أقلام فكرية

أقلام فكرية

"الخداع لا يتعارض أبدًا مع العقل، لأن الأمور كان من الممكن أن تحدث بالفعل كما يدعي الكاذب." حنة أرندت، الكذب في السياسة

لم تعد فلسفة الارتياب تهتم بقضايا مصادر الحقيقة وأصل الوجود والمعرفة المطلقة وأسس القانون فحسب وانما صارت تهتم بما يضادها وذلك بغية التخلص من الأكاذيب الاغتراب والأوهام والتخلي عن الأحكام المسبقة الأخلاقوية والتحيزات الاجتماعية الثقافية. لقد أضحت اللغة باراديغم الخطاب الفلسفي في الحقبة المعاصرة واحتل إنتاج المعنى قلب الاهتمامات التشكيلية سواء أكانت ادبية أو فنية واعيد تقويم عملية إصدار أحكام القيمة ذاتها. لقد جعلت فلسفة الظنة منذ سبينوزا ونيتشه وأرندت وريكور من الخطاب الكاذب إشكالا فلسفيا وقضية شائكة وحاولت تشخيص المرض والوقوف عند رأس الأمر والتحري في الموضوع المخادع وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ودفع ما يريبها الى ما لا يريبها والتشكك في قدرة الذات العارفة على قول الصدق. اذ رأى نيتشه في مقدمة نظرية للحقيقة والكذب بالمعنى الخارج عن الأخلاق؛ أن " الكذاب يستخدم تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل غير الواقعي يبدو حقيقيًا: فهو يقول، على سبيل المثال، "أنا غني"، في حين أن "فقير" بالنسبة لدولته هو التسمية الصحيحة. إنه يسيء استخدام التقاليد الصارمة عن طريق "الاستبدال الطوعي أو قلب الأسماء. إذا فعل ذلك بطريقة مهتمة وفوق كل شيء ضارة، فإن المجتمع لن يثق به وبالتالي يستبعده. البشر لا يهربون من حقيقة خداعهم بقدر ما يهربون من حقيقة تعرضهم للضرر من خلال الخداع: في الأساس، على هذا المستوى، لا يكرهون الوهم، بل يكرهون العواقب المؤسفة والعدائية لأنواع معينة من الوهم، شعور مقيد للغاية لدرجة أن الإنسان يريد الحقيقة فقط: إنه يطمع في العواقب السارة للحقيقة، تلك التي تحافظ على الحياة؛ تجاه المعرفة النقية وغير المهمة، فهو غير مبالٍ، تجاه الحقائق الضارة والمدمرة، بل إنه يميل بشكل عدائي"1. وأضاف في نفس السياق الجنيالوجي الباحث عن أصل وفصل الخطاب الكاذب في نفس المرجع ما يلي: " "يستخدم الكذاب تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل ما هو غير واقعي يبدو حقيقيًا؛ فيقول على سبيل المثال: "أنا غني" عندما تكون كلمة "فقير" هي التسمية الصحيحة لحالته. إنه يسيء التعامل مع الأعراف التي أنشأتها البدائل التعسفية وحتى الانقلابات "الأسماء. إذا فعل ذلك من منطلق المصلحة الذاتية وبطريقة ضارة، فإن المجتمع سوف يسحب ثقته ويستبعده في نفس الوقت. وهنا لا يخشى البشر حقيقة التعرض للخداع بقدر ما يخافون من حقيقة تعرضهم للأذى". بهذا الخداع: على هذا المستوى أيضًا، لا يكرهون الوهم بشكل أساسي، بل يكرهون العواقب المؤلمة والضارة لأنواع معينة من الأوهام، وينطبق تقييد مماثل على الشخص الذي يريد الحقيقة فقط: إنه يرغب في العواقب السارة للحقيقة. تلك التي تحافظ على الحياة، لكنه يظل غير مبال بالمعرفة النقية وغير الفعالة، بل ويشعر بالعداء تجاه الحقائق التي قد تكون ضارة ومدمرة."2 فهل الحاجة الى الاجتماع هي التي تجعل الناس يكذبون على بعضهم البعض ولو مزاحا ؟ وما الجدوى من التمسك بغريزة ارادة المعرفة إذا كانت تتعارض من حيث الوظيفة مع غريزة إرادة الحياة؟

بيد أن باروخ سبينوزا فيلسوف امستردام كان قد سبقه في مستوى نقد الخطاب اللاهوتي اليهودي وممارسة التأويل على الكتاب المقدس وفضح الاكاذيب والتحريفات التاريخية التي تعرض لها ودعا الى التخلص من الكذب على الذات والتخلي عن الأوهام وتبديد الأحكام المسبقة بقوله في القسم الرابع من كتاب الاتيقا في القضية 72 ما يلي: " "الإنسان الحر لا يتصرف أبدًا بالخداع، بل دائمًا بحسن نية"3 والبرهنة على ذلك على النحو التالي:" إذا تصرف انسان حر، كشخص حر، كمخادع، فإنه سيفعل ذلك بأمر العقل؛ لذلك فإن الخداع سيكون فضيلة، وبالتالي سيكون من الأفضل للجميع أن يخدعوا من أجل الحفاظ على كيانهم؛ وهذا يعني أنه من الأفضل أن يتفق البشر فقط بالقول وأن يكونوا في الواقع متعارضين مع بعضهم البعض، وهو أمر سخيف. لذلك انسان حر، الخ." ثم أرفق ذلك بحاشية تساءل فيها:" هل يُسأل عما إذا كان انسان، في حالة تمكنه من تحرير نفسه من خلال سوء النية من خطر الموت الوشيك، فإن قاعدة الحفاظ على كيانه لن تحكم بشكل واضح سوء النية؟ وأنا أرد بنفس الطريقة: إذا كان العقل يأمر بذلك، فإنه يأمر به جميع الناس، وبالتالي فإن العقل يأمر جميع الناس بشكل عام ألا يبرموا فيما بينهم اتحاد قواهم وإنشاء حقوق مشتركة بدلاً من الاتفاقات الخادعة. أي أنه يأمر بعدم وجود حقوق مشتركة في الواقع، لكن هذا أمر سخيف". لكن ألا يوجد تباعد تام بين هذه العقلانية الجذرية الرافضة للخداع ومتغيرات التاريخ الواقعي التي تشهد تفجر العنف واندلاع الحروب والنزاعات بين الدول؟

بعد ذلك وضمن التراث الفلسفي اليهودي ذاته ولكن بنبرة مابعد حديثة انفردت حنة أرندت برؤية واقعية للخطاب الكاذب بقولها في كتابها من الكذب إلى العنف ما يلي:" غالبا ما تكون الكذبة أكثر قبولا، وأكثر إغراء للعقل من الواقع، لأن الكاذب يتمتع بميزة عظيمة تتمثل في معرفة مقدما ما يرغب الجمهور في سماعه أو يتوقع سماعه. لقد تم إعداد نسخته للجمهور، مع إيلاء اهتمام خاص للمصداقية، في حين أن الواقع لديه هذه العادة المزعجة المتمثلة في تقديم ما هو غير متوقع لنا، وهو ما لم نكن مستعدين له بأي حال من الأحوال. عادة، الواقع الذي ليس له مثيل، يربك الكاذب. ومهما كان حجم المؤامرة الخادعة التي قد يقدمها الكذاب المتمرس، فإنه لن ينجح أبدًا، حتى بمساعدة أجهزة الكمبيوتر، في تغطية نسيج الواقع بأكمله. الكاذب، الذي ربما يكون قادرًا على خلق الوهم، مهما كان عدد أكاذيبه المعزولة، لن يتمكن من فعل ذلك فيما يتعلق بمبدأ الكذب ذاته. هذا هو أحد الدروس التي يمكننا استخلاصها من التجارب الشمولية، ومن هذه الثقة المخيفة للقادة الشموليين في قوة الأكاذيب - في قدرتهم، على سبيل المثال، على إعادة كتابة التاريخ باستمرار، وتكييف تفسير الماضي مع الاحتياجات. "الخط السياسي" للحاضر، أو حذف كل المعطيات التي لا تتناسب مع أيديولوجيتهم. وهكذا سيثبتون أنه في النظام الاقتصادي الاشتراكي لا توجد بطالة من خلال رفض الاعتراف بوجودها؛ ومنذ ذلك الحين، أصبح العاطل عن العمل مجرد كيان غير موجود. إن نتائج مثل هذه التجارب، التي يقوم بها رجال يمتلكون وسائل العنف، مخيفة جداً، لكنهم لا يملكون القدرة على الإساءة إلى ما لا نهاية. وإذا تجاوز الكذب حدًا معينًا، فإنه يؤدي إلى نتائج مخالفة للهدف المنشود؛ يتم الوصول إلى هذا الحد عندما يضطر الجمهور الذي تستهدفه الكذبة، من أجل البقاء، إلى تجاهل الحدود التي تفصل بين الحقيقة والأكاذيب. عندما نقتنع بأن تصرفات معينة هي ضرورة حيوية بالنسبة لنا، لم يعد يهم ما إذا كان هذا الاعتقاد مبني على الأكاذيب أو الحقيقة؛ "الحقيقة الجديرة بالثقة تختفي تمامًا من الحياة العامة، ومعها يختفي عامل الاستقرار الرئيسي في الحركة الدائمة للشؤون الإنسانية."4 فإذا كان الكذب في السياسة هو السبب المؤدي الى تفجير الاستقرار واندلاع العنف فهل الاعتصام بالفهم الأنطولوجي بين الذوات والجماعات والثقافات والأديان ينتج بالضرورة التفاهم بينها؟

على هذا الأساس حاول بول ريكور ايجاد مصالحات بين العقل والواقع وبين الحقيقة والتاريخ وبين النص والفعل بواسطة رؤية تأويلية اتيقية تضع الكذب ضمن الحكم على الأشياء وتحرص على تنقيته ضمن تجربة تذاوت فنومينولوجي قصدي يجعل الذات تلتقي بالآخر وتضفي المعنى على وجودها في العالم ومع الغير بقوله في كتابه المبكر التاريخ والحقيقة ما يلي: "طالما بقينا على مستوى الحقيقة المبتذل - عند النطق الكسول للمقترحات المعتادة - فإن مشكلة الكذب تتعلق فقط بالقول (أنا أقول كذبًا نفس الشيء الذي أعرفه أو أعتقد أنه لا يجب أن أقوله). "كن صادقا، أنا لا أقول ما أعرفه أو أعتقد أنه صحيح". هذه الكذبة، التي تفترض الحقيقة المعروفة، لها الصدق المضاد لها، في حين أن الحقيقة لها الخطأ المضاد لها. الزوجان المتضادان يكذبان، "الخطأ والحقيقة - ثم تظهر غير ذات صلة. ولكن إلى الحد الذي نرتقي فيه نحو الحقائق التي يجب تشكيلها والعمل عليها، تدخل الحقيقة مجال الأعمال، وخاصة الأعمال الحضارية. عندها يمكن للكذب أن يتعلق بشكل وثيق بعمل الإنسان. إن الكذب "المخفي" الحقيقي ليس هو الذي يتعلق بقول الحقيقة المعلومة، بل هو الذي يحرف البحث عن الحقيقة، ويبدو أنه وصل إلى نقطة حيث روح الكذب - التي تسبق الكذب - هو الأكثر قربًا من روح الحقيقة، التي تسبق الحقائق المُشكَّلة؛ هذه النقطة هي حيث تبلغ مسألة الحقيقة ذروتها في مشكلة الوحدة الكاملة للحقائق ومستويات الحقيقة. إن روح الكذب تلوث البحث عن الحقيقة من خلال القلب، أي من خلال مطلبه الوحدوي؛ إنها خطوة خاطئة من الشمولية إلى الشمولية. يحدث هذا التحول تاريخيًا عندما تميل قوة اجتماعية وتنجح بشكل أو بآخر في الجمع بين جميع أنظمة الحقيقة وإخضاع الناس لعنف الوحدة. ولهذه القوة الاجتماعية شكلان نموذجين: السلطة الدينية، والسلطة السياسية. وتبين أن كلاهما لهما وظيفة تجميع أصيلة؛ إن الكلية الدينية والكلية السياسية هما مجموعتان حقيقيتان لوجودنا؛ ولهذا فإنهما أعظم إغراء لروح الكذب، للسقوط من الشمولية إلى الشمولية."5 فهل مسؤولية مقاومة الكذب على التاريخ وعلى الكونية الانسانية من مهام المؤرخ أم السياسي؟ هل هي من مشمولات القاضي الذي يبت في الأحكام ويفض النزاعات أم الفيلسوف من حيث هو حارس الحقيقة والوجود والباحث على الاختلاف الحكيم والتفاهم الحذر بين الفاعلين المتزاحمين؟

***

د. زهير الخويلدي

........................

المصادر:

1-Nietzsche, Sur la vérité et le mensonge, Introduction théorétique sur la vérité et le mensonge au sens extra-moral ; Paris, Garnier Flammarion, 1991 ; Dans Le livre des philosophes, 1873, traduction d’Angèle Kremer-Marietti.

2-Nietzsche, Vérité et mensonge au sens extra-moral, Babel, Actes Sud, p. 11-12

3-Spinoza, Éthique, 1672, Partie IV, Proposition 72, trad. Charles Appuhn, GF, p. 289-290.

4 . Hannah Arendt, "Du mensonge en politique", 1969, in Du mensonge à la violence, tr. Fr. Guy Durand, Pocket, 1994, p. 10-12

5 .Paul Ricœur, "Vérité et Mensonge", Histoire et Vérité, 1951, Seuil, 1955, p. 190-191.

كاتب فلسفي

تمهيد: ولد رودولف كارناب في المانيا 1891 مدينة ونسدروف فوبرتال. وتوفي في 14 ايار من ايلول 1970في كاليفورنيا الولايات المتحدة الامريكية وقد تاثر بكواين وكارل بوبر وجاتلوب فريجة.

فلسفة كارناب

«عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة»، هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة «وحدة العلم».١

والفلسفة التي يبرأ منها «كارناب» هي الميتافيزيقا بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا بحثًا في أشياء لا تقع في مجال الحِسِّ، مثل: «الشيء في ذاته» و«المُطلَق» و«المُثُل الأفلاطونية» و«العِلَّة الأولى للعالم» و«العدم» و«القِيَم الأخلاقية والجمالية» وما إلى ذلك.٢

غير أن «كارناب» إن تبرَّأ من الاشتغال بالفلسفة بهذا المعنى الميتافيزيقي، فلا ضَيْر عنده من قبول كلمة «الفلسفة» على شريطة أن تُفْهَم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية للعبارات اللغوية، «فكل مَن يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبيَّن له أن جميع المشكلات الفلسفية بمعناها الحقيقي إنْ هي إلا تحليلات لتركيبات لغوية»،٣ ولمَّا كانت التركيبات اللغوية التي تُعنَى الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن أن نقول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل القضايا العلمية تحليلًا يُبرِز طريقة تركيبها وصورة بنائها ليتَّضح معناها.

فليست الفلسفة منافسة للعلوم في موضوعات بحثها، بل هي تخدم تلك العلوم بتوضيح قضاياها، ومعنى ذلك أنه إذا كان عمل العلوم هو أن تقول أقوالًا عِدَّة في وصف الأشياء الطبيعية على اختلافها، فعمل الفلسفة هو البحث في منطق تلك الأقوال العلمية لتَجْلِيَة غامضها، فعلم الحيوان — مثلًا — يبحث في الحيوانات نفسها من حيث خصائصها وعلاقاتها بعضها ببعض، وعلاقاتها بما ليس حيوانًا … إلخ، وأما الفلسفة في هذه الحالة فمهمتها تحليل العبارات التي قيلت في الحيوان،٤ ولقد رأى «فنجنشتين» في الفلسفة هذا الرَّأْي نفسه، إذ قال: إن «العمل الفلسفي هو في جوهره توضيحات، فليست مهمة الفلسفة أن تنتج لنا عددًا من القضايا [التي تصف الأشياء] بل مهمتها أن تجعل القضايا واضحة.»٥ وتعليقًا على قول «فينجنشتين» هذا، يقول «كارناب»: «إني أوافق فينجنشتين على أن منطق العلم (أي الفلسفة) ليست له جُمَل خاصة به، إذ ينصبُّ كلامه كله على طريقة تركيب الجمل التي قالها العلم، وإذن فمنطق العلم (= الفلسفة) لا تضيف إلى ميادين العلوم ميدانًا جديدًا.»٦

وهذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم، القائمة على أساس أن العلم قضاياه تصف الظواهر الطبيعية وصفًا مباشرًا، وفلسفة العلم قوامها البحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات لغوية؛ أقول: إن هذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم هي التي أخذ بها الأستاذ «آير» إذ قال في فصل عَقَدَه لشرح فلسفة العلم ما يلي: «الكتاب العلمي يتألَّف في جوهره من عبارات، والكثرة الغالبة من هذه العبارات تتحدث عن أشياء … لكنك يغلب أن تجد فيه كذلك عبارات … [لا تصف أشياء] بل تُفسِّر طريقة استعمال ألفاظ معينة، أو تُعلِّق على العلاقة المنطقية القائمة بين عبارات أخرى واردة في الكتاب، كأن تُقرِّر عبارة ما بأن نظريتَين مختلفتَين متعارضتان أو غير متعارضتَين، أو أن مجموعة من العبارات تأتي لتشهد بصدق مجموعة أخرى، فهذه العبارات التي لا تشير إشارة مباشرة إلى مادة العلم الذي هو موضوع البحث، بل تشير إلى مُدرَكاته [الواردة في الجُمَل التي تصف الأشياء وصفًا مباشرًا]، أو تشير إلى عبارات أخرى يمكن القَوْل عنها بأنها هي فلسفة العلم.»٧

إذن فالمهمة التي تضطلع بها الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين — ومن بينهم «كارناب»-، هي التحليل؛ تحليل أيَّة عبارة مما يقوله الناس بصفة عامة، وتحليل العبارات العلمية بصفة خاصة، وفي رأيهم ألَّا شأن للفلسفة بالعالم وما فيه من أشياء؛ لأن ذلك من عمل العلماء، كل عالِم في المجال الذي اختص به وتخصَّص فيه، فكما يقول «جون وِزْدَم» في عبارة مختصرة يصف بها الفلسفة اليوم: «لأن تتفلسف معناه أن تُحلِّل.»٨ (كوكل الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التحليل /رودولف كارناب).

الميتافيزيقا واللغة

الميتافيزيقا هي ابسط اشكال الاسطورة الدينية الانتروبولوجية قبل دخول الالهة جوهر الاسطورة التي عاشتها الاقوام البدائية حتى بلغت اوجها عند اليونانيين في كثرة تعدد الالهة الباقية بصمة تلازم جمع اديان الارض تقريبا.. وبقيت الميتافيزيقا ملازمة الفلسفة والافكار الدينية البدائية ومسارات تطورها الى اليوم مما حدا ببعض الفلاسفة المعاصرين القول ان جوهر الفلسفة هو الميتافيزيقا وليس جوهرها لا الوجود ولا الابستمولوجيا والانسان مخلوق ميتافيزيقي قبل ان يكون مخلوقا عاقلا ناطقا. وليس يوجد من فلسفة حتى لو جاءت خارج منطقية تعبير اللغة عن تصوراتها الشيئية والخيالية ولا نقول عن مواضيعها فالميتافيزيقا يحكمها التشتيت الخيالي المتأمل الذي يقفز متجاوزا موضوع الخيال المحدود ادراكه. كون حقيقة الانسان الجوهرية قبل ان يكون حيوانا ناطقا هو انسان ميتافيزيقي بالفطرة الوراثية وليس بالمعرفة المكتسبة كما هو الحال في اكتساب الانسان اللغة من اصوات الطبيعة واصوات الحيوانات مصحوبة بالاشارات..

وفي قول كارناب نجد (وظلوا فلاسفة الميتافيزيقا يتوهمون ان عباراتهم الميتافيزيقية تمثل قضايا منطقية تقبل البرهنة. في حين انها مجرد تعبيرات عاطفية تكشف عن انفعالات ومشاعر دفينة ولا تنطوي على دلالات ومعان منطقية) ص 274.

ومن الجدير ذكره ان كارناب احد فلاسفة المنطقية حلقة فينا التي كان يتزعمها شليك. ثم انشق عنها كارناب لينظم الى الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية بتاثير من جاتلوب فريجة وبراتراند رسل وكلاهما ارادا اعتماد تطويع فلسفة اللغة في تمنطق الرياضيات.

الجدير بالذكر ان اللغة التي هي سمة تفكير العقل الجوهرية. جاءت متأخرة على اولوية التفكير الميتافيزيقي الانثروبولوجي عند الاقوام البدائية التي لا تاريخ لها. ميتافيزيقا التفكير عند الانسان كانت قبلية على تعلم الانسان البدائي الاشارات والاصوات اللغوية حاجة حياتية ضروروية له.فالميتافيزيقا التاملية عند الانسان غير اللغوية اقدم من تعبير اللغة كاصوات مصحوبة باشارات غايتها التواصل داخل نوعها.

الميتافيزيقا والمنطق

وفي مجال الاعتراض على رؤية كارناب ان الميتافيزيقا لا تتمتع بمنطق يشير الى معنى محدد بل هي قضايا عاطفية سطحية:

- الميتافيزيقا لا تنطوي على نظريات كما لا تشتمل على قضايا علمية.

- مع هذا فالميتافيزيقا حاجة تعبيرية للانسان تشبه قول الشعر والموسيقى فهما فطرة عاطفية.

- قبل ان تتطور الموسيقى الى لغة منطقية موزعة على نوتة الالحان. كان نيتشة صاغ افكاره الفلسفية شعرا وبذا يكون اعترف ضمنا ان الفلسفة تعبير عن الشعور بالحياة.

-  والحق ان الموسيقى اقدر من الفلسفة على التعبير عن الشعور بالحياة. لان لديها وسائط انقى من جهة. ولانها من جهة اخرى متحررة تماما من كل ما هو موضوعي. فهذا الشعور التوافقي بالحياة الذي يريد الميتافيزيقي ان يترجم عنه بمذهبه. ص 247.

الميتافيزيقا والاسطورة

بحسب كارناب فقد كانت الميتافيزيقا ولا زالت قريبة من الاساطير العابرة حدود تصنيف الاجناس الادبية من حيث الاختلافات بينها في الصياغة اللغوية الاسلوبية شكلا ومضمونا. عن هذه الاشكالية بين الميتافيزيقا والشعر يقول كارناب (ان الفرق بين الميتافيزيقي والشاعر ان الاول لا يريد يعترف بان اقواله وليدة الانفعال والعاطفة في حين يرى في الثاني – الشاعر – يسلم بان شعره اداة فنية يعبّر بواسطتها عن الحياة.)

كارناب العقل والفلسفة

يعتبر كارناب الفيلسوف الميتافيزيقي هو فريسة لوهم بالغ (لانه عندما يصوغ عباراته في قالب منطقي محاولا ان يقيمها على اسس برهانية كثيرا ما يتوهم ان اداته هي العقل او التفكير لا الخيال ولا العاطفة.. بينما الواقع ان تاملاته كلها لا تخرج من كونها احلام شاعر ضل سبيله.) ص 274.

في متابعتنا عبارة كارناب نرى تفكير العقل بمواضيعه تنقسم ثلاثة اقسام، الاول تفكيرالعقل بالواقع المادي والعالم الطبيعي المدرك من حوله في مرجعية الحواس ومن ثم العقل، والثاني تفكير العقل المثالي الخيالي بما ليس محدد ماديا. والثالث تفكير العقل بحاجات الجسم وغرائزه الداخلية وعلاقاته الخارجية والاستجابة او الرفض في تلبيتها. وهذه المستويات من تفكير العقل متلازمة ولا انفكاك بينها. مرجعيتها الثابتة هو العقل. وليست هذه المستويات منقسمة الى مرجعية العقل تارة، ومرجعية العاطفة تارة اخرى. من حيث بيولوجيا الوظائفية في تعبير اللغة وفي السلوك الذي يلازمها في مصدرهما العقل قبل العاطفة.

اختلاف المنطق الفلسفي على انه معقلن بالشعور لا يتجاوز اكثر من واحد بالمئة من الشعور، بينما عمد فرويد في نظريته بعلم النفس ان اللاشعور يمثل تسعة بالعشرة من تفكير العقل. هنا تكون مبالغة فرويد في اعطائه اللاشعور مطلق ومركزية الفعالية الانسانية في تعامله مع العالم الذي يتعايش معه لا يجعل من حقيقة اللاشعور خارج توظيفه بعلم النفس مسالة مقبول دحضها. السلوك هو رد فعل الشعور وليس اللاشعور في تعامله مع واقع مادي ماثل ومتعين امامه.

بعبارة مشكوك بصحتها علميا اننا نتعامل مع عالمنا الذي نعيش الحياة به. بلاشعور سلوكي اي بلا وعي قصدي مهيمن عليه عقليا. اللاشعور في ابسط تجلياته انما هو انفلات الادراك الشعوري الطبيعي في محاولة فهم موجودات العالم الخارجي. فرويد بدل ان يتماهى مع افلاطون ونيتشة وهيدجر وسارتر باننا لا نعيش عالمنا الحقيقي وانما نعيش زيفه الصوري. والعالم الحقيقي الذي وصفه افلاطون عالم المثل التي لا يدركها العقل.

 السؤال من الذي يحدد لنا الشعور.؟ العقل ام اللغة ام الخيال العاطفي؟

الحقيقة في هذه المقارنة المعيارية تقود الى ان الحواس المادية والعقل هما اول من يحدد لنا الشعور في تجلياته الادراكية والمعرفية وتعبير اللغة عنها. لكن بوسيلة ماذا؟ هل في وسيلة التفكير اللغوي؟ ام في وسيلة العاطفة في التعبير السلوكي.؟

الاجابة حتما تكون هي وسيلة (اللغة) لانها تمتلك العديد من الخصائص العقلية الجوهرية تجعل منها رائدة في تعبيرها عن الشعور. اللاشعور لا يمتلك بنية لغوية يمكنها الافصاح عن السلوك الذي مصدره العاطفة. اللاشعور يعني غياب سيطرة العقل على التفكير السلوكي لذا فاننا نعيش اللاشعور في النوم وليس في حالة اليقظة.

فباللغة نعبر عن الشعور المادي مجردا، وباللغة نخترع عوالم خيالية مصدرها النفس والعاطفة.

حين ذهب ديكارت ان العقل جوهر ماهيته التفكير ولما كان جوهر التفكير هو العقل واللغة يكون معنا العقل هو اللغة وعلى حد تعبير سيلارز الوجود هو اللغة. عند ذلك تكون العاطفة ليست تعبيرا خارج ما يدركه العقل.

لماذا ذهب فرويد ومن قبله نيتشة وهيجر ان لا شعورية الشعر- المقصود هنا ان لغة الشعر هي تداعيات وانثيالات لاشعورية يتغلب فيها المزاج والعاطفة تكون اللغة فيها سريالية مفككة - لكنها تكون اكثر مصداقية في فهمنا العالم الحقيقي المحجوب ادراكه عنا.؟

اذا نحن اعتبرنا اللاشعور صمت سلوكي وهو كذلك انه ذخيرة العقل في امتلاكه الفاهمة اللغوية. الا عند الحاجة حين يكون سلوكا لغويا متداخلا.

مالدليل المنطقي فلسفيا امكانية البرهنة الى ان اقرب تعبير لغوي تجمعه بالفلسفة هو الشعر؟ تفكيك عدم منطقية الشعر تفقده خاصية اللغوية المتماسكة من صفاتها النحوية والاعرابية وغيرهما التي نستخدمها بحياتنا تداوليا ونفهم العالم من حولنا بواسطتها.

***

علي محمد اليوسف

.............................

الهوامش:

1-8 عن موقع كوكل، الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التهديم، رودولف كارناب.

2. الهوامش الباقية من دراسة في الفلسفة المعاصرة، د. زكريا ابراهيم ص274

 

التفكيكية من التيارات الفلسفية والنقدية التي تأثرت بأفكار هيجل ونتشه وهايدجر وشتراوس كما تبين الدراسات، وهي تتصل بالفلسفة أكثر من اتصلالها بالنقد الذي انسحبت اليه من ميدان الفلسفة. وتعد امتداداً للبنيوية فهناك من يراها (حركة بنيوية) (1) ويعد مؤسسها دريدا مفكراً بنيوياً إلا انه تجاوز البنيوية وانتقدها، ولهذا يعدونها كذلك (ضد البنيوية) وانقلاباً عليها وأنها تمثل مرحلة (ما بعد البنيوية). وقد وجه دريدا نقداً للتراث الفلسفي والميتافيزيقا الغربية التي يمثل التعبير الأكثر صرامة عنها - كما يرى - نظام هيجل ونظام دي سوسير اللغوي، وسعى الى تفكيك هذين النظامين عن طريق کشف التباساتهما وتناقضاتهما (2). وقد وضع الافتراضات الميتافيزيقية الأساسية في الفلسفة الغربية منذ افلاطون موضع الاستفهام والسؤال ووجه اهتمامه الى نقض وتقويض فكرة (الأصل) التي توحي بمعنى: الأول السابق والأساس الذي يُبنى عليه والمركز والمبدأ والعلة في الوجود وهو ما يرتبط بفكرة الثبات والتعالي والماوراء والتجاوز. وهو قد صدر بهذا عن طبيعة العصر الفينومينولوجية وأفكاره المادية التي تنفي فكرة الغيب وماوراء الوجود، وتدعو الى ملاحظة عالم الظواهر المادي والاهتمام به وهو عالم التغير والحركة والصيرورة التي لا تعرف الثبات. وتمثل فكرة نيتشه (موت الإله) التجسيد الأبرز لنزعة العصر المادية ونفي فكرة المرجع الذي يتجاوز الوجود الظاهر. وقد دأب دريدا على تفنيد فكرة الأصل الأول والمركز الثابت فلا وجود له كما يذهب لأن الأفكار والأشياء يتخللها الاختلاف فالأصل هو الاختلاف الذي يتخلل هذا الطرف الذي ينظر اليه بأنه الأصل والمركز. ومادام الاختلاف يشوبه فلا يمكن أن نعده أصلاً فما يختلف معه أو نقيضه موجود معه فلا معنى لهذه الأصلية. ومن هنا ساوت التفكيكية بين الطرفين المتناقضين أو المختلفين في علاقة الاختلاف أو التناقض ورأت أن ليس صحيحاً التفريق بينهما بصفة الأسبقية المتعالية. ونرى أن إلحاحها على هذه الفكرة وتكريس جهدها لتفنيدها إنما هو موقف ايديولوجي أكثر منه فلسفة لترسيخ سلطان النزعة المادية على العالم وهدم اللاهوت والميتافيزيقا والأصل الإلهي للعالم للوصول الى عالم بلا أصل يتحرك في صيرورة مستمرة تائهة لا تعرف الثبات، وهكذا تنجز التفكيكية مهمتها العدمية.

ولقد أعلنت في نقدها للميتافيزيقا الأوربية أنها تريد إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين المختلفَين اللذين يمثلان طرفي علاقة الاختلاف أو التناقض التي تدرس الفلسفات الجدلية من خلالها الظواهر. فالثنائيات الفلسفية - كما ترى - هي تراتبات يكون فيها الطرف الأول أصلاً وسابقاً ومستقلاً وأساسياً. ويعامل فيها الطرف الثاني على انه تبع وتكرار أو تجل للطرف الأول، فقد بدأ الميتافيزيقيون جميعاً على النحو الآتي: الخير قبل الشر، الإيجابي قبل السلبي، البسيط قبل المعقد، الجوهري قبل العرضي، المركز قبل الهامش، الخ.. ويطلق ديريدا على الرغبة في المركز اسم التمركز حول المنطق في كتابه (علم الكتابة). وتعمل التفكيكية على حل وتفكيك هذه الثنائيات المتراتبة. وتفكيك هذه التراتبات كما تبيّن، يعني قلبها بالكشف عن أن الطرف الأول الذي افترض فيه الأصلية والاستقلال يمكن معاملته على انه حالة خاصة للثاني أو طرف مقابل ومساوٍ له. وترفض التفكيكية السماح لأي عنصر من عناصر النظام أو النسق بالتحول الى مركز ضامن للحضور بملاحظة التراتب والعمل على قلبه ومقاومـة استفحـال أي تراتب جديد يحـل فيه الـطرف الثاني في موقـع الأفضـلية أيضاً (3)، فهي تبقي على تكافؤ الضدين قائماً لأن أحد الضدين يحيل الى لاحقه دائماً فلا هوية خالصة له(4) لذا فإن الاختلاف هو الأصل.

لقد أنكرت التفكيكية التمركز حول أحد النقيضين أو المختلفين دون الآخر وانتقدت التمركز حول العقل في الفلسفة الغربية بوصفه أصلاً ومصدراً متعالياً للمعرفة يقرر المعنى والحقيقة والقيم وعملت على نسف مرجعيته والتشكيك بقدراته مما يؤدي الى انكار كل حقيقة وكل يقين فلا معرفة ولا حقيقة يمكن الظفر بها وهي غائبة مرجأة دائماً، والارجاء يشير الى غياب المعنى الدائم. ويذكرنا موقف التفكيكية هذا بالسفسطائية التي قامت على مبدأ الشك فلا حقيقة ثابتة مطلقة، وليس العقل مصدراً للحقيقة لديها. الخطاب التفكيكي كذلك يلغي مركزية العقل والانظمة المعرفية التي صدرت عنه انتجت أوهاماً وزيفاً كما يدعي وهو يسعى الى تفكيكها بالبحث عن الاختلافات والتناقضات في داخلها وجعلها سبباً لتدميرها.

ولمزيد من الإيضاح لطبيعة التفكيكية وعملها تبيّن انها تقيم مرحلياً داخل الأفق الميتافيزيقي المغلق لهذه المقابلات عاملة على رجه من داخله أو قلب تراتبه بحيث يحتل ما هو فرع أو هامش أو أسفل مكان ما هو أصل أو مركز أو أعلى. هذه الحركة تجد في نظر دیریدا تبريرها في كوننا داخل المقابلات الفلسفية الكلاسيكية لا نجدها في تعایش سلمي ومقابلة حيادية وإنما في عمل عنف وصراع. ثم تأتي حركة ثانية تتمثل في العمل ميدانياً داخل النسق الذي يجري تفكیكه للكشف عن عجزه وتناقضه، ولفرض نظام بدائل أخرى. هكذا يطاح بالعلاقة التراتبية القديمة ويمهد لمجيء (مفهوم) جديد لا يمكن فهمه ولا تمكينه من العمل دون النسق السابق (القديم). وفي تعريفه للتفكيك يبيّن ديريدا أنه تخلع أو فقدان الشيء بنيته أو تقويض وتفتيت للبنية والتموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل لكي تتفكك وتتحلل ويحل الاختلاف محل مركزية أحد طرفي علاقة الاختلاف الذي تنظر اليه الميتافيزيقا بأنه أصل وسابق. فالاختلاف هو السابق وهو حدث ما ورائي کلي أزلي لا تحد سلطته حدود وهو ليس حسياً ولا عقليا وليس مادياً ولا روحياً(5) كما يصفه. ولا نفهم معنى أن يكون كلياً أزلياً وماورائياً ثم لا يكون عقلياً ولا روحياً، فهو نوع من السفسطة والتلاعب بالألفاظ وانكار البديهيات مما أقره المنطق وطمس الحقائق والايهام في المعنى.

إن الاختلاف هو (الأصل) كما يذهب دیريدا، ويوضح ذلك (بتصديه للمفهومات المؤسسة للميتافيزيقا الغربية ولمفهوم (الأصل) IÓRIGINEبخاصة. يرينا دیریدا بمماحكة ديالكتيكية نوعاً ما من أن (الأصلي) لا يكون (أصلياً) إلا باستناده الى (النسخة) التالية له التي يسود الزعم انها تأتي لتنسخه وتكرره ضامنة له بذلك حيازة تسمية (الأصلي) او (الأصل). لا يكون (الأول) (أول) إلا بالاستناد استناداً مؤسساً، أي يقيم في جوهر (الأول) نفسه بما هو (أول)، نقول الاستناد الى (الثاني) الذي يدعم ذلك (الأول) في أوليته. ومن هنا.. فإن (الأول) هو (في نظر ديریدا) أول / ثان والثاني ثان / ثان، الخ.. هذا يعني انه ليس ثمة من أصل محض، وان الأصل يبدأ بـ (التلوث) أو الابتعاد عن مقام الأصلية بمجرد أن يتشكل كأصل فيجد نفسه مجبراً على ان يمهد لمسار تأتي فيه (الآثار) المتتابعة لتعدله في (أصلیته)... الأصل طريق الى الأثر مثلما يكون اليوم الأول في حياتنا يوما أول في اتجاه الموت في آن واحد معاً. وإذن فـــــ (في البدء كان الاختلاف)، وهذا هو ما يفسر مقولة ديريدا في التأخر أو الأرجاء الاصلي... الأصل يحيل الى لاحقه دائما، و (الهوية) الى (آخرها) الذي يؤسسها هي نفسها كهوية، بذا يكون الاختلاف.. في حقيقته إحالة إلى الآخر وأرجاء لتحقق الهوية في انغلاقها الذاتي) (6).

وهكذا يطور دیريدا استراتيجية عامة نظرية ومنهجية للتفكيكية الفلسفية، وكان هيجل رائداً له في تفكيره كما كان نيتشه الفيلسوف الألماني الذي عمل على إبراز الطابع المتناقض للظواهر الفلسفية واللغوية والأدبية. وكان يتصور ديالكتيكاً يتخذ نقطة للانطلاق جمعاً للضدين عصياً على التجاوز ويستحيل اخضاعه ودمجه في النظام. ومثل نيتشه في التأثير فيه كان هايدغر الذي ينتسب الى نيتشه وتحضر فلسفة نيتشه في أعماله، وكانا قد وجها نقداً الى الميتافيزيقا الغربية وهذا النقد استأنفه دیريدا وبول دومان وتفكيكيون آخرون وجذوره(7).

ومن هذا التصور الفلسفي في ابراز الطابع المتناقض للظواهر انطلق هؤلاء التفكيكيون في دراستهم للنصوص اللغوية والأدبية وهم يرون أنها تحكم بتناقض لا يمكن محوه، ولهذا فإنهم لا يقرأون النص لكي يكشفوا التجانس الصوتي والدلالي والنحوي الخاص به، إنهم يبحثون عن اجتماعات الأضداد المتعذر تبسيطها فيه وعن تناقضاته ومآزقه المنطقية، إذ أن كشف تناقضات النص وتشوشاته يتقدم أحيانا على أنه واجب أخلاقي لدى هؤلاء التفكيكيين، فهم يؤسسون لعلم اخلاق في القراءة يتمثل بالاعتراف بالطابع المتناقض للنص وعدم إمكان قراءته والتسليم بفشل القراءة بدلاً من تطبيق النظريات عليه لإخضاعه للمفاهيم.

لقد أكد التفكيكيون وهم يدرسون الظواهر والنصوص الأدبية أسبقية كينونة حالة الاختلاف أو التناقض الذي يحكم هذه الظواهر والنصوص فهو الأسبق وهو الذي كان في البدء كما يصفه ديردا، أي انهم يثبتونه أصلاً ومبدأ وبهذا تناقض التفكيكية نفسها، فهي تنكر الأصل السابق وتثبته كذلك، تنكر هذه لأصلية عندما توحي بفكرة المركزية والأحادية التي لا تتضمن إختلافاً وتناقضاً وعندما تكون سابقة على الاختلاف او التناقض أو لا تساوي بين المختلفين أو المتناقضين. ولقد ذكرنا أن التفكيكية تأثرت بفلسفة هيجل وكذلك بالبنيوية لأنهما تهتمان بعلاقات الاختلاف أو التناقض وتدرسان الظواهر من خلالها، ولكنها وجهت نقدا الى كليهما، فالمنهج الجدلي الذي يتخلل الظواهر عند هيجل يتألف من أطراف بينها علاقة تناقض ولكن الطرف الأول أو الخطوة الأولى سابقة منطقياً على الخطوة الثانية وهو يسمي الخطوة الأولى بالوجود الخالص أو الروح أو الفكر الكلي وهو وجود جوهري يتجلى عن طريق الوجود المتعين الواقعي. ولهذا أنكر ديريدا هذه الأسبقية لأنها جوهرية تؤكد أصلاً سابقاً ًيتجلى فنجده يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر لدى هيجل الذي يعطي الأولية الى المضمون الكلي أو الجوهر الذي يتجلى في عالم الظاهر، فجوهر الأشياء لايكون سابقاً ثم يظهر في العالم التجريبي، وهو بذلك يتأثر بنيتشه الذي يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر، ويحدث قلباً تراتبياً بين الظاهر والجوهر عن طريق الإلحاح على أولوية الظاهر في الفن. ونيتشه من هذه الناحية يبدو رائداً لديريدا والتفكيكيين. وكما وجه نقداً لنظام هيجل كذلك فعل ديردا مع البنيوية ونظام دي سوسير اللغوي فهو يأخذ عليه كونه صاحب خطاب تسيطر عليه المركزية الصوتية أو اللوغو مرکزية. والمركزية الكلامية أو الصوتية هي مبدأ أساسي للميتافيزيقا الغربية وهي سيطرة اللغة المحكية أو الكلام الذي يضمن حضور المعنى وأسبقيته من افلاطون الى هايدغر الذي انتقده دیریدا كذلك وأخذ عليه ما أخذه على دي سوسير. فالفلسفة المثالية منذ افلاطون والفلاسفة المثاليين الآخرين تقدم المعنى وتنتهي الى إدانة الكتابة بأنها غريبة عن الحياة ومعادية لها لأنها قابلة للتأويل وغير ثابتة إذ تقرأ وتعاد قراءتها في سياقات مختلفة ومتغيرة، فلا تضمن حضور المعنى كما يفعل الكلام أو الصوت الحي، فهي تابعة للرأي المتقلب فلا تنتج العلم بل الرأي كما يقول افلاطون. ويميز دي سوسير بين الدال والمدلول لحساب المدلول وهذا بالنسبة الى ديريدا بقية باقية من الميتافيزيقا الأوربية، ومن هنا يأخذ على البنيوية أن فكرة (البنية) فيها تفترض سلفاً مركزاً للمعنى من نوع ما ويتحكم هذا المركز بالبنية ويكون سابقاً عليها.

وفي نظرته إلى التاريخ ينتقد ديريدا التمركز العقلاني أو اللوغوسي في الفلسفة الغربية للتاريخ. ويرى أن طريقة النظر الى التاريخ طريقة ميتافيزيقية او مثالية، سواء ما كان منها من المثالية أو المادية الديالكتيكية، فهذه برأيه كذلك مادية كلاسيكية قابعة داخل الميتافيزيقا بالقدر نفسه الذي تكون عليه المثالية. ويصف طرق النظر هذه بأنها محاولات للاحتواء، والاحتواء مثالي دائماً. وهو يتبنى مادية لا تكون آلية ولا جدلية، مادية غير جدلية لم تدخل الحيز الميتافيزيقي أو المثالي، مادية ما قبل افلاطونية أو ما قبل سقراطية ترجع بنا الى ديموقريطس والی تفکیر محدد حول الصدفة، فالتفكيك هو ضد الاحتواء والأمثلة(9). وهو يقول عن هذا وعن اتهامه بتجاوز التاريخ: (إنني تاريخاني بصورة كاملة، وإن ما يهمني دائما هو الإنحدار التاريخي لجميع المفهومات التي نستخدمها وجميع حركاتنا، وإنه إذا كان هناك شيء لا يمكن نسيانه فهو التاريخ. إلا أن ما شجع على إطلاق هذه التهم أو غذاها هو كون مفهوم (التاريخ) بقي مستخدماً لدى الكثير من الفلاسفة والمؤرخين ومؤرخي الفلسفة - وسواء أتعلق الأمر بالمثالية أم بالمادية ولدى هيجل أم لدى مارکس - ضمن نزعة بدت هي الأخرى ميتافيزيقية مما يجعلني أقف منها موقف المتحفظ أو المحترس، ولكن ليس باسم لا تاريخية أو لا زمنية وإنما باسم فكر آخر للتاريخ)(10) فهذا المفهوم الآخر للتاريخ الذي يقدمه لا ينطلق من تفسير المثالية والمادية اللتين تصدران عن نزعة ميتافيزيقية كما يصفها تتبنى وجود أصل أو علة مركزية تحرك التطور التاريخي كما أنه ينكر هذا التطور والتجاوز التاريخي الذي تؤمنان به.

التفكيكية ترفض العلة المركزية والأصلية الجوهرية السابقة التي تحرك التاريخ كما ترفض التطور والتجاوز في علاقة الاختلاف أو التناقضات التاريخية لأن هذا التجاوز ينهي حالة الصيرورة التي تريد إبقاءها قائمة كما أنه يشير الى غلبة أحد النقيضين وأفضليته على الآخر وهو ما لا ترضاه، ولهذا نجدها لا تؤمن بالغائية التي ترتبط بالجدلية وبالصراع والتجاوز والتغير، وتؤكد أن هذه الديالكتيكية التاريخية التي تتجاوز التناقض الى بنية مركبة شاملة مفهوم ترفضه بحزم. وهي تنكر على فلسفة هيجل أنها لا تبقي التناقض قائماً أبدياً سرمدياً بل هي تطوره وتحوله الى تأريخ يمر بمراحل ينتابها الصراع الذي ينتهي الى غاية وهو ما لا تؤمن به. ولهذا نجد ديريدا لا يعترف بالمركب الهيجلي لأنه خطوة تجاوز ولحظة تغير وحركة وهو ما تحاربه التفكيكية التي تبقي التناقض أو الاختلاف على حاله في موقفه المأزقي دون غلبة وتجاوز أي دون حركة، والتاريخ حركة. وهذا يعني أنها تدرس التاريخ في لحظة سكونية متوقفة، لحظة تولّد التناقض أو الاختلاف لا لحظة تجاوز هذا الاختلاف، وهي لحظة الحركة. وهذا عين ما تفعله البنيوية. إن لحظة الاختلاف أو التناقض لحظة تاريخية لا أصلَ سابقاً لها فالاختلاف هو الأصل كما يذهب دريدا. وهي لحظة ثابتة لا تتحرك، لأن الحركة التي يأتي بها الاختلاف أو التناقض هي تجاوز وهي صراع يؤدي الى هذا التجاوز كما تؤكد فلسفة هيجل التي يلتقي معها دیریدا في انطلاقه من مبدأها الفلسفي الأساسي وهو كون الاختلاف أو التناقض يتخلل كل شيء إلا أنه ينكر التجاوز والحركة التي يدعو إليها الصراع بين أطراف الاختلاف أو التناقض والذي هو أساس التطور التاريخي. إنه لأمر جوهري إذن أن نتصور التناقض التفكيكي كجمع أقصى للنقيضين يستبعد أي تأليف هيجلي وأية وحدة ديالكتيكية بوصفها وحدة نقائض، أي انه ينكر الخطوة الثالثة من خطوات المثلث الهيجلي، التي هي الوحدة أو المركب بين الخطوتين الأولى والثانية. إن جمع نقائض تخيله ديريدا وميلر ودومان ومارسه في الماضي نيتشه هو تفكيكيٌ ومأزقيٌ ولا يولِّد أي وحدة ديالكتيكية، ويحل محل هذه الوحدة الأرجاءُ الديریدي(11)، فبدلاً من الصراع الذي يقتضيه الاختلاف والتناقض يبقي الاختلاف قائماً لا يشوبه أي صراع ولا يعقبه أي نفي وتغير وتحول لأن عملية النفي تعني فاعلية أحد الطرفين وقدرته على الفعل مما يؤكد أصليته وأسبقيته وهذا ما لاتريده التفكيكية فلا قدرة لأحد الطرفين على نفي الآخر، لا قدرة للأصل على نفي ما هو تبع وهامشي فهما متكافئان متساويان، ومن أجل ذلك ينفي ديريدا أن يكون التفكيك فعلاً أو عملية. ويتحدث عما يسميه (التاريخ الداخلي) وهو طاقة العمل وحركياته الجوانية التي تتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية أو تقلب تراتبها وتبقيها في لحظة تقابل أبدية. وهو يبعد هذه الحركة عن الالتباس بالوعي الذاتي وهذا ما يختلف به مع الهيجلية والماركسية، فالتفكيك عملية لا تنتظر وعياً من ذات: (التفكيك حاصل: إنه حدث لا ينتظر تشاوراً أو وعياً من من لدن الذات الفاعلة...التفكيك يحدث حيثما يحدث شيء ويقوم حيثما هناك شيء قائم.. يجب أن نحدد أيضاً أن التفكيك ليس حتى فعلاً أو عملية)(12).

الاختلاف إذن يقوم حيثما هناك شيء قائم، ولهذا فإن التفكيك كما يبين ديريدا هو عملية تتغلغل في كل شيء لأن كل شيء يتخلله الاختلاف، وان أي حدث يتضمن الاختلاف. ولا يختلف دريدا مع هيجل في تصوره أن الاختلاف أو التناقض يتخلل كل الأشياء، ولا يختلف معه في وصفه لعلاقة الاختلاف والتناقض، فلدى هيجل أن علاقة التناقض هي الحقيقة العينية الأولى، لأن لا وجود لأحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فالعلاقة هي الوجود العيني الأول، أي الوجود المتحقق. أما قبل هذا الوجود فإن هناك ما يسميه هيجل (الوجود الخالص) وهذا الوجود يساويه بالعدم لأنه كان وحده بلا علاقة له مع نقيضه. وعندما يتحقق التناقض ويوجد بوصفه حقيقة عينية واقعة، فإن أحد النقيضين لا ينفصم عن علاقته بالآخر وإلا يستحيل الى عدم. وهيجل يعرِّف العدم بأنه أحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فأحد النقيضين لا ينفك عن علاقته بالأخر، وهذا ما يراه ديريدا وأن الأول يرتبط بالثاني، والأصل يستند إلى النسخة التي تأتي لتكرره، فهذا لا يختلف به ديريدا والتفكيكية مع فلسفة هيجل، وهي تؤكد مبدأ اجتماع النقيضين أو المختلفين أي أن أحدهما لا معنى له أو لا وجود إلا بنقيضه فالأصل يحتاج الى نقيضه لكي يكون أصلاً فلا أسبقية له عليه بل هو موجود معه ولا انفكاك له عنه ولهذا يساويه بالعدم عندما يكون وحده قبل خلق التناقض. وعندما يكون أحد النقيضين وحده فإنه - كما يبين هيجل - ينطوي على نقيضه، أي ان نقيضه موجود فيه بالقوة وهو يخرجه الى الفعل ليوجد التناقض، وهذا يضرب مبدأ الهوية وعدم التناقض لدى المنطق القديم. فأحد النقيضين لا ينفصم عن الآخر والتناقض أو الاختلاف قائم منذ البدء ولكنه لدى هيجل كامن في الوجود الخالص أما لدى ديريدا الذي يؤكد: (في البدء كان الاختلاف) فهو موجود وجوداً عيانياً واقعياً، ولهذا لا معنى لتفضيل أحدهما على الآخر إذ لا أسبقية لأحدهما على الآخر ومن هنا فإن مفهوم الأصل أو المركز مرفوض لديه. ولكن ديريدا يتغافل عن أنهما مختلفان أو نقيضان وأن هذا الاختلاف يحدد هوية كل منهما فالهوية ليست مرجأة، وهذا يوجب أن يكون التناقض أو الاختلاف قائماً ويبيح للعقل وللميتافيزيقا أن تقدم أحدهما على الآخر بناءً على هوية كلٍ منهما وما يتصف به كل منهما، فيبقى الأصل أصلاً سابقاً وثابتاً والأول أولاً والثاني ثانياً. وليس الأمر واجباً أخلاقياً يرتب على التفكيكي أن يقوم به وأن يعيد الأمور الى نصابها ويحق الحقوق وإنما هو من طبيعة الأشياء وخلقتها أن تكون كذلك فلكي يكون الأصل أصلاً لابد أن يكون أولاً ولابد أن يكون الآخر تبعاً وثانياً ولا يمكن أن تتبدل طبائع الأشياء وأن يرتفع أحدهما الى مكانة الآخر، كما أن هذه الطبائع تقضي أن يكون بينهما تفاعل يؤدي الى نتيجة وتطور وبقائهما في حالة سكون دائم أمر ترفضه في طبيعتها كما يرفضه الواقع.

والذي يبدو أن التفكيكية تلجأ الى المغالطة ولا تريد أن تقف عند هذه الحقائق وحاجة أحد النقيضين الى الآخر لكي يوجد، وتلازمُه معه لا يعني تساويهما وعدم اختلافهما أوتناقضهما وما يقتضيه هذا التناقض من تفاعل وتطور كما قلنا.

أما كيف يمكن أن نفسر أن يكون أحد المختلفين أصلاً وأولاً أي سابقاً على الآخر وفي الوقت نفسه هو في حاجة الى وجوده لكي يوجَد وتتحدد هويته ويكون أصلاً وأولاً ؟، فهذا نجيب عنه بما توصلنا إليه من استدلال عقلي برهاني في بحوث سبق نشرها(13) ونقول: إذا كان أحد النقيضين لا يوجد أو لا يعرف إلا بالآخر أي إلا بعلاقته بالآخر فهذا يعني أن العلاقة سابقة على وجوده لأنها علة وجوده إذ لا وجود له إلا بها، وأسبقية وجودها وهي (طرفين اثنين) على وجوده يعني أسبقيتها على وجود أحد طرفيها أي اسبقيتها بأحد طرفيها وهذا هو الطرف السابق والأول والأصل، أما الطرف الآخر الذي كانت سابقة عليه والذي كان عدماً والذي يوجد بها فهو الطرف المتأخر عن وجود الطرف الأول وهو بهذا يستحق وصف الطرف الثاني والتابع. كيف نبرر أسبقية أحد الطرفين في علاقة التناقض على نقيضه وقد قلنا إنه لا وجود له إلا بنقيضه ؟.. هذا نجيب عنه بأن وجود أحد النقيضين وعدم وجود الآخر هو تناقض أو اختلاف قبل وجود التناقض أو الاختلاف وجوداً عيانياً واقعياً. وبهذا يكون الأصل أصلاً وسابقاً والآخر تبعاً متأخراً وليس كما ترى التفكيكية.

.....................

د. بتول قاسم

.......................

الهوامش:

1. ينظر: الكتابة والاختلاف، جاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ۱۹۸۸، ص 59-60.

2. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، بيير، ف. زیما، تعريب: أسامة الحاج المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417ه/ ۱۹۹6م، بیروت، لبنانص 6، 9.

3. ينظر: التفكيك: نقد المركزية الغربية (ملف شارك فيه جوناثان كلر، رامان سلدن، بول دي مان)، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ص 65-69، العدد الخامس، 1992، و: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس الى دريدا، تحرير: جون ستروك ترجمة: د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (۲۰6)، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1416ه/ ۱۹۹6م، ص 207 – 235.

4. ينظر:التفكيك، نقد المركزية الغربية...، ص 65-69 العدد الخامس، 1992. و(البنيوية و مابعدها)، ص 207-235. والكتابة والاختلاف، ص 30 – 31.

5. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص 28-29، 47، 58.

6. ينظر: المصدر السابق، ص 30-31.

7. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 36، 37، 38، 39، 66، 130.

8. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 40ـ41، 55، ـ59. والكتابة والاختلاف ص 31، 35، 36،47 ـ49، 59، 60.

9. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص ۵۲.

10. المصدر نفسه، ص 52.

11. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص38 -39، 66، 105 -106، 130.

12. الكتابة والاختلاف، ص 61. والتفكيكية، دراسة نقدية ص 66.

13. ينظر: من الفينومينولوجيا الى النومينولوجيا، تجاوز هيجل، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2024، ص 151 - 155.

 

الهرمنوطيقا لغة:

ورد في لسان العرب،: إن التأويل لغة، من جذر "أول". و"الأول هو الرجوع،  والشيء، يؤول أولاً ومآلاً، رجع. وآل إليه الشيء رجعه... وأول الكلام تأويلاً، وتأوله دبره وقدره وفسره"(1) .

التأويل اصطلاحاً:

أما معنى الهرمنيوطيقا (التأويل) اصطلاحاً: فهو إعطاء معنى لحدث أو لقول أو لنص لا يبدو فيه المعنى واضحاً. و تأويل الرؤيا أي تفسيرها كقوله تعالى: (ربِّ قد أتيتني من الملك وعَلمتني من تأويل الأحاديث). (يوسف – 101). وجمع تأويل هي تأويلات.

وبالرغم من أن التأويل مع القدامى كان يرتبط بالضرورة مع النص المقدس، كالقرآن في الإسلام. أي أن التأويل يقتصر على الكتب المقدسة. أما معنى التأويل أو اشتغالاته كما يتبناه الحداثيون، فوظائفه مغايرة تماما. إذ أخذت "الهرمونطيقا" تشتغل تأويلاً على مساحات كبيرة من الدراسات الأدبيّة واللسانيات وباقي العلوم الإنسانيّة، حيث أصبحت بمثابة مبحث فلسفي لدراسة عمليات الفهم وتأويل النصوص وخصوصاً النصوص الكتابيّة التي تعنى بدراسة الإنسان ونشاطه الاجتماعي والنفسي والتاريخي. (2). أي إن المصطلح دخل في تأويل ميدان العلوم الاجتماعيّة والانسانيّة من أوسع الأبواب، ليتسع في تطبيقاته الحديثة، فيشمل كافة العلوم الإنسانيّة، كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور. كما تأسست في الفلسفات الغربيّة قاعدة تقر بأن المفسر حرّ في التأويل، وعليه فهي – أي الفلسفات الغربيّة - تنطلق من مقولتين أساسيتين أولهما "موت الكاتب"، وثانيهما "النص منظومة رموز". و على هذا الأساس تصبح العلاقة التأويليّة هنا ثنائية، يمثلها (قارئ ونصّ)، وليست ثلاثيّة: (نص وكاتب وقارئ). (3). ومعنى ذلك أن التأويليّة إقرار بقدرة التأويل على تحويل النص أو الانتقال به من الوحدة إلى الكثرة. إذ ينطلق القرّاء من النص نفسه، ولكنهم يبلغون أو يصلون بقراءاتهم إلى معان مختلفة، وكثيراً ما تكون متناقضة. وهذا التصور مناقض تماما للمناهج التفسيريّة التي سبق للمسلمين القدماء اعتمادها على سبيل المثال لا الحصر، والتي تفترض في المفسِّر شروطا، وفي التفسير قواعد.

إذاً وفقاً لمعطيات (الحداثة)، فالتأويل يعتبر إعادة قراءة النص المعطى، في الماضي أو الحاضر، قراءة توصلنا إلى جوهر النص بما يحمل من دلالات ورموز تعبر عن القيم الإنسانيّة وغفاً لفهم القارئ له. فتأويل النص الماضي يجب أن يفتح النص على الواقع المعيوش، كونه جاء في واقع تاريخي محدد، ومن قبل كاتب أو فنان أو أديب محدد، وأن الأهداف إن كانت محددة أو عامة، لا تخرج عن طبيعة الحياة المعيوشة آنذاك. دون أن نحرم دلالات النص الماضي نفسه من التعامل مع طبيعة حياتنا المعاصرة. فعلى سبيل المثال، إن النظرة إلى المرأة في الماضي كانت تعتبرها قاصرة، أما اليوم فقد تبين أنها غير ذلك بعد أن دخلت مجالات الحياة وعلومها. وكذلك النظرة إلى فن النحت في الماضي حيث اعتبر تمثيلاً لرموز دينيّة وثنيّة عند المسلمين، أما اليوم فهو يعبر عن أبعاد اجتماعيّة وفنيّة وجماليّة. وسورة (إقرأ) تدل في الماضي على المعجزة، بينما تدل اليوم على ضرورة المعرفة والتعلم واكتساب الحريّة... الخ.

هذا وأن درجة التأويل وعمقه، ترتبط بالمؤول ذاته ودرجة ثقافته ومصالحه ومدى ارتباطه بالنص المؤول والظروف المحيطة به.

أنواع التأويل:

هناك أنواع ومستويات عديدة للتأويل يمكننا الوقوف عند أهمها في هذه الدراسة وهي:

1- التأويل الغيبي أو اللاهوتي: وهذا التأويل يقوم بإقصاء التفكير العقلاني النقدي، ويشتغل على الايمان والوجدانيات. أي هو علم دراسة الإلهيات دراسة  أسطورية غيبية، وفي أعلى تجلياتها تأخذ بعداً منطقيّاً صوريّاً.

وينقسم علم اللاهوت ذاته إلى فروع كثيرة، كاللاهوت العقائدي، والأدبي، والتاريخي، والفلسفي، والطبيعي وغيرها. والتأويل اللاهوتي موضوع البحث، هو جزء تخصصي من العلم المتعلق في صوغ أو ترتيب الإيمان والمعتقدات الدينيّة بشكل منظم ومنطقي ومتماسك. ويتوجه بشكل أساس إلى النصوص المقدسة التأسيسية للدين. ويركز التأويل اللاهوتي على مواضيع شتى منها استكشاف الله وصفاته، والوحي، والخلق، والعناية الإلهيّة، والأنثروبولوجيا، وعلم الكائنات الروحية، وعلم الخلاص، والروحانيات، والتصوف، والأسرار المقدسة، وعلم الأخرويات، واللاهوت الأدبي، والآخرة، والفهم الفلسفي وعلاقته بالدين، وغير ذلك من قضايا تتعلق بموقف الدين من الحياة والإنسان . (4). وبتعبير آخر يقصد بالتأويل اللاهوتي، اعتبار كل قراءة التراث التفسيري والتأويلي الذي خلفه المسلمون وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، أو دونوه قديماً عن فهمهم لكتبهم المقدسة، أمراً مقدساً يرسخ الإيمان ويثبته في نفوس المؤمنين. وتتميز هذه القراءة بخاصيتين أساسيتين هما:

الأولى: اعتبار كل أنماط القراءات والتفسيرات والتأويلات القديمة للقرآن مثالاً، مسجونة داخل السياج الدوغمائي /الجمودي/ المغلق.

والثانية: ظلت كبريات التفاسير الكبرى تمارس دورها كنصوص تفسيريّة مستقيمة وصحيحة. فتفسير ضخم مثل "تفسير الطبري" أو "تفسير الجلالين" أو ابن كثير، على سبيل المثال لا الحصر، لم تدرس الدراسة العلميّة اللائقة بها، وظل التعامل معها بضرب من التقديس حتى تاريخه. وتستند هذه القراءة الإيمانيّة، إلى مبادئ أو مسلمات لاهوتيّة يصعب مناقشتها من قبل معظم المسلمين في وقتنا الحاضر، أو وضعها موضع التشكيك أو النقد أو المراجعة.

2- التأويل العلمي: هو يقوم على النظر العقلي في النص.

لقد أُنيطت مهام جديدة للهرمنيوطيقا في مجال التأويل، فلم تعد نقتصر على القراءة والتفسير للنص المقدس كما بينا في موقع سابق، وإنما أخذت هذه المهام تتجه نحو عمليّة الفهم والإدراك العقلي للنص المعطى أو موضوع التأويل، وهي محاولة للتخلص من السلطة الدينيّة في تفسير النص المقدس إلى السلطة العلميّة القائمة على العقل إن كان للنص المقدس أو غيره.

إن التفاسير والتأويلات السابقة المتعددة في التاريخ الإسلامي على سبيل المثال، قد أدت إلى فهم متعدد للنص المقدس موضوع بحثها، إن كان على مستوى المذهب الواحد أو المذاهب المتعددة، لذا أصبح من الضروري في تاريخنا الحديث والمعاصر إيجاد مبادئ أو قوانين للتفسير والتأويل، كي يكون التفسير والتأويل معقولين ومنطقين وصحيحين. ومن هنا لعبت الهرمنيوطيقا في وظيفتها الحداثويّة دوراً مهماً كوسيلة أساسيّة في إعادة فهم النصوص الدينيّة، وتوضيح ما فيها من غموض. حيث سارت في مسارين أساسيين هنا، ففي المسار الأول، خرجت الهرمنيوطيقا من إطارها الديني وقراءة وفهم النصوص الدينيّة لتهتم بالنصوص الدنيويّة أيضاً، مثل النصوص القانونيّة والتاريخيّة، والاجتماعية والفنيّة والأدبيّة وغيرها. أما التغيير في المسار الثاني، فتمثل بأن الهرمنيوطيقا أصبح لها مبادئ واستقلاليّة، وبذلك صارت فلسفة قائمة بذاتها. (5).

3- التأويل الأبستمولوجي: ويتعلق بنمط التفكير الحر في آليّة التأويل ووسائله، والمبادئ العامة للبحث ونتائجه، وكذلك في الدراسات النقديّة لمختلف المواضيع المسلط عليها التأويل. وهذا ما حدده الباحثون في مجال التأويل من المنطلق الأبستمولوجي. حيث حددوا منطلقاُ لهذا التأويل سموه  بـ "النموذج الموجه"، وهو قانون أو قاعدة تقيس عليها الجماعة العلميّة نتائج بحوثها أو تأويلها للنصوص عن طريق ما يسمى (العلم المطابق). ويعمل العلم الذي يهدف إلى تعميق المعرفة بالظواهر والنظريات التي يؤطرها هذا "النموذج الموجه" مسبقاً على تعزيزها وتأكيدها بغية إثبات صحة "النموذج الموجه" نفسه. هذا الأخير الذي يلهم العلماء، ويجعلهم ينظرون إلى العالم بواسطته. وهنا  لا توجد علاقة مباشرة بين العالِم والعالَم، بل هناك وسيط بينهما، يتمثل أساسا في قوانين وقواعد "النموذج الموجه". وبهذا المعنى يعتبر "رؤية للعالم" أو"تأويلاً" للظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة موضوع البحث. وإن الانتماء إلى "نماذج موجهة" مختلفة، يعني بالضرورة الانتماء إلى عوالم ومصالح مختلفة. والانتقال من "نموذج موجه" إلى آخر يوازيه الانتقال من عالم إلى عالم آخر مختلف. ويبقى دور الباحث هو الاشتغال تحت مظلة هذا  "النموذج الموجه" أو ذاك، والعمل على حل ألغازه التي يؤطرها، والانخراط فيه، قصد فهم أفضل لطبيعة الممارسة العلميّة. إذ على الرغم من وجود قواعد وأسس يلتزم بها في زمن معين جميع أصحاب التخصص العلمي، في الوقت الذي نستطيع القول فيه إن تلك القواعد والأسس، قد تحدد بذاتها كل الخصائص المشتركة في الممارسة العلميّة لأولئك الاختصاصيين.

إن القواعد والأسس التي تشتغل عليها "النماذج الموجهة"، يمكنها أن توجه البحث والباحث أيضاً حتى في حالة عدم وجود قواعد او أسس التأويل، وذلك عندما تُسَلِمْ الجماعة العلميّة أو تعتقد بصحة الحلول والمشاكلات الخاصة التي تم انجازها دون جدال. والحقيقة أن وجود "نموذج موجه" ما، لا يعني بالضرورة وجود مجموعة كاملة من القواعد المطلقة الصحة، فإن القسط الأكبر من نجاح رجل العلم يتوقف على (معرفة ضمنيّة)، أي على معرفة مكتسبة من خلال الممارسة العلميّة، التي لا يمكن التعبير عنها صراحة. (6).

