلسوفُ العائشُ في غُرف الفنادق المطليَّةِ البارودِ

تَحْمِلُ جُمْجُمَتَكَ في حقيبة السَّفَرِ

وتُصَادِقُ مَوْجَ الذاكرة

يَبكي القَمَرُ في أحضانِ الشمسِ

وتُفَصِّلُ أشجارُنا قُمصانَ الأسمنتِ

حَسَبَ خَجَلِ نُعوشنا

ونَدرس رُومانسيةَ الضحايا على ضَوء الشُّموع

أحزانُ القُرى بَصَمَاتُ الشُّطآنِ

على جثامينِ الرِّجالِ الحَزَانى

وجَسَدُ لُغةِ النارِ ذاكرةٌ لقصائد اليَمَامِ

وحيدٌ أنا في ذاكرةِ الفَيَضَانِ

يتيمٌ أنا في ذِكرياتِ البُروقِ

والطريقُ إلى قلبِ أُمِّي يمرُّ عَبر قبر أبي

وما زالت الذكرياتُ تسيرُ على لَحْمي حافيةً

إنَّني أفتح قَفَصي الصدريَّ للأمطارِ

كي تنامَ أدغالُ المجزرةِ في حَنجرتي

سيتذكرني المَوْجُ حِينَ يَمُوتُ البَحرُ على صدر الرمالِ

وهُناك

في ذاكرة الغُروبِ

حِصانٌ أعمى يُحَدِّقُ في عُيونِ فارسه المشلولِ

والأسماكُ تضع بُيُوضَها على نَصْلِ مِقْصَلَتي

دِمائي إشارةُ مُرور للنوارسِ

أرْمِي لَحْمَ الأنهارِ في الأدغالِ

وفي غاباتِ الدمعِ ترحلُ الدماءُ إلى الياقوت

***

إبراهيم أبو عواد / شاعر من الأردن

إلى روح: صديق قلبي وحرفي ودربي،

الشاعر الكبير الساحر: محمد البَقْلُوطِي

***

بأيّ كلامٍ، أُمازحك الآن،،

أَنْسجُ قوس قزحْ.

كان لا بُدّ للجسر أَلاّ تَضيقْ،

كان لا بُدّ من وطن وطريقْ،،

كان لا بُدّ منكَ، لِـيَنْساب ضوءٌ، وماءْ

لِـتَبْتَلّ أجنحة وسمــاء،

لِـتَغْسل حَوْبَـتَنَا.. ثمّ يطلع ورد الفرحْ..؟!

.. وكدتُ أصدّقُ،

أمشي بلا قدمينِ صباح الخميس، وأبكي..

أقول : ستأتي.

لنا موعدٌ عند بائعة التبغ هذا المساء..

مَـلَلْتَ نبيذ الجنوب،

صبايا الجنوب،

ترانيم صمتك في الليل..

وحْدَكَ في الليل تشرب ُ.. تبكي،،

وَوَحْدكَ تنهَضُ مبتهجا بصباح المَرضْ..

أقول : ستأتي.

لقد تركوا بَعْضَ أُفْقٍ لنا،

بعض ذكرى وَصَوْتٍٍ لنا،،

بعد أن حاصرونا...

وهل حاصرونا كما نفتَرِضْ..؟!!

وكدتُ أصَدّقُ..

يا زَيْنب الظِلّ..

قولي إلى الشمس أن تسترد الوَلدْ،

إلى الطفل أن يرتمي في حقول العِنَبْ..

مَضى العاشقون..

ولم يَبْقَ غَيْركمَا في سرير اللهبْ...

فكيف تركتَ يدي في سلال الرماد،

وكيف تَعَمّدْتَ قبلي الرحيل،،

وَلِلأَزْرَقَيْنِ..نَهَرْتَ المَراكِبَ

ريح الجسد..!!

***

عبد الرؤوف بوفتح / تونس.

 

قال الاطباء انها لن تعيش طويلا بسبب فتحة القلب التي ولدت بها. بالإضافة الى ضيق في حدقة العين اليمنى التي ستضعف بصرها مع مرور الوقت ان لم تخضع لعملية تصحح بصرها. ربما اكتملت اسنانها قبل ان ينمو باقي جسدها او تطول قامتها ولو بشيء قليل، كانت كثيرة البكاء، هزيلة كدمية مصنوعة من القماش تتلوى ولاتقوى على الوقوف.

نمى عقلها قبل جسدها الذي مازال ضئيلا نحيفا. كانت تعي وتشعر بالحرج من نظرات العطف والشفقة وتتسأل لم ولدت هكذا لا تشبه اختها الاصغر؟ التفت لها العناية الالهية وحظيت فجأة باهتمام الاطباء والمنظمات الانسانية التي راحت تتبارى في دعم ذويها ماديا ومعنويا.

اما هي فكانت لا تضحى سوى بنظارات طبية جديدة ودمية تنام الى جانبها ليلا تهمس في اذنها وتحدثها عن مدى حزنها وكيف ان الجميع ينظر اليها كمخلوق غريب عكس اختها التي كانت تحضي باهتمام وحب كبيرين من والديها كونها الطفلة الجميلة التي لا تعرضهم للأحراج.

كانت خزانتها مليئة بالفساتين الانيقة، اما هي فكانت ثيابها تقتصر على بنطال وتشيرت وحين تسال والدتها لم لا تلبسيني مثل ثياب اختي!؟ ترد عليها جسدك نحيل سيكون مظهرك مضحكا ومحل سخرية فيما لو ارتديت ثوبا.

ثمة نقمة في داخلها بدأت تكبر وشعور بالوحدة يسكنها وهي تحدث نفسها هل ستظل حبيسة داخل هذا الجسد الضعيف المريض هل تتحرر منه ام تتحرر ممن حولها. ام ان هذه المصائر مرتبطة ببعضها البعض او ان بعضها يستدعي ان يكون سببا لوجود البعض الاخر.

الشروخ داخلها بدأت تكبر وتكبر، واصبحت تصغي للصوت داخلها الذي يحثها على ان تلقن امها واختها درسا، وان يكون لها جناحان تطير بهما بعيدا اهلها ومدينتها، كان الليل وسكونه الوقت المناسب لتنفذ ما كانت تفكر به اوقدت شمعة وسارت بخطوات واثقة كمن تسير في قداس له طقوسه الخاصة وتوجهت نحو غرفة اختها وتحديدا الى الخزانة التي تضم فساتين اختها المزينة بالدانتيلا والزهور، كانت اختها تغط في نوم عميق باسترخاء مرتسم على وجهها.

فتحت باب الخزانة وثبتت الشمعة اسفلها وراحت النيران تلتهم اذيال الفساتين بنهم وسرعة كبيرتين، خرجت البنت هاربة الى غرفتها مذعورة ورمت بنفسها تحت السرير وهي تسد اذنيها بيديها وشعرت بشيء يتحرك في سروالها، يسري فوق جسدها الصغير يرتجف.

***

نضال البدري

 

- اشتغلت منذ الثانوية أيام العطل والصيف في مكتب أبي، والسكة الحديد. وفي مخبز..

Praktisk?

نعم أووه عدة أعمال في التنظيف أيضا، والفكرة التي راودتني أن أعمل معك من دون أن تخسر شيئا. (ضحكت) أريد أن أجرّب عالم الأسماك! (راحت ابتسامتها تتسع) هذا بعد موافقتك طبعا.

فهمت.. العائلة اطمأنت لي. لعلها ترددت في البدء إذ تقيم علاقة مع شاب ذي انفعال عال جاء هاربا إلى بلد يحتضن اليهود من طائفة تهتف كلّ يوم الموت لإسرائيل... الموت لأمريكا.. حين نكون بعيدين عن مكان الرعب تتغير نظرتنا.. نرى الآخرين بمنظار آخر.. وحين أقلّب الوضع بمنظار الربح والخسارة أجدني لا أخسر شيئا. عملي كما هو.. سوف يكثر الزبائن ، ووجود آنسة معي يضفي على المكان نكهة خاصة :

- لا أخفيك أنّي احتاج من يعمل معي غير أني لا أرغب أن أتحمل ضرائب جديدة وأجرة عامل، أما في حالتك فالمسألة واضحة مع ذلك سأصرف لك مبلغا يرضيك.

ودخلت السيدة أوريت لتدعو إلى المائدة، فاتخذت مجلسها في طرف المائدة، وجلسنا أنا وسوزي متقابلين، ولم تكن غرفة الطعام بكراسيها ومنضدتها المرمريّة الطراز لتقلّ أناقة عن ترتيب غرفة الضيوف. كان أثاث المنزل يوحي بالراحة والبساطة أكثر من أن أراه منزلا لرجل ثريّ يملك مؤسسات رأسماليّة كبيرة:

- إنه cosher لا تقلق

وقالت سوزي:

-  نحن لا نأكل إلا اللحم الحلال

كان دورق نبيذ وعصير على المنضدة، وفضلت العصير فأدارت سوزي لنا كأسي عصير واختارت الأم قدح نبيذ:

لم أعمل لك سمكا أظنك لا تأكل مثلنا السمك إلا بأصداف هل أنت من طائفة خاصة؟

- أنا من الجنوب من العراق البصرة بالتحديد شيعة وهم لايأكلون مثلكم الأسماك إلا ذات أصداف.

فأطلقت ضحكة قصيرة غابت فيها عيناها الصارمتان لحظة، وتساءلت:

- هؤلاء الذين يهتفون الموت لإسرائيل الموت لأمريكا..

فسارعت في شبه اعتذار:

-  سياسة لا أكثر الآن هم في حرب مع العراق.

تدخلت سوزي:

- حسنا هذا واحد مختلف

في التفاتة مني لأغير الحديث:

- لكن لم يحضر السيد يانسن؟

فانبرت سوزي:

- والدي ذهب إلى يولاند لمتابعة صفقات القمح.

قالت الأم: هو لا يرتاح إلا إذا تابع أعماله بنفسه.

إذن أظنني نجحت، اجتزت عفبة أخرى.. أول تجربة لي تضعني في إطار جديد.. كل علاقاتي السابقة كانت عابرة. صداقات فردية مع دنماركيين تنقضي حالما ينتهي التعامل.. مصلحة الطرفين.. عرفت المعلمة.. والمعلم.. وثرثرت مع رفاق دراسة من الأرجنتين والمغرب وباكستان.. عربي من لبنان.. وأظنّ هناك الكثيرين مازالوا في الطريق تلقي بهم الحرب إلى أسكندنافيا.

لم أسع لصداقة أحد

ولم أدخل بيتا قبل اليوم.

غاية ما أفعله أن أقف عند المركز الإسلامي أعرض بضاعتي. مرة واحدة دخلت أصلي، وقد صليت من دون وضوء خلف الإمام بدافع الفضول، تعبق مني رائحة السلمون والجرّي.

أو يزورني الزبائن العرب والشرقيون إلى المحل فأعمل بصمت ولا أدخل أيّ نقاش.

وقوفي أمام منضدة التشريح وبرودة المحل والرائحة لاتشجع أحدا على العمل معي.

الأجواء نفسها لا تدفع للكلام.

ولا أدري ماذا يحدث بعد أن أنتقل إلى المكان الجديد.

شارع مزدحم، وحركة عارمة، أما الحرب المشتعلة من بغداد إلى بيروت فبيدو أنها ستطول لتقذف بهجرات جديدة قد تغير الحياة الرتيبة في كوببنهاغن. هل تجعلني كثرة القادمين أتحرر من الحنين والغربة إلى الأبد.

في هذا اليوم بالذات تغيّر نمط حياتي.. عائلة أعرفها. أول علاقة جادة أقيمها مع أناس أخاف منهم. لأقل كنت أخاف منهم. سمعت عنهم ورأيت وجوههم وعيونهم. على الشاشة ، مع الحليب الذي رضعناه عرفنا أن هؤلاء ذوي النظرات القاسية جاؤوا لأرضنا اغتصبوها ثمّ أفاجأ أن السيدة أوريت ذات النظرة الحادة لا تضى، تنصح قومها ألا يذهبوا إلى االمأساة الأخيرة بأرجلهم إلى الموت لينتظروا المخلص.. المنقذ.. المهدي المنتظر.. أمي تنتظره أيضا.. ما أراه كريها في مكان قد أستسيغه في مكان آخر.