المستوى الفلسفي في التأويل:

نجد هنا مهمة التأويل السابقة ما يبررها انطلاقاً من نظرة خاصة للوجود، أو للشعور أو العقل. ويدعونا التأويل الفلسفيّ هنا إلى الانسياق خلف النصّ – بعيدًا عن المنهج المسبق – حتّى يخبرنا هو عن نفسه – أي النص - بمعزل عن سوء فهم المؤول ومصالحه، فنتخلّص من الفهم المسبق ونستبدله بالإصغاء إلى صوت الآخر.

لقد (بين "هانس جورج جادامار" في كتاب المنهج والحقيقة، أن الأصل الثيولوجي، (7)، أي الديني، للتأويل، لا يبتعد كثيرًا عن التراث الفلسفي، إذ إن المقصود منه، هو فهم وتمثيل النصوص الفلسفيّة وإعادة بنائها وتفكيكها، والغرض هو بناء عنصر الفرادة للمؤول، لكن التأويل يتجاوز حدود النص إلى ما بعد المكتوب فيه، ربما يكون المنطوق، أو السلوك، أو منظومة القيم، أو السياسة، أو حتى العلم، فالمهم في ذلك، هو أن التأويل في جوهره فهم وتفكيك.). (8).

التأويل الأنتربولوجيي:

قلنا في موقع سابق بأن مصطلح التأويل (الهرمنوطيقا)، دخل ميدان العلوم الاجتماعيّة والانسانيّة من أوسع الأبواب مع الحداثة، ليتسع في تطبيقاته الحديثة، فيشمل كافة العلوم الإنسانيّة كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور..وغيرها. وقد أثمرت المواجهة بين التأويل والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على الصعيد الأبستمولوجي في صدارة فكرة "الثقافة" تحت مظلة ما بعد الحداثة، التي تشهد حدوث تحولات نوعيّة في طبيعة العلاقات الإنسانيّة وتصورات المجتمع والفرد. وقد ظهرت الأنثروبولوجيا التأويليّة، في هذا السياق، من خلال أبرز ممثليها "كليفورد غيرتز" الذي يدين بالكثير للظاهراتية، فقد ركز التأويل الظاهراتي على البعد الجماعي للثقافة، وعلى «عالم المعاني الذي يشترك فيه الفرد مع الآخرين من خلال إنتاج الرمز واللغة والإشارات، ومن ثمة انصب اهتمامه على اللغة، على اعتبار أن النصوص هي ما يقدم البراهين الموضوعيّة عند التحليل. ويطرح غيرتز في كتابه "تأويل الثقافات" فهما خاصا للثقافة التي يجعلها موضوع تأويل، موضحا أن هدف علم الأنثروبولوجيا هو توسيع فضاء الخطاب الإنساني بما يتناسب والمفهوم السيميائي، أي الدلالي. (9).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

..............................

الهوامش:

1- قاموس لسان العرب.

2- (موقع الحوار المتمدن – الهرمنوطيقا – فلسفة التاويل – عبد الله بير).

3- (موقع أكتب - تأويل النّص القرآني: طه عبد الرحمان ناقدا لمحمد أركون - توفيق قاسمي –- https://oktob.io/posts/16281

4- الوكيبيديا – بتصرف.

5- (موقع الحوار المتمدن -الهيرمنوطيقا – فلسفة التأويل – عبد الله بير – مرجع سابق. بتصرف.

6- (التأويل الأبستمولوجي اللاوضعاني – بحث عام قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية – حسن الحريري – موقع مؤمنون بلا حدود.). بتصرف.

7- (أي الدراسة المنهجية للطبيعة الإلهية، وعلى نطاقٍ أوسع، للعقيدة الدينية.).

8- فلسفة التاويل – موقع ساسة بوست – سهيل العرفاوي.

9- (مجلة التأويل و تحليل الخطاب - المنعطف التأويلي" في العلوم الإنسانية؛ الأنثروبولوجيا الثقافية نموذجا – الكاتب.

دريس  سامية -  بتصرف موقع - https://www.asjp.cerist.dz/en/article/203601

 

إنَّ جماليات البناء الشكلي في الصورة الفنية هي من الضروريات التي تعطي للعمل الفني في مختلف الفنون وجودها الفعلي كون العمل الفني في ذاتياته يرتكز على المضمون بوصفه معطى ميتافيزيقي والصورة الفنية وبنائها الشكلي قيمتها الفيزيقية التي تحدد اشتغالها البصري على مستوى تأكيد المضمون وما يرمي إليه في تكوين المعنى في العمل ذاته ليصل الى المتفرج المتبني لفعل الإيجاد البصري من حيث البنى المعرفية المتشكلة في الأفاق الثلاثة ابتداءَ من أفق العمل الفني وصولاً الى أفق التلقي وما بينهما من أفق تواصلي مبني على الأفقين السابقين وداخل بينهما.

ويتمظهر السؤال المتبنى في هذا المجال المعرفي ذات البعد البصري في كون المبتغى من هذه الجماليات هل هي ذات مغزى معلن غايته دفع التفكير في ذات الموضوع الجمالي؟ أم أن الغاية المبتغى من هذا الفعل الجمالي في البناء الشكل ه إيجاد مساحة معرفية أخرى تجعل المتفرج قادراً على استنباط المرمى المعرفي ذات الإيديولوجية المعينة في التمظهر الجمالي المبتغى من الفعل الفني في البناء الشكلي للمنطلق الجمالي ذاته؟.

إنَّ الفنون المتنوعة ينطلق منها البناء الشكلي في الصورة الفنية والإطار الشكلي فيها من عناصر، ويذكر ها الدكتور (زكريا ابراهيم)، إذ يرى الآتي: " ذهب بعض علماء الجمال الى أن ثمة عناصر ثلاثة لابد أن تدخل في تكوين العمل الفني. ألا وهي على التعاقب: المادة، الموضوع، التعبير"(1)، وهذه العناصر الثلاثة التي تشكل العمل الفني بما فيها العمل المسرحي، تدخل أثنان منهما في البناء الشكلي للصورة الفنية وهما المادة والتعبير، والثالث يدخل في البناء الداخلي لما يريده القائم على العمل في تشكيل معنى صورة العمل المسرحي، سواء أكان نصاً،أم عرضاً مسرحياً.

إنَّ الجمال في الفن المسرحي ينطلق من السؤال عن الهدف الأسمى للعمل المسرحي، وهذا السؤال الجمالي الذي تمظهر في صور متعددة على مستوى مخاطبة الجمهور بمستويات متعددة من أجل إيجاد مساحة معرفية إبداعية يتخللها الفعلي الجمالي على مستوى البناء الشكلي والفني في العمل ذاته، لذا فإن هذه المسيرة الجمالية في الفن المسرحي تعد في جوهرها بحثاً جمالياً من أجل إيجاد إبداع مسرحي يتمثل في جميع أشكاله " في إعادة ابتكار مفهوم الجمهور بحيث يكلف هذا الأخير عن أن يكون متلقياً سكونياً ليتحول الى مشارك في العمل الفني بوجوده، وبمحسوسيته ثم باندماجه في دينامية هذا العمل أو ذاك " (2). إنَّ ما يريده الشخص المعني من عمله الفني المسرحي هو بناء معنى داخلي للعمل يتمحور في إطار شكلي فني جمالي غايته جمهور متفاعل، وليس غايته العمل ذاته فقط، فإن الجماليات في البناء الشكلي إذا ما ارتبطت في العمل الفني ذاته دون غايات أخرى سيفقد العمل الفني مشروعيته الجمالية التي يسعى اليها المتبني للرؤية الجمالية في المسرح.

إنَّ ما يهدف اليه الفاعل المسرحي في توفير رؤياه الجمالية هو خلق منظومة تعبيرية ذات واقع دلالي في العمل الفني المسرحي، كون هذا العمل الفني المسرحي سواء في النص وهو القاعدة الفعلية لإنتاج المنعى الجمالي في قاعدته الأولى، أو في البناء الأنطولوجي ذات الجوانب البصرية التي يستهدفها القائم على البناء المسرحي في العرض المسرحي وعناصره الفنية ذات البعد الجمالية فيه، ومن هذا المعنى الجمالي تولد الصورة في أوسع معناها الفني الجمالي، إذ تعد هي " منظومة تعبيرية ذات رصيد دلالي قيمي، لأنها تحمل معنى وتمارس وجوداً دائماً من طرف ثاني، وهذا ما يجعلها واقعاً قابل للتثبات والاستعادة، طالما بقيت مرجعاً مهما لها تاريخها ودورها الحتمي " (3)، ومن ثم فإن الاشتغال على تكوين العمل البصري لابد من الأخذ فيه بجمال الصورة الفنية على فق البناء الأنطولوجي للشكل الفني في العمل ذاته في غاية يكون فيها للجمهور المشاهد للعمل الفني إنتاج المعنى الجمالي المكتسب من هذا البناء الشكلي الجمالي.

إنَّ ما يعطي للصورة الفنية بنائها الشكلي هي العناصر الداخلة في تكوينها، من حيث أن هذه العناصر هي التي يمكن للفنان في المجالات الفنية المختلفة بصورة عامة والفن المسرحي بصورة خاصة التركيز عليها في الوصول الى ما هو مأمول من معنى يصل الى المتفرج، ومثلما ذكر الدكتور (زكريا إبراهيم) فإن أول هذه العناصر هو:

1. المادة: والمادة في المجال الفني المسرحي متنوعة، وتبدأ من النص الذي يقع في مجال الكتابة ذات البعد الأنطولوجي من خلال ما يكتب ويقدم عن الأفكار المجردة في ذهنية الكاتب الى ما يكتب على الصفحات، ويدون من خلال الحروف والكلمات والجمل والبناء النصي في هذا المجال، أما العناصر الأنطولوجية الأخرى المكونة للعمل الفني المسرحي فهي تأتي على شكل مفردات العرض من (ممثلين،وأزياء، وإكسسوارات، وديكورات، واضاءة، وخشبة المسرحي وغيرها) التي يجسد من خلالها البناء الجمالي وأنطولوجيته في إطاره الشكلي والفني المقدم في العرض المسرحي، ومن هنا فإن المادة التي يحولها المبدع الى صورة مرئية هي في الأصل مادة خام لكن المبدع هو الذي يصيغها في مجالها الأنطولوجي الشكلي الجمالي، أي أن " المادة الخام لا تكتسب صبغة فنية فتصبح مادة استطيقية، إلا بعد أن تكون يد الفنان قد امتدت اليها فخلقت منها (محسوسا جماليا)" (4)يشكل البعد الجمالي في العمل الفني.

2. الموضوع: إنَّ المسرح في مجاله الفني والثقافي والاجتماعي يعد المتبنى المهم والمباشر في تقديم المواضيع المسرحية الداخلة في خدمة المجتمعات الإنسانية منذ اللحظات الأولى التي ولد فيها المسرح، وكل ما قدم في المسرح ابتداءً من الإغريق الى الوقت الحاضر كانت الموضوعات المقدمة غايتها جذب المتفرج اليها على الرغم من أختلاف ما يهدف اليه المبدع من خلال بناءه الشكلي في موضوعاته الجمالية المقدمة في المسرح.

3. التعبير: إنَّ ما يميز المسرح هو مجاله التعبير الذي يقدمه المبدع من خلال تشفير مضمونه الفكري في إطاره الشكل المقدم من خلال عناصر الصورة الفنية المقدمة في المسرح، من حيث أن البناء الشكلي " الذي يتميز به غرض مجسد في صورة ما أو عبر رمز لا وجود ظاهراتياً له في العالم الحقيقي. فالموضوع في هذا المضمار يتعلق بإدراك الشكل على أنه وحدة، وهيئة تشير الى وجود كل يهيكل أقسامها بشكل منطقي " (5) داخل في تكوين التعبير الفني عن المضمون الفكري في إطار البناء الأنطولوجي للبناء الشكلي وجماليته المتمركز في فضاء البث المسرحي، وصولاً إلى فضاء (التلقي / الجمهور) في المسرح.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

....................

الهوامش

1. د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، القاهرة: مكتبة مصر، ب، ت ـ ص 27.

2. فريد الزاهي من الصورة الى البصري، الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص90.

3. د. عقيل مهدي: السؤال الجمالي، بغداد: سلسلة عشتار الثقافية، 2008، ص270.

4. د. زكريا إبراهيم: المصدر السابق، ص 27.

5. جاك أومون: الصورة، ترجمة: ريتا الخوري، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013، ص 69.

 

"هل يتسارع التاريخ؟ " هذا سؤال لا يسعى كتاب "تسارع التاريخ" لجان كريستوف بوتون المولوج سنة 1960 إلى حله، بل إلى كشفه. بهذا المفهوم، يستهدف أستاذ الفلسفة الفرنسي فكرة شائعة جدًا في الفهم المعاصر للتاريخية: الأخيرة، من خلال دخولها الحداثة، كانت ستعدل بشكل جذري علاقتها بالسرعة. وعلى المستوى الفني والجغرافي السياسي والاقتصادي والمناخي أيضاً، لكان مجرى الأحداث قد أصبح قاطرة مجنونة تنطلق بلا سائق. إن الطبيعة الشمولية لهذه الظاهرة ستسمح لنا بإدراك سمة تأسيسية للحداثة: لن يقتصر الأمر على زيادة وتيرة التغييرات باستمرار وحتى زيادة معدل هذه الزيادة، ولكنها ستتبنى إيقاعًا من شأنه أن يمنعها من تشكيل تاريخي. شاء. من خلال خلافة بعضهم البعض في لحظة فورية، سيكونون محصورين في صيرورة نقية، إذا جاز التعبير، بلا ماضي أو مستقبل، بلا ذاكرة أو غاية، محاطين بشرارة الحاضر الأبدي. تم تنظيرها أو تعميمها من قبل عقول متباعدة مثل دانييل هاليفي، أو هارموت روزا، أو بيير نورا، أو بول فيريليو أو بيتر كونراد، وقد لاقت هذه الفكرة نجاحًا كبيرًا، وكانت في حد ذاتها محاطة ببعض الارتباك. حتى أن كريستوف بوتون يقترح أن هناك صلة بين الوجود الكلي لمفهوم التسارع وغموضه: «إن ملاحظة تسارع التاريخ موجودة في الواقع بين المؤرخين وكتاب المقالات والفلاسفة والسياسيين والصناعيين والكتاب والعلماء، وما إلى ذلك. الذين يستثمرون هذا المفهوم من وجهات نظر مختلفة، بمعاني واستراتيجيات متميزة. " يمكن للمرء أن يعتقد تقريبًا أن هذا المفهوم ينطوي على «فهم مسبق» كامل للتاريخية" وفقا لمارتن هيدجر. وبعبارة أخرى، فهو أمر بديهي. إن الحديث عن التسارع لن يأتي من التفسير، بل من الملاحظة: ولن يتم إصدار أي حكم قيمي وراء هذا التحليل. ومع ذلك، يوضح كريستوف بوتون، من مقدمة عمله، أن هذه الفكرة تثير عددًا معينًا من المشكلات. عندما نتحدث عن تسارع التاريخ، أي تاريخ نشير إليه؟ هل هو تاريخ أم قصة، تاريخ أم قصة؟ هل نشير، بمعنى آخر، إلى التاريخ باعتباره سلسلة زمنية للأحداث، أي التاريخ المعاش، أو إلى التاريخ باعتباره معالجة للمعلومات، أو كقصة، أو حتى كنظام - باختصار، التاريخ يُدرَس ويُحكى ويُحفظ؟ ولا يمكن النظر في هذا البديل دون الرجوع إلى منبع المشكلة، إلى التناقض الذي تنطوي عليه عبارة "تسارع التاريخ". في الفيزياء، يشير التسارع إلى زيادة السرعة بمرور الوقت (إقلاع طائرة، صيد حيوان، سقوط حر لجسم)؛ فكيف يمكن للتاريخ نفسه، وهو الوجه العالمي للزمن، أن يتسارع؟ ألا نخلط في التعبير عن أنفسنا بهذه الطريقة بين المعيار والإطار المرجعي؟ ألسنا بهذه الطريقة نرتكب خطأ منطقيا؟ هل يمكننا تطبيق فئة مادية على التاريخ، وبالتالي على التخصصات الإنسانية، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية؟ وأخيرا، سنلاحظ، وهذا هو الأمر الأساسي، ظهور "معيارية متأصلة في هذه التجربة": تجربة التسارع تفترض دائما تقييم الحداثة، مهما كانت القيم (التحرر/التراجع) التي تدعو إليها هذه الغاية. وبغض النظر عن البنية السردية التي يُقحم فيها هذا الشعور، فإنه بالضرورة يأخذ بعدا غائيا، يسمح للبعض بتأكيد أن التسارع يؤدي إلى نهاية التاريخ، والبعض الآخر بإدراك حافز التحرر، والبعض الآخر لتحديد المرحلة النهائية. مركزية الإنسان، وما إلى ذلك. الغرض من هذا العمل، كما كتب كريستوف بوتون، "ليس إضافة حجر آخر إلى هذا المبنى. بل إنها مسألة تفكيك لأطروحة تسارع التاريخ." التفكيك ينطوي على التساؤل عن شروط هذا المفهوم: شروط تطبيقه (تعدد استخداماته، المجالات المختلفة التي يشملها)، وشروط ظهوره (نسبه)، وآفاقه الفلسفية (مفاهيم التاريخ أو الحداثة التي يحملها). لأن مفهوم التسارع هو في حد ذاته موضوع تاريخي معقد، يتمحور حول ثلاثة محاور رئيسية، ينشرها المؤلف في فصله الأول. على المستوى السياسي، فإن فكرة انفصال التاريخ عن بطئه التأسيسي تجد أساسها على وجه الخصوص في مقدمة كتاب ظواهر الروح، حيث يرى هيجل، الذي يصف الروح بأنها منخرطة في "حركة في تقدم دائم"، في عصره لحظة التغيير، وغمرة التمثيل، والتحول الجذري في إيقاع "التطور" المكون للتاريخية. وعلى المستوى التكنولوجي، يعود تاريخ هذه الفكرة في المقام الأول إلى الثورة الصناعية، وينبغي فهمها باعتبارها الخيط المشترك للتطور الثلاثي: تسارع وسائل النقل، ومعدلات الإنتاج، وتواتر الابتكارات. عند ماركس، يتم النظر في وجود علاقة بين المؤشرات الفنية والسياسية: في بيان عام 1848، على سبيل المثال، تم تقديم التحول الدائم الذي تنغمس فيه البرجوازية كشرط للثورة، وإن كان بشكل غير مباشر. وبالتالي فإن هذين القسمين يضعان ظهور التسارع في القرن التاسع عشر، كثمرة التنوير، والثورة، وصعود الرأسمالية الصناعية. لكن كريستوف بوتون يشير إلى أن هذه الفكرة تبلور موضوعًا أقدم بكثير: وهو علم الأمور الأخيرة. من العصور الوسطى، نجد، في أعقاب الفصل 20 من رؤيا يوحنا، رؤى عديدة لتاريخ يتسارع مع فجر يوم القيامة. مثل هذا النص من القرن الرابع، الذي استشهد به كوسيلك ثم كريستوف بوتون: “وسوف يتم اختزال السنوات، إذا جاز التعبير، إلى أشهر، والشهور إلى أسابيع، والأسابيع إلى أيام، والأيام إلى ساعات." وبالتالي فإن التسارع لا يشكل خاصية متأصلة في الحداثة بقدر ما يشكل إسقاط رؤية نهاية العالم، مسيحية أو علمانية، لهذه الحداثة نفسها. في ضوء هذا التناقض يستعرض كريستوف بوتون النظريات الرئيسية للتسارع، من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، من هاينه إلى هارتموت روزا مرورا بنيتشه وهنري آدامز ودانييل هاليفي وبيير نورا. وبعيدًا عن تحديد ثلاثة مخططات تفاعلية (الالتصاق، والتردد، والنقد)، فإن التحدي الذي يواجه هذا التحليل يكمن في إطلاق معيارية جوهرية في وصف التسارع. هاينه على سبيل المثال، في تعليقه على افتتاح خط السكة الحديد بين باريس وروان أو أورليان، يحيي التقدم التكنولوجي الذي لا يمكن إنكاره، والاضطراب "في طرق رؤيتنا وتفكيرنا"، والشعور "برؤية الجبال والغابات في جميع البلدان" مسيرة إلى باريس." لكن هذه الدوخة يرافقها، تحت قلمه، قلق شديد: فجأة “اهتزت الأفكار الأولية للزمان والمكان". ماذا سيحدث لهذا التحول؟ من المؤكد أن اكتشاف أفراح، لكنها مشوبة بمعاناة جديدة. نجد نفس هذه الثنائية عند هنري آدامز الذي يفترض "قانون التسارع" أن هذه الظاهرة اكتسبت "تأثيرًا أساسيًا" منذ القرن التاسع عشر، مما أدى إلى المزيد من الكوارث التقنية (حوادث السيارات، ومجازر السكك الحديدية، ونيران الأسلحة) - بينما مما يعطي مصداقية للفرضية القائلة بأن الإنسانية، مثل المذنب الذي اصطدم بالشمس في عام 1843، ستتمكن من تجنب المخاطر التي يجلبها بصعوبة. ولكن كيف يمكننا تجميع كل هذه المفاهيم المتناثرة؟

إن وجهة نظر نيتشه، التي تركز على مسألة الأوتيوم المفقود، لا تشترك في أي شيء تقريبًا مع وجهة نظر هنري آدامز، المنشغلة بوجهة نظر الكارثة. ومن هذا المنطلق، يستحضر كريستوف بوتون فكرة "ديكتاتورية الحاضر": "إن تسارع التاريخ يؤدي إلى ضياع الماضي وانحلال المستقبل، وبالتالي تمكين الحاضر، الذي يصبح فئة التاريخ السائد للحداثة"، ستكون هذه هي الفكرة الأساسية لموضوعات التسارع. يفترض هذا المنظور أن كل عصر يتمحور حول “نظام التاريخانية”، بحسب المفهوم الذي طرحه فرانسوا هارتوغ في كتابه الذي يحمل اسمه. من المرجح أن يتم تكوين تجارب الزمن في مجتمع معين، وتوجيهها، وإنشاءها وفقًا لمعايير معينة. ومنذ سقوط سور برلين ونهاية الحرب الباردة، كانت الحياة الغربية محكومة بالحضور. في تعليقه على أطروحات هارتوج، يناقش كريستوف بوتون أسسها: فهو يتناول بشكل خاص اعتراض لورنز، مشيرًا إلى أن الحضور المعاصر لن يكون علامة على مطلقية الحاضر أو اختفاء الماضي، بل على العكس من الهوس. ماض طيفي، ماض لا يمكن أن يمر - وفي المقابل، مستقبل مثير للقلق، مليء بالمجهول، مشبع بخطر لا يضاهى بالتهديدات التاريخية، وهو تدمير النظم البيئية. تسمح هاتان الملاحظتان لكريستوف بوتون بالتنحي جانبًا: فترك الانتقادات الرئيسية لهارتوغ (نموذج الحضور، المتماسك من حيث المبدأ، يحتاج إلى التحقق تجريبيًا)، وهو يعترض على طابعه الشمولي. “لماذا لا نعتبر أن الحداثة تؤدي إلى عدة تجارب زمنية، إلى عدة أنظمة تاريخية تتعارض أحيانًا مع بعضها البعض؟” وإذا كان كل عصر، وكل مجتمع، بعيدًا عن أن يكون محكومًا ببنية واحدة ، كان في الأساس متعدد الأزمنة؟ ماذا لو قدموا تجارب زمنية مختلفة، والعديد من الديناميكيات السياسية التاريخية، والعديد من النشوات المحتملة؟

يقول كريستوف بوتون: "إذا قاومنا إغراء تلخيص طيف معانيها في مفهوم عالمي واحد، وتقليص تعدد أوقاتها إلى نظام مهيمن واحد، من المفترض أن يوفر المفتاح، فإننا نكتشف بالتالي حداثة تعددية، محتملة". تناضلية، منظمة وفقا لتعدد أنظمة الزمانية والتاريخية المتناغمة أو المتوترة مع بعضها البعض".  وبهذا الحدس، يحدد ثلاثة أنظمة للتاريخية، والتي تعمل في عصرنا، تتنافس مع الحضور. في الفصل الرابع، يبين أن "النموذج القديم لتاريخ السيرة الذاتية" لم "يذوب" بسبب الحداثة، بل تحول: وُلدت "الماضوية الجديدة"، التي تتميز بإعادة توزيع التراث النظري والعملي. العلاقات بالتاريخ (انقسام واضح بين تاريخ الباحثين وتاريخ المعلمين وتاريخ النقاش العام، بالإضافة إلى الحاجة إلى "الاهتمام بـالتاريخ" الذي يعمل بمجرد استحضاره. لما يقدمه لنا من "دروس"، خاصة من خلال واجب الذاكرة. الوقوف ضد الأطروحات حول "نهاية اليوتوبيا" بعد سقوط الجدار والوقوف إلى جانب هربرت ماركوز الذي من جانبه عرّف اليوتوبيا، ليس باعتبارها رؤية لمجتمع مجرد، ولكن باعتبارها المعارضة الملموسة والنسبية للحداثة. النظام الحالي للأشياء، يسعى الفصل الخامس إلى إظهار أن المدينة الفاضلة قد خضعت لتحول مزدوج. من خلال إعادة النظر في الحجج الكلاسيكية الثلاثة لنقد اليوتوبيا (هذه ستكون وهمية، وطفولية، وضارة)، يؤكد كريستوف بوتون أن الأشكال المعاصرة من اليوتوبيا تولد من الانقلاب: على عكس ماركس أو إنجلز اللذين انتقدا، من منظور الاشتراكية العلمية، إذا فشلت الاشتراكية الطوباوية في تحقيق حتمية الثورة، فإن اليوتوبيا الحالية ستستند إلى طموح إصلاحي. إن القبول بشرط اللاعنف، وبالتالي "الالتزام الديمقراطي"، وتخصيص ضرورة عدم تعليق المداولات باسم الأهداف المراد تحقيقها، بل إبقائها حاضرة وحية في كل مرحلة من مراحل النضال، سيكونان كذلك. تقدمية في الأساس: ولدت من "تجريب" دائم، تتكشف في "تشاور" متواصل، وسوف تتقدم بطريقة تدريجية بشكل أساسي. لكن الاهتمام بالمستقبل، في الأزمنة المعاصرة، ينشأ أيضاً من تجربة جديدة: تمزق مبدأ التاريخ البشري نفسه، أو على وجه التحديد تشابكه المتبادل مع التاريخ الطبيعي. يشير المؤلف إلى أن "الحقيقة الجديدة التي أدى اكتشافها إلى ظهور مفهوم الأنثروبوسين، ليست أن الطبيعة لها تاريخ، متشابك جزئيًا مع تاريخ البشر، بل أن تصرفات البشر تؤثر على عمليات الظواهر الطبيعية الأساسية مثل المناخ". والتي كانت تعتبر في السابق قادرة على تحديد تاريخ البشرية، دون أن يحددها. لقد أصبح الفعل غير المتبادل متبادلاً. يقترح كريستوف بوتون جينالوجيا لمفهوم الأنثروبوسين، ويدرس نقاط ضعفه، ويعتبره، مثل غيره، "درسا في التواضع"، يدعو، إن لم يكن إلى إعادة تطبيع الإنسان، إلى التغيير على الأقل. من منظور: شرط إمكانية العمليات التاريخية هو وجود طبيعة، كوكب، أنظمة بيئية تسمح بالحياة البشرية وتأذن بها. لكن الضربة القاضية لتحليله تتمثل في إظهار أن الأنثروبوسين، بعيدًا عن كونه قابلاً للاختزال في تأثير توجيهي واحد (دوار المستقبل المروع المحتمل)، بل على العكس من ذلك، يقع في قلب تعدد الزمن المعاصر. ومن الممكن أن ينظر إليه منظور تقني بحت على أنه مجرد "تحدي" آخر، أو حتى "مغامرة جديدة". بعد التغلب على عدد من المخاطر الطبيعية أو البيولوجية، سيتعين على العبقرية البشرية أن تكافح، من خلال الابتكار والإبداع، المخاطر التي جلبتها هذه الأخيرة. وهذا هو، إلى حد ما، مبدأ الهندسة الجيولوجية، والحداثة البيئية، والتسارع. لكن الاتجاه الأساسي الآخر هو علم الانهيار، والذي، بحجة أن انهيار المناخ ليس وشيكًا فحسب، بل إنه مكون لعصرنا، يعيد إحياء بعض العناصر الأخروية. ويؤكد في ختام عمله أنه "لأنه في طور التشكل، فإن التجربة التاريخية الخاصة بالأنثروبوسين بعيدة كل البعد عن أن تكون متجانسة؛ فهي ممزقة بين اتجاهات متعارضة يمكن تصنيفها وفقا لها". إلى الاتجاهات الثلاثة لتسارع التاريخ".  باسم البدائل التي يطرحها، وموقفه من نظرية فرانسوا هارتوج، يؤكد كريستوف بوتون أن الأنثروبوسين يمثل نظامًا جديدًا للتاريخية: "أود أن أطور الفرضية القائلة بأن الأنثروبوسين هو بالفعل اسم نظام جديد للتاريخية. وبعبارة أخرى، فإن "التسارع الكبير" لم يكتف بإحياء الأنظمة التاريخية القديمة، بل صاغ نظاماً من الصفر. تكمن أهمية هذا النهج في وضع الأنثروبوسين في زمن جمعي وطبقي، أغنى من الزمن المتجانس والخطي المفترض في التسلسل الزمني الذي حددته علوم الأرض." إن ترسيخ هذا النظام في "زمن تعددي وطبقي" هو بالضبط ما يميزه عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل: فالأنثروبوسين لا يخضع لاتجاه شمولي. إنه يستدعي في الوقت نفسه الوعي بالحاضر الذي يعتبر ملحًا، و"المسؤولية عن المستقبل على المدى القصير والطويل"، وإعادة التفكير في المكانية ومقاربة جديدة للتداخل بين الطبيعة وماضي المجتمعات. لكن ماذا بقي، في نهاية هذا التفكيك، من رؤية الحداثة كمسرح لتسريع التاريخ؟ سنلاحظ أولاً أن هذا المفهوم يتوافق مع بعض الظواهر الموضوعية التي لا جدال فيها والتي يمكن التحقق منها تجريبيًا، ولكنها تمس مجالات غير متجانسة جدًا بحيث لا يمكنها تقديم تفسير مبسط. لدرجة أن الاستدعاء الساذج لهذا الموضوع قد ينسى أنه يقع على مفترق طرق بين العديد من فلسفات التاريخ التعددية جذريًا، والتي غالبًا ما تكون غير متوافقة، والتي تكافح على الأقل من أجل التقاطع. هذا الخطاب، عندما يكون "متجانسًا"، يميل أيضًا إلى إخفاء معياريته الكامنة: فهو يتضمن فقط، بالإضافة إلى رؤية العالم، نظامًا من القيم. ولكن ما يؤكد عليه كريستوف بوتون بشكل خاص هو رفضه فرض نموذج العولمة على التاريخ، أياً كان محتواه. لا شك أن الأصالة العميقة لعمله تنبع من هذه النظرية حول التاريخ التعددي بشكل أساسي، الخاضع لأنظمة متميزة، والمقدم لباقة من الغايات والوسائل المتنوعة، الممزقة دائمًا في علاقاتها مع الزمن. وخلف طبقاتها لا توجد "تنمية" لا هوادة فيها. لا جدلية أحادية. لكن مكالمات متعددة. ولكن هناك العديد من الديناميكيات، ومسارات متعارضة. وما يميز تاريخ القاطرة أن محركاتها، المختلف بعضها عن بعض، وربما حتى في حالة صراع، تدفعها في كل الاتجاهات. نحو كل الآفاق.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...............................

المصدر:

Christophe Bouton, L’Accélération de l’histoire, Paris, Éditions du Seuil, « L’ordre philosophique », mai 2022.

مقدمة: في عمل طموح وعلمي وسهل المنال، يقارن فانسون سيتو فلسفات ثماني حضارات مختلفة لتحديد الثوابت الدورية، بين المرحلة الدينية والعصر العلمي. إن مسألة أصول الفكر الفلسفي هي إحدى المشكلات التي ميزت تاريخ الفلسفة. إن الإجابة الأكثر شهرة وشائعة لهذه المشكلة هي أيضًا السبب الرئيسي لواحدة من أصعب التحيزات التي يصعب القضاء عليها: لقد ولدت الفلسفة في اليونان وأصولها هيلينية بحتة. ومع ذلك، من هيغل إلى هوسرل، ليس هناك نقص في الفلاسفة اللامعين الذين تبنوا هذا النموذج. منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تمت إعادة ضبط النقاش نحو رؤية أقل مركزية على أوروبا، ويتجه أحيانًا نحو الطرف المعاكس، حيث يتم البحث عن التقارب والتشابه الخيالي أحيانًا بين الفلسفات التي تنتمي إلى عصور وعوالم مختلفة. أحد أسباب النموذج المتمركز على الهيلينية حول أصول الفلسفة يتعلق بالمعايير التي تحدد الفكر على أنه فلسفي. لقد ورثناهم منذ فترة طويلة من اليونانيين القدماء: منذ البداية، اهتم المفكرون اليونانيون بالعالم الحقيقي وسعوا إلى فهمه وشرحه من خلال الأدوات التي يوفرها العقل. وهكذا، كان يُنظر إلى التفكير الفلسفي دائمًا على أنه نوع من التفكير المفاهيمي، يعتمد على الاستدلال والمنطق؛ النصوص والأدب من نفس النوع. ومع ذلك، هناك أشكال أخرى من التفكير والكتابة، مما يعني إعادة تعريف ما يمكن اعتباره فكرًا فلسفيًا. من منظور أوسع، مثل ذلك الذي يقدمه عمل فنسنت سيتو، فإن إعادة التعريف هذه ممكنة. إذا كان العنوان قد يوحي بتسلسل زمني ممتد إلى حد ما لتاريخ الفلسفة على نطاق كوكبي، فإن العنوان الفرعي يحدد أيضًا الهدف الذي يحدده المؤلف لنفسه: يتم تقديم تاريخ الفلسفة هناك كتاريخ مقارن لدورات الفكر الفكري. الحياة في ثماني حضارات. يمثل هذا الكتاب خاتمة مسار بحثي طموح يطبق فيه سيتو منهجًا تم تنظيره بالفعل في مقالات سابقة (انظر هذه القائمة على موقع الفلسفة)، يهدف من خلاله إلى فهم العنصر العالمي لتاريخ الفلسفة من خلال إظهار ما جلبت الحضارة إلى الطاولة. والنتيجة هي رواية حضارية وفكرية ودورية ومقارنة في آن واحد.

من اليونان إلى اليابان مروراً بالصين

لاختيار الحضارات الثماني المعروضة في العمل، فإن المعايير التي احتفظ بها سيتو هي الاستمرارية والكمية. " لقد أنتجت ثقافات كثيرة الفلسفة، لكن القليل منها هو الذي فعل ذلك بطريقة هائلة لفترة طويلة وبالكتابة، حتى يمكن كتابة تاريخها". كما أن وصول النصوص إلى عصرنا هو شرط ضروري، مما يقلل بشكل كبير من عدد الحضارات التي يمكن توثيق تطور فكرها الفلسفي. وبالتالي لم يبق إلا ثماني مناطق ثقافية هي: اليونان، روما، الإسلام، أوروبا، روسيا، الهند، الصين واليابان، مقدمة بهذا الترتيب غير التسلسلي (الحضارة والفلسفة الصينية والهندية أقدم من الحضارة والفلسفة اليونانية). وتبدو هذه المعايير مقيدة إلى حد ما وتستبعد حضارات قارات نصف الكرة الجنوبي، وخاصة الحضارات الأفريقية وحضارات أمريكا اللاتينية. وهذا ليس خطأ بالضرورة، خاصة وأن سيتو يبرر اختياراته في المقدمة، لكنه يبقى موضوعا للنقاش، لسببين على الأقل: أولا، بحكم أنه في هذه الأجزاء من العالم هناك تقاليد فلسفية منخرطة على المشاكل التاريخية والاجتماعية والجغرافية الإقليمية ذات الأهمية لدرجة أن اليونسكو مهتمة بالتراث الفكري في هذه المناطق الجنوبية من العالم؛ ثانيا، توجد أعمال وأعمال حول تاريخ الفلسفة الإقليمية في الفكر الفلسفي لأمريكا اللاتينية وأفريقيا. وإذا كانت المعايير المستخدمة تبرر اختيارات سيتو من الناحية التاريخية، فإن غياب جزء من الحضارات في تاريخ الفلسفة هذا قد يمثل موضوعا للنقاش.

التاريخ الحضاري والفكر الفلسفي

ولتجاوز نموذج الفكر المنطقي العقلاني للمصفوفة الهيلينية، يقدم سيتو هذا التعريف:" الفكر الفلسفي، “هو فكر يسعى إلى تبرير نفسه بوسائل مختلفة يتم تنفيذها بمثابرة". وبما أن عمل الفلاسفة، باعتبارهم تفردات، هو جزء من حركة أوسع مرتبطة بالثقافة وتعبيراتها الفكرية، فإن الفلسفة ليست معزولة عن الثقافة والحياة الفكرية للحضارة. لأن الفلسفة ليست الطريقة الوحيدة التي يفكر بها الإنسان: فبالنسبة للفلسفة، يعد الدين والعلم أيضًا طريقتين أخريين للتفكير مكونتين للإنسانية. يتجلى الطابع العالمي للفكر الإنساني في ثلاث طرق لطرح سؤال الحقيقة: يسعى الدين إلى الحقيقة من خلال خطابات السلطة المشروعة اجتماعيا؛ تصل الفلسفة إلى الحقيقة من خلال التفكير والنشاط النقدي؛ يقوم العلم بإضفاء الطابع الرسمي على التجارب والتفكير إلى حد صنع النماذج. من الدين إلى العلم، يتوافق كل نهج مع جهد إضافي للابتعاد عن الوجود: من الدين إلى العلم، عبر الفلسفة، يتم فهم الواقع من خلال تجاوز وجهات نظر الأفراد . كما تمر كل حضارة بهذه الأساليب الثلاثة، التي تتوافق مع ثلاث لحظات متتالية في تاريخ الفكر: فترة ما قبل الكلاسيكية، التي تتميز بالتفكير الديني؛ الفترة الكلاسيكية، التي تميز تحرر الفلسفة من الدين؛ فترة ما بعد الكلاسيكية، حيث قام العلم بتهميش أشكال الفكر الأخرى. إن ميزة تجميع التعبيرات المختلفة للفكر الإنساني في ثلاث فئات هي السماح بفهم أفضل لتطوره. وهو ما يبرر الاختيار التأريخي لتمثيل تواريخ الحضارات الثماني من خلال دوراتها الفكرية. وعلى طريقة فيكو في العلم الجديد (لكن قبله كان عبد الرحمان ابن خلدون قد طور فكرة الدورة التاريخية)، يبني سيتو سرداً دورياً للتاريخ الفكري للحضارات المختلفة من خلال إظهار تطور العلاقات بين الدين والفلسفة والعلم.

هل لحظات التفكير الثلاث مماثلة لحالات كونت الثلاث؟

يشير نموذج الدورة المكونة من ثلاث خطوات إلى قانون أوغست كونت للولايات الثلاث. وفي رواية سيتو، "يصف تاريخ الفلسفة دورة ما قبل الكلاسيكية – الكلاسيكية – ما بعد الكلاسيكية، والتي تتكون من إعادة تركيب متتالية لطرق التفكير الثلاث الرئيسية حول الوصول إلى الحقيقة". وكما هو الحال في قوانين الحالات الثلاث، كذلك في هذا التاريخ المقارن للفلسفة، يتميز التعاقب بين المراحل الثلاث بوجود أشكال فكرية دينية وفلسفية وعلمية. ومن ناحية أخرى، إذا كان أساس هاتين الفكرتين واحدا، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي الخاص بتطور الفكر الإنساني، فإن هناك فرقا جوهريا بين الوضعية الكوميتية والنموذج الذي اقترحه سيتو. وفي قانون كونت للدول الثلاث، فإن الحالة الميتافيزيقية التي تتوافق مع العصر الفلسفي لحضارة أو فرد، هي حالة انتقالية بين خيال الحالة اللاهوتية ويقين الحالة العلمية. هذه الحالة الأخيرة فقط هي التي تنتج اليقين، في حين أن الحالتين الأوليين غير منتجتين ويقتصر دورهما على تمهيد الطريق للمراحل المتعاقبة. إن الرؤية الوضعية الكونيتية هي في أساس فكرة التقدم وتنتهي إلى إسناد طابع رجعي للدين والفلسفة فيما يتعلق بالعلم. على العكس من ذلك، يُظهر نموذج سيتو أن الفلسفة لا تتوقف عن الوجود حتى لو لم تكن دائمًا ذات سيادة في البحث عن الحقيقة. من الواضح أننا "لا نتفلسف بنفس الطريقة عندما يهيمن المتدينون على الحياة الفكرية، أو يتولاها الفلاسفة، أو يستقطبها العلماء". ومن ناحية أخرى، فإن العلم لا يمثل اللحظة الأخيرة للحضارة، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يعاني هو نفسه من نفس مصير الدين والفلسفة ويحتل المرتبة الثانية. وفي هذا الصدد، تظهر أمثلة الفكر الصيني والفكر اليوناني أن تطور الفكر يتم على قدم وساق وليس بطريقة خطية: فالفكر الصيني له تاريخ يمتد لآلاف السنين ولا يختفي في أي وقت، ولكنه يتميز بالتاريخ. تعاقب ثلاث دورات من مدة الألفية؛ وعلى العكس من ذلك، يختفي الفكر اليوناني وينشأ الفكر الروماني ثم الأوروبي. أخيرًا، إذا لم يقاوم سيتو، مثل كونت، إغراء بناء تفكيره على أساس ثالوث من النوع الهيجلي، فيجب علينا أن ننسب الفضل إلى عمله لأنه أعطى الكرامة لأي شكل من أشكال الفكر دون أن يكون مقيدا في إطار من أشكال التفكير. المفهوم الوضعي الذي يقدم رؤية للحظات دينية وفلسفية منحازة للعدسات المشوهة لفكرة التقدم.

تاريخ معلوم ولكن مبسط

يستهدف كتاب تاريخ الفلسفة العالمي لسيتو جميع أنواع القراء، بدءًا من المتخصصين الذين يمكنهم وضع معارفهم وأبحاثهم في سياقات أوسع، وحتى الهواة، الذين يمكنهم أيضًا الاستفادة من المراجع الموجودة في نهاية كل فصل لتعميق معرفتك. هذا عمل يمكن أن يقدم مساهمته أيضًا في مسألة أصول الفلسفة، حتى لو لم يكن السرد ترتيبًا زمنيًا، ولكنه يسمح بإلقاء نظرة خاطفة على بعض بقايا المركزية الأوروبية. وعلى وجه الخصوص، في ترتيب العرض الذي يصل من اليونان إلى اليابان عبر الحضارات الرومانية والإسلامية والروسية والأوروبية والهندية والصينية. وبهذا الترتيب، لا تأتي الحضارة الصينية إلا بعد الحضارات الغربية، ربما لأن سيتو أراد أن يبدأ تاريخه العالمي مما هو أقرب إلى القارئ الفرنسي والأوروبي.

خاتمة

هذا عمل كتب وقدم بأمانة، حيث أن مؤلفه يدرك جيدا الحدود التي يمكن أن تميز مثل هذا العمل من حيث الاكتمال والعمق. والنتيجة هي تاريخ مقارن يهدف إلى أن يكون إعلاميا وتثقيفيا، وأن يكون كذلك لا يتخلى عن خطر التمركز العرقي، خاصة عندما يلجأ المؤلف إلى المقارنة بين فيلسوف شرقي وفيلسوف غربي، حتى لو ولد الأخير بعده. عنوان المثال: الفيلسوف الهندي كوتيليا (360 – 275 قبل الميلاد) «قم بتقليد آرثا شاسترا للروح الإيجابية والواقعية السياسية بعد الاعتبار الأخلاقي لقيمته مقارنة بأمير مكيافيل» ؛ تم تقديم الفيلسوف الصيني وانغ تشونغ (27-  100 قبل الميلاد) باعتباره روحًا حرة ومتشككة "تستوعب الأرثوذكسية والتقليدية والخرافات الخاصة بالزمن - والتي يمكن مقارنتها باليوناني لوسيان دي ساموسات". قد يكون هذا تنازلاً للمؤلف، يبرره هدف تقديم مفهوم عقيدة المفكر الذي يظهر في مخططات فكرية أخرى، ولكننا ندعو القارئ إلى عدم البحث عن سعر التشابه والتماثل بين الأفكار التي تبقى متفردة في الزمن وفي الفضاء.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المصد ر

Vincent Citot, Histoire mondiale de la philosophie, Une histoire comparée des cycles de la vie intellectuelle dans huit civilisations, Paris, édition Puf, 2022.

تدحرج الفكر البشري وتدهور؛ عاجزا أمام الهجمة الفكرية للصعودالليبيرالي الجديد بقيادة الآحادية الأمريكية خلال بدية التسعينات، والتي حطمت اركان الدول والأمم وافشلت سياسات الدول في التنمية والتطور؛ متحدية البنيات المألوفة والتآلفات الغارقة التي تكونت منذ العهدالمعاصر؛ سواء في مرحلة الإستعمار أوبعده، لأن المعاصرة اليوم ككل متكامل وفعل فاعل جاري مؤثر في بناء المجتمع المعاصر والحداثي الذي يتوجب علية الإنخراط الأممي والإنساني بحتمية دالة رياضية مصاغة في بداية الطرح.. ولكنه لم يتاهب لتراكمات قديمة جديدة سوف تخلق تشرذمات عالمية متصلة بالتاريخ ثم عودة قراءات جديدة للتاريخ من مخيال النفسيات الجماعية للحضارات، ومسارات الحركية الحضارية العالمية وحراكيات الذات الدخيلة في المجتمعات المتغيرة من طبيعة عميقةمتجذرةفي الكيان المخيالي للفرد والجماعةوالتراتبات الإضافية والهامشية للبشرية ضمن ضرورات الحياة المتواصلة حتما مع التاريخ البيولوجي والنفسي للإننسانية كاملة....

وطبق الدراسات التي وضعت بنية وحركية المجتمعات في العالم المعاصر، فإن جلها ركز على التحليل العلائقي الذي إستطاع ربط التواصل بين المجتمعات والثقافات داخل نطاق الدولة وخارجها وضمن حركية العفويات الأوتوماتيكية –لمسار الحياة-، المتلاحقة أو ضعفها أو محاولة خلق نسق جديد طبق اهداف جديدة كما فعل الاستعمار .لذا كانت المدارس التاريخية والاجتماعية التي ظهرت في المنطقة وجوارها ساهمت في تلك المقاربات ولكنها سقطت كلها في احكام مسبقة وتنظيرات مفبركة من الغرب غالباوالشرق كذلك وخاصة عندما جعلت التابو المحرم، كمقيد لبعض العلاقات ومهندس لبعض المعاملات، وخلقت من التوسع الإمبريالي مسقطا صناعيا أو المرجعية الدينية- من تنظيرات الشرقيين -منيعا لكل مفارقات إجتماعية /. كما حاول البعض اسقاط المحتوى الأنتروبولوجي الافريقي على المجتمعات ذات الثقافة المكتوبة المؤطرة بكل تكامل والمفهرسة لكل موضوع، ولكن تراكم الثقافي كان بالمرصاد رغم بعض المفارقات الذهبية بين الجماعات والجهات . فالتجمع المغاربي قائم منذ القديم، كما رأى ابن الخلدون على العصبية؛ تلك العصبية الإجتماعية التآلفية- المعروفة في المجتمع الإسلامي وبلاد المغارب، وهذا من طبيعة خلق الله ,وضرورات الحياة.

لقد كان الطرح الفكري والفلسفي والتاريخي؛ المقدم من طرف فرانسيس فوكوياما ومعاصره صموئيل هنتنجتون، مطارحات، خلق الإهتزاز العالمي المعاصر؛ وهوالذي سوف يسير التاريخ من الألفية الثالثة وما بعدها إلى نهاية التاريخ الديمقراطي والليبيرالي الصلب الجامد المتكلس ضمن قوة إستقطاب حضاري غربي سوف يسيره الفاعل الأمريكي ...لكن الرياح سوف تغرق السفينة الغربية والأمريكية من أسباب الثورات العربية، التي أخرجت الروس من جحره، وحرب أوكرانيا التي أبرزت الجرح التاريخي للتوسعات الإمبراطورية للغرب والروس في عارضة رقمية واحدة وكذا ضعود الصين ومنافستها الإقتصادية والتكنولوجية للغرب واليابان وغيرهم .......

هذا كذا سوف يكون الإستقطاب القادم بعد فشل العولمة، حيث تكون المطارحات لصاحبها يورغن هابيرماز المؤسسة حتما على التداول العيشي بين البشرية وكذاطرحات إدغار موران؛ المؤسسة على الإنسانية البيولوجية المتجاذبة، هي تأليفات جديدة تبنيها الحضارات، والتراكمات العفوية - لمسار الحياة وديناميكيات التغير المركزي والطرفي حول المفارقات التي يخلقها التداول الحضاري والتناقل التكاملي لمطالب العيش المشترك الذي سوف يفشل كل النظريات ضد البشرية والإنسانية ونهاية الحروب والتصادم، وربما تكون حرب غزة آخر حرب وسبب حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط...

إلا أن الاسف الذي يهزنا في وطننا الإسلامي، هو تجاذب النقد بين العقم الفكري لمدة طويلة بين مطارحات دعاة –حكم الله - وبين الحكم العلماني والحداثي حسب طرحات فلاسفة قرن 20 بينما كانت أوروبا قد أنهت مشوار الحداثة مدة قرن لاغير؟...... وهكذا وجدنا، عندنا مثل زكي محمود وزكريا فراد وبدوي ووحسين مروة والتيزيني وصادق سعد والجابري وحسن حنفي، لكن تبقى تلك المطارحات اليوم مدعاة فخر وإعتزاز بمطروحاتهم ومناولاتهم ومنازالاتهم المتجددة للفكر والمجتمع والإبستيمولوجيا الحديثة ومنهم طه عبد الرحمان وماجد الغرباوي وناصيف نصار وسامي النشار والمسكيني وعبد اللعه الغذامي مطروحا مع الاحياءوالذين يتمركزون حول كل المتنتجات الفكرية الغربية والروسية واليابانية والصينيةنالحديثة والجارية التي تعكس كل التناقضات الفلسفية في العقل التأملي او حول مجريات الحدث الإجتماعي الحضاري المتغير؛ أحيانا حتما واحيانا طبق مبرمجات محلية أوإقليمية للتغير و الإنخراط العالمي للبناء المتجدد الهادفة للتمكين، وحيث يمكن ذلك بسهولة المعاملات الرقمية السريعة في نشر التناظر العلمي والإنخراط العالمي التقني.... الذي زعزع أركان المجتمعات اليوم، وهذا ما سوف يجعل منهم قراء من البراعة ونقاد من الجرأة في مستويات النقد العلمي الإبستمولوجي المتثاقف لمطاروحات غيدنز وماكلوهان وجيل كيبيل وباومان وادغارموران وتشومسكي وبودريار وغيرهم ......

***

عتيق العربي

 

السلوك الأخلاقي هو مجموعة من الأفعال والقرارات التي تتعلق بالقيم والمعايير الأخلاقية، ويشير إلى كيفية تصرف الشخص وتعامله مع الآخرين بناءً على المبادئ الأخلاقية التي يعتقدها ويتبعها. وهو يتطلب احترام حقوق الآخرين ومبادئ المساواة والعدل والصدق بين أفراد المجتمع. ويعتبر السلوك الأخلاقي اساسياً في بناء العلاقات الإنسانية الصحيحة في المجتمعات المزدهرة. ويتطلب السلوك الأخلاقي القدرة على اتخاذ القرارات الصواب بناءً على المعايير الأخلاقية والابتعاد عن الرغبات الشخصية والمصلحة الذاتية عندما تتعارض مع المبادئ الأخلاقية، ويشمل تلك القدرة على الاستماع إلى الضمير والعمل بناءً على ما يعتبره الشخص صحيحاً ومناسباً من الناحية الأخلاقية.

والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (١٦٣٢م-١٦٧٧م) عرف بنظريته الأخلاقية المادية والأخلاق الإنسانية التي تأسس عليها، والسلوك الأخلاقي يتعلق بتحقيق السعادة والرضا الداخلي من خلال فهم الطبيعة الإلهية وانسجامنا معها. ويرى سبينوزا أن الأخلاق الحقيقية تستند إلى معرفة الإنسان بطبيعة الله والعالم وحقائقهم المعرفية، والأخلاق الصحيحة تنشأ من خلال الفهم الدقيق لطبيعة الإنسان والطريقة التي يعمل بها، وفهم ما يعتبره حقا وخاطئاً بناء على الحقائق الطبيعية، والعيش وفقاً لقوانين الطبيعة والالتزام بتوازن وانسجام هذه القوانين. وسبينوزا يرى أن الأخلاق هي جزء من النظام العام الذي يتحكم في كيفية تصرف الأفراد في حياتهم، والأخلاق تنشأ من النظرة الشاملة والواعية للطبيعة الإنسانية. فهو يؤمن بأن الإنسان يمكنه أن يعيش وفقآ للأخلاق من خلال فهم وتحقيق المتطلبات الأساسية للحياة وتفاعله السليم مع العالم الخارجي. ويعتبر سبينوزا أن العاطفة والرغبة الشخصية تلعب دوراً كبيراً في تحديد سلوك الإنسان، وعليه ينبغي على الفرد أن يسعى لتنظيم وتهذيب هذه العواطف والشهوات الخاصة به من خلال العقلانية والتفكير والوعي.

وفكرة كتاب الأخلاق لسبينوزا تركز على فهم الطبيعة الإنسانية وبناء نظرية أخلاقية قائمة على الفضيلة والسعادة الشخصية. في هذا الكتاب يقدم سبينوزا رؤية عالمية تجمع بين الفلسفة واللاهوت والأخلاق، ويؤكد أن الفطرة الإنسانية تدفع الإنسان نحو الاستمرار في الوجود والسعي نحو السعادة. وهو يقدم فكرة الأخلاق من خلال فهم الطبيعة البشرية وتطور المشاعر والعواطف وكيفية توجيهها بشكل صحيح. وتوضح فلسفة الأخلاق لسبينوزا أهمية الشهوة العقلية والحرية الداخلية، حيث تقوم السعادة على معرفة الأسباب التي تجلب السلام الداخلي والرضا الذاتي، أضافه إلى ذلك يؤمن سبينوزا أن الأخلاق الحسنة والفضيلة تنبع من فهم الإنسان للواقع الذي يعيش فيه. كذلك يتضمن كتاب الأخلاق مفهوماً مهماً يعرف بالعالم الأخلاقي الذي يستخدم العقل لفهم السبيل الأفضل للتصرف في الحياة، وهو يشدد على أهمية العقل السليم في تطور الأخلاق.   عند دراسة كتاب الأخلاق نجد تحليلاً فلسفياً عميقاً للمشاعر والعواطف البشرية وكذلك قواعد وإرشادات لتوجه الحياة وأتباع المسار الأخلاقي الصحيح.

وتتمحور فلسفة سبينوزا الأخلاقية حول فهم الحقائق الأخلاقية ورؤية الحياة بطريقه تعزز الفضيلة والسعادة، وهو يعتبر أن الأخلاق هي جزء من الطبيعة البشرية وتتأثر بالعوامل المختلفة، وهو يعتمد على استخدام العقل في توجيه الحياة الأخلاقية.، ويعتبر أن العقل السليم يستطيع أن ينتج أفضل الأفعال والقرارات التي تساهم في السعادة الفردية والجماعية. وتركز فلسفة سبينوزا على الحرية الداخلية وتحقيق الوعي والتحرر من القيود والهواجر السلبية، وهو يرى أن تطور الذات وتحقيق السلام الداخلي يسهمان في التوازن الأخلاقي، والسعادة وتعتبر السعادة من المفاهيم الأساسية في فلسفة سبينوزا الأخلاقية، وهو يروج إلى أهمية تطور الفضيلة وأتباع القيم الأخلاقية السامية كالصدق والعدل، وتشدد فلسفيه على تحقيق السعادة والتوازن الداخلي من خلال التوجه والعقلاني وأتباع قيم الفضيلة والتعاون الاجتماعي. ومن وجهة نظر سبينوزا السعادة والفضيلة والحياة الكريمة أهداف تتطلب وسائل خاصة من أجل تحقيقها ولا يوجد وسائل متفقه مع تلك الأهداف غير العقل. إذ ليس بمقدور الإنسان يستخدم وسائل مختلفة في طبيعتهما عن الأهداف فالسعي نحو اللذة مختلف في طبيعته عن السعي نحو السعادة والفضيلة والحياة الكريمة، اذن العقل هو الأساس في الوصول إلى السلوك الأخلاقي الصحيح، والعقل هو القوة الدافعة والمحركة للسلوك الإنساني ويقولون إن العقل النشط والمعرفة الصحيحة يمكنهما تحقيق السلام الداخلي والتوجه نحو الأفعال الأخلاقية.

وبناء على ما تقدم تعد الفضيلة واحدة من القيم الأخلاقية المهمة من وجهة نظر سبينوزا، فهو يعتقد من خلال السعي وراء هذه القيمة يمكن للإنسان أن يعيش حياة سعيدة ومتوازنة، وأن يصل إلى السعادة الحقيقية، والأخلاق من وجهة نظر سبينوزا هي نوع من التوجه العقلاني والعملي الذي يساعد الإنسان على تهذيب نفسه وتعزيز علاقته بالعالم الخارجي.

***

قائد عباس حمودي

 

أسئلة تُثارعندما يُنظر الى التغيير كسلسلة من التغييرات البسيطة في ذات الشيء وليس كإستبدال للشيء بآخر. ما هو هذا "ذات" الشيء الذي يستمر في البقاء ومع ذلك يبقى مختلفا عما كان عليه؟ ما هي "التغييرات" التي تحدث بدون تغيير هوية هذا الشيء"ذاته"؟

العديد من فلاسفة ما قبل سقراط في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد كانوا يهتمون خصيصا بهذه الأسئلة. هم أرادوا توضيح ما الذي يعطي الكون صفة الدوام امام كل مظاهره المتغيرة، سواء كانت هذه المظاهر منتظمة مثل الفصول الموسمية او لا يمكن التنبؤ بها كما في أول قطرة مطر في منطقة معينة.

هم لديهم الكثير من المشتركات في وجهات نظرهم. كانوا متأكدين ان الكون هو أكثر من مجرد وعاء لأحداث عشوائية لأشياء عابرة . كانوا مقتنعين بان هناك توضيح لكل شيء، يتخطى الى ما وراء الاحداث اليومية. هم متأكدون ايضا ان ذهن الانسان قد يصل الى ذلك التوضيح. 

في نظرياتهم بشأن طبيعة الكون الحي يلعب الانسان دورا غير هام. ايضا لم تظهر كثيرا القوى الخارقة للطبيعة سواء بعبارات مجازية او متعالية في تحليلاتهم للظواهر، ومتى ما أشاروا الى أي من هذه فكان من المسلم به انها جزء لا يتجزا من نظام الأشياء في الكون، لم تتوقف في بداية او نهاية. هم لم يطرحوا تمييزا بين المادي والروحي عند الإشارة للطريقة التي يعمل بها العالم. انه بالنسبة لهم طبيعة نابضة بالحياة ومستديمة. ولكن الشيء المشترك لدى هؤلاء المفكرين هو ان وجهات نظرهم كانت مختلفة فيما يتعلق بالسؤال عن الطبيعة الدائمة لهذا الكون المتحرك.

هذه المقالة (1) هي محاولة لتفسير وجهات نظرهم: لتبيّن الكيفية التي كانت تحصل بها الارتباطات بينهم وكيف حفز كل واحد منهم الآخر، ذلك بسبب انه  رغم كون الفلسفة اثناء هذين القرنين كانت متناثرة عبر شرق المتوسط في المستعمرات اليونانية المطلة على البحر، لكن السفر بالسفن كان سهلا وكان كل واحد منهم على اتصال بالآخر.

ان أقدم المفكرين الذين عُرفوا في هذا العصر قبلوا دون نقاش رؤية المنطق السليم the common sense للكون وهي انه : هناك أشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي بمرور الزمن. لتوضيح هذا هم افترضوا ان الكون مؤلف بالكامل من أشياء اساسية "stuff" تحتوي على طاقة التوليد الخاصة بها. من هذا، هم اعتقدوا بإمكانية انفصال الاشياء التي في طور النمو في العالم ثم عودتها مرة اخرى الى كتلتها في الوقت المناسب. هذا التوليد والرجوع يحدث بتكرار مستمر. لذا فان الخاصية الدائمة في كل الاشياء هي المركب composition الذي هو هذه "الاشياء" المولدة ذاتيا. اما التغيرات التي فيه فهي الحدوث المتكرر للمواد المنفصلة التي تأتي الى الوجود ومن ثم تعود للكل الممتزج لكي يمكن إحداث مزيد من "التغييرات" الاخرى. لكن، هناك حد لمدى تلك "التغيرات". يجب ان لا يكون هناك الكثير منها ولا القليل. يجب ان تكون كافية لضمان الطبيعة الحية للكون ولكن ليست كبيرة جدا لدرجة تفقد فيها التوازن. لكي يكون الكون كما هو لا يمكن ان يكون فارغا من هذا التغيير المؤقت، ولا يمكن ان يكون مركبا فقط من أشياء منفصلة.

وفق هذا الخط  من التفكير،التفت مفكرون آخرون الى هذه الحاجة للتوازن في الكون الحي. هذا التوازن هو الذي يعطي الدائمية ويحافظ على التناغم في النظام كأشياء كلية whole stuff وليس الأشياء المكونة له. التوازن الصحيح للكون جرى حفظه كما يعتقدون عبر كل شيء موجود في "نسبة صحيحة" سواء في ذاتها او في العلاقة بموقعها في كل الكون. حسب رأيهم ان الحجم والمكون الحقيقي لكل الاشياء لايهم طالما بقيت الترتيبات لكل الأجزاء بشكل معين. هذا الشكل من الترتيب ضمن الكون الكلي وضمن أجزائه يجب ان يستمر اذا اُريد إظهار الدائمية. عدد ومركبات "المواد" من كل الاشياء قد تتغير عندما تأتي وتختفي من الحياة اليومية لكن دائما وفق الحاجة  للمحافظة على ترتيبها الصحيح ضمن الكون وكجزء منه. 

لقد برزت انتقادات لوجهات النظر تلك. ذلك لأن الاعتماد على رؤية المنطق السليم لعالم من أشياء منفصلة، فشل في فهم الطريقة الصحيحة للنظر الى الاشياء. العالم الحي هو عالم متطور والافتراضات حول المكونات الدائمة فيه تفشل في تأكيد هذا. لأنه حسب هذه الرؤية، دائمية العالم تكمن في عملية الانكشاف المستمر للتغيير ذاته. هذا يوحّد ما يبدو من أضداد، ويوفّق بين التوليد والاضمحلال، ويكيّف الحركة المستمرة لكل الخلق للحاجة الى عالم متوازن ومتناغم. بدون تغيير متحرك باستمرار ستكون هناك دائما فقط مجموعة من أشياء منفصلة وكسولة.

 هناك رؤية راديكالية اخرى مضادة جرى الايمان بها،مع انها تتفق في إنكار رؤية المنطق السليم للكون في كونه مركب من اشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي . ربط فكرة العالم المتغير بالتجربة يعني ان التجربة تعطينا معلومات زائفة. في هذه الفلسفة، التغيير هو فقط صورة متخيلة تنتجها أحاسيس الانسان المحدودة والجزئية. التجربة تُستخدم فقط  كوسيلة لممارسة الحياة التي نعيشها يوميا. انها ليست مناسبة عندما يستعمل الانسان عقله بشكل صحيح ويدرك ان أحاسيسه يمكن ان تعطيه فقط معلومات معينة في لحظة معينة. لكن مثل هذه المعلومات هي مضللة. انها تجعل العالم متصورا كأنه فيه تأتي الاشياء وتعود الى اللاشيء. لكن "العدم" لا يمكن فهمه. وان أجزاء صغيرة جدا من تجربة الدليل لدى الانسان تُخفي حقيقة ان فهم أي شيء يعتمد على كامل سياق التأثير والمحيط المجاور. الانسان يُخدع عندما يعتقد انه متأكد من هذا السياق. هو يخطئ في الاعتماد على تقييمه المتسرع لما يشكّل الاحداث والاشياء، لأن لحظة التغيير لا يمكن القبض عليها بدقة، حيث ان وقت الميلاد والموت، بداية ونهاية الحدود لا يمكن تحديدها بدون شكوك. كل هذا يشير الى ان ذهن الانسان وليس أحاسيسه يمكن ان يخبره بكل القصة: ان الحقيقة الوحيدة للكون هي تلك الديمومة وراء الخصوصيات والتغيرات الظاهرة فيه . هذه الحقيقة هي كلّ مستمر دون توقف وموجود بشكل دائم. انها لا يمكن التوفيق بينها وبين عالم الحواس العابر الذي ليس له معنى بالنسبة لاولئك الذين يفكرون بشكل صحيح، ويذهبون وراء المباشر.

بعد هذا الإنكار المدمر لأي معنى للحياة اليومية جرت محاولة لإنقاذ الارتباط بين القبول الذهني للكون الدائم وتجربة الوجود المتغير. هنا، الواقع، كل الكون يُنظر اليه ليس كأنه غير مُدرك بعبارات حسية وانما فقط لا يمكن تمييزه. انه مؤلف ليس من كلّ منفرد وموحّد وانما من عدد لا متناهي من هذه الكليات، جسيمات صغيرة توجد بشكل دائم بحركة مستمرة،لا تتجزأ، صغيرة جدا بحيث يصعب فهمها من جانب الانسان. هذه يمكن ان تأتي مجتمعة في فترات منفصلة لتشكل مجموعات اخرى.

ان لحظة الإضافة او الطرح من أي مجموعة تجعل عملية التطور او الاضمحلال غير مُشاهدة، بينما التأثير الكلي يمكن ان يكون ظاهرا للحواس. التغيير يحدث على هذا الطراز وان فكرة الدوام – الجسيمات الأولية – ترتبط  به. في هذه الفلسفة لا وجود لنموذج او قوة متحركة ظاهرة لتحكم كل هذه الفعالية. هناك فقط قبول بأن هذا يمكن ان يحدث.

سقراط، ذو التأثير الكبيرعلى كل الفكر اليوناني، واجه موته بالإعدام سنة 399 قبل الميلاد. في السنوات التي سبقت، سأل العديد من الفلاسفة الذين درسوا مفكري ما قبل سقراط  كيف يمكن لهذه التفسيرات المختلفة والمتناقضة أحيانا ان تُعطى حول الكون. البعض اصبح مشككا – بمعنى يمكن ان لا تكون هناك معرفة تتجاوز حقيقة انهم كانوا متأكدين من لا شيء على وجه الخصوص.

لكن هناك التقاء مع مفكري ما قبل سقراط. هم كانوا جميعا متأكدين بان هناك دوام في الكون. جميعهم أشاروا الى ان تجارب الناس قادتهم لربط التغيير بحركة الاشياء الحية، وبإنكشاف الأحداث. تفسيراتهم تختلف لأنهم بشر يتكلمون من وجهة نظر نسبية حول حقيقة انهم قبلوا التحقق من كل ما موجود وما يمكن ان يكون. انه جزء من ظروف الانسان ان يكون جزءا من هذا المجمل الذي لا يمكن وصفه بعبارات مجردة.

سقراط ذاته، في حوارات افلاطون مع انه أظهر تأثير أسلافه، لكنه طرح رؤية اخرى. هو أكّد ان الانسان، اذا اراد ان يعيش حياة مقنعة، سيحتاج لفهم وظيفته في مشروع الأشياء. وهذا الفهم يأتي من تقييم وظائف كل شيء آخر. من حيث المبدأ، هذا يجب ان يقود لإدراك الهدف في كل شيء ككل وجميع الوظائف المرتبطة مع بعضها. وهنا ستكون الدائمية  هدفا مترابط داخليا. لكن الانسان مقيّد بتجربته وقدراته الذهنية. هو لا يمكنه ابدا ان يكون متأكدا من أية مُثل يجب الكفاح لأجلها، وما هي، اذا كان حكيما، ومطّلعا باستمرار على جهله. مع ذلك هو يحاول تشكيل فرضيات صالحة. الفحص الدائم للأفعال التي ينخرط بها، والإصلاحات المحتملة التي تشكل التغيير – هو الذي يجعل منها عملية عقلية ذات هدف دائم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) some pre-Socratic ideas of change and permanence, philosophy Now,1991   

 

بقلم: ساكاي ناوكي

ترجمة: د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

***

" سوف أتوصل، كما هو متوقع، إلى نتيجة مفادها أن ما بعد الحداثة، وهو آخر من الحداثة، لا يمكن تعريفه في سياق خطابنا "الحديث"، ولا ينبغي أن يكون من العبث تمامًا أن نضع موضع التساؤل ما الذي يشكل الفصل بين الحداثي وما بعد الحداثي - ذلك هو ما يكمن وراء إمكانية حديثنا عن الحديث أصلاً. وبالمثل، من الضروري التعامل مع آخر آخر من الحداثة، أي ما قبل الحداثة، والذي تم تعريف الحداثة أيضًا في كثير من الحالات بالإشارة إليه. هذه السلسلة – ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة – قد توحي بترتيب زمني. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم ينفصل أبدًا عن التكوين الجيوسياسي للعالم. وكما هو معروف جيدًا الآن، فإن هذا المخطط التاريخي للقرن التاسع عشر يوفر منظورًا يمكن من خلاله فهم موقع الأمم والثقافات والتقاليد والأعراق بطريقة منهجية. على الرغم من أن المصطلح الأخير لم يظهر حتى وقت قريب إلى حد ما، إلا أن الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحديث كان أحد الأجهزة التنظيمية الرئيسية للخطاب الأكاديمي. إن ظهور المصطلح الثالث والغامض، ما بعد الحداثي، ربما لا يشهد على انتقال من فترة إلى أخرى بقدر ما يشهد على تحول أو تحول في خطابنا نتيجة لذلك عدم قابلية الجدل المفترضة للمزاوجة التاريخية الجيوسياسية الحديثة. وما بعد الحداثة أصبحت مشكلة متزايدة. وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الطعن في صحة هذا الاقتران. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة أنها تمكنت من النجاة من العديد من التحديات، ومن المبالغة في التفاؤل أن نعتقد أنها أثبتت أخيراً عدم فعاليتها. سواء باعتبارها مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية أو باعتبارها التزام المجتمع بقيم مختارة، لا يمكن أبدا فهم مصطلح "الحداثة" دون الإشارة إلى هذا المزاوجة بين ما قبل الحداثة والحديث. تاريخياً، كانت الحداثة في المقام الأول معارضة لسابقتها التاريخية؛ ومن الناحية الجيوسياسية، فقد تم مقارنته مع غير الحداثة، أو بشكل أكثر تحديدًا، مع غير الغرب. وهكذا كان الاقتران بمثابة مخطط استطرادي يتم بموجبه ترجمة المسند التاريخي إلى مسند جيوسياسي والعكس صحيح. يتم طرح الموضوع من خلال إسناد هذه المسندات، وبفضل وظيفة هذا الجهاز الخطابي، يتم تمييز نوعين من المجالات بشكل مميز؛ الغرب الحديث وغير الغربي ما قبل الحداثي. بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الغرب لم يكن أبدًا في مراحل ما قبل الحداثة أو أن اللاغرب لا يمكن تحديثه أبدًا: فهو ببساطة يمنع إمكانية التعايش المتزامن بين غرب ما قبل الحداثة واللاغرب الحديث. إن الفحص السريع لهذا النوع من الحداثة يشير بوضوح إلى وجود قطبية معينة أو تشوه بين الطرق الممكنة لفهم العالم تاريخيًا وجيوسياسيًا. لا يوجد سبب متأصل يجعل المعارضة الغربية/غير الغربية تحدد المنظور الجغرافي للحداثة، باستثناء حقيقة أنها تخدم بالتأكيد في تأسيس الوحدة المفترضة للغرب، وهي إيجابية غامضة ولكنها مهيمنة، والتي نميل إلى اعتبار وجودها منح لمثل هذا الوقت الطويل. وغني عن القول أن الغرب توسع وتحول بشكل اعتباطي خلال القرنين الماضيين. إنه اسم لموضوع يجمع نفسه في الخطاب ولكنه أيضًا موضوع يتكون بشكل خطابي؛ ومن الواضح أنه اسم يرتبط دائمًا بتلك المناطق والمجتمعات والشعوب التي تبدو متفوقة سياسيًا أو اقتصاديًا على المناطق والمجتمعات والشعوب الأخرى. في الأساس، إنه مثل اسم "اليابان"، الذي يُقال إنه يشير إلى منطقة جغرافية، أو تقليد، أو هوية وطنية، أو ثقافة، أو عرقية، أو سوق، وما إلى ذلك، ولكن على عكس جميع الأسماء الأخرى المرتبطة بالخصائص الجغرافية، كما أنه يعني ضمناً رفض ترسيم حدودها الذاتية؛ إنها تدعي أنها قادرة على الحفاظ على دافع لتجاوز كل التفاصيل، إن لم يكن تجاوزها فعليًا. وهذا يعني أن الغرب لا يكتفي أبدًا بما يعترف به الآخرون؛ يتم حثه دائمًا على الاقتراب من الآخرين من أجل تغيير صورته الذاتية دون توقف؛ فهو يبحث باستمرار عن نفسه في خضم التفاعل مع الآخر؛ لن يكتفي أبدًا بالاعتراف به ولكنه يرغب في الاعتراف بالآخرين؛ إنها تفضل أن تكون موردًا للاعتراف بدلاً من أن تكون متلقيًا له. باختصار، يجب على الغرب أن يمثل لحظة الكونية التي تندرج تحتها التفاصيل. في الواقع، الغرب مميز في حد ذاته، لكنه يشكل أيضًا النقطة المرجعية العالمية التي يعتبر الآخرون أنفسهم بالنسبة إليها مميزين. وفي هذا الصدد، يعتقد الغرب أنه موجود في كل مكان. هذا التفسير للوحدة المفترضة التي تسمى الغرب ليس بالأمر الجديد، ولكن هذه هي بالضبط الطريقة التي لا يزال يورغن هابرماس، على سبيل المثال، يجادل بها حول العقلانية الغربية. إنه "يربط ضمنيًا بين المطالبة بالعالمية وفهمنا الغربي للعالم." من أجل تحديد أهمية هذا الادعاء، يعتمد على الاقتران التاريخي الجيوسياسي لما قبل الحداثة والحديث، وبالتالي تسليط الضوء على المقارنة مع الفهم الأسطوري للحداثة. العالم. ضمن التقاليد الثقافية المقبولة لدينا – أي ضمن التقاليد الثقافية التي أعاد الأنثروبولوجيون بناءها لنا – أساطير المجتمعات القديمة يمثل التناقض الأكثر حدة مع فهم العالم السائد في المجتمعات الحديثة. إن وجهات النظر الأسطورية للعالم بعيدة كل البعد عن تقديم توجهات عقلانية ممكنة للعمل بمفهومنا. وفيما يتعلق بشروط السلوك العقلاني للحياة بهذا المعنى، فإنها تمثل نقيضًا للفهم الحديث للعالم. وهكذا فإن الافتراضات المسبقة غير الموضوعية للفكر الحديث يجب أن تصبح مرئية في مرآة التفكير الأسطوري. إنه يعتبر وجود تطابق مواز بين المتضادات الثنائية: ما قبل الحداثة/الحداثة، اللاغرب/الغرب، الأسطوري/العقلاني أمرا مفروغا منه. علاوة على ذلك، بالنسبة له، فإن وحدة الغرب بحد ذاتها أمر مسلم به؛ إنها حقيقة ملموسة تقريبًا. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه مع الاعتراف بالحاجة إلى اللاغرب كمرآة يصبح الغرب مرئيًا من خلالها، فمن الواضح أن هابرماس لا يتساءل عما إذا كانت المرآة غامضة. وسواء كانت الصورة التي يسهلها علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هي التمثيل الحقيقي لما هو موجود بالفعل أم لا، فهذا ليس موضع خلاف. وما تجدر الإشارة إليه هو أنه يتعامل مع الثقافات والتقاليد غير الغربية كما لو أنها تشكلت بشكل واضح، وكما لو كان من الممكن التعامل معها بشكل شامل كأشياء. وحتى عندما يعالج المشكلة المتعلقة بعدم قابلية القياس للثقافات الأخرى، فإن قضية عدم القابلية للقياس برمتها يتم اختزالها في وضوح مشكلة عدم القابلية للقياس. بالنسبة لهابرماس، لا يعني ذلك أكثر من النسبية الثقافية، وهي مشكلة زائفة في حد ذاتها. يجادل هابرماس بالثقة المعرفية من أجل إعادة تثبيت الثقة المعرفية فينا وجعلنا نثق في العالمية مرة أخرى. وهذا يعني أنه في ضوء التحديد الأكثر إقناعًا وربما الأكثر صرامة المتاح اليوم لمصطلح "المركزية العرقية"، يمكن للمرء أن يقول إنه ببساطة مركزي عرقي. ولكن إذا كان إدخال مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد على الاضطهاد الذي يحيط بهويتنا، وإذا كانت هذه الوحدة المفترضة للغرب، نحن، التي يرغب هابرماس في التحدث معها والتي يرغب هابرماس في التحدث معها، قد تم حلها، فما الذي ستفعله حقيقة أن كتاباته المعرفية؟ لا تهتز الثقة ضمنا؟ إذا كانت إمكانية وجود موقف لفظي معين، أي نحن، نحن الغرب، مهددة في الواقع، فهل سيكون من المبرر القول بأن ثقته المعرفية تشير إلى شك فينا تم قمعه؟

من هذا المنظور، من المفهوم أن الكائن الخطابي المسمى اليابان قد قدم حالة شاذة لا يمكن دمجها بسهولة في التكوين العالمي المنظم وفقًا لمزاوجة الحداثة مع ما قبل الحداثة. لقد كان من المؤسف والمشيد مرارا وتكرارا أن اليابان وحدها من بين الثقافات غير الغربية كانت قادرة على أن تتبنى بسرعة ما تحتاجه من الدول الغربية من أجل تحويل نفسها إلى مجتمع صناعي حديث. ومن ثم، فقد تم استثمار قدر كبير من العمل الفكري من أجل جعل هذا الموضوع الغريب غير ضار في التكوين الخطابي. وفي الولايات المتحدة، عادة ما يتم جمع نتائج هذا العمل تحت اسم «نظرية التحديث». بالإضافة إلى المتطلبات الإستراتيجية العلنية للدولة، كان هناك مطلب ضمني معين، ولكن ليس أقل إلحاحا، خضع له إنتاج الحجة الاجتماعية العلمية والإنسانية. من المحتمل أن يكون كتاب توكوغاوا ديني بقلم روبرت بيلا أحد أفضل هذه المساعي، وقد اشتهر باستجابته المفرطة لهذا الطلب. وعلى خطى ماكس فيبر، الذي رأى أيضًا بوضوح مهمة التأكيد الخطابي على الوحدة المفترضة للغرب ونفذ تلك المهمة بمهارة عالية، أكد بيلاه على وحدة أمريكا باعتبارها الجزء المركزي وربما المسيطر للغرب بدلاً من وحدة ألمانيا. ومن خلال التمييز بين العوامل المقيدة لمجال اللعب الحر وتلك التي تخدم ترشيد الوسائل، يقدم بالله توجهين متناقضين في التنمية الاجتماعية. أحدهما يتجه نحو التكيف مع مقتضيات الموقف وتحقيق الأهداف المحددة، والآخر يتجه نحو تقييد الإجراءات الرامية إلى الحفاظ على الأنظمة القائمة. ومن خلال اللجوء إلى المصطلحات الاجتماعية لتالكوت بارسونز، فهو يحدد الاتجاه الأول من حيث الموقف "العالمي" الذي يؤكد "اللعب الحر" من أجل البحث عن أكثر الوسائل كفاءة لتحقيق أهداف محددة، والتوجه الثاني من حيث موقف "خاص". إن الحرية المقدمة على هذا النحو لا تعني أي شيء سوى حرية تحقيق الانسجام المؤسس مسبقًا للرأسمالية. وكما هو بديهي، فإن أي مسرحيات مجانية قد تتعارض مع الترتيب المحدد مسبقًا يتم استبعادها مسبقًا. ومع إشادتها بغياب القيود والتنظيم، فإن "المسرحيات الحرة" التي تصاحب بالضرورة الموقف "العالمي" لا تحتمل أي حرية سوى مراعاة تلك "القيم الاقتصادية" الموجودة في شكل الماهية الإنسانية الكونية" يمكن العثور على المواقف العالمية في العلوم والقانون وكذلك في الصناعة. إنه فقط لأن قيم الأداء العالمية تحدد البعد التكيفي للنظام الاجتماعي وأن البعد التكيفي منسق مع الاقتصاد، وهو ما يجعلنا مبررين في الحديث عن "القيم الاقتصادية". قد يشعر المرء بسهولة أن منظري التحديث مثلما أنكر بيلا بإصرار إمكانية أن تؤدي المسرحيات الحرة، على عكس توقعاته، إلى تعدد غير متجانس أو تفتيت الوحدة المتخيلة بدلاً من القواسم المشتركة المتجانسة للإنسانية أو الكلية الموحدة للمجتمع.

ومع ذلك، فإن النظرة المتفائلة بشكل محرج لعالمية بالله ليست ساذجة كما قد يتوقع المرء. إن ما حققته نظرية التحديث من خلال إدخال تعارض العالمية والخصوصية في دراسة الثقافات الأخرى هو، أولاً، إعادة إنتاج نفس النوع من التشكيل الخطابي الذي تتشكل فيه وحدة الغرب - ولكن هذه المرة مع المركز بشكل واضح. في الولايات المتحدة الأمريكية. ثانيًا، لقد ولَّدت نوعًا جديدًا من السرد التاريخي الذي يحافظ على إملاءات تاريخية القرن التاسع عشر ولكنه يرفض اعتمادها العلني على فكرة التاريخ الوطني. وهنا يجب أن أسارع إلى الإضافة، أن هذا لا يعني أن الرواية التاريخية الجديدة كانت أقل قومية أو في علاقة عدائية مع القومية. إن عالمية بالله هي، مثل بعض الكونيات الأخرى، قومية بالتأكيد. ومع ذلك، في هذا السرد الجديد، كان لا بد من صياغة القومية بشكل مختلف. ومن المؤكد بشكل قاطع أن التوجه العالمي الأساسي للمجتمع الأمريكي يتجلى في حقيقة أن "القيم الاقتصادية" تعتبر بشكل عام أكثر أهمية من القيم الأخرى في الولايات المتحدة. ولكن من المقبول أيضاً أن تتبنى مجتمعات أخرى مثل هذا الموقف العالمي. وبناء على ذلك، فإن النسبة بين التوجهات العالمية والخاصة في مجتمع ما تحدد التحول العقلاني المحتمل لذلك المجتمع. فمن ناحية، ورث بالله بالتأكيد الإرث الأوروبي لزمن تاريخي يتزامن مع الانتقال، التدريجي أو السريع، من الخصوصية إلى الكونية، ومن العالمية المجردة إلى العالمية الملموسة، ويتزامن في النهاية مع عملية العقلنة المتزايدة، وتحقيق العقل. بحد ذاتها. ومن ناحية أخرى، رأى أن العناصر العالمية مشتتة؛ فبدلاً من التركيز على ديناميكيات الصراع بين الذات والآخر، حاول إظهار أن أي مجتمع قادر على عقلنة نفسه. ولكن من الواضح أيضاً أن هذا المجتمع، عندما يعقلن نفسه، يصبح مشابهاً لأمريكا. أو بعبارة أخرى قليلاً، فإن التقدم يعني دائماً الأمركة. وفي هذا الصدد، عبر منظرو التحديث عن الرؤية التي تم غرسها بنجاح في الوعي الجماهيري في اليابان ما بعد الحرب، والتي مفادها أن التحديث كان مساويًا ضمنيًا للأمركة. وفي حين أنه قبل ذلك، كان التحديث مساويا إلى حد ما للأوربنة، إلا أن نظرية التحديث تعمل الآن في خدمة نقل المركز من أوروبا الغربية إلى أمريكا الشمالية. من الواضح أنه ليس من المهم على الإطلاق أن نتساءل عن رؤية التحديث الأكثر أصالة. ما تشير إليه هذه القراءة هو أنه في حين يمكن تصور عملية التحديث على أنها تحرك نحو تجسيد القيم على مستوى مجرد، إلا أنها دائمًا ما يتم تصورها على أنها انتقال من نقطة إلى أخرى على خريطة العالم. وهكذا، كانت الكونية ومفهوم الحداثة أكثر تشابكًا مع القومية الأمريكية من ذي قبل. وليس من المدهش أن يبدي بيلاه اهتماماً كبيراً بالتكامل الأسطوري للمجتمع الأمريكي. ففي نظره كانت العالمية مظهراً من مظاهر التفرد الأميركي، وجزءاً أساسياً من الأسطورة الأميركية. وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نأخذ هذه الأسطورة حرفيا، باعتبارها الأسطورة التي ترمز حصريا إلى الولايات المتحدة. لأنه، كما سأوضح أدناه، يمكن إنشاء عالمية من هذا النوع حيثما توجد احتياجات أيديولوجية وذلك لإقرار علاقات قوة معينة. ولكن من المهم أن نلاحظ أنه بسبب هذه البنية المزدوجة، تبدو العالمية في كثير من الأحيان خالية من عيوب القومية المعروفة. وبطبيعة الحال، فإن المطالبة بالعالمية تعمل في كثير من الأحيان على تعزيز مطالب القومية. وبسبب البنية المزدوجة، ينشأ تذبذب مستمر بين العالمية والخصوصية؛ ربما تكون بعض النزعة الإقليمية والتطلع نحو العالمية وجهان لعملة واحدة؛ لا تشكل الخصوصية والعالمية تناقضًا، بل يعزز كل منهما الآخر؛ ومن الناحية الرسمية، فإن معارضة الخصوصية والكونية تظل قائمة طالما أن كلمة "العالمية" ترفض التمييز بين العالمية والعمومية. في واقع الأمر، لم تكن الخصوصية أبدًا عدوًا مزعجًا حقًا للعالمية، أو العكس، حيث يتم استيعاب هذين الاثنين ضمن اقتصاد النوع والجنس. وتحديدًا لأن كلاهما منغلقان على المفرد الذي لا يمكن أبدًا أن يتحول إلى ذات أو إلى ما يتجاوز العام بلا حدود، فلا الكونية ولا الخصوصية قادرة على مواجهة اختلافية الآخر. وفي نهاية المطاف، فإن ما نسميه عادة بالعالمية هو خصوصية تعتقد أنها عالمية، ومن المشكوك فيه ما إذا كانت العالمية يمكن أن توجد على الإطلاق بطريقة أخرى. ومع ذلك، يجب استيفاء شروط معينة حتى تصبح هذه الكونية ممكنة. ومع افتراض أن مركز الغرب يمثل التكوين الاجتماعي الأكثر عالمية كثافة، فإنه يجب أن يكون متقدمًا على المجتمعات الأقل عالمية والأكثر خصوصية في زمن العقلنة التاريخي؛ يجب أن تكون الخصوصية الأكثر تقدما، لأن العالمية تعادل القدرة على تغيير وترشيد مؤسساتها الاجتماعية. وتتضمن هذه الصيغة معادلة يمكن من خلالها أن نستنتج، من الدرجة النسبية للعقلانية الاقتصادية، استثمار المجتمع في الكونية. وبعبارة أخرى، ما لم يكن أداء المجتمع جيدًا في مجال مثل الاقتصاد، فلن يكون قادرًا على الادعاء بأنه ملتزم بالكونية. ومن ثم، عندما يُنظر إلى المجتمع على أنه متقدم على المجتمعات الأخرى، فإن هذه الكونية تضفي الشرعية بشكل فعال وقوي على سيطرة هذا المجتمع على الآخرين. ولكن إذا لم يُنظر إلى تفوقها الاقتصادي والسياسي في الترشيد على الآخرين على أنه مؤكد، فإنها تفقد فعاليتها وقدرتها على الإقناع بسرعة. وبسبب التزامها بالكونية، فإن احترام المجتمع لذاته سيتعرض في النهاية للخطر.

مابعد الحداثة

إن مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد بشكل غير مباشر على هذا النوع من التناقض الداخلي الذي أدركته الكونية الحديثة. إن كتاب "كسر المعنى" لديفيد بولاك هو أحد الأمثلة الأكثر توضيحًا التي يمكن من خلالها ملاحظة ما يمكن أن يحدث عندما تواجه الكونية الساذجة مثل هذا الاعتراف. إنه يتفاعل مع التغير الملحوظ في البيئة من خلال تعزيز قواعد الخطاب الموجودة بالفعل والتي بموجبها تم تطبيع العالمية. لكن المهم هنا هو أنه على الرغم من أن تلك القواعد كانت ضمنية ومفترضة ومقبولة بصمت في السابق، إلا أنه يجب الآن ذكرها والإعلان عنها بصوت عالٍ. في هذه النقطة تكمن أهمية عمل بولاك، علاوة على ذلك، يشكل بحثه في الجمالية اليابانية محاولة متعمدة للحفاظ على نوع الإطار المضمن في المعرفة المتراكمة حول غير الغرب، وخاصة في الشرق الأقصى. ما يجعل عمله مثيرًا للاهتمام هو لفتته المتمثلة في احترام وأخذ هذا النوع من النقد النظري على محمل الجد، والذي يُطلق عليه أحيانًا ما بعد البنيوية في الصحافة الأكاديمية، والذي كان أكثر فاعلية في الكشف عن علاقة قوة محددة أوروبية المركز وإنسانية في إنتاج المعرفة. إن إصرار بولاك الشجاع على القضاء على وتحييد الدافع النقدي لـ “ما بعد البنيوية” يتعرض للخيانة في كل نقطة تقريبًا حيث يتم مناشدة سلطة أسماء مثل جاك دريدا ورولاند بارت.

من خلال عرض جدلية يابانية فريدة تسمى واكان، "اليابانية/الصينية"، والتي تم من خلالها تثبيت الهوية الذاتية لليابان، يستخدم بولاك الاستعارة الرئيسية، وهي فرقة قديمة استخدمت بشكل متكرر في الدراسات الغربية للشرق الأقصى منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ، عن "ضفدع من قاع بئره، والذي سيحدد عالمه بشكل شبه حصري من حيث جدرانه."  حتى وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصين بمثابة أسوار اليابان التي تم تحديد وجود اليابان في مقابلها. ويضيف أن الولايات المتحدة تولت هذا الدور مؤخرًا. وكما عرفت اليابان نفسها في السابق على أنها "الآخر" للصين، فإنها تعرف نفسها اليوم على أنها "الآخر" لأميركا. وفي كلتا الحالتين، تعتبر اليابان طفيلية على نفسها من ناحية، وعلاقية من ناحية أخرى. وبغض النظر عن مشكلة ما إذا كان كل شكل ممكن من أشكال الهوية الذاتية طفيليًا وعلائقيًا أم لا، فإنه يشرع في عرض العديد من الحقائق العلمية التي تشهد، دون استثناء، على وجود فجوة مميزة بين اللغتين الصينية واليابانية. ويبدأ بوصف أكثر تفصيلاً للثقافة اليابانية الفريدة "بمقدمة بسيطة وحديثة للغاية مفادها أن الثقافة واللغة تعكسان نفس الهياكل وتتأثران بها. ومع ذلك، واستنادًا إلى هذه الفرضية أو إلى أحد مضامين هذه الفرضية القائلة بأن كلا من الثقافة واللغة يجب أن يكونا قادرين على أن يكونا معزولين مثل الأنظمة الوحدوية حتى تتمكن هذه الوحدات من "التفكير والتعلم من نفس الهياكل"، فإن الفجوة بين الصين واليابان على المستوى أو التمثيل منقوش عليه ومدمج مع الفارق بين الاثنين على المستوى الحقيقي.

في علم اللغة، يجب طرح بعض الوحدة المنهجية للانتظامات كافتراض ضروري لتحليل وتنظيم ما يسمى بالمعلومات التجريبية. إن ما يشكل إمكانية أن يكون علم اللغة مجموعة معرفة منهجية ورسمية هو هذا الافتراض لوحدة اللغة التي لا ينبغي أبدًا الخلط بينها وبين جوهر اللغة أو جوهرها. لكن الوحدة المنهجية للغة لا توجد في مختلف الأنشطة اللغوية حيث أن "العمود الفقري موجود في جسم الحيوان الثديي". [[يمكن للمرء أن يؤكد على ثلاث نقاط - وحدة اللغة تشبه إلى حد كبير "الفكرة" أو التنظيمية الكانطية الإيجابية التي تجعل الدراسة التجريبية للغة ممكنة؛ ولذلك فإن وحدة اللغة لا تعطى أبدًا في "التجربة"؛ وبالتالي، فإن فكرة الجوهر العالمي للغة لن يتم الحصول عليها أبدًا من خلال استخلاص البيانات التجريبية المتراكمة حول العدد المتزايد من لغات معينة. ومن ثم، فمن المضلل القول بأن علم اللغة يكتشف ويحدد وحدة لغة محلية أو وطنية معينة بعد فحص البيانات. على العكس من ذلك، فإن فرض مثل هذه الوحدة اللغوية الخاصة هو الشرط الضروري لإمكانية البحث اللغوي. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا يمكن تمثيلها كمساحة محدودة أو إغلاق. إن استعارة "ضفدع في البئر" ليست بالضرورة غير ذات صلة بالموضوع؛ إنها دقيقة إلى حد ما ومقنعة للغاية في سياقات اليابان المعاصرة حيث يبدو العالم الخارجي مجرد صورة معروضة على الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الوطنية. ومع ذلك، إذا ارتبطت هذه الاستعارة بكليشيهات معرفية نموذجية للأنانية الثقافية، فسيتم تجسيد كل هذه الوحدات، وهذا ما يحدث مع بولاك. وينتج هذا جزئيًا عن عدم قدرته على الحفاظ على الفرق بين فئة التحليل وموضوع التحليل. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذا يبدو نتيجة للافتقار العام إلى النقد النظري للحداثة. على سبيل المثال، يتم استخدام الوحدات الثلاث للغة اليابانية والثقافة اليابانية والأمة اليابانية بشكل متكرر بشكل متبادل تقريبًا. كما لو كان يتبع بإخلاص نماذج التأريخ الياباني  أو الخطاب الأحدث حول التفرد الياباني ، فإن بولاك يعرض الصورة النمطية لليابان المعاصرة في العصور الوسطى والعصور القديمة. من أجل التأكيد على مدى اختلاف اليابانيين عن الصينيين، وإظهار التفاعل الجدلي بين البلدين، كثيرًا ما يلجأ إلى نوع الحجة الدائرية التي يتم من خلالها تحديد الثقافة اليابانية من خلال الإشارة إلى هوية اللغة اليابانية؛ ومن ثم يتم التعرف على اللغة اليابانية من خلال الإشارة إلى الهوية الوطنية للشعب؛ وأخيرًا يتم التعرف على الشعب الياباني من خلال تراثه الثقافي واللغوي. ما لا يراه بولاك هو أنه لا يوجد أساس منطقي تتوافق عليه الفئات الثلاث مع بعضها البعض في مرجعياتها. وكما قلت في مكان آخر، في القرن الثامن عشر ظهرت إلى الوجود وحدات الثقافة واللغة والعرق اليابانية كما يتم تصورها اليوم. وبهذا المعنى، ولد اليابانيون في القرن الثامن عشر. انظر ساكاي، أصوات الماضي. فقط في التاريخ الحديث تم تأسيس الوحدة المفترضة للثقافة اليابانية. وهو لا يدرك أن هذه السلسلة من الحشو هي سمة من سمات التكوين الخطابي المحدد تاريخيا. بالنسبة لبولاك، فإن هذه الوحدات الثلاث هي عالميات عابرة للتاريخ: "كسر المعنى" يؤيد بشكل أكثر تحديدًا الجوهرية الثقافية. إن حجته ترقى إلى مهمة تحديد اليابان باعتبارها دولة خصوصية، يعتمد إحساسها بهويتها دائمًا على الآخر. وبالتالي، فإن تصميم اليابان هذا يعني ضمناً أن اليابان كانت منذ البداية مجتمعاً "طبيعياً"، ولم تشكل نفسها أبداً كأمة "حديثة". ويرى بولاك أنه على الرغم من التباين اللغوي الواضح بين الصين واليابان، فقد تكيف اليابانيون مع الكتابة الصينية، الأمر الذي ولّد قلقاً لا نهاية له بشأن هويتهم.على سبيل المثال، لم يكن ليخطر على بال الصينيين أكثر مما قد يخطر على بالنا نحن أن نجد "مشكلة" في مدى كفاية كتاباتهم الخاصة لتمثيل أفكارهم. ومع ذلك فإن بحثنا يبدأ على وجه التحديد بمشكلة اعتماد النص الصيني في النص الياباني "الأول"، وهي المشكلة التي سوف تصبح نموذجية لكل ما سيأتي بعد ذلك. ويؤكد أن التفرد الياباني يتجلى بشكل أفضل في حقيقة أن اليابان اضطرت إلى استعارة نص أجنبي. من الواضح أن عنوان الكتاب، كسر المعنى، يأتي من هذا الفهم. لكن القارئ سوف يتفاجأ عندما يقرأ ما يلي: “من الواضح أن فكرة “الكسر” في المجال السيميائي للثقافة ليست فريدة من نوعها بالنسبة لليابان؛ ليست السيميائية الحديثة، في نهاية المطاف، موضوعًا مرتبطًا بشكل خاص باليابان. ليجدوا "مشكلة" في مدى كفاية النص الخاص بهم لتمثيل أفكارهم. ففي نهاية المطاف، لا يقتصر المعنى على اليابانيين فحسب، بل يشملنا جميعًا. لكن ألا يؤدي التظاهر بعدم الاعتراف بأن النص غير مناسب للفكر إلى تشكيل إغلاق عرقي؟ ألا يعني الاعتراف بكسر المعنى أنه ليس فقط الكتابة بل الكلام أيضًا خارجي وغير ملائم للفكر، فإن النص دائمًا أجنبي، وبالتالي فهو يخترق الإغلاق المتخيل للوحدة العرقية والثقافية واللغوية؟.

ومن أجل انتقاد الخصوصية اليابانية وربما ما اعتبره بولاك جوهرية ثقافية يابانية، كان عليه أن يبني صورة لليابان لن تتبنى أبدًا الآخرين وتضمهم. وهذا يعني أنه كان عليه أولاً أن يخلق شيئًا يمكنه إلقاء اللوم عليه لاحقًا. لكنه، في هذه العملية، أخطأ في تعريف هذا الشيء الغريب من حيث جوهريته الثقافية. ونتيجة لذلك، تم قبول الجوهرية الثقافية باعتبارها المفردات الأساسية التي تنتمي إلى الموضوع الذي يدرس وليس كخاصية للموضوع المدروس. ويتكرر هذا النوع من الانقلاب في حجة بولاك. يقول بولاك في المقدمة: "أنا مهتم بالتفسيرات اليابانية لما رأوه في الأساس "صينيًا"، وليس تفسيراتنا نحن أو تفسيرات الصينيين أنفسهم". : 3-4. ووفقاً لاستعارة «ضفدع في البئر»، تشكل هذه الحقول الثلاثة، أو الآبار الثلاثة، أفقاً تأويلياً، كما يؤكد بولاك على الطبيعة التأويلية لدراسته. ومع ذلك، فهو يقول في الختام: “أنا معني هنا بعملية جدلية… بحيث تصبح هذه الدراسة أكثر من أي شيء آخر تأويلًا للثقافة اليابانية، دراسة للطرق التي تطور بها التفسير الياباني لأنفسهم وثقافتهم عبر الزمن”. الوقت. هنا يتم اختيار المجال الياباني، ويقول إنه يهتم فقط بجدلية الصينيين واليابانيين من وجهة نظر اليابانيين، لذلك “لم تكن الصين ولا حتى فكرة الصين متورطة بالضرورة في عملها. إنه يتعامل مع الصين فقط بقدر ما يمثلها اليابانيون. ما لا يستطيع فهمه هو الحقيقة، التي بدون الإشارة إليها لن ينجح استعارة الضفدع في البئر، وهي أن الضفدع لا يمكنه أبدًا رؤية بئره على الجدران. بالنسبة للضفدع، لا يمكن رؤية البئر بالكامل. لذلك، لن يعرف أبدًا أنه محصور في مساحة صغيرة؛ فهو لا يدرك أن ما يعتقد أنه الكون بأكمله هو مجرد بئر صغير. ولكي نعرف أن كونه مجرد بئر، لا بد من إسقاط صورة البئر على الجدران. وهكذا بالنسبة للضفدع (باللغة اليابانية)، فإن مجمل البئر (اليابان) غير مرئي بشكل أساسي ويجب التعرف عليه فقط كتمثيل مُسقط على الآبار. فإذا تم التعامل مع الصين باعتبارها مجرد تمثيل، فلابد وأن يتم التعامل مع اليابان بنفس الطريقة تماماً. علاوة على ذلك، إذا لم يكن لدى اليابانيين بعض التمثيل لليابان واحتجازهم أو خضوعهم لها، فلن يتمكنوا حتى من الاعتراف بأنهم يابانيون؛ لن يكونوا قادرين على تعريف أنفسهم باليابان. وكما أن الصين مجرد خيال بالنسبة لليابانيين، فإن اليابان أيضًا خيالية بالنسبة لهم. إذا كان بولاك يرغب في الحديث عن توليف الصين والثقافة اليابانية، فعليه أولاً أن يتحدث عن توليف اليابان في الثقافة اليابانية. وينبغي أن يكون هناك قدر كبير من الجدل بين اليابانيين واليابانيين كما هو الحال بين اليابانيين والصين. إحدى المعاني الضمنية الساخرة لهذه الاستعارة هي أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بثقة أنه متحرر من مصير الضفدع. يعتقد الضفدع أنه لا يوجد عالم آخر ومختلف خارج عالمه الصغير. لذا فإن معرفتها بعالمها الصغير من المفترض أن تكون صالحة عالميًا في كل مكان. ولكن كيف يمكن ضمان ألا يكون عالم الذين يضحكون على الضفدع بئراً آخر؟ فهل تختلف اليابان التي يصفها بولاك عن الصين التي تصورها اليابانيون على جدران بئرهم؟.

بمعنى ما، فإن كسر المعنى يطارده شعور بعدم الأمان. إن ما تم القيام به لقمع هذا الشعور بعدم الأمان هو إنشاء موقف لفظي يتحدث منه المؤلف بمصطلحات كونية - موقف موجود في كل مكان ومتعالي يرى من خلاله الأشياء. ومن الطبيعي أن يتم تسجيل كلمات بولاك تلقائيًا كلغة فوقية. لغته تفترض "نحن" الذي كان يرغب في التحدث معه، و"نحن" الخاص به، الموضوع المتحدث في هذه اللغة ما وراء اللغة، يتزامن مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وهكذا، مرة أخرى، يفترض الغرب عالميته وتواجده في كل مكان وسط خصوصيته. تفترض حجة بولاك أن التعارض بين النظرية (العالمية) وموضوع النظرية (الخاصة) يتوافق مع التعارض بين الغرب وغير الغرب. وهكذا يتم تشكيل موضوع الخطاب المميز من أجل إظهار المثال الملموس المفترض للخصوصية، والذي يتم على النقيض منه التأكد من عالميتنا. يتم تعريف اليابان على أنها خصوصية محددة ووحدوية من الناحية العالمية: يتم توفير تفرد اليابان وهويتها بقدر ما تبرز اليابان ككائن معين في مجال الغرب. فقط عندما يتم دمجها في الكونية الغربية فإنها تكتسب هويتها الخاصة باعتبارها خصوصية. وبعبارة أخرى، فإن اليابان لا تصبح تتمتع "بذاتها" وتدركها إلا عندما يعترف الغرب بها. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن عدداً كبيراً من المفكرين اليابانيين ما زالوا يؤكدون على خصوصية اليابان استناداً إلى افتراض العالمية الغربية على طريقة بولاك. وليس من قبيل الصدفة أن يذكر الخطاب حول التفرد الياباني حالات لا حصر لها من اختلاف اليابان عن الغرب، وبالتالي تعريف هوية اليابان من حيث الانحرافات عن الغرب. إن إصرارها على خصوصية اليابان واختلافها عن الغرب يجسد رغبة ملحة في رؤية الذات من وجهة نظر الآخر. لكن هذا ليس سوى طرح هوية اليابان بمصطلحات غربية، وهو ما يؤدي في المقابل إلى ترسيخ مركزية الغرب باعتباره النقطة المرجعية العالمية. ولهذا السبب، وعلى الرغم من إيماءات انتقاد التفرد الياباني والمركزية العرقية، فإن بولاك في الواقع يحتضن ويؤيد بفارغ الصبر الخصوصية اليابانية والعنصرية الواضحة. وفي واقع الأمر، فإن حجته بأكملها ستنهار دون هذا القبول الصريح للخصوصية. وعلى عكس ما تم الإعلان عنه من قبل الجانبين، فإن العالمية والخصوصية يعززان ويكملان بعضهما البعض؛ إنهم ليسوا في صراع حقيقي أبدًا؛ إنهم بحاجة إلى بعضهم البعض وعليهم أن يسعوا إلى تشكيل علاقة متناظرة ومساندة للطرفين بكل الوسائل لتجنب المواجهة الحوارية التي من شأنها أن تعرض للخطر عوالمهم الأحادية الآمنة والمتناغمة. العالمية والخصوصية يؤيدان عيب بعضهما البعض من أجل إخفاء عيبهما؛ إنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا ببعضهم البعض في تواطؤهم. وفي هذا الصدد، فإن خصوصية مثل القومية لا يمكن أبدًا أن تكون نقدًا جديًا للعالمية، لأنها شريكة فيها.

العلاقة بين الغرب واللاغرب

ومع ذلك، يبدو أن العلاقة بين الغرب وغير الغرب تتبع الصيغة القديمة والمألوفة للسيد/العبد. وخلال ثلاثينيات القرن العشرين، عندما تمت دراسة "عصر ما بعد الحداثة" ، الذي يشبه إلى حد ما عصر ما بعد الحداثة، على نطاق واسع، كانت إحدى القضايا التي أثارها بعض المثقفين اليابانيين هي الغرب والعلاقة مع غير الغرب في حد ذاتها. عند تقديم تشخيص للعصر، أشار الكثيرون، بما في ذلك الفلاسفة الشباب من مدرسة كيوتو مثل كوياما إيواو وكوساكا ماساكي، إلى العلاقة بين الغرب الأوروبي وغير الغربي غير الأوروبي) باعتبارها المؤشر الأكثر أهمية من العوالم. ولاحظوا أن تغيراً جوهرياً قد حدث في العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حتى أواخر القرن التاسع عشر، بدا وكأن التاريخ يتحرك بشكل خطي نحو المزيد من توحيد العالم. تم تنظيم الكرة الأرضية بأكملها وفقًا للإطار الفردي الذي سيسمح في النهاية بمركز واحد فقط. بادئ ذي بدء، بدا التاريخ وكأنه عملية لا تنتهي من التوحيد والمركزية مع وجود أوروبا في المركز. ومن ثم، كان من المفهوم، بل ومن المحتم جزئيًا، أن نتصور التاريخ ببساطة باعتباره عملية أوروبية. في هذا المخطط التاريخي، كان يُنظر إلى العالم بأكمله من الأعلى، ويُنظر إليه على أنه غربي، بمعنى أن بقية العالم كان يُنظر إليه على أنه محكوم عليه بالتغريب. في الأساس، كما هو أفضل تمثيل للتاريخانية الهيغلية، "كان تاريخ العالم هو التاريخ الأوروبي". ومع ذلك، في أواخر القرن التاسع عشر، كما يزعم كوياما، بدأ العالم غير الغربي في التحرك نحو استقلاله وتشكيل عالم خاص به. ونتيجة لهذا التحول، فإن ما كان يُنظر إليه حتى الآن على أنه العالم بأكمله قد تبين أنه مجرد عالم حديث، عالم بين عوالم عديدة. هذه الإمكانية للمعرفة التاريخية والتطبيق العملي، المستمدة من التحول التاريخي الأساسي للعالم، كانت تسمى آنذاك "تاريخ العالم". في تاريخ العالم هذا، كان من المفترض أن التغيرات التاريخية لا يمكن فهمها ببساطة دون الرجوع إلى الفئات المكانية المحددة بالفعل: المناخ، والجغرافيا، والعرق، والأمة، والثقافة، وما إلى ذلك. فقط في الإطار الذي وضعته تلك الفئات كان من الممكن فهم التطورات التاريخية وفهم التغييرات المختلفة التي كان من المقرر دمجها في وحدة أكبر من السرد. ما أشار إليه هذا الاعتراف البسيط الذي لا يمكن إنكاره هو أن التاريخ لم يكن زمانيًا أو كرونولوجيًا فحسب، بل مكانيًا وعلائقيًا أيضًا. إن الشرط لإمكانية تصور التاريخ كسلسلة خطية وتطورية من الأحداث يكمن في علاقته التي لم يتم تحديدها بعد مع التواريخ الأخرى، والزمنيات الأخرى المتعايشة. في حين أن التاريخ الأحادي لم يعرف اعتماده الضمني على التواريخ الأخرى واعتقد أنه مستقل وشامل، فإن تاريخ "العالم" تصور نفسه على أنه العلاقات المكانية للتواريخ. لذلك، في تاريخ العالم، لا يمكن للمرء أن يفكر في التاريخ حصريًا بتلك المصطلحات التي تشير فقط إلى نفس التاريخ: لا يمكن للتاريخ الأحادي أن يتعامل مع العالم كما تم فهمه في تاريخ العالم لأن العالم هو في المقام الأول مجال من عدم التجانس والاختلاف. تعدد. إلى أي مدى كان تاريخ العالم عند كوياما قادرًا على مواجهة عدم التجانس والآخرين، وما إذا كان تاريخ العالم سيكون قادرًا على التعرض لهم في عدم تجانسهم واختلافهم أم لا، سيتم فحصه لاحقًا. لكن يجب أن أشير إلى أن فكرة الاختلاف وعدم التجانس هذه تم تعريفها دائمًا من حيث الاختلافات بين الأمم والثقافات والتاريخ، كما لو لم تكن هناك اختلافات وعدم تجانس بين أمة وثقافة وتاريخ واحد. بالنسبة لكوياما، كان التباين والاختلاف في معظم لحظات الاختلافات الدولية.

إن نسيان المسندات المكانية، الذي يكشف عن نفسه كحقيقة التاريخ الأحادي عند ظهور تاريخ العالم، يأتي من ظروف تاريخية معينة. وما لم يتم تحدي العالم التاريخي والثقافي بشكل جدي ويتأثر بعالم آخر، فلن يصل أبدًا إلى الوعي بأن عالمه الخاص لا يمكن أبدًا مساواة العالم بشكل مباشر بالعالم ككل، وسيستمر في التخيل عن نفسه باعتباره ممثلًا وممثلًا للكلية. . إن تاريخ المركزية الأوروبية هو أحد الحالات الأكثر شيوعًا لهذا: فالعالم غير موجود بالنسبة له. لكن كوياما يضيف أيضًا التاريخ الوطني الياباني إلى القائمة. التاريخ الوطني الياباني هو مثال آخر للتاريخ الأحادي، والذي، على الرغم من حقيقة أن اليابان تعرضت للتحدي والتأثر بالتواريخ والثقافات الأخرى، إلا أنها لم تصل بعد إلى معرفة أن التاريخ يكمن في تلك التفاعلات مع الآخرين، بسبب أهميته. وضع الجزيرة (شيماغوني-تيكي جوكين). ما جلبه كوياما إلى الوعي هو حقيقة أن هوية التاريخ تتشكل من خلال ترابطه مع تواريخ أخرى، أشياء أخرى غير نفسه. على وجه التحديد، لأن التاريخ الأحادي لا يعترف بشروط إمكانية هويته الخاصة، فهو يوسع بسذاجة قيمًا معينة إلى ما لا نهاية ويستمر في الإصرار على الصلاحية العالمية لتلك القيم: فهو يسيء فهم اللحظة التي بموجبها يجب المطالبة بعالميته. ويتم تدشين الإصرار على هويتها في نفس الوقت. وهكذا يتم تحويل لحظة الآخر بشكل متعمد من أجل الحفاظ على مركزيتها المفترضة باعتبارها البادئ لعالمية القيم العالمية والخاصة وقابليتها للقياس. ولا شك أن هذا يعني إبادة الآخر في غيريته. ربما من الأفضل تلخيص المهمة التي يعتقد التاريخ الأحادي أنه يتولى مسؤوليتها في العبارة التالية: "إنهم مثلنا تمامًا". بالطبع، يجب أن نتذكر أن هذه العبارة تختلف بالتأكيد عن عبارة أخرى - "نحن مثلهم تمامًا" - والتي لم يتم فيها ضمان مركزيةنا: أي أن الدونية في قوتنا تم تأسيسها بدلاً من ذلك. التفوق، ولكن هذه تشكل زوجا التكميلي. لقد عمل التاريخ الأحادي في خدمة هيمنة محددة تاريخياً، وهي شكل من الهيمنة لم يكف عن أن يكون مضطرباً في تأثيره حتى اليوم. ومع ذلك، رأى كوياما وحاول اغتنام نقطة تحول في تطور التاريخ الأحادي. وأصر على أن تاريخًا آخر، تاريخ العالم، الذي يعترف بتواريخ أخرى، على وشك الظهور. وهذا الظهور يجب أن يمثل تغييرا جوهريا في العلاقة بين موضوع التاريخ وموضوعاته الأخرى؛ يجب أن يشير إلى أن التاريخ الأحادي الذي حُرم فيه الآخرون من الاعتراف بهم لم يعد ممكنًا. وفي هذا التاريخ الجديد، سيكون تعدد التواريخ والتفاعل فيما بينها هو المبدأ. ومن ثم، يجب دمج المصطلحات المكانية الضرورية في التاريخ الذي يجب تفسيره على أنه توليفة من الزمان والمكان، ويتم تدويله. إن ما يدعو إليه كوياما قد يبدو وكأنه تاريخ تعددي حقيقي وليس تاريخًا خطيًا فرديًا، وإذا صدق المرء كل ما قيل، فإن هذا الانتقال من التاريخ الأحادي إلى تاريخ العالم يجب أن يمثل تغييرًا تاريخيًا جذريًا يؤدي إلى قوة مختلفة. ترتيب يتم من خلاله التعبير عن الخصائص الثقافية والوطنية والتاريخية بشكل كامل. عندها لن يتم التوسط في جميع العوالم الثقافية من خلال ما أسماه كوساكا ماساكي “الكليات الوجودية” ولكن من خلال الكليات “) وإذا كان الأمر كذلك، فإن المرء سيتصور ما بعد العصر الحديث، وهو الجانب الآخر من الفجوة التاريخية التي من شأنها أن تسمح للمرء بتحديد حدود الخطاب الحديث – باختصار، ما بعد الحداثة الحقيقية. في هذا السياق، من الجدير بالذكر أنه بالنسبة لكوياما وكذلك كوساكا، فإن وحدة موضوع التاريخ، التاريخ التعددي، تعادل بشكل لا لبس فيه وحدة الدولة القومية. ومع ذلك فإنهم يؤكدون على أن الدولة القومية لا تتوافق بشكل مباشر مع عرق أو شعب. فالدولة بالنسبة لهم هي وجود لذاتها يتعارض مع الدول الأخرى، وهي في هذا الصدد موجودة في "العالم". وبالتالي، لا يتم تشبيه الدولة بـ "كيانات" أخرى مثل العرق أو الأمة أو العشيرة أو الأسرة على وجه التحديد لأنها يجب أن تتوسط علاقاتها مع الدول الأخرى وبالتالي تكون عاكسة لذاتها - أي ذات. ومن ناحية أخرى، تشير الأمة إلى مجتمع متجذر في الطبيعة، مجتمع يولد فيه الناس ويموتون. والعبودية التي تحافظ على تماسك أعضائها هي عبودية الدم والإنجاب والأرض، وهي طبيعية بمعنى أن الرابطة بين الأم والطفل طبيعية. يُصدر كوياما تحذيرًا هنا: إن الأمة كمجتمع طبيعي لا يمكن أبدًا أن تكون موضوعًا للتاريخ لأنها لا تتوسطها المسلمات. إن المجتمع الطبيعي يشير إليه كوساكا باسم "الطبقة التحتية" ليس موضوعًا في حد ذاته، لأنه لم يتم عقلنته بعد. يجب أن تمثل الدولة المجتمع الطبيعي؛ فقط من خلال الدولة، يتم تعريف المجتمع الطبيعي على أنه الأمة في حد ذاته. وفقط من خلال هذا التمثيل لنفسها تصبح الأمة تاريخية وتولد ثقافتها الخاصة، وعالمًا تاريخيًا خاصًا بها. في هذه المرحلة، تشكل الأمة تاريخًا أو عالمًا تاريخيًا خاصًا بها وتكون الدولة موضوعًا لها.وبينما يرفض كوياما الفلسفة الهيغلية باعتبارها امتدادًا للتاريخ الأحادي، فإنه يتبع البناء الهيغلي بصرامة. بقبوله جميع المقدمات "الحديثة"، يحاول كوياما تغيير وجهة نظرهم التاريخية فقط. ومن خلال تقديم تاريخ العالم التعددي ومن ثم ادعاء تجاوز الحداثة، فهو يؤيد كل ما اكتسبته الدولة اليابانية تقريبًا تحت اسم التحديث. يبدو أن نقد الغرب والحداثة المعبر عنه في إدانته للتاريخ الأحادي يكشف حقيقة أن الخطاب المناهض للحداثة برمته هو في الواقع غطاء لتأييد غير مبدئي لأي شيء حديث عندما يتعامل كوساكا وكوياما مع القضايا المتعلقة بالحداثة. والتي يعتبر انتقاد الغرب فيها أكثر إلحاحًا - وتتعلق هذه القضايا بالمواقف الصينية اليابانية خلال ثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. وفي محادثة مائدة مستديرة عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1941، أشار كوساكا وكوياما وآخرون إلى العلاقة بين التطور التاريخي وأخلاق الأمة. كوياما: موضوع الطاقة الأخلاقية يجب أن يكون في الأمة... الأمة هي مفتاح كل مشكلة. فالطاقة الأخلاقية لا علاقة لها بالأخلاق الفردية أو الشخصية، أو بنقاء الدم. إن الأمة، ثقافيا وسياسيا، هي مركز الطاقة الأخلاقية. كوساكا: هذا صحيح. القوم في حد ذاته لا معنى له. عندما يكتسب القوم الذاتية ، ويتحول بالضرورة إلى قوم قومي. القوم الذين ليس لديهم ذاتية أو تقرير مصير، أي القوم الذين لم يحولوا أنفسهم إلى أمة ، لا حول لهم ولا قوة. على سبيل المثال، لم يتمكن شعب مثل الآينو من الحصول على الاستقلال، وتم استيعابه في نهاية المطاف في قوم آخرين [تم تحويلهم إلى أمة. وأتساءل عما إذا كان اليهود سوف يتبعون نفس المصير. أعتقد أن موضوع تاريخ العالم يجب أن يكون قوميًا بهذا المعنى. يصعب على المرء أن يميز أي فرق بين هذا الفهم للذاتية الحديثة وفهم الديالكتيك الهيغلي. أولا وقبل كل شيء، يجب على الأمة الحديثة أن تكون تجسيدا لإرادة تقرير المصير. وهذا يعني أن موضوع الأمة هو، في أي وقت، تقرير المصير (تحديد الذات على هذا النحو) والذات المحددة (الذات التي تحدد نفسها). وعلى الأمة الحديثة أن تخرج عن نفسها حتى تعي ذاتها وتحقق إرادتها. فهي إذن، بلا استثناء، أمة تمثل نفسها في الدولة؛ إنه تركيب الشعب (غير العقلاني) والدولة (العقلانية). الأمة هي السبب المتجسد في الفردية (القوم)، بحيث لا يمكن للأمة أن تتطابق مع القوم على الفور. لكي يتحول الشعب إلى أمة، يجب أن يخضع الشعب للوساطة السلبية من قبل قوم آخرين؛ أي أنه يجب على القوم الأقوى أن يقهروا ويخضعوا القوم الأضعف من أجل تشكيل الأمة. وتصبح هشاشة خطابهم المناهض للحداثة أكثر وضوحا عندما تتم مناقشة تاريخ العالم التعددي في سياق الوضع التاريخي المعاصر. وفي محاضرة أخرى على مائدة مستديرة بعنوان ""الأخلاق والتاريخ في مجال الرخاء المشترك الكبير في شرق آسيا" والتي عقدت بعد حوالي ثلاثة أشهر من الجلسة السابقة مع نفس المشاركين، ربطوا بشكل مباشر قضية تاريخ الصين. العلاقة اليابانية. الحرب الصينية اليابانية تنطوي على أشياء كثيرة وهي معقدة للغاية. ولكن العامل الأخير الذي يحدد النتيجة لابد أن يكون السؤال "أي الأخلاق هي الأفضل، الأخلاق اليابانية أم الصينية؟" وبطبيعة الحال، فإن المناورات السياسية والثقافية مهمة للغاية. ومع ذلك، ربما يكون موقفنا الأخلاقي تجاه الصينيين أكثر أهمية. يجب أن نفكر في تدابير مثل هذه: يجب أن نرسل العديد من الأشخاص المتميزين أخلاقياً إلى هناك لإظهار طاقتنا الأخلاقية حتى يتم إقناع الناس هناك بإقناع أنفسهم [بتفوقنا الأخلاقي. إن الحرب الصينية اليابانية هي أيضاً حرب أخلاقية. والآن بعد أن دخلنا الحرب الآسيوية الكبرى، أصبحت الحرب الآن أكبر حجمًا بكثير، وهي على وجه التحديد حرب بين الأخلاق الشرقية والأخلاق الغربية. اسمحوا لي أن أطرح الأمر بشكل مختلف، السؤال هو ما هي الأخلاق التي ستلعب دورًا أكثر أهمية في تاريخ العالم في المستقبل. ومن المدهش أنهم ما زالوا قادرين على الحديث ليس فقط عن أخلاق الأمة اليابانية، بل وأيضاً عن تفوقها على الأمة الصينية في تلك المرحلة. عند تخيل الجو الوطني السائد في تلك الفترة التي ألقيت فيها هذه التصريحات، يفضل المرء الامتناع عن التساؤل عما إذا كان كوساكا يمزح أم لا. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر على الأقل أن العلاقة بين الأخلاق اليابانية والصينية موضوعة في نوع من الجدلية. يبدو كوساكا واثقًا من أن تفوق الأخلاق اليابانية سوف يتم إثباته في النهاية كما لو أن التفوق العسكري الياباني قد ضمن الأمر برمته. بالنسبة لكوساكا، تتضمن العملية التاريخية سلسلة من الصراعات الحتمية التي يتم فيها الحكم على أخلاق أمة ما مقابل أخلاق أمة أخرى. ومن ثم فإن الحادث الذي وقع في الصين (الحرب الصينية اليابانية) هو حرب أخلاقية، والحرب على المحيط الهادئ هي أيضًا حرب ستقرر التفوق الأخلاقي للشرق أو الغرب في ضوء الأخلاق النهائية للكلية – ذلك هو، البشرية جمعاء. وبهذا المعنى، فإن التاريخ كما يتصوره هو تاريخ التطور الأخلاقي نحو إرساء الأخلاق للإنسانية، نحو التحرر النهائي للبشرية. على الرغم من الإدانة المتكررة لمصطلح "الإنسانية"، فإن كوساكا غير قادر أبدًا على مقاومة إغراء تبرير الوضع الراهن من خلال النزعة الإنسانية. وبعبارة أخرى، فإن نقده للإنسانية والحداثة هو في الواقع احتفال مقنع بهما. وبصرف النظر عن الغرور المذهل المعبر عنه في هذا المقطع، هناك تكوين نظري يتناقض بوضوح مع مقدمات تاريخ العالم التعددي. إن تصور العلاقة بين الصين واليابان من حيث حرب الأخلاق الصينية واليابانية هو افتراض وجود علاقة جدلية بين الأخلاقين. وهذا يعني أن الأخلاق اليابانية، في الخيال المتفائل، سوف تثبت في نهاية المطاف عالميتها وخصوصيتها للأخلاق الصينية. قال كوياما، "[إن الصينيين لديهم إحساس شخصي بمركزيتهم الصينية ولكن ليس لديهم وعي موضوعي بـ"العالم"....بينما هناك أخلاقية في الصين، هناك طاقة أخلاقية في اليابان.". إن ما نراه هنا هو أبشع جانب من جوانب العالمية، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذا هو في نهاية المطاف حقيقة "تعددية" كوياما. لم يكن انتصار اليابان على الصين مفترضًا ولا جدال فيه فحسب، بل كان التفوق الأخلاقي الياباني مفترضًا أيضًا؛ وكان من المعتقد أن التفوق العسكري المؤقت لليابان (الذي زيفته وسائل الإعلام الوطنية) يضمن الحق في التحدث بطريقة متعالية. إذا استمرت هذه الحركة الجدلية بين الأخلاق العالمية والخاصة كما تم تصورها، فإنها ستقضي في النهاية على التعايش التعددي للعديد من التواريخ والتقاليد التي تم الدفاع عنها بحماس في نقد التاريخ الأحادي. ضمن مخطط زوج العالمية والخصوصية، سيتم تنظيم الموضوعات التعددية تدريجيًا حيث تخضع العديد من الخصوصيات لمركز واحد للعالمية. فكيف يمكن للمرء إذن أن يتجنب التاريخ الأحادي البغيض؟ لأن تاريخ العالم لن يكون مختلفًا عن تاريخ التقدم نحو السيطرة الكاملة لمركز واحد. ورأى كوياما وكوساكا أن من حقهما أن يتهما الصينيين بافتقارهم إلى الحس التاريخي العالمي، وبوقاحتهم، وأخيراً بسبب خصوصيتهم؛ لقد شعروا بأنه يحق لهم القيام بذلك لأنهم اعتقدوا أنهم يتحدثون من موقع العالمية.

يثبت تاريخ العالم التعددي أنه نسخة أخرى من التاريخ الأحادي. لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يتجنب هذا الاستنتاج عندما يتم مساواة موضوعات تاريخ العالم بالأمم. كيف يمكن للمرء أن يطرح نقدًا فعالًا للحداثة عندما يؤكد ويمدح الهوية الوطنية كقاعدة وحيدة للممارسة التاريخية؟ وكان نقد هؤلاء المفكرين للحداثة في أفضل الأحوال مجرد غطاء من معاداة الإمبريالية تم بموجبه تأييد الحداثة اليابانية (بما في ذلك العواقب الحتمية للدافع التوسعي) بشكل علني. ما أزعجهم في التاريخ الرهباني لم يكن حقيقة أن الكثيرين تعرضوا للقمع والحرمان من الشعور باحترام الذات في العالم بسبب ترتيبه الأوروبي. ما كانوا يعارضونه هو حقيقة أنه في هذا الترتيب الأوروبي المركزي للعالم، حدث استبعاد الوحدة المفترضة لليابانيين من المركز. لقد أرادوا تغيير العالم بحيث يحتل اليابانيون موقع المركز والذات التي تحدد الخصوصيات الأخرى بمصطلحاتها العالمية الخاصة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، فإنهم يوافقون على أي شيء غربي بشرط أن يتوافق مع بنية الدولة القومية الحديثة. وبعيداً عن كونهم تصميماً مناهضاً للغرب، فإن ما حفزهم كان الرغبة في متابعة طريق التحديث. وبقدر ما تعتبر المركزية والتجانس جزءًا لا يتجزأ من التحديث، فإن فلسفتهم في تاريخ العالم توضح بشكل متناقض حتمية الحرب من خلال إظهار استحالة التعايش خارج الغرب. وحتى في خصوصيتها، كانت اليابان متورطة بالفعل في الغرب في كل مكان، بحيث لا يمكن النظر إلى اليابان تاريخياً أو جيوسياسياً على أنها خارج الغرب. وهذا يعني أنه من أجل انتقاد الغرب فيما يتعلق باليابان، يتعين على المرء بالضرورة أن يبدأ بانتقاد اليابان. وعلى نحو مماثل، فإن انتقاد اليابان يستلزم بالضرورة النقد الراديكالي للغرب. وبقدر ما يحاول المرء أن يتحدث من موقفنا، الوحدة المفترضة إما للغرب أو اليابان، فلن يتمكن المرء أبدًا من الهروب من هيمنة زوج العالمية والخصوصية: لن يكون المرء فعالًا أبدًا في النقد بغض النظر عن مدى تطرفه. الموقف الذي يمكن للمرء أن يضعه. بعد هزيمة اليابان في عام 1945، كان تاكيوشي يوشيمي واحداً من هؤلاء المثقفين القلائل الذين انخرطوا في الفحص الجاد للأخلاق اليابانية في علاقتها بالصين، واعترفوا علناً بأن الحرب التي خسرتها اليابان للتو كانت حرباً بين الأخلاق الصينية واليابانية. لقد أظهر ببراعة حتمية هزيمة اليابان على أسس اجتماعية واقتصادية وأخلاقية. ومع ذلك، كان تاكيوتشي أيضًا من القلائل الذين رفضوا تجاهل شرعية معينة فيما دفع الكثيرين، بما في ذلك فلاسفة تاريخ العالم، إلى خطاب التعددية، على الرغم من أنه كان خلال الحرب من بين أولئك الذين احتقروا واحتقروا رفض فكرة "مجال الرخاء المشترك الكبير لشرق آسيا" الذي دعا إليه أشخاص مثل فلاسفة تاريخ العالم. لقد حاول بكل الوسائل الحفاظ على الاهتمام الفكري بمشكلة الهيمنة الغربية، والتي لم تختف بالطبع بهزيمة اليابان. وبطريقة مشابهة لتعريف كوياما للتاريخ الأحادي، يلفت تاكيوتشي الانتباه إلى الطبيعة غير الطوعية للحداثة بالنسبة لغير الغرب. وهنا أيضا، يجب أن لا يدل مصطلح "الحداثة" على مفهوم زماني أو زمني فحسب، بل أيضا على مفهوم مكاني، بمعنى أهمية الحداثة بالنسبة للعلاقة المكانية بين غير الغرب والغرب. إن الحداثة بالنسبة للشرق، بحسب تاكيوتشي، هي في المقام الأول خضوعه لسيطرة الغرب السياسية والعسكرية والاقتصادية. لم يولد الشرق الحديث إلا عندما تعرض للغزو والهزيمة والاستغلال من قبل الغرب؛ أي أن الشرق لم يدخل العصر الحديث إلا عندما أصبح هدفًا للغرب. وعلى هذا فإن حقيقة الحداثة بالنسبة لغير الغرب تتلخص في رد فعلها على الغرب: ويصر تاكيوشي على أن رد فعلها يجب أن يكون كذلك على وجه التحديد بسبب الطريقة التي تتشكل بها الحداثة فيما يتصل بالإشكالية المتعلقة بالهوية الذاتية للغرب. الحداثة هي الاعتراف بأوروبا لذاتها، والاعتراف بذات أوروبا الحديثة باعتبارها متميزة عن ذاتها الإقطاعية، وهو الاعتراف الذي لم يكن ممكنا إلا في عملية تاريخية محددة حررت فيها أوروبا نفسها من الإقطاع (وتميز تحريرها بظهور رأس المال الحر في الاقتصاد، أو تأسيس الشخصية الحديثة كفرد مستقل ومتساوي في العلاقات الإنسانية). إن أوروبا ممكنة فقط في هذا التاريخ، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن التاريخ ممكن فقط في أوروبا. لأن التاريخ ليس شكلاً فارغًا من الزمن. إنه يتألف من حالة أبدية يكافح فيها المرء للتغلب على الصعوبات لكي يصبح بذلك على طبيعته. وبدون ذلك تضيع الذات، ويضيع التاريخ. ولا يمكن للغرب (أوروبا) أن يكون الغرب ما لم يسعى باستمرار إلى تحويل نفسه؛ الغرب ليس كذلك بشكل إيجابي، لكنه كذلك بشكل انعكاسي فقط. لها [رأس المال الأوروبي يرغب في توسيع سوقها؛ المبشرون ملتزمون بالتفويض لتوسيع ملكوت السماوات. ومن خلال التوتر المستمر، يسعى الأوروبيون إلى أن يكونوا على طبيعتهم. إن هذا الجهد المتواصل ليكونوا على طبيعتهم يجعل من المستحيل عليهم أن يبقوا على ما هم عليه في أنفسهم. يجب عليهم أن يخاطروا بخسارة أنفسهم لكي يكونوا أنفسهم. إن فكرة التقدم أو التاريخانية ستكون غير مفهومة دون الرجوع إلى هذا البحث المستمر عن الذات، وهي عملية متواصلة من التركيز على الذات.