هل أقول إني أراقب مايجري من خلال علاقتي الجديدة؟

لقد بدأت أحضر نفسي للعمل في المحل الجديد. وتمرّدت على يوم الأحد الممل. نلتقي أنا وسوزي بداية شارع المشي عند محل (Guinse) وننطلق إلى الحدائق الملكية أو نسير بمحاذاة البحيرات.

نسبر شيئا ما

نتعرّف

علاقة فيها تحفظ. كلماتي أختارها بدقة. أعرف الدنماركيات مزاجيّات. عمليّات، وليس لي من غاية، صداقة فرضها العمل. ليس في بالي أمر آخر. أحيانا أودّ أن أقول شيئا، فأتردد

رغبة.

كشف..

حنين هجين بين الحاضر والماضي

أخذني دافع ذات يوم إلى حدود أبعد مما أتصوّره.. عن غير وعي ونحن نمشي على ساحل البحيرات امتدت يدي فمسكت يدها. قالت: هذا الشتاء لم تتجمد البحيرة ربما الشتاء القادم.

الشتاء الثاني الذي مرّ بي تجربة جديدة من البرد سمعت حديث الناس عن تجمّد البحيرات وفي نفسي أن أراه:

- هل يسمحون للناس بالعبور؟

- إن حدث، فستضع البلدية أعلاما حمراء في منطقة تامة التجمد لتكون بين الاعلام طريق يمكن المشي فوقه.

- هل نجرب؟

- ليحدث أوّلا الصقيع لِمَ لا.

وساعدتني في الانتقال إلى المحل الجديد. جلبتُ بعض الباكستانيين والمغاربة نقلوا معي الثلاجة الكبيرة وجهاز الضغط والعارضة، وحضرت سوزي بعض الساعات تضع يدها معي في نقل الأدوات الخفيفة، واختارت بدقة الجمل التي ترتفع على واجهة المحلvi opfylder din Ønske   frisk fisk دفعتني الجرأة ونحن نرتب الأدوات على مسطبة التنظيف أن ألتقط يدها وأقبّلها، فضحكت وتراجعت وهي تقول:

المخزن أصغر من مخزن المحل القديم لكنه يكفي ومادام بغير باب فستعاني من برد الشتاء الأفضل أن أجلب بطانية قديمة من بيتنا.

وعندما حل فصل الصيف بدأت العمل.

كان هناك مذاق آخر، ورؤية أخرى. حركة الشارع وصمت المفبرة التي تقابل محلي، ووجود سوزي ثم ازدحام الرصيف الآخر يوم السبت بالبضاعة القديمة... كانت تستغرق في الضحك ويدها تحرك المقص. هكذا تعملين الفيلية.. فقالت ومازالت تضحك:

- أنا أستخدم يدي اليسرى.. يسراوية ومقصاتك كلها مخصصة لليد اليمين.

لم أنتبه إلا هذه اللحظة إلى أنها عسراء، طلبت منها أن تنتظرني أقل من ساعة فخرجت أحث الخطى إلى محل فوتكس، فمررت ببائع السمك الدنماركي. كانت هناك سيدة تقف خلف الحاسبة تتطلع في الطريق، ولم يخطر ببالي أنها تعرفني، ولا أشك أن صاحب المحل يظلّ لا يتعرف على شكلي في المسقبل. قبل أن أتاجر بالسمك ترددت على محله، كان ذا ابتسامة خجولة، أما السيدة صديقته أو زوجته فأثارتني عيناها الواسعتان.. سعة أشبه بالحول، ووجهها المدوّر الذي ترتسم عليه دهشة لاتزول.

هل ياترى يستفزاني ذات يوم مثلما فعل بائع السمك في شارع fredrekssundsvej؟

لا أستبعد أيّ احتمال وإن كان شكله يوحي إليّ أنّه أكثر تحضرا من بائع السمك في الشارع الرتيب.

وعدت ببضعة مقصات تناسبها.

مع ذلك لم ألتق بالسيد يانسن. كنا نمارس المشي فنعود إلى شارع Nørrebro حيث تستقلّ الحافلة فأذهب إلى المنزل. لم أجرؤ على دعوتها لزيارتي خشية من أن تسئ فهمي.

لو كانت صديقة تعرّفتُ عليها في المرقص لدعوتها من دون تردد.

ولو كانت زميلة معي في المدرسة

أو لو قابلتها في الطريق...

ليس الامر سهلا من وجهة نظري. هذه فتاة أبصرتها ذات يوم في التلفاز على منصة التتويج ورأيتها بعيني السيدة أوريت ثم رأيتها بشكل آخر مختلف.

هل كانت حساباتي القديمة خاطئة؟

عدوتي وصديقتي في الآن نفسه حتى جاء يوم دخل علينا رجل في منتصف العقد السادس من عمره، ودود لطيف، لا أقرأ في وجهه خبثا، فهتفت: أبي فحييته وقلت مرحبا: أهلا سيد يانسن يسعدني أن أقابلك. كانت ملامح وجهه تختلف عن الصورة تماما، يبدو وجهه متعبا ولا يخفي التعب مزاجه المرح وخفة حركته. وسيم جدا.. ذو ابتسامة مرة، ولا شئ في نظراته يريب..

- رائع آمل أن يتطور عملك إلى الأفضل.

- أنا مرتاح بعملي مع أنه متعببعض الشئ.

- أووه لاراحة من دون تعب مهما يكن فأنت شاطر تفضل العمل على أن تعيش على مساعدات البلدية.

- بالتأكيد..

وتوجه إلى سوزي:

- هل أنت مرتاحة؟

- شغلة جميلة.

فهزّ كتفيه.. وودعنا فخمنت أنه جاء ليطمئن على ابنته، وفي اليوم نفسه تلقيت طلباتت من زبائن فتركتها وخرجت. كنت مطمئنا إلى عملها، وواثقا منها إلى درجة بعيدة. وكان لابدّ أن تعرف بعض أسرار العمل. قضية الشرقيين وبيع السلمون بعيدا عن قانون الضرائب. راودني بعض الانزعاج والقلق من أن يعرفوا أنها يهودية. فيرسموا حولي علامات استفهام كبيرة. أنا شاب عادي:لو بقيت في بلدي لكنت الآن جنديا في الحرب:قتيلا أو اسيرا، ولو انتهت الحرب وخرجت منها سليما أو معاقا لأصبحت موظفا. هذا الذي أجده في سيرتي الذاتية التي هربت منها أما أن أصبح مشبوها تدور حولي علامات استفهام كثيرة فلم يخطر ببالي قط:سأكون شريكا للصهاينة علاقتي مع تل أبيب متينة، ولي مؤسسة خاصة بالأسماك، وأخرى بالنفط، ماسونية... وموساد، وهناك من يقاطع محلي الذي يعدونه واجهة لتمرير مشاريع أخرى خفية، أراهم يكثرون، يأتون إلى بلاد اسكندنافيا يوما بعد يوم يأعدادهم تزداد، الحروب تستعر في الشرق وهم يأتون بلحاهم وجلابياتهم، وعيونهم الغاضبة القاسية، ادعيت أني لست المالك الوحيد للمحل هناك شركاء دنماركيون معي، وخجلت أن أحذر سوزي من أن يعرف أحد أنها يهودية. وكانت تأتي إلى المحل بعد عطلة الصيف وقدوم الخريف حسب ساعات تفرغها. تقضي يوم السبت معي في الشغل ونصف يوم الثلاثاء والاثنين كاملا، لا تقرف ولا تتثاقل إلا حين يأتي زبون يطلب جرّيا. تعلمت كيف تقطع رأسها الضخم، وتسلخ جلدها من الأعلى إلى الذيل ثم تفصل اللحم، يبين قرفها أمامي وتخفيه عن الزبائن، ورأيتها ذات يوم تلقي مافي يدها في الحوض وتهرع تدخل المحزن فتتقيّأ في سلة المهملات. قلت لها حين أكون حاضرا أتولى بنفسي مهمة سلخ الجري، وكان والدها بعض الأحيان يمرّ بالمحل مرورا سريعا، يبدي إعجابه ويخرج، ومرت أمها بنا يوم سبت قادمة من المعبد الذي لايبعد كثيرا عن شارع Nørrebro..

بدأت أراها امرأة عادية

ليست قبيحة

لاتخيفني

زهوت بنفسي إذ تصورتني مثل مدرب النمور الذي يروض وحشا مفترسا، وقفزت في ذهني فكرة طريفة متوحشة:أن وجه السيدة يانسن الطولي الذي يشبه من طرف خفي وجه نمر أصبح أليفا بفعل الزمن.

كل ذلك يحدث وعلاقتي مازالت نقية مع سوزي.

أتقدم خطوة خطوة

اعترف أني لم أتعمّد

لا أفتعل

وذات عصر سبت راودتني جرأة غريبة فعرضت عليها أن نتعشى معا، أو نذهب إلى الديسكو ، بدا السرور على وجهها، واعتذرت عن الرقص، وأكدت أنها لاتحبّذ الديسكو ولا تميل بطبعها إلى الصخب، الطبيعة والتأمل أقرب إلى روحها، فجلسنا في مطعم صينيّ هادئ تناولنا الرزّ وبعض الخضروات المسلوقة. حدثتني أنها اعتادت أن تأكل الطعام الحلال منذ الصغر وبسبب تربيتها وسلوك أمّها أخذت تقرف من أيّ طعام غير مذبوح، كانت تشرب باعتدال، فتجرأتُ أكثر وقلت، فجأة من دون مقدمات:

- مارأيك أن نكمل السهرة عندي في المنزل؟

- لا بأس مثلما ترى.

وقلت ونحن نعبر إلى درب sjælland :

يمكن أن أمل لك بعض الطعام فقد لاحظت أنك لم تأكلي يمكن الطعام الصيني لم يعجبك. ؟

- لقد أكلت مايكفيني (التقت عيناها بعيني)عادة لا آكل في الليل إلا قليلا.

مشينا ويدي على كتفيها، ثم بعد خطوات طوّقتْ يدها ذراعي. راودني إحساس مرهف، وكانت صورة الأضوية المنعكسة على البحيرة، والظلال الملونة تزيدني حماسا.

وهي ناعسة مثل خطواتها البطيئة.

كل شئ هادئ

وكل ماعلى الأرض والماء ينبع من نعومة لانضير لها...

قلبي تزداد نبضاته فأقف، وتقف

وأطبق بشفتي على شفتيها

ثمّ نواصل المشي.. كدت أرى الطريق إلى شقّتي طويلا، هي التجربة الأولى لي، وغرفة نومي تنكشف لامرأة... أنثى تدخل بيتي، لا أبحث عن زاوية مخفِيّه في شارعِ ميت ِفألتقط بين الخجل والخوف قبلة سريعة منها..

- جميل

أعجبك؟

- بالتأكيد؟

- مجاملة

- لا أبدا

- أنا لا أحب الفوضى

لم يطل بي الوقت، تمعنت في عينيها، وطوقتها بذراعي، لا أستطيع أن أكبح سورتي

عنفوان

أثارتني خصلات شعرها التي انحدرت على عينيها

فالتهمتْ شفتي، ورحنا في خدر.

عنيفة مثلي

ينحسر قميصها عن كتفيها

ويستقبلنا الفراش

مرت بنا عاصفة هوجاء، فانكسف ضوء الغرفة، وأنرت مصباح النوم الخافت:

كنّا عاريين.. أقرأ ملامح جسدها وأتحسس نعومته. تشتبك يدي بيدها، وأتطلع في فخذها الأيمن، أقول بابتسامة خبيثة:

- أين اختفت الفراشة؟

تزيح شعرها عن عينيها وتجيب بضحكة:

- سأرسم لك واحدة!

فأقبل فخذها مكان الفراشة الموهومة وأعترض:

- جسدك رائع بفراشةِ ومن دونها.

- لن يكون وشماً دائما.. لا أحبه، هناك وشم يزول حالما تغسله.

كنت أجد في صداقتها حياة جديدة لها طعم آخر حتى خشيت أن أعدّ حياتي هنا في كوبنهاغن السابقة للقائنا عبثا وعبئا ثقيلا لا أقدر أن أنساه. أرى وأسمع لكني كالأعمى والأصم لا يثيرني مايحيط بي. أعمل طول اليوم أذهب إلى البيوت أوزع السمك، وأقف أمام المركز الإسلامي أيام الجمع أبيع، أتثاقل من بعض الذين يساومون على الاسعار، ولا أستغرب حين يسألني أحد الفضوليين أليس لديك وقت لتأتي مبكرا فتصلي معنا؟ أخبار البلد مقطوعة ماعدا ما أراه على الشاشة من لقطات سريعة لمواقع تتقاتل في العراق ولبنان وصراخ التاميل وعنف الخمير روج ثمّ موجة المجاهدين الأفغان، وكانت موجات اللاجئين تأتي فتحيل حكومات اسكندنافيا القادمين الجدد إلى معسكرات ضخمة، وكان من القادمين من يقطع الطريق مابين المقبرة والمحطة فيدعو كلّ ذي لون شرقي لصلاة الجمعة:

أشعر ببعض الضيق

الخجل

والرهبة أيضا

وسط هذه الفوضى القادمة من الشرق كنت أعيش مع سوزي التي دعتني إلى قضاء سهرة يوم السبت عندهم في البيت فذهبت ومعي حفنة من سمك السلمون والكارب وبعض الremoulade كأنني لا أستطيع بالمرّة أن أتخلّى عن أصولي الشرقية، كنا نتحلق حول المائدة.. الأب في الطرف تقابله الأم وسوزي جنبي:

كان كلّ شئ من قبلي محسوبا بدقّة. أصبحت صديق سوزي.. كل كلمة أحسب لها ألف حساب، ولم تفاجئني العائلة بموضوع حسّاس ماعدا اللقاء االأول الذي كان لابد لحديث الحرب والسياسة ان يفرض أجواءهما فيه:

- أظنّ أن عملك رائع حسب تصوّري أتعتقد لك؟

سألني السيد يانسن وهو يرتشف من رشفة خفيفة من شراب وردي أمامه،

- إنه ممتاز.

قال السيد يانسن:

- في المستقبل أقترح عليك أن توسع عملك تجد محلا أكبر وتصبح واحدا من تجار السمك (وأضاف من غير أن يلتقط نَفَسَه) لقد بدأت بداية ممتازة وماعليك إلا أن تتحرك لا أن تبقى في مكانك.

قلت بلهجة لا تخلو من اعتراض:

- المعروف السمك كارتل عوائل دنماركية تتوارث تجارة هذا القاطع ولا تسمح لأحد باختراقه.

- إنك تعني الصيد أما أن تصبح تاجرا أي أن يكون لك محل في سوق السمك على الساحل تأخذ بضاعتك مباشرة من شركات الصيد التي تحتكره.

- في بالي هذه الفكرة.

- شاطر. لا أخشى عليك

عقبت السيدة أوريت. وسألني:

بكم تشتري السلمون الآن من سوق الجملة؟

19-  كرونة.

كانت سوزي تنظر إليّ بذكاء والسيدة أوريت تبتسم:

- حسنا يمكن أن تشتريه من شركات الصيد ب9 كرونات وتعرضه في محلك.

قلت بشئ من التفاؤل:

- هذا يتطلب مالا ووقتا على الأقل أعمل في محلي الحالي خمس سنوات.

فخرجت سوزي عن صمتها:

- يمكن أن تساعده من خلال معارفك وعلاقتك بالسوق.

إذ يحين الوقت لا أبخل عليه بخبرتي.

فالتفتت إليه السيدة أوريت:

- إنّك داهية أظنّك ستساعده مثلما ساعدت كاظم العراقيّ.

قالت السيدة أوريت وتناولت بالملقط قطعة دجاج وضعتها في صحني، التقت عينانا، فشعرت ببعض الحرج وليست الرهبة كما كنت عليه من قبل:

- يجب أن تأكل هذا كلّه

ضحك الأب وقال:

- في تونس ألحوا علينا أن نأكل الطعام كله يعدونه كرم الضيافة.

- اليهود العرب يتصرفون مثلنا.

وانبرت الأم:

- لا ليسوا يهودا العائلة التي استضافتنا عرب مسلمون توانسة.

تدخلت سوزي:

- براحتك لا ترهق نفسك لست ضيفا ولسنا في تونس.

وفي صالة الاستقبال تناولت ُمعهم الجبن مع الشاي شأنَ أيّة عائلة دنماركية بعد العشاء.. كنت أجلس جنب سوزي التي قدمت لي صحن الجبن والحلوى، وقبلتني قبلة طويلة من شفتي. شعرت بالإحرجا.

خجل

داريت ارتباكي

ولملمت نفسي

داريت شعوري بالإحراج فطبعت قبلة على يديها، المشهد عادي عندي في الطريق، رأيت عشاقا يقبّل بعضهم بعضا وأبصرت رجلا قبّل رجلا من شفتيه. كنت الوحيد الذي يبتسم، وقبلت سوزي من قبل أمام البحيرة، فكيف ارتبكت أو شعرت بالضيق.

وواجهت مفاجأة أخرى حين دخلت غرفتها... بهرني لونها التركوازي الخافت، والستائر الزيتونية ذات الدوائر فأطريت على ذوقها.. ضحكت برشاقة، ورفعت ساقها إلى حافة الفراش. قالت: أغمضْ عينيك!

استدرت نحو الحائط فشعرت بيدها تلامس حنكي وتستدير بوجهي إليها:

التنورة منحسرة إلى مافوق ركبتها.

وعلى فخذها اليسار فراشة حمراء جميلة.

هل تعجبك؟

يا للروعة لا أبالغ إذا قلت أروع وشم.

انحنيتُ على الفراشةِ، وأنا أرددُ:lad mig kysse din sommer fugl

عالم الفراش الأحمر ، وبعدَ سَوْرَةٍ محمومةٍ، قالت:

- سأختار لونا آخر للوشم الجديد.

في العمل وكان يوم ثلاثاء ركنت إلى غرفة المستودع الصغيرة. رحت أفكر بالمشاريع الجديدة ولا أخشى أن يعرف العرب والشرقيّون أنها يهودية بل تعودت على رؤية اللاجئين الجدد وظهورهم اليومي في شارع Nørrebro وقيام محلات جديدة لبيع الخضرة عليها عبارات بالدنماركية والعربية والفارسية. كان محلي وحده فتناثرت محلات شرقية هنا وهناك على امتداد الشارع إلى المحطة، تآلفت مع كل المظاهر القادمة وزال عالم الخوف والرهبة غير أني بدأت أشعر بفراغ حين أكون وحدي إذ تتركني إلى الجامعة.

 ثقل

صمت

لا لذّة للمشاهد التي أراها من زجاج العارضة على الشارع والرصيفين.

شعور بالوحدة لا يمحوه تزاحم الزبائن على المحل وانهماكي بعمل الفيلية وتحضير الremoulade أو fiskefrikadeller، حين تتركني ساعات الجامعة يراودني ضيق.. والذي أستغرب له أني بدأت العمل وحدي ولا هاجس لي بالملل والضيق سوى رهبة العالم الجديد الذي اقتحمته من دون سابق خبرة ورتابة الشارع القديم.

عرفت الناس

وتحاشيت مايريب

وتجنبت ماهو خطر

وحدي

لكن

الآن اختلف الوضع لا خوف... لاقلق

لارهبة قط

الضيق وحده إلى حدّ الاختناق

اغتنمت فرصة خلو المحل فدخلت غرفة المخزن أفرم صفاح سمك القد وأغلي الزيت، شعرت بالدفء حين انزويت في الداخل تفصلني عن الثلج ورطوبة المغسلة البطانية الثقيلة ذات المربعات القاتمة التي تغطي فتحة المخزن، كان الشتاء على الأبواب، فيلحّ عليّ هاجسُ أنّه سيكون شتاء قاسيا أبرد من شتاء العام الماضي تراودني رغبة أن يصبح شديد القسوة لا لشئ إلا كي تجمد البحيرة فأمشي فوقها مع سوزي.

فجأة

رنّ جرس الهاتف فظننته أحد الزبائن، وإذا بها سوزي:

أكلمك من البيت.

ألست في الجامعة؟

ردت بصوت فيه بعض الوهن:

كنت هناك وشعرت خلال المحاضرة بدوار فتقيّات وراودني غثيان.

فازددت قلقا:

هل من شئ؟

ذهبت إلى الطوارئ وبعد الفحص عرفت أنّي حامل.

ماذا؟

حامل.. الآن تحسنت سآتي إليك.

مفاجأة

أم

حدث لابدّ منه غاب عن ذهني. انتظرته من غير أن أعرف.. هل خدعتني سوزي.. رأيتها تتقيّؤ في المحل فظننته قرفا من الجريّ. بنت معي علاقة لتحمل. أتراجع عن خواطري المتوحشة فأرى صورة جديدة ناعمة: لو أرادت ذلك لفعلته مع أيّ دنماركي أو لكانت اختارت من أبناء دينها.

أعود إلى فكرتي المتوحشة: اليهود لا يتصرفون إلا حسب مصالحهم.

تكاد الحيرة تقتلني

أقنع نفسي أني لاشئ ولا أحد يمكن أن يستغلني... لأسمه القدر هو الذي جعل الحوادث تجري على وفق مايريد، هناك بعض التشاؤم لا أقدر أن أفلت من قبضته، والمستقبل وحده يقرر سرّه على الرغم منّي:أنا في الشغل طول النهار وسوزي في الجامعة أو تعمل معي من يربي ابننا؟ سوف يكون طوال اليوم مع جدته. تعدّ فطوره وترافقه إلى الروضة. تقصّ له القصص وتغني، تصحبه للنوادي وملاعب الأطفال. حسب عقيدتها أمّه يهودية فهو يتبع أمه

مفارقة لا بدّ من أن أقبلها

أنا المسلم المولود في محلة الأصمعي ابني يهودي

كانت أمامي مساحة واسعة امتدت من البصرة إلى كوبنهاغن في زمن قياسي فلتت من يدي ولم أزل في رحلة القلق.

توقفت عن عمل برغر سمك القد، لألبي طلب زبون سألني عن السلمون فانهمكت في العمل أمام الحوض شارد الذهن وفي هذه الأثناء دخلت سوزي. حيتني ودلفت في غرفة المخزن.

فأنهيت شغلي وخطوت إليها..

ارتمت على صدري

عانقتني..

راودتها نوبة من البكاء. ابتسمتُ بوجهها كيلا تشك في هواجسي السوداء:

- هل أنت سعيد؟

- أتشكّين؟

- لا أبدا

كان عليّ أن أخفي بعض هواجسي:

- لكنها المفاجأة لا أغضب منك بل أساّل نفسِي لِمَ لَمْ تخبريني

- صدقني لم أتعمد. تناولت الحبوب حسبت التواريخ مع ذلك وقعت في الخطأ هل تصدق أني تعمدت؟

- لا أشك فيك لكنّ الذي أربكني يوم تقيّأتِ هنا في المحلّ فظننته من السمك.

- هل تصدّق الفكرة نفسها راودتني... ظننته قرفا من السمك.

وبدخول زبون صمتنا فتركتها دقائق :

الآن لنفكّر أنا في الشغل وأنت في الجامعة.. لنجد حلّاً يناسب ظروفنا.

الولادة ستكون بعد نهاية العام الدراسي فأنا في الشهر الأول.

بالتأكيد أخبرت والدتك؟

لم تكن في البيت البارحة اتصل أخي بوالدي من أورغوس بأمور تخص الشغل ولما علمت أمي أنّه ينوي السَّفّرَ ليقضيَ صَفْقَةً مُهِمًّةً ارتأت أن تسافر معه هل تأتي معي إلى البيت؟

نظرت في عينيها طويلا ولذت بالصمت أتحاشى الافكار السوداء، ولعلّها قرأت أفكاري فقالت:

على أيّة حال الغلطة غلطتي أما إذا رغبت بغير ذلك فليس أمامي سوى الإجهاض.