لقد أدى تحرر الغرب من نفسه حتماً إلى غزوه للشرق. وفي غزوها للشرق، «[واجهت أوروبا التباين، ووضعت نفسها في معارضة له». وفي الوقت نفسه، أدى الغزو الأوروبي إلى ظهور الرأسمالية في الشرق. لا شك أن تأسيس الرأسمالية هناك كان نتيجة لتوسع بقاء الغرب، وكان يُعتقد أنه يشهد على التقدم في تاريخ العالم وانتصار العقل. وبالطبع، ردت المشرق على توسع الغرب وقاومته. ومع ذلك، في هذه المقاومة بالذات، تم دمجها في سيطرة الغرب وخدمت، كلحظة، نحو استكمال تاريخ العالم الأوروبي المركزي والأحادي. في هذا المخطط، كان على الشرق أن يلعب دور الوعي الذاتي الذي فشل في إعادة التأكيد الجدلي المستمر وإعادة النظر في الغرب باعتباره وعيًا ذاتيًا واثقًا من نفسه؛ كما أنه كان بمثابة كائن ضروري في تشكيل الغرب كذات عارفة. وهكذا كان من المتوقع أن يقدم الشرق سلسلة لا نهاية لها من الأشياء الغريبة والمختلفة، والتي من خلالها يتم التأكيد ضمنيًا على ألفة أشياءنا. لقد تشكلت معرفة الأشياء الشرقية على غرار علاقة القوة القائمة بين الغرب وموضوعه الآخر، وكما هو موضح في كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، فقد استمرت في تأكيد وترسيخ تلك العلاقة. ولكن يجب ألا ننسى أن الشرق المعروف بهذه الطريقة لا يمكن تمثيله لنفسه؛ ولا يمكن تمثيله إلا للغرب. فمن ناحية، الغرب محدد، على عكس ما هو غريب عنه؛ فهو يحتاج إلى الآخر من أجل هويته. ومن ناحية أخرى، فإن الغرب موجود في كل مكان وغير مرئي لأنه يفترض أنه شرط لإمكانية الصلاحية العالمية للمعرفة. فقط في الحداثة تكون العالمية ممكنة باعتبارها عالمية غربية في الأساس. لكن تاكيوشي يقول: الشرق يقاوم. ويكرر مصطلح المقاومة . الشرق يقاوم. إنه يزعج هيمنة الغرب. ومن المهم أن نلاحظ أن تحديث الشرق كان مدفوعًا بهذه المقاومة. وهنا يؤكد تاكيوتشي على أنه لو لم يقاوم الشرق لما تم تحديثه أبدًا. وبناء على ذلك، لا ينبغي النظر إلى تحديث الشرق على أنه مجرد تقليد للأشياء الغربية، على الرغم من وجود حالات كانت فيها إرادة المقاومة ضعيفة للغاية، كما هو الحال في تحديث اليابان. وكما يتبين من حقيقة أن الشرق كان عليه أن يقوم بالتحديث ويتبنى أشياء من الغرب لكي يقاومه، فإن تحديث الشرق يشهد على تقدم أو نجاح للغرب، وبالتالي، فهو دائمًا تغريب أو أوروبي. لذا يبدو بالضرورة أن الشرق، حتى في مقاومته، خاضع لنمط التمثيل الذي يهيمن عليه الغرب. ومحاولتها مقاومة الغرب محكوم عليها بالفشل؛ فالشرق لا يستطيع أن يشغل منصب الذات. هل من الممكن إذن تعريف الشرق بأنه ذلك الذي لا يمكن أن يكون ذاتًا أبدًا؟

ولا يعتبر الغرب ولا الشرق مرجعين مباشرين. إن وحدة الغرب تعتمد كليا على الطريقة التي يتم بها التعامل مع المقاومة في تجميع هويتها الذاتية. في هذه المرحلة، يبدو أن تفسير تاكيوتشي لمصطلح المقاومة بدأ يتأرجح بين قراءتين مختلفتين. وفي الوقت نفسه، يشير تاكيوشي إلى أن الشرق لا يتضمن أي قواسم مشتركة داخلية بين الأسماء المندرجة تحته؛ وهي تتراوح من مناطق في الشرق الأوسط إلى تلك الموجودة في الشرق الأقصى. ولا يكاد المرء يجد أي شيء ديني أو لغوي أو ثقافي مشترك بين تلك المناطق المتنوعة. فالشرق ليس وحدة ثقافية أو دينية أو لغوية، ولا عالما موحدا. فمبدأ هويتها يقع خارج نفسها؛ وما يمنحه بعض الشعور الغامض بالهوية هو أن الشرق هو ما يستبعده الغرب ويشكله في خدمة تقدمه التاريخي. فالشرق منذ البداية ظل للغرب. ولو لم يكن الغرب موجودا، لما كان الشرق موجودا أيضا. ووفقا لتاكيوتشي، هذا هو التعريف الأساسي للحداثة. بالنسبة لغير الغرب، تعني الحداثة، قبل كل شيء، حالة الحرمان من ذاتيتها. فهل يتعين على غير الغرب إذن أن يكتسب ذاتيته الخاصة؟ إجابته تحمل نوعاً من الغموض الذي يميز حجته بأكملها. "لأنه لا توجد مقاومة، أي أنه لا توجد رغبة في الحفاظ على الذات (الذات نفسها غير موجودة)." وغياب المقاومة يعني أن اليابان ليست شرقية. ولكن في الوقت نفسه فإن غياب الرغبة في صيانة الذات (اللاذات) يعني أن اليابان ليست أوروبية. وهذا يعني أن اليابان لا شيء. يقول تاكيوتشي "اليابان لا شيء". ولكن هل اليابان دولة غامضة وغير متبلورة حقاً، ومن دون أي ميل نحو التركيز على الذات؟ ولأن اليابان لا ترغب في أن تكون نفسها، أو أن تضع نفسها من جديد، فإنها تفشل في أن تكون نفسها، كما تفشل في أن تكون مثل الغرب. إن إدانته لليابان المعاصرة تجعل الأمر يبدو كما لو أن اليابان لم يكن لديها أي تمثيل لنفسها؛ وكأن لم تكن هناك دولة تفرض الشعور القومي على من يعيشون في المنطقة؛ وكأن من يعيشون في المنطقة لا يتماهون مع الأمة؛ كما لو أن الأمة المسماة اليابان كانت موجودة منذ آلاف السنين كمجتمع طبيعي فقط. اليابان دولة حديثة. وعلى وجه التحديد، في إطار جهودهم للحفاظ على أنفسهم، نظم الناس في الأراضي اليابانية أنفسهم كأمة ومثلوا أنفسهم في حالة تلك الأمة. كيف يمكن لأمة لا تشعر بالهوية أن تشن حرباً استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً، وأسفرت عن قدر هائل من الدمار البشري والاقتصادي؟ ويبدو أن تاكيوتشي وقع في فخ الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحداثة، والذي بموجبه ما دام الغرب حديثاً فإن اليابان لابد أن تكون ما قبل الحداثة أو على الأقل غير حداثة. وبدلا من تحليل اقتران الغرب وغير الغربي الذي يستبعده الغرب، يفترض تاكيوتشي صحة هذا الاقتران في الحديث عن اليابان. ويبدو أن هذا الأمر مستمد من اقتناع تاكيوشي بأن التصدي للعدوان الغربي يستلزم من غير الغرب تشكيل دول. ومن ثم فإن ما هو غير متجانس بالنسبة للغرب يمكن تنظيمه في نوع من المقاومة المتجانسة ضد الغرب، ولكن داخل الأمة يجب أن يسود التجانس. وبدون بناء ما أسماه هيغل "المجال المتجانس العالمي"، ستكون الأمة مستحيلة. لذلك، سواء كنت ترغب في ذلك أم لا، فإن عملية التحديث في تشكيل الأمة بأكملها يجب أن تستلزم تبعية عدم التجانس في الداخل. ألن يعيد إنتاج نفس النوع من العلاقة بين الأمة ككل والعناصر غير المتجانسة فيها كتلك التي بين الغرب واللاغرب؟

وبقدر ما يفقد تاكيوتشي إيمانه بالتحرر العالمي للبشرية، فمن المؤكد أنه من أشد المدافعين عن الحداثة. ولذلك فهو يعتقد أن تاريخ العالم الأحادي هو، بعد كل شيء، حتمية، وبالتالي، فإن التحرر العالمي لن يتحقق عن طريق الغرب بل عن طريق الشرق. ويقول إن الموضوع الحقيقي في التاريخ هو الشرق. وفي هذه الأثناء، علينا أن نتحمل إزالة التباين من أجل بناء الأمة، موضوع التاريخ. من المضلل القول بأن تاكيوتشي مناهض للحداثة؛ فهو يرفض جوانب محدودة فقط من التحديث.في المقابل، يمكن للمرء أن يرصد خيطاً يوحي بقراءة مختلفة لمصطلحه المقاومة. بالنسبة للشرق، من المفترض أن لا تساهم المقاومة أبدًا في تشكيل هويته الذاتية. هنا، يهتم تاكيوتشي بشيء أساسي لمشكلة الحداثة والغرب برمتها.

لا أعرف ما هي المقاومة. لا أستطيع منطقياً أن أتابع معنى المقاومة… أخشى الاعتقاد العقلاني بأن كل شيء يمكن إحضاره إلى الوجود. إنني أخشى من ضغط الإرادة غير العقلانية التي تكمن وراء الاعتقاد العقلاني. وبالنسبة لي يبدو أن هذا هو [جوهر أوروبا. [حتى وقت قريب لاحظت أن هذا الشعور بالخوف يطاردني. عندما أدركت أن العديد من المفكرين والكتاب في اليابان، باستثناء عدد قليل من الشعراء، لم يشعروا بما شعرت به ولم يخافوا من العقلانية، وعندما لاحظت أن ما أنتجوه باسم العقلانية - بما في ذلك المادية - لم يكن كذلك. تبدو وكأنها العقلانية، شعرت بعدم الأمان. ثم صادفت لو شون. لقد رأيت لو شيون يتحمل هذا النوع من الخوف بنفسه... إذا سُئلت "ما هي المقاومة؟"، فإن الإجابة الوحيدة التي أملكها هي "هذا ما تجده في لو شيون".  تأتي المقاومة من خوف عميق الجذور من إرادة تمثيل كل شيء، وهي الإرادة الضرورية للذاتية الحديثة. يجسد لو شيون جهدًا يائسًا لمقاومة الذاتية، ومقاومة الخضوع للذاتية، وأخيرًا مقاومة الخضوع للذات. بالنسبة للو شون، من المستحيل أن يتخذ موقفًا مراقبًا وغير مبالٍ، أي موقف الإنسانية. بالنسبة للأحمق [لو شون نفسه لن يتمكن أبدًا من إنقاذ العبد كما تأمل الإنسانية بسذاجة… العبد عبد على وجه التحديد لأنه يسعى إلى الخلاص. ومن ثم، عندما يستيقظ، سيكون في حالة "لا يوجد طريق يجب اتباعه"، في حالة "أكثر اللحظات إيلامًا في الحياة". سيتعين عليه تجربة حالة الوعي الذاتي بأنه عبد. وعليه أن يتحمل الخوف. بمجرد أن يستسلم ويطلب المساعدة، فإنه سيفقد الوعي الذاتي بوضعه كعبد. بمعنى آخر، حالة "لا طريق يجب اتباعه" هي حالة اليقظة، فإذا كان لا يزال يعتقد أن هناك طريقًا يجب السير عليه، فلا بد أنه يحلم.  ويواصل تاكيوشي يجب على العبد أن يرفض هويته العبودية، لكن في الوقت نفسه، يجب عليه أن يرفض حلم التحرر أيضًا. يجب أن يكون عبدًا لديه أقصى إحساس بوضعه البائس، ويظل في "حالة اليقظة الأكثر إيلامًا في حياته". يجب أن يظل في الحالة التي يرفض فيها الرغبة في أن يكون شخصًا آخر غير ما هو عليه، نظرًا لعدم وجود طريق يمكن اتباعه. هذا هو معنى اليأس الموجود في لو شيون والذي يجعل لو شيون ممكنًا... لا يوجد مكان للإنسانية هنا. والمقاومة قبل كل شيء هي التي تعكر صفو العلاقة التمثيلية المحتملة بين الذات وصورتها. إنه شيء يقاوم تشكيل تلك الهويات التي تخضع الناس لمؤسسات مختلفة. لكن هذا لا يحررهم؛ وهذا لا يؤدي إلى التحرر، لأن الناس غالبا ما يخضعون لأكثر ما يخشونه من خلال كلمات التحرر. ربما ينبغي للمرء أن يتركهم في نومهم بدلاً من "البكاء بصوت عالٍ لإيقاظ عدد قليل من الأشخاص النائمين، مما يجعل هؤلاء القلة التعساء يعانون من عذاب الموت الذي لا رجعة فيه". ولكن إذا كان المرء مصمماً على أن يكون مستيقظاً، فيجب عليه على الأقل أن يقاوم أمله في الذهاب إلى أبعد من ذلك. ويبدو أن ما مكن تاكيوتشي من انتقاد الحداثة يأتي من هذا الشعور بالمقاومة، على الرغم من أن تاكيوتشي يوافق عليه في كثير من الأحيان. وهذا ما يفرقه عن أولئك الذين يتخيلون بسذاجة إمكانية التغلب على الحداثة. وبنفس بادرة التحرر، يقعون جميعا في الفخ الذي نصبته لهم الحداثة. ومع تخلي تاكيوتشي عن الإيديولوجية التحررية، فقد أصبح بوسعه أن ينتقد الحداثة بشكل أكثر فعالية على الرغم من التزامه ببعض القيم الحداثية. إن الشعور بعدم اليقين الذي يثيره مصطلح ما بعد الحداثة قد يشير إلى الانتشار التدريجي لهذه المقاومة. أعتقد أنني أفهم مصطلح "مسرحية" بشكل أفضل عندما أربطه، ربما بشكل غير مبرر، بما رآه تاكيوتشي في لو شيون. في هذه المرحلة فقط يمكن للمرء أن يتحدث عن الأمل، ولكن بتردد، تمامًا كما فعل لو شيون في قصته القصيرة "بيتي القديم". وصول الأمل جعلني أشعر بالخوف فجأة. عندما طلب جون تو المبخرة والشمعدانات، ضحكت عليه بشدة، لاعتقادي أنه لا يزال يعبد الأصنام ولن يخرجها من عقله أبدًا. ومع ذلك، فإن ما أسميه الآن الأمل لم يكن أكثر من مجرد صنم صنعته بنفسي. كان الاختلاف الوحيد هو أن ما كان يرغب فيه كان في متناول اليد، في حين أن ما كنت أرغب فيه لم يكن من السهل تحقيقه.وبينما كنت أغفو، انتشر أمام عيني شريط من شاطئ البحر ذو اللون الأخضر اليشم، وفوق قمر ذهبي مستدير يتدلى من سماء زرقاء عميقة. فكرت: لا يمكن القول بأن الأمل موجود، ولا يمكن القول بعدم وجوده. إنها تمامًا مثل الطرق عبر الأرض. في الواقع لم يكن للأرض أي طرق لتبدأ بها، ولكن عندما يمر العديد من البشر في اتجاه واحد، يتم إنشاء طريق."

***

.................

الرابط

https://www.multitudes.net/Modernity-and-Its-Critique-The

 

"لا يتحوّل الأسياد فجأة إلى عبيد في منعطف طريق، إذا ما التقوا فيه بمن كان أقدر منهم" (نيتشه)

"يمكن للشعب أن يألم لكن الألم هو وقود لقلب النظام القائم طالما كان هذا الأخير يهزئ بـ" إرادة الحياة". (أ. ديسيل)

" إذا انضاف إلى "إرادة الحياة" وإلى الإجماع النقدي حول الوضعية التي توجد فيها هذه الإرادة، وإذا انضاف إلى مبررات الصراع وإلى مشروع النظام الجديد (لأنّ " عالما جديدا ممكن")، الاكتشافُ داخل الصراع ذاته إمكانية إنجاز التحرّر، (...) والتغيير (...) الجزئي أو الجذريّ (وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدّث عن ثورة) للنظام السياسيّ القائم، كانت لنا إذن المحدّدات الثلاث لسلطة الشعب، "فرط - الطاقة". " أنريك ديسيل " عشرون أطروحة للسياسيّ".

***

ما من شكّ بأنّ كلّ مقاومة تفترض وجود قوّة قاهرة تمارس إكراها على موضوع ما، أو بتعبير آخر وجود قوّة مسيطرة وموضوع مسيطر عليه، يقاوم هذه القوة المسيطرة. غير أنّ المقاومة بوصفها مواجهة لقوةّ مسيطرة، ليست ممكنة إلاّ من حيث هي بدورها قوّة قادرة على هذه المواجهة. يعني ذلك أنّ المقاومة علاقة قوّة. ولعلّها بهذا المعنى، كما يقول فوكو " علاقة سلطة" أو بالأحرى صراعا من أجل " السلطة": من أجل "السيادة على الذات" بالنسبة إلى الذات المقاومة، ومن أجل السيطرة على الموضوع بالنسبة إلى المهيمن، موضوع المقاومة. إنّ الذات موضوع السيطرة تملك في ذاتها " قوّة ذاتية" تساعدها على " التمرّد" على الذات المهيمنة، أي على " مقاومتها من أجل استعادة ذاتها "موضع الهيمنة". إنّ هذه القوّة الذاتية التي تدفع بالذات إلى مواجهة الآخر" المهيمن" هي ما يمكن أن نسميه " إرادة المقاومة". لكن، ومثلما يبدو فلا معنى للقول بإرادة المقاومة إلاّ بالإقرار بما يمكن أن نسميّه " إرادة السيطرة" بوصفها نقيضا، هو الميل إلى السيطرة على موضوع وسلبه سيادته على ذاته. يبدو إذن أن المقاومة فعل ديناميكي يستمدّ وجوده من مبدأ ذاتي من قوة ذاتية أشبه فيزيائيا بمبدأ " القصور الذاتي"، هي  "إرادة المقاومة". نحن هنا إزاء تفسير "طاقي" للمقاومة بوصفها " طاقة " أو قوّة "فاعلة" بالمعنى النيتشوي أو دافعة أو " دفاعية" بالمعنى الفرويدي. لكنها كقوة هي " فاعلة "ومنفعلة" في ذات الوقت. أو هي فاعلة بموجب "ارتكاسيتها" بالذات، بموجب كونها موضع فعل أو منفعلة، متقبلة لفعل، ومتأثرة به، على نحو يجعل من أثر هذه القوّة المؤثرة دافعا إلى الرفض والتمرّد و" المقاومة". يساعدنا هيجل بنظريته الجدلية، في ما أسماه " جدلية العبد والسيد"، على تمثل المقاومة بهذا المعنى " الجدلي" كونها فعلا وانفعالا في ذات الوقت. ذلك أن العبد، يقاوم " هيمنة السيد" بموجب ما يقوم في ذاته من " ميل إلى رفض الهيمنة " وبموجب ما يلقاه من" استعباد" وما يخلّفه من أثر، يدفعه إلى المواجهة لقوة السيد والدخول في مسار "صراع" معها من أجل استعادة " ذاته المستلبة". فالعبد في نظر هيجل هو " سلبية " تحمل نقيضها، "إيجابية "،هي عبارة عن "قوة " كامنة تجعله يميل إلى رفض " استعباده" وسلبه ذاته. إنّ العبد يقاوم إذن كما يقول فوكو " داخل نظام استعباده " بالذات. تماما كالجسد المستعبد ّ يقاوم استعباده بما يملك من قوّة جسدانية، بقدرته كما يقول فوكو " على التكيف والتطويع وليونته ومرونته...". بيد أن الفرق بين مقاومة العبد للسيد " وما يمكن اعتباره " مقاومة الجسد" هو في كون العبد  "ذاتا" أو وعيا " لذاته" مقابل السيد " وعيا بذاته ولذاته"، أي ذاتا مستعبدة وذاتا حرة، في علاقة " صراع" يحكمه " تناقض" جدلي يدفع إلى " مسار" استعبادي (من جهة السيد)  مقابل مسار تحرّري (من جهة العبد). يمكننا  إذن أن نفهم،  بناء على وجهة النظر الهيجيلية  هنا بأنّ المقاومة صراع وأنها تقوم على تناقض، وأنها كما تقتضي " حركة " أو مسارا أو ميلا إلى السيطرة أو لنقل " إرادة للسيطرة" أو ما يسمّى " إرادة القوّة" لدى ذات تنزع إلى الهيمنة، فإنها تقتضي أيضا حركة ومسارا أو ميلا إلى " التمرّد ورفض " هذه السيطرة، نسميّه هنا "إرادة المقاومة" لدى ذات تنزع إلى " التحرّر" من " وضع " استعبادها". ومن الثابت أيضا أن لا معنى للحديث عن " إرادة للمقاومة " بل حتى "لإرادة للسيطرة " دون وجود " وعي" للذات المقاومة " بوضع استعبادها " أو مسار الهيمنة عليها من ذات " نقيض " أو آخر يتجه إلى سلبها " حريتها"، إلى نفيها " كذات حرة" (من أجل كما يقول هيجل إثبات " حريته " هو). وبالتأكيد فلا معنى للحديث أيضا عن إرادة المقاومة" إلا بوجود " إرادة سيطرة " لذات واعية "برغبتها في " استعباد " الآخر. تجعلنا " المقاومة ":بهذا المعنى إذن، إزاء جدلية " المقاومة والاستعباد"، جدل " التحرر والاستعباد".

لكن هل بالتسليم بالمقاومة أشبه بقوّة كمينة في الكائن البشري (بل في سائر الكائنات) تفسّر صراعه الجدلي مع " قوى استعباده"، ما يفيد بانّ " فعل المقاومة" ضرورة " وجودية وتاريخية؟ كيف إذن نفهم واقع" الخنوع والتبعية وقبول الهيمنة بل والضعف والجبن" لدى الإنسان المستعبد؟ ما الذي يفسّر وجود ما يمكن أن نسمّيه" قابلية الاستعباد"؟3298 ارادة المقاومة

قد يكون من المفيد هنا، لفهم فعل المقاومة في علاقته بالضعف والقوّة أن نعود إلى تحليلات نيشته في كتابه " من وراء الخير والشرّ "، حيث أجاب عن أسئلة أساسيّة، في هذا الباب، صاغها ميشيل هنري في الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة "بما يلي:" "من هم الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الأقوياء؟" و " من هم الضعفاء، فيم يتمثّل الضعف؟"، ما الذي يخوّل للضعفاء التفوّق على الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الضعفاء؟ و، بشكل متلازم: كيف يقهر الضعفاء الأقوياء، ما الذي يخلق ضعف الأقوياء؟". وسنسمح لميشيل هنري أن يقودنا هنا عبر تحليله لوجهة نظر نيشته حول المسألة المطروحة وذلك بغاية البحث عن أساس نظري، فلسفي لفكرة " إرادة المقاومة" لدى "الضعيف" أو "المستضعف". (1)

يقدم ميشيل هنري أجوبة عن الأسئلة المشار إليها  استنادا إلى "نيشته".   فعن السؤال الأوّل أجاب نيتشه وفق ميشيل هنري بأنّ: " الأقوياء أقوياء من حيث هم كذلك (أي أقوياء)، حيث تكون القوّة ماهية الكائن، وهو ما يسمّيه إرادة الاقتدارvolonté de puissance  أو إرادة القوّة."على أن إرادة الاقتدار ليست سوى ماهية الحياة بوصفها محايثة.أوبما ه هي  قوّة: " إنّ إرادة الاقتدار هي بالفعل قوّة. قوّة، هي بأكملها اقتدار وبأكملها قوّة. فـ"الإرادة" التي ترتبط بهذا الاقتدار ليست في الواقع سوى حركته الذاتية، واكتمال ماهيته الخاصّة بواسطتها وهي سنده."(2)

من هنا فإنّ ما يصنع قوة الأقوياء هو قوتهم الذاتية، إرادة الاقتدار بما هي ماهيتهم أو بالأحرى "قوتهم الفعّالة " أي " الحياة " بما تفيضه فيهم ومنهم من قوّة..يقول ميشيل هنري:"، أي قوّة تصنع قوّة الأقوياء، لقد فهمناها: ليست هذه القوّة المعطاة أو تلك، إلى حدّ ما كبيرة، هذا الاقتدار الذي قد يصنع مصيرا، بل الاقتدار الهائل الذي، برفضه كلّ قوّة وكل قدرة في ذاتها، يخوّل لها أن تنمو بذاتها وبالتالي أن تفيض."وعن السؤال عن ضعف الضعفاء يجيب نيشته على لسان هنري بأنّ ضعف الضعفاء لا ينفي وجود القوّة بل يعني أن " القوة " لديها " ارتكاسية" تتقبل قوّة الأقوياء التي هي قوّة " فعالة". يقول ميشل هنري:" فيم يتمثّل ضعف الضعفاء، هذا هو على العكس، ما يمثّل مشكلا: إذ لو كانت إرادة القوّة (الاقتدار) هي ماهية الكائن، ولو كان كلّ ما يوجد ليس كذلك إلاّ بهذا الاقتدار الذي يفيض بذاته، فلن نرى إذن كيف لشيء ما مثل الضعف عامّة أن يظلّ ممكنا. إنّ تفسيرا خارجيا يعني: كل شيء قوّة بلا شكّ، ولكن توجد كميات من هذه القوّة، حينما توجد إحداها في حضور أخرى أكبر، تكون أضعف منها، وتنبثق عن الاختلاف الكمّي للقوى اختلافها الكيفي، الضعف والقوّة - التي لا تصف إلاّ الأقوى. نعبّر أيضا عن هذا التفريق الكيفي بالقول بأنّ القوّة الأضعف التي تتقبّل فعل القوّة الأقوى  تصبح " ارتكاسية" réactive، طالما كان فعلها محدّدا من هذا الفعل الأقوى الذي لا تكفّ عن تقبّله، بينما تظلّ القوّة الأقوى لوحدها  "فعّالة" active واقعيّا، بدقّة وبصفة شاملة".(3) يعني هذا ضعف الضعفاء قوّة " ارتكاسية"، تتقبّل قوة الأقوى، وأنّ الضعيف " قويّ "بدرجة أقلّ قوّة من القويّ بما هو أقوى منه كميا (في درجة القوة) وكيفيا (قوة فعالة). يعني هذا إذن أنّ الضعف لا "يفهم  انطلاقا من تحديد خارجي بل من إمكانيته الداخلية"، بوصفها قوة أقل قوة وقوة إرتكاسية. أي إن ما يختص به الضعف في النهاية هو " قطيعة محايثة الحياة "أو للحياة كمحايثة. وهو ما يعني أنّ الضعف هو "إرادة هدم الذات لذاتها"،يقول ميشيل هنري: " إنّ إرادة الحياة أن لا نكون ذواتنا، وإرادة هدم الذات للذات هو الضعف ذاته  من حيث أنّ هذه الإرادة تصطدم مبدئيا بقوّة أقوى منها، بأكبر قوّة، بقوّة الحياة. كيف أنّ ضعف إرادة أن لا نكون ذواتنا، في العلاقة  الداخلية للحياة بذاتها يتعارض مع قوّة هذه الذات ويمثّل إذن ماهية الضعف، ماهيةَ " غير المرحّب بهم" و"غير الموفّقين"، وهو ما يقوله هذا النصّ:" كيف نتجنّب هذه النظرة المكبوتة للإنسان غير الموفّق منذ البداية، والتي تخون الطريقة التي يكلّم بها مثل هذا الإنسان نفسه- هذه النظرة بكونها تحسّرا:" هل يمكنني أن أكون إنسانا آخر، أتحسّر على هذه النظرة، لكن لا يوجد أمل! أنا من أنا: "كيف يمكنني التخلّص من نفسي؟ مع أني قد ضقت ذرعا بنفسي!  "تلك هي ماهية الضعف". إنّ الضعف هنا أشبه بسوء الفهم  وضعف اليأس عند كريكجارد. إنه "يأس" الإنسان من ذاته وفشل مشروع تدميره لذاته، إرادة هدمه لذاته، بدل قبولها بما هي " إرادة قوةّ "، أي قبول " الحياة "  والإقبال عليها كمحايثة. يقترن هذا الضعف بخجل من الذات واحتقارها. يقول نيتشه:" :" ينمو على أرض احتقار الذات هذه، كمستنقع حقيقي، كل عشب طفيليّ، وكل نبتة سامّة..." (4).

لكن إذا كان الضعف مرّده إمكانية داخلية فهل بعني ذلك استحالة انتصار الضعيف على القويّ؟ كيف يمكن للضعيف أن يتجاوز ضعفه؟

يسلّم نيتشه بإمكانية غلبة الضعفاء على الأقوياء. ويجيب عن سؤال كيف للضعفاء أن يتغلبوا على قوة الأقوياء؟ بأنّه". إذا أمكن للضعف  التغلّب على أكبر قوّة، فذاك لأنّه يحملها في ذاته وهذا طالما أنه موجود وأن يكون مثلَ  أكبر إشارة للضعف،  يشترك مع نفسه في الاقتدار الهائل للحياة: لم تكفّ إرادة تخليص الذات من الحياة، للحظة عن الانتماء إلى الحياة ولا عن  تحمل في ذاتها ماهيتها." وهذا يعني أنّ للضعف قوة كمينة فيه: قوّة التخلص من الحياة وكرهها وعدم الالتزام بتحمّل ذاتها، أي إرادة الاقتدار فيها، خلافا للقويّ. لكن الضعيف يقدر على التغلّب على القويّ لا " بإرادة السيطرة" لأنه يفتقدها، بل " قيميا ّ" بخلق قيم أو مثل عليا تحوّل ضعفه إلى قوّة. يقترح نيشته مثال " القس الزاهد " " الضعيف" ولكنه" الأقوى من الأقوياء". قدّم ميشيل هنري تحليلا مميزا في كتابه "فينومينولوجيا الحياة " لمثال " القس الزاهد" كما قدّمه نيشته، فيقول: " يمسك القس الزاهد في نفسه بالواحدة والأخرى (بالضعف والقوة)، مانحا رؤية ارتباطهما الداخلي. فالقس الزاهد ضعيف، وذلك لأنّه إنسان الوعي البائس، أي إنسان الحياة وقد انقلبت على نفسها. يتميّز عن ضعفاء آخرين  من حيث أنّ (القسّ) هو المُعْتَنِي بمرضهم garde- malade، وبما يملكونه أيضا، ذلك أنّه من المهمّ، لتجنّب عدوى هذا المرض الخطير للحياة، أن يكون الذين هم في صلة بالمرضى، خاصّة مقدمي الرعاية، هم أيضا مرضى. بيد آن القسّ الزاهد قويّ، وأقوى ربّما من الأقوياء: لكن يجب عليه أيضا أن يكون قويّا، سيد نفسه أكثر من الآخرين، سليما فيما يخصّ إرادة القوّة (الاقتدار) لديه. " (5) ذلك أن هذه المَهَّمَة  مدمّرة، وعليه في الآن نفسه، الدفاع عن القطيع ضدّ الأقوياء وضد نفسه. ضدّ الأقوياء، باختراع عبقري لمثل أعلى زهدي يشرّع العداوة، بقلب القيم، وبصنعه أشكالا مختلفة من الضعف، يضمن الخير ومختلف أشكال القوّة، والشرّ، ويضمن بعملية قلب القيم، تملّك وهيمنة الضعفاء على الأقوياء. ضدّ القطيع نفسه: بعد الدفاع عن الضعفاء ضد الأقوياء بتنظيم العداوة، يجب منع أن لا يحطّم انفلات هذا العداوة  بدوره القطيع، ولأجل هذا، توجيه هذا العداوة، وقيادتها والتخفيف منها، وهو ما يفعله هذا السّاحر الكبير: يسمّم و يضمّد الجرح في آن واحد. (6)

إنّ " مثال القس الزاهد" لدى نيشته يسمح لنا  الإقرار مبدئيا بأنّ الضعف يحمل في ذاته " قوّة" وانه بإمكانه التحوّل إلى منتصر حينما يستمدّ الكائن من ضعفه أسباب قوّته  ليكافح من أجل البقاء، وذلك على أساس التمسك " بمثل أعلى زهدي"، مبدأ يتعلق ّ بإرادة البقاء، بالحياة التي تدافع عن وجودها. يقول ميشيل هنري:  "يجد المثل الأعلى الزهدي منبعه في غريزة الدفاع وخلاصَ حياةٍ في طريق الانحلال، حياة تبحث عن البقاء بكلّ الوسائل وتكافح من أجل وجودها؛ إنّه (مثل أعلى) يشير إلى كبح وإرهاق فيزيولوجي جزئي، لا تكفّ قبالته، غرائز الحياة الأكثر عمقا والتي ظلت على حالها عن محاربته باختراع وسائل جديدة".(7). مذاك، ينكشف هذا المثل الأعلى الزهدي نقيضا لما نتخذه أولا: ليست حياة مواجهة للحياة، ضدّ نفسها، بل الجهد المثير للشفقة لهذه الحياة المتلاشية من أجل البقاء:" يشكّل هذا القس الزاهد، هذا العدوّ الظاهر للحياة...، هو بالتحديد، جزءا من قوى كبيرة جدّا  محافظة وتثبيتيّة للحياة"(8). ثمّ أيضا:" فيه وبه تصارع الحياة الموت." ما هو هذا الموت الذي تصارعه الحياة بشغف، يقال هذا أيضا: ليس الموت تحديدا، بل السّقم المميت، المرض الميتافيزيقي للحياة:" إنّ صراع الإنسان مع الموت (وبشكل أدق: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق، مع الرغبة في " النهاية. كيف إذن للقوّة الأكبر  أن تنتشر في صلب الحياة وهي بصدد الانحلال لتنقذها،هذا ما فهمناه: من حيث أنّ هذه الحياة تأتي إلى ذاتها في عظم اقتدار محايثتها."(9)

إنّ قيمة التصوّر النيشتوي انطلاقا من تحليل ميشيل هنري لعلاقة "الضعف بالقوّة" قد تقوم في القول بتلازمها أي بكونهما ليسا نقيضين منفصلين لكائنين متقابلين، بل على أنه  تكمن في الضعف قوّة كما في القوة ضعفا. وهذا يعني إمكان " التحوّل" والتغيير أو " الصيرورة" ضمن مسار " الحياة" أو التاريخ. مما يعني أن ضعف الضعيف ليس قدَرًا أو حتمية وبالمثل  تكون قوة القوي، أو بالأحرى أن الحرية، حرية الأقوى ليست نهائية كما أن " استعباد" الضعيف ليس كذلك. بإمكان الضعيف أن يتجاوز ضعفه لو تعلّق " بالحياة" وقاوم " السقم المميت" كما يقول نيشته " المرض الميتافيزيقي للحياة "، مقاومة الحياة، أو بالأحرى " الصراع مع الموت: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق ومع الرغبة في النهاية " أو اليأس، أي شحذ " الإرادة" أو بناءها. ولعلّ " مثال القسّ الزاهد" لدى نيشته من حيث انه يعبّر عن هذه الإمكانية، هو  مثال "مميز" يسمح بتأسيس نظري لفكرة " إرادة المقاومة". من حيث أن هذا القسّ الزاهد" هو في الآن نفسه ضعيف وقويّ بل أقوى من القويّ.هو ضعيف باعتباره  يكبح الحياة وغرائزها وهو قويّ لأنه بتعلقه بمثل أعلى زهدي يستمدّ منه قوة " مقاومة القويّ " ليصبح بذلك قويّا. يقدر على رعاية نفسه ورعاية الضعفاء وجعلهم " أقوياء". إن مثال " القس الزاهد" لدى نيتشه  يكشف لنا ارتباط المقاومة للضعف وللقوّة بمثل أعلى أي بمبدأ أو قيمة تقوم عليه وتنبني ما أسميناه هنا " إرادة المقاومة".وهو ما يعني أوّلا أنّ " إرادة المقاومة" ليست معطى بل هي تبنى إن صح التعبير أو تتكوّن نتيجة لوضع " وجودي" (علاقة قوّة بين ضعفاء وأقوياء) وربما أيضا للارتقاء برهان " التجاوز والتحرّر من " الانفعال إلى " المواجهة". إنّ إرادة المقاومة هي إرادة التحرر من ربقة " الاستعباد". وهي بهذا مبدأ لمسار تغيير لوضعية للذات من وضع إلى آخر، من  "وضع الاستعباد" إلى " وضع التحرّر". من هنا يمكن أن نقول أنّ " إرادة المقاومة" هي قوّة الإرادة وليست " إرادة القوّة "بالمعنى النيتشوي.مبدأ " إيتيقي" يقوم مقابل حالة أو وضع للذات يمكن أن نسميه" قابلية الاستعباد" ؛ وذلك تعبيرا عن  أنّ " إرادة المقاومة" تقتضي " إيتيقيا" تجاوز ما في الذات من " قابلية للاستعباد" أي " الاستعداد الكمين في الذات الذي يجعلها تميل إلى قبول الاستعباد.(قبول حالة الضعف) ونعني بذلك انقيادها إلى الخنوع والاستسلام نتيجة لميل طبيعيّ إلى " الكسل والجبن".  يطابق ما أسميناه " قابلية الاستعباد" ما أسماه كانط في فلسفته التنويرية "بحالة القصور" الشبيهة بحالة " الأنعام في الزريبة" وتتطابق " إرادة المقاومة " بحالة  الرشد" التي تكون فيها الذات قادرة على مقاومة الجبن والكسل والجهل والتبعية للآخرين، بـ"استعمالها الذاتي أو الخاص للعقل " أي بتفكيرها الخاص دون وصاية من الآخرين.  بيد أنّ " حالة الرشد"عند كانط إذ توافق " حالة تنوير"، أو بالأحرى " حالة تحرّر" ليست ممكنة إلا بشرط جوهريّ " مبدأ الإرادة" بوصفه مبدأ عقليا وأساسا لحرية الفعل.فالإرادة " خيرة، طيبة " وهي مبدأ لفعل الخير في مجال الأخلاق. وتوافق في دلالتها " القصد" أو "النية" الخيرة التي تشرط الفعل الخيّر. ومن نافلة القول هنا التذكير بأنّ كانط عقلانيّ النزعة يسلم بالإنسان كائن وعي وكائن إرادة. وهو ما يعني أنّ إرادة الفعل، أو بالأحرى " إرادة المقاومة"، بوصفها إرادة " تحرّر"تقترن بالوعي ضرورة. فلا يمكن لذات لا تعي بوضع " استعبادها " أن تطلب التحرّر منه أو تجهد في مقاومته.

ولكن إذا أمكن هنا  التأسيس نظريا (فلسفيا) لفكرة "إرادة المقاومة"، فما هي حدودها على صعيد الممارسة؟ ما هي تجليات " إرادة المقاومة "على صعيد التاريخ؟  ما الذي يولّد "إرادة المقاومة" لدى الأفراد والشعوب؟3299 ارادة المقاومةنتبيّن ممّا سبق أنّ " إرادة المقاومة" بوصفها نزوعا نحو التحرّر، تقابل مبدئيا " إرادة القوّة"، في معنى " إرادة السيطرة" أو النزوع إلى السيطرة. غير أنها تقتضي " قوة الإرادة" ولم لا " إرادة القوة " لا بوصفها نزوعا إلى السيطرة بل رغبة في التحرّر منها. يقوم الاختلاف بين " إرادة القوة " و" إرادة المقاومة" على أساس القصدية أو التوجّه أو الغائية: "إرادة القوة " تطلب الاستعباد والسيطرة والهيمنة والتسلط بينما تطلب "إرادة المقاومة" التحرّر والسلم والتواصل... يفترض هذا أنّ الإرادة لا تعني جبنا " بل " فعالية" ودينامنيكية. وبالفعل، فإنّ الإرادة هي في الأصل " قوّة محرّكة للإنسان" وإذا كان ثمة من اختار الضعف أو " العبودية" فلا يعود ذلك إلاّ لرفضه حسب نيتشه " الحياة" بما هي " إرادة القوّة" أو بالأحرى رفض" المقاومة". وهو ما يعني أنّ الأصل في الحياة أنها قوّة، ومحايثة، وأن الضعف والاستكانة رفض " الذات" " الاحتجاج"، تماما كالحملان (في صورة مجازية لنيتشه) التي ترضى أن يحطّ عليها الجوارح  لتضمن سلامتها رغم أنّها قد تلتهمها. لهذا فإنّ "إرادة المقاومة" رفض للضعف ورغبة في المواجهة. وهي بهذا المعنى تكشف عن " رؤية للعالم": تعلق الذات بعالم الحرية والعدالة ورفض الظلم والاستعباد.، في مواجهة لرؤية نقيض للعالم. إنّ "إرادة المقاومة" إذن ليست معطى بل تبنى وتتكوّن. إنّ " الإرادة" فنّ" كما يقول آلان نصقلها وندرّبها ونبنيها لدى " الطفل المتعلّم" كما لدى الراشد بل لدى الشعوب.

يقول جان بيار ديشود Jean-Pierre Deschodt :" لو تناولنا " الاقتدار puissance " بدلالته المعاصرة، فيمكن لنا أن نفهمه بما هو " البحث في كلّ شيء عن فائض قوّة هدفه التوسّع. وهذا المعنى ذي أصول " شوبنهاورية". فـ"إرادة القوّة" أو بالأحرى "إرادة الاقتدار " تعني إرادة "متعطّشة " إلى القوّة. ولذا فمقابل "هذا التعطّش " تطلب "المقاومة " وبالتالي " إرادة المقاومة" قوّة  لاحتواء أفضل لهذه الحركة التي تهدّد استقلاليتها. فليس لها من خيار سوى تنظيم دفاع فكري، واقتصادي وسياسي، على قدر حيويّتها وقوتها الذاتية" (10).  بهذا المعنى، فإنّ " إرادة القوة أو " إرادة الاقتدار" غير " إرادة المقاومة "، بل هما متقابلين، تقابلا يقوم على أساس أنّ "إرادة المقاومة " تفترض " قوّة الإرادة" لا " إرادة القوّة". وهذا التناقض مبدئيّ تقوم على أساسه " الحرب والسلم بين الشعوب". استخدم كارل شميث  زوجا مفهوميا موازيا للزوج " إرادة القوّة " و " إرادة المقاومة"، وهو الزوج " الصديق /العدوّ" الذي تفسّر فعاليته التوتّر بين الشعوب والذي يولّد النزاعات التي تساهم في التقسيم الترابي. وقد أعاد بيار حسّان وبيار زاركا p. Zarka  النظر في مفهوم الصديق/ العدو باستنباط زوج مفهوميّ آخر:"نحن والآخرون" (بيار حسان) والزوج " حرية استعباد" (بيار زاركا). وهو ما يعني أنّ "إرادة المقاومة" مواجهة "لإرادة القوّة"، أو بالأحرى مواجهة لما يفترض أنه " عدوّ" وهي، أي إرادة المقاومة في المقابل تطلب " الصداقة" أو هي " تطلب الحريّة" في مواجهة من يريد " استعبادها " بالقوّة. وهذا هو المعنى الذي قام عليه تصوّر " المقاومة" بوصفها " حقّا" من حقوق الإنسان في معنى " التشريع لمواجهة الأفراد لاستغلال النفوذ".(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789). غير أنّ هذا الحقّ في المقاومة  يستعمل في سياقات خاصّة، في حال احتلال خارجي للأرض، في حال الاستعمار مثلا. وقد ارتبط هذا الحقّ تاريخيا بما سمّي " بحركات التحرّر" من ربقة الاستعمار، ولا يزال قائما كحقّ بالنسبة إلى " الشعوب التي وقع احتلال أراضيها، أي التي اعتدت عليها قوة خارجية شان ما كان وما يزال لفلسطين المحتلّة. يتعلّق الأمر في هذا الباب " بمقاومة جماعية" وبالتالي بإرادة جماعية للمقاومة. وهو شكل مقاومة مشروعة على صعيد "الحق" وإن كانت تعدّ لدى " المحتلّ" وداعميه ضربا من" الإرهاب".وبالفعل، فإنّ مفهوم "المقاومة " بات اليوم ملتبسا، التباسا ناتج عن، دلالته الأصلية كما أسلفنا، بل عن اقترانه بالتوترات والنزاعات بين الشعوب والجماعات، وعن توظيف سياسي وإيديولوجي لمفهوم "الحق" والعنف...وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفاهيم " حقّ المقاومة" و" إرادة المقاومة" تحيلنا مبدئيا إلى سجلّ " أخلاقي" وتستند إلى " مشروعية أخلاقية". ذلك أنّها تستند إلى إيتيقا خاصة، وتستمدّ مشروعيتها من أساس قيمي كوني:  التسليم بأفق إيتيقي كوني هو " الإنساني". منه نستمدّ حقّ الفرد والجماعة في " المقاومة"، مقاومة كل ما يسلبها إنسانيتها. إنّ المقاومة بهذا المعنى هي حركة أو عمل فردي وجماعي يسعى إلى استرداد ألإنسانية المسلوبة، إلى التحرّر ورفض الاستعباد. ذلك أن المقاومة هي رفض وتمرّد بل " وثورة" تستند إلى مبدإ إرادوي وتنشأ عن طواعية، بفعل تجميع القوى والدخول بالتالي في "فعل المقاومة". تستند كل مقاومة بوصفها مسارا " ثوريا" بمعنى " رفضا " إلى " أساس قيمي "، وتتعلّق كما قال نيتشه في شأن " مثال القس الزاهد" (المقاوم ضعفه وضعف الآخرين وبالتالي قوّة " الأسياد") إلى "مثل أعلى". يقول بول ريكور في صدد الثورة وعلاقتها بالقيم:

" ماذا يعني أن نثور؟ هو أن نقول لا، بالتأكيد: لا، لن أتسامح، لم أعد أحتمل أكثر. لكن العبد الذي يثور على السيّد لا ينفيه فحسب، بل يثبت أيضا أنّ له الحقّ؛ تماما كما يقول ذلك "كامي"، دون إدراك كل الاستتباعات الميتافيزيقية:" يوجد في كلّ ثورة، وفي ذات الوقت مع النفور من الدخيل، التحام الإنسان الكامل و الحيني بجزء ما من نفسه" ويضيف:" لا تؤدّي كل قيمة إلى الثورة، ولكن كل تحرّك ثوري يستدعي ضمنيا قيمة". الالتحام والتمسّك، كلمات إيجابية بامتياز. ألا نقول بأنّ موضوع الالتحام، هو بالتحديد ما لا يوجد، بما أن هذا الجزء من الذات الذي يرفعه العبد تجاه السيّد ليس له بالمرّة مكانا في هذا العالم؟ هذا الجزء لا مكان له ضمن المعطى، في الكائن - هكذا، لكن الالتحام الذي يحرّض على الثورة هو شهادة لـ"أنا موجود" من وراء الكائن المعطى، " أنا موجود" مساوٍ بالضبط لـ " أنا أستحقّ" je vaux". يتجّه الالتحام صوب الوجود - القيمة l'existence -valeur، نحو الكرامة، التي ليست افتقارا إلى العالم فحسب، بل جهدا من أجل الوجود؛ فالرغبة في أن " يوجد الآخر" مختزلة ببساطة في " هذا للفعل" ؛ إذن " فـ "مشروع الفعل"le à faire الذي للقيمة والـ" لْيَكُنْ" qu'il soit الذي لوجود الآخرين هما تماما في تبادل.

يبدو لي عندئذ بأنّه لا يمكن لنا أن نأخذ القيمة بما هي مجرّد نقصان، إذا ما كانت الموقف الفاعل لوجود الآخرين بوصفه في تبادل مع موقفي. بالقيمة أتجاوز ذاتي كآخرين. أقبل أن يوجدوا، بغية أن أوجد أنا أيضا، بأن أوجد لا فحسب بوصفي إرادة - حياة vouloir -vivre، بل بوصفي وجودا - قيمة existence - valeur. لن أقول إذن بأنّ القيمة هي نقصان، نقصان للقيمة، افتقار للقيمة. إنّما الأشياء هي التي لا قيمة لها وليست القيم هي التي وجودها ناقص." 11)

المقاومة "ثورة" إذن. وما من مقاومة إذن دون إرادة مقاومة. وما من مقاومة دون " إلتزام" في معنى " اضطلاع بمسؤولية " التحرّر" والدخول في مواجهة صاحب " إرادة السيطرة" أو " القوّة". غير أن المقاومة تاريخيا كحركة أو بالأحرى كمسار تحرّري لا تنشأ إلاّ بعد تحقّق " الوعي " بالحاجة إلى " المقاومة"، وعيا لا ينشأ دفعة واحدة وبشكل فجائي، بل يقتضي مسار تكوّن يرتقي في الانفعال والشعور بالضيم والألم إلى مستوى " الرهان" كما يقول بول ريكور، فيكوّن لدى الفرد أو الجماعة " الحاجة إلى " المواجهة. حينما يبلغ الوضع، وما ينتج عنه من ألم حدّ " لا يطاق" أو حتى " تكتمل الوضعية"،فتصبح " المقاومة قرارا" كما يقول سارتر في "الوجود والعدم":

" يحدث للإنسان، طالما كان في خضمّ الوضعية التاريخية، أن لا يدرك عيوب ونقائص تنظيم سياسي أو اقتصاديّ معيّن، لا لكونه كما نقول بغباء قد " اعتاد الأمر"، بل لأنّه يفهم الوضعية مكتمَلة، وأنه لا يقدر حتى على تخيل إمكان أن تكون على خلاف ما هي عليه. ذلك أنه لابدّ هنا من قلب الرأي السائد والاتفاق على أنّ ديمومة وضعية أو ما تفرضه من معاناة، هو الدافع لتصوّرنا وضعا آخر تجري فيه الأمور على نحو أفضل بالنسبة إلى الجميع؛ بل على العكس، إنّه بدءا من اليوم الذي نقدر فيه على تصوّر وضعا آخر، يقع نور جديد على معاناتنا وعلى آلامنا ونتخذ القرار بكونها غير محتملة. إن عامل 1830 بإمكانه الثورة لو خفضنا الأجور، إذ يتصوّر ييسر وضعية يكون فيها مستوى معيشته البائس أقلّ تدهورا من المستوى الذي يراد فرضه عليه. غير انه لا يتمثّل معاناته بوصفها غير محتملة، لو تكيّف معها، لا خضوعا، بل لأنّه تنقصه الثقافة والوعي الضروريين اللذان يجعلانه يتصوّر وضعية اجتماعية ستختفي فيها معاناته ". (12)

يعني هذا أنّه في غياب الوعي بالحاجة إلى المقاومة لن توجد مقاومة ولا " إرادة للمقاومة". ولا ينشأ هذا الوعي إلاّ حينما تضحى وضعية العيش غير محتملة ولابد من تغييرها إلى وضعية أفضل. وفي هذا الباب، فإنّ وضعية الاحتلال والاستعمار...وضعية محفّزة على " المقاومة" وشرطا لنشأة " وعي" بضرورتها وتولّد "إرادة للمقاومة" لدى الجماعة التي تخضع للاحتلال. ذلك أن وضعية الاحتلال بوصفها " وضعية غير محتملة" (لكونها وضعية لا إنسانية..) تولّد نزاعا بين قوى أو علاقة قوّة بين "إرادة مسيطرة " (إٍرادة قوّة) وبين " إرادة مقاومة" (إرادة تحرّر، قوّة إرادة). لذا غالبا ما يجابه الاحتلال "بقرار المقاومة" الجماعي من أجل التحرّر أو" الاستقلالية " أي استعادة السيادة على " الأرض" والوطن. ويقدّم الاحتلال الصهيوني  صورة واضحة لا لبس فيها على "إرادة السيطرة" على " الأرض" وإرادة استعباد شعب وهو ما يولّد لدى " الفلسطينيين" إرادة مقاومة، تتمثّل في تجميع القوى للدخول في مواجهة للاحتلال الصهيوني الغاصب. وهو ما يفسّر بوضوح أيضا تنامي " القمع" لهذه المقاومة بكلّ الأشكال الوحشية ممّا يجعل المواجهة أو النزاع  على أشدّه بين " إرادة" تقاوم وتصرّ على "المقاومة " وبين إرادة مسيطرة تصرّ على الهيمنة، وعلى إنكار حقّ المقاومة بالنسبة لهذا " الشعب المقاوم". من هنا يسعى المهيمن أو بالأحرى الغاصب للحقّ إلى " سلب إرادة المقاومة" لا بمزيد القمع وحتى الإبادة فحسب بل بطمس ثقافة وتراث وتاريخ أو ذاكرة المقاوِم بل والجهد في تدمير " النواة الإيتيقية" التي تقوم عليها إرادة المقاومة" لديه والتي يستمدّ منها المقاوم" طاقته أو قوّته" في المقاومة. ونعني هنا قيمه ومثله العليا ورصيده الروحي وتاريخه الخ... يجهد المحتلّ غالبا في خلق " حالة نسيان " جماعي بطمس الذاكرة القومية حتى يفقد الشعب المحتلّ أرضه " بوصلته" أي محدّدات وجوده وهويته وخصوصيته وأصالته. حينها تموت لديه إرادة المقاومة ويستسلم للاستعباد. وتتولدّ لديه ما يمكن أن نسميّه قابلية " الاستعباد". يقول ميلان كونديرا:"  للقضاء على شعب، نبدأ بسلب ذاكرته. ونحطّم كتبه وثقافته وتاريخه. ثمّ يعمد آخرون إلى تأليف كتب أخرى، ويمنحونهم ثقافة أخرى ويبتكرون لهم تاريخا آخر. ثمّ يبدأ الشعب في نسيان بطيء لما كان عليه. وينساه كل العالم حوله بأكثر سرعة." (13).

إنّ المقاومة بهذا المعنى تعني تمسك بالوجود والاضطلاع بمسؤولية تحقيق معنى لهذا الوجود. و"إرادة المقاومة" هي إرادة الشعب في امتلاك حريته بوصفه بشرا كامل الإنسانية وجديرا بالحقّ. وأيّ كانت أشكال المقاومة (سلمية ومسلحة الخ...) وأي كانت دوافعها  (ذاتية أو موضوعية...)، فإنها تظلّ تأصيلا للوجود وإثباتا للذات في أفق قيمي: منزلة الإنسان الحرّ. إنّ إرادة المقاومة هي إذن التوسّل بالقوّة لا من أجل السيطرة على الآخرين بل من " التحرّر" وامتلاك السيادة على الذات. إنّ إرادة المقاومة هي " قوّة الإرادة" التي تأبى الاستعباد بكلّ أشكاله.

***

عبد الوهاب البراهمي

......................

هوامش:

1- ميشيل هنري -الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة ""نحن الشرفاء، الخيرون، الجملاء، السعداء ": انظر نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الأولى:" الخيرون والأشرار"،، الحسن والسيء"، 10، ترجمة هيلدانبرنت و ج. قراتيان  في الأعمال الكاملة، باريس  قاليمار  7، 1971 ص.234

2- نفس المصدر

3 - نفس المصدر

4 - نفس المصدر

5 - نفس المصدر

6 - نفس المصدر

7 - نفس المصدر

8 - نفس المصدر

9 - نفس المصدر

10-

11- بول ريكور " الحقيقة والتاريخ" ص 396 دار سيراس للنشر1995

12- جون بول سارتر " الوجود والعدم".(1943) الفصل 4 ص 489 " والوجود والفعل:الحرية " قاليمار

13- ميلان كونديرا " مقابلة مع كونديرا 1980- نشر " موقع حكمة " 2020

يُعتبر الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أول المؤيدين لأبدية الكون، النظرية التي سلكت طريقها الى الثيولوجيا المسيحية، رغم ان الإنجيل نقل قصة مختلفة. كما في العديد من الافكار اليونانية القديمة، الايمان بعدم وجود بداية للكون اصبح موضوعا شائعا في الفكر الغربي. حتى بعد ان هيمنت المسيحية على الغرب في القرن الرابع الميلادي، استمرت العقيدة بان الكون كان أبديا. السؤال هو كيف وفّق الناس في الغرب بين هذه الفكرة و فكرة " البداية" في سفر التكوين1:1؟

الجواب على هذا السؤال غير واضح تماما. العديد من مفسري الإنجيل أعلنوا ان الله خلق كل شيء في زمن محدد في الماضي (وعادة فقط قبل آلاف السنين). لكن من بين العلماء، الذين كان العديد منهم مؤمنين بالانجيل او انهم تأثروا به، تحولت الرؤية السائدة الى رؤية فيها الكون كان ابديا ولكن دون ان تشمل الارض.

حاليا، العقيدة المهيمنة هي ان الكون فجأة ظهر قبل 13.8 مليار سنة بعد الانفجار العظيم. التحول من الايمان بان الكون كان أبديا الى كون له عمر محدد كان نقلة نوعية. هيرقليطس كان الفيلسوف اليوناني المسؤول الاول عن أصل فكرة الكون الأبدي. هو أعلن عن ذلك صراحة في عباراته التالية:

"هذا العالم، الذي هو ذاته دائما، لم يصنعه أحد من الآلهة او الناس. انه دائما كان، وهو كائن وسوف يكون: نارا حية أبدية، منها ما يشتعل، ومنها ما ينطفيء".

قيل ان أناكسيماندر الذي عاش قبل هيرقليطس بقرن ايضا اعتقد بان الكون أبدي. بالتأكيد لا تُعرف الأسباب التي جعلت اليونانيين القدماء يؤمنون بأبدية الكون. هيرقليطس لم يذكر ذلك، والذين جاؤوا بعده قبلوا بأبدية الكون دون سؤال. يُحتمل هناك سببان لهذا: الاول، ان قدرة آلهة الاغريق القدماء كانت محدودة جدا، هم ليسوا أكثر من رجال خارقين. كانوا غير قادرين على إصدار أوامر الخلق. ثانيا، اليونانيون القدماء ومن خلال دراستهم للكيفية التي يعمل بها العالم من حولهم، لم يستطيعوا رؤية أية إمكانية بان العالم خلق نفسه. اذا لم يوجد هناك منْ خلق الكون، والكون لم يخلق نفسه، عندئذ فان الإمكانية الوحيدة هي ان الكون لم يُخلق ولذلك يجب ان يكون موجودا دائما. المسيحيون آمنوا بقوة بحقيقة انه طبقا لسفر التكوين 1:1-3:2، ان الله خلق كل شيء في البداية، عندئذ تكون فكرة الكون الأبدي قد ماتت في الغرب قبل 15 قرنا.

سؤال أبدية الكون فيما اذا كان العالم له بداية في الزمن ام انه كان موجودا منذ الأزل كان موضع اهتمام الفلاسفة القدماء وثولوجيو القرون الوسطى وفلاسفة القرن الثالث عشر. المشكلة اصبحت اكثر وضوحا في القرن الثالث عشر، عندما اُعيد في الغرب اللاتيني اكتشاف بعض أعمال ارسطو المؤمن بأبدية العالم. هذه الرؤية تعارضت مع رؤية الكنيسة الكاثوليكية بان العالم له بداية في الزمن، ولذلك جرى حظرها بعد صدور القيود على التعاليم الثيولوجية والأرسطية للفترة 1210-1277.

ارسطو

جادل ارسطو في كتابه الفيزياء بان العالم يجب ان يكون وُجد من أبدية، في الكتاب الاول هو جادل بان كل شيء يأتي الى الوجود من خلال طبقة تحتية substratum. لذلك، اذا كانت المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود، فهي جاءت من طبقة تحتية. لكن طبيعة المادة هي بالضبط طبقة تحتية انبثقت منها الاشياء الاخرى. وبالنتيجة، فان المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود فقط من مادة موجودة سلفا تشبه ذاتها بالضبط. ذلك جعل ارسطو يجادل بان المادة يجب ان تكون أبدية.

في الكتاب الثامن، في جداله عن الحركة يؤكد اننا اذا افترضنا بداية مطلقة للحركة، فان الشيء الذي يباشر أول حركة يجب ان يكون اما:

1- جاء الى الوجود وبدأ الحركة، او

2- وُجد بحالة أبدية من السكون قبل ان يبدأ الحركة.

الخيار الاول هو متناقض ذاتيا لأن الشيء لايمكن ان يتحرك قبل ان يأتي الى الوجود، وان عملية المجيء الى الوجود هي ذاتها "حركة"، لذلك فان الحركة الاولى تتطلب حركة قبلها، أي، عملية المجيء الى الوجود. الخيار الثاني ايضا غير مقنع للسببين التاليين:

1- اذا كان العالم بدأ في حالة من السكون، فان ظهور تلك الحالة من السكون سيكون في حد ذاته حركة.

2- اذا كان العالم تغيّر من حالة السكون الى حالة الحركة، فان سبب ذلك التغيير للحركة سيكون هو ذاته حركة.

ولذلك استنتج ارسطو ان الحركة أبدية بالضرورة.

ارسطو جادل ان "الفراغ" الذي هو (مكان لا مادة فيه) مستحيل. لأن الأشياء المادية يمكنها ان تأتي الى الوجود فقط في مكان، أي، تشغل مكانا. لو كان الشيء يأتي من العدم، ذلك يعني ان "المكان الذي يُشغل بما يأتي الى الوجود سيكون سلفا مشغولا بفراغ، بسبب عدم وجود شيء فيه". لكن هذا الفراغ مستحيل، والمادة يجب ان تكون أبدية.(1)

الفيلسوف اليوناني كريتولاس (200-118ق.م) دافع عن عقيدة ارسطو في أبدية العالم. اما الفيلسوف الافلاطوني الجديد بروكلس (412-485 م) طرح 18 برهانا في إثبات أزلية العالم، وذلك في كتابه (حول أبدية العالم)، مستندا على إلوهية الخالق. ابن رشد في كتابه تهافت التهافت دافع عن الابدية ضد الغزالي مناصرا ارسطو. الفيلسوف الايطالي جوردانو برونا (1548-1600) حُكم عليه بالهرطقة من جانب الكنيسة الكاثوليكية ومات حرقا لإعتقاده بالأبدية.

توما الاكويني

اما توما الأكويني فقد جادل ضد الثيولوجيين المحافظين وضد انصار ابن رشد مدّعيا انه لا الأبدية ولا الطبيعة المتناهية للعالم يمكن إثباتها بالجدال المنطقي وحده. هو يرى ان أبدية العالم وخلقه سيكونان متناقضين اذا كان السبب الفعّال يسبق تأثيره في المدة او ان اللاوجود يسبق الوجود في المدة. لكن السبب الفعّال مثل الله ينتج تأثيره فوريا ولايحتاج بالضرورة ان يسبق تأثيره في المدة.

موقف العلم

الكون ربما كان دائما موجودا، ليس له بداية، نظرية علمية جديدة في الجاذبية الكمومية quantum gravity تكشف عن هذا. برونو بونتو Bruno Bento الفيزيائي الذي درس طبيعة الزمن في جامعة ليفربول في المملكة المتحدة، في عمله الجديد، نظرية جديدة في الجاذبية الكمومية سُميت نظرية المجموعة السببية causal set theory يتم فيها تجزئة المكان والزمان الى أجزاء منفصلة من الزمكان. طبقا لهذه النظرية، في مستوى معين، ستكون هناك وحدة أساسية من الزمكان. استعمل بينتو وزملاؤه هذا الاتجاه لإستطلاع بداية الكون حيث وجدوا انه بالإمكان ان لا تكون هناك بداية للكون، وانه دائما وُجد في ماضي لا متناهي ثم تطوّر مؤخرا الى ما سمى الانفجار العظيم Big Bang . هذا العمل ظهر في ورقة نُشرت في 27 سبتمبر 2021 في نشرة قسم العلوم الرياضية في جامعة ليفربول، وفي Imperial college, London . الورقة فحصت "ما اذا كانت هناك بداية في اتجاه المجموعة السببية". ذكر بينتو "انه في الصياغة الاولى للمجموعة السببية والديناميكيات، نمت المجموعة السببية من لا شيء الى الكون الذي نراه اليوم. اما في عملنا هذا، سوف لن يكون هناك انفجار عظيم، لأن المجموعة السببية ستكون لا نهائية في الماضي، وسيكون دائما هناك شيء قبلها".

ينطوي عمل الفريق على ان الكون لم تكن له بداية، اي انه ببساطة موجود دائما. ما يُنظر اليه كانفجار عظيم كان مجرد لحظة معينة في تطور هذه المجموعة السببية الدائمة الوجود، وليس بداية حقيقية. نظرية المجموعة السببية لها انعكاسات هامة على طبيعة الزمن. يقول بينتو "جزء كبير جدا من فلسفة المجموعة السببية هي ان مرور الزمن هو شيء مادي، اي يجب ان لا يُنسب الى نوع من الوهم او الى شيء يحدث داخل ادمغتنا يجعلنا نعتقد ان الزمن يمر، هذا المرور هو ذاته تجسيد للنظرية الفيزيائية".

اتجاه المجموعة السببية يزيل مشكلة اللامألوف singularities في الانفجار العظيم (هذه الغرابة تتمثل بمظاهر عدم الإكتمال في النسبية العامة من حيث فشلها في ابراز نتائج موثوقة في مراكز الثقوب السوداء وفي بداية الكون)، لأنه في هذه النظرية الجديدة لا توجد اية غرابة. وبهذا، وبدون مشكلات الانفجار العظيم يكون بينتو وفريقه التقط الخيط مستطلعا ما تقوله نظرية المجموعة السببية حول اللحظات الاولى للكون.

***

حاتم حميد محسن

...........................

الهوامش

(1) جادل ارسطو "ان الفراغ التام vacuum لا يمكن ان يوجد ابدا، واذا وُجد، فان الاشياء التي تتحرك فيه سوف لن تلاقي اية مقاومة ولهذا سوف تسافر بسرعة لامتناهية". الفراغ التام يعني فضاء فارغ من الذرات او أي جزيئات. لكن لا وجود لشيء من هذا القبيل لأن الجسيمات الافتراضية تأتي وتخرج دائما من الوجود. الفراغ دائما فيه شيء بدلا من اللاشيء. لا وجود لمكان خال من المادة او الطاقة او المجالات او الفضاء الافتراضي. لا وجود "للعدم" في الكون المادي الواقعي لأنه لا مكان في الكون تكون فيه كثافة الطاقة صفر، كل مكان يحتوي على الأقل على طاقة فراغ كمومية quantum vacuum energy. لو فقدت بعض أماكن الفضاء طاقتها الكمومية، فسوف تختفي من الوجود.