قالتها بنفس يتهدج ونظرات تزوغ عنّي فارتسمت الدهشة على ملامحي وهتفت:

ماذا؟

ليس هناك من حل آخر.

أتقترحين علي أن أقتل طفلي أنا الهارب من الحرب لئلا أقتل أحدا لا أعرفه هل....

فارتمت على صدري وهي تهمس:

لا أرغب أن أراك تعيسا لكن صدقني أني لم اتعمد.

انسي الآن كل شئ أمامنا مشوار طويل حتى نهاية اليوم سخني الزيت وافرمي صفائح سمك القد

غادرت إلى المنضدة أغسل بقايا الدم عنها، وارتّب السكاكين على الكلّابات، ولشد ما كانت دهشتي كبيرة حين التفت إلى الواجهة الزجاجية فأبصرت نتف الثلج تتساقط في الخارج، فهتفت بنشوة:

سوزي الثلج في الخارج اتركي البرغر وتعالي.

كنت أضع يدي على كتفها ونحن واقفان خلف الدّكّة أراقب الثلج أفكر هل هو ولد أم بنت وأحلم أن يصطك ماء البحيرة لكنني أخشى الا يتحقق حلمي كاملا فأمشي وحدي من دون سوزي التي تمنعها بطنها أن تعبر ويدها بيدي على الماء الجامد.

***

* انتهيت من كتابة هذه النوفلا في 20- 11- 2020 وكنت قد بدأت كتابتها في 18- 10- 2022 وأتممت تصحيحها وإعادة صياغة جملها في 3- 12- 2022  نوتنغهام.

..........................

النهاية الثانية تبدأ من المطعم:

لكي لا تعد النهاية أعلاه تطبيعا ولئلا يُساء بالنص الظنّ تتفتح للرواية نهاية أخرى بعيدة عن الشبهات وقد اقترح عليّ صديقي وأخي الناقد الكبير د صالح الرزوق أن تنتهي الرواية بنهاية واحدة وهي أعلاه لكن مع ذلك راودتني فكرة استطلاع القارئ الكريم ورأي الناقد القدير الأستاذ جمعة عبد الله:

وذات عصر سبت راودتني جرأة غريبة فعرضت عليها أن نتعشى معا، أو نذهب إلى الديسكو ، بدا السرور على وجهها، واعتذرت عن الرقص، وأكدت أنها لاتحبّذ الديسكو وليست ممن يميلون إلى الصّخب، الطبيعة والتأمل أقرب إلى روحها، فجلسنا في مطعم صينيّ هادئ تناولنا الرزّ وبعض الخضروات المسلوقة. حدثتني أنها اعتادت أن تأكل الطعام الحلال منذ الصغر وبسبب تربيتها وسلوك أمّها أخذت تقرف من أيّ طعام غير مذبوح، كانت تشرب باعتدال، فتجرأت أكثر وقلت، فجأة من دون مقدمات:

مارأيك أن نكمل السهرة عندي في المنزل؟

لا بأس مثلما ترى.

وقلت ونحن نعبر إلى درب sjælland أترغبين أن نمرّ على محل للشاورما يبيع اللحم الحلال؟

لقد أكلت مايكفيني.

مشينا ويدي على كتفها، ثم بعد خطوات طوقت يدها ذراعي. راودني إحساس مرهف، وكانت صورة الأضوية المنعكسة على البحيرة، والظلال الملونة تزيدني حماسا.

وهي ناعسة مثل خطواتها البطيئة.

كل شئ هادئ

وكل ماعلى الأرض والماء ينبع من نعومة لانضير لها

قلبي تزداد نبضاته فأقف، وتقف

وأطبق بشفتي على شفتيها

ثمّ نواصل المشي.. كدت أرى الطريق إلى شقتي طويلا، هي التجربة الأولى لي، وغرفة نومي تنكشف لامرأة. أنثى تدخل بيتي، لا أبحث عن زاوية مخفيه في شارع ميت فألتقط قبلة سريعة منها..

جميل

أعجبك؟

بالتأكيد؟

مجاملة

لا أبدا

أنا لا أحب الفوضى

لم يطل بي الوقت، تمعنت في عينيها، وطوقتها بذراعي،

رحت ألهث

ازداد لهاثي

تأملت فيها جسد سوسن

تخيلت أجساد أخريات

رغبة عارمة لكنني لا أقدر

اتفت إلى فخذها البض وقلت:

أين الفراشة؟

فأطلقت ضحكة قصيرة وقالت

لا أحب الوشم لكن سأرسم لك واحدة

وهوت بشفتيها على شفتي

في رغبة وحماس

ألهث

يداهمني برود

تلتفت إلي وتقول:

لا عليك في ليلة أخرى

كنت أعبر عن إخفاقي بالهرب من عينيها، اشعر أن هناك شيئا ما يمنعني منها.

رغبة

خوف.

حاجز ما

ولعلها رغبت في أن تشجعني كي أخرج من ترددي وعجزي فدعتني إلى قضاء سهرة يوم السبت عندهم في البيت فذهبت وعي حفنة من سمك السلمون والكارب وبعض الremoulade كأنني لاأستطيع بالمرة أن أتخلّى عن أصولي الشرقية، كنا نتحلق حول الماءدة الأب في الطرف تقابله الأم وسوزي جنبي:

كان كل شئ من قبلي محسوبا بدقة. كل كلمة أحسب لها ألف حساب، ولم تفاجئني العائلة بموضوع حساس ماعدا اللقاء االأول الذي كان لابد لحديث الحرب والسياسة ان يفرض أجواءهما فيه:

أظنّ أن عملك راع كما أظنّ أتعتقد لك؟

سألني السيد يانسن وهو يرتشف من رشفة خفيفة من شراب وردي أمامه،

إنه ممتاز.

قال السيد يانسن:

في المستقبل أقترح عليك أن توسع عملك تجد محلا أكبر وتصبح واحدا من تجار السمك.

بقلت شبه معترض:

أنت تعرف السمك كارتل عوائل دنماركية تتوارث تجارة السنمك ولا تسمح لأحد باختراقه.

أنت تعني الصيد أما أن تصبح تاجرا أي أن يكون لك محل في سوق السمك على الساحل تاخذ بضاعتك مباشرة من شركات الصيد.

في بالي هذه الفكرة.

شاطر.

عقبت السيدة أوريت. وسألني:

بكم تشتري السلمون الآن من سوق الجملة؟

19 كرونة.

حسنا يمكن أن تشتريه من شركات الصيد ب9 كرونات وتتعرضه في محلك.

قلت بشئ من التفاؤل:

هذا يتطلب مالا ووقتا على الأقل أعمل في محلي الحالي خمس سنوات.

فخرجت سوزي عن صمتها:

يمكن أن تساعده من خلال ومعارفك وعلاقتك بالسوق.

يبدو أنك وضعت قدمك منذ الخطوة الأولى على الطريق الصحيح.

قالت السيدة أوريت وتناولت بالملقط قطعة دجاج وضعتها في صحني، التقت عينانا، فشعرت ببعض الحرج وليست الرهبة كما كنت عليه من قبل.

يجب أن تأكل هذا كلّه

ضحك الأب وقال:

في تونس ألحوا علينا أن نأكل الطعام كله يعدونه كرم الضيافة.

اليهود العرب يتصرفون مثلنا.

وانبرت الأم:

لا ليسوا يهودا العائلة التي استضافتنا عرب مسلمون توانسة

تدخلت سوزي:

براحتك لا ترهق نفسك لست ضيفا ولسنا في تونس.

وفي صالة الاستقبال تناولت معهم الجبن مع الشاي شأن اية عائلة دنماركية بعد العشاء.. كنت أجلس جنب سوزي التي قدمت لي صحن الجبن والحلوى، وقبلتني قبلة طويلة من شفتي. شعرت بالإحرج.

خجل

داريت ارتباكي

داريت شعوري بالإحراج فطبعت قبلة على يديها، المشهد عادي عندي في الطريق، رأيت عشاقا يقبل بعضهم بعضا وأبصرت رجلا قبل رجلا من شفتيه. كنت الوحيد الذي يبتسم، وقبلت سوزي من قبل أمام البحيرة، فكيف ارتبكت أو شعرت بالضيق.

وواجهت مفاجأة أخرى حين دخلت غرفتها. بهرن لونها التركوازي الخافت، والستائر الزيتونية ذات الدواءر فأطرت على ذوقها، فضحكت برشاقة، ورفعت ساقها إلى حافة الفراش. قالت أغمض عينيك!

استدرت نحو الحائط فشعرت بيدها تلامس حنكي وتستدير بوجهي إليها:

التنورة منحسرة إلى مافوق ركبتها.

وعلى فخذها اليسار فراشة حمراء جميلة.

هل تعجبك؟

اروع وشم.

انحيت على الفراشة، وأنا اردد:lad mig kusse din sommer fugl

عالم الفراش الأحمر وبعد سورة محمومة، قالت:

سأختار لونا آخر للوشم الجديد.

قبلت فراشتها وقبلت

الرغبة المحموعة تراودني

اللهاث

والا أستطيع أن أفعل شيئا.

أعرف أنه ليس العجز، زارتني مرة أخرى في البيت ، قضينا ليلة معي:

تعرت وبدا فخذها بفراشة بلون أزرق

لون الماء

ابحر

وقف أمام السرير. خلعت ملابسها قطعة قطعة، هبطت إجثو أما ركبتيهانقبلت فراشهاوشعرت بيديها تمسحان على شعري:

خذني قبلني

قالت البطلة للبطل

فهل أكون باردا مثله

لكنه لم يذهب ليجري فحولته مع البغايا، يمكنني أن ابرهن على فحولتي باية طريقة تعجبني:

هناك عجز طارء. اداعيب عضوي بيدي فكون انتصاب.

قد أكون عاجزا مع امرأة فحلا مع غيرها

أكثر من محاولة

واكثر من زيارة لي في الدار

كل مرة إخفاق

مر شهر.. شهران، ومازال البرود يراودني

تأتي غلى المحل تتحاشى النظر إلي

وأتحاشاها

وقد غابت سوزي.. تلقيت مكالمة منها بعد أربعة أسابيع من محاولات يائسة:

عزيزي لاأريد أن اسبب لك إحراجا.. هناك لديك عقدة تقدر أن تتجاوزها مع امرأة غيري..

وأغلقت الخط، وكنت أعود إلى المنضدة ألبي طلبات الزبائن. وقد تلاشت أحلام كثيرة قبل أن يزداد الشتاء عنفا فيجمد ماء البحر لأعبر مع سوزي عليه.

 *** 

قصي الشيخ عسكر

 

أَنتِ

قبلةٌ موقوتة

دائماً أَتوقَّعُ انفجارَكِ

في قلبي

أَو في بيتي

أَو في حياتي

التي هي الاخرى

أَصبحتْ موقوتة

بحضوركِ النوراني

الذي يأخذُ شكلَ الغيابْ

وضوءَ الترابْ

واشراقاتِ صلاتي

كناسكٍ منفيٍّ

في روحكِ القلقة

مثل بلادي التي أَصبحتُ

أُحبُّها حدَّ الوجعِ والذكرى والنزيف

*

أَنتِ القبلةُ

التي تُحييني

كُلّما داهَمَني هجيرُ هذا العالمِ

الطاعنِ بالجفاف

والتصحّرِ والكراهيةِ السوداء

*

أَنتِ قبلةٌ ساخنةٌ

مثلَ رغيفٍ بلدي

دائماً تُشرقينَ كشمسٍ

من تنّورِ قلبي

قلبي المولعُ بلهبكِ وشغبكِ

وجنوناتكِ وحكاياتكِ

وكركراتكِ الطفوليةِ

وعشقك الذي لايُشبههُ

ايَّ عشقٍ في العالم

*

أَنتِ قبلةٌ

تمشي على نهرين

دائماً يرْويانِ روحي

الهيمانة بياسمينك

ونسغكِ الرافديني

الذي لايجفُّ أَبداً

ويبقى يغمرُني بالحبِّ

والخضرةِ والبهاء

*

أَنتِ قبلةٌ هائلةٌ

رُبَّما بحجمِ الارضِ

ورُبَّما بحجمِ الحنينْ

وأَنتِ دائماً تتوهجينَ بي حُبّاً

وعطراً وجنوناً

وأَحلاماً شاسعةً مثلَكِ

يا قُبْلتي وبلادي

وملاذي الأَخير

***

سعد جاسم

اتركي لنا كذبة بلون الرجاء

يا حياة

كذبة لا تدوس على

خواطرنا

فتجرح الصراط

نمشّط بها جدائل الليل ونغفو

نزرع من جديد في البقاء رغبتنا

في حقلك الممتد

رملا

أو نفرك جلدكِ الموشوم بالنجومِ

لو تطاير من نشوته الخيال

نلوك الأمنيات بكلِّ الحواس

وندسّ ما نشتهي من أحلام

عند أروقة المجد.

*

كذبة تفسّر

لنا الطعنات عند كل باب

تطاردُ هذا العصيان وهو يعدو إلى حتفه

يقولُ شيئا ما أمامكِ ويبكي

دعي كل الكذب المرقّط يمرّ

حتى يصطاد أعذب الصباحات

بما يليق بهذا الخيزران أن يحترق

ليتحوّل إلى شغفٍ طائشٍ

ممهور بحريّة خجلى

*

كذبة لا تندبُ حظّها

كما تفعل دمية بلهاء

لكنها تتحرك الآن

رغم انها محشوة بالقشِّ

تسكتُ طوال العام

وفي اليوم التالي تتزوج

تنجبُ ما يملأ الحيّ من فوضى

*

كذبة نفرّ منها

لتأخذنا العصافير

تعلمنا كيف تهترىءُ منها السماوات

*

كذبة ترشدنا

إلى وجه قصيدة

لا تخطرُ على بال

تكبرُ

كلما رشّت الكلمات على تجاويفها

معاني النسيان.

***

زياد كامل السامرائي

لنا بـ(ذي قار) أهلٌ كلهم نُجُبُ

إذا دعونا نلبِّيهم إذا احتربوا

*

نذود عنهم بأرواحٍ مدججةٍ

بالإنتماء .. فإنّا فتيةٌ عَرَبُ

*

لم يُثنَ مِنّا شريفٌ حينَ نخوتِهِ

و لن يكونَ إلى إخفاقةٍ سببُ

*

من (قار ذي قار) مشحوفٌ يسامرُنا

في مائس الهور يحلو الأنس و الطَّربُ

*

ما يجذف المرء في أمواج وجهتهِ

يشتدُّ بالعزمِ .. لن يُضني به التَّعَبُ

*

و لا الخنازيرُ تثنيهم إذا اقتحموا

خوفَ (الچباشاتِ) في يومٍ إذا وثبوا

*

أهلي صناديدُ هذي الأرض (فالتُهم)

صنو (المگاویر) محتلاً بها ضربوا

*

لا يرهبون إذاما أشتدَّ بأسُهمُ

أهلي الصَّناديدُ ما يوماً هنا غُلِبوا

*

ما خافوا (طاغوتَ) مُذْ أن كان يقصدُهمْ

إذ جفَّفَ الهورَ .. ماءَ الغيم قد شربوا

*

ثاروا على الحقد .. شاء الحقدُ يصلبُهم

مثلَ (المسيح) سموا لله .. ما صُلِبوا

*

هم فتية ﷲ .. أفذاذٌ بمطمحهم

قبل الحضارات هم بالطِّين قد كتبوا

*

سنّوا القوانين كي يحيوا حياتَهمُ

و (شعبُ أوروك) ما شانوا و لا نهبوا

*

أعلَوا على الأرض (زقّوراتِ) معبدِهمِ

كي يعبدوا الرَّبَّ .. لم تنبئهم الكُتُبُ

*

حتى أتاهم نبيُّ ﷲ يرشدهم

بأنَّ ربّاً هُمُ اختاروهُ مُنْعَطِبُ

*

رَبُّ الأساطير غيرُ ﷲِ في زمنٍ

لم يعرفِ الناسُ فيهِ ﷲَ فانقلبوا

*

منها إلى الدِّين .. حيثُ ﷲُ علَّمهمْ

حقيقةَ الغيبِ .. عنها الناسُ قد رَغِبوا

*

فجاءَ (إبراهيمُ) بالأديان سلسلةً

بالأنبياء ولم يفتأ بمن عقبوا

*

حتى النَّبيِّ .. وقد أرسى عقيدَتَهُ

في خاتَم الرُّسْلِ موصولاً بهِ النَّسَبُ

*

و في الظُّهور .. غداً يأتي لعالمنا

مع (المسيح) وصيٌّ نحنُ نرتقبُ

*

فيملأُ الأرضَ عدلاً كان مُنتَظراً

و يمحقُ الظُّلْمَ فيه الفوزُ و الغَلَبُ

*

و حين ذاك يعيشُ الخَلْقُ في رَغَدٍ

من بعدما الناس حقَّ العيش قد سُلِبوا

***

رعد الدخيلي

 

 

أختنق بالحياة

أحيانا

أختنق برائحتها

الغريبة

بألوانها

المستهلكة

بوجوهها التي تشبه كل

الوجوه التي عبرت

ارصفتي..

و التي لم تعبر ايضا

أختنق..

و أشتهي ان اجرب  الموت قليلا ..

قليلا..

حتى لا تاخذني الغفوة

الى وهم الحياة من جديد ..

ربما علي أولا

ان اتخلص  من

رائحة الحزن في

يدي ..

الموت لا يحب التعساء

يتركهم لأنهم يثيرون شفقته

و يأخذ السعداء

ليملأ ثقوب وجهه

بآخر ابتسامة لهم

يختنق الوقت

في  نهايات الحلم

يتمدد في دمي

مثل فراشة يدور

حول محور فراغي

و يضيق

امد يدي حولي

لأبرهن  ان

الفراغ ايضا

قد يتسع

لبعض الجنون

قلت ربما أهذي

او ربما

لم أستيقظ بعد

من اخر غفوة

ربما علي ان أعود الى

الحياة

الآن

قبل ان يسجل إسمي في عداد

المفقودين..

ساخذ معي

إسمي

و سرا صغيرا من طفولتي

و أغادر الحلم الآن

ربما الآن

او بعد قليل

لا ادري..

برد  شديد في الخارج

و غيمات الدفئ هنا تكفي

وطنا من الثلج

هل أنتظر جرعة الماء

ام أعود كما في كل مرة

بظمئي

كان الصباح يناديني

بصوت أعرفه

و لا أعرفه

و  الكلمات تقفز في دمي

و تموت من العطش على شفتي

و الصوت يصعد حتى

آخر بستان

في روحي

و يعود محملا

بالامنيات

الآن فقط أدركت

أنه أنت من كان يناديني

يحدث ان تأتي

الدنيا

بلون الفجر الدافئ

بين كفي

عشق جامح

سأنهض الآن

بلون جديد..

بوجه جديد..

بحب جديد..

***

بقلم: وفاء كريم

 

 

دقّاتُ الساعةِ تُعلن تمام الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت جالسا في غرفة المكتب، لا أقو على الحراك، أدفن رأسي بين يدي، أضغط بهما عليها؛ أحاول أن أسكت الصوت بداخِلِها دون جدوى، ظلَّ يَطرُق البابَ في إلحاح، يأملُ في العودة، يشتاقُ إلى الظهور، يتمنى لو يتردد صداهُ، وأن يحتلَّ تلكَ المساحةَ الشاسعة بداخل عقلي مرةً أخرى؛ على أملِ أن يحتلَّه كلَّه يومًا ما، كأنَّ مجردَ وجودِهِ بداخله بالنسبة له هو الوجود.

اختبرْتُ نفس الحالة معه كثيرًا من قبلُ، إنها أوقات، تأخذُ من وجداني، وتُسَيِّرُ عاطفتي، وتهيِّجُ أشجاني كيفما تشاء، لكنها بالنسبة له هي الحياةُ، كلُّ الحياة.. وفي كل مرةٍ طالتْ أم قصرت أختار رجوعَه، على الرغم من علمي بما أمرُّ به في تلك اللحظات من عذابٍ وقلق وخواء، ومع يقيني من أنه في وقتٍ ما بعد عودته يجبُ أن أقاومَه حتى أمنعَه من احتلالِ عقلي كلِّه، إلا أني في كل مرة أسمح له بالرجوع، وكأنِّى لا أتعلم شيئًا.

يطرق الباب، بمجرد أن أواربَه يجمعُ بقايا قوته في لهفة؛ فيدفعني ويقفز إلى الداخل في سرعة، لا أجد معها بُدًا إلا أن أُفسِح له الطريق.. إنها، وبطريقة ما، بالنسبة إليه دورة حياة، يبدأ فيها همسًا، ثم ينمو حتى يعظم، ثم ما يلبس أن يخفت ويذبل حتى يموت، ومن ثم ينبعث من جديد ليبدأ دورة حياته مرة أخرى، ولكن بثوب جديد.. إنه صوت يطلب الوجود على أمل أن يجد الرحمة، ينشد العودة على أمل أن يجد السعادة التي حُرِم منها طويلًا، يملك الإصرار والدافع في كل مرة ليعود، لعلّه يتعلم من أخطائه، لعلّه يجد الأمان الذى حُرم منه طويلا إلا من تلك اللحظات التي يسكن فيها عقلي، فنتشارك آلامه وعذابه وآماله ورجاءه.. هل أسمح له بالعودة في هذه المرة؟ هل هو حقًّا قراري؟ وما خياراتي؟

إن الإنسان في حرب ضروس مع كل القيود، يطمح إلى كسرها جميعًا، يطمع في أن يجد المجال ليفكر كيف شاء، ويفعل ما يشاء دون رقيبٍ أو واعزٍ أو واعظٍ، على أمل أن يجدَ المطلق، وتكون أنفاسه الحرية، لكنه في كل مرة يستطيع أن يكسر قيدًا، يذهب مهرولًا إلى قيد ما وراء القيد، يذهب سريعًا إلى قيدٍ ما يشتهيه هو نفسه، إلى بواعث كسره للقيد، وما أكثرها من قيود! فهل هي رحلة لاستبدال قيد بقيد، وقيود بقيود؟ أم دائرة الخواء؟! أم الخيارات والقرارات التي يتخذها كل إنسان على حدة في رحلة بحث عن ذات وتحديد هوية، في عمل دؤوب لاستخراج مكنونات نفسه؟

أتذكر ما حدث ذلك اليوم جيدًا، فمع إصابتي التي تَحول بيني وبين مواصلة القتال بجانبه، حاولتُ أن أجعله يعدُل عن التصدي للعدو بمفرده، حاولت منعه من مجرد الظهور لهم، سألته أن يختبئَ حتى يأتي المدد، لكنه لم ينصت إلى كلامي، لقد بدا وكأنه لم يسمع منه حرفًا واحدا، نهض في همة يصرخ ويطلق عليهم النار في جسارة، قتل عددًا منهم وأصاب أُخر، وأتى المدد ليجهز على البقية، كان خياره الذي أنقذ حياتنا.

هو عناده، رُبَّما شجاعته، أو رُبَّما حبه لي ومحاولة إنقاذي هو ما قاده إلى التصدي لهم بهذه الطريقة السافرة.. لا أدري، لقد أعطاني تبريرًا مختلفًا في كل مرة عاد فيها إلى عقلي، لم أراه أو أسمع منه بعد الحرب.. ثم أتاني خبر موته.. سأجمع شتات نفسي هذه المرة؛ لأسأله: “ماذا حدث له؟ كيف لمثله أن يموت بجرعة زائدة من المخدرات؟”

هل اختياراتنا ما تحدد مَن نكون حقًّا؟ أم هي رحلة ما تلبث أن تبدأ لتنتهي، وما تلبث أن تنتهي لتبدأ في استمرارية لامتناهية، على أملِ أن يجدَ صاحبها الرحمة، على أمل أن يجد السعادة، على أمل ألَّا يرتكبَ نفس الأخطاء، على أمل ألَّا يتخذ نفس الخيارات، وعلى أمل أن يجد الطمأنينة والسكينة والراحة؟.. تمامًا مثل ذلك الصوت في عقلي.