 

مقدمة: دعونا نجرؤ على طرح سؤال وحشي: ما هو الشيء الأصلي في فلسفة هيدجر؟ ومن المفارقة أن هذا السؤال نادراً ما يتم تناوله بشكل مباشر، حيث يتم اعتبار الإجابة أمراً مسلماً به. في الواقع، نظرًا لأن هيدجر أثر بشكل مباشر على جزء كبير من فلسفة القرن العشرين، يبدو من الواضح أن فلسفته شكلت ثورة غير مسبوقة داخل المفهوم الفلسفي. وهذا الاضطراب معترف به ضمنيًا من قبل مؤيدي المفكر ومنتقديه. في الواقع، فإن الوقت الذي أمضاه الأخير في تعقب آثار النازية في أصغر أركان العمل لا يكون منطقيًا إلا إذا اعتبر هايدجر مفكرًا مهمًا. بين هذين القطبين المتضادين اللذين يلتقيان في نقطة واحدة، يقف مؤرخو الفلسفة، الذين يتتبعون الرحلة، ويوضحون النصوص، ويجمعون التفاسير، وباختصار يمنحون هيدجر مكانته "الكلاسيكية". ولكن، بعيدًا عن هذا الإجماع الضمني، يبقى أن نحدد سبب كونه أحد أهم الفلاسفة. ومن هنا سؤالنا: كيف يكون هيدجر مفكراً أصيلاً؟ ولا شك أن من المناسب هنا توضيح استخدام مصطلح "الأصلي". من المؤكد أن الأصل يفترض "الجديد"، ولكن هذا "الجديد" لا يجب أن يُفهم فقط على أنه ما لم يُقال أو يُسمع من قبل. إن "الجديد" من أجل "الجديد"، رغم أنه يستطيع أن يصنع الموضة، فإنه لا يصنع الفلسفة. إذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر سيكون ببساطة مسألة دراسة جميع الفلاسفة الذين يعتبرون عظماء وتأليف سلسلة من الافتراضات التي لم يدعمها أحد من قبل (العدد له تأثيرات؛ اللانهاية، لون واحد). باختصار، في مصطلح "الأصلي" يجب أن يكون لأصل الكلمة صدى: فالأصل، باعتباره ما يؤسس تاريخًا جديدًا أولاً، يقدم إمكانيات جديدة. هذا هو ما عرَّفه موريس ميرلو بونتي بالتأسيس، أي أنه "تلك الأحداث التي تقع في تجربة ما والتي تمنحها أبعادًا دائمة فيما يتعلق بها سيكون لسلسلة كاملة من التجارب الأخرى معنى، ستشكل تكملة أو قصة يمكن التفكير فيها". وهكذا، قام ديكارت وكانط بتعديل مسار الفلسفة بشكل لا يمكن إنكاره، وشكلوا تاريخها، وحولوا مشاكلها، وباختصار فتحوا طريقًا جديدًا من خلال إعادة تصميم موقع الفلسفة بالكامل (كوجيتو، أحكام تركيبية قبلية). مثل الثورات العلمية، فإن الفلسفة الأصلية، في لحظة معينة، هي الفلسفة التي تخلق زلزالًا بالطرق المعتادة للتعامل مع المشكلات، وتعيد تشكيل مشهد التخصص بشكل دائم. دعنا نقول ذلك باستخدام استعارة مستعارة من تكتونية الصفائح. إن الخيارات الفلسفية، في لحظة معينة، تشبه الأطباق الكبيرة (المثالية/ الواقعية، التجريبية/ العقلانية، الموضوعية الدلالية/ مثالية الأفعال، وما إلى ذلك). يتم تحريك هذه اللوحات من خلال حركات نسبية معينة متقاربة (العقلانية/ المثالية أو التجريبية/ الواقعية)، أو متباعدة (المثالية/ المادية) ولكنها أيضًا ذات حدود متغيرة. ومن ثم تحدث الزلازل، مما يؤدي إلى تعديل الفضاء. ويصبح السؤال إذن: ما هي المحاور التوجيهية التي قام بها هيدجر والتي أنتجت إعادة تشكيل للفلسفة على قدر كبير من الأهمية لدرجة أنها شرعت من بعده في مسارات أخرى؟

مواضيع الجيل

هل يمكن أن يكون هذا سؤال الوجود؟ لكن هذا السؤال، على الرغم من أنه لم يعد مركزيًا في زمن هيدجر، كان مع ذلك واحدًا من أقدم الأسئلة في الفلسفة. القيام بذلك بشكل صحيح مرة أخرى ("إن تكرار الانطولوجيا، الذي أسيء استخدامه منذ كانط، كان أقل احتمالا للحث على الشعور بالزلزال من إثارة الشك في العودة إلى المدرسانية. هذا ليس في مكان آخر، وليس السؤال الذي يطرح على الفور للشباب" في الواقع، إذا أخذنا في الاعتبار الرحلة الفلسفية التي قادته إلى كتابة الوجود والزمان، فإن هذه المشكلة تظهر متأخرة نسبيًا، بل باعتبارها تعبيرًا عن التوجهات التي بدأت بالفعل إلى حد كبير خلال فترة دوراته في فريبورغ (1919-1923). ثم في ماربورغ، وهي الفترة التي توافد فيها العديد من التلاميذ، وقدسوه باعتباره "الملك الخفي للفلسفة"، وتحدث، حتى قبل أن تصبح مسألة الانطولوجيا ، عن الاضطراب الناجم عن استجوابه. هل يمكن أن يكون التأكيد على أن "إن تجربة الحياة المصطنعة هي نقطة البداية وكذلك هدف الفلسفة."؟ لكن هذا الاقتراح كان بالفعل في روح العصر لأن موضوع الحياة والخبرة، كما عاشا وليسا معروفين ببساطة، كان أيضًا النضال الرئيسي للفلسفة. "الفلاسفة الجدد" في ذلك الوقت: زيميل، شيلر، برجسن، ديلتاي، جيمس. لقد ضجت المؤتمرات الفلسفية التي سبقت حرب عام 1914 بهذا الصدام بين علماء المعرفة العقلانيين "القدامى" والفلاسفة "الشباب" المليئين بالحماس الرومانسي. في وقت مبكر من عام 1920، وضع هاينريش ريكرت نظرة عامة كاملة إلى حد ما (وإن كانت مثيرة للسخرية) عن "فلسفات الحياة" هذه، والتي وصفها بعد ذلك بـ "العصرية". وكان هناك اهتمام مماثل لدى جيل كامل، ونجاح مفهوم "العالم الحي" في بداية القرن، نتيجة رحلة طويلة تحت الأرض. لذلك، لا يوجد شيء في تسليط الضوء على هذا الموضوع الذي من المحتمل أن يسبب زلزالا. ومن الواضح أن الأمر نفسه ينطبق على مشكلة "التجربة"، التي أعاد هوسرل من خلالها تشكيل الكون الفلسفي. أما فيما يتعلق بالاهتمام بالوجود "الملموس"، في مقابل التجريد المشوه للمفهوم، واحتجاج "الذات" الفردية ضد ذات عالمية، فقد وجدناها بالفعل عند كيركجارد، الذي عرف في زمن هيدجر على وجه التحديد فكرة عبث يتضح من أعمال ياسبرز وأعمال اللاهوتيين المعاصرين مثل بارث وبولتمان. في الحقيقة، إذا نظرنا إلى مسيرة هيدجر المهنية، فإنه يبدو، للوهلة الأولى، متحدًا تمامًا مع عصره. دعونا نتذكر بعض المعالم: كان الدافع الرئيسي لهيدجر الشاب، عندما كرس نفسه لأطروحته التأهيلية (التي دافع عنها عام 1915)، ذو نسق معرفي، كما أكد هو نفسه: "كنت أحاول العثور على أساس لمزيد من المعرفة". تحقيقات تتعلق بمشكلة مركزية في المنطق ونظرية المعرفة." وبذلك، انضم إلى الحركة الكانطية الجديدة، التي كانت الأغلبية في ذلك الوقت، ولا سيما حركة مدرسة بادن (أهدى أطروحته لريكرت)، وكان، مثل الكثيرين، متأثرًا جدًا بلوتز وخاصة لاسك، ذلك وهذا يعني ما يمكن أن نسميه التكوين النيوفيختي للفلسفة. وعلى هذا النحو، فهو لا يتردد في الحديث عن بحثه باعتباره تدريس العلوم ، مما يشهد على كل من التراث الفيختي والاهتمام بأساس جذري للعلم. تتعلق "المشكلة المركزية للمنطق ونظرية المعرفة" في ذلك الوقت بوضع المعنى، الذي استثمره الكانطيون الجدد بقدر ما استثمره هوسرل. والسؤال، بشكل عام، هو ما يلي:

هل ينبغي تصور المعنى (الذي لا يريد أحد اختزاله إلى حدث نفسي بسيط) بشكل واقعي، بحيث يستمد كل "معنى" مصدره وشرعيته من مرجع خارجي وغير قابل للتغيير (الموضوعية أو الدلالية الأفلاطونية)، أو على العكس من ذلك، كما يريد لاسك والكانطيون الجدد، هل ينبغي فهم المعنى خارج أي مناشدة للكيانات المتعالية؟

في الحالة الأخيرة، لن ينتمي المعنى إلى مجال الوجود أو إلى عالم معقول موجود (أقانيم المعقول الأفلاطوني الفائق) ولكنه سيقع ضمن مجال الصلاحية (الكلمة الأساسية لمدرسة بادن). وفي هذا النقاش يدخل هيدجر في وقت أطروحته، ويتبنى بوضوح اهتمامات عصره. بعد هذه الفترة الأولى من التعلم، يبدو أن هيدجر قد قام بتحول مهم فيما يتعلق بهذه المواضيع. في الواقع، ما ميز الأعوام من 1919 إلى 1926، والذي يبدو بأثر رجعي أكثر "هيدجريًا" بكثير من هذه التوضيحات المعرفية الأولى، هو ما أطلق عليه لاحقًا "تأويلية الوقائعية". شهدت الفترة الأولى (حتى عام 1923) تطويره لـ "تأويلية الحياة". ثم، بعد أن تخلى عن هذا المفهوم المفرط في الالتباس، سيقترح تأويلًا لما سيحدده تدريجيًا من خلال مصطلح واحد ندين به لفشته: الوقائعية او الحدثانية. وحتى لو كان بوسعنا، مثل صوفي جان آرين، أن نعترف باستقلالية "تأويلية الحياة" (أي التسلسل 1919-1923) فيما يتعلق بالسنوات 1923-1926، فإنها لا تظل أقل من نفس المواضيع وما فوقها. تم العثور على نفس التحيز العام منذ عام 1919 إلى الوجود والزمان، أي أخذ الحياة الوقائعية بعين الاعتبار، أو الاهتمام بالارتكاز الوجودي الملموس لكل المعرفة: "حتى الآن كان الفلاسفة يسعون جاهدين على وجه التحديد للتخلص من "التجربة المصطنعة للحياة باعتبارها معلومة ثانوية بشكل واضح"، أصبحت الآن مسألة العودة إليها، أي التوجه نحو تجربة ما قبل النظرية، نحو الإنسان العادي الذي جعله الفلاسفة، المهووسون بموضوع المعرفة الوحيد، متروك. من المشكلة الأساسية للفينومينولوجيا ، يكتب هايدجر أن الفينومينولوجيا، باعتبارها “علمًا أصليًا”، يجب أن تسعى إلى “إعطاء المواقف الملموسة للحياة، والمواقف الأساسية التي يتم فيها التعبير عن مجمل الحياة. في هذه الحالة، الحياة موجودة بالكامل. نحن نبحث عن موقف يظهر فيه هذا التبرع بشكل واضح. النداء إلى الإنسان الملموس، وعدم كفاية النظرية، والنظر في واقعية " الموجود " وتوضيح المجال المعيش، الذي تم تعريفه على أنه تجربة معتادة أو مألوفة بالنسبة لنا، هل يمكن أن تكون هذه هي أصالة هيدجر؟

ليس تمامًا، في رأينا، لأنه هنا مرة أخرى يبدو أنه يفي بالبرنامج الذي حدده لاسك للفلسفة القادمة. في الواقع، وصف لاسك مهمتين لفلسفة متجددة (أي، في نظره، تحررت من مأزق "التمثيلية" الكانطية). الأول هو ضمان مكانة خطابه، وهو ما فشل كانط في القيام به منذ أن قام بإدراج المقولات الضرورية للمعرفة العلمية، وهو “لا يحتفظ بمكان للأشكال المقولاتية لفلسفته الخاصة. هذه المهمة، التي يمكن تعريفها كأساس من الأعلى، هي مهمة ما بعد الفلسفية وتلزم لاسك، مثل فيخته من قبله، بفلسفة فلسفية. وتتكون المهمة الثانية من ربط الفئات بالمجالات الأوسع "للوجوديات"، أي ترسيخها في التجربة ("الكتلة المعقولة من المحتوى"، التي يتم تعريفها على أنها تنوع المعطى ولم تعد مجرد بيانات علمية). هذه المرة هو نوع من الأساس من الأسفل، والذي يعالج المناطق التي هجرها المفهوم الفلسفي. في الواقع، يبدو أن فترتي هيدجر الشاب (الإبستمولوجي في عام 1915، والوقائعي في عام 1919) تتوافقان قدر الإمكان مع هذا البرنامج، فكل شيء يحدث كما لو أنه بعد محاولة تأسيس المعنى من المبادئ الأكثر عمومية (من الأعلى) ) ثم اعتمد على أساسه من إرساءه على الوجوديات (من أسفل). علاوة على ذلك، فإن العمل على سد الهوة التي انفتحت بين النظري والتجريبي، بين المفهوم والتجربة المعيشية، بين العقلاني والمعطى، كان في الواقع الشغل الشاغل لكل فلاسفة العصر، حتى أبرزهم. يبدو أن المنظرين مثل الكانطيين الجدد. في هذا الصدد، يعد نهج ناتورب حاسمًا بشكل خاص لأنه أيضًا، قبل فترة قصيرة من هيدجر، أي حوالي العقد الأول من القرن العشرين، شكك في ما يسميه الموجود" أو "الوحدة الغائية الملموسة"؛ لقد أصر أيضًا على الحاجة إلى التعامل مع مجال "ما قبل الموضوعي" وهو مجال يتجاوز تقسيم الذات/ الموضوع. كما أشار أيضًا إلى الطابع التشييء لأي تصور نظري: "كل تحديد هو تجسيد". علاوة على ذلك، عندما تساءل في نهاية حياته عن حقيقة "المودود"، فإنه سيجعلها "المعنى الغائي لـ' "أن تكون" (معنى الوجود): "هناك حقيقة؛ هناك الطابع الفريد للغائي: إنه "هو". هذه هي مشكلة الوقائعية بالمعنى الدقيق للكلمة. إن القرب بين منهج “ناتورب الراحل” وتطورات هيدجر الشاب مهم للغاية، بما في ذلك في تفاصيل التحليلات الملموسة، لدرجة أن بعض الشراح تساءلوا مؤخرًا عما إذا كان هيدجر لم يتمكن من الوصول إلى مخطوطة ناتورب الأخيرة (التي نُشرت بعد وفاته)، وهو ما نفاه الشراح الآخرون بشدة. في الحقيقة، هذا النقاش لا معنى له لأنه، مع أو بدون الوصول إلى هذه المخطوطة، من الواضح أن الشيء الوحيد المهم والمنطقي هو التوازي الحقيقي بين مفكرين في نفس الوقت. هذا القرب لا يمكن أن يكون سوى التقاء موضوعي، يمكن تفسيره على أنه هذه اللحظة التي يلتقي فيها كل شيء في تاريخ الفكر نحو نفس المهمة، ويعمل في نفس الاتجاه، ويتبلور في نفس الاهتمام، بينما يتراجع وفقًا لخيارات مختلفة: ما قبل الموضوعي (يتم تعريفه على أنه "الوحدة الغائية والملموسة") لناتورب، و"ما قبل النظري" عند هيدجر (يفكر حتى في ما يسميه بعد ذلك "الملموسة") أو حتى التجربة المعيشة عند هوسرل (الذي يسعى إلى استعادة "الموضوعية" "تجربة ملموسة للوعي الطبيعي). إن وضع هذه الحقائق في منظورها الصحيح (حيث نكتفي بتلخيص رحلة تم توثيقها على نطاق واسع على مدى العشرين عامًا الماضية) يقودنا إلى البحث في مكان آخر عن إجابة سؤال أصالة هيدجر بالنسبة إلى معاصريه. وبما أن سؤالنا يتعلق بالزلزال (إذا كان هناك زلزال) الذي سببته فلسفته، فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نبحث عن الإجابة في المواضيع التي تشكل الأساس لعصر بأكمله. هذه، في الواقع، أنواع من الإيقاعات المستمرة التي ينسقها كل منها بطريقته الخاصة: الاختلافات المتعالية (ناتورب)، الفنومينولوجيا (هوسرل)، التأويلية (ديلتاي). بالطبع، لا يتعلق الأمر بإنكار أهمية "الملموسة" الشهيرة ولا فكرة تفسير الوقائعية، وسوف نعود إلى هذا؛ لكن يبدو أن أصالة هيدجر لا تكمن في هذا الاهتمام المشترك بين الكثيرين، بل في تمفصلها مع موضوع آخر سيكون هذه المرة موضوع هيدجر، وهو موضوع لم يطرحه أي معاصر والذي سيبني فكره بشكل دائم والذي يبدو أنه أفضل من يجيب على سؤالنا: ما الجديد في فلسفة هيدجر مقارنة بفلسفة معاصريه؟

التأويلية كتدمير للفلسفة

دعونا نعود إلى القاسم المشترك المتمثل في “برنامج لاسك المقترح” الذي يشير بوضوح إلى عدم كفاية المفهوم الفلسفي. من المؤكد أن الأمر يتعلق بالنقص الحالي في الفلسفة، لكن المهمة الموكلة إلينا هي تصحيحه: فالثقة في الفلسفة لا تتضاءل بأي حال من الأحوال. وبالمثل، فإن شعار هوسرل هو صراحة "إعادة تشغيل الفلسفة"، وليس الانخراط في أي نوع من الهدم. وبالمثل، إذا كان ديلتاي ينوي تقديم «نقد للعقل التاريخي»، فإن ذلك بالرجوع إلى كانط ومع الاهتمام بإيجاد، بفضل علم التأويل، فلسفة متوافقة مع تاريخية بعض الظواهر. أما بالنسبة لناتورب، فإن مصطلحات “إعادة بناء الفلسفة” هي التي يستخدمها لوصف آخر تطوراته. تتمثل مشكلة المعاصرين عمومًا في مواجهة تحدي التفكير فلسفيًا حول التجربة "المعاشة"، دون حل الاستمرارية بين المفهوم المطبق والتجربة "الملموسة"، تجربة "الموجود( ناتورب) للتاريخ والحياة (ديلتاي والعديد من أنصار العالم الحي) أو حتى "العالم الطبيعي" (هوسرل). دعونا نلاحظ، علاوة على ذلك، أن هذا التوضيح الفلسفي للتجربة الملموسة كان بالفعل مشكلة التجريبيين من الجيل السابق، على سبيل المثال أفيناريوس، الذي نجد فيه الثالوث المحيط بذاته - العالم الآخر، ثلاثة أقطاب يسميها "العالم المحض" الخبرة المرتبطة بالحياة اليومية. وكانت هذه في نهاية المطاف مشكلة الماركسيين. حتى لو كانت الدراسات الفلسفية الحالية المكرسة لهذه الفترة من "هيدجر الشاب" تميل إلى حجب المفكرين الألمان ذوي الحساسية الماركسية تمامًا، تظل الحقيقة أنه كان آنذاك اتجاهًا فلسفيًا حقيقيًا؛ بنيامين أو بلوخ هما معاصران لهيدجر تمامًا، وروح اليوتوبيا للأخير، الذي نُشر عام 1918، له أكثر من تناغم قوي مع موضوعات هيدجر، حيث أن الأمر يتعلق أيضًا بمواجهة الفلسفة بـ "ظلام اللحظة المعاشة"، والتي سوف يقود بلوخ إلى وصف تجربة ملموسة معينة، مثل تجربة الإبريق، قبل أن ينطلق هيدجر إلى تجربة "المنبر". وهكذا فإن المطالبة بإدخال "المزيد من الملموسية" وتقريب المفهوم الفلسفي إليها، ميزت جميع تيارات الفلسفة في ذلك الوقت. في مواجهة هذه المهام، وكلها إعادة بناء، فإن الوجود الشامل لموضوع “تدمير الفلسفة” في مسيرة هيدجر كان ملفتًا للنظر. منذ عام 1920، قال إنه كان يعمل على “تفجير مجموعة المقولات التقليدية. إنه ينوي تطوير طريقة "ستكون راديكالية تدعو إلى التشكيك في جميع المفاهيم"، وعلى الرغم من اعترافه بأن ناتورب وديلتاي أرادا "الاستحواذ على الخبرة"، إلا أنه يعتقد أنهما يفتقران على وجه التحديد إلى هذه "التطرف" الذي وحده يمكن أن يؤدي إلى أبعد من ذلك". لذلك فهو يدعو إلى "تحويل كامل للفلسفة يتضمن “تدميرًا ظاهريًا"، يُنظر إليه على أنه فعل "إعادة الفلسفة إلى نفسها من اغترابها". ولذلك، فإنه تحت العلامة المزدوجة للتدمير والتطرف، يضع هايدجر مشروعه، لأنه مهما كان المجال الذي يتناوله في دوراته التحضيرية لكتاب الوجود والزمان (الظواهر، المنطق، الفلسفة الكلاسيكية، وما إلى ذلك)، فإن المنهج يظل كما هو، حيث أن من الدمار. هكذا آرين، الذي ذكر كل المواضيع التي تم تناولها في الفترة من 1919 إلى 1923، لم يتردد في تجميعها تحت اسم "الطرق إلى الدمار". وبالمثل، فإن العمل على المنطق (الذي تم تنفيذه في 1925-1926) يرقى إلى مستوى هيدجر لتنفيذ “التدمير النقدي التاريخي”. والأكثر من ذلك، فإن النشاط النظري برمته هو الذي يجب تدميره، لأنه "يجب كسر تفوق النظري". في كل مكان وفي جميع المواضيع، يتعلق الأمر بـ "رمي الشعلة دائمًا ومرة أخرى"، وفقًا لاستعارة الحريق المدمر الذي أعاد فيتجنشتاين اكتشافه بعد سنوات، وعرّف نفسه بأنه "الشخص الذي أحرق مكتبة الإسكندرية". باختصار، يشكل مفهوم "التدمير الجذري" المحور المركزي والمبدأ المنظم لجميع التطورات قبل كتاب الوجود والزمان، لدرجة أنه بدلاً من الحديث عن "تأويلية الوقائعية"، سيكون من الأنسب أن يتم الحديث عن "تأويلية الحقيقة". ويبدو لنا أن تلخيص هذا النضج هو تأسيس "التأويلية كتدمير للفلسفة". وسيبقى كذلك في أعماله اللاحقة، بل إنه أحد الثوابت الحقيقية الوحيدة عند هيدجر. في الواقع، التدمير هو إحدى المهمتين المخصصتين للوجود والزمان (الفقرة 6، “مهمة تدمير تاريخ الأنطولوجيا”) وإذا كانت المهمة الأولى (الفقرة 5، “التحليل الأنطولوجي للدازاين”) سيتم التخلي عنها بعد المنعطف، فإن الثانية، على العكس من ذلك، سوف تصبح أكثر وضوحا عند نقطة التحول، كما أشار، على سبيل المثال، في المؤتمر المحوري لعام 1929، ما هي الميتافيزيقا؟ عندما تحدث كورتين عن "تفجير المجموعة التقليدية من المقولات"، يتعلق الأمر هنا بـ "إخراجها من مفاصلها"، ومنطق "التفكيك" ، وهي مصطلحات هي، كما لاحظ كورتين نفسه، "استعارات لـ الهدم وفقًا لمعنى التدمير الجدلي بشكل متزايد”. التكثيف هو مقدمة لكل الأعمال المستقبلية (ما بعد المنعطف)، المكرسة للتفكيك الصبور لتاريخ الفلسفة بأكمله. باختصار، لا يتم التخلي عن التدمير أبدًا إلى الحد الذي يمكن أن يظهر فيه كأحد فتات العمل بأكمله، والذي يمكن تلخيصه في عبارة واحدة: "راديكالية التدمير"، والتي تركز على المصطلحين الأكثر استخدامًا من قبل الجمهور الشاب هيدجر ليصف مشروعه. لكن هذا الخيط المشترك هو ما يخص هيدجر على وجه التحديد. إنه قرار فريد ومحدد (أصلي، بمعنى أنه ليس له نموذج بين معاصريه)، في نفس الوقت كموضوع موعود بمستقبل عظيم (أصلي بمعنى "الذي أدى إلى الأصل") في القرن العشرين، سيطر عليه بالكامل تقريبًا موضوع موت الفلسفة. قرار فردي ومحدد لأنه، حتى مع الاعتراف بأهمية نقد الفلسفة (نظريتها، وطابعها غير المتجسد، واستقطابها حول موضوع المعرفة)، لم تكن هناك ضرورة عقلانية لاستنتاج أنه يجب تدميرها بدلاً من إصلاحها وتعديلها وتحسينها. في الواقع، كان من الممكن أن تكون النتيجة المحتملة في مواجهة التشخيص (الإجماعي في ذلك الوقت) للقصور الحالي في المفهوم الفلسفي هو اقتراح توسيع الفلسفة إلى مجالات أخرى. لكن التوسع لا يعني "تفجير" التقاليد، بل يعني دمج المستويات القديمة في مساحة أكبر. من هذا المنظور البناء، كان بإمكاننا إدراج الموضوعات الأكثر تحديدًا التي كانت فلسفة القرن العشرين مولعة بها بشكل خاص: الملموس، والواقعية، والتجربة، والتاريخية، والحدث، ثم لاحقًا الجسد، والحس؛ وهذا دون إلغاء الموضوعات القديمة الأكثر معرفية: مسألة حقيقة البيان العلمي، ودور الذات في ديناميكيات المعرفة، وطريقة وجود الكيانات الرياضية، وما إلى ذلك. هذا السؤال – لماذا ندمر مجال الفلسفة بدلاً من توسيعه أو تجديده أو إعادة بنائه؟ – ينشأ بشكل أكثر حدة لأن المسار الذي اقترحه جميع معاصري هيدجر كان طريق “إعادة البناء” أو “البدء من جديد”. ولذلك فهو قرار فردي لأنه، على أساس نفس التشخيص، يمكن تبني احتمالات أخرى. إن راديكالية هايدجر المدمرة هي تطرفه وتمثل حداثته في الفضاء الفلسفي. علاوة على ذلك، سيكون أصل محور أساسي للفلسفة من بعده: الدعوة إلى تدمير الفلسفة، والتي نجدها في فيتجنشتاين أو أوستن كما نجدها في دريدا أو رورتي، ولكن ليس أبدًا في معاصري هيدجر وكارناب ورورتي. ومن بينهم راسل، الذي لم يقل في أي مكان أن الفلسفة بشكل عام يجب تدميرها؛ حتى أنهم جددوا الفكر الكانطي الجديد، والاهتمام بالعلم والتفاؤل فيما يتعلق ببناء أو إعادة بناء للمفاهيم الفلسفية. لقد أدرك هيدجر نفسه هذه الحداثة، حيث اعتبر، في رسالة عام 1924، أن عمله "يقتصر على التدمير النقدي والعقلاني للتقاليد الفلسفية واللاهوتية" وبالتالي فهو "شيء يجب المضي فيه". يبدو أنه قد تم العثور على إجابة لسؤالنا: من خلال تأوييتله كتدمير، فإن هيدجر أصلي بالمعنى المزدوج للجديد والذي يخلق أصلًا من خلال إنشاء سلسلة، من خلال تقديم مستقبل. إلا أن هذا الإنجاز، وإن كان مؤكداً، إلا أنه لا يبدد كل غموض «مؤسسة هايدغر». في الواقع، كان من الممكن أن يظل هذا الموقف ادعاءً دادائيًا بسيطًا بلا مستقبل. لذلك يجب علينا أن نتخذ خطوة أخرى لتحديد هذا التفرد وتحديد ما إذا كان قد تسبب في زلزال من المرجح أن يعيد تشكيل المشهد الفلسفي.

"عالم" جديد: تكوين ما قبل النظري في مجمله منظم وذو معنى في حد ذاته

أصر هيدجر على المعنى الإيجابي الذي أعطاه لكلمة "تدمير": لم تُصنع الشعلة لتحويل كل شيء إلى رماد، بل لإلقاء الضوء على ما تم نسيانه. إنها إذن مسألة العودة من خلالها إلى «أصل» مدفون حجبه المفهوم الفلسفي، وحجبه، واخفائه. التدمير "يظهر"، "يظهر"، "يجعل المرء يرى"، ولهذا يسمى "ظاهري". وبالتالي فإن تعريف "التدمير" ينقل فهمًا دقيقًا للحقيقة والتاريخ. لقد حجبت المفاهيم النظرية ما تم تقديمه في البداية على أنه "يتم اكتشافه". لقد أخفوا "ما يظهر نفسه، كما يظهر نفسه من ذاته"، وهي الطريقة التي يفسر بها هايدجر التعبير اليوناني "انقاذ الطواهر". ومن ثم يصبح تاريخ الفكر حركة استعادة ما كان في البداية اللاتحجب (A-letheia) و"الواقف في النور". وبالتالي يمكن للتدمير أن يتردد صداه بطريقة إيجابية بسبب هذه الأطروحة المزدوجة للحقيقة باعتبارها غير مخفية وديناميكية التاريخ التي يتم تصورها على أنها حركة إخفاء ذات أصل موجود في البداية، ولكنها مخفية، معوقة، مخفية.

وعلى هذا النحو، فإن هاتين الأطروحتين، على الرغم من ضخامتهما وماهيتهما في فكر هيدجر، ليسا جديدتين على الفلسفة. في الواقع، ما الذي يفعله هايدجر هنا؟ فهو يفسر "قول الحقيقة" على أنها كشف ما هو مخفي، وفي الوقت نفسه يضع الحقيقة على أنها ما لا ينتمي إلى القضية (الحكم) بل إلى الشيء نفسه، لأن القول أو القول هو "جعل" يرى المرء من نفسه ما يظهر نفسه كما يظهر نفسه من نفسه. ولذلك يؤكد أن الحقيقة تنبع من الشيء وليس من القضية. الحقيقة هي نفس الشيء الذي تم اكتشافه. وهذا تعريف تقليدي نسبيًا للحقيقة، وقد تمكن البعض، مثل هوسرل، من وصمه باعتباره مفهومًا واقعيًا. في هذا النوع من التصور، الحقيقة هي حقيقة الشيء الذي تم اكتشافه؛ تجمعها الشعارات وتجعلها ترى كما هي في حد ذاتها. ولوضعها في مقارنة، والتي على الرغم من أنها تبدو فاضحة إلا أنه يمكن بناؤها بصرامة، إلا أننا لسنا بعيدين هنا عن الموقف العام لفريجه، حيث يتم فهم الحقيقة من خلال حقيقة هي، وهي في حد ذاتها صحيحة (مقولة فيثاغورس نظرية). وبالتالي، فإن الحقيقة ليست فقط خاصية لافتراضي، بل هي خاصية الشيء نفسه. بالتأكيد، في فريجه يتعلق الأمر بالحديث عن المثل الرياضية وليس عن أي كشف عن الوجود أو عن الهياكل الوجودية لكائن مرمي. لا يتعلق الأمر بإنكار ذلك، بل بملاحظة أنه على المستوى المبدأي، تتشابه إيماءات الفيلسوفين، مما يؤدي إلى القول بأن الحقيقة ليست خاصية القضية فحسب، بل إن قضيتي صحيحة لأن الشيء هو هو. وبمصطلحات هيدجر: حقيقة القضية هي وظيفة الحقيقة (عدم الحجاب)، وهي حقيقة الشيء نفسه. ليس في المقام الأول في الحكم ولكن في الشيء. سواء أحببنا ذلك أم لا، فإن هذا الموقف هو خيار لا يخلو من سابقة، بل ويتناسب حتى مع الإطار الكلاسيكي للتصور الواقعي للحقيقة، وهو النقيض تمامًا لموقف الكانطيين الجدد بشأن الصلاحية، والتي، في نظرهم، لا يمكن أن تكون إلا المعنى (الحكم) وليس الشيء أو الكينونة، وهي حقيقة يجب بناءها وتبريرها بمواردها الخاصة، ولا يمكن تلقيها أو منحها بنفسك. أما بالنسبة لمفهوم التاريخ كتاريخ للأقنعة و"الإخفاء" (نشر صور زائفة كصور "غطاء")، وما يترتب عليه من خروج ("شفقي") أو أصل (بدئي)، فإن هذا هو مرة أخرى نموذج تقليدي (رومانسي) لـ "العودة إلى"، وهو المفهوم الذي بموجبه فقدنا أو فقدنا الأصل، الذي ننطلق منه مع ذلك والذي سيحدد في المقابل مستقبلنا الأصيل. ستبقى هاتان الأطروحتان الحاسمتان حول الحقيقة والتاريخ دون تغيير حتى النهاية. من المؤكد أن هناك، في رحلة تزيد على خمسين عامًا، انعطافات يمكن التعرف عليها: وبالتالي فإن الحجاب سيكون، بعد كتاب الوجود والزمان، حقيقة الوجود ذاته (الانسحاب)، والحقيقة، باعتبارها عدم حجاب، ستكون ذات الوجود الذي "يستغني عن نفسه في انسحابه" (الحجاب/ الكشف)، حيث بدا سابقًا أن الهوذاك لا يزال مشحونًا بهذه الديناميكية (من خلال الحل). ومع ذلك، لم يتم تعديل الإيماءة الرئيسية. التدمير، وهو موضوع في العمل ككل، ليس له معنى وفعالية إيجابية إلا إذا تم الاعتراف بما يلي:

1) أطروحة الأصل المدفون (المحجب/ المحجب) ولكن يمكن الكشف عنه؛

و2) فكرة أن التاريخ هو حركة هذا الغيب.

لكن، سنقول بعد ذلك، بأي طريقة يكون هيدجر أصليًا، بصرف النظر عن دعوته إلى الدمار؟

في رأينا، هناك بادرة أخرى لا مثيل لها في زمن هيدجر، والتي سيكون مصيرها أن تصنع عهدا جديدا. تتعلق هذه الإيماءة الأخرى بالفلسفة الأولى (بما في ذلك الوجود والزمان). يتعلق الأمر بالعقدة التي يصنعها هايدجر بين أطروحة التدمير هذه والموقع، أي المكان الذي يشكله لتنفيذها. لإظهار ذلك، دعونا نلقي نظرة على المشكلة أبعد قليلا. إن تدمير الفلسفة هو خصوصية هايدجر في عصره، لكنه في حد ذاته ليس جديدًا تمامًا. وهكذا قصد باسكال تفكيك المفهوم الفلسفي عن الدين. إن مقام الدرجة الثالثة (المحبة الإلهية) هو الذي يسمح لنا بالحكم على المرتبة الثانية (المعرفة) ونسبيتها. كما اختار كيركجارد الموقف الديني باعتباره المكان الذي ينكشف منه غرور العالمية الفلسفية. لقد دمر نيتشه (المطرقة) المفاهيم الفلسفية باستخدام الفن. إن أي تدمير للفلسفة، الذي يُقصد به أن يكون جذريًا، يفترض أننا نختار موقعًا، مكانًا (“أرضًا، كما يقول هايدجر) يمكن من خلاله تنفيذ الهجوم المدمر. لكن هيدجر يبدع في اختيار هذا الموقع، في تحديد هذه “الأرضية”. لم يعد الأمر يتعلق بالدين، حتى لو أراد البعض إظهار أن تحديد المفاهيم قبل الوجود والزمان قد تشكل من خلال تأملاته في النصوص الدينية (القديس أوغسطين، القديس بولس)، وحتى لو كان من الصعب إظهار ذلك التحويرات الباسكالية لمعظم العبارات الواردة في هذا النص. ومع ذلك، إذا كان هذا الجانب الديني للموضوع واضحًا، فإن هيدجر لا يطالب به. فهو إذن مكان آخر يشكله، وخطة أخرى يبنيها، وموقع آخر يطوره، لكي يضع نفسه في موقع "تفجير" المفهوم الفلسفي. سيكون هذا المكان "يوميًا". وفي الواقع، فإن هيدجر، بما في ذلك في كتابه الوجود والزمان، هو مفكر العادي أو اليومي، قبل وقت طويل من جعل الفلاسفة التحليليين للعادي موضوعهم المفضل.

دعونا نحكم بدلاً من ذلك: "دعونا لا نخجل من التفاهات"، كما يصرخ، قبل أن يسأل: "ما الذي لدي خبرة به؟ من التفاهات، من الحقائق اليومية الصغيرة". الأوصاف التي يقدمها في دوراته هي تلك الخاصة بالأشياء "العادية": كرسي الأستاذ، وورشة الحرفي، وشجرة التفاح، وما إلى ذلك. وفي دورة تدريبية في ماربورغ عام 1925، أعلن أنه يريد "السذاجة، والسذاجة الخالصة، تلك التي ترى للوهلة الأولى وبدقة" التحدث على الكرسي على المكتب." وبالمثل، فإن نقطة البداية في كتاب "الوجود والزمان" هي "ما هو للوهلة الأولى وفي أغلب الأحيان؛ يتم صياغة التعبير في جميع أنحاء الكتاب." وحقيقته الأساسية هي "أن الفهم المتوسط والغامض لل "الوجود هو حقيقي." لذلك سيكون السؤال، في هذا العمل، هو تسليط الضوء على شروط الإمكانية (التي ستكون "الوجودية") لهذا الحقيقي. وهكذا فإن "عالم الحياة" في الفترة 1919- في عام 1923، اتخذت "وقائعية" فلاسفة المعرفة الكانطيين الجدد، و"طبيعية" علماء المعرفة الطبيعيين، منذ ذلك الحين فصاعدا، الشكل الدقيق للحياة اليومية. سوف يرسم هيدجر حدود الاستمرارية التي تشكلها “الملموسة” (التي يسعى إليها الجميع) من “سذاجة” الإنسان اليومي. يتكون هذا الفعل أو القرار المسبق من تحديد الموقع أو المساحة أو المخطط الذي سيكون نقطة البداية للتحليل (الواقع) وتوضيح الشروط التي تجعل خصائص هذه الحقيقة واضحة. ومع ذلك، لا يزال من الممكن الاعتراض على أصالة هذه البادرة. ألم نر، في الواقع، أن أفيناريوس، قبل نصف قرن من الزمان، أو بلوخ في عام 1918، قد أحدثا إلى حد كبير هذا التحول في الحياة إلى الحياة اليومية؟ من المؤكد أن موضوع الحياة اليومية موجود بالفعل، لكن الدور الذي يلعبه هيدجر والمكانة التي يمنحها لها مختلفان. دعونا نضع الأمر بطريقة أخرى: لنفترض الافتراض العام "نحن كائنات ملموسة منغمسين في عالم يومي لا نحافظ معه على علاقة نظرية بشكل دائم وفوري". دعونا الآن نطرح السؤال الصريح: من الذي ادعى العكس أو أراد إثبات العكس؟ لا أحد من الفلاسفة: قال لايبنتز: "نحن تجريبيون فقط في ثلاثة أرباع أفعالنا". وأشار أرسطو إلى أنه قبل التفلسف، يجب على المرء أن يعيش؛ أما ديكارت، فهو لم يزعم قط أننا كنا، في جميع الظروف، كوجيتو شفاف، بل اكتفى فقط بأن نصبح كوجيتو واحدًا "مرة واحدة" في حياتنا. منذ ذلك الحين، كان بوسعنا أن نتخيل ببساطة أن فلاسفة القرن العشرين كانوا يقتربون من مناطق جديدة، لم يقم ديكارت، في الواقع، بالتركيز على تأسيس العلوم (وبالتالي المعرفة النظرية)، بمسحها. كان من الممكن أن تكون هذه البادرة بمثابة بادرة توسيع لمجال الفلسفة، وليس التشكيك في كل مفاهيمها السابقة. من الواضح إذن أن الثورة الهيدجرية لا تكمن فقط في وصف محتوى العالم اليومي. إن ابتكار هيدجر الحقيقي يوجد بالأحرى في رابط التضمين هذا الذي يقيمه بين هذا العالم الملموس ما قبل النظري والمفهوم الفلسفي، لأن برنامجه "تفجير كل المقولات" يمر عبر إنشاء هذا المكان وتشكيل هذا اليومي. الحياة ككل منظم وذو معنى في حد ذاته (الكون بمعناه اليوناني). المهمة الأولى (الدازاين التحليلي كتوضيح لعالم الحياة اليومية) هي شرط المهمة الثانية (تدمير الأنطولوجيا). المشكلة هي بناء عالم (أو اكتشاف أرضية) يمكن من خلاله تنفيذ المهمة الثانية. ستختار الفلسفة الأولى مكان الحياة اليومية "لتدمير" الفلسفة، والثانية، مكانة الكلام الشعري (أو التأملي). لا شك أنه سيتم الاعتراض على أن هذه الحياة اليومية (المعروفة أيضًا باسم الحياة العادية)، على الرغم من أنها مخصصة للمهنة العظيمة التي نعرفها، لا يمكنها أن تجسد مساهمة فلسفة هيدجر الأولى. في الواقع، ألم يتحدث بعض الشراح، على العكس من ذلك، عن التقليل من قيمة الحياة اليومية عند هيدجر من خلال القول بأن الحياة اليومية تصبح، على مدار التحليلات، مكانًا للزيف (الثرثرة، والفضول، وما إلى ذلك)؟ لكن عدم الأصالة ليس هو تعريف الحياة اليومية، بل هو مجرد جانب واحد من جوانبها، وعلاوة على ذلك، فهو أمر لا مفر منه. الأصالة والزيف هما احتمالان لنفس المستوى، أي احتمال "العالم اليومي". إن الادعاء بالعكس يعني جعل تحليل عدم الأصالة اعتبارًا أخلاقيًا بسيطًا، وحكمًا قيميًا لهيدجر. لكن هيدجر رفض دائمًا هذه القراءة الأخلاقوية. إن الانحدار ليس طيشًا أو خطيئة هوذاكية، بل هو أحد احتمالاته، التي يكشفها لنا تحليل الحياة اليومية، وهو بحكم تعريفه أوسع من الزيف لأنه الأفق الذي يمكن أن تقف عليه هذه الشخصية في الخارج. يحتوي كل يوم في الواقع على جميع إمكانيات الدازاين الأخرى. يقول لنا هيدجر: "إنه ما هو "الأقرب وجوديًا، ولكنه الأبعد وجوديًا، وغير المعترف به". إن الحياة اليومية باعتبارها "الأقرب وجوديًا" هي "الحقيقة" ("الفهم المتوسط والغامض للوجود هو حقيقة"). بعد تثبيت هذه الحقيقة ووصفها، يعود الأمر إلى تحليل الدازاين للعودة إلى شروط إمكانه (أي إلى “ما لا يمكن التعرف عليه وجوديًا”). لا يقلل هيدجر من قيمة الحياة اليومية ولا يقدرها وفقًا لنظام قيم مفترض مسبقًا. إنه يجعل منها نقطة البداية، والواقع الذي يمكن أن يفكر منه. إن بنية حجته قابلة للمقارنة رسميًا مع بنية كانط في نقد العقل الخالص. ينطلق كانط من حقيقة (حقيقة الرياضيات) ويبحث عن شروط الإمكانية. في بنية النقد، من المستحيل إزالة الحقيقة الأولية، لأنه بدونها لا يمكن أن يتم الصعود. الأمر نفسه بالنسبة للوجود والزمان: بدون الافتراض بأن هناك “فهمًا متوسطًا وغامضًا للوجود” في الحياة اليومية، لا يمكن أن يحدث الكشف. ولذلك لا يمكن إنكار أهمية الحياة اليومية في الاقتصاد العام للنص أو حتى إضفاء طابع نسبي عليها. علاوة على ذلك، عند هيدجر، يتم تحديد حقيقة البداية هذه على أنها المكان الذي سيبدأ منه تدمير المفهوم الفلسفي، الموقع الذي منه الطابع غير الأصلي للموقف النظري (انقسام الذات/ الموضوع، الموقف وجهًا لوجه في الفلسفة). العلاقة بالعالم الملقى تحت النظرة) سيتم الكشف عنها و"تفكيكها".

وبالتالي فإن توضيح الحياة اليومية هو الأساس (نقطة أرخميدس) الذي يستطيع هيدجر من خلاله أن يدعي أنه يدمر الفلسفة. والأمر الجديد والحاسم في نفس الوقت هو ارتباط التضمين القائم بين تدمير النظري وتحليل ما قبل النظري، وليس المضمون المحدد لهذا التحليل أو ذاك. ومهما كانت الألوان التي رسم بها هيدجر هذه الحياة اليومية (الألوان الداكنة والبنية عندما أظهرت الحياة اليومية للأمريكيين العمليين ظلالًا أكثر بهجة)، فإن ما يهم هو الإشارة العامة التي تشكل رافعة تحليلاته المحددة. يمكن تقسيم هذا الفعل الأساسي، لمزيد من الوضوح، إلى ثلاث لحظات رئيسية:

1) تحديد المكان الذي يمكن من خلاله تدمير المفاهيم الفلسفية؛

2) يشكل هذا المكان كعالم له في الواقع خاصية الكون عند القدماء، أي كونه كليًا منظمًا وشاملًا وهامًا في حد ذاته؛

3) تفترض، من خلال اللعبة الأصلية/ المشتقة (الخاصة بمفهومها للحقيقة والتاريخ)، أن المفهوم الفلسفي يشتق من هذا المكان، وبالتالي فهو ليس "أصليًا".

في هذه البادرة، واللحظات التي تحطمها، ما يجب أن نتذكره هو العلاقة القائمة، والعقدة التي نشأت بين تدمير المفهوم الفلسفي والمكان (الملموس، اليومي) الذي سيجعله فعالا. بهذا المعنى، بالنسبة لهيدجر، لا يتعلق الأمر بتحديد حدود الفلسفة من نفسها، كما هو الحال في التكوين الكانطي، حيث تحدد الفلسفة، بمواردها الخاصة، ما يمكنها فعله أو لا تفعله. ولذلك ليس هناك مجال لاستبدال المفاهيم الفلسفية الخاطئة بمفاهيم أكثر كفاءة، الأمر الذي سيكون بمثابة إصلاح للفلسفة وليس تدميرها. وهذا بلا شك هو ما يفسر رفض هايدجر الحديث عن "فلسفة هيدجر"، بمعنى أن الأمر يتعلق باستبدال مفهوم فلسفي بآخر أكثر ملاءمة، كما لو كان باسكال قد فعل من الدرجة الثالثة. ، فلسفة الوحي، وهي فلسفة بسيطة تنافس فلسفة الثانية. بل هناك مكان سيُبنى أو يُنتخب مثل الفضاء، الأرض التي ستسمح للفلسفة بـ”الانفجار”. ولذلك لا ينبغي تخفيف الطبيعة الجذرية لمشروع التدمير، إذا أردنا قياس النزوح الناجم. لأن هذا النزوح كبير. في الواقع، إذا لم تكن هذه هي المرة الأولى بالتأكيد التي شككت فيها الفلسفة في العلاقة بين الوعي الفلسفي والوعي العادي (الطبيعي، المشترك)، تظل الحقيقة أنه، في جميع الأجهزة السابقة، كان الوعي الفلسفي هو الذي يمكنه الحكم على الوعي العادي. لأنه في الحالة المعاكسة، انتهت القضية بموت الفيلسوف، كما يتضح من محاكمة سقراط الذي ظل مؤسسا. دعونا نقول ذلك مع بعض الأمثلة: بالنسبة لأفلاطون، فإن الفيلسوف هو الذي يستطيع وصف الكلام العادي بأنه " ظن" وبالتالي يمنحه الفرصة لإبعاد نفسه عن نفسه (مغادرة الكهف)؛ وبالمثل، فإن هيغل، إذا لم يتخذ بادرة التحول التي يفترضها أفلاطون، يهدف مع ذلك إلى إظهار أن الوعي المباشر سينبثق من تلقاء نفسه (بالحركة الضرورية وليس التحول) من حالته الأولية، بحكم تعريفه المعوز (الوعي الحساس للفرد) اللحظة الأولى للظواهر). ليس هناك أي شك في جعل الوعي العادي هو المكان الذي سيتم من خلاله الحكم على الفلسفة أو حتى تدميرها بشكل أقل. لا شك أن هوسرل (أسلوب كريسيس) سوف يعترض علينا، لكن حيلته لا يوجد بها أي مقياس مشترك. في الواقع، ليس فقط عند هوسرل، لا يقتصر «عالم الحياة» على الحياة اليومية وعالم ما قبل النظرية فقط، لأنه يشمل الثقافة العلمية، ولكن ليس هناك أيضًا مجال لتدمير المفهوم النظري (الرياضيات أو غيرها)، بدءًا من التخوف ما قبل النظري. إنها بالأحرى مسألة التمييز بين الطبقات المختلفة ووضع كل منها على مستوى أهميتها. تتمثل مبادرة هوسرل في توسيع نطاق البحث الفينومينولوجي، ومسح المجالات الجديدة، التي يساهم تحليلها في إثبات صلاحية المنهج الفينومينولوجي، الذي تم تعريفه بشكل مستقل عن مرجعيته إلى الوعي الطبيعي (وحتى التغلب عليه، لأن العصر يتكون من الحصول على التخلص من النزعة العادية). في مثل هذا التكوين، لم يكن للنظر فيما قبل النظري القدرة على تدمير النظري. قدم ما قبل النظري نفسه كمستوى مختلف، يمكن للفلسفة أن تأخذه بعين الاعتبار من بين طبقات أو مكونات أخرى من تجربتنا. لكن الآن هذه اللفتة من هيدجر، التي تتكون من تشكيل عالم (الحياة اليومية) بالديناميت للمفاهيم الفلسفية، هذا المصنع الملموس الذي يوفر أسلحة الدمار، ستصبح لفتة ستبني المشهد الفلسفي للقرن العشرين، في حين أنها ستبني المشهد الفلسفي للقرن العشرين. كان غائبا تقريبا من قبل. في الواقع، هاتان هما نفس الإيماءات التي تميز فلسفة فيتجنشتاين:

1) تدمير المفهوم الفلسفي الذي أعلن أنه لا معنى له

و2) القيام بذلك من موقع نختاره باعتباره الموقع الوحيد ذي الصلة: اللغة العادية.

الإيماءتان الأساسيتان متماثلتان تمامًا. لدينا أفق: تدمير الفلسفة واختيار المكان، وتحديد الأرضية التي سيصبح هذا التدمير فعالاً منها: العادي، اليومي. لقد أنجز الفيلسوفان العظيمان في القرن العشرين نفس اللفتة الهيكلية تمامًا، ولن يكون من الصعب إظهار أن فلاسفة عظماء آخرين، حتى لو لم يتناولوا موضوع الحياة اليومية بالكامل، فقد شرعوا أيضًا في البحث عن "حل ملموس" "، مكان "ما قبل النظري" ، تم اختياره على أنه أكثر أصالة (أو ذي صلة). هذا جزئيًا هو حال ميرلو بونتي وتحليله للمعقول، باعتباره تجربة بدائية وجامحة ومبتكرة، أو بكل بساطة حالة بعض الفلاسفة التحليليين المعاصرين المرتبطين بالموضوعة، بدلاً من المفاهيم المجردة (والتي لا معنى لها) للأشياء. الفلسفة "السذاجة الثانية". حتى لو كانت التحليلات مختلفة بشكل واضح في محتواها، تظل الحقيقة هي أن الإشارات الأساسية متشابهة في بنيتها: 1) اختيار المكان الذي سيتم منه تدمير المفاهيم الفلسفية؛

2) تحديد هذا المكان على أنه ما قبل نظري أو أولي أو أصلي أو حتى "طبيعي" وساذج وملموس. وبعبارة أخرى، إذا أدان باسكال الفلسفة "عديمة الفائدة وغير المؤكدة" من نظام ثالث، فإن الفلسفة المعاصرة تدينها من هذا النظام الجديد الذي شكلته: "الملموسة"، التي تتخذ عند هيدجر شكل الحياة اليومية، بينما يتخذ فتجنشتاين شكل الحياة اليومية. العادي، مع ميرلو بونتي الحساس والجسدي.

هيدجر هو نقطة البداية والشرط لهذا الوجه الجديد للنظام الثالث (أو العالم الجديد) الذي انغمست فيه كل الفلسفة المعاصرة.

خاتمة

إذن، لدينا إجابة للسؤال الأولي. إن فلسفة هيدجر هي أصل الثورة التي أعادت تشكيل الفضاء الفلسفي بأكمله. لقد أحدثت الصفيحتان (تدمير الفلسفة واختيار الحياة اليومية في الفلسفة الأولى) بالفعل، من خلال اجتماعهما معًا، زلزالًا غير مسبوق، إلى حد أن معظم فلسفة القرن العشرين، وجميع الاتجاهات مجتمعة، يعتمد عليه. تتمثل الحركة الأساسية في طرح ما قبل النظري باعتباره المكان الذي يمكن من خلاله الحكم على النظري وتدميره (رابط التضمين)، وتشكيل هذا "ما قبل النظري" في "عالم"، مفترض باعتباره كليًا منظمًا وذو أهمية بواسطة بحد ذاتها. هذه الأصالة المميزة، تبقى أسئلة كثيرة واجهناها طوال هذه الرحلة: لماذا، لإفساح المجال لما قبل النظري، نختار تدمير الفلسفة بدلا من إعادة بنائها؟ هل ينبغي لنا حقًا أن نستمد النظري من ما قبل النظري أو أن نضع كلًا في مجالاته ذات الصلة؟ علاوة على ذلك، هل يمكن لما قبل النظري أن يصل إلى كرامة كلية كبيرة في حد ذاته (التناظرية المعاصرة للكون المفقود منذ الإغريق) أو حتى أن يكون له نفس الوضع الذي يتمتع به نظام باسكال الثالث؟

مهما كانت هذه الأسئلة، المتعلقة بهذه الركائز للفلسفة المعاصرة التي كان مارتن هيدجر أول من وضعها، فإن سؤالنا الوحشي سيكون له على الأقل ميزة واحدة: طرح مشكلة سياسة الالتزام من زاوية أخرى. إن الإيماءتين الأساسيتين اللتين قمنا بإعادة تشكيلهما، واللتين ميزتا فلسفة هيدجر الأولى، هما إيماءتان اتخذهما جزء كبير من القرن العشرين (فتجنشتاين، أولاً وقبل كل شيء). هذه النتيجة تواجهنا ببديل: إما أن يكون لفلسفة القرن العشرين علاقة بالنازية (التأثير المباشر للفلسفة في السياسة)؛ وإلا فإن البنية الأساسية لفلسفة هيدجر الأولى تظل، على الأقل في حركاتها المبدئية التي قمنا بإعادة تشكيلها، موضع شك (وقابلة للنقد) من حيث الحقيقة والباطل، وبالتالي تنتمي إلى المجال الفلسفي بشكل مستقل عن ارتباطها بموضوع معين. مشروع سياسي. دعونا نترك الأمر للقارئ ليقرر أي فرع من فروع البديل هذه هو الأكثر احتمالا لفهم التكوين الفلسفي (تدمير الفلسفة من مكان ما قبل النظري أو العادي)، الذي كان القرن العشرين بأكمله منغمسا فيه وفيه والتي لا يزال الكثيرون يعتمدون عليها اليوم.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

......................

المصدر

Isabelle Thomas-Fogiel, Qu’est-ce que la philosophie de Heidegger a d’original ?, Dans Revue philosophique de la France et de l'étranger 2017/ 2 (Tome 142), pages 195 à 214

(البعد السياسيّ – الدولة – أنموذجاً)

يُعتبر الإنسان مخلوقاً اجتماعيّاً لا يُمكن أن يعيش وحده بمعزلٍ عن الآخرين، لذلك ظهرت بين الناس علاقات ذات أبعاد مختلفة منها الاقتصاديّة ومنها الاجتماعيّة ومنها السياسيّة ومنها الأخلاقيّة والثقافيّة بكل أنساقها الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، وهذه العلاقات منها ما هو ايجابي يحقق العدالة والمساواة بين الناس، ومنها ما هو باطل يحقق الظلم والاستغلال والاستعباد بين الناس أيضاً، وعلى هذا الأساس راح يظهر الحق والباطل في هذه العلاقات، الأمر الذي دفع المهتمين بمصالح الناس من الحقوقيين، والمشرعين أو الفقهاء إلى وضع الأنظمة والقواعد والقوانين الحقوقيّة أو التشريعيّة التي تُنظّم العلاقات بين مكونات المجتمع وأفراده، وحماية الحُقوق التي يَمتلكها كل منهما، وبالتالي استمراريّة استقرار المجتمع وتوازنه.

والحق في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوّغ إنكاره. وفي المعجم الوسيط يطلق الحق على الصحة، والثبوت والصدق.

أما الحق اصطلاحاً: فهو الحكم المطابق للواقع. وهو أيضاً ما يختصّ به الشخص عن غيره مادةً ومعنى، ولهذا الحق الشخصي كان أو الجماعيّ، قيمة تخوّل أصحابه بموجبه، سلطة له أو تكليفًا عليه، ويُمكن أن يكون الحقّ مادياً مثل حق الملكيّة، أو مَعنويّاً مثل حق التأليف وحق الاسم التجاري والكرامة الشخصيّة. (1)

وغالباً ما تُعتبر أقوال الأنبياء والرسل والعقائد والأديان والمذاهب أقول حق، أقول حق: لاشتمالها على الثابت الذي لا يسوغ إنكاره عند معتنقي هذه الأديان والمذاهب، أو المؤمنين بها. هذا ويقابل الحق الباطل. وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما، بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم. (2).

أما الحق من وجهة نظر قانونيّة: فهو الواجب الثابت والمؤكد. أو هو يمثل مصلحة يخوَّل لصاحبها القيام بأعمال ضروريّة لتحقيق هذه المصلحة، وفيها ثبوت قيمة معينة لشخص معين بمقتضى القانون. ويعد الحق، ما منحه الشرع لكافة الأفراد على حد سواء وألزموا باحترامه، وهو وسيلة لتحقيق مصلحة مشتركة، والقانون هو الذي يقرر هذه المصلحة. كما أنه قدرة إراديّة يعترف بها القانون للغير، ويكفل حمايتها، وهو ما يستطيع الفرد العمل به في إطار ما يسمى بالشرعيّة القانونية. (3).  هذا وهناك العديد من الأمور المتعلقة بحياة الإنسان الفرديّة تعتبر من الحقوق، مثل:

الحق في الحياة أو الوجود، والحق في الاختيار؛ والحق في التصويت وحرية التعبير، والحق في العمل، والحق في الإضراب، وحق المساواة في المعاملة أمام القانون، وحق المرأ الإيمان بنفسه وحريّة تعبيره، وملكيّتة، وخصوصيته الشخصيّة وغير ذلك.

ويمكن تصنيف الحقوق أيضاً وفقاً لبعدها الاجتماعي كالتالي:

حقوق الطفل. وحقوق العمال، وحقوق الدول، وحقوق الشعوب،  والحقوق الجسديّة، والحقوق الأخلاقيّة النابعة من أسباب أخلاقيّة لها سيادتها في المجتمع، إن كان بحكم الدين، أو العرف والعادة، وغيرها الكثير.

على العموم ما يهمنا في هذه الدراسة المتواضعة هو الحق السياسيّ في فلسفة الدولة. ويمكن تصنيف هذا الحق ضمن ثلاثة اتجاهات هي:

الحقٌّ الطبيعيّ.

الحقٌّ الإلهيّ.

الحقٌّ المدنيّ.

الحق الطبيعي:

إن الحقوق الطبيعية’ هي حقوق «طبيعية»، بمعنى «ليست مصطنعة من قبل الله أو الإنسان»، كما هي الحال في الحقوق المستمدة من الطبيعة البشريّة أو من أحكام إله. وهي حقوق عالميّة، أي أنها تنطبق على جميع الناس، ولا تستمد من قوانين أي مجتمع بعينه. أي هي موجودة بالضرورة داخل كل فرد، ولا يمكن أن تؤخذ منه. وتسمى أحيانًا بالحقوق الأخلاقيّة أو الحقوق غير القابلة للتصرف.

والحقوق الطبيعيّة تتجلى عبر الحرية التي يتمتّع بها الانسان بوصفه كائنًا طبيعيًا، وتتحدّد بحدود الذات وقدرتها ومشيئتها.  وعلى هذا الأساس اعتبر الفيلسوف الهولندي اسبينوزا Spinoza  في هذا الإطار: إن لكل فرد حقاً طبيعياً، يضم كل ما يرغب به الفرد ويستطيع الحصول عليه. ونتيجةً لذلك، يعادل حق المرء الطبيعي قوته أو سلطته الفرديّة. وبالتالي، لا تقوم الحقوق الذاتية (مثل حقوق الإنسان)، في فلسفة سبينوزا السياسيّة، فهي مؤسسة من مؤسسات المجتمع، ولا وجود لها إلا في الدولة المدنية. (4). ويتحدّد هذا الحق بحسب الرغبة والقدرة، غير أن حالة الطبيعة قد تكون مرادفةً لحالة الحرب، لأن الطبيعة لا تعرف حقًا آخر غير «حق القوة »، وهي لا تعرف العدل ولا ترحم الضعيف. فالحق الممارس في حالة الطبيعة يعني حرّية الفرد في أن يفعل كل ما في استطاعته لضمان مصالحه الخاصة. وكما لاحظ الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) Hobbes، بأن الحق الطبيعي هو حق كل شخص في الدفاع عن شخصه باستعمال كل الوسائل الممكنة، لأن كل فرد في هذه الحالة له الحق في كل شيء لكي يحافظ على بقائه، إذ ليس هناك قواعد أو معايير أو مؤسسات، وبالتالي لا شيء يمكن أن يعتبر عدلاً أو ظلماً. بيد أن هذه الوضعيّة قد تتحوّل إلى حرب الكل ضد الكل في حالة تجاهل القوانين المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة، ما يؤكد بالتالي سيادة العنف. وفي هذه الحالة يصبح أمر تنظيم الحق الطبيعيّ وإخضاعه للقواعد الاجتماعيّة وللمعايير الأخلاقيّة والقانونيّة أمراً واجباً، وعليه يقول "توماس هوبز" : إن الحق الطبيعيّ في الحياة يشكل أساس التعاقد الذي اضطر اليه الناس للخروج من حالة الحرب المزرية، والانتقال الى حاله السلم والامن عن طريق تفويض تدبير أمورهم لسلطة  حكم مطلق، أو حاكم قوي كالتنين (الليفتان)، قادر على ضمان آمن وسلامة الافراد.(5).

أمام معطيات الحق الطبيعيّ والنتيجة التي توصل إليها "هوبز"، تأتي ضرورة الحديث عن الحقوقٍ المدنيّة، التي ترتبط في إطارها حرية الإنسان وحقّه في العدالة والمساواة والأمن والعيش الكريم.

ثانياً الحقٌّ الإلهي:

يقول ابن رشد: “التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينشر فيها، إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني.”.

إن من يقلب صفحات التاريخ يجد صنوفاً من أنظمة الحكم التي استغلت الدين أو تاجرت به سياسياً، حيث استمدت من الإله وجودها وتسلطها على الناس، كما هو الحال في الحضارة السومريّة أو كما سميت في الكتاب المقدس (شنعار)، وقد ظهرت حوالي (3500 ق.م.)، والحضارة البابليّة حوالي (1894 ق.م.)، وكلاهما ظهرتا جنوب بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً)، واستمرتا في بعدهما السلطوي الديني إلى حوالي عام (400) بعد الميلاد. وهناك الحضارة الآشوريّة شمال وادي الرافدين (1900-612 ق.م.). والحضارة الآراميّة، وسط وشمال سوريا والجزء الغربي من بلاد الرافدين.

لقد اعتنق السومريون، ومن بعدهم البابليون والآشوريون الملك كإله، أو نصف إله، كما هو الحال في شخصية كلكامش، وكان لكل مدينة إله (ملك)، تزداد أو تقل أهميته بناءً على دور المدينة الاقتصاديّ والتجاريّ، وهذا ما ظهر في الحضارة الفرعونية، أيضاً حوالي (3150) قبل الميلاد، وقد اعتنق المصريون القدماء فكرة الملك المقدس الذي يدير شؤون البلاد. واعتقدوا أن كل ملك هو “إبن الإله”. وهذا التوجه الديني في السلطة نجده في  الحضارة الإغريقية (1200- 323 ق.م.)، وفي الحضارة الرومانية (735ق.م.- 1435م. (6).

على العموم: يعتبر الحق الإلهي، مفهوماً دينيّاً وسياسيّاً، يستمد من خلاله الملوك أو الحكام شرعيتهم التي من خلالها راحوا يحكمون شعوبهم بسلطات مطلقة. وقد استمر هذا الحق في العصور الوسطى يفرض نفسه على المناطق التي انتشرت فيها الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة بشكل خاص.

وإن أكثر ما اشتهر هذا المفهوم أو النظرية، في أوروبا العصور الوسطى حيث راح ينظر له من قبل الكنيسة، التي أقرت بأن الله هو الذي يختار الشخص أو الأشخاص أو الأسر التي لها حق الحكم السياسيّ في الدولة. وهذا يعني أن سلطة الملوك مستمدة من الله الذي أختارهم وأيدهم بقوته ليرعوا مصالح الأفراد الذين يفرض عليهم الواجب طاعتهم، ولهذا فإن الله تعالى باختياره للحاكم وما يملكه من أجهزة الإكراه والعقاب التي تمثل التنظيم السياسيّ، هي بسبب طبيعة الإنسان الفاسدة التي فرضها الله عليه بسبب الخطيئة الأولى، لهذا يجب على الإنسان هنا طاعة الحاكم أيا كانت تصرفاته ما لم يخالف تعاليم الكنيسة لأنها إرادة الله، (7) .

وهذا في الحقيقة ما بنى عليه آباء الكنيسة الأوائل نظرتهم  للحكم. حيث كان الملك يستمد شرعيته من الله مباشرة، ولا يحق لأي قوة أرضية أن تنازعه في حقه الإلهي هذا، أو حتى محاكمة الملك ومقاضاته، فهذا من شؤون الله وحده وليس من شأن البشر الذين عليهم الطاعة فقط كما بينا أعلاه، ويعتبر أي نوع من العصيان والخروج على الملك أو الحاكم ذنباً بحق الله. وعقب الثورة المجيدة في بريطانيا (1688–1689) ونجاح الثورتين الأمريكية بين عامي 1765 و1783. والفرنسيّة، من 1789 حتى 1799 قلل من جاذبية المفهوم السلطوي المرتبط بالحق الإلهي، إلى أن تم التخلي عنه تماما في أوروبا والأمريكيتين في القرن العشرين. (8).

أما تبرير هذه السلطة الدينية القائمة على الحق الإلهي من قبل الكنيسة فنجد لها ما يؤكدها في النصوص الدينيّة المقدسة . ففي المسيحية جاء  في رسالة "بولس الرسول" إلى أهل رومية: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة. فأتريد أن لا تخاف السلطان. إفعل الصلاح فيكون لك مدح منه. لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخف. لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر"

وبناءً على ذلك، اعتبرت الكنيسة جرياً على مفاهيم قسطنطين، أن الملك هو ممثل الله وصورته على الأرض، وعلى هذا الأساس فهو ليس موضعا لنقد ومعارضة من أي قوة أخرى كما بينا في موقع سابق. إلا أنها – أي الكنيسة – استغلت هذه الرسالة لتعميق سلطتها على الملك ذاته فيما بعد، عندما اعتبرت الملك أقل شأنا من القوانين الإلهيّة والتي يمثلها صاحب الكرسي الرسوليّ. وبناء هذا الموقف البراغماتيّ النفعي الانتهازيّ، أستعمل مارتن لوثر هذا (النص المقدس) لتحريض السلطات على قمع حرب الفلاحين الألمانيّة .(9).

إن هذا التبريرٌ للسلطة السياسيّة في اعتمادها على مرجعيةٍ دينيّةٍ /لاهوتية، مثل النسب المقدّس (الدماء الزرقاء)، أو التجسيد الفعلي للسلطة الإلهيّة على الأرض من خلال الملك، هو ما ساهم في ترسيخ المُلكيات المطلقة التي سادت في الكثير من بقاع العالم تاريخياً.

أما الحق الإلهي في السلطة، فقد ظهر أيضاً في الحضارة الاسلامية، ويتفق الكثير من المسلمين على أن الاسلام دين ودولة، وتنطبق عليها النظريّة الثيوقراطية الدينيّة التي ترجع أصل السيادة ومصدر السلطة إلى الله، فهو وحده صاحب السيادة واليه ترجع السلطة الآمرة، وهو من يفوض في هذه السلطة. كما جرى في السقيفة عندما اتخذ حديث الرسول (الخلافة في قريش) مرجعا دينيّاً للسلطة وأحقيتها. أو في مسألة عليّ وآل بيته في حديث الغدير، الذي اتكأت عليه الفرق والطوائف الشيعية، والتي راحت بدورها تؤول بعض النصوص القرآنيّة بما يتفق وجوهر هذا الحديث لتثبيت هذا الحق. بينما راح يؤصل لها مع التيار الجبري، الذي تبناه الأمويون منذ خلافة معاوية الذي خاطب الناس بأن سلطته مقدرة من قبل الله وعليهم الطاعة. واستمر حتى سقوط الخلافة الإسلاميّة.

الحق المدني:

الحقوق المدنيّه أو القانونيّة، هي  الحقوق التي  يحوز عليها الفرد وبالتالي المجتمع من دولتهم او حكومتهم بحكم القانون. والحقوق المدنيّه تعتبر من أهم الأفكار التي تجسد حرية الإنسان وعدالته ومساواته. أو بتعبير آخر: الحقوق المدنيّة والسياسيّة هي أنموذج من الحقوق التي تحمي حرية الأفراد وصد التعدي عليهم من قبل الحكومات والمنظمات الاجتماعيّة والأفراد، والتي تضمن قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنيّة والسياسيّة للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد.

وإن انتقال الإنسان من حالة الحقوق الطبيعيّة إلى حالة الحقوق المدنيّة لا يعني فقدانه كل الحقوق الطبيعيّة، وإنما يعني أن الحياة الاجتماعيّة تتولّى ضمان الحقوق بوصفها تشمل الحقوق المدنيّة. أي ضمان التكامل الجسديّ والعقليّ للشعوب داخل مجتمعاتها. أي ضمان الحياة والسلامة العامة لمكونات المجتمع، ممثلة هذه الحياة والسلامة العامة في الحماية ضد التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الأصل الوطني، أو اللون، أو الميول الجنسيّة أو العرقيّة أو الدينيّة، أو الإعاقة، وكل مفردات الحقوق الفرديّة مثل الخصوصيّة، وحرية الفكر والضمير والكلام والتعبير والدين والصحافة والتجمع والتنقل.

لقد أكّد الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك)، بأنه لا يوجد مجتمع سياسيّ مدنيّ إلا حيث يتنازل كل فردٍ عن حقّه الطبيعيّ للجماعة، وكل الأفراد الذين يؤلّفون جماعةً واحدةً ويعيشون في ظلّ قانونٍ ثابتٍ وفضاءٍ عادل، إنما يعيشون في مجتمع مدنيّ.

وتتأسس الحقوق المدنيّة على قاعدة كون الإنسان له قيمة باعتباره كائنًا عاقلً، حرًا، إراديًا وذا كرامة. وينطلق هذا الإيمان بقيمة وكرامة الإنسان من مبدا أساسيٍّ وثابتٍ، وهو: أنّ من الضروري أن تُصان حقوقه، لأنه إنسانٌ أولًاً وأخيرًا، ومن الضروري، نتيجة ذلك، أن يكون حرًّا وأن يتساوى في الحقوق مع الآخرين. وهكذا، يتأسس كل حق مدنيّ على حق طبيعيّ محايث للفرد. (10).

إذاً لا يمكن تصور الحق المدنيّ بوصفه نقيضًا للطبيعة، وإنما هو استجابة وتنظيم لحق الطبيعة الانسانيّة في الحرية والمساواة. وهنا يبرز الوجه السياسيّ لمسألة الحق المدنيّ، حيث تطرح علاقة الفرد بالسلطة وعلاقة المجتمع المدنيّ بالدولة، وما يتفرع عن ذلك من قضايا، تهم السيادة والشرعيّة والواجب ودولة الحق والقانون والمؤسسات والتشاركيّة أو التعدديّة وتداول السلطة... الخ.

هذا وقد تم الاشتغال على الحق المدنيّ في السياسة بدء من القرن (17م) مع "توماس هوبز" "وجون لوك"، حيث برزت الدولة ككيان اصطناعيّ أسسه التعاقد الاجتماعيّ المفترض بين السلطة والأفراد، هدفه التشريع للتنازل عن الحقوق الطبيعيّة مقابل السلم والامن وتامين الخيرات وتحقيق المصالح الجماعيّة. ثم في مرحلة القرن (18م) من خلال أفكار" مانويل كانط" الذي ربط بين الدولة والمسألة الاخلاقيّة والاستخدام المنير للعقل من لدن الأفراد في المجال العموميّ، وهو ما يسمح بنشوء دولة الحق والقانون التي تقوم على نظام تمثيلي برلماني، وفي الأخير مرحلة القرن (19م) عند الحديث عن موقف فريدريك هيغل الذي أعطى مساحة واسعة للمجتمع المدنيّ في تدبير شؤون الأفراد لكونه ممثلا للمؤسسات السياسيّة عكس الدولة التي تظل مجرد فكرة عقليّة موضوعيّة تتحقق من مضامينها من خلال المجتمع المدنيّ باعتباره مؤسسة وسيطة بين الأسرة والدولة نفسها. (11).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

......................

الهوامش:

1- راجع موقع موضوع.

2- الويكيبيديا.

3-  للاستزادة راجع - الحقوق وانواعها في القانون. (موقع حماة الحق). بواسطة حماة الحق – محامو الأردن – 25 سبتمبر -2010.

4- المرجع نفسه - (موقع المعرفة – الحق الإلهي للملوك.).

و(للاستزادة في موقف سبينوزا راجع: موقع الحوار المتمدن - التأصيل للدولة : العودة إلى الحق و القانون الطبيعيان عند اسبينوزا).

5- (موقع فضاء الفلسفة – الحق والعدالة – يراجع موقف توماس هوبز).  وللاستزادة في الحق المدني يراجع: (مجلة القبس للدراسات النفسية والاجتماعية - الدولة والمجتمع المدني في الفكر السياسي الحديث، (توماس هوبز، جون لوك، امانويل كانط، فريدريك هيغل - الكاتب : حمون حسان).

6- http://www.bahzani.net/?p=20772)

فلسفة الحكم/من “الحق الالهي” إلى الحكم الشعبي : د. خليل جندي.).

7- افكر السياسي في العصور المسيحية الوسطى يوليو 28، 2011.).  http://hkbraveheart.blogspot.com/2011/07/blog-post_28.html -

8- موقع المعرفة – الحق  الإلهي للملوك.).

9- موقع المعرفة – الحق  الإلهي للملوك.).

10- للاستزادة في معرفة فلسفة لوك راجع موقع  https://hekmah.org

11- (موقع فضاء الفلسفة – الحق والعدالة – يراجع موقف توماس هوبز).  وللاستزادة في الحق المدني يراجع: (مجلة القبس للدراسات النفسية والاجتماعية - الدولة والمجتمع المدني في الفكر السياسي الحديث، (توماس هوبز، جون لوك، امانويل كانط، فريدريك هيغل - الكاتب : حمون حسان).

 

في البدء، لَعَلّنا نحتاج للتّذكير بتعريف (المُقدّس) ولو بنحو الإيجاز، ويُمكننا القول إنّه: كلّ ما ينتمي إلى حقل الممنوعات من آلهةٍ وكائناتٍ وأمكنةٍ وأفكارٍ وحتّى طقوس في بعض الأحيان، وهو الذي لا يُمكن المساس به والشّكّ في وجوده، وقد تصاحبه بعض الطّقوس والاحتفالات، والتي من شأنها أن تعيد حضوره بلا هوادة بين الفينة والأخرى.

(والمُقدّس أيضاً، هو حقّيقيّة غير استطراديّة، فهو يُعيدنا إلى تجربةٍ ذاتيّةٍ لا يُمكن قياسها، إلى درجة أنّ الجدل الفلسفيّ لم يتمكّن من فهمها حتّى الآن)1.

وإذا ما نعرف أنّ البيئة والجغرافيا من اشتغالات الإيكولوجيا، فإنّه ثَمّة علاقة ضروريّة بينها وبين المُقدّس، و(الإنسان وبواسطة التّاريخ، يؤسِّس لوجوده الطّبيعيّ والإنسانيّ فوق تضاريس الجغرافيا وبين طبقاتها الجيولوجيّة، وبالتّالي فهو - ومن خلال الحضارة - يُحقّق لفعله الاجتماعيّ الامتداد الطّبيعيّ في بيئتها الإيكولوجيّة، ويضمن لوعيه الرمزي بالاضطراد في إطار حدودها المكانيّة. وفيما إذا تعرّضت العناصر البنيويّة للجغرافيا إلى ما يخلّ بوحدتها الطّبيعيّة أو يسيء إلى شخصيّتها الإقليميّة، فإنه سرعان ما تدبّ عوامل الانحلال إلى ميدان التّاريخ والاضمحلال إلى حقل الحضارة)2.

وهذا التّأسيس الذي يقوم به الإنسان لوجوده الطّبيعيّ، هو بلا شكّ يتضمّن عنصر القداسة، إذا ما اتّفقنا أنّ الدّين من أهمِّ العناصر الأساسيّة في تكوين الإنسان وثقافته منذ بدء الخليقة، وبالتّالي فإنّ الدّين والقداسة يسيران في خطٍّ متوازٍ واحد، بل أنّ القداسة في أغلب الأحيان تولد من رَحِم الدين.

والإنسان المُتديّن ينظر إلى الطّبيعة، ليس باعتبارها طبيعة على وجه الحصر، بل يراها مُثقلة دائماً بقيمٍ دينيّة، لأنّ تفسيره للكون على أنّه إبداع إلهيّ خرج من يدي الآلهة، وأنّ العالَم يبقى مُغرقاً بالقداسة. وليس المقصود بالضّرورة قداسة موصولة بالآلهة فقط، بل تلك القداسة التي قد ترتبط بمكانٍ أو شيءٍ، مُكرّس بحضورٍ إلهيّ مثلاً3.

ينظر الإنسان المُتديّن إلى الكون، بأنه ينبض بالحياة، وهذه الحياة تدلّ على قداسته، أيّ قداسة الكون، لأنّها من نتاج الآلهة، وأنّ هذه الآلهة تُشير إلى وجودها للنّاس من خلال حياة الكون هذه.

ولهذا السّبب، ومنذ أن تَشكّلت واتّضحت عناصر الثّقافة، أدرك الإنسان بأنّه كون مُصغّر، وقد ذُكِرَ في الموروث الشّعريّ العربيّ بهذا الصّدد:

وتَحسبُ أنّكَ جرمٌ صغير... وفيكَ انطوى العالمُ الأكبر

أدرك ذلك، لأنّه يُشكّل جزءاً من خلق الآلهة، وبعبارةٍ أخرى، أنه يجد القداسة في ذاته، والتي تعرّف عليها في الكون4.

وهكذا أخذ الإنسان يُقارن حياته بحياة الكون الكبرى، كونها هي الأخرى من صنع الإله، وفي هذا الصّدد الكثير من الأمثلة التي يُمكننا سوقها، ومن أهمّها، موضوعة الزّواج، فقد قارن بين الأرض والسّماء والرّجل والمرأة، حيث مَثّلت المرأة دور الأرض، وهذا ما أيّدته الكثير من النّصوص في الكتب المقدّسة، ففي سورة البقرة من القرآن وفي الآية 223، يقول النّصّ: (نساؤكم حرث لكم)، وفي كتاب "الاتهارفافيدا" وهو من أهمّ الكتب الهندوسيّة المُقدّسة في الجزء (14-5-24) يقول: (هذه المرأة كأرضٍ حَيّة، ازرعوا فيها البذور أيها الرجال).

لقد تَمكّنت الإيكولوجيا من إنتاج الكثير من المُقدّسات على المستوى البيئيّ والجغرافيّ، ومنذ أزمانٍ بعيدة، وأيضاً بإمكانها إعادة إنتاج المُقدّس ومفاهيم جديدة تتفرّع عنه، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك.

جغرافيّاً، انتجت الإيكولوجيا الكثير من المُقدّسات، لأنّ الإنسان المُتديّن ينظر إلى المكان بوصفه شكلاً غير متجانساً، فهو يُمثّل بالنّسبة له انقطاعات وانكسارات، ويرى بعض الأجزاء على أنّها مختلفة نوعيّاً عن بعضها.

(لا تقترب من هنا، قال الرّبّ إلى موسى، اخلع نعليك من رجليك، لأنّ المكان الذي توجد فيه هو أرض مُقدّسة)، سفر الخروج: 3:5، وذات النّصّ يردُ في القرآن في سورة "طه" الآية "12" لكن بصياغةٍ مختلفةٍ بعض الشّيء: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى).

ولنأخذ مثالاً عاديّاً على ذلك، وهو مثال الكنيسة، فشكل الكنيسة في مدينةٍ حديثة، تختلف رؤيته وتقييمه عند الإنسان المُتديّن عن غير المُتديّن، فعند المؤمن تُشارك هذه الكنيسة في مكانٍ آخر غير الشّارع الذي توجد فيه، فالباب الذي ينفتح نحو داخل الكنيسة يدلّ على حلٍّ للاستمراريّة، والعَتبة التي تفصل المكانين تدلّ في آنٍ واحدٍ على المسافة بين طريقتين للتكوّن، دينيّة ودنيويّة.

إنّ العَتَبة هي في الوقت ذاته، الفاصل والحَدّ الذي يُميّز ويُقابل عالمين، والمكان المتناقض حيث يتوصّل هذا العالمان، وحيث يُمكن انجاز المرور من عالمٍ دنيويٍّ إلى عالمٍ مُقدّس5.

ونفس الحال لو أخذنا مثال أيّ مسجدٍ أو مقامٍ عند المسلمين، نرى أنّ صفة القداسة بدأت تلازم ذاك المكان، بل حتّى كامل المنطقة التي يكون فيها، كما هو مشهور (الكعبة المُشرّفة) و(كربلاء المُقدّسة) و(النجف الأشرف).

أي أنّ إضفاء القداسة هنا، يرتبط ويتعملق مكانيّاً في ذهنيّة الإنسان المُتديّن، ففي الواقع ليس كُلّ كربلاء مُقدّسة حتّى عند ذات الإنسان المُتديّن، بل هي فقط البقعة التي ضَمّت قبر الحسين بن علي، وكذلك ليس كُلّ النّجف وهكذا، إلّا أنّه يُسقط صفة القداسة على كلّ المكان، بسبب حمولات القداسة المكنونة في وعيه.

وما زالت الإيكولوجيا قادرة على إعادة إنتاج المُقدّس مكانيّاً، بسبب توفّر ذات الظّروف التي تساعد على تغوّل المفاهيم الدينيّة المغلوطة داخل المنظومة الإدراكيّة للفرد، لا سيّما المُتديّن.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك، هو كُثرة ظهور المراقد الدّينيّة المُزيّفة، فبين الحين والآخر، يتمّ الإعلان عن اكتشاف مرقد جديد هنا وهناك، تحت ذريعة أنّ أحدهم قد شاهد في أحد أحلامه أن هذا المكان دُفن فيه شخصاً مُقدّساً ينتمي إلى عائلةٍ مُقدّسةٍ عند طيف واسع من النّاس، وبالتّالي يكتسب المكان صفة القداسة بعد أن يتمّ بناؤه بشكلٍ جيّد، ويُصبح مزاراً للكثير من الوافدين، الذين يلتمسون بعضاً من تلك القداسة لقضاء حوائجهم.

وبيئيّاً، أيضاً ما زالت الإيكولوجيا قادرة على إنتاج المُقدّس، فما زلنا ونحن في هذه الألفيّة، نشهد من يُقدّس بعض الشّخصيّات، لا سيّما الطّبقة العُليا من رجال الدين بمختلف مشاربهم ودياناتهم، فنسمع (قداسة البابا) عند المسيحين و(قُدّس سرّه) و(طاب ثراه) وعند المسلمين.

ومما لا ينبغي إغفاله هنا، هو أنّنا لا نجد هذه التّصرّفات الدّينيّة المموّهة أو المختلفة في الدّيانات الصّغيرة أو الصّوفيّة فحسب، بل نتعرّف عليها كذلك في حركاتٍ تُعلن عن نفسها صراحةً بأنّها علمانيّة، بل وضدّ الدين. وهكذا نجد في مذهب العُري أو في الحركات من أجل حريّة الجنس المطلقة6.

***

علاء البغداديّ

كاتبٌ وباحثٌ من العراق

....................

1  - فالح مهدي: البحث عن جذور الإله الواحد، ص 223

2  - ثامر عبّاس: الجغرافيا الشِقاقيّة، ص 113

3  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 89

4  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 123

5  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 28

6  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 150

نعت الاوساط الاكاديمية والفلسفية في اوروبا يوم 9حزيران ٢٠٢٣ الفيلسوف الفرنسي آلان تورين Alain Touraine الذي توفي عن عمر قارب الثامنة والتسعين عاما.

ويعتبر تورين مع زميله الفرنسي ادغار موران (بلغ ١٠٠ سنة هذا العام) اكبر معمرين في الفلسفة المعاصرة اضافة الى الالماني اورغان هابرماس (٩٣ عاما) الذي اهتم بالمجال العام للدين.

تتقدم الفلسفة في القرن الحادي والعشرين تقدما بالموضوع وليس بالشخصيات الفلسفية. اذ تتوسع الميادين الفلسفية المعاصرة بتوأمة الفلسفة وعلم الاجتماع بعد توسع اهتمامات مدرسة فرانكفورت في الستينيات اذ اضافت لمجالها علم النفس خاصة في اهتمامات اريك فروم وهربرت ماركوزه اللذين اثرا في جيل الستينيات وفي الثورة الطلابية عام ١٩٦٨ في اوروبا.

اهتم تورين بمشكلات الحداثة (نقد الحداثة) والديمقراطية (ماهي الديمقراطية؟) ووسع الاهتمام بتطور المجتمع المعاصر ومواجهات الديمقراطية مع التطور الرأسمالي الليبرالي- البرجوازي وبروز دور منظمات المجتمع المدني مقابل السلطة، والصراع بين الفاعل الاجتماعي والفاعل السياسي. وصاغ تورين تطورا في مفهوم الثقافة الديمقراطية باعتبارها تنطلق من الايمان باستحالة عودة الديكتاتورية لمجتمع اصبح ديمقراطيا.

تؤكد افكار تورين على ان الديمقراطية ليست منجزا كاملا يتم تركيبه على جميع المجتمعات. فهناك تجارب متباينة. فالديمقراطية كما يقول: افضت اكثر فاكثر الى التنظيم المستقل لحياة سياسية، لا يمكن ان تتماهى مع الدولة ولا مع طلبات المستهلكين. ويستنتج مؤكدا: ان ذلك التنظيم المستقل، اضحى في الغالب على درجة من الاهمية جعل الحياة السياسية تبدو غريبة حيال مشكلات الدولة، على قدر غرابتها حيال طلبات المجتمع المدني.

كتب تورين هذا الاستنتاج عام ١٩٩٣ اي قبل ثلاثين عاما، الامر الذي نراه جليا وواضحا تحت تأثير تطورات شتى، خاصة مع بدايات القرن الحادي والعشرين منذ احداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر ٢٠٠١ والحرب على افغانستان والعراق تباعا وصولا الى جائحة كوفيد ١٩ والحرب في اوكرانيا، حيث تحولت الديمقراطية الى ممارسة مبدأ: كل من ليس معي فهو عدوي. في حالة انفصال بين الديمقراطية والفلسفة.

في ندوة في امريكا وجه مقدم الندوة سؤالا الى نيلسون مانديلا يكشف ورطة الديمقراطية فعليا ويحولها الى ايديولوجيا استفزازية.

كان السؤال: سيد مانديلا كيف يمكن لك ولجنوب افريقيا ان تتحالف مع ارهابيين مثل فيدل كاسترو ومعمر القذافي وشافيز وغيرهم؟ كان الرد قاسيا وواقعيا يكشف الادعاء بان الديمقراطية ليست سوى اداة تعريف لمصالح الغرب في العالم. اي ان الديمقراطية سلاح قمع وابتزاز الشعوب التي تختلف مصالحها عن مصالح دول الغرب.

اجاب مانديلا السائل: لماذا تفترض ان اعداءك يجب ان يكونوا بالضرورة اعداءنا؟

تكشف لنا الاحداث ذلك اكثر من الاوهام. ففي نموذج العراق مثلا، كان (الشرط) الاساسي هو الديمقراطية كتبرير للحرب. وبعد اربعة اشهر عليها حصلت على خريطة من اذاعي بريطاني لمحطات الراديو التي انشأوها في العراق. ولما سألته عن المسافة بين ناحية الشوملي التابعة لمحافظة بابل عن مركز محافظة بابل قال يمكن ان تكون خمسين كيلومترا قلت له انها تبعد اقل من عشرين كيلومترا فانزعج واعتبر قولي (تدخلا) في شؤون (بلده) وليس بلدي. كانت الخريطة تؤشر محطات الراديو التي انشأوها في محافظات الجنوب حيث كان مركز محافظة بابل ومركز محافظة كربلاء (اقل من اربعين كيلومترا بين المحافظتين) قد شهد تأسيس اربع او خمس محطات راديو في مركز كل محافظة، وفي الاقضية التابعة للمحافظتين اكثر من عشر محطات. وعينوا فيها مئات من الهواة الذين ليس لديهم ادنى فكرة عن وظيفة الاعلام، وكانت النتيجة هي زرع الفوضى والتهريج والشعور باستقلالية كل مدينة عن الاخرى باسم نظام فيدرالي ملفق دمر الشعور بالانتماء لبلد موحد.

درس تورين التجربة الايطالية للديمقراطية ولكنه لم يدرس بعد ذلك التجربة العراقية او تجارب ما اطلق عليه الربيع العربي ليتأكد ان الديمقراطية ليست سوى منتوج اوروبي يمنع تصديره او اعادة انتاجه في العالم. ولكنه يستخدم خارج الغرب الامريكي والاوروبي تسويغا للتقسيم وتأويلا للاستقلالية المنعزلة ولاشاعة الفوضى.

خلال نقاشات عديدة بعد غزو العراق مع كتّاب واكاديميين اوروبيين (بعضهم عمل مع امريكا وبريطانيا في العراق بعد ٢٠٠٣) كنت اسمع ردودا غاية في العنصرية والاستخفاف في اغلب الاحيان، تبدأ من (الايمان) بان الديمقراطية لاتصلح للعرب ولا لدول الشرق الاوسط وكأن دول الغرب قد ولدت ديمقراطية وورثتها عن طريق جينات الاجداد والاسلاف الذين اغرقوا اوروبا بالدماء عبر حروب دينية استمرت اربعمائة عام اجبرت المانيا المسيحية على السماح بتعدد الزوجات خلال الحروب الكاثوليكية - البروتستانتية بسبب النقص في الرجال الذين ابتلعتهم الحروب.

ولسوءالحظ فان اغلب منظري الديمقراطية لا يهتمون بمصيرها في دول خارج الاوروبية المركزية ويبقى علينا نحن سكان ومواطني تلك الدول بحث امكانيات وشروط (نقل) الديمقراطية (Democracy Transmission) التي انشغل بها عدد قليل من المنظرين ومنهم (لاري دايموند) الذي عمل مع القوات الامريكية في العراق بعد ٢٠٠٣ دون ان يقدم شيئا ملموسا.

يؤكد تورين على اهمية حماية الديمقراطية من اخطر اعدائها: وسواس القومية او العرقية او الدينية، والتخلي عن تراخي القوى الاقتصادية التي تتولى تكييف الاستهلاك العام. ويأخذ من تفكيك يوغسلافيا مثلا على ذلك، ويقول ان اختزال مجتمع وتحويله الى سوق واخضاعه للحلم التوحيدي والتجانسي للدولة امران متناقضان مع الديمقراطية. ذلك يعني اشاعة نظام الفيدراليات. ولكن لنرى كيف تم تطبيق هذا المبدأ في العراق الذي اصبح نموذجا تبعته ليبيا واليمن وسوريا والسودان, وربما تتبعه لبنان فيما بعد.

ان الدعوة الى اعتبار كل مجموعة، عرقية او طائفية او دينية او ثقافية او حتى مناطقية، بغض النظر عن حجمها او تأثيرها، فدرالية اصبح يتناقض مع الديمقراطية لانه على سبيل المثال، يعطل القوانين الوطنية والمركزية التي تتعلق بالوحدة الوطنية والدستورية لحقوق الانسان وحقوق المواطنة، والعدالة، ويعجز عن وقف تفشي الفساد وتحويله الى منظومة حكم وسلطة، ويضعف الى حد كبير فعالية الدستور. ويجعل حقوق الانسان عرضة للانتهاكات من قبل السلطات المحلية التي تنتهك الدستور ولا تسمح للسلطة الفدرالية التدخل كما يحدث في العراق الآن، الذي شهد في الاونة الاخيرة دعوة علنية وصريحة لاعلان تركمانستان الكبرى تمتد من مندلي شمال- شرقي بغداد الى سوريا مرورا بالحسكة، وستكون موازية لدعوة كردستان الكبرى من جنوب- شرقي بغداد الى سوريا.

ان اضعاف الدول المركزية باسم المبدأ الديمقراطي، الفدرالية، وتشكيل حكومات هشة وفق انتهازية مبدأ المحاصصة، يضعف الديمقراطية كثيرا. وقد اشار لذلك ايضا لاري ديموند (قبل تجربته الباهتة في العراق بعد ٢٠٠٣) مما جعل التناقض بين النظرية والتطبيق حالة لم تتفرد بها الانظمة الشيوعية في العالم، وانما واجهتها الديمقراطية في عدد من البلدان خارج اوروبا وامريكا.

يثير تورين مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية قائلا: لقد اثبت المجتمع السياسي، تحت اشكال مختلفة، في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، انه يأخذ شرعيته من نفسه ومن السيادة الشعبية لا من الله او من التقاليد او من عرق من الاعراق. لكن بلدانا مثل العراق، شهدت تدميرا للسيادة الشعبية (اقتصرت السيادة الشعبية على اجراء الانتخابات غير النزيهة) باحياء قوى غير ديمقراطية تتصف بالتنظيم البدائي كالعشيرة والطائفة والغيتوات الصغيرة في المناطق، مما يعني العودة الى دويلات المدن القديمة في بلاد الرافدين , الامر الذي يلغي الدولة القومية التي تمهد للتحول الديمقراطي على اساس المواطنة والمساواة، وكذلك العدالة التي ينبغي ان يستند عليها النظام الاجتماعي كما يؤكد توكفيل. وفيما يتعلق بالعدالة فان جون رولز اضاف صفة ديمقراطية واجتماعية اخرى هي الانصاف، فالعدالة تبقى مفهوما عاما قابلا للتأويل اذا لم تفض الى الانصاف. الانصاف الذي يحول العدالة من مراقب الى فاعل.

ان رحيل منظر ديمقراطي من طراز تورين اهتم كثيرا بالعلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين والفاعلين السياسيين في اطار الدولة، يجعلنا نتساءل في عصر تغلب فيه الفاعلون السياسيون على الفاعلين الاجتماعيين وزحفوا على مجالهم المدني، مما يسمح للدولة ان تعود قوة قهرية وتكف عن ان تكون مؤسسة رمزية للهوية، كما تكف عن ان تكون منظمة قانونية تشرف على فض النزاعات داخل فئات المجتمع؟

قال تورين بعد ام لا؟ يقوم تورين باستقصاء جملة من الأسئلة المتعلقة بالوقائع: ينبغي التساؤل بصيغ سياسية مباشرة اكثر فيما اذا كانت الافكار والقوى السياسية التي تستعين بالشعب ديمقراطية على الدوام، ويجيب: لقد كف استدعاء الشعب عن ان يكون ديمقراطيا، بل قام بمحاربة الديمقراطية كلما وضع الدولة، وهي الوكيل الطوعي للتغييرات التاريخية، فوق الفاعلين الاجتماعيين وعلاقاتهم. اي ان العقد الاجتماعي الذي يمثله الفاعلون الاجتماعيون كطرف ثان قد تعرض للإبطال والإلغاء، وهو الامر الذي يلوّح بمساندة النظام الديكتاتوري سواء من اليمين او اليسار بحجة طالما رددتها الانظمة المتسلطة (في الداخل) والانظمة الغربية الديمقراطية (في الخارج) هي عدم نضج مجتمعاتها او وجود تهديد خارجي او داخلي (خطاب الديكتاتورية في الداخل وخطاب دعم الديكتاتورية من الخارج).

في التقرير الذي اصدرته مجموعة مستقبل العراق الامريكية برئاسة السفير ايان كروكر الذي صدر عام ٢٠١٧ واشترك فيه عسكريون اميركيون عملوا في العراق ودبلوماسيون وعراقيون متعاونون مع المشروع الامريكي ومولته مؤسسة الحريري ترد مغالطات مقصودة لتضليل الرأي العام واقناعه بان ثمن الحرب كان مبررا وهو اقامة نظام ديمقراطي في. العراق.

كان من تلك المغالطات الشنيعة على سبيل المثال ان العراق يملك اقوى مجتمع مدني في منطقة الشرق الاوسط ولذلك ليست هناك مخاوف على الديمقراطية في العراق. بمثل هذا التقييم المضلل والكاذب يتم خداع الجميع. وحين سألت احد العراقيين المشاركين في التقرير عن قناعته بما ورد ابتسم بغباء وقال ان ذلك موجه للشعب الامريكي لتبرير الحرب.

في شهر حزيران عام ٢٠٠٣ خطب جورج بوش مؤكدا ان حدود العراق مفتوحة ليكون العراق ساحة مواجهة ضد الارهاب، وهكذا تم تحويل العراقيين الى درع واق للداخل الامريكي. ويبدو ان هذا هو مبرر وهدف رفع شعار الديمقراطية من قبل امريكا في بقاع العالم الاخرى. ما حدث بعد ذلك هو ان الديمقراطية اصبحت الدافع لخراب العالم.

ماحدث بعد ذلك هو ان أستخدام شعار الديمقراطية اصبح منطلقا لخراب العالم.

***

الدكتور نبيل ياسين

 

هربرت سبنسر(1820-1903) فيلسوف وعالم اجتماع بريطاني، من الراعين الأوائل لنظرية التطور، ركز جهده لإنتاج معرفة تركيبية متعددة الحقول، داعيا ألى أسبقية الفرد على المجتمع، والعلم على الدين. كتابه The synthetic philosophy(1896) كان عملا شاملا احتوى على مبادئ البايولوجي وعلم النفس والاخلاق وعلم الاجتماع. اشتهر سبنسر بعقيدته في الدارونية الجديدة التي بموجبها يمكن تطبيق مبادئ التطور بما فيها الاختيار الطبيعي على المجتمعات الانسانية والطبقات الاجتماعية والافراد بالاضافة الى الانواع البايولوجية. في أيام سبنسر جرى التركيز على الدعوة للدارونية الاجتماعية لتبرير عدم تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية وتقليل حجم الدولة الى أدنى حد اعتقادا بانه يعزز المنافسة الحرة بين الافراد ويقود الى تحسّن تدريجي للمجتمع من خلال (البقاء للأصلح) المصطلح الذي أدخله سبنسر ذاته.

"حريتي تنتهي حيثما تبدأ حريتك" هي نوع من الحقيقة البديهية التي يؤمن بها معظم الناس عند مناقشة السياسة ومهما كانت فكرة الحرية التي يؤمنون بها. انها ترتكز على "الوعي بالقيود التي يستلزمها وجود أشخاص آخرين لديهم مطالبات مماثلة" (مبادئ الاخلاق، الجزء الثاني، ص267)(1). هذا الوعي قاد هربرت سبنسر ليأتي بقانون الحرية المتساوية: "كل انسان هو حر للقيام بما يرغب، بشرط ان لا ينتهك الحرية المتساوية لأي انسان آخر" (جزء 2، ص272).

اذا كانت فكرة الحرية "المتساوية" اليوم مجرد كلام سهل لدى معظم الناس، فهي لدى سبنسر تشكل مطلبا أساسيا للاستمرار بفهم منافع التعاون الانساني الذي يمكن الحفاظ عليه "فقط بالإمتثال لمتطلبات معينة يفرضها ترابط الجماعة" (جزء 2، ص259).

وهكذا فان العدالة "هي أخلاق الحياة الاجتماعية". يؤكد سبنسر انها ترتكز على كل من اللامساواة والمساواة – وان الخطأ الكبير للتعريفات الاخرى للعدالة يكمن في الانحياز الى احد هذين المفهومين على حساب الاخر. ان حجة فريق "اللامساواة" تتجذر في قانون السلوك والعواقب law of conduct and consequence. هذا القانون "يُعبّر عنه في المبدأ بان كل فرد يجب ان ينال الخير او الشر الذي ينبثق من طبيعته الخاصة" وانه بالنسبة لسبنسر "القانون الاساسي الذي يحكم كل المخلوقات". ولذلك فان "كل فرد يجب ان يستلم المنافع والشرور حسب طبيعته وسلوكه اللاحق".

عندما "يختلف الناس في سلطاتهم، يجب ان تكون هناك اختلافات في نتائج سلوكهم. ذلك يشمل ضمنا كميات غير متساوية من المنافع". من المهم ملاحظة ان هذا ليس فقط حول المكافئات. صحيح، الناس (بمن فيهم رجال الأعمال) مؤهلون لثمار كدحهم. لكن هم يجب ان يدفعوا الثمن في حالة اتخاذهم اختيارات غير مدروسة. ان حجة المساواة تأتي مع قانون الحرية المتساوية. شعار "حرية متساوية" هو شيء مُلهم لكنه اليوم يخلق بعض الإلتباس. سبنسر لا يهدف لمساواة الظروف التي عاش بها الرجال والنساء، ولا ما يقومون به حقا في حريتهم. المساواة التي يتحدث عنها هي في تلك القيود المتبادلة. انها مساواة في الإكراه، وليس في الحرية، كل واحد منا يحتاج ليكون مقيّدا بشكل مشابه، لكي لا تتضاعف دون مبرر المشاجرات والإشكالات في ذلك المسعى المعقد من العيش المشترك. هنا تأتي فكرة المجتمع الحر كفضاء تُبرر فيه اللامساواة، ولكن تُخفف بمبدأ التعامل المتساوي في ظل القانون. بكلمة اخرى، اللامساواة تُبرر بمقدار ما تكون نتيجة لتفاعلات طوعية، وليست امتيازات تُوزع من جانب احد ما على حساب آخر. نظريات اخرى للعدالة جرى نقدها من جانب سبنسر لكونها لا تأخذ بالاعتبار كلا العنصرين. وبالذات، الرؤى القديمة للعدالة التي ركزت كثيرا على عنصر اللامساواة، فكانت منسجمة مع السياق الذي تأطرت به. هناك مفارقة تاريخية هي، بالنسبة لسبنسر، أكثر الأعداء غدرا للانسانية. نحن يمكننا إلحاق ضرر كبير عند تطبيق أفكار جرى تصورها في مجتمعات بسيطة مرتكزة على حجم صغير من تقسيم العمل وهياكل تنظيمية صارمة على عالم فيه تقسيم عمل معقد. ونفس الشيء بالنسبة للعائلة لايمكن ان تُحكم بقانون السلوك والعواقب. الأعضاء الشباب هم في نفس الوقت يستفادون بشكل غير تناسبي وتتم حمايتهم من أخطائهم. لكن تطبيق أخلاق العائلة على حكومة بلد سوف يعرضها للخطر.

"في عالم كعالمنا، حيث التعقيدية هي الكلمة الشائعة، يمكن قراءة سبنسر كقصة تحذيرية: انتبه بان التعقيدية هي فكرة هشة". العديد من النقاد رأوا هذا كبرهان على "دارونية" سبنسر الاجتماعية المملة، التي تجعل منه صورة كاريكاتورية للمفكر الذي يكشف الى أي مدى تكون الليبرالية الكلاسيكية باردة وصماء للحاجة والمعاناة. لكي ندرك لماذا لا يجب ان تُطبق أخلاق العائلة على جماعة أكبر، يجب على المرء ان يدرك ان البلد ليس عائلة. افتراض ان الحكومة يمكن ان تكون حارسا مرنا بنفس طريقة العائلة يعني افتراض انها يمكنها توزيع المكافئات والعقوبات مع معرفة تامة بالنتائج التي سوف تنتج عن ذلك. هذا ليس هو الموقف. كلما كان المجتمع أكثر تعقيدا، كلما كانت النتائج غير المقصودة اكثر انتشارا ودهشة.

هذه الحكاية التحذيرية منسجمة مع نظرية بانورامية أوسع تتأطر فيها جميع مساهمات سبنسر. هو كان باني – نظام، منشغل بمحاولة دائمة لتطوير "فلسفة جامعة"، نظرية شاملة تتعامل مع البايولوجي والسايكولوجي والسوسيولوجي والأخلاق. هو اعتقد انه حدد نمطا لتعقّب الكيفية التي تتطور بها المجتمعات. انها تتحرك، حسب سبنسر، من البسيط الى المعقد، من اللامختلف الى المتخصص، من الاكتفاء الذاتي الى المترابط بنيويا. انه مفكر طموح جدا أثار حماس معاصريه لكن، ربما لنفس الأسباب، كان أقل حظا مع الأجيال اللاحقة.

مبادئ الأخلاق هو عمل سبنسر النهائي والمتكامل في هذا الحقل. جزئه الرابع "العدالة" الى حد كبير هو إعادة صياغة لـ (الإحصاءات الاجتماعية، 1850)، والذي جاء فيه سبنسر لأول مرة بـ "قانون الحرية المتساوية".

أثناء حياته، أنتج سبنسر أربعة أعمال رئيسية في الفلسفة السياسية: المجال المناسب للحكومة (1842)، والاحصاءات الاجتماعية (1850)، والانسان مقابل الدولة (1884)، والعدالة الذي هو الجزء الرابع من مبادئ الاخلاق (1891). الاول كان يرتكز على رسائل الشاب سبنسر التي أرسلها الى اللاملتزمون The Non conformists- وهم جماعة مسيحية بروتستانتية لا تنتمي الى كنيسة انجلترا - رسمت الخطوط العريضة لليبرالية لوك (انظر جون لوك).

الاحصاءات الاجتماعية كانت محاولة اكثر طموحا. الكتاب كن موجها كتصحيح للفلسفة النفعية وكإعادة صياغة لمبادئ الليبرالية الكلاسيكية في تفكير مرتكز على "معنى أكثر منطقية مما سبقه". حاليا، يتم تذكّر ذلك العمل على أفضل وجه خاصة الفصلين اللذين يتعلق احدهما بقضية الارض والثاني بـ "حق تجاهل الدولة".

كل من الانسان مقابل الدولة، و "العدالة" اعتُبرا من جانب البعض كمحاولتين صعبتين من جانب سبنسر لإعادة صياغة أفكاره بطراز اكثر محافظة. هذا هو رأي هنري جورج الذي اتّهم سبنسر بالالتحاق بمراتب الكبار والأقوياء، وبذلك جعل فلسفته اكثر قبولا لهم.

 في سيرته الشخصية، يوضح سبنسر التالي:

1- في أول أعماله، الإحصاءات الاجتماعية، زعم ان سحب ملكية الاراضي من الناس هي غير عادلة، وانه يجب ان تكون هناك إعادة لها للدولة او للجماعة بعد دفع تعويض مناسب لمالكي الأراضي الحاليين.

 (السيرة الذاتية، 2، ص459).

في نفس الوقت هو ذاته يعترف بان هناك "محافظة مقارنة نسبيا للعصر القديم" (السيرة الذاتية، 2، 463). "في ما بدا شرا بالكامل اكتُشف فيه تحت السطح عناصر للخير، وما بدا مرة بلا نفع اكتُشف انه نافع بطريقة ما ان لم يكن ضروريا".

ومع نضج وجهة نظره، عزا سبنسر تلك التغيرات الى ما حصل له من "ملاحظة أوسع وتفكير أطول" (السيرة، 2، 464). هو ادّعى انه فهم بشكل أفضل ان "المؤسسات من أي نوع يجب اعتبارها نسبية لشخصية المواطنين وللظروف التي وُجدوا في ظلها، وان لا يتم الحكم على الظروف المسخرة لمصلحة هذه المؤسسات من خلال ملائمتها المطلقة وانما من خلال ملائمتها النسبية" (السيرة، 2، 465).

في عالم الشؤون الانسانية، يحدث التطور بين قطبين هما النموذج المثالي: "مجتمعات محاربة او متشددة" militant societies و"مجتمعات صناعية". النموذج الاول هو نموذج هيراركي يكون فيه التعاون الاجتماعي مفروضا بالقوة. هي مجتمعات من "المكانة"، بمعنى ان لا وجود هناك للحراك الاجتماعي وان نطاق العلاقات التعاقدية الطوعية يكون محدودا. النوع الثاني هو المضاد للاول: مجتمعات تعاون تتشكل فيها الترتيبات الاجتماعية من خلال العقود والتنظيمات. الاخلاق"المطلقة" بالنسبة لسبنسر، تعود لهذا النوع الأخير، وهو عالم متطور لحسن الحظ. الاخلاق "النسبية"يتم تكييفها لمجتمعات العالم الواقعي التي هي بالضرورة مزيج من النوعين المثاليين.

بينما كان سبنسر يأمل ان يزودنا بـ "تاريخ طبيعي للمجتمعات" واعترف بدور التشدد والحرب والخضوع لهيراركية صارمة في خلق تعاون على نطاق أوسع، هو تعاطف مع المجتمعات الصناعية حيث تنمو وتتقدم فيها المؤسسات الحرة. ورغم انه جعل افكاره متلائمة مع نظام أوسع، لكن بعض افكاره الاساسية لها تاريخ طويل في الليبرالية الكلاسيكية. المجتمعات "المتشددة" و "الصناعية" جاءت من قبل تحت العديد من الاسماء. هي تذكّرنا بحرية القدماء وبحرية الزمن الحديث، مع ان سبنسر كان لديه القليل من الحنين للاولى.

افكار سبنسر كانت مشبعة بالتفكير الاقتصادي، حيث يمكن لقرائه اكتشاف ذلك بسهولة. الحوافز لعبت دورا كبيرا فيه، وفي الحقيقة، تطور سبنسر هو في عدة جوانب كان نموا وتوسعا لتقسيم العمل. بمعنى ان المجتمعات "الصناعية" تتصف بالدور البارز الذي تلعبه الوسائل الاقتصادية، مقابل المجتمعات "المتشددة" التي يمكن النظر اليها كأماكن تُنجز فيها معظم الأهداف الاجتماعية بوسائل سياسية.

مع ذلك، يرى سبنسر ان التطور نحو المجتمعات الصناعية هو ايضا عملية تحضّر وتهذيب للمشاعر الانسانية. هو لم يحتقر شيئا اكثر من الامبريالية، فكرة إخضاع وهيمنة الدولة على الآخرين. هو اعتقد ان نظامه جلب كل من "الصرامة والرقة" وندم على "توجيه انتباه أكبر نحو الصرامة". معجم سبنسر الخاص الذي يبدأ بتمييز فيكتوري بين استحقاق الفقر وعدم الاستحقاق له، يصعب فهمه. هو لم يكن أعمى لشرور الفقر. حيث وصف رواية Mary Brton للكاتبة اليزابيث غاسكل بانها "عذّبت مشاعره"(2)، و اعتبرها " هامة جدا" لدرجة يجب على كل فرد قرائتها (السيرة، 1، ص350). هو فهم مشاعر اولئك الذين يسعون للتخفيف من شرور الحاجة، واعتبر ان هؤلاء الناس يمكنهم الازدهار فقط في المجتمع الصناعي، لأنهم سيتم اكتساحهم في ظل النظام المتشدد.

من المقلق بشكل خاص ان سبنسر لم يكن ابدا سعيدا بالنوايا الطيبة لذاتها. هو يكتب، مثلا:

"اذا كان واجب الإهتمام بالجرحى هو معترف به عموما، لكن هناك واجبا اضافيا نال اعترافا جزئيا اخيرا – وهو واجب اكتساب المعرفة والمهارة لأنها تجعل جهود المساعدة فعّالة. حتى الوقت الحالي، كان هناك 99% من الناس الذين يرغبون بمساعدة الجرحى لم يترافق عملهم مع قدرة منظّمة – وما هو أسوأ من ذلك انه ترافق مع جهل يقود الى تدخلات مزعجة. القلق من القيام بشيء ينتهي بالتسبب بأذى، لأنه لا يوجد هناك وعي كامل بحقيقة ان هناك عدة طرق للخطأ مقابل طريقة واحدة للصواب (2، ص443).

هذا يصح ليس فقط على الناس الكرماء حسني النية، وانما على الحكومة ذاتها. وهو درس نادرا ما يتم تعلّمه. دعوات التدخل دائما ما تقوم على نوايا حسنة وتؤكد على النتائج المقصودة، لكن نادرا ما يتم تقييم النتائج، وايضا لم يحصل توقّع لحدوث أضرار جانبية قد تقع حتى من جانب أفضل المخططين.

بالنسبة لإولئك الذين يبشّرون بحكومة كبيرة، سبنسر يعارض وصفة الحقوق الفردية – مع انه يدرك تماما مدى مرونة كلمة "حقوق". في كل من الاحصاءات الاجتماعية ومبادئ الاخلاق، اشتق سبنسر من قانون الحرية المتساوية تلك الحقوق التي تخلق مجتمعا حرا – من حرية الكلام لحرية التبادل والعقود. لا اختلاف عن عالمنا، حيث "الحقوق" هي من وقت الى آخر تتعدد بفعل قرارات سياسية، رأى سبنسر ان "الحقوق" كلمة ملتبسة، اراد ان يحررها من الارتباك السائد. هو أكّد ان "الحقوق ليست الاّ عدة أجزاء منفصلة من حرية الانسان العامة في متابعة أهدافه في الحياة". هي في الحقيقة مواصفات لقانون الحرية المتساوية، وليست نتاجا للرغبة السياسية.

جادل سبنسر ان "الحقوق السياسية" بما فيها حق التصويت، ليست حقوقا ابدا. "اولئك المواطنون المشتركون في السلطة السياسية كما هو حاصل في الدول الأكثر تقدما، والتي أظهرت التجربة انها ضمانة جيدة للحفاظ على الحياة والحرية والملكية، يتم الحديث عنها كما لو كانت المطالبة بها هي من نفس الطبيعة كالمطالبة بالحياة والحرية والملكية ذاتها. لكن، لا صلة هناك بين الاثنين". سبنسر ليس غافلا عن حقيقة ان درجة معينة من المشاركة السياسية في الامم الحديثة سارت جنبا الى جنب مع الترتيبات المؤسسية بشكل أقرب لحكومة محدودة من غيرها. لكن مثل هذه القدرة للمشاركة بسياسة البلد ليست "حرية" بحد ذاتها، هي في أفضل الاحوال، حكومة "تعطي المواطنين سلطة مراقبة الإنتهاكات لحقوقهم" (2، 343). هناك "حالات متطرفة" فيها "يستعمل الناس ما يسمى حقوقهم السياسية للتنازل عن سلطتهم في الحفاظ على حقوق الملكية "، مثلما عندما تفتح الانتخابات الحرة الباب للاوتوقراطية (سبنسر يستشهد بنابليون الثالث، مع ان الأمثلة الأكثر فظاعة لم تأت بعد)، لكن ايضا المشاكل المخففة، لدى الدول المحكومة ديمقراطيا تتزايد سطوتها على حياة الافراد. وهكذا فان، "ما يسمى الحقوق السياسية التي قد تُستعمل للحفاظ على الحريات، ربما تفشل في هذا وقد تُستعمل لتأسيس الاستبداد". في (الانسان مقابل الدولة)، الكتاب الذي يتم تذكّره كثيرا، يتعامل مطولا مع ما يمكن ان تنتجه الديمقراطية من أخطار للحرية، خاصة بمقدار ما تصبح الليبرالية ايديولوجية للديمقراطية، أي، بمقدار ما يُعتبر أي خيار جمعي شرعيا فقط لأنه نشأ من رغبة الأغلبية القانونية.

في (المبادئ)، كانت لسبنسر صفحات لا تُنسى حول المسألة، والتي تتنبأ بالعالم الذي نعيش فيه.

عزل المساعدات والمساهمات في المجال العام يراها سبنسر فكرة سيئة."لو ان كل مواطن يدفع بشكل مرئي وملموس من حصته من الضرائب، فان مجموع المبلغ الكلي سيكون كبيرا جدا لدرجة ان الجميع سيصر على الترشيد في آداء الوظائف الضرورية وسوف يقاومون الوظائف اللاضرورية، بينما في الوقت الحاضر، تُعطى لكل مواطن مساعدات معينة هو غير واعي بدفعها له، فيميل للإسراف ويُحفز لإختيار طريق غير نزيه بعلمه او دون علمه للحصول على المساعدات على حساب الآخرين.(2، ص354).

سبنسر لم يتقن الكلمات عندما قال ليس فقط "الضرائب بدون تمثيل هي سرقة" وانما "التمثيل بدون ضرائب يتضمن سرقة" ايضا. عند التفكير بعمالقة الليبراليين يميل الناس للاعتقاد انهم اما جون ستيوارت مل او الكسيس دو توكفيل. مشكلة استبداد الأكثرية كانت واضحة للكثير. لكن تطورية سبنسر تضيف فهما معقدا لما نسميه اليوم علم النفس الاجتماعي.

الناس دائما ما يميلون للبحث عن أسباب مرئية، وإصلاحات مرئية مهما كانت المشاكل الاجتماعية الناجمة. جزء كبير من عمل سبنسر كان يؤكد بان هذا ليس هو الموقف، وان المؤسسات عادة هي طرف مستفيد خارجيا (3) لم يصممها احد وان المركب العضوي للمجتمع لم يُخطط او يُصمم.

كل من المشرّع والمواطن بالمتوسط "ليس لديهم إيمان بالعمل المفيد للقوى الاجتماعية، بالرغم من التوضيحات اللامتناهية لهذا العمل المفيد. هو يستمر في التفكير بالمجتمع كمصنع وليس كنمو غافلا عن حقيقة ان التنظيم المعقد والواسع الذي تستمر به حياة المجتمع، نتج عن التعاون التلقائي لاناس يتابعون أهدافهم الخاصة. مع ذلك، عندما هو يسأل كيف تمت تسوية سطح الارض وجُعلت خصبة، كيف نمت المدن، كيف نشأت المصانع بمختلف أنواعها، كيف تطورت الفنون، كيف تراكمت المعرفة، كيف اُنتج الادب، هو اُجبر للاعتراف بحقيقة ان لا شيء من هذه ذو أصل حكومي، وانما العديد منها عانى من عرقلة الحكومة، لكنه متجاهلا كل هذا، هو يفترض انه لو اُريد للخير ان يُنجز، او الشر ان يُمنع، فلابد من الركون للبرلمان (2، ص378)".

لو كان سبنسر معنا اليوم لاشك سيندهش بمدى التقدم الاقتصادي والاجتماعي، بما فيه القبول المتنامي للسلوك الشاذ للفرد. لكنه ايضا سوف يُصاب بالخيبة من الكيفية التي لازال بها التفكير السياسي يميل ويعترف بالمجتمعات القديمة والصغيرة ويشعر باليأس من الكيفية التي نستمر فيها بالبحث عن اصلاحات اسطورية للشرور الاجتماعية، بصرف النظر عن التعقيدية العلمية التي نعيش فيها اليوم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) هربرت سبنسر، مبادئ الاخلاق. Liberty fund Books

(2) رواية ماري بارتون للكاتبة الانجليزية اليزابيث غاسكل نُشرت عام 1848، تتناول الصعوبات التي كانت تواجهها الطبقة العاملة في العصر الفيكتوري. تدور أحداث الرواية في مدينة مانشستر البريطانية. انها قصة عائلة من الطبقة العاملة انحدرت نحو اليأس اثناء الركود الاقتصادي لعام 1839. تصف الكاتبة الأحياء القذرة والفقيرة في المدينة وتتحدث عن مستويات البطالة المرتفعة آنذاك وعدم الاهتمام بمطالب النقابات مما قاد الى اتساع الفقر وتعميق اليأس وظهور كراهية طبقية مريرة أيقظت الضمير الوطني.

(3) المنافع الخارجية الإيجابية positive externality في الاقتصاد هي المنافع التي يستلمها طرف معين كنتيجة غير مباشرة لعمل طرف آخر دون اتفاق ودون دفع أي تعويض، كما عندما نتلقّى تعليما نحصل منه على منافع خاصة لكن هناك ايضا منافع تنساب منه لبقية المجتمع، حيث يمكن تعليم اشخاص آخرين سينتفعون من ذلك التعليم، او عندما نذهب الى مقر العمل مشيا على الأقدام، حيث سنخفف من الزحام والتلوث فيستفيد كل شخص في المدينة. بالطبع هناك منافع سلبية تعمل عكس الاولى، فيها يحقق طرف منفعة له على حساب طرف آخر، كما في حالة صاحب المصنع الذي يلقي النفايات الكيمياوية في النهر فيسبب ضررا لمربي الأسماك في المنطقة المجاورة.

 

بقلم: دانيال كالكوت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

جادل برنارد ويليامز* بأن أخلاقيات الفرد تتشكل من خلال الثقافة والتاريخ.لكن ليس معنى هذا أن الجميع على حق.

يمكن أن يلهم السفر والتاريخ شعورًا بالنسبية الأخلاقية، كما حدث مع المؤرخ والرحالة اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد. ما الذي ينبغي للمرء أن يفهمه من حقيقة أن ما يعتبر زنا، على سبيل المثال، يختلف في جميع أنحاء العالم؟ في كتابها «الشهوة في الترجمة» (2007)، تؤرخ الكاتبة المعاصرة باميلا دروكيرمان كيف تختلف قواعد الخيانة الزوجية «من طوكيو إلى تينيسي». قد يكون من المغري أن نستنتج أن الإجابة الصحيحة على الأسئلة الأخلاقية يتم تسويتها في نهاية المطاف من خلال التقاليد، ربما مثل مسائل الآداب مثل كيفية تناول طعامك. بالنسبة لهيرودوت، قاده الاعتراف بالاختلاف الثقافي إلى الإعلان، مرددًا كلمات الشاعر اليوناني بيندار، أن "العادات هي ملك للجميع".

أظهر الفيلسوف البريطاني الشهير برنارد ويليامز، الذي كتب في السبعينيات، أن الطريقة الشائعة للدفاع عن النسبية الأخلاقية مشوشة ومتناقضة. ومع ذلك، استمر في الدفاع عن وجهة نظر فلسفية عالمية تضمنت بعضًا من الأفكار الأساسية للنسبية. هناك الكثير لنتعلمه، عندما نفكر في الحروب الثقافية المستمرة على القيم الأخلاقية، من المواجهات مع النسبية التي تتكرر في جميع أنحاء عمل ويليامز. ومع ذلك، فمن المفيد أولاً أن نفهم لماذا تؤدي السمة السائدة في الحروب الثقافية، وهي الجدل حول الكلمات التي يجب استخدامها، إلى جدال حول النسبية.

خذ بعين الاعتبار المشهد التالي الذي لا يُنسى في رواية سالي روني** "محادثات مع الأصدقاء" (2017). ترفض الشخصية الرئيسية، فرانسيس، التي تنام مع بوبي، إصرار صديقها فيليب على أنها "صديقتك" في المفردات الأساسية. وكانت فرانسيس محقة في مقاومة محاولة فيليب وضع تسمية مألوفة على الأشياء: فهي تحاول أن تعيش في عالم الطريقة التي لا توجد كلمات بعد. إنها تحاول أن تعيش بطريقة لا توجد كلمات لها بعد. في مكان آخر من الكتاب، لا تتساءل فرانسيس عن كلمة "زوجين" فحسب، بل حتى عن مصطلح "العلاقة" لتصوير حياتها مع بوبي. إذا لم تكن متأكدة من كيفية وصف وضعها المعقد، فذلك يرجع جزئيًا إلى أنه لا يتناسب بسهولة مع شبكات الفكر التقليدي. إنها تريد، باستخدام صورة لجيمس جويس، أن «تطير عبر» شباك اللغة.

الكلمات التي يستخدمها مجتمعك، كما تدرك فرانسيس تمامًا، تشكل الذات التي يمكنك أن تصبح عليها. اللغة محملة بالتوقعات الأخلاقية. إذا وافقت على أنك في "زوج" مع شخص ما، على سبيل المثال، فإن ذلك عادةً (وإن لم يكن دائمًا) يحمل في طياته توقعًا بأنك لن تكون في السرير مع أي شخص آخر. يمكن تحدي هذا المعيار، وقد تم تحديه من قبل أولئك الذين لديهم علاقات مفتوحة. ومع ذلك، إذا كنت تحاول العيش بطريقة جديدة، ولا تتناسب مع الفئات المعتادة، فمن المحتمل أنه سيتم إساءة فهمك وحرمانك من الاعتراف الاجتماعي. ومع ذلك، كما جادلت الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر في كتابها التراجع عن النوع (2004)، ، هناك مواقف يكون فيها من الأفضل أن تكون غير مفهوم بدلاً من أن تجبر نفسك على الدخول في قائمة الخيارات الاجتماعية الحالية.

إذا كانت اللغة اليومية يمكن أن تكون قمعية في بعض الأحيان، فربما يرجع ذلك إلى أنها وصفية وتقييمية لا محالة: فهي تخبرك ليس فقط كيف هي الأشياء، ولكن كيف ينبغي أن تكون. إذا كنت "صديقة" لشخص ما، على سبيل المثال، فإن عددًا كبيرًا من المعتقدات يتم تفعيلها حول كيفية السلوك. ولهذا السبب تشعر فرانسيس بالقلق الشديد بشأن قبول التسمية.

ولعل المثال الأوضح لكيفية أن تكون اللغة وصفية ومحملة بالقيمة في نفس الوقت هو ما أصبح الفلاسفة يطلقون عليه المفاهيم الأخلاقية السميكة. فكر في كلمات مثل "ودود" و"لئيم" و"عدواني" و"وقح" و"غير صبور" و"وحشي" وما إلى ذلك، ولاحظ كيف تقيم هذه المصطلحات السلوك بشكل إيجابي أو سلبي في نفس الوقت الذي تصفه فيه . تتم تسمية المفاهيم الأخلاقية السميكة على النقيض من المفاهيم الأخلاقية الرقيقة مثل "الحق" و"يجب" و"ينبغي". هذه المصطلحات شديدة التجريد تكاد تكون تقييمية بحتة ولا يبدو أنها تصف أي إجراءات محددة. وبدلاً من ذلك، كما عبرت عنها الفيلسوفة الأمريكية كريستين كورسجارد في كتابها مصادر المعيارية (1996)، فإنها تبدو مثل تلك النجوم الذهبية المستخدمة في المدرسة والتي يمكن لصقها على أي شيء.

إن الحروب الثقافية التي تدور رحاها حول مسائل أخلاقية مثيرة للجدل هي، في جزء منها، معارك ينبغي أن تنتصر فيها المفاهيم المحملة أخلاقيا داخل المجتمع. هل ينبغي تصور الحياة الجنسية بمصطلحات مرتبطة بالنقاء الجنسي وضبط النفس («القداسة» و«العفة» وما إلى ذلك) أو من حيث التعبير الجنسي عن الذات والتجريب («التحرر» و«الاشتباك» وما إلى ذلك)؟ وهذا يوضح حقيقة أن الكلمات والمفاهيم الأخلاقية ليست مجرد أفكار مجردة: بل هي نتاج وتعبير عن طرق مختلفة للحياة. ومن هذا المنطلق، فإن الكثافة السياسية المحيطة بما يُستهان به أحيانًا على أنه "جدال حول الكلمات" تبدو منطقية تمامًا. الحروب الثقافية هي حروب مفاهيمية حول أفضل طريقة للعيش.

نحن جميعًا نستخدم المفاهيم الأخلاقية بالمعنى الواسع الذي قدمته. الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستطيعون العيش بدون قيم لا يفكرون فيما يعنيه ذلك حقًا. ولكن إذا قمنا جميعًا بتقييم تجربتنا حتمًا، فإننا لا نفعل ذلك جميعًا بنفس الطريقة. في تدوينة صوتية حديثة حول الدروس المستفادة من الإمبراطورية الرومانية، أكد المؤرخ توم هولاند على التناقض الدراماتيكي بين الأعراف الجنسية في روما القديمة وتلك الموجودة في الغرب الحديث. وهذا مجرد مثال واحد، وربما مألوف بالفعل، على الحقيقة الشائعة المتمثلة في أن المعايير الأخلاقية تختلف عبر الثقافات، وكذلك داخلها. علاوة على ذلك، فحتى المفاهيم الأخلاقية المشتركة بشكل سطحي يمكن فهمها بطرق مختلفة للغاية. فكر في كيفية إظهار الاحترام في إيماءة الرأس: يمكن أن يرمز إلى الاحترام كشكل من أشكال الاعتراف المتبادل، أو يرمز إالى الاحترام بوصفه احتراما لقوة الشخص الآخر المتفوقة.

نسميها الشوكة المناهضة للإنسانية: النسبية أم الدين؟

وبالتالي فإن حقيقة التنوع الأخلاقي تثير مسألة النسبية الأخلاقية. وقد أصبح هذا أيضاً جزءاً من الحروب الثقافية، خاصة وأن هذه المناقشات دارت رحاها في الولايات المتحدة. تعتمد العديد من التقاليد الأخلاقية على فكرة وجود قيم عالمية، ربما تكون متجذرة في الطبيعة البشرية. ربما تكون أنت نفسك قد نشأت على فكرة عالمية مفادها أن هناك أخلاقًا حقيقية واحدة تنطبق على الجميع في كل مكان. ولكن إذا كان العيش بطرق أخلاقية مختلفة للحياة أمر طبيعي بالنسبة للبشر، فإن هذا يشجع فكرة أن البشر يخلقون عوالم أخلاقية متعددة، وأن الحقيقة الأخلاقية مرتبطة بالعالم المعني. الحقيقة الأخلاقية، مثل الحقيقة المتعلقة بآداب السلوك، تختلف ببساطة من مكان إلى آخر. حتى الآن، الأمر سيء للغاية بالنسبة للعالمية.

عندما تظهر المعارك حول النسبية الأخلاقية في الحروب الثقافية، فإنها تميل إلى أن يتم تأطيرها على النحو التالي. يحتفل أحد جوانب الحجة بالتنوع الثقافي والجمع بينه وبين التركيز على طبيعة القيم المبنية اجتماعيًا. إنه منظور مرتبط بما بعد الحداثة، وبسياسات الهوية، ورفض التقاليد العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الوجهة "النسبية" على ما يبدو هي بالضبط ما يثير قلق المحافظين الأخلاقيين. ومن هنا يأتي الجانب الآخر من الحروب الثقافية: إذا لم يكن هناك معيار إنساني مشترك يمكن أن ترتكز عليه العالمية الأخلاقية، فعندئذ ستكون هناك حاجة إلى شيء يتجاوز الإنسان. وهذا جانب الحروب الثقافية المرتبطة بضرورة العودة إلى الدين، والرد الأخلاقي الرجعي على التنوع الاجتماعي.

أصبحت هذه المناقشات حول مصادر الأخلاق جزءًا من الثقافة السائدة. إن المدرسة الإنسانية العلمانية القديمة، التي تواجه صعوبة العثور على أساس عالمي لأخلاق محورها الإنسان، تواجه معضلة: إما اختيار أخلاقيات تتمحور حول الثقافة، أو العودة إلى أخلاقيات تتمحور حول الله. نسميها الشوكة المناهضة للإنسانية: النسبية أم الدين؟ صرح روان ويليامز، رئيس أساقفة كانتربري السابق في المملكة المتحدة، مؤخراً في مجلة نيو ستيتسمان أن " عالم الإنسانية المعاصر من المرجح أن يكون مدافعا أكثر حماسة عن التنوع الثقافي من أسلافه". لكن ما لم يتطرق إليه هو المفارقة التالية: أن الاعتراف الصحيح بالتنوع الأخلاقي قد أدى إلى تقويض الشمولية التي تقوم عليها الإنسانية عادة.

من المهم أن نلاحظ أن تنوع المعتقدات لا يستلزم في حد ذاته النسبية. ففي نهاية المطاف، كان لدى الثقافات المختلفة معتقدات مختلفة حول شكل الأرض. فهل يترتب على ذلك أنه لا توجد حقيقة غير نسبية للأمر، وأن كل ما يمكننا قوله هو أن الأرض مستديرة حقًا بالنسبة لحضارة ما، ومسطحة حقًا بالنسبة لحضارة أخرى؟ إذا قال صديقك أن الأرض مسطحة، فربما تظهر له الصورة المعروفة باسم "الرخام الأزرق"، والتي تم التقاطها عندما كان طاقم أبولو 17 في طريقه إلى القمر في عام 1972. إذا كنت ثريًا وبذخًا بما فيه الكفاية، فيمكنك حجز رحلة إلى الفضاء لهم. ومع ذلك من غير المرجح أن "تتحول إلى النسبية".

ومع ذلك، فإن كونك غير نسبي فيما يتعلق بشكل الأرض لا يتطلب منك أن تكون غير نسبي في كل شيء. وتظل النسبية الأخلاقية خيارا. كما رأينا بالفعل، إذا قمت بدمج فكرة أن البشر يبنون الواقع الأخلاقي مع الادعاء بأن كيفية بناء البشر للواقع الأخلاقي تختلف بين الثقافات، يصبح من الصعب تجنب النسبية الأخلاقية. في الواقع، أولئك الذين يسارعون إلى الانتقال من ملاحظة تنوع المعتقدات الأخلاقية إلى اعتناق النسبية الأخلاقية ربما يميلون بالفعل إلى الاعتقاد بأن الأخلاق هي بناء ثقافي في حين أن شكل الأرض ليس كذلك. ينجذب آخرون إلى النسبية بشأن الأخلاق لأنهم يعتقدون أنها وجهة نظر أكثر حكمة وتسامحًا. وكما قد يقول أحدهم: "إن لهم طريقهم، ولنا طريقنا، وهذا كل ما يمكن أن يقال".

جادل برنارد ويليامز (ليس له علاقة بروان) بشكل واضح ضد ما أسماه “النسبية المبتذلة” في كتابه الأول، الأخلاق (1972). وباعتباره شخصية بارزة في فلسفة اللغة الإنجليزية، قام لاحقًا بنشر مصطلح "المفاهيم السميكة" الذي قدمته سابقًا (كان أول من استخدم المصطلح في المطبوعات عام 1985). كان لدى ويليامز إحساس عميق بالتنوع الثقافي والتاريخي للحياة الأخلاقية. لكنه أدرك أيضًا أن الطريقة النموذجية التي تم بها تصور النسبية الأخلاقية لدعم التسامح، وخاصة من قبل بعض علماء الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت، كانت غير متماسكة بشكل أساسي.

ربما تكون الحرب هي الحل، على الأقل بالنسبة لمجتمع عنيف.

يقول ويليامز إن النسبي المبتذل يعتقد أن ما إذا كان شيء ما «صحيحًا من الناحية الأخلاقية» يعني «مناسبًا لمجتمع معين». ونتيجة لهذا، فلكي نناقش ما إذا كان ممارسة الجنس مع شركاء متعددين أمراً صحيحاً من الناحية الأخلاقية، يتعين علينا أولاً أن نسأل: هذا الحق لمن؟ لا توجد إجابة عالمية: سوف يكون تعدد الزوجات مسموحاً به، بل ويحتفل به، في بعض الأوقات والأماكن، ويُدان أخلاقياً في أوقات أخرى. هذه هي البصيرة التي من المفترض أن تؤدي إلى نظرة متسامحة. والواقع أن النسبي المبتذل، كما وصفه ويليامز، يرى أنه بسبب ارتباط الأخلاق بأسلوب حياة، "فمن الخطأ أن يدين الناس في مجتمع ما قيم مجتمع آخر، أو يتدخلوا فيها، وما إلى ذلك".