***

طارق حنفي

مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، اقْتَحَمَتْ سُكَونَهَا، جَرَفَتْ خَيَالَهَا إِلَى الْبَعِيدِ، وَ..

كَرَّتْ خَرَزَاتُ الْأَيَّامِ وَالْأَعْوَامِ السَّالِفَةِ، وَحَامَتِ الْأَفْكَارُ فِي سِنِيهَا الْخَوَالِي الْجَمِيلَةِ الْمَا تَلَاشَتْ، تُفْضِي بِهَا إِلَى جِرَارِ طُفُولَتِهَا الْتَلَذُّ لِرُوحِهَا، وَتُسْعِدُ قَلْبَهَا.

وَمَا لَبِثَتْ حَنَان تَلْهَجُ بِمَآثِرِهَا الْحَمِيدَةِ، بِحَنِينِ طِفْلَةٍ تَفَرَّدَتْ بِمَحَبَّةِ الْأُسْرَةِ، وَبِمَوَاهِبَ وَمَزَايَا عَالِيَةٍ..

جَعَلَتْ تَفْتَحُ بِأَصَابِعِهَا الطُّفُولِيَّةِ جُعْبَتَهَا الْحَافِلَةَ بِالذِّكْرَيَاتِ، وَمَا أَعْيَتْهَا ذَاكِرَتُهَا الشَّمْعِيَّةُ الرَّهِيفَةُ..

أَخَذَتْ تَسْبُرُهَا بِعَشْوَائِيَّةٍ، تُقَلِّبُهَا، تَنْقُشُ أَحْدَاثَهَا الْمَا عَرَفَتْ لِينَ الْعَيْشِ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا، لكِنَّ وَالِدَهَا كَانَ عَطُوفًا، يَرِقُّ لَهَا، يُغْضِرُ عَلَيْهَا حَنَانَهُ وَيُغْدِقُهُ..

وَبِكُلِّ أَسًى..

أَلْفَتْ نَفْسَهَا عَاجِزَةً عَنْ مُغَالَبَةِ حُلُمِهَا فِي الثَّرَاءِ..

كَمْ كَانَ يَحْدُوهَا الْأَمَلُ وَالرَّجَاءُ..

كَمْ كَانَتْ تُمَنِّي نَفَسَهَا بِالْفَوْزِ وَلَوْ بِبَعْضِ قُرُوشٍ.. وَكَم وَكَم..

ويَهُزُّهَا صَوْتُ أُمِّهَا مِنَ الْمَاضِي السَّحِيقِ الْبَعِيدِ يُغَنِّي الدّلْعُونَا:

الشّايب ما ألوشُه الشّايب ما ألوشُه

لو حطولي الدّهب مَلاة طربوشُه

يلعن الشايب ويلعن قروشُه

شوفة حبيبي تسوى مليونا

لكِنَّ حَنَان عَنِيدَةٌ، لَمْ تَنْطَوِ عَلَى أَحْلَامِهَا الْغَافِيَةِ، وَلَمْ يَكُفَّ رَجَاؤُهَا، فَهَل تَعْجَزُ عَنْ كَسْبِ بَعْضَ قُرُوشٍ تَلْمَعُ، وَهِيَ ذَاتُ بَدِيهَةٍ حَاضِرَةٍ وَسَرِيعَةٍ؟

فَجْأَةً انْدَاحَتْ فِي خَاطِرِهَا فِكْرَةٌ طَارِئَةٌ، فَانْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهَا، وَهَتَفَتْ فِي نَفْسِهَا:

- "نَعَم هُوَ..  هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.. إِنَّهُ كَامِلُ الْأَهْلِيَّةِ..

نَعَم.. هُوَ.. بِقَوَامِهِ الرَّشِيقِ.. بِثِيَابِهِ الْأَنِيقَةِ..

بِوَجْهِهِ الْوَسِيمِ الْمُشْرِقِ، يَتَأَلَّقُ بِشْرًا، وَيَفِيضُ حَيَوِيَّةً..

هُوَ .. بِابْتِسَامَتِهِ الرَّقِيقَةِ الْجَذَّابَةِ الْتَتَلَاعَبُ عَلَى شَفَتَيْهِ..

فَرْخُ شَابٍّ هُوَ، يَبْحَثُ عَنْ رِيشٍ، حُلْوُ الْحَدِيثِ وَالتَّغْرِيدِ..

نَعَم.. هُوَ .. وَقَد دَخَلَ فِي فُرْنِ الْمُرَاهَقَةِ..

يَااااه.. كَمْ يَرُوقُ لِي.."

وَباكِرًا جِدًّا فِي سَاعَاتِ السَّحَرِ وَالْفَجْرِ، يَرْكَبُ أَشْرَف بَحْرَ عَكَّا مَعَ الصَّيَّادِينَ، يُجَدِّفُونَ بِالْقَوَارِبِ، يُلْقُونَ الشِّبَاكَ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ، يُلَازِمُهُمُ الْحَظُّ الْغَائِم، وَفَوْقَ الْأَزْرَقِ الْمُمْتَدِّ يَنْتَظِرُونَ الرِّزَقَ الْعَائِم، يَسْحَبُونَ الشِّبَاكَ، يَجْمَعُونَ مَا يُصِيبُونَهُ مِنْ صَيْدٍ، يَشُقُّونَ بُطُونَ الْأَسْمَاكِ، وَيَضَعُونَهَا فَوْقَ أَلْوَاحٍ خَشَبِيَّةٍ، مِنْ تَحْتِهَا قَوَالِبُ ثَلْجِيَّةٍ.. وَ...

فِي الْبَحْرِ يَتَزَيَّا أَشْرَف بِزِيٍّ بَحْرِيٍّ وَمَلَابِسَ فَضْفَاضَة، تُعِينُهُ لِيَكْسِبَ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْفَضْفَاضَة، وَقَدْ بَانَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ. وَيَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ، يَحْمِلُ لِأُمِّهِ سَمَكًا، وَالْحَمَّامُ السَّاخِنُ يَنْتَظِرُهُ، فَيَغْتَسِلُ.. يَسْتَحِمُّ، وَيَرْتَدِي ثِيَابًا أَنِيقَةً وَيَتَعَطَّرُ..

قَالَتْ حَنَان فِي نَفْسِهَا:

- "أَنَا لَا أُرِيدُ سِوى نُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ..

للهِ دَرّكَ يَا بَحُرُ، وَمَا أَطْلَعَ مِنْ خَيْرِكَ وَكُنُوزِكَ."

جَلَسَ أَشْرَف فِي الشُّرْفَةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى بَحْرِ عَكَّا، وَطَفِقَ كَعَاشِقٍ سَاهِمًا سَارِحًا، يُصْغِي إِلَى ثَرْثَرَةِ الْأَمْوَاجِ، يُحَدِّقُ بِهَا تَتَدَحْرَجُ، تَتَضَاحَكُ، مَدُّهَا يُرَاقِصُ جَزْرَهَا، وَالرِّيَاحُ تُلَاعِبُهُمَا لَعْبَةَ الْقِطِّ وَالْفَأْرِ..

تَوَارَتْ حَنَان عَنْهُ، وَانْزَوَتْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُ، تُرَاقِبُهُ، وَتُنْصِتُ إِلَى حَفِيفِ صَمْتِهِ..

فَكَّرَتْ وَفَكَّرَتْ:

"كَيْفَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَرْشِيه، وَ(الْعِين بَصِيرَة، وَالإيد قَصِيرة)"؟

فَجْأَةً، غَاصَ أَشْرَف فِي صَوْتِهِ يُدَنْدِنُ، فَرَقَصَ قَلْبُهَا هَامِسًا:

- اجت والله جابها..

نَعَم، أَتَتْ وَمِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي.. وَاتَتْهَا الْفُرْصَةُ عَلَى رِجْلَيْهَا، فَاغْتَنَمَتْهَا عَلَى عَجَلٍ وَمَجَّانًا..

جَلَسَتْ بِقُرْبِهِ فَرِحَةً، تُشَارِكُهُ هَدِيرَ الْبَحْرِ فِي انْسِجَامٍ وَتَنَاغُمٍ، وَتُضْفِي عَلَى صَوْتِهِ الْعَذْبِ جَلَالًا:

هَدِّي يَا بَحر هَدِّي/ طَوَّلْنا في غيبتنا

ودّي سلامي ودّي/  للأرض اللّي ربتنا

سلّم لي على الزيتونِة/ وع أهلي اللّي ربّوني

وْبَعْدْا إِمّي الحنونِة/ بتشَمْشم بمْخدِّتْنا

سلِّمْ سلِّمْ عَ بلادي/ تربة بَيي وأجدادي

وبَعْدو العصفور الشّادي/  بِغَرّد لعَوْدِتْنا

خُدي سلامي يا نْجوم/  على البيادر والكروم

وْبَعْدا الفراشه بِتْحُوم/  عمْ تِستنْظِر عَوْدِتْنا

ثُمَّ سَأَلَتْهُ بِتَهَيُّبٍ وَتَوَدُّدٍ ذَكِيٍّ:

- "هَلْ يُغَطِّي الزَّمَّارُ الْمَلْهُوفُ ذَقْنَهُ، حِينَ يَتَكَسَّبَ الْمَالَ"؟

أَجَابَ ضَاحِكًا مُسْتَهْجِنًا:

- طَبْعًا لَا يَجُوزُ.

- أَشْرَف، حِذَاؤُكَ جَمِيلٌ، وَأَرْغَبُ فِي تَلْمِيعِهِ..

هَل تَسْمَحُ لِي؟

أَجَابَهَا بِسُرُورٍ دُونَ تَرَدُّدٍ:

- يُسْعِدُنِي.. لَيْتَكِ تَفْعَلِينَ..

- وَكَمْ تُعْطِينِي؟

فَاجَأَهُ سُؤَالُهَا الْمُبَاغِتُ، فَكَّرَ بِتَأَنٍّ، وَابْتَغَى أَنْ يُدْخِلَ السُّرُورَ إِلَى قَلْبِهَا، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةِ رَجُلٍ وَاثِقَةٍ:

- أُعْطِيكِ مَا فِي جَيْبِي مِنْ عِمْلَةٍ مَعْدَنِيَّةٍ (فْرَاطَة)..

- وَهَلْ تَبِرُّ بِوَعْدِكَ؟

- أَكِيد.. وَدُونَ شَكٍّ..

انْفَرَجَتْ أَسَارِيرُ حَنَان، وَتَوَهَّجَ قَلْبُهَا الْمَحْرُومُ غِبْطَةً، بَعْدَ فَتْرَةِ حِرْمَانٍ وَفَقْرٍ وَفَاقَةٍ..

انْتَعَشَ أَمَلُهَا الْمَقْرُورُ مُسْتَدْفِئًا وَغَنَّى، إِذْ هَبَطَتْ عَلَيْهِ ثَرْوَةٌ، تُعَمِّرُ مِنْ لَحْظَاتِ طُفُولَتِهَا الشَّقِيَّةِ قَصْرًا وَدُمًى وَحَلْوًى.

تَرَنَّحَ الْفَرَحُ بَيْنَ جَوَانِحِهَا وَفِي جُيُوبِهَا الْفَارِغَةِ، فَبَدَتْ أَكْثَرَ انْشِرَاحًا، غَدَتْ مَسْحُورَةً تَتَدَفَّقُ حَرَارَةً، تَرْكُضُ، تُهَرْوِلُ،  كَفَرَاشَةٍ تَطِيرُ، تُحْضِرُ عُلْبَةَ الدِّهَانِ (الْكِيوِي) وَالْفُرْشَاةِ..