إن مشكلة النسبية المبتذلة، كما يتابع ويليامز، هي في وضع مبدأ التسامح. إذا كان من الصواب أن نكون متسامحين، وكان "الحق" نسبيًا، فعلينا أن نسأل: الحق لمن؟ ففي نهاية المطاف، إذا كان المجتمع المحارب العدواني يناقش ما إذا كان ينبغي له أن يتدخل في شؤون جيرانه، فإن الإجابة وفقاً لقيمه قد تكون حاسمة: "نعم، ينبغي لنا أن نتدخل". ولعل الحرب هي الحل، على الأقل بالنسبة لمجتمع عنيف. النقطة المهمة، كما يوضح ويليامز، هي أنه لا يمكنك أن تقول بشكل متماسك أن كل الحقيقة الأخلاقية مرتبطة بثقافة ما وتتبنى قاعدة أخلاقية غير نسبية مفادها أن جميع الثقافات يجب أن تحترم بعضها البعض. يطرح النسبي المبتذل التسامح كمبدأ أخلاقي عالمي، لكن هذا يتعارض تمامًا مع النسبية الأخلاقية نفسها.

خلص ويليامز إلى أن النسبية المبتذلة «سخيفة»، لكن هذا يمكن أن يعطي انطباعًا مضللًا: فقد أخذ على محمل الجد العديد من الأفكار التي تقوم عليها النسبية الأخلاقية. في الواقع، فهو يتفق مع النسبي الأخلاقي على أن الواقع الأخلاقي هو بناء إنساني، ومثل النسبوي، يؤكد على تنوع وجهات النظر الأخلاقية. ترى بعض التقاليد الأخلاقية والدينية أن الواقع الأخلاقي موضوعي وعالمي مثل الحقائق المتعلقة بشكل الأرض. من المؤكد أن ويليامز لم يعتقد ذلك وذهب إلى حد وصف موقفه الأخلاقي بأنه "غير موضوعي".

ربما يكون احترام ويليامز لدوافع النسبية الأخلاقية أكثر وضوحًا في المقطع التالي من كتابه الذي صدر في منتصف القرن "الأخلاق وحدود الفلسفة" (1985):

إذا كنت واعيًا بعدم الموضوعية، ألا ينبغي أن يؤثر ذلك بشكل صحيح على الطريقة التي ترى بها تطبيق أو مدى نظرتك الأخلاقية؟ … إذا أصبحنا واعين بالتنوع الأخلاقي وأنواع التفسير التي قد يتلقاها، فمن غير المعقول أن يترك هذا الوعي كل شيء حيث كان ولا يؤثر على فكرنا الأخلاقي نفسه. يمكننا أن نستمر، بلا شك، في القول ببساطة إننا على حق وأن الجميع على خطأ (أي، من وجهة نظر غير موضوعية، تأكيد قيمنا ورفض قيمهم)، ولكن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من التفكير، فإنه يبدو استجابة غير كافية بشكل ملحوظ.

جادل ويليامز من أجل الاعتراف المناسب بالموقع الثقافي والتاريخي لأخلاق الفرد، والجمع بين هذا وبين إحساس ذكي عندما يكون الحكم الأخلاقي منطقيًا ومتى لا يكون كذلك. وهذا ما جعله يقترب من روح النسبية، بل إنه في الواقع اعتنق ما أسماه "نسبية المسافة".

الخطر في الإحساس الحاد بالتاريخ هو أنه يمكن أن ينتهي بك الأمر محاصرًا في فقاعة نسبية.

إن الاعتقاد الكامن في قلب نظرية ويليامز "نسبية المسافة " هو أنه من غير الحكمة تأكيد حقيقة النظرة الأخلاقية للمرء عبر كامل تاريخ البشرية. كان سيدعم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، لكنه في الوقت نفسه شكك في قيمة وحكمة تطبيقه عقليا على الثقافات المحاربة منذ آلاف السنين. وحث ويليامز على عدم وجود حاجة إلى "تعهد نسبي بالصمت بشأن الماضي"، ولكن من ناحية أخرى، "التعليقات حوله ليست إلزامية أيضًا".

كتب ويليامز في مجلة نيويورك ريفيو في عام 1998، معربا بشكل لا يُنسى عن هذه الأفكار والمشاعر:

هل يجب أن أفكر في نفسي وكأنني أزور في الحكم كل مفاصل التاريخ؟ بالطبع، يمكن للمرء أن يتخيل نفسه مثل كانط في بلاط الملك آرثر، وهو يرفض مظالمه، ولكن ما هي السيطرة التي يؤثر بها هذا على الفكر الأخلاقي لدى المرء؟

اعتقد إيمانويل كانط، الفيلسوف الأخلاقي في القرن الثامن عشر، أن الجميع يعرفون نفس القانون الأخلاقي العام، لذلك كان من المفهوم دائمًا اللجوء إلى وجوده. في أغلب الأحيان، يعتقد ويليامز أن ما يشكل الحس الأخلاقي محدود ثقافيا. عندما ننظر إلى الداخل، فإن ما نجده ليس القانون الأخلاقي، بل هويتنا التي تشكلت تاريخيًا.

الخطر في الإحساس الحاد بالتاريخ هو أنه يمكن أن ينتهي بك الأمر محاصرًا في فقاعة النسبية. ولكن إذا كان ويليامز قد شارك فهم النسبويين لطبيعة الحياة الأخلاقية المتأصلة ثقافيًا، فقد أراد أيضًا أن يُدخل إلى الفلسفة الأخلاقية نوعا من الأدوات النقدية التي تعني أنه ليس عليك قبول أسوأ ما يرتبط بالنسبية الأخلاقية: إما أن "كل شيء مباح"، أو أن المجتمعات لا تستطيع تقدير وتقييم بعضها البعض، أو أنه يجب عليك قبول الوضع الراهن في مجتمعك.

احتفل عمل ويليامز العظيم المتأخر "الحقيقة والصدق" (2002) بالفضائل المرتبطة بالسعي وراء الحقيقة. لا توجد أخلاق موضوعية وعالمية، وفقًا لوليامز، لكن الفلسفة الأخلاقية لا يزال بإمكانها الاعتماد على حقيقة أن بعض الحقائق، مثل شكل الكوكب، موضوعية وعالمية. إذا كانت النظرة الأخلاقية تعتمد على الأكاذيب الصارخة، فيمكن تقويضها بكشف الحقيقة. لرفض ادعاءات إنكار تغير المناخ، على سبيل المثال، لا يتعين عليك مناقشة ما إذا كانت هناك حقيقة موضوعية حول الأخلاق. ويكفي أن نعرف أن هناك حقيقة موضوعية حول تأثيرات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وما حدث لدرجات الحرارة العالمية السنوية منذ الثورة الصناعية، وما إلى ذلك.

لم يكن لدى ويليامز سوى القليل من الوقت للفكرة المرتبطة بما بعد الحداثة، والتي تقول إن الواقع كله عبارة عن بناء ثقافي. لقد أعاد البشر تشكيل الأرض بشكل كبير، لكنهم لم يخلقوا الكوكب الذي يعيشون عليه. يتم بناء الواقع الأخلاقي من خلال التفاعل مع "عالم مادي موجود بالفعل" وليس منتجًا ثقافيًا. لقد تشاجر في مناسبات عديدة مع الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، الذي أصبح في العقود الأخيرة من القرن العشرين رمزًا ثقافيًا لما بعد الحداثة في الأكاديمية. في الواقع، عندما كنت طالب دكتوراه في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور، تحدثت إلى رورتي حول التناقض بين أفكاره وأفكار ويليامز. "نعم،" قال رورتي، وجهة نظر ويليامز تتوافق أكثر مع الفطرة السليمة ولكن، كما استنتج رورتي بشكل لا يُنسى، "أريد تغيير المنطق السليم!"

ومع ذلك، مثل رورتي، أكد ويليامز على الطبيعة الثقافية للحياة الأخلاقية. متأثرًا بمفكر القرن التاسع عشر فريدريك نيتشه، أصبح ويليامز مهتمًا بشكل خاص بعلم الأنساب المفاهيمي كطريقة في الفلسفة.ما يعنيه هذا باختصار هو أنه يمكنك تتبع أصل وتطور أي مفهوم أو فكرة -على سبيل المثال، الحرية- لمعرفة ما إذا كان السرد الناتج يشجع استخدام هذا المفهوم أو ينفيه.

يساعدك تاريخ المفهوم على فهم ما إذا كنت تريد أن تكون جزءًا من القبيلة المفاهيمية التي تستخدمه.

فكر في هذا فيما يتعلق بمناقشات الحروب الثقافية حول الحب والجنس. لن يرغب الجميع في تجنب المفاهيم التقليدية المرتبطة بالرومانسية، كما هو الحال مع شخصية فرانسيس التي يلعبها روني. لكن علم الأنساب المفاهيمي يدعوك إلى التفكير في تاريخ كلمة أو مصطلح مثل "صديقة" وتحديد ما إذا كنت تريد الاستمرار في استخدامه. يمكنك أن تستنتج، كما قال أوسكار وايلد عام 1895 عن التجديف، "إنها ليست كلمة من كلامي".

العديد من الأفكار المرتبطة بالحب، وخاصة الزواج، لم يكن لها تاريخيا علاقة تذكر بالرومانسية. وكما يوضح كتاب ستيفاني كونتز "الزواج: تاريخ" (2005)، فإن "معظم المجتمعات في جميع أنحاء العالم ترى أن الزواج مؤسسة اقتصادية وسياسية حيوية للغاية" بحيث لا يمكن أن يرتكز على الحب.هذه فكرة أحدث بكثير. إن فهم تاريخ المفهوم يساعدك على فهم ما إذا كنت تريد أن تكون جزءًا من أسلوب الحياة - الذي يطلق عليه القبيلة المفاهيمية - الذي يستخدمه. وفي بعض الأحيان، ينطوي الانضمام إلى مؤسسة ما على تعديل مفاهيمها نحو الأفضل، كما هو الحال في زواج المثليين والسحاقيات.

يمكن أن يكون الصدق حافزًا، خاصة عندما يركز على إساءة استخدام السلطة. اعتمد ويليامز على تقاليد الفلسفة المعروفة باسم النظرية النقدية، والتي تؤكد على فحص وانتقاد الهياكل الاجتماعية. يكتب:

[إذا] عرف المرء أن السبب الوحيد الذي يجعل المرء يقبل بعض الادعاءات الأخلاقية هو أن قوة شخص ما هي التي أدت إلى قبولها [ومن] من مصلحته أن يقبلها [عندئذ] لن يكون لدى المرء أي سبب للاستمرار في قبولها.

يمكن القول إن إحدى صفات ويليامز الأكثر إثارة للإعجاب والأكثر ديمومة كانت رغبته في إفساح المجال الفلسفي للحقائق غير المريحة والوضوح المثير للدهشة في قول الحقيقة للسلطة.

جادل ويليامز بأن جميع المجتمعات البشرية بحاجة إلى مفاهيم أساسية تتعلق بالدقة والإخلاص: وهي السمات التي تتحد لتشكل فضيلة الصدق. أدخل هذا عنصرًا من العالمية في نظرته للعالم. ومع ذلك، في حين أن الحاجة إلى الأصالة عالمية، فقد أوضح ويليامز مرة أخرى أن الثقافات المختلفة كانت وستقوم على أساس احتياجات مختلفة. وينهي كتاب "الحقيقة والصدق" على أمل أن تستمر "الأشكال الأكثر شجاعة وعنادًا وفعالية اجتماعيًا" من الفضائل المرتبطة بالحقيقة.

من العدل أن نقول، رغم غرابته، أن دفاع ويليامز عن الحقيقة والصدق كان مهمة غير عصرية في العلوم الإنسانية في ذلك الوقت. لقد كان صاحب بصيرة، وكتب في نهاية حياته وفي مطلع الألفية، عن الأشكال المختلفة لإنكار الحقيقة التي ستظهر (أو تعاود الظهور) في القرن الحادي والعشرين. فكر في كيف أن عصر الإنترنت، الذي رأى بدايته فقط، قد يجعل إنكار المحرقة أمرًا شائعًا مرة أخرى. في الواقع، في مقطع تمت مشاركته الآن على نطاق واسع عبر الإنترنت، كتب عن كيف أن الإنترنت "يسهل على أعداد كبيرة من المتطرفين المعزولين سابقًا العثور على بعضهم البعض والتحدث فيما بينهم فقط".

يجب أن يتخذ النقد الأخلاقي في كثير من الأحيان شكل نشر الحقيقة الواضحة على نطاق واسع. ولكن ماذا لو تحولت بعض الحجج في نهاية المطاف إلى خلافات حول القيم؟ ولعل الخلاف الدائر حول تغير المناخ، على سبيل المثال، أعمق كثيراً من أن تتمكن المعرفة العلمية ذات الصلة من علاجه. يقول ويليامز القليل عن الحجة العقلانية حول القيم نفسها، والتي ربما تكون محدودة بنظرته للعالم التي بموجبها "لا تعترف المبادئ بأي مبرر نهائي" (على حد تعبير كورسجارد). أعرب ويليامز أيضًا عن شكوكه الدنيوية حول ما يمكن توقع تحقيقه من الحجج الأخلاقية. كتب: «ماذا سيفعل تبرير البروفيسور عندما يكسرون الباب، ويحطمون نظارته، ويأخذونه بعيدًا؟»

لم يعتقد قط أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه الآن.

أظهر عمل ويليامز التوتر الذي شوهد في الحروب الثقافية الأكبر على القيم: بين الرغبة في الاعتراف بالشرور التي تبدو عالمية ولا يمكن إنكارها، والرغبة في ترك إرث العالمية وراءنا. على سبيل المثال، في فصل من كتاب بعنوان "حقوق الإنسان والنسبية"، أشار إلى أن هناك بعض الأخطاء الأخلاقية الأساسية للغاية التي يعترف بها جميع الناس تقريبًا، على الرغم من أنه رفض بشدة في مكان آخر من عمله فكرة وجود قانون أخلاقي عالمي.

ولنقارن نظرته مع وجهة نظر الفيلسوف الأخلاقي ديريك بارفيت، زميله منذ فترة طويلة في أكسفورد. كان بارفيت يعتقد حقًا أن الحقائق الأخلاقية موضوعية وعالمية مثل الحقائق المتعلقة بشكل الأرض، وبحث عن الحجج الأخلاقية التي من شأنها إقناع الجميع. في المقابل، جادل ويليامز في كتابه «العار والضرورة» (1993) بأنه من المنطقي أكثر السعي وراء «الصدق الاجتماعي والسياسي» بدلاً من «الميتافيزيقا العقلانية للأخلاق».إذا كان لدى ويليامز القليل من الوقت لدراسة ما بعد الحداثة عند رورتي بشكل عام، فهو أيضًا لم يشارك أمل بارفيت (المرتبط الآن بحركة الإيثار الفعال) في أن تتحول دراسة الأخلاق إلى علم الأخلاق، والذي سيتم تطبيقه بعد ذلك لحل مشاكل العالم.

الصدق، وعلم الأنساب المفاهيمي، والدراسة الأخلاقية المقارنة: هذه المكونات تعطي فلسفة ويليامز للقيمة قوتها الحاسمة. لا تزال هناك موارد كثيرة للنقد الأخلاقي والسياسي بعد أن تنبثق الفلسفة الأخلاقية بالكامل مما أسماه ويليامز "ظل الكونية".- أو هكذا ما حاول إظهاره. كان هدفه هو التمسك بالتمييز المهم بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، في حين جادل بأن معايير ما يجب أن يكون هي في نهاية المطاف إبداعات ثقافية. ويشبه موقفه في هذا الصدد وجهة النظر القائلة بأن البشر يخلقون معايير لما يشكل الفن الجيد والسيئ بدلاً من اكتشاف حقائق مستقلة عن العقل وخالدة حول الجمال.

لم يعتقد ويليامز قط أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه الآن. ومع ذلك، فهو يقدم وجهة نظر حول كيف يمكن للفلسفة، فيما يتعلق بالتخصصات الأخرى مثل التاريخ، تقديم النقد والدعم للتوجه الأخلاقي للفرد في العالم. وفي تعامله مع النسبية الأخلاقية، فهو لا يشير فقط إلى أرضية وسطى بين معاصريه ريتشارد رورتي وديريك بارفيت. ويعطي مثالاً لكيفية اجتياز الحروب الثقافية.

***

.........................

المؤلف: دانيال كالكوت/ Daniel Callcut كاتب مستقل وفيلسوف. وهو زميل سابق في SIAS في كلية الحقوق بجامعة ييل. قام بالتدريس ونشر مجموعة واسعة من المواضيع بما في ذلك فلسفة الحب، وطبيعة القيمة، وأخلاقيات الإعلام، وفلسفة الطب النفسي. وهو محرر كتاب: قراءة برنارد ويليامز (2008). يعيش في لينكولنشاير، المملكة المتحدة.

الهوامش:

* برنارد آرثر أوين ويليامز، فيلسوف، ولد في 21 سبتمبر 1929؛ توفي في 10 يونيو 2003.

** سالي روني (من مواليد 20 فبراير 1991) مؤلفة روائية وكاتبة سيناريو أيرلندية. صدرت لها ثلاث روايات: "محادثات مع الأصدقاء" (2017)، "أناس عاديون" (2018)، و"عالم جميل، أين أنت" (2021). حظيت أعمال روني بإشادة من النقاد ونجاحًا تجاريًا، وتُعتبر واحدة من أبرز كتاب الألفية. صنفتها مجلة تايم ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم لعام 2022.

رابط المقال المترجم:

https://aeon.co/essays/bernard-williams-moral-relativism-and-the-culture-wars

بوصفي باحثة سوسيولوجية مهتمة بالانتقالات الثقافية من المتخيل الى الرقمي، فان أزمة اللغة في هذه الانتقالة هي جزء من مجال بحثي في سوسيولوجيا المعرفة.

 منذ الاف السنين واجه البشرية تحدياً كبيرا بسبب عدم قدرة الأفراد على التواصل بوضوح عبر الانقسامات الثقافية واللغوية. وعدم أمكانية وصول المعلومات بلغة ما إلى متحدث آخر، مما أدى إلى سوء فهم متبادل.

إن "أبراج بابل" كتاب لامع مادامت بابل تعتلي عنوانه، وهذا دفعني لقراءته. إذ يرى كاتبه أن نقص التواصل رمز للنقص البشري، وعقوبة مريرة على الغطرسة البشرية، حيث يقتفي الفرنسي جاك دريدا (1935 – 2004) في كتابه "أبراج بابل" أثر الترجمة وفلسفتها وفقه الكلمة وأبعادها الدلالية، وكيف تنفتح على عوالم بذاتها، سواء كانت على صعيد اسم علم أو على صعيد المعاني التي ترمز إليها، ويقارب طروحات عدد من المفكرين إزاء الترجمة، تلك التي تكون ضمن اللغة نفسها أو من لغة أخرى، ويكون في انفتاح الدلالة على فضاءات بعينها إضفاء للسحر والغموض على الاسم وما وراءه، أو ما يستبطنه ويرمز إليه.

يبحر دريدا في سبر أغوار الترجمة، ويقارب الأوصاف التي تنسب إليها أو تلصق بها، كالخيانة أو الحرية أو الإبداع أو التأويل، ويتحدث عن أفعال موازية لها، وأخلاقيات أو قيم مصاحبة أو منتزعة، ويتساءل كيف نترجم نصا مكتوبا بعدة لغات في الوقت نفسه؟ كيف نتمكن من نقل تأثير التعددية؟ وإذا ترجمنا بعدة لغات في الوقت نفسه، هل يمكن اعتبار ذلك ترجمة؟

لا يعنى دريدا كثيرا بتفكيك ما ورد في الكتاب المقدس عن قصة بابل، التي تقول إن الناس في مدينة بابل شرعوا في بناء برج ليصل بهم إلى السماء تحديا، وما ساعدهم على ذلك استخدامهم للغة واحدة سمحت لهم بالتواصل الجيد مع بعضهم والاستمرار في بناء البرج، ولكن المشيئة الإلهية وضعت حدا لهذا البرج، وغرور أصحابه، من خلال خلط لغتهم المشتركة. وعندئذ أدى سوء الفهم إلى اختلافهم وتوقف العمل بالبرج، وتشتت الناس وتفرقوا جماعات، وتداعى برج بابل.

دريدا شخصية مهمة في مجال النظرية الأدبية والفلسفية، وكان لعمله تأثير عميق على فهمنا للغة والتفسير والترجمة. تحدى نهج دريدا في اللغة والتفسير المعارضات الثنائية التقليدية وسعى إلى الكشف عن عدم الاستقرار المتأصل وتعقيد المعنى في سياق الترجمة، يؤكد عمل دريدا على عدة أبعاد رئيسية:

البعد الأول: تفكيك التعارضات الثنائية. يتضمن أسلوب دريدا التفكيكي التشكيك في التعارضات الثنائية وزعزعة استقرارها، مثل الأصل/الترجمة، والحضور/الغياب، والداخل/الخارج. وهذا له آثار على كيفية فهمنا للعلاقة بين النص الأصلي وترجمته.

البعد الثاني: مسرحية الاختلاف. قدم دريدا مفهوم "الاختلاف"، الذي يشير إلى أن المعنى مؤجل دائمًا ولا يكون حاضرًا بشكل كامل أبدًا. تتحدى هذه الفكرة فكرة المعنى الثابت والمستقر في الترجمة وتعترف بلعب الاختلافات بين اللغات.

البعد الثالث: تعدد التأويلات. رأى دريدا أن النصوص لها معاني وتفسيرات متعددة، وهذا التعدد يمتد إلى فعل الترجمة. المترجمون، بحسب دريدا، ينخرطون في عملية إبداعية وتفسيرية تتجاوز مجرد نقل المعنى من لغة إلى أخرى.

البعد الرابع: التتبع والتكرار يسلط مفهوم دريدا عن "الأثر" الضوء على العلامات المتبقية التي خلفتها اللغة وفكرة أن النصوص قابلة للتكرار، مما يعني أنه يمكن تكرارها وإعادة تفسيرها ويؤثر هذا المنظور على كيفية تعاملنا مع النصوص المترجمة، مع الاعتراف بآثار كل من اللغة المصدر واللغة الهدف.

البعد الخامس: أخلاقيات الترجمة كان دريدا مهتمًا بالأبعاد الأخلاقية للترجمة، وشكك في فكرة الترجمة المحايدة أو الشفافة، مسلطًا الضوء على المسؤولية الأخلاقية للمترجمين واحتمال سوء الفهم، وسوء التفسير، ولعب ديناميكيات القوة في عملية الترجمة.

وقد ألهمت أفكار دريدا العلماء في مختلف التخصصات، بما في ذلك دراسات الترجمة، لإعادة التفكير في الافتراضات التقليدية حول اللغة والمعنى و شجع عمله على فهم أكثر ديناميكية للترجمة باعتبارها عملية تفسيرية معقدة تشكلها عوامل لغوية وثقافية وسياقية.

واليوم يعد الذكاء الأصطناعي فرصة لانتقالة قوية في سياق الترجمة، مما قد يسمح لمزيد من الأشخاص بالتواصل بسهولة أكبر مع بعضهم بعضاً، خلال التسعينيات حاول الباحثون أبتكار برامج ترجمة لغوية قائمة على القواعد، الا ان هذه الجهود فشلت لأن فروق اللغة ولطائفها لايختزلان الى قواعد بسيطة، لكن هذا تغير بعض الشيء عندما بدأ المطورون في عام 2015 في تطبيق الشبكات العصبية العميقة على المشكلة، مما أدى الى قفزات في الترجمة الألية، ومثال على ذلك عندما بدأت غوغل Google Translate في استخدام شبكات عصبية عميقة ثم تدريبها بأستخدام ذخيرة موازية، تحسن أداؤها بنسبة 60%، وبعد هذا التقدم في ترجمة اللغة جزء من سياسات دولية، لكن تبقى القدرة على ترجمة النصوص وتصنيف الصور هي أمر واحد، لكن القدرة على توليد وأنشاء نصوص وصور وأصوات جديدة هو أمر أخر، فأنظمة الذكاء الأصطناعي تتفوق في تحديد الحلول وترجمة جيدة بما يكفي لأستخدامها، وفي الوقت نفسه هناك تقنية قادرة على أن تخلق النصوص والصور من خلال مايسمى شبكة المولدات وتطبيقها على التشفير والكتابة.

تبرز برامج الذكاء الاصطناعي كرموز للوعد والتحدي، وتحثنا على التفكير في التطور المستمر للغة وأنتقالها المعقد بين الخيال والرقمي، وكما كانت أبراج بابل ترمز ذات يوم إلى التطلعات الإنسانية وعواقب الغطرسة، فإن أبراج الذكاء الاصطناعي تدعونا إلى استكشاف حدود الإمكانيات اللغوية والاعتبارات الأخلاقية المتضمنة في سعينا للتواصل في هذا المشهد سريع التغير.

***

د. فاطمة الثابت

 

يبدو لي أن تساؤل الشاعر الفيلسوف إيليا أبو ماضي: "وكيف يشعر بالجمال مَن لا جمال في روحه؟!"(١) يَمْتح من مَعين أن الواقع امتداد لما تتردّد أصداؤه في دهاليز مداركنا، هذا الامتداد لا تتمايز فيه مفردات الواقع خيرِها وشرها - مع استحضار نسبية كلٍّ منهما - سِلمها وحربها، رخائها وبؤسها، نعيمها وجحيمها، فالأشياء كما يعبّر عنها الفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس في تأمّلاته قبل زُهاء ألفي عام: "لا يمكنها أن تمس العقل: إنها خارجية وخاملة، والاضطرابات لا تأتي إلا من رأيك الداخلي"(٢) ويسهب في موضع آخر عن اللفتة نفسها: "لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا، فالأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام ونطبعها في عقولنا، وإنّ بوسعنا ألّا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادَف انطباعُه"(٣).

ولعل المشكلات نظرةً وتعاطيًا مثال واضح لمدى تأثر الأحداث التي نواجهها بمفاهيمنا التي ننسجها حولها وموقفنا إزاءها، خصوصا أن المشكلات أبرز مكوّنات واقعنا، سالكين عند نشوئها - الكَرّة بعد الكرة - مناحي شتّى.

من العبث بمكان تطويق طرائق الناس في كيفية نظرتهم للمشكلات، والتي تاليا تُملي عليهم كيفية التعاطي معها؛ الأمر الذي يعني أن العلاج الناجع لأي مشكلة ينطلق من مدى وجاهة نظرتنا لها، ولكن دعونا نطرح ثلاثة اتجاهات رئيسة تمثل جمهورا واسعا، ويندرج تحت كنفها تفرّعات عدة.

الاتجاه الأول: يرى في المشكلة نهاية أفق وفاجعة محتومة لا مناص منها، وأن العجز عن تغيير الأقدار هو حتمي لا محالة، يتفاوت بين انكسار ينهش حيوية صاحبه إلى جحيم يمزّقه كل ممزّق.

هذه النظرة السوداوية فضلا عن أنها لا تخدم طريق التعاطي مع المشكلات في شيء فهي تسدُّ أي كُوّة عساها ينفذ منها ولو بصيص نور على استحياء، كما أن يديها ملطّخة بتضخيم توافه المشكلات وتمطيط قصيرها ليمكث أكثر من عمرها الافتراضي بكثير، ومع تتابع نزيف جراحات صاحبها مع تقادم الأيام، جرّاء ما طوّحت به طوائحُ الزمن، ينهار لاحقا من قشة واحدة تذروها الريح، لكنها كانت كفيلة بقصم ظهر البعير؛ بمقتضى قانون التراكم.

ومن المفارقات أننا نَصِمُ غيرنا بضيق الأفق وعدم نضوج الوعي حين يمارس هذه السوداوية، لكننا نركن بالكليّة إليها حين نخلو مع مشكلاتنا نحن، وكأنّ سوداويتنا نحن طاهرة مبرّأة، وسوداوية غيرنا خطيئة منكرة.

الاتجاه الثاني: يعمد إلى صبغ نظرته عن المشكلات بروح اغتسلت في (المدينة الفاضلة) لأفلاطون - وهي ليست كذلك، ولهذه المسألة مبحث آخر ليس محلّه هنا - حيث عالم المثالية والأحلام والسلام، وإضفاء طابعِ الوردية، لكنها لا تربطها بالواقع المعيش آصرة، فيتعامل وكأنّ شيئا لم يكن، ويمكن القول إنها محاولة لتخدير الإدراك؛ خشية استفزاز عش الدبابير واجتراح مناطق من شأنها أن تسحبنا إلى دوّامة من الصداع الذي لا يُطاق.

هذه الحالة من غيبوبة الإدراك المتعمّدة تتوسّل نبيذ التصور الوردي لمشكلاتنا لدرجة أن تكون المشكلة وأي حدث سارّ آخر في كفة واحدة من حيث الماهيّة، والتنكّر لما تثيره من مشاعر الأسى والخيبة، مع استحضار مكثّف لمفاهيم مبتورة ورُؤى مشوّهة عن الرضا والقناعة والخيريّة.

هروبٌ مُقنَّعٌ وطبطبةٌ باهتة بمُثُل عليا، ولم يكن الهروب عن مواجهة مخاوفنا يوما ما مستأصلًا جذور ما نشكوه بل رافد يغذّيه وينميه، تماما كخطورة الانسياق التام لهيمنة المشكلات.

إذن قلب الحقائق لا يبدّل سماتِها، فادّعاء أن جذع شجرة مقطوع ما هو إلا عمود من المرمر لن يحيله كذلك، ولو تسالمت عليه الناس قاطبة، فالمشكلات تبقى مشكلات، وما يصاحبها من مشاعر وخسائر هي كذلك على الحقيقة، وما التصورات التي تعيش حالةً من النكران أو تتغافل عن ذلك إلا زوايا نستروِح إليها، ونرجو - عبثًا - أن نظل في غفوة الأحلام، ولا نفتح أعيننا على وجع الواقع.

الاتجاه الثالث: يقرّ بالمشكلة من حيث حقيقة ماهيتها المؤلمة والشاقة، وما يصاحبها من اصطدام مع تطلّعاتنا، غير أن ما يميز هذا الاتجاه عن الاتجاه الأول هو عدم الرضوخ لما تمليه المشكلة علينا، وإنما محاولة جادة لاستثمارها وَلَيّ عنقها خدمةً لمآربنا، وتفتيشًا عمّا يحمل رحِمها من أجنّة فرص؛ ومن هنا تتحوّل المحنة إلى منحة، والعرَجُ العقيم إلى معراج قويم، الذي ما كان ليكون لولا ما سبقه من اختلال، فالفرَج وليدُ القَرْح، يذكرنا ذلك بمقولة جلال الدين الرومي: "إن الجراح هي النافذة التي يدخل منها النور إليك" فهذا الاتجاه إذْ يرى المشكلة جَعبةً من الفرص لا يعني بحال إلغاء أحاسيس الغضب والألم، ولجم عويل القنوط والخيبة، بل غاية ما يبغيه هو ألا تحُول تلك المشاعر بينه وبين أن يجعل المشكلة درجا يرتقي عليه لينال الهبات التي ترشح عنها.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنه قمينٌ بنا لنا ألّا نفهم الجعلية الإلهية في قوله سبحانه: "فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا" [النساء:١٩] بصورة منبتّة عن إرادتنا البشرية، بل لا بد أن يكون فهمها متساوقا وقوله عز شأنه: "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ" [الرعد:١١] فهذه الجعلية الإلهية يمكن تعقّلها عبر إنفاذ تصورّنا الذاتي بتوجيه ما يقع علينا مما نكرهه، وهنا يكون تصوّرنا الذاتي فاعلا في دَور استخراج الخيرية من المكاره لا مجرّد ذات منفعلة منزوع عنها هذا الدور المحوري.

وفي هذا السياق يطرح (Ryan Holiday) في كتابه: (The Obstacle is The Way) سؤالا عميقا (بترجمتي): "هل يمكن أن نرى كيف بإمكان المشكلة أن تكون فرصة لحلٍ كنّا بانتظاره زمنا طويلا؟"(٤).

ليس ثمّة أحد بمنأى عن المشكلات، لكن تصوّرنا عن كيفية مواجهتها، وتصرّفنا وفق ذلك هو ما يحدد ما تؤول إليه، ففريق يغصّ بها، وآخر ينكرها حتى يصل إلى نقطة الانهيار، وأما غيرهم فتمنحه فرصة لا تُقدّر بثمن.

فمن الوعي - والحال هكذا - أن نتحمّل مسؤوليتنا في ذلك، ونفتش في أقبائها عن الفرص المخبوءة، ونتصالح مع قابلية الخسارة، ونترك مساحة معقولة للمشاعر السلبية المصاحبة للمشكلات؛ حتى لا تتراكم فتنفجر في الزمان والمكان الخطأ، وما يفوق قدرتنا فنحن في حِلٍ من لوم أنفسنا عليه.

ونحن إذ نعرّج على ذلك لا يفوتنا أن نشير إلى فن ياباني يعكس ثقافة واعية في هذا الخصوص، وهو (Wabi-sabi Art) حيث يتم إعادة ترميم القطع المتكسرة من الإناء الخزفي بصمغ الذهب، لتذكرنا بأن تلك الندوب التي أحدثتها المشكلات إنما هي مسارات مكتظة بالنور أضاءت لنا جوانب ما كانت لترى النور لولاها.

***

محمـــد سيـــف - كاتب عُماني

....................

الهوامش:

(١) يوميات إيليا أبو ماضي، جمع د. عفيف نايف حاطوم، ص٥١، دار صادر/بيروت، ط١/ ٢٠١٢م.

(٢) ماركوس أوريليوس، التأملات، ص٧١، رؤية للنشر والتوزيع، ط١/ ٢٠١٠

(٣) م.ن، ص٢٢٧

(٤)Ryan Holiday, The Obstacle Is The Way, Profile Books LTD, 2015, P: 120

يُنقل أن الشيخ محمود مجتهد الشبستري يردد هذه العبارة:" ما دمت مع الناس فالحذر الحذر.. عليك بحفظ المعرفة بعبارات الشريعة." يفهم من هذه العبارة تأكيده على عدم الغفلة عن السياقات التي تقدم بها المعرفة، ولا سيَّما الناقدة منها فلا ينبغي تجاوزها للضرر الذي تلحقه، ولكن من جهة ثانية لا يحق للإنسان أن يشل عقله ويتعامل مع ما موجود في (تراثه الدينيّ) من موقع الإهمال وعدم المبالاة في التحليل المكثف، فيعيش الانتماءات القهريّة والتحيزات والإرضاءات غير المسوغة، مع مراعاة حجم الهوة الفاصلة بين الآمال والإمكانات(1).

إن غياب ثقافة النقد العلمي وشجاعته والتنشئة عليه يولد معسكرات من الخوف تطوق الإنسان وتمنعه من وعي الذات والآخر، فتجعله خائفًا من ذاته والاعتراف بأخطائه، فيعيش الخوف من الحرية والاصحار عن الرأي، والخوف من الخرافة والوهم، والخوف من العجز والتمايز والاختلاف، وو. حتى ليتحول أعجز الناس أكثرهم حكمة! إن التأليه (للزعامات أو العصور أو التراث) الذي عرفته مجتمعاتنا الدينية جاء بعضه نتيجة النقص في الشجاعة وضعف الإرادة في زحزحة هذا التأليه واختبار قدرته على الوفاء بوعوده وعهوده. إن نصوص التوحش والبغاء تولد حشودًا من المستبدين، ولا سيَّما عندما تقف أمام تراث مقنع يقول لك نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر يكتشفه الشجعان الأذكياء.

"تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثل نسخة مكرّرة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظامًا ذهنيًا، يتجلى في نمط تفكير أحادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معوّقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق والتهرب من أي مسؤولية، إنها نفسية العبيد، أبرز سماتها الشعور بالدونية والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورًا لشخص آخر في حياته، لا يعبر فيه عن شخصيته، ولا يمثل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، وإنما يعيش على غرار ما يريده المستبد (السياسي أو الديني)، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع(2)."

يتوهم بعضهم عندما يعتقد أن حركة الفكر والنقد وإعادة النظر في التراث الديني تشكل خطرًا على الإيمان والتوازن النفسي للمجتمعات. فالتضييق على الفكر والنقد هو من يشكل تهديدًا للإيمان كما صرخ اسبينوزا يومًا. نعم التأمل الحر يولد تهديدًا لسلامة المؤسسات الدينية والمنتفعين منها فقط، بعد أن تطوق نفسها برؤية تعتقد أنها المستقيمة والحقانية وتمنع الخروج عليها أو القراءة خارجها. عندها يمكن أن تصور لك شهية القمع والتدمير والتوحش أو الخيانة أو البربرية على انها شرف وبسالة وفتوحات إيمانية فتنجلي المفارقة التي تختبر إنسانيتك نفيًا أو إثباتًا.

فماذا يفعل الباحث عندما يقدم له تاريخه الدينيّ أحد الرموز (بوصفه خطًا أحمرًا) بعد أن قتل عشرات الآلاف من المستضعفين (نذرًا لله).. هذا ما أخبرنا به ابن كثير في معركة معروفة له قال فيها هذا القائد:" اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدًا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجًا يساقون سوقًا، وقد وكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة..3"

هنا لا بد أن يدرك أنه أمام تاريخ ديني ينبغي قتله بحثًا، لإحياء الحياة في النافع منه مرة أخرى، وإثراءه ولو إثراءً أوليًا أو بدائيًا، لجعله مستساغًا وقابلًا للبقاء والديمومة التي تستوعب المفارقات التي يعيشها الإنسان.

إن الشعوب الحالمة أو المستلبة هي من تجتر تراثها وتلوكه وتقبله كما هو باسم قيم دينية سطحية لم تتم البرهنة عليها بما يكفي، وإن خالفت الضمير الإنساني اليقظ. والأخطر من ذلك أنها تعتقد أن ما تعيد إنتاجه أو تعيشه هو بحث علمي، ورهان نافع، لأنه تراث ناجز ونهائي ومتعال.

ولا يفهم من كلامي هذا أنها دعوة إلى القطيعة التامة مع التراث والماضي، بل هي دعوة إلى تغذية التدين المعرفي بالنقد الجذري والسؤال المساهم، لفتح آفاق خصبة ومستنيرة، ولا مانع من حاجتنا اليوم إلى "علم المستقبلات، ولكنه خاص بنا، علم يبشر بالأمل ويحفز على العمل. نحن بحاجة إلى أن نعيش مستقبلنا في حاضرنا ومتكئين على ماضينا- بعد تحقيبه وغربلته-، ولكن لا كمجرد حلم نهضوي مهلهل قابل للتفكك والتبخر تحت أي صدمة أو كابوس، بل كحلم فلسفي عنيد، حلم يُصرُّ على تحويل التاريخ، تاريخنا نحن إلى عقل يسود ويحكم، وتحويل العقل، عقلنا نحن إلى تاريخ يتحرك ويصير(4)."

كل ذلك هو الأصل والأساس ولكن من غير المنطقي القفز والتعالي على ظاهرة التنازلات أو الارضاءات التي يقدمها بعض العلماء تحت عنوان المداراة، نتيجة لمختلف الضغوط الاجتماعية والسياسية والنفسية وو. ولذلك لا بد لنا أن نستوعب هؤلاء ونتفهم مواقفهم وندرك قناعاتهم ونحللها بناءً على هذه المؤثرات، فكلنا يومًا ما سيقدم تنازلات مختلفة وبدوافع شتى، يبقى الاعتبار في نوع هذه الارضاءات وطبيعتها ومقدار تعارضها مع إنسانيتنا وما نؤمن به. وبخطوة أكثر جراءة أجد من حقوق الإنسان (المفكر وغيره) أن يغفر له في حال تناقضه عند بعض المواقف والقرارات، للاعتبارات التي أشرت إليها، والقرآن الكريم يلمح لهذا المعنى، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا). أما شواهد المدارة فغير قليلة، فلا تكاد تجد نبيًا أو قديسًا أو مفكرًا لم يقدم بعض الارضاءات، ألم يضطر بعض آباء الكنيسة إلى تقديم بعض التنازلات، كي يتمكنوا من التوفيق بين الفكر الإغريقي والفكر اليهودي(5)، تحت ضغوط مختلفة ؟ ألم يقدم الأنبياء بعض التنازلات لاعتبارات المجتمع ونوع التلقي في الخطاب الإلهي؟ فمن الشجاعة أن يعترف الإنسان بوجود هذه الترضيات الضمنية، وهي الضمان من الوقوع في فخ التعبئة، لأنّها نابعة من وعي بطبيعة الموقف وشجاعة الاعتراف. وهذا ما دفع مفكر بحجم محمد أركون وشجاعته إلى الإقرار بأن دراساته تموضعت في داخل الفكر الإسلامي، وأذعن بأن هذا التموضع استوجب منه" بعض الترضيات الضمنية، وهذا ما قاله في معرض رده على بعض الاعتراضات التي قيلت تعقيبًا على إلقائه لبحث " العجيب الخلاب في القرآن" إذ حدّد إحدى مهام مشروعه الفكري في مكافحة الاستخدام الأيديولوجي للدين، يقول: " أبذل جهودًا عديدة لمكافحة الاستخدامات الأيديولوجية المحتدمة اليوم في البلدان الإسلامية، وأقصد بذلك الاستخدام الأيديولوجي للإسلام كدين.. وإن كل دراستي التحليلية وكل جهودي تهدف إلى شق الطريق وتأمين شروط إمكان وجود فكر إسلامي نقدي وحر. وأقصد بذلك الفكر الذي يطارد كل الاستخدامات الأيديولوجية داخل الفكر الديني الذي يريد أن يكون حرًا ومنفتحًا. والآن ربما لم أكن قد نجحت تمامًا في مهمتي هذه، لأني أعرف بسبب ممارستي لعلم الألسنيات أنه ليس هناك خطاب بريء. بالطبع يمكن استخدام بعض الترضيات الضمنية مما أقوله وأكتبه، ولكني مستعد لإخلائها من أجل التوصل إلى الهدف الأساسي الذي أبتغيه: أي تحرير الفكر الإسلامي وتحرير الإسلام بصفته دينًا من الاستخدامات الأيديولوجية التي تعرض لها في الماضي، والتي هي ملتهبة الآن كما تعرفون في البلدان الإسلامية(6)." إن هذا النص يكشف لك عن شجاعة أركون في اعترافه بالترضيات، وهي نابعة من انخراطه في رهانات مجتمعه الذي ولد فيه. ولكن هذه الترضيات لا تمنع من التأسيس النقدي لكل ما هو جديد، بوصف النقد هو الوحيد تقريبًا القادر على تقديم ضمانات أكثر وضوحًا في عملية إصلاح الفكر والمعرفة.

ولو تأملنا في هذه الثنائية (شجاعة النقد والمداراة) سنجدها متوفرة في مشاريع فلسفية كثيرة ولعل أوضوحها وأهمها موقف ديكارت وسبينوزا، وطبيعة تعامل كل واحد منهما مع الفكر الديني. فديكارت (ت1650م) مع أنه معروف في العصور الحديثة بأنه أحد أهم مؤسسي العلم الحديث، وأن فلسفته ومنهجه الصارم يقوم على التحرر من كل الأفكار المسبقة مؤقتًا حتى تتم البرهنة على صدقها وصحتها بعد ذلك، إِلَّا أن سبينوزا (ت1677م) هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقًا جذريًا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، فديكارت يستثني من قاعدته الأولى في الشك الدين ونظام الحكم، ويؤكد ذلك في مقولته الشهيرة:" أموت على دين مرضعتي." مما سيدفع بإسبينوزا تلميذه إلى رفض هذه الاستثناءات وتطبيق المنهج بحزم على جميع الموضوعات وأولها الدين والسياسة، وهنا حاول بعضهم تفهم موقف كل منهما، فإسبينوزا تعرض لمحاولات اغتيال عديدة بسبب نقديته العلمية الشجاعة التي استهدفت دراسة النص الديني، كما تدرس الظاهرة الطبيعية معتمدًا على أكثر من أداة في التحليل، بينما ديكارت كان صديقًا لرجال الدين الذين وجدوا في منهجه باعتراف ديكارت، دعامة للدين (المسيحية)، ونصرة لعقائده، وأن معظم كتبه خاصة" التأملات" مصدّرَ بإهداء إلى علماء أصول الدين في السربون. لقد قيل دفاعًا عن ديكارت أن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه حتى يحتويهم من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة، يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في إسبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وقيل- أيضًا- إن الأمر يرجع إلى محاكمة جليليو ومأساتها فما زالت حية في الأذهان(7). إن هذه المداراة مع أنها متفهمه إِلَّا أنّ الأصل في الأشياء شجاعة الموقف في ظل التحديات، والمدارة حالة عرضية، فالفكر الحر والمبتكر لم يكن في يوم من الأيام يروق للسلطات المهيمنة، فالحدوسات المعرفية لا تنجبها ثقافة التلقين والترويض والخوف.

ولو أردت أن انتقل إلى الحقل الفقهي والمدونة الفقهية،- حقل الاختصاص الدقيق- فان الفقهاء يصنفون بالعادة في اشتغالهم إلى صنفين، فثمة من تبدو في آثاره العلمية وضوح الرؤية والقاطعية والحسم في الأمور، فيما يلحظ فريق آخر يدور في أبحاثه ذهابًا وإيابًا، يميل تارة إلى وجهة النظر الأولى، وأخرى إلى وجهة النظر الثانية، ثم يعود إلى الأولى فينتصر لها، فتلمح لديه قلقًا في البحث وتراجعًا لوضوح الرؤية والحسم. ولهذه الحالة أسبابها النفسية والموضوعية والعلمية(8).

ويمكن أن نصنّف جملة من الفقهاء على تيار وضوح الرؤية في المجال الإفتائي، ولهذا قلت نسبيًا احتياطاتهم الوجوبية، والتي منبعها صور عدة ومنها(9): أولًا: إعراض المشهور والمقصود به هو أن يترك أغلب الفقهاء الاشتغال بالدليل في مقام الإفتاء، ويميلون إلى غيره مع علمهم به، مما يزرع القلق والحيرة في نفس الفقيه بين العمل بالدليل المتروك وبين متابعة ومواصلة المشهور. ثانيًا: الخلاف الفقهي بين الفقهاء بحيث لم يستقر لهم رأي في المسألة فينعكس ذلك على المجتهد الذي يمارس عملية الاستنباط، مما يفتح أمام الفقيه قرائن تزلزل الوثوق بالدليل الشرعي. ثالثًا: مراعاة الأصحاب: ويقصد به أن الأصحاب لم يختلفوا فيما بينهم وإنما جرت المخالفة من نفس الفقيه، إذ قام الدليل على مخالفتهم فأدى ذلك إلى تزعزع الثقة بدليله.

ولهذا نجد أن بعضهم قد أصدر سلسلة من الفتاوى الجريئة التي يصعب على بعضهم إصدارها، ومن الواضح أنه ينظر هنا إلى مجال قضايا الناس واقعيًا، لا إلى مجال التوازنات القائمة في المؤسسة الدينية، أو اعتبارات الماضي الذي لا يمنح صاحبها أية قداسة أو فوقانية.

***

أ.م.د. حيدر شوكان سعيد

تدريسي في كلية العلوم الإسلاميَّة/ جامعة بابل

........................

(1) يرى أوغست كونت (ت1857م) أن الله يقف بين آمال الإنسان وإمكاناته، فبحجم الهوة الفاصلة بينهما، يتجلى الله في حياة البشر.

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والنزعة الإنسانية، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الرابعة-2019م، 67- 68.

(3) البداية والنهاية، ج 6 تنظر أحداث معركة أليس.

(4) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، 120.

(5) لقد تبنى القديس أوغسطينوس فكرة خلق الله للعالم من العدم، الواردة في التوراة. في حين كانت الفلسفة الإغريقية تقول: إن العالم موجود منذ الأزل، ولكنه كان يرى أن الأفكار موجودة في ضمير الله، منقذا بذلك نظرية" الأفكار الأزلية"، ينظر: جوستاين غاردر، عالم صوفي، رواية حول تاريخ الفلسفة، ترجمة: حياة الحويك، الناشر: دار روائع-  لبنان، 174.

(6) الفكر الإسلامي- قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي الإنماء القومي، بيروت، 1987م، 245.

(7) ينظر: مقدمة حسن حنفي على كتاب، رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا، الناشر: دار التنوير- بيروت، الطبعة الأولى- 2005م، 11. وحسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، الناشر: دار الهادي- بيروت، الطبعة الأولى- 2004م، 83- 84.

(8) الشيخ حيدر حب الله، العلامة محمد حسين فضل الله، معالم نهضة وسياقات مشروع إصلاحي، مجلة الاجتهاد والتجديد، خريف وشتاء 1433هـ،20-21/ 7.

(9) ينظر: الشيخ كامل الدراجي، الاحتياط الوجوبي عند فقهاء الإمامية، الناشر: مركز العين للدراسات والبحوث المعاصرة، الطبعة الأولى -2018م، 115-118، 125.

تَعبر الفلسفة عن  حالة من حالات التفكير  التي ترتاب اي إنسان عند مواجهة شيء لا يعرفه، ولا يعبر عن طريقته في  الحياة،الا أن هذه الحالات  مرت بمراحل تطويرية لفهم ماهية الموضوعات وعلاقتها بالحياة والوجود عند الإنسان .

فالسؤال البدائي عند الإنسان القديم كان يعبر عن الاستغراب كونه مرتبط  بالقلق والخوف من الطبيعة، لذلك تجده اخترع الآلهة والدين، لغرض بث الاطمئنان في النفس، وهي كانت نتيجة مرحلة جديدة لفهم الإنسان للحياة وفق تصورات الدين والإلهة المتعددة . لذلك تميز التفكير الفلسفي في هذه المرحلة بحالة من الاستغراب والقلق دون فهم معنى هذا الخوف من خلال التساؤلات .

ثم ما أن دب الاطمئنان في النفوس قامت الحضارات وتأسست المدن والإمبراطوريات في الشرق والغرب، وأخذ الفن يوفر حاجات الإنسان المادية من خلال الأواني وبناء العمارة والمعابد والحدادة والنجارة، وكذلك الحاجات الروحية من خلال الطقوس الدينية، بدأت مرحلة أخرى من التفكير الفلسفي اسماها أرسطو بالدهشة الذي تعتري المرء حين انبهاره بالوجود، وما موجود فيه من نظام وتناسق وانسجام، وهذه المرحلة بدأت مع طاليس كما يرى أرسطو الذي جعل من الماء أصل لكل الموجودات، لكونها المادة التي تدخل في كل شيء . ويعد هذا بداية للتفكير الفلسفي العلمي القائم على الملاحظة والتحليل، لذلك يعد بعض المفكرين أن الفلسفة اصلها يوناني، منهم زيلر والكسندر،  لانهم يرون في التفكير الفلسفي عند اليونان الذي اعتمد الدهشة،  والاندهاش مرتبط بالمحسوس، لذلك قالوا عن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض . بعكس التفكير الشرقي الذي ارتبط بالدين والماورائيات والأسطورة . وهذا يثبت أن الفلسفة لم تكن ذات اصل يوناني، بل ان كل مرحلة من مراحل الإنسانية حكمت على الإنسان التعامل وفق ظروفها، فالفرق بين اليونان والشرق، هو كالفرق بين من ينظر إلى السماء، وآخر ينظر إلى الأرض .

وبعد أن ظهرت الديانات  السماوية وتم التلاقح الفكري بالفلسفة اليونانية، أنتجت وفقها اهم الفلسفات التكاملية بين الأرض والسماء، وقد وصلت اوجع تطورها في العصر العباسي اذا انعكس ذلك على تطور الشرق والبلدان الإسلامية بشكل خاص . ويمكن تسمية تلك المرحلة من التفكير بالمرحلة التوافقية بين الدهشة والتُفكر .

أما في العصر الحديث بدأت الفلسفة مرحلة جديدة مع العقل الإنساني في أوروبا وخاصة في القرن الثامن عشر مع ديكارت، وسميت بمرحلة الشك، اعتماداً على ما قدمه ديكارت من منهج عقلي يعتمد الشك في تفريغ جميع  ما في العقل الإنساني من اوتاد وافكار الكنيسة  التي تضلل وتعكر الفكر الإنساني من التقدم والنهضة . فشبه العقل الانساني بسلة البرتقال التي تحتوي على الجيد والرديء، فيجب افراغها وإعادة الجيد منها فقط . لذلك كانت مهمة الفلسفة في هذه المرحلة هي الشك في الأوليات .

ثم ما أن حدث التنوير والثورة الصناعية، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وبدأت المكائن والآلات تؤثر على الانسان والفكر والثقافة  والفن والدين والسلطة، أخذ كانت على عاتقه البدء بمرحلة جديدة للفلسفة سميت بالمرحلة النقدية نسبة إلى فلسفته النقدية، والتي نقد فيها العقل النظري والعملي والأحكام الإنسانية سواء في الفن أو الاخلاق .

وبعد التطور الفكري والثقافي الذي حدث متزامنا مع التطور الصناعي، والتداخل بين الموضوع والذات  ولغرض فهم أيهما يؤثر على الآخر في بناء الإنسان الأخلاقي والنفسي، ولفهم سمة العلاقات التي تقوم بين الأفراد، وجد الفيلسوف فرويد أن الجنس هو الأساس الذي يحرك العلاقات البشرية وديمومتها، فبذلك كانت مهمة الفلسفة عنده مهمة علاجية .

أما في القرن العشرين فقد جيرت الفلسفة لخدمة العلم، وهذا ما جعل الفلاسفة الأمريكان ينتجون الفلسفة البراغماتية التي كانت غايتها تقديم الخدمة والمنفعة العملية، سواء كانت مادية أو معنوية  .

أما مع جيل دولوز نجد أصبحت مهمة الفلسفة إبداع المفاهيم وليس البحث في المبادئ الأولى، كونه يعد المفهوم شبكة من المكونات الفرعية التي تتداخل في كل نظام حياتنا، لذلك كانت مهمة الفلسفة عنده تحليل وخلق المفاهيم التي تلائم كل حدث .

ومع هذا الموقف  الدولوزي يبدو أن الفلسفة اخذت على عاتقها مهمة التحليل وتقديم المشورة  والمعالجة للعلوم الانسانية والطبيعة، والتكنولوجيا، لذلك أصبحت مهمة الفيلسوف تشبه إلى حد كبير مهمة الفنان في الخلق والإبداع للمفاهيم وفقاً لمقتضيات المصلحة الفكرية، فبما أن الفنان يكون إبداعه رسالة وتعبير، كذلك الفيلسوف مفهومة يعبر عن رسالة وتوجيه لمعالجة قضية ما .

فالموقف الفلسفي لم يعد كما كان، شاملاً ثابتاً ومطلق، بل أصبح يتسم بالصيرورة ويخضع للجزئيات، وقريباً من مهمة العلم كونه أصبح ينتج المفهوم الذي يخضع للممارسة .

أما في عصرنا الحالي فتجد موقفها تطبيقي يهتم بالمفاهيم التي تستلهك العصر، في السياسية والجمال والأخلاق والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والطب، والفلك، والبيئة  وأحوال المناخ .

وهذا يعد طفره فكرية جديدة في الموقف والسؤال الفلسفي إذ انتقل من الاستغراب والشك، إلى المساهمة في البناء والمعالجة والتنمية للمشاريع الإنسانية. لذلك كل فلسفة تولد من رحم العصر . ولا يمكن للفلسفة أن تموت كما يدعي البعض، لأن موقفها ومنهجها في صيرورة دائمة لفهم متطلبات كل عصر.

***

كاظم لفته جبر

سعى العديد من الناس لفهم القوانين الطبيعية التي تحكم الكون. البعض يقول ان هناك 12 قانونا، بينما آخرون مثل هرمس تريسماجستس Hermes Trismegistus (1) يقول ان هناك سبعة. يوضح هرمس في مبادئه السبعة القوانين الأساسية للواقع. سنعرض هنا هذه القوانين مع توضيح لكيفية استعمالها كمصدر للإلهام والقوة.

هذه المبادئ السبعة هي أساس الهرمسية، التي هي فرع من فلسفة روحية  تعود الى بدايات القرن الاول الميلادي. انها طُرحت من جانب المؤلف الشهير هرمس تريسماجستس الذي يُعتقد انه كتب لوح الزمرد Emerald Tablet و"كوربوس المحكم" وهما من أهم التعاليم القديمة.

استمرعمل هرمس يؤثر على كل من الثقافتين اليونانية والمصرية القديمة وحيث كلا الثقافتين تبنّيتاه كإله للحكمة. (في اليونان هو كان يسمى هرمس، وفي مصر تحوت Thoth). هو عُرف في زمانه كسيد الكون العظيم . وبمرور الزمن، انتقلت المبادئ السبعة نزولا عبر الاتصال اللفظي من معلم الى تلميذ، وبالنهاية، وفي بداية القرن العشرين جرى تجميعها في كتاب سمي كيباليون The Kybalion،(1) كُتب تحت اسم مستعار "المبتدئون الثلاثة" The Three initiates .

واليوم، لاتزال التعاليم الهرمسية مصدرا اسطوريا للحكمة، منفصلة عن أي دين واقعي لكنها بقيت مع ذلك مؤثرة. وبينما كانت المبادئ السبعة تمثل فقط طريقة واحدة لفهم الكون، لكنها ليست ضيقة لدرجة لايمكن دراستها الى جانب الفلسفات الروحية الاخرى. سنتحدث الآن عن كل واحد من هذه المبادئ تباعا:2197 مبادئ الهرمسية السبعة

1- مبدأ العقلانية:

"كل شيء هو ذهني، الكون هو عقلي" – The Kybalion.

 الفكرة هي في كل شيء – الفكرة دائما هي الاول: عندما يطبق أي شخص حواسه، هو اولا يكوّن صورة ذهنية للهدف وبعد ذلك، الصورة الفيزيقية. الفكرة هي قبل الفعل وقبل رد الفعل وقبل السلوك. والفكرة – لا يهم ان كانت صحيحة ام زائفة – هي جوهر الفرد الذي يسميه علم النفس الهوية. الكون خُلق في ذهن الله وبما اننا قادرين على التفكير بالمثل، فان الانسان هو صورة لله. الكون هوية الله وهكذا يكون الله هو الكل. لكي يوجد أي شيء، يجب ان يسبقه الفكر. من خلال هذا المبدأ ، يُعتقد ان الله هو وعي، او فكرة، والكون هو تجسيد لعقل الإله. عند استخدام هذا القانون، نحن ايضا نستطيع التحكم بقوة أذهاننا لخلق الحياة التي نريد. وفي مجال التطبيق، عندما نميز مقدار ما يتجسد من افكارنا كل يوم، سواء كان داخليا كحالة فسيلوجية او عاطفية، او خارجيا، كالاشياء التي نقوم بها او الاماكن التي نذهب اليها، سنرى اننا عندما نسيطر على ذهننا، سنتحكم بحياتنا. نحن بهذا يمكننا ان نصبح أفضل من خلال الممارسات الروحية مثل التأمل، الذي يساعدنا في تدريب الذهن.

2- مبدأ المطابقة:

"كما في فوق، كذلك تحت، وكما في تحت، كذلك فوق" – The Kybalion .

 جميعنا سمع بهذه العبارة من قبل، لكن ربما لا أحد يعرف ان هرمس هو أول من صاغها. انها متصلة بإحكام بمبدأ العقلانية الاول ويؤكد بان ما نؤمن به في افكارنا وفي اذهاننا سوف يصبح واقعا لنا. انه يوضح عدة مستويات للوجود، بما في ذلك تلك الذبذبات الاهتزازية العالية والكيفية التي تترابط بها.

هذا المبدأ يجسد الفكرة بان هناك دائما مطابقة بين مختلف قوانين مستويات الوجود والحياة. هناك تناغم واتفاق ومطابقة بين هذه المستويات، وُصفت بـ : 1- المستوى الفيزيائي العظيم 2- المستوى الذهني العظيم 3- المستوى الروحي العظيم.

3- مبدأ الإهتزاز:

"لا شيء في سكون، كل شيء يتحرك، كل شيء يهتز" – The Kybalion

وهذا المبدأ يجسد الفكرة بان الحركة تتجسد في كل شيء في الكون، اي لا شئ ساكن، كل شيء يتحرك، يهتز، ويدور. هذا المبدأ يوضح ان الاختلافات بين مختلف تجسيدات المادة، الطاقة، الذهن، الروح، هي فقط نتيجة لمختلف "الاهتزازات". كلما كان الفرد في أعلى الميزان، كلما كانت درجة الاهتزاز أعلى. هنا، قيل ان الكل هو في مستوى لا متناهي من الاهتزاز، تقريبا الى النقطة التي يكون فيها بحالة استقرار.  هناك ملايين من مختلف درجات التغيير بين أعلى مستوى، الكل، واشياء ذات أدنى اهتزاز. التحول الذهني وُصف كتطبيق عملي لهذا المبدأ. لكي نغيّر حالة المرء الذهنية يعني ان نغيّر الاهتزاز. قد يقوم المرء بهذا عبر جهد الرغبة، او بوسائل التركيز المقصود للانتباه نحو حالة مرغوبة.

سواء اعتقدنا ام  لم نعتقد، كانت فكرة "الذبذبات" موجودة حولنا منذ وقت طويل. ان مبدأ الاهتزاز يعلن ان كل الأشياء، سواء المادية او الطاقات الروحية، تحمل اهتزازا معينا. العلوم الاساسية تخبرنا ان الذرات هي في حركة مستمرة، كما هي الحركة في الكون ذاته. حتى قلوبنا عندما تدق، تصدر عنها مختلف الإهتزازات اعتمادا على حالتنا العاطفية. وعندما نكون في حالة "اهتزاز عالية" نكون قادرين على تجنّب الذبذبات ذات المستوى المنخفض التي لا تخدمنا.

تطبيق هذا يبدو مختلفا لكل فرد، ولكن لكي نطبق هذا المبدأ الثالث، نحتاج ليس فقط لعمل الاشياء وانما للتفكير بالأفكار التي تسمح لنا لنكون في حالة من الراحة، حيث أجسامنا "تهتز" في مستوى اكثر ايجابية. تطبيق المبدأين الاولين يمكن ان يساعدنا للقيام بهذا. (يمكن ملاحظة ان جميع هذه المبادئ متشابكة بعمق). وفق هذا المبدأ، نحن نثق باننا لدينا القوة للسيطرة على اهتزازنا بدلا من سيطرة اهتزازاتنا علينا.

4- مبدأ القطبية:

"كل شيء هو ثنائي، كل شيء يمتلك قطبين، كل شيء له زوج من الأضداد، يشبه و لا يشبه هما ذات الشيء، المتضادات هي متشابهة في الطبيعة لكنها مختلفة بالدرجة، النقائض تجتمع، جميع الحقائق ليست الاّ انصاف حقائق، جميع المفارقات يمكن التوفيق بينها" – The Kybalion.

كل الاشياء المتجسدة لها جانبين، مظهرين، او قطبين. كل شيء هو و ليس هو في نفس الوقت، كل الحقائق ليست الاّ نصف الحقائق وكل حقيقة هي نصف زائفة.

ان مبدأ القطبية يوضح ان ما يبدو متضادا في الاشياء هو في الحقيقة واحد وذات الشيء في درجات متفاوتة. مثال بسيط على هذا هو الحار والبارد. البارد هو فقط غياب الحر، وهما كلاهما شيء واحد: درجة الحرارة. المادة الفيزيائية والطاقات الروحية هي ذات الشيء، طاقة روحية تهتز بمستوى أعلى بكثير، كتلك التي لا يمكن تصورها بحواسنا. الحب والكره هما طريقتان لممارسة نفس الشيء، علاقة نحو شيء ما.

تطبيق مبدأ القطبية يأخذ درجة من التحمل العقلي ويستلزم تغيير الطريقة التي ننظر بها الى الاشياء، ربما  رأسا على عقب. لو اخذنا الكراهية التي نشعر بها نحو شخص ما: هل هناك أي طريقة نستطيع تحويلها الى مشاعر حب، مثلا؟ عندما تكون العاطفة الاهتزازية متدنية وتنحدر بنا نزولا،هل انت تستطيع تمييزها، تشعر بها، تنقلها الى مشاعر اكثر ايجابية؟

5- مبدأ الإيقاع:

"كل شيء يتدفق، للداخل والخارج، كل شيء في صعود وهبوط ، ارجوحة البندول تتجسد في كل شيء، قياس التأرجح الى جهة اليمين هو قياس التأرجح الى جهة اليسار" ـــ

The Kybalion.

في كل شيء هناك حركة دقيقة متجسدة، من و الى ، تدفق وارتجاع، تأرجح للامام والخلف. هناك تناغم بين كل زوج من الاضداد او الاقطاب ومرتبط بإحكام بمبدأ القطبية

المبدأ الخامس يرتبط بإحكام بمبدأ القطبية، فهو يعلن بانه يوجد هناك إيقاع متأصل بين الاقطاب المتضادة. المد يتحرك صعودا ونزولا. نحن نمارس الشهيق والزفير. كل شيء في حركة. الطبيعة لها فصولها وكذلك نحن. فهم هذا المبدأ يسمح لنا للاعتراف بالايقاع الطبيعي لحياتنا وللكون، وبهذا نحن حقا نستطيع العمل مع الحياة والكون بدلا من جعلهما يعملون ضدنا.

وعند تطبيق هذا المبدأ نحن نعرف ان لا شيء يستمر الى الابد، وان الأشياء هي في تغير مستمر. وكلما تعمقنا في العمل مع هذا القانون، سنكون قادرين على العمل مع عواطفنا لتجنب التأرجح الدراماتيكي في المشاعر. من خلال هذا سيصبح السيد في النهاية قادرا على تجاوز الثنائية، ولكن اذا كنا في البداية، علينا ان نحاول الوعي اكثر بحالتنا العاطفية واستعمال القطبية والايقاع  لنصبح اكثر راحة مع التدفقات الطبيعية لحياتنا.

6- مبدأ السبب والنتيجة:

"كل سبب له نتيجة، كل نتيجة لها سببها، كل شيء يحدث طبقا لقانون، الحظ ليس الاّ اسم لقانون غير معروف، هناك مستويات للسببية، لكن لا مهرب من القانون" ـــ The Kybalion .

لذلك لا وجود هناك للفوضى في الكون، هناك فقط نقص المعرفة.

كل شيء مرتبط من خلال مبدأ السبب والنتيجة، سبب كل شيء هو نتيجة لشيء آخر، رجوعا الى البداية الاولى. لنسأل انفسنا هل نحن سبب؟ ام نتيجة؟ هذا المبدأ هو في الاعتراف بتأثيرات افكارنا والسلوك وكيف نغيرها لتؤدي الى نتائج أعظم.

عندما لا تسير امورنا كما مخطط  لها او لا نجد أنفسنا سعداء، لنسأل انفسنا ما هو سبب ذلك؟ دائما ما نجد أنفسنا نستجيب للعالم الذي حولنا، محاصرون في ردود افعال لظروفنا نحو الامام والى الخلف بدلا من صياغة مسارنا الخاص بنا. عندما نقوم بفعل معين للحصول على النتيجة التي نريدها، سننتقل من الشعور كضحية الى شعور بالتمكين.

7- مبدأ النوع او الجنس:

"الجندر هو في كل شيء، كل شيء له مبدأ المذكر والمؤنث، الجندر يتجلى في كل المستويات" ـــ The Kybalion.

المبدأ السابع يعلن ان كل الاشياء لها صفات التذكير والتأنيث ليس فقط في الجنس وانما في الطبيعة الكامنة في كل الاشياء. نعم، الجنسين يمكن تصورهما كتجسيد فيزيقي لهذا المبدأ، لكن على المستوى الداخلي كل منا يحمل كلا الطاقتين. (فكر في الدماغ الايسر والايمن).

طاقة التذكير والتأنيث توجد ليس فقط في المساحة الفيزيقية وانما في المساحة الذهنية والروحية ايضا. وحدة هاتين الطاقتين هي ضرورية للخلق، وعندما يكون لدى المرء توازن بين الاثنين، سيكون قادرا بشكل افضل على تطبيق جميع المبادئ مجتمعة لتحقيق أعظم منفعة.

لذلك لابد ان نقبل جميع اجزاء النفس ونفهم  ان التوازن في الجميع هو مفتاح للسيادة الذاتية. بوذا سمى هذا الطريقة الوسطى، وهي تتعلق بالتوازن بين المذكر والمؤنث، السماوي والارضي، الذهن والجسم والروح. عندما نستطيع انجاز هذا التوازن ضمن أنفسنا، سنكون مؤهلين جيدا لتسخير كل هذه المبادئ واستعمالها في حياتنا للخير.

هذه المبادئ تعمل في كل جوانب الكون والحياة، ويمكنها ان تأخذ وقتا طويلا لفهمها وتجسيدها  بالكامل.   كل مرة نعود لها نفهمها بطريقة جديدة، وبمستوى أعمق. انها يمكن ان تساعدنا في سيادة الذهن والروح.

***

حاتم حميد محسن

...........................................

الهوامش

(1) Hermes Trismegistus هو الاسم اليوناني لـ إله مصر تحوت (Thoth) حيث الدمج بين العقيدتين الميثولوجيتين اليونانية والمصرية: بين إله اليونان هرمس وإله المصريين القدماء Thoth. إله اليونان هرمس كان يُعرف كرسول بين الناس والآلهة. اما إله مصر كان يعود له الفضل في اختراع الكتابة. هو كان ايضا راعيا للفنون التي كانت تعتمد على مهارات الكتابة، مثل السحر، الطب، الفلك. كان لدى شعب اليونان نظام عقيدي توفيقي. هم لم يؤمنوا بان آلهتهم متفردة، بل اعتقدوا ان الثقافات الاخرى لديها آلهة مشابهة لهم بما يكفي لإستيعاب العقائد ودمجها في عقيدة واحدة. هذا يصح خصيصا على آلهة المصريين الذين اعتُبروا مجرد نسخة اخرى من عقيدتهم. الامر الذي سمح لهم بالتالي دمج عقيدتهم والعقائد الاخرى في نظام عقائدي واحد. وفي القرن الثالث قبل الميلاد، ربط اليونانيون عقيدتهم الهرمسية مع  إله مصر.

(2) الـ Kybalion هي كتاب عن الفلسفة الهرمسية لمصر واليونان القديمة صدر من جانب ثلاثة مؤلفين لم يُعرف اسمهم الحقيقي (المبتدئون الثلاثة) وذلك في سنة 1908. يدّعي المؤلفون ان الذهن والفكر هما القوة النهائية للكون، وان الانسان يمكنه الاستفادة من تلك القوى لأجل الصحة والثروة والنفوذ. الكتاب يوضح اساس الرمزية في الانجيل والكتب المقدسة الاخرى. التعاليم الاساسية في هذا الكتاب هي المبادئ السبعة للطبيعة. هذه المبادئ تمثل قوة الحقيقة والمعرفة، وبهذا هي سوف تستمر الى الابد، بصرف النظر عن طريقة دراستها من جانب مختلف الأديان.

"منح المزيد من الحرية يعني بذل جهد أقل للسلطة"

يتم تعريف مفاهيم الحرية والمساواة في المجموعة بدقة من حيث الجهود الفردية للنفوذ أو السلطة. تمت مناقشة الحرية في نسخة "التحرر من" التأثير وليس في نسخة "حرية فعل" ما يريده المرء. لقد تبين أن الحرية الكاملة على المستوى المفاهيمي المثالي تعني المساواة. وبالنظر إلى معقولية التعريفات، فإن هذا يوضح أن "الخطابات الشعبية" السياسية التي غالبًا ما يتم فيها وضع الحرية والمساواة في المعارضة هي مضللة وزائفة. تم تقديم مفاهيم كمية مثل "مزيد من الحرية" و"مزيد من المساواة" وثبت أنها مستقلة عن بعضها البعض. وتتم مناقشة تأثير هذه التمارين المفاهيمية على المقارنة بين الأنظمة السياسية.

خلال الخمسة آلاف سنة الماضية، كان التنافس والتزاحم بين المجتمعات البشرية أو الأنظمة السياسية الكبيرة، والتي تعتبر الدول الحديثة مثالًا واضحًا عليها، غالبًا ما يتم حسمه من خلال آلية "تطورية" بسيطة: الحرب والقوة. ومع ذلك، فإن القوة التدميرية المتزايدة للقطع الأثرية التي تم تطويرها بمساعدة المعرفة العلمية يبدو أنها تقلل من أهمية هذا الجهاز - على الأقل بين المجتمعات ذات القيادة العقلانية إلى حد ما. لأن مجرد استخدام التقنيات الحديثة يزيد من خطر التدمير الذاتي حتى بالنسبة لذلك الطرف الذي لولا ذلك لقال إنه فاز "بالمسابقة". في هذه الحالة، سيكون من المرغوب فيه أن تكون هناك معايير أخرى أقل عنفًا للتحقق مما إذا كان نظام سياسي ما أفضل من نظام آخر. إذا تمكنا من مقارنة نوعية الأنظمة السياسية بطريقة مفاهيمية بحتة، فإن المنافسة العملية بين الأنظمة يمكن اختزالها في محاولات تنوير مواطني النظام الآخر. تركز وجهات النظر الحديثة حول جودة الأنظمة السياسية على جوانب أو أبعاد مختلفة يتم التعبير عنها بمصطلحات مثل الحرية والمساواة والتضامن وحقوق الإنسان والرفاهية. المشكلة في مثل هذا المنهج متعدد الأبعاد لجودة الأنظمة السياسية هي أن الأبعاد المختلفة لم يتم تحليلها بعبارات دقيقة ولم تتم مقارنتها بشكل دقيق مع بعضها البعض. لا توجد سوى معرفة حول كيفية تأثير الجوانب المختلفة معًا على جودة النظام السياسي. في حين أن تأثير كل جانب من الجوانب مع ثبات باقي العوامل واضح تمامًا، إلا أن المشكلات تنشأ عندما يتنوع اثنان أو أكثر منها في وقت واحد. من المواضيع الشائعة في الخطاب السياسي "الشعبي" أن الحرية والمساواة، وكذلك الحرية والتضامن، تتنافس مع بعضها البعض أو حتى غير متوافقة. عندما يتم استخدام هذه التسميات باعتبارها مميزة لأنظمة سياسية معينة، نصل إلى الخطاب المعتاد للمنافسة السياسية بين الدول، حيث، على سبيل المثال، دولة "حرة" ودولة "اشتراكية" (= دولة تتميز بالمساواة و/أو التضامن). نسعى جاهدين للهيمنة. تؤدي هذه الآراء المسبقة إلى توقع أن يؤدي البحث العلمي إلى نتائج مماثلة. أعتقد أن هذا التوقع يتطلب الحذر. في الأمثلة الواقعية، عادةً ما يتم تطبيق المصطلحات الأساسية على الدول دون الكثير من المبررات، وبطريقة دعائية. ومن أجل التغلب على هذا الوضع غير المرضي، يجب دراسة المفاهيم الأساسية بمصطلحات أكثر دقة ويجب مقارنتها مع بعضها البعض فيما يتعلق بمساهمتها في جودة الأنظمة السياسية. وسوف نسير بعض الخطوات في هذا الاتجاه ونقدم بعض النتائج التي تبين أن الدراسة العلمية لهذه الجوانب أو الأبعاد واعدة. وأركز هنا على الفكرة الأهم: الحرية والمساواة. كخلفية لتفسيراتي، أستخدم نظرية المؤسسات الاجتماعية التي تجمع بين وجهة نظر مركزية السلطة للشؤون الاجتماعية بروح مكيافيلي، على سبيل المثال، ونموذج نظامي رسمي لمثل هذه الشؤون،. تهدف هذه النظرية إلى صياغة مؤسسات اجتماعية شاملة مثل الأنظمة السياسية والدول، من بين أمور أخرى. (في العلوم الاجتماعية في الوقت الحاضر يبدو أن وجهة نظر نظرية اللعبة هي السائدة عند مناقشة المؤسسات. ومع ذلك، فإن ما يسمى "المؤسسات" في المنهج النظري للعبة ليست أنظمة سياسية، ولكنها أشياء أكثر محلية وتجريدية مثل "الوعد"، و"الاتفاقية" وما شابه ذلك. حتى الآن، لم يكن التحليل النظري للعبة قادرًا على صياغة وتفسير نظام سياسي واحد من النوع الذي أناقشه هنا. وفقًا لنظريتي، تتكون المؤسسة الاجتماعية من أربعة أجزاء: نظام جزئي من الأفراد وأفعالهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ونظام كلي للمجموعات الاجتماعية وخصائصها وعلاقاتها، و"صورتان" لهذين النظامين: مجموعة من "الصور الدقيقة"، صور النظام الجزئي التي يتم استيعابها بواسطة أعضاء المؤسسة، و"الصورة الكلية" التي يتم فيها تمثيل النظام الكلي بطريقة أكثر موضوعية، على سبيل المثال من خلال القوانين المكتوبة والأعراف والأساطير والقصائد والصور وما شابه ذلك. من خلال التركيز على الأنظمة الكلية والجزئية، إحدى السمات الأساسية لهذه النظرية هي أن الأفراد منخرطون في علاقات القوة. يحاول كل فرد ممارسة السلطة على الأفراد الآخرين (أو التأثير عليهم). إن علاقة القوة الفردية التي تمارس فيها القوة تتكون من الفردين المعنيين بالإضافة إلى فعل واحد يقوم به كل منهما. السمة الأساسية الثانية هي أنه يمكن استخدام علاقات القوة الفردية لوصف المجموعات وعلاقة المكانة بين المجموعات. تقريبًا، تتمتع المجموعة بمكانة أقل من المجموعة الأخرى  إذا كان العديد من أعضاء  يمارسون السلطة على العديد من الأعضاء ولكن ليس العكس. أما داخل إحدى المجموعات، من ناحية أخرى، فإن مجهودات القوة تكون في حالة توازن. الميزة الثالثة المهمة هي أنه في المؤسسة الاجتماعية يتم ترتيب المجموعات حسب علاقة الحالة بحيث تشكل رسمًا بيانيًا متعديًا ومتصلًا مع عنصر علوي فريد. هذا العنصر الأعلى هو "المجموعة العليا"، وهي المجموعة التي تتمتع بأعلى مكانة، وبالتالي يمارس أعضاؤها السلطة على معظم أعضاء المجموعات الأخرى. في نموذج لهذه النظرية، الحرية ويمكن تعريف المساواة على النحو التالي. على المستوى الجزئي، يحتوي النموذج على أربعة أنواع من الكائنات: الأشخاص ، والأفعال ، والنقاط الزمنية. يقوم الأشخاص بأفعال ويمارسون السلطة على بعضهم البعض. باستخدام هذه التعبيرات يمكننا تحديد مساحة عمل الشخص في الوقت بحيث تتكون من جميع الإجراءات الممكنة له في الوقت. أقول إن فعل هو هدف ممارسة القوة إذا كان هناك شخص ما وبعض الفعل السابق وبعض الفعل مثل من خلال القيام بممارسة القوة على بحيث يفعل في الفترة. باستخدام هذين التعريفين المساعدين، يمكننا تعريف أن الشخص حر في ، ولا يوجد فعل في مساحة عمل عند هو هدف ممارسة القوة. وهذا يعني أنه لا يوجد إجراء في مساحة عمل يتم حثه بواسطة قوة يمارسها شخص آخر على ويؤثر على للقيام ب. في الواقع، في السياق الحالي، لا يُحدث تقييد الإجراءات من مساحة العمل الخاصة بـ أي فرق. يمكن إثبات أنه يمكن للمرء استخدام الإجراءات التعسفية بشكل متساوٍ.

يبدو أن هذا التعريف للحرية حصريًا من حيث الجهود الفردية للسلطة يتعرض لانتقادات معروفة للمقاربات السلوكية للسلطة . يبدو أن الطرق المهمة لممارسة السلطة بطريقة "بنيوية" أقل مباشرة لم تتم تغطيتها، مثل استبعاد قضية ما من جدول الأعمال، أو إخفاء ممارسة السلطة وراء التزامات الوضع الاجتماعي الخاص بالفرد. إلا أن هذا الانطباع مضلل. أولاً، في هذه الرواية، لا يُفهم مفهوم الفعل بالطريقة الساذجة المتمثلة في القيام بشيء إيجابي. تشكل الأفعال "مساحة" من الأفعال حيث يوجد مجال للسلوك المحايد (عدم القيام بأي شيء) وأيضًا للسلوك السلبي (المعبر عنه بافتراض منفي) لاعتباره فعلًا، الفصل السادس. ثانيًا، في سياق المؤسسة الاجتماعية، ترتبط كل ممارسة للسلطة ارتباطًا مباشرًا بالمسندات العقلية للنية والمعتقدات السببية، وترتبط بشكل غير مباشر بالسمات الكلية مثل المواقف والأعراف الاجتماعية. لا أستطيع أن أصف التفاصيل هنا ولكن أشير فقط إلى أنه في التضمين المؤسسي، قد يكتسب بذل السلطة - على الرغم من وصفه ظاهريًا بالعلاقة بين الجهات الفاعلة والأفعال - الوضع الكامل للسلطة الاجتماعية أو المؤسسية المطلوبة للفهم الصحيح للسلطة. عندما يكون التعريف الحالي للحرية جزءا لا يتجزأ من مؤسسة اجتماعية، فإنه يعبر عن أكثر بكثير من مجرد الغياب السلوكي لرموز التأثير. من بين النسختين الأساسيتين للحرية: التحرر "من" التأثير وحرية "فعل" المرء ما يريد، فإن التعريف أعلاه يغطي الفكرة الأولى. ومن الصعب الربط بين هاتين الفكرتين بعبارات دقيقة لأن مجال الرغبات البشرية غامض للغاية. إذا تمكنا من التمييز، في حالة معينة، بين مجال الأفعال الممكنة ماديًا والتي يمكن أن يقوم بها إذا لم يكن أحد يمارس السلطة عليه، ومجال الأفعال الممكنة بالفعل والتي يتم الحصول عليها عن طريق إزالة من المجال الأول جميع تلك الأفعال التي أصبحت مستحيلة بواسطة الآخرين عندما يمارس الأشخاص السلطة على "ي"، يمكننا القول إن "حرية الفعل" مقيدة بطريقتين. أولاً، إنه مقيد بمجال الأفعال الممكنة ماديًا. لا يمكن للإنسان أن يقوم بأفعال مستحيلة ماديا، سواء أراد ذلك أم لا. بالإضافة إلى هذا القيد الأول، يتم تضييق نطاق "حرية القيام" بشكل أكبر من خلال تأثيرات الأشخاص الآخرين، مما يجعل الإجراءات الممكنة ماديًا مستحيلة. في ظل هذا المنظور، إذا كانت مجالات الإمكانية المادية تعتمد على مستوى الرفاهية، فإن مستوى الحرية "الممكنة ماديًا"، أي الحرية "الممكنة ماديًا". والحرية التي تسود في ظل وجود التحرر من النفوذ تكون أعلى في الدول التي تتمتع بمستوى أعلى من الرفاهية. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا التمييز مثمر، لأن المستوى "المادي" ومستوى التأثير يعتمدان بشكل كبير على بعضهما البعض. على سبيل المثال، عادةً ما يكون ارتفاع مستوى الرفاهية مصحوبًا بزيادة المعاناة الناجمة عن مجهودات السلطة، بحيث لا تزيد حرية "فعل" الشخص الشاملة (أو حتى تنخفض) عندما ترتفع الرفاهية. علاوة على ذلك، فإن حرية "الفعل" تتيح تحقيقًا مثاليًا وفرديًا للحرية: فأنا ببساطة أخفض احتياجاتي لكي أصبح حرًا تمامًا (مثل العبد الهيجلي). وهذا يوضح أن حرية "الفعل" ليست مناسبة تمامًا للمناقشات حول المسائل الاجتماعية الأساسية مثل المقارنة بين الأنظمة السياسية، وأن التحرر من "من" هو المفهوم الصحيح الذي يجب استخدامه في مثل هذه السياقات.

يمكن تعريف المساواة من خلال التمييز بين المساواة الخارجية والداخلية. لنفترض أن شخصين متساويان خارجيًا إذا مارسا "نفس" السلطة على أشخاص ثالثين، ويتأثران بأشخاص ثالثين يمارسون السلطة عليهما "بنفس الطريقة". ومن الواضح أن عبارة "نفس الشيء" هنا يجب تفسيرها بشكل متحرر إلى حد ما. لاحظ أن هذا التعريف يصور المساواة الاجتماعية على النقيض من المساواة الفسيولوجية أو غيرها من أنواع المساواة "غير الاجتماعية". قد يكون شخصان متساويين بالمعنى المحدد ولكنهما لا يزالان مختلفين على نطاق واسع، على سبيل المثال، في القوة أو الذكاء أو الثروة. من السهل أن نرى من خلال الأمثلة المضادة أن شخصًا ما قد يكون حرًا ولكنه لا يساوي شخصًا آخر، أو قد يكون مساويًا لشخص آخر ولكنه ليس حرًا. كما يمكن أن نبين على سبيل المثال أنه حتى المساواة الكاملة لجميع الأشخاص في مجموعة ما قد تترافق مع غياب الحرية في تلك المجموعة. وفي الاتجاه المعاكس هناك نتيجة إيجابية. إذا كان جميع أعضاء المجموعة أحرارًا، فهم متساوون، أو باختصار: الحرية الكاملة تعني المساواة. تنطبق هذه النتيجة على مفهوم "التحرر من"، ويمكن التعبير عنها بعبارات أخرى مثل القول بأن المساواة شرط ضروري للحرية ("التحرر من"). في المقارنة بين الأنظمة السياسية، تُستخدم هذه المفاهيم عادةً بطريقة كمية تسمح بـ "الأكثر" و"الأقل". يمكن تعديل التعريفات الموصوفة للتو وتحويلها إلى مفاهيم مقارنة لمزيد من الحرية والمزيد من المساواة الموجودة في مجموعة واحدة مقارنة بمجموعة أخرى بنفس الحجم تقريبًا. ومن ثم تنشأ مشاكل التطبيق في حالات مختلطة مثل زيادة المساواة مع انخفاض الحرية. لا توجد طريقة مقبولة بشكل عام للجمع بين معايير مختلفة من أجل الحصول على نتيجة محددة. ويرتبط شرط «المزيد من الحرية» في هذا الصدد ارتباطًا مباشرًا بوجود أو غياب علاقات القوة. إن زيادة الحرية بموجب التعريف المذكور أعلاه تعني ضمنا بذل قدر أقل من الجهود للسلطة: "المزيد من الحرية يعني بذل جهد أقل للسلطة". ومن ناحية أخرى، قد تتباين المساواة دون أي تغيير في أعداد ممارسات السلطة، على سبيل المثال، من خلال مجرد "إعادة توزيع" هذه الجهود بين السكان. علاوة على ذلك، فإن المفاهيم الكمية للحرية والمساواة مستقلة عن بعضها البعض. ويمكن إثبات ذلك عن طريق المقارنة المنطقية، وإظهار أنه في ظل ظروف افتراضية ثابتة، يكون الاختلاف في أحد البعدين متوافقًا مع عدم وجود اختلاف في البعد الآخر. على سبيل المثال، إذا زادت الحرية فإن درجة المساواة قد تبقى دون تغيير. ويظهر هذا على وجه الخصوص أن الحرية والمساواة - حتى لو تم تعريفهما من حيث القوة - تنتج معايير مختلفة لتصنيف الأنظمة السياسية. وحقيقة أن هذين المفهومين يمكن تعريفهما من حيث القوة لا تعني أن المقارنة بين الأنظمة السياسية في هذين البعدين يمكن "اختزالها" إلى معيار أساسي أكثر صيغ فيما يتعلق بممارسة السلطة." فهل ينبغي أن يتأسس النظام السياسي العادل على الحرية أم على المساواة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مقدمة: يتبنى هذا المبحث موقفًا وسطًا بشأن مسألة الهوية الملحة: فهو يشير إلى الوظيفة الاجتماعية الضرورية للهويات بينما يقوم بتفكيك خطابات الهوية الحالية. إن مسألة الهوية هي واحدة من أعمق خطوط الصدع في مجتمعاتنا. بالنسبة للبعض، فهو خط دفاع حيوي في مواجهة العولمة الاقتصادية وتدفقات الهجرة، وبالنسبة للآخرين، فهو علامة سياسية للأيديولوجية اليمينية المتطرفة. اهتمام مركزي، شبه وجودي، بالأولى؛ إنها مشكلة زائفة، وهي علامة على الانغلاق المدان على الخارج وعلى الآخر، بالنسبة للأخير. يجب حماية الواقع المهدد من جهة، والقضاء على الخيال الضار من جهة أخرى. هل يمكن لمثل هذا الاستقطاب الثنائي أن يكون نزيهًا ويُنظر إليه من وجهة نظر عقلانية أم أنه محكوم عليه بالبقاء بمثابة العداء غير القابل للاختزال بين طرفين لا يمكن التوفيق بينهما؟

الهويات، أكاذيب أساسية؟

يعرض كوامي أنتوني أبياه، الذي يدرس الفلسفة الأخلاقية والسياسية في إحدى الجامعات الأمريكية، في هذا المقال وجهات نظره حول مسألة لا تخص علماء الاجتماع فحسب، بل أيضًا، بل وأكثر من ذلك، الرأي العام الذي يبكي بشأنها. وهذا ليس موضوعًا جديدًا بالنسبة لهذا المؤلف: فنحن مدينون له بالفعل، في الواقع، بأخلاقيات الهوية، وفي موضوع ذي صلة، مترجم إلى الفرنسية، من أجل عالمية جديدة. ونظرًا لأصوله العائلية، فإن لديه أيضًا وجهة نظر حول هذه الأسئلة التي يغذيها إرساء ثقافي مزدوج: مجتمع أفريقي تقليدي، الأشانتيون في غانا، حيث نشأ، ومجتمع المملكة المتحدة، حيث درس في جامعة  جامعة كامبريدج المرموقة.

التسميات التي لا يمكننا العيش بدونها

عنوان هذا المقال، المأخوذ من سلسلة من المحاضرات المصممة لهيئة الإذاعة البريطانية، يقدم على الفور دليلين لموقف المؤلف. أولًا، إن الروابط التي توحدنا معًا ليست سوى أكاذيب؛ ومن ثم، لا ينبغي استبعاد تلك الهويات، كما قد يتوقع القارئ، بل يجب إعادة التفكير فيها. يشرح المؤلف كذلك كيفية فهم هذين الاقتراحين. بادئ ذي بدء، مهما كان نوع الهوية التي نشير إليها – فهو يميز خمسة ويفحصها تباعا – فإننا مخطئون في الفكرة التي نشكلها عنها. يكمن الخطأ في تصور أن الهويات تعتمد على الخصائص التي يمتلكها الأفراد بشكل جوهري أو التي يشاركون فيها. وهم الذين سينتسبون إليهم، بشكل عفوي أو طبيعي. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة، وفقًا لأبياه، خاطئة في الأساس، لأنه يؤكد أن الهويات، بمعنى ما، ليست سوى تسميات؛ إنهم يعتمدون قبل كل شيء على الكلمات التي تسميهم. ولهذا السبب، يمكن تصنيفها على أنها كاذبة، على الرغم من أنها تلزمنا فعليًا. ومن الغريب، في إشارة إلى الخداع، أن المؤلف لا يقترح القضاء عليه، لأنه يؤكد أن هذه الأكاذيب، على الرغم من كل شيء، ضرورية بالنسبة لنا. ذلك لأن هذه التصنيفات الجماعية، في الواقع، لا تفرقنا فحسب، ولا تضعنا في مواجهة بعضنا البعض فحسب: بل إنها وحدها تسمح للبشر أيضًا بالقيام بالأشياء معًا. وبالتالي فإن مهمة الفيلسوف هي المساهمة في فهمها بشكل أفضل وإصلاحها، خاصة وأن هوياتنا قد تشكلت من الأفكار التي سادت في القرن التاسع عشر، ومن المناسب اليوم تكييفها مع القرن الجديد. هذا التحقيق، الذي يتعلق بدوره بالدين والبلد ولون البشرة والطبقة الاجتماعية والثقافة، يعلن أبياه أنه سيجريه كفيلسوف. ومع ذلك، ربما يرجع ذلك جزئيًا إلى الجمهور الواسع الذي يخاطبه هذا المقال، فهو لا يتقدم من الناحية المفاهيمية، كما يتوقع القارئ. وهو يفضل هنا استخدام القصص القصيرة، التاريخية أحيانًا، والسيرة الذاتية أحيانًا، بهدف توضيح أفكاره. ولذلك، فإن الحجة، التي ليست صريحة دائمًا، يجب في أغلب الأحيان أن تُقرأ ضمنيًا. أولاً، يقدم أبياه لمحة عامة عن نظريته في الهويات. وبعد التذكير بأن المحلل النفسي إريك إريكسون هو أول من أدخل، بعد الحرب العالمية الثانية، مفردات الهوية في العلوم الإنسانية، وتلاه عالم الاجتماع ألفين جولدنر في مجال الهوية الاجتماعية على وجه التحديد، فإنه يسرد السمات الرئيسية لظاهرة الهوية . بداية، إذا كانت الهويات، الناتجة عن إسناد التسميات والمصطلحات، مهمة جدًا للبشر، فذلك لأن لها وظيفة تكاملية أساسية. مع الإشارة إلى المجموعات التي يناسبها كل شخص، يقومون بتعيين انتماءاتهم الاجتماعية. وهذا الانتماء إلى واحدة أو أكثر من "نحن" يزود كل فرد بقواعد السلوك والقيم والأهداف. وهو عملي ومعياري في الأساس، فهو يزود البشر بالإجابات على الأسئلة المتعلقة بتوجهاتهم في الحياة. كما أن الهويات علائقية بطبيعتها حيث يتم تعريفها بالنسبة لبعضها البعض، وأكثر: في معارضة بعضها البعض. هذا شيء معروف: أن يمنح المرء هوية هو بحكم الأمر الواقع تمييزًا لنفسه عن الآخر، وأن يقول "نحن" يعني أيضًا مخاطبة "أنت" أو معارضة "هم". ويتابع أبياه أن الهويات أيضًا موضع خلاف أساسي: فتعريفها، وبالتالي حدود المجموعات التي تستجيب لها، دائمًا ما يكون مثيرًا للجدل وموضوعًا لصراعات لا نهاية لها. ويترتب على ذلك أنه لا يتم النظر إليها عمومًا في علاقة مساواة: فهم، في أغلب الأحيان، يتم تعبئتهم لإنشاء تسلسلات هرمية أو إقامة علاقات السلطة. وبالتالي، فإن الارتباط بالهوية يعني الاستفادة من بعض علاقات التضامن، ولكنه يعني أيضًا، خارجيًا نسبيًا، المشاركة في علاقات الإقصاء، وحتى الهيمنة. أخيرًا، يخلص أبياه إلى أن المفهوم الذي يمتلكه البشر دائمًا تقريبًا عن الهويات هو مفهوم جوهري. هذا المصطلح، الذي أصبح اليوم جزءًا من الحس السليم النقدي، يدين الميتافيزيقا المتضمنة في أي تصور للذات ككيان ثابت وغير قابل للتغيير، وقد تم تقديمه في الأصل مرة واحدة وإلى الأبد. وهو يتعارض بشكل أساسي مع الواقع التاريخي الأساسي للظواهر الإنسانية، التي تعتبر متحركة ومتغيرة بشكل جوهري. يصر المؤلف على حقيقة أن الهويات "يمكن أن تجمعها القصص، دون جوهر". بمجرد ظهور الهويات إلى الوجود، فإن هذا التحول الجوهري للعقل يغذي الصور النمطية: فالتصورات التي يتخذونها لبعضهم البعض تكون دائمًا في غاية التبسيط والاختزال. وعلى العكس من ذلك، فإن الصور التي نشكلها عن هويتنا، والتي لا تكاد تكون أكثر تعقيدًا، لها وظيفة مثالية: فهي تهدف إلى تجميلها.

تفكيك مفهوم الهوية

بمجرد ترسيخ هذه النظرية في خطوطها العريضة، تتكون استراتيجية أبياه، بشكل أساسي، من الإشارة إلى الطابع الأيديولوجي للهويات دائمًا تقريبًا. وفي مواجهة منطق الأفكار هذا، الذي يبسط بشكل عفوي وعقائدي، فإنه يحشد البيانات التجريبية. ومن ثم فهو ينوي إظهار أن تعريفات وترسيم الهوية تتناقض بانتظام مع الحقائق، مما يوضح أن الأفكار الملموسة والأفعال العادية للبشر غير متطابقة بشكل عام. وفي معرض تحديه للهوية الخيالية السائدة، أشار، عدة مرات، إلى أن ما يسمى بالهويات الجماعية تغطي، في الواقع، تعددية وتنوعًا لا يمكن اختزالهما في الوحدة البسيطة والمتجانسة التي ترغب في امتلاكها. دائما، الواقع، باختلافاته وانقساماته التي لا نهاية لها، يناقض الادعاءات. يتتبع أبياه هذه الهويات الزائفة أو الوهمية في كل مكان. في الأخبار، على سبيل المثال، عندما يزعم أنه إذا كانت المملكة المتحدة قد صوتت بالفعل لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فلا يمكننا أن نستنتج من هذا هوية مناهضة للمجتمع في البلاد لأن سكان لندن مثل الاسكتلنديين تحدثوا ضدها علنًا. وبنفس الروح وعلى نطاق أوسع بكثير، يتحدى المؤلف فكرة الحضارة أو الثقافة الغربية أو المسيحية أو حتى الأوروبية. وهذه، حسب رأيه، تمثيلات أيديولوجية يود أن نتخلى عن فكرتها. وسواء كنا نعارض الغرب في مواجهة الشرق أو في مواجهة الإسلام، فإن ترسيم الحدود الذي يتم باستخدام هذه التسميات من شأنه أن يؤدي دائمًا إلى العنف ضد الواقع. ولتبرير وجهة نظره، يشير أبياه، بشكل تقليدي تمامًا، إلى الأندلس العربية، حيث شارك المسلمون والمسيحيون واليهود في نفس الحياة الفكرية والثقافية. وفي السياق نفسه، يرى أنه من غير المشروع للأوروبيين والغربيين المطالبة بالتفرد بالتراث اليوناني الروماني، الذي يفترض أنه يشكل هويتهم الخاصة، حيث لعب العرب دورًا حاسمًا في نقله في العصور الوسطى. فما الذي يمكن إذن أن يبقى من الهويات، سيتساءل القارئ هنا، بعد هذا العمل التفكيكي؟

يؤكد أبياه أنه من المستحيل بالنسبة لنا، على الرغم من كل شيء، أن نتخلص من الهوية وأنهم ضروريون لنا بشكل إيجابي. ويؤكد أنها تشكل شرطًا لكل وجود جماعي وكل عمل مشترك. لذلك، بعيدًا عن الرغبة في القضاء عليها، يقترح المؤلف الترويج لصورة أخرى لما هي عليه. إذا ما هو؟ ويحلل أن خيالنا عن هويتنا مثقل بالإشارة الأسطورية إلى أسلافنا المشتركين. إن هذه الدعوة إلى الأصل المقدس تميل إلى تجميد الهويات، لأنها في الواقع مسألة التزام بالنموذج المطلق الموروث منذ الأزل أو من الأحداث التأسيسية. في مقابل هذا التمثيل، يعارض أبياه الهوية كمشروع: فهي لن تكون أبدًا أي شيء آخر غير عملية من خلالها ستخترع وتعيد اختراع نفسها إلى ما لا نهاية. ومن هذا المنظور، تتوقف الهوية عن كونها قدرًا يُفرض بشكل سلبي على البشر؛ التطلع إلى المستقبل، فإنه يحشد نشاطهم. ومع ذلك، مهما كانت جوانبها الإيجابية، لا يمكن للهوية الموروثة أن تشكل، كما يؤكد المؤلف، دخلاً يمكن أن يتمتع به البشر بشكل سلبي: لا يزال يتعين الاستيلاء عليه وتنفيذه، وتثمينه، وتجديده. وعلى هذا النحو، يعتقد أبياه أن التراث الثقافي متاح للجميع عالميًا، فهو ينتمي إلى أولئك الذين يستغلونه بنشاط. وفي المستقبل المرغوب كما يتصوره، "سيكون كل عنصر ثقافي من حيث المبدأ منفصلاً عن أي عنصر آخر"، وبالتالي يمكن للجميع اختيار ما يناسبهم، وبهذه الطريقة، تكوين هوياتهم بحرية. وهو أيضًا أن الهوية، من وجهة نظر المؤلف، ليست أبدًا، بالنسبة لأي إنسان، فريدة من نوعها وبالتالي حصرية لجميع الآخرين. فهو يعتقد، على العكس من ذلك، أن هوياتنا متعددة. ومن ثم، فإن أبياه قاد منطقيًا إلى تبني منظور سياسي عالمي، وهو ما دافع عنه أيضًا في عمل سابق. وهو يعتقد أن العالمية أصبحت اليوم ضرورة، والتحدي يتمثل في خلق "هوية ينبغي أن تربطنا جميعا".

قصور الفلسفة الاجتماعية

بشكل عام، يعاني عرض أبياه من كونه سرديًا للغاية وقليلًا من المفاهيم. عدة اعتراضات تتبادر إلى الذهن. من الإشكالي، في المقام الأول، أن نؤكد على أن الهويات ضرورية بالنسبة لنا بعد أن حكمنا عليها جميعًا بأنها تقيدنا بالأكاذيب. وكما صاغه المؤلف، فهو موقف ظلامي: يحتاج البشر إلى الكذب على أنفسهم لكي يعيشوا معًا. وبما أنها لا تتوافق مع الروح العامة لخطابه، فيجب أن نستنتج أنها صياغة مؤسفة، أو على الأرجح، فلسفة اجتماعية غير مستقرة. في تحليلاته، لا يتوقف أبياه أبدًا عن تتبع الفجوات بين الصور التي يمتلكها الإنسان عن نفسه والواقع، وهو بذلك ينفذ نقدًا للأيديولوجيات. لماذا لا يقترح إذن وضع حد للهويات من خلال استبدال الحقيقة بالقناع الأيديولوجي؟ وذلك لأن المؤلف يبدو أنه يرى بوضوح، وفقًا للمعرفة المكتسبة في العلوم الاجتماعية، أن العقل، في شكل لغة وخيال، يلعب دورًا مهمًا في تكوين الحقائق الاجتماعية والتاريخية. خطأه هو وصف هذا البعد بالكذب، وربط الخيال بالمخيال بشكل أساسي. وهو أيضًا تسمية الهويات بـ “التسميات”، مما يجعل من المفهوم بهذه الطريقة أنها ظواهر مصطنعة وسطحية تمامًا. ولكن قد يتساءل المرء، كيف يمكن أن تتمتع العلامات البسيطة بهذه القوة التعبوية؟ وفي الواقع، فإن المعاني الخيالية التي ينشأ منها المجتمع، على حد تعبير كاستورياديس، ليست قضايا بالمعنى المنطقي للكلمة، وليست صحيحة ولا كاذبة، لأنها تحدد له شروط المعنى. "لم يتم إصدار مرسوم لك كـ "إنجليزي" لأن هناك جوهرًا تتبعه هذه التسمية؛ أنت إنجليزي لأن قواعدنا تحدد أنه يحق لك التمتع بآداب السلوك - وأنك متصل بالطريقة الصحيحة بمكان يسمى إنجلترا. "، يكتب أبياه. بالتأكيد، ولكن سيكون من المناسب أن نضيف أن "العلامة" ليست إذن دالاً بسيطًا يتم لصقه بشكل تعسفي على الظواهر. إنه المعنى التأسيسي لشكل من أشكال الحياة الجماعية؛ فهو ليس خارجًا عنه، بل على العكس من ذلك، يؤسسه بتجسد نفسه. وبهذه الطريقة، يتم إنشاء شكل فريد من أشكال الواقع، وبالتالي لا يمكن تحويله بسهولة. إن المجتمع القائم لا يوجد بطبيعة الحال في نمط الجوهر، ولكنه يتمتع بشكل من التماسك والاستقرار الذي يقاوم التغيير. وذلك لأن استمرارها لا يعتمد فقط على الإرادة الذاتية لأعضائها، على عكس ما يبدو أن المؤلف يفكر فيه عندما يتناول مفهوم ارنست رينان الشهير للأمة "استفتاء كل يوم" مقارنا إياه بمفهوم الوطن. روح الشعب في رؤية هيردر الرومانسية. لكن هذا المفهوم الذاتي والطوعي لا يرى إلا جانبًا واحدًا من الأشياء. تتمتع الأمة أيضًا، في الواقع، بطابع الموضوعية الذي يُفرض على الفاعلين: فإرادة الفاعلين متجذرة بالضرورة في تراث التقليد الذي استحوذوا عليه من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم والذي يجب عليهم أولاً أن يمتلكوا فيه أساسياتهم. طرق التفكير والعمل، والتي لا يمكنهم إخضاعها إلا بعد ذلك للتفكير النقدي المحتمل.

الأكاذيب التي توحد

إن الطريقة التي يتصور بها أبياه الهويات تميل نحو الفلسفة الاسمية، التي ليس للجماعات وجود حقيقي بالنسبة لها. ولذلك، فإن جميع الأسماء الجماعية هي طرق عملية للحديث عن الحقائق التي هي، في الأساس، مجرد جموع من الأفراد. ومن هذا المنظور، تتوافق الهويات فقط مع الارتباطات التقليدية؛ فهي تستجيب أولاً للفرص ثم تميل، من خلال التبلور، إلى الاستمرار لفترة أطول أو أقل. هذا، في الأساس، مفهوم فردي: الإنسان هو قبل كل شيء، بالنسبة لها، انسان فردي، والإنسان الاجتماعي ليس أبدًا أي شيء آخر غير تأثير الاتفاقات، المصطنعة والمؤقتة أساسًا، التي يتم تمريرها بين الأفراد. ولهذا السبب لا يوجد أي أثر، عند أبياه، لمفهوم الكلية الاجتماعية. ومع ذلك، فإن لغة الهوية تدعو، من حيث المبدأ، إلى لغة الوحدة: لا هوية دون كيان، كما يقول المنطقي كواين، ولا كيان دون وحدة، والتي، في حالة المجتمع، ستكون تعددية متمايزة. وهذا من شأنه، بالنسبة للمؤلف، أن يكون سقوطًا في العضوية، والاستسلام لصورة المجتمع الذي تكون فيه جميع الأجزاء المكونة، كما هو الحال في كائن حي، متحدة ومتكاملة هرميًا. ويعتقد أنه يجب علينا أن نعترف بأن الثقافة كلها "معقدة ومربكة، وليست واضحة وشفافة". ولذلك فهو لا يتوقف أبدًا عن الإصرار على حقيقة أن الهويات القائمة لا تقسم المجموعات البشرية أبدًا بشكل مُرضٍ، وأن الحدود التي ترسمها تتناقض دائمًا مع آلاف الحقائق، وبالتالي فهي موجودة جزئيًا ومؤقتًا فقط. كما أنها ستكون نسبية فقط، كل منها، لسمة معينة، لذا، في وجودنا، سنتعهد بالولاء دائمًا للهويات المتعددة وغير المتداخلة. بمعنى آخر، بالنسبة للهويات، فإن الحقائق الاجتماعية والتاريخية ستكون، قبل كل شيء، عبارة عن خليط وتمازج.

الهوية والمسؤولية

وهنا ينشأ سؤال حاسم: إذا منحنا أبياه هذا الوصف للهويات، فكيف سنتمكن من إسناد الأفكار والأفعال إلى أشخاص معنويين؟ أليست الكنيسة أو الدولة القومية أو الحزب السياسي موضوعات يمكن إسنادها، ولا ينبغي طرحها على هذا النحو؟ هل هم بلا تمثيلات، بلا تأثيرات، وبدون نواياهم؟ فهل نستنتج أن الجماعيات، في حد ذاتها، غير مسؤولة بشكل عام؟ وسيكون هذا، كما نرى على الفور، موقفاً لا يمكن الدفاع عنه. على سبيل المثال، من الضروري، لتبرير وجوب محاسبة الدولة الفرنسية الحالية على مجزرة فيل ديف أو الجرائم المرتكبة خلال حرب الجزائر، أنه يمكننا أن ننسب هذه الأفعال إلى كيان مستمر مع مرور الوقت. وهذا لا يعني الاستسلام لمفهوم جوهري لهوية فرنسا: بل يعني، بشكل أكثر رصانة، الاستثمار في صورة ذاتية تلزمنا بالاعتراف بأخطاء الماضي من خلال إعادة التأكيد على المبادئ والقيم المكونة التي نعتزم أن نبقى أوفياء لها. ولذلك فمن المناسب التمييز، كما يقترح فنسنت ديكومب، بين "الهوية المرجعية" للمجتمع من ناحية، والتي تسمح بنسب الأقوال والأفعال إليه دون خطأ، قانونيا أو تاريخيا، ومن ناحية أخرى، "هويتها التعبيرية"، التي تنص على ما تريد أن تكون عليه بشكل إيجابي، ونسبيًا يمكن للآخرين الحكم على ما تقوله وتفعله. وبدون هذا التمييز، يظل هدف خطاب أبياه النقدي فيما يتعلق بالهويات غير مؤكد. في بعض الأحيان، في الواقع، يهاجم ادعاءات الهويات التعبيرية - وبالتالي: التراث اليوناني الروماني الذي يدعي الغربيون أنه ليس له أي تأثير اليوم على وجودهم - وأحياناً يشكك في مرجعية الهوية - وبالتالي: هل يكفي أن تصوت الأغلبية؟ لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لكي ينسب ذلك إلى بريطانيا العظمى ككل؟ وكيف يتم إعادة التفكير في الهوية؟

خاتمة

يتمتع أبياه، بشكل عام، بميزة رفض محو لغة الهوية من لغتنا بكل بساطة، في مواجهة الهجمة التي نواجهها اليوم من الاحتجاجات الفردية السطحية. ومع ذلك، فإن أنطولوجيا الاجتماعي الضمنية تدفعه نحو تصور اسمي لطريقة وجود الاجتماعي التاريخي، والتي تبدأ من الأفراد ثم تنتقل فقط إلى علاقاتهم. ونتيجة لذلك، فإن الهويات، رغم كونها ضرورية، تبدو له، في أغلب الأحيان، كمسميات مضللة، مبسطة ويصعب نسبتها بشكل لا لبس فيه. ومع ذلك، يجب أن نكون قادرين، في مرحلة ما، على تحديد من قال أو فعل ماذا بشكل جماعي. في الأمور العملية، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار والتصرف، فإن الانقسامات والشكوك حول الهوية تتلاشى أو يتم التغلب عليها أو تعليقها، لأن الفعل يجب أن يقرر: ومن المستحيل بعد ذلك عدم اتخاذ قرار بشأن هوية الفرد الاجتماعية. لكي يكون الجميع قادرين على الالتزام، يتعين عليهم الاختيار بين هوياتهم المتعددة. ينوي أبياه بحق انتقاد الطابع الأيديولوجي لظاهرة الهوية، لكنه يترك البعد التأسيسي لها يفلت من ناحية أخرى. وأخيرًا، فهو يفضل معياريًا البعد المستقبلي للهوية ويقلل، بالتناسب، بعدها الماضي، وهو البعد المتعلق بالتبعية والديون تجاه الأجيال السابقة. ولذلك فهو يميل إلى أن يتخيل بسهولة أن الهوية السياسية العالمية، التي تربط الناس عالميًا بما يتجاوز الهويات الخاصة القائمة، هي على جدول الأعمال وفي متناول اليد. فكيف يمكن الانتقال بالهوية من الخاص الى العالمي المأمول؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصدر

Kwame Anthony Appiah, Repenser l'identité: Les mensonges qui unissent, Grasset,2021,  416 pages

 

قديما ذكر سقراط ان الحياة الخالية من التفكير والاختبار لا تستحق ان تُعاش، فالحياة في نظره لابد ان تُختبر، ولكن ماذا يمكن ان يفعل الانسان في هذا الاختبار؟ سقراط ادرك ان الانسان هو اكثر من هذه الحياة القصيرة على الارض. فهو لديه روح أبدية، فيها يقرر مصيره الأبدي من خلال الخيارات التي يقوم بها في هذه الحياة. ولكي تصبح افكارنا افعالا فلابد لهذه الافعال ان تشكل عاداتنا، وهذه العادات تصنع شخصيتنا الثابتة التي تذهب معنا للخلود. بدون الحكم على حياة الفرد وبدون المعرفة التي نكتسبها عبر الاختيار للافعال التي نقوم بها فما الغاية من حياتنا اذاً؟ انها بذلك سوف لن تختلف عن حياة الكائن الحيواني وستنتهي الى اللاجدوى. تساؤلات سقراط يمكن اعتبارها ركيزة وحلقة اساسية في التفكير النقدي المعاصر. اذ يمكن استخدام تلك التساؤلات المحكمة disciplined questioning في متابعة الفكر في عدة اتجاهات ولعدة أغراض، بما في ذلك استكشاف افكارا معقدة للوصول الى حقيقة الاشياء، وفي افتتاح القضايا والمشاكل، وإماطة اللثام عن الافتراضات وتحليل المفاهيم لغرض التمييز بين ما نعرف وما لا نعرف، واتّباع المضامين المنطقية للتفكير.

المرحلة الاولى: مرحلة اللاتفكير

جميعنا وُلدنا دون ان نفكر، غير واعين اساسا بالدور الذي يلعبه التفكير في حياتنا. معظمنا يموت وهو على هذه الطريقة. في هذه المرحلة من اللاتفكير، لا يوجد لدينا تصور عما يعنيه التفكير، فمثلا، باعتبارنا غير مفكرين نحن لا نلاحظ اننا باستمرار نضع افتراضات، نكوّن مفاهيم، نطرح استنتاجات، ونفكر ضمن وجهات نظر. في هذه المرحلة، نحن لا نعرف كيف نحلل ونقيّم تفكيرنا، لا نعرف كيف نقرر ما اذا كانت أهدافنا قد صيغت بوضوح، وان افتراضاتنا مبررة، واستنتاجاتنا طُرحت بطريقة منطقية. نحن غير واعين بالخصائص الفكرية ولذلك لا نكافح لتجسيدها.

في هذه المرحلة، يقود التفكير السيء الى العديد من المشاكل في حياتنا، لكننا غير واعين بهذا. نحن نظن ان عقائدنا حقيقية، وقراراتنا صائبة. نفتقر للمعاير الفكرية وليست لدينا فكرة عن ماهية هذه المعايير. نحن نفتقر للسمات الفكرية ولا ندرك اننا نفتقر لها. نحن وبلا وعي نخدع أنفسنا بعدة طرق، نخلق أوهاما سارة ونحافظ عليها. عقائدنا تبدو معقولة لنا، ولذا نحن نؤمن بها بثقة تامة. نتحدث عن العالم ونحن واثقون ان الاشياء هي حقا ما يبدو لنا. نحكم على بعض الناس كـ (جيدين) وعلى آخرين بـ (السيئين).  نوافق على بعض الافعال ولا نوافق على افعال اخرى. نتخذ قرارات، نقوم برد فعل تجاه الناس، نسلك طريقتنا في الحياة، ولا نتسائل بجد عن التفكير الذي نقوم به ولا عن انعكاساته.

في هذه المرحلة، تلعب الميول لمصالحنا الذاتية الدور الرئيسي في تفكيرنا، لكننا لا نقر بهذا. نحن نفتقر الى المهارات والتحفيز الذي يمكّننا من ملاحظة كم نحن منحازين ومنقادين نحو مصالحنا الذاتية، وكم نحن نستنسخ الآخرين وكم نتجاهل الافكار دون عقلانية لأننا لا نريد تغيير سلوكنا وطريقتنا المفضلة في النظر الى الأشياء.

المرحلة الثانية: مرحلة التحدي الفكري

هل نحن مستعدون لقبول التحدي؟ نحن لا نستطيع حل المشكلة التي لا وجود لها. لا نستطيع التعامل مع الظروف التي ننكرها. بدون معرفة جهلنا، لا نستطيع البحث عن المعرفة التي نفتقدها. بدون معرفة المهارات التي نحتاج تطويرها سوف لن نطور تلك المهارات. عندما نصبح على وعي بان المفكرين "العاديين" عادة يفكرون بطريقة ناقصة وغير جيدة، سننتقل الى المرحلة الثانية من تطوير التفكير النقدي، سنبدأ بملاحظة اننا عادة نستعمل افتراضات مشكوك فيها، نستعمل معلومات زائفة وناقصة ومضللة، نعمل استدلالات لم تأت من الدليل الذي بحوزتنا، نفشل في التسليم بوجود مضامين هامة في أفكارنا، نفشل في الاعتراف بالمشاكل التي بحوزتنا، نكوّن مفاهيم خاطئة، نفكر وفق وجهة نظر منحازة، وبطريقة أنانية لاعقلانية.

اننا ننتقل الى مرحلة "التحدي" حينما نصبح على وعي بالطريقة التي يرسم بها التفكير حياتنا، بما في ذلك الاعتراف ان سوء تفكيرنا يسبب مشاكل في حياتنا. نحن نبدأ بالإقرار ان التفكير السيء قد يكون مهددا للحياة، ربما يقود الى الموت او الى عجز دائم، فنؤذي بذلك الاخرين بالاضافة الى انفسنا. فمثلا، نحن ربما نتأمل التفكير في الفرد الذي يماطل دائما ويؤجل الاشياء باستمرار، او المدير اللاعقلاني الذي لايستطيع ادراك سبب عدم تصفيق العاملين له، الفرد الغاضب عموما على العالم، المراهق الذي يعتقد ان التدخين هو حالة من اتزان الشخصية، المرأة التي تعتقد ان فحص الرحم غير هام، صاحب الدراجة النارية الذي يظن ان ارتداء الخوذة يعيق الرؤية، ولذا من الأمان نبذ الخوذة عند السياقة، او الشخص الذي يعتقد بامكانية السياقة مع تناول الخمر، او الشخص الذي يقرر الزواج من امرأة حمقاء اعتقادا منه انها ستتغير بعد الزواج.

نحن نقر ايضا بالصعوبة التي يتطلبها "تحسين" تفكيرنا. فلو كنا في هذه المرحلة من التفكير، لابد من الإقرار بان مشكلة تغيير عاداتنا في التفكير هو تحدي هام يتطلب تغييرات مكثفة وصعبة في روتين حياتنا اليومية. بعض الاشارات تنبئ ببروز الحالة التفكيرية reflectiveness هي:

اننا نجد انفسنا نعمل بتركيبات ذهنية تخلق التفكير، او تجعل هناك امكانية للتفكير مثل: المفاهيم، الافتراضات، الاستدلالات، المضامين، وجهات النظر. اننا نجد انفسنا مهتمين بدور الخداع الذاتي في التفكيررغم ان فهمنا"مجرد" واننا ربما غير قادرين على اعطاء عدة امثلة من حياتنا الخاصة. في هذه المرحلة من التطور، هناك خطر معين وهو خداع الذات، العديد من الناس يرفضون قبول الطبيعة الحقيقية للتحدي، التحدي المتمثل بان تفكيرنا الخاص يمثل مشكلة حقيقية وهامة في حياتنا. لو كان احدنا يفعل كما يفعل العديد من الناس، فان عاداته الاعتيادية في التفكير ستبقى كما هي في مرحلة اللاتفكير. على سبيل المثال، ربما يجد نفسه يتأمل وفق الطريقة التالية:

تفكيري ليس سيئا. في الحقيقة، انا كنت افكر جيدا لفترة ما. انا اتساءل عن كثير من الاشياء، انا غير منحاز او متعصب. الى جانب ذلك، انا انتقادي جدا، غير منخدع ذاتيا كما هو الحال في معظم الناس الذين اعرفهم. اذا كان احدنا يفكر بهذه الطريقة، فهو سوف لن يكون وحيدا. انه سوف يرتبط بالاغلبية. "اذا كان كل شخص يفكر كتفكيري فان العالم سيكون رائعا"هي النظرة المسيطرة. اولئك الذين يشتركون بهذه الرؤية يتراوحون من ذوي التعليم الضعيف الى ذوي التعليم العالي. لا يوجد دليل للقول ان التعليم المدرسي يرتبط بالتفكير الانساني. في الحقيقة، العديد من الخريجين هم مغرورون فكريا نتيجة لتعليمهم المدرسي. هناك اناس غير مفكرين لم يتجاوزوا التعليم الابتدائي، ولكن هناك ايضا من اكملوا دراستهم العليا. الناس اللامفكرون موجودون في الطبقة العليا والوسطى والسفلى من المجتمع. ذلك يتضمن السايكولوجيين وعلماء الاجتماع والفلاسفة والرياضيين والاطباء والقضاة والمحامين وأعضاء مجالس النواب والناس من مختلف المهن. باختصار، غياب التواضع الفكري هو شائع في كل الطبقات في جميع مناحي الحياة وفي كل الاعمال. يتبع ذلك ان المقاومة السلبية او النشطة لتحدي التفكير النقدي هي الشائعة وليست حالة نادرة. وسواء كانت بشكل استهجان او عداء صريح فان معظم الناس يرفضون تحدي التفكير النقدي، وهذا هو السب في ان يكون البحث عن الذات امرا هاما في هذه المرحلة من العملية.

المرحلة الثالثة: التفكير الابتدائي

هل نرغب في ان نبدأ؟

عندما يقرر الفرد بحماس قبول التحدي في النمو والتطور كمفكر، فانه سيدخل مرحلة نسميها "المفكر المبتدئ". هذه المرحلة من التفكير يبدأ فيها التفكير الجدي. هي مرحلة استعداد قبل ان يحصل الفرد على قيادة وسيطرة واضحة في التفكير. انها مرحلة بدء الادراك، هي تطوير قوة الارادة، انها ليست مرحلة من اللوم الذاتي وانما هي بروز الوعي. هي مشابهة للمرحلة التي يعترف فيها الفرد المدمن على الخمر ويقبل تماما حقيقة انه مدمن. لو تصورنا المدمن حين يقول "انا مدمن وانا فقط المسؤول عن ادماني"، الآن ليتصور احدنا القول "انا مفكر ضعيف ومشاكس وانا فقط المسؤول عن نفسي". حالما يعترف الناس انهم "مدمنون" على التفكير الضعيف، فهم يجب ان يبدأوا الاعتراف بعمق وبطبيعة المشكلة. نحن كمفكرين مبتدئين يجب الاعتراف بان تفكيرنا هو احيانا اناني. فمثلا، نحن نلاحظ ضآلة اهتمامنا بحاجات الاخرين وحجم تركيزنا على ما نريده شخصيا. نحن نلاحظ ضآلة اعترافنا بوجهة نظر الاخرين وحجم التأييد الذي نمنحه لصوابية افكارنا. نحن ربما نضع انفسنا في موقف نحاول فيه السيطرة على الاخرين لنحصل على ما نريد او نقوم بدور الخضوع للاخرين (لأجل الحصول على المكاسب التي يجلبها السلوك المذعن).

نحن كمفكرين مبتدئين في التفكير نبدأ بـ

- تحليل منطق المواقف والمشاكل

- التعبير عن الاسئلة بوضوح ودقة

- فحص المعلومات من حيث الدقة والملائمة

- التمييز بين المعلومات الخام وبين تفسير الاخرين لها

- الاعتراف بالافتراضات المرشدة للاستدلالات

- تحديد العقائد المتعصبة والمتحيزة، والاستنتاجات غير المبررة، والكلمات ذات الاستخدام السيء، وغياب المضامين، وملاحظة الحالات التي تؤثر فيها مصالحنا الأنانية على وجهات نظرنا.

وهكذا، نحن كمفكرين مبتدئين سنصبح مطلعين على كيفية التعامل مع تراكيب او اشكال التفكير (الاهداف، الاسئلة، المعلومات، التفسيرات ..). نحن نبدأ بتقدير قيمة التفكير في تفكيرنا من حيث وضوحه ودقته وملائمته ومنطقه واتساع عمقه. لكننا لانزال في مستوى قليل من المهارة في هذه الفعاليات. انها تبدو صعبة المراس لنا. علينا ان نجبر أنفسنا للتفكير بطرق محكمة. نحن كالمبتدئ في الباليه، نشعر بالسذاجة، لا نشعر بالأناقة، نتعثر ونرتكب أخطاء، لا احد يدفع نقودا من أجل مشاهدة ادائنا. نحن ذاتنا لا نحب ما نراه في المرآة عن عقولنا. لكي نصل الى هذه المرحلة الابتدائية في التفكير يجب ان تبدأ قيمنا بالتحول، يجب ان نبدأ باستكشاف اساس تفكيرنا ونكتشف الكيفية التي نفكر ونعتقد بها حينما نعمل. ولكي نقف الان على تفاصيل اكثر حول هذا الهدف. سنفكر في بعض المؤثرات الكبيرة التي شكلت تفكيرنا.

نحن وُلدنا في ثقافة (اوربية، امريكية، افريقية، اسيوية)

نحن ولدنا في زمن معين (في قرن، في سنة)

انت ولدت في مكان ما (في بلد، مدينة، شمال او جنوب، شرق ام غرب)

انت نشأت بين ابوين وضمن عقيدة معينة

انت كوّنت مختلف الارتباطات من الناس ذوي القيم والعقائد والمحرمات.

اذا اردنا تغيير أي من هذه المؤثرات فان نظامنا العقائدي سيكون مختلفا. لو نفترض ان العديد من هذه المؤثرات خلقت عقائد زائفة لدينا، معنى ذلك انه توجد في عقولنا حتى الان عقائد زائفة ونحن نعمل بموجبها. ولكن يجب ملاحظة ان العقل لا توجد فيه آلية لتنقية العقائد الزائفة. نحن جميعنا نحمل في عقولنا تعصبات وميول لثقافتنا، لاصدقائنا وزملائنا. ان عملية ايجاد طرق لتشخيص تلك العقائد المعيبة واستبدالها باخرى اكثر عقلانية هي جزء من برنامج التفكير النقدي.

ان عقولنا هي عوالم غير مستكشفة، عوالم داخلية تطبع كل حياتنا. هذا العالم الداخلي هو الحقيقة الاعظم اهمية بالنسبة لنا لأنه معنا حيثما نعيش. انه يقرر المتعة والاحباط، يضع حدود ما نرى ونتصور، يُبرز بوضوح ما نرى، يدفعنا للجنون، يزودنا بالعزاء والسلام والهدوء.

لو استطعنا الإقرار بهذه الحقائق الخاصة بنا، سوف نجد الحافز لتبنّي مسؤولية التفكير، ولنكون اكثر من مجرد إلعوبة في ايدي الاخرين، ونصبح القوة الحاكمة في حياتنا.

المرحلة الرابعة: ممارسة التفكير

ان التفكير الجيد يمكن ممارسته كلعبة التنس او الباليه او كرة السلة. هل نحن ملتزمون بالممارسة المنتظمة؟ عندما يعترف الناس صراحة ان التحسن في التفكير يتطلب ممارسة منتظمة، ويتبنّون نمطا من الممارسة، عندئذ يصبحون مفكرين ممارسين. لا توجد هناك طريقة في عملية تصميم نمط الممارسة. هناك عدة طرق، بعضها جيد والآخر سيء، فمثلا انت ربما تتصفح كتابا يقدم اقتراحات لتحسين التفكير، هذه الاقتراحات يمكن استخدامها كنقطة بداية. ربما يراجع البعض فعاليات (اختيار الفكرة) او يدرس عناصر التفكير او مستويات التفكير وخصائص الذهن، وقد يركز اخرون على كيفية عمل قرارات ذكية، او على التفكير الاستراتيجي. كل واحدة من تلك المواد تمثل وسيلة هامة في وضع خطة منهجية لتحسين التفكير. ان مشكلة معظم الناس في ممارسة التفكير انهم لا يستمرون في ذلك بطريقة منتظمة، هم لا يؤسسون عادات للممارسة المنتظمة، فيُحبطون بسبب الارتباك والصعوبات التي يلاقونها اثناء المحاولات الاولى للاداء الجيد.

ان النجاح يأتي عادة لمن لديهم التصميم والقدرة على الاستمرار، يجب وضع الخطط لمواجهة اي احباط او فشل. يمكن تجنب التثبيط والاحباط عبر الاعتراف منذ البداية اننا منخرطون بخطط لإختبار الافكار. يجب إعداد الذات للفشل المؤقت، انها عملية تشبه ارتداء الملابس الجديدة التي قد لا تناسب الجسم جيدا. لكن في النهاية سنعثر على القياس الملائم.

المرحلة الخامسة: التفكير المتقدم

ما الشيء الذي يمكن اعتباره تفكيرا متقدما؟ حينما نصل الى المرحلة الرابعة ونمارس المهارات سنكون قادرين على الاجابة على هذا السؤال، كل ما نحتاج هو ان نضع خطة ونقرأ المصادر الانفة الذكر.

***

حاتم حميد محسن

.......................

* من كتاب (التفكير النقدي critical thinking)، تأليف Richard Paul و Linda Elder الصادر عن مؤسسة التفكير النقدي،عام 2002، الطبعة الثانية عام 2013 في 459 صفحة.

(نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر ممّا هو ميّت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافيّ).. محمّد عابد الجابري

شهد علم الاجتماع التربويّ ولادته في مطلع القرن العشرين على أيدي مفكّرين عمالقة مبدعين في مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، كأوغست كونت، وإميل دوركهايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وجون ديوي. وشهد هذا الفرع العلميّ نهضته في أواسط القرن العشرين. ويسجّل هذا العلم اليوم حضوراً معرفيّاً عالميّاً مميّزاً، إذ أصبح بحقّ، كما تنبأ له دوركهايم، أحد أهمّ العلوم الاجتماعيّة الّتي تأخذ بأطراف العلاقة بين المجتمع والتربية على نحو شامل، وتعمل على تقصّي أبعاد هذه العلاقة وحدودها في ضوء المنهجيّات السوسيولوجيّة المتّقدمة ونظريّاتها المتجدّدة.

وإذا كان علم الاجتماع التربوي قد انبثق من صلب الحوادث والتطورات الاجتماعية الحضارية، فإنّ تطوره الهائل عائد لا محالة إلى تأثير هذه التغيرات الاجتماعية الحضارية، وقد تعيّن عليه - تحت تأثير هذا التفاعل الوجودي مع معطيات الحضارة الإنسانية وصدماتها - أن ينمو ويزدهر في خضمّ الأمواج المتلاطمة والمتتابعة للتطورات الحضارية في المجتمع الإنساني. ونظرا إلى تعقد الظروف الحضارية والتاريخية للمجتمعات الإنسانية في عالم اليوم، يواجه علم الاجتماع تحدّيات جديدة راهنة ومختلفة نوعيّاً عن تلك الّتي عرفها خلال القرن العشرين، ومن الواضح تماماً أنّ هذا النمط من التحدّيات يتجاوز إمكانيّات السوسيولوجيّة التربويّة الكلاسيكيّة ومناهجها، فهذه السّوسيولوجيّة كانت تتحرّك في فلك مشكلات القرن الماضي وتحدّياته. والمجتمعات الإنسانيّة المعاصرة، ونحن نقترب من العقد الرابع من الألفيّة الجديدة، في أتّون مواجهة جديدة مع أخطر تحدّيات الوجود والمصير، تحت مطارق الثورة الصناعيّة الرابعة الّتي بدأت تضرب البنية الوجوديّة لهذه المجتمعات، وتهدّد مصيرها، وتملؤها بالقلق والهواجس، وتضعها في مواجهة طفرات هائلة من التغيّر الاجتماعيّ تفوق كلّ الاحتمالات الّتي يمكن للخيال البشريّ أن يبدعها، وللعقل الإنسانيّ أن يأخذها بالحسبان.

 وقد أدى التّقدّم الكبير في مجال التكنولوجيا الصناعيّة والإنتاج الصناعيّ الرأسماليّ الضخم إلى حدوث مشكلات كبيرة تتمثّل في التلوّث الرهيب للبيئة، وفي الاحتباس الحراريّ، وفي انتشار الأمراض والأوبئة والحروب والكوارث الطبيعيّة. ويزداد الأمر هولا عندما نأخذ بعين الاعتبار الانهيارات الثقافيّة الأخلاقيّة المتمثّلة في مختلف مظاهر الفساد والجموح الأخلاقيّ، الّتي بدأت تأخذ تجلّيات مرعبة معادية للقيم الإنسانيّة، وأقلّها انتشار المثليّة الجنسيّة الّتي يُروّج لها بقوّة المؤسّسات العالميّة الكبرى لتدمير الأخلاق والقيم الإنسانيّة، وربما لا نبالغ في القول: إنّ الإنسانيّة قد تشهد غداً ظهورَ تشريعات تبيح زواج المحارم وتشجّع عليه، بعد أن تجرّأت بلدان - كفرنسا - على تقنين الزّواج بين ذوي الجنس الواحد. وفي ضوء هذا التقدّم الوحشيّ للحضارة المادّيّة يجد الإنسان نفسه في وضعيّة مأساويّة من الاغتراب الأخلاقيّ، وقد بدأ يفقد هويّته الإنسانيّة وكيانه الذاتيّ، ويهتزّ بنيانه الأخلاقيّ.

ومن ثوابت هذا العصر النمو الهائل في حجم المشكلات والتحدّيات الّتي تواجه الإنسانيّة التي بلغت حدّاً يفوق احتمالات الوصف والتقدير، ومنها: الفقر والفاقة والجوع، ودمار البيئة، وفقدان الهويّة، وانتشار وضعيّات الاغتراب والاستلاب، والحروب الأهليّة، والتعصّب، والصراع على الثروة، والفساد، وتفسّخ الأخلاق. وقد شاعت هذه الظواهر وما يماثلها على نحو يستفزّ  ويصدم ويبعث على الفزع. وهي قضايا ومشكلات مستجدّة تختلف نوعيّاً عن القضايا الّتي شكّلت محور السوسيولوجيا الكلاسيكيّة في القرن الماضي. وفي دائرة هذه المواجهة الجديدة لقضايا العصر تستمرّ السوسيولوجيا التربويّة في تطوير أدواتها ومناهجها ونظريّاتها بصورة مختلفة كلّيّاً عمّا كنّا قد عرفناه طوال المراحل التّاريخيّة السّابقة.

ومن اللافت اليوم أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة لم تستطع، حتّى اللحظة، مواكبة التحدّيات والمستجدّات في مجال النظريّة كما في مجال البحث السوسيولوجيّ، وما