تَرَبَّعَتْ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَضِنُ الْحِذَاءَ، تَدْهَنُهُ بِلَهْفَةٍ ، تَدْعَكُهُ بِحَنَانٍ، تُلَمِّعُهُ بِخِرْقَةِ قِمَاشٍ قُطْنِيَّةٍ، وَيَفُوحُ صَوْتُهَا يُغَرِّدُ بَعْدَ دَقَائِق:

- حِذَاؤُكَ صَارَ يَبْرُقُ بَرْقًا.. يَلْمَعُ لَمَعَانًا..  صَارَ يَلِضُّ لَضًّا..

يُمَازِحُهَا أَشرَف مُدَاعِبًا:

- تمَاري فِيهِ، وَإِذَا شُفْتِ صُورتك أَدْفَع لَك..

ثُمَّ يُكَافِئُهَا باشًّا مُلَاطِفًا، وَيَضَعُ فِي كَفِّهَا حَفْنَةً مِنَ الْقُرُوشِ وَالتَّعَارِيفِ وَالشُّلُونِ، فَتَطِيبُ نَفْسُهَا بِهَا، وَيُشْرِقُ وَجْهُهَا لَهَا..

تَلْمِيعُ أَحْذِيَةٍ؟

نَعَم، هِيَ مُهِمَّتُهَا الْيَوْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ الرَّسْمِيَّةُ، دُونَ حَرَجٍ أَوْ رَشْوَةٍ، تُلَمِّعُ الْحِذَاءَ، وَتَلْمَعُ الْقُرُوشُ فِي جَيْبِهَا..

وَمَا أَسْعَدَهَا بِمُهِمَّتِهَا وَعَمَلِهَا الْجَدِيدِ!

وَمَا أَهْنَاهَا بِقُرُوشِهَا وَشُلُونِهَا..

لكِنْ؛ ذَاتَ مَوْجَةٍ نَزِقَةٍ.. لَمَعَ الْحِذَاءُ، وَمَا لَمَعَتْ جَيْبُهَا بِالْقُرُوشِ، بَلْ قَدَحَتْ عَيْنَاهَا شَرَرًا، اتَّقَدَتَا نَارًا، وَاشْتَعَلَتَا  لَهَبًا حَارِقًا، حِينَ نَغَّصَ أَشْرَف بَالَهَا، وَعَكَّرَ صَفْوَهَا قَائِلًا:

- لِلْأَسَف، الْيوم جيوبي فَارغَة مِنَ الْفراطة والفرايط..

فَغَرَتْ حَنَان فَمَهَا عَلَى مِصْرَاعِهِ فِي حَالَةِ دَهْشَةٍ عَمِيقَةٍ، مَطَّتْ شَفَتَيْهَا حَنَقًا، وَرَمَتْهُ بِنَظْرَةٍ بُرْكَانِيَّةٍ خَامِدَةٍ مُسْتَفْسِرَةٍ:

"هَل تَتَمَرَّدُ وَتَغْضَبُ؟

هَل تَضْرِبُ صَفْحًا عَنْ عِصْيَانِهِ وَتَسْكُتُ؟"

كَانَ أَشْرَف يَقِفُ عَلَى قَيْدِ خُطْوَةٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُفَّ عَنِ الاسْتِمْرَارِ فِي إِثَارَتِهَا، بَلِ اسْتَرْسَلَ فِي اسْتِفْزَازِهَا، يُجَارِيهَا فِي لُعْبَةِ التَّوْتِيرِ وَشَدِّ الْأَعْصَابِ قَائِلًا:

- إِنْ كُنْتِ لَا تُصَدِّقِينَ، مُدِّي يَدَكِ إِلَى جُيُوبِي وَافْحَصِيهَا.

هَيَّا..  تَأَكَّدِي بِنَفْسِكِ..

وَدُونَ تَرَدُّدٍ مَدَّتْ حَنَان يَدَهَا إِلَى جَيْبِهِ الْأُولَى، بَحَثَتْ وَبَحَثَتْ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى جَيْبِهِ الْأُخْرَى، قَلَّبَتْ شَقْلَبَتْ بَحْبَشَتْ، لكِنْ خَابَتْ مَسَاعِيهَا، ولَمْ تَجِدْ مُنَاهَا وَمُبْتَغَاهَا..

بِكَامِلِ خِذْلَانِهَا وَذُلِّهَا كَانْتْ، فِي حَالَةٍ أَدْعَى إِلَى الْيَأْسِ وَالْخَيْبَةِ الْمَرِيرَةِ، لكِنْ، كَانَ يَنْقُرُ أَبْوَابَ أَعْمَاقِهَا هَاتِفٌ نمْرُودٌ عَاصٍ يَهْمِسُ بِاللَّامُسْتَحِيلِ..

تَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهَا، وَجَمَ وَجْهُهَا، وَنَمَّ عَنْ سُخْطٍ وَتَبَرُّمٍ، فَانْتَزَعَتْ يَدَهَا مِنْ جَيْبِهِ غَاضِبَةً ثَائِرَةً..

وَكَمَا الْبَحْرُ يُبَطِّنُهُ هُدُوءٌ وَحْشِيٌّ، أَفْلَتُ الزِّمَامُ، عَجَّ هَدِيرُ صَوْتِهَا وَضَجَّ، وصَارَتْ تَشُطُّ وَتَنُطُّ صَارِخَةً:

- وَلكِن بَيْنَنَا اتِّفَاقِيَّة .. هَل نَسِيتَ؟

إِسَّا إِسَّا بدّي القروش.. هذا حقّي.. هذا حقّي..

وَقَفَ أَشْرَف مَذْهُولًا، تَعَاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ، أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ هُنَيْهَةً، وَطَفِقَ يَتَخَيَّرُ كَلِمَاتٍ لِتَهْدِئَتِهَا..

لكِنْ كَيْفَ، وَقَد أَلمَّتْ بِهَا نَوْبَةُ بُكَاءٍ حَارَّةٌ، فَخَرَجَتْ عَاصِفَةً تَجْرِي، وَتَوَارَتْ عَنْ نَظَرِهِ..

هَمَّ بِاللِّحَاقِ بِهَا، فَمَا أَدْرَكَهَا، وَتَوَقَّفَ مُسْتَغْرِبًا مَا يَحْدُثُ عَلَى غَيْرِ تَوَقُّعِهِ، وَ..

آثَرَ الَّصَمْتَ.. إِيثَارًا لِلسَّلَامَةِ وَالْمُسَالَمَةِ..

وَمَا هِيَ إِلَّا هُنَيْهَات، وَإِذَا بِها تَعُودُ زَوْبَعَةً صَاخِبَةً تُزَمْجِرُ وَتُهَدِّدُ..

تَوَقَّفَتْ أَقْدَامُهَا .. وَمَا تَوَقَّفَ إِقْدَامُهَا..

وَنِكَايَةً وَتَشَفِّيًا بِهِ، رَفَعَتْ يَدَهَا الْمُلَطَّخَةً بِالْوَحْلِ فِي وَجْهِهِ، أَمْسَكَتِ الْحِذَاءَ اللَّامِعَ بِيَدِهَا النَّظيفَةِ، وَصَرَخَتْ بأعلى صوتها:

- وشَرَفِي وشَرَفَك..

أَمَرْمِغ كُنْدَرْتَك بِالْوَحْل، أَو تعطِينِي القرُوش؟

هَرْوَلَ أَشْرَف صَوْبَهَا، وَظَلَّ مَالِكًا أَعْصَابَهُ وَصَوَابَهُ، هُوَ السَّمِحُ الْمُتَسَاهِلُ، هُوَ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ أَمْسَكَ بِيَدَيْهَا، وَبِنَظْرَةٍ عَامِرَةٍ بِالْحَنَانِ انْفَجَرَ ضَاحِكًا:

- أُخْتِي الْحَبِيبَة..

هَدِّئِي رَوْعَكِ، سَكِّنِي جَأْشَكِ وَأَنْصِتِي ِلي..

الْقُرُوش مَعِي، أَفْرَغْتُ جُيُوبِي مِنْهَا لِأَمْتَحِنَكِ..

وَقَدْ نَجَحْتِ بِامْتِيَاز..

*

أُخْتِي الْحَبِيبَة.. صَدِّقيني

هُوَ مَقْلَبٌ مِنْ مَقَالِبِ الْحُقُوقِ..

*

وَأَنْتِ مَا كُنْتِ مِثْلَمَا قَالَ الْمَاغُوط:

"أَعْطُونَا الْأَحْذِيَةَ وَأَخَذُوا الطُّرُقَاتِ"

ثُمّ.. دَسَّ الْقُرُوشَ فِي يَدِ حَنَان، وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا يَدَهَا بِيَدَيْهِ..

وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهَا وَيَسْتَسْمِحُهَا..

لكنَّ حَنَان الطِّفْلَةَ الْوَدِيعَةَ استحالتْ لَبُؤَةً جَرِيحَةً؛

انْدَلَعَتْ ثَوْرَةُ إِعْصَارِهَا ومَا سَكَنَتْ..

بَلَغَتِ الْقِمَّةَ..

وبِغُلِّهَا ومِنْ أَعْمَاقِ جُرْحِهَا..

بِمِلْءِ فِيهَا وَبِكُلِّ مَا فِيهَا...

زَأَرَتْ زَئِيرًا مُدَوِّيًا:

- "أَعْطُونَا الطُّفُولَة؟

"أَعْطُونَا الثُّوَّار؟

أَخَذُوا الثَّوْرَة؟"

حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، وَثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، تَتَحَدَّى الْقُرُوشَ الْكَبِيرَةَ، وَتَثْأَرُ لِكِبْرِيَائِهَا..

رَمَتِ الْقُرُوشَ بِعَزْمٍ، قَذَفَتْهَا بحُرْقَةٍ، فَانْتَعَفَتْ فِي أَرْجَاءِ الْغُرْفَةِ وانْتَثَرَتْ فِي زَوَايَاهَا، وَصَفَقَتْ تَرْتَطِمُ، وَكَالْقَذَائِفُ تُدَوِّي بَيْنَ الْجُدْرَانِ وَالْأَرْكَانِ، تَتَعَثَّرُ وَتَتَبَعْثَرُ..

حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، ثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، وَ..

قَذَفَتْ عَنْهَا زَبَدَ خُنُوعِهَا وَقُنُوطِهَا..

وَمِنْ يَوْمِهَا..

فَرَطَ الِاتِّفَاقُ.. وَانْفَرَطَ الْوِفَاقُ..

مِنْ يَوْمِهَا..

فَرَطَ وَعْدُ مَسْحِ الْأَحْذِيَةِ، وَعَهْدُ تَلْمِيعِهَا، وَمَجْدُ تَقْبِيلِهَا..

وَمِنْ يَوْمِهَا..

انْتَهَى عَهْدُ الْكُرُوشِ وَالْقُرُوشِ، وَزَالَ وَعْدُ الْفَرَافِيطِ والْفرَاطَة..

***

آمال عوّاد رضوان

 

في هدأةِ انتظارِ مايَكون

تَنَهدّتْ حَواسُنا

فعَضّتِ الأشواقُ أسبابَ الحَياءْ

لتَصرَخَ القُبَلْ

وتُسدَلَ الجُفون

ويرتَقي علىٰ ارتباكِنا اشتِهاءْ

أتَعذُلينَ الليلَ إنْ أباحَ صمتُهُ

تَأوّهَ الشِفاه

ولَهفةَ العيونْ

ليُسْلمَ الصَباحَ ما طوىٰ الذراعْ

ورَغبةً لم تكتمِلْ

*

شَفَتاكِ أسرَجَتا جَواديَ الطَليقْ

لينهبَ الوِهاد

ويسبقَ الأنفاسَ في ارتعاشِها الخَليع

وَلْتعْرِفي

أنا فارسٌ لا أمسِكُ اللّجام

أو أستريحَ في مَخابئِ الظلام

فلتَنشري نَسائمَ الشُروعْ

ولتَبسطي الطَريقْ

*

أوقَدْتِ جَذوةَ حُبّكِ .. فاعرفي

إنّي هَشيمٌ تَشتَهيهِ النارْ

لمْ تَسألي .. ماذا أنا

هل أكتَفي

وجَعَلتِ من عُنُقي مَزاراً

خَلّفَتْ شَفتاكِ حِنّاءً بهِ

كي تُعلِنا

ما تغفلُ الأبصار

وعليهِ من أنفاسكِ الحَرّىٰ

سَعيرٌ

لامعٌ في عتمةِ الأسرار

*

عنقودُكِ المَخضوبُ من نَسغِ الهوىٰ

يَختالُ كالجِنيّ ..

يَشْتَمُّ كالأفعىٰ الهواءَ إلى فَمي

ريّانُ يبحثُ عن يَدي

عن أصْغَري

لمّا تدلّىٰ

صارِخاً في صَمتهِ

وجرىٰ لهُ تَوقي كما يَجري دَمي

أدرَكتُ أنّ الحُبَّ يُسقىٰ .. يُشتَهىٰ

كالخَمرِ من دِنٍّ طَري

*

تُقرّحُ النجومُ نَظرَتي لها

فتَحتَها

بلا حَياء

عَصَبتُ إثميَ العاري .. كما

حَقنتُ أوردَتي هوىً .. ومُبتَغىٰ

ولم أزلْ أُسائِلُ السَماء

كي أرتَوي

كأنني .. أنقىٰ .. إذا

بَذَرتُ حَبّاتي بأقبِيةِ النِساء

***

عادل الحنظل

كانَ الجميعُ في ليالي الصيفِ يصعدونْ*

إلى سطوحِ دورِهمْ

وقبلَ نومِهِمْ

يراجع الكبارُ  ما مَرّ  بِهِمْ

وما الذي يُمكِنُ أنْ يأتي لَهُمْ

في غدِهِمْ

كان الصغارُ  يَحْلُمونْ

بأن يَعِدّوا ما يستطيعونَ من النجومْ

فيبدأ العَدُّ

ولكنْ كلَّهم بالعَدِّ يفشلونْ

فتأخذُ الظنونُ بعضَهُمْ

و بعضَهُمْ في الوهمِ يَسْبَحونْ

فيَحْسِبونَ الّليلَ كلّما

يقتربُ الفجرُ  مِنَ البُزوغْ

يغازلُ النجومْ

يُسْمِعُها همساً رقيقاً حالما

لكنّها تروغْ

تهربُ منه عندما

يستيقظُ الفجرُ

فتمضي باسمةْ

لتنفقَ النّهارَ  نائمةْ

وَهْيَ تغنِّي حالمةْ

للصحو  وقتُهُ

وللمنام وقتُهُ

وإنّني

أبُصِرُ  في النومِ الضّياءَ كلَّهُ

شعر : خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

***

....................

* كان من عادة العراقين في أزمنة سابقة، النوم فوق سطوح منازلهم خلال أيام الصيف بسبب الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، و عدم وجود أجهزة تبريد في حينه، ولكن  هذه العادة بدأت في الاختفاء بعد أن توفرت أجهزة التبريد، كما ساعدت على اختفائها ظاهرة الرمي العشوائي، والرغبة في بناء ملحقات أو شقق سكنية فوق سطوح البيوت.

 

أحملك سرا

بينَ ثنايا لُجّتِي

فِجاجِ ارتباكِي

كلما ثَقُلَ

ازدادَ الحَنِينُ أَلَقًا

وازددتُ أنوثةً

حتى مدارِ الموتِ

*

أَحْمِلُكَ....نظرةً

بينَ أَهدَابِها

تمرُّ سُهُوبي

حاملةً ذنوبَها المكلومةَ

وخطايا تئنُّ

من فرطِ المُصَادَرَةِ

بعدما انتهتْ

من تسبيحةٍ دامتْ

جُوعًا ...وكثير ظمأٍ

*

أَحْمِلُكَ ...لُغْزًا

في الناحيةِ الوسْطَى

لجِهتي اليُسْرَى

وكلُّ ما على اليسارِ ممنوعٌ

فكيف يَفُكُّ غُموضكَ المبطنَ

وضوحي الفلكي؟

*

أَحْمِلُكَ....نارًا

كلما التهبتْ

في الممشَى الشّجرِي

من عُمري المَاضِي

أزهرَ الرمادُ

وعبقَ عطرُ الانتشاء

مساحاتِ الغياب

*

أحملك.....جنونًا

يُشكلني خارجَ القوانين

مهرةً بريةً

ترفضُ القيودَ

مهما كانتْ لآلئُها

تخترقُ نقاطَ العبور

تتسلقُ الأسوارَ المقدسةَ

لتتوقفَ أمام جداريةِ العشقِ

وقد تخلصتْ

من هرطقةِ الممكنِ

وكلِّ ما كان

*

أحملك....أغنيةً

تُلقِي صداها على وجهِ البحر

ينتصبُ الغروبُ محرابًا

أقفُ عليه وأعلنُ =

أني تنازلتُ

عن السندسِ والإستبرق

من أجلِ زغرودة

تمسحُ عن ملمحي

غبارَ الأرق

وسهدَ الليالي

*

أحملك....وشمًا في الذاكرةِ

لم يحظَ مذ شهرزادُ

بتنهيدةٍ تشقُّ وجهَ الرخامِ

لتعبرَ الأغاني

دونَ وصايةٍ

من حنجرةٍ أتعبتها الحشرجةُ

فظل الحلمُ أسيرًا

بين الوريدِ والوريدِ

*

أحملك....ابتسامةً

كلما ارتسمتْ

على شاشةِ أفقي

وجدتُ البحرَ على يميني

الشمسَ على جبيني

والأرضَ نفسا

عتيًّا بالضياء

فاحشا بالرواء

*

أحملك....حلمًا

يحيا ...ويحيا

في نبضِ الدماءِ

رؤيا تهوى الاختناقَ

في عيونِ الريحِ

زمنًا هاربا من أقفالِ القدر

نجمًا يُغالبُ الغيمَ

حاضرًا في الثنايا

مهما حجبتهُ السحبُ

ومهما أمعنتِ الريحُ في البعثرة

*

أحملك.... موتًا

منقوشًا على جدرانِ الروحِ

أسَألَه كلَّ ليلة

رخصةَ فرحة

شهادةَ انبعاث

قبل أن أنتثرَ

رمادًا على صفحةِ انتظار !

*

أحملك .....جرحًا دفينا

أكبرَ من سدرةِ الجسد

مفتوحًا على آخره

نازفًا بين الأرضِ والسماء

فاتحا أخاديده

لاحتضان لُهبان الشوقِ

آخرُ البَرْءِ الكيُّ

فهل تُراه به يندملُ ؟

*

أحملك .....مخاضا عسيرا

أجوبُ به أرجاءَ الزمانِ والمكان

أطوفُ الأضرحةَ

أستجدي العرافاتِ

أن يضربن الودعَ

لأعرف متى ...كيف .....وأين

يكون الوضع...؟

أقمتُ الزارَ تلو الزار

عل الجنينَ يكون نجما

وتكون السماءُ

أرضَ لقاء !

*

أحملك ......حنينا

سلالاتٍ من شعرٍ

تفتحُ مغاليقَ البلادِ

يصيرُ الترابُ

سبائكَ غَزَلٍ

تحفرُ في ذاكرةِ الوجدِ

حتى آخرِ عروقِ النبض

*

أحملك ....سمفونية

أسفي بها النشازَ

ليعلو لحنُ الشوق

هجيرًا يضربُ قلاعَ الروح

لترتفعَ مواويلُ الاحتراقِ

فوق كلِّ الأبجديات

*

أحملك.....

ومازلت أحملك

حلما لا حدودَ له ...

أرويه بالدمعِ والبَرَدِ

أغذيه عذبَ النزيف

ليحيا حتى .... بعثِ ما بعد البعث

***

مالكة حبرشيد

 

الكلُّ يجري خلفَها لكنّها

تختارُ (مسّي) كي يكونَ أمينَها

*

يسعى بها سعيَ القَطاةِ بفرخِها

قَلِقاً يجسُّ شِمالَها ويمينَها

*

حَدِباً عليها خشيةً من باشقٍ

مترصدٍ حركاتِها وسكونَها

*

كرةٌ كسهمٍ إذ يفارقُ قوسَهُ

فتُصيبُ في المرمى هنا تسعينَها

*

عابوا عليهِ نحولَهُ لكنّها

نفْسٌ أبَتْ إلا الخلودَ قرينَها

*

الأرضُ تقرُبُ حينَ يهجُمُ نحوَهم

وتصيرُ أبعدَ إذ يذودُ حصونَها

*

شبحٌ على كلِّ الجهاتِ مُقسَّمٌ

كلُّ الشعوبِ رمت عليهِ عيونَها

*

عشبُ الملاعبِ من خُطاهُ مُبلَّلٌ

وبرقصةِ التانغو أثارَ جنونَها

*

وأحبَّهُ الحُكّامُ؛ لا خطأٌ إذا

لمسَ الكراتِ بكفِّهِ ليَزينَها

***

د. عبد الله سرمد الجميل

 

 

زحام على متن سفينة

 تكاد تغرق

***

أزدحم بالوقت

أزدحم بزخم اللغة

أزدحم بالمسافات

بالطرق غير المعبدة

أزدحم بالأرصفة

والناس

والحوانيت

وباعة الطرقات ...

أزدحم بالمواعيد

ازدحم بالاعترافات

أزدحم بثقيلي الظل

ممن يتلعثمون كلما تقاطعت نظراتنا

تزدحم بى الأمكنة

تضيق ذرعا بالذي أنهكها

أسال الطبيب المعالج

كيف أكون بخير؟

سيدي

قد ملني التعب

قد ملني صبر أيوب وأنا أحفظ ملح الكتب

أنا امرأة منحوتة من سفر الغياب

من وصايا الكتب

من تبر الاليادة الأولى وأساطير العرب ..

لماذا يتعبني السفر في عيون الأغبياء؟

يتساءل الطبيب

هل كنت وحدكِ عندما اجتمع الذئاب؟

كلا يا دكتور ..

قد كنتُ أنوى سن قانون ليحفظ ماء وجه الغابة

فاجتمع الذئاب وغيبوا عن ناظري

فانتصرت العصابة

كم كنت وحدي ..

أصارع بالمخالب

والأنياب

والأيادي ...!

*

كم كنت وحدي

أرمى للغرقى مجدافا و أشرعة لتنجو سفينة نوح

لننجو فتنجو معي كنوز السفينة

لكنهم باعوا .

اختاروا الطريق الوعر

و باعوا ....!

***

صليحة نعيجة - قسنطينة-الجزائر

أكتوبر 2019

عذرا شهرزادي الأسيرة

بين رقائق الحكاية

وانبعاث الصباحات الكليلة .

عذرا سيدتي

إذا ما غفوةٌ

عاجَت بي صوب جزر البوح ..

وانصرافِ العشّــــاق .

عذرا سيدتي

إذا ما نزقٌ

هزّني لاستباق النهايات،

-أو- عن غير قصد

تعثرت أحرفــي

في أهداب الكلام المباح،

حــيــن تسامـق

في نشوتــه الصبــاح.

عذرا .. سيدتي

فقـد طــال بنا

الحكــي ،

وداهمــت سفينتنــا

قطــع اليــمّ،

وتناءت حسيــرة عنّــا شواطئـنـا

لمّــا تنــادى الأفــق،

وافتقَـَـد شهريــار الحكــايــةَ

في يــوم لا نعــرفــه .

عذرا سيدتــي ..

إذا ما تركنـــا خلفنــا

الحكــاية،

وغادَرْنــا خيــالاتنــا

قســرا ..

واستعَــرْنــا راِويــا جـديــدا.. !!

عـذرا شهرزادي الحزيــنــــة..

فقد سَلّمنــا مـاردُ الحكــاية

من راو إلــى راو ..

ورتّـــبَ لنــا

ليــالــي الرقــص عــلى وقع الطبـلة و هـزّ البـوط !

حيــن أحكمــوا علينـا

القماقــم،

وأودعـوهـا

قيعان الجزر

وخلجــان النسيـــان .

***

محمد المهدي

المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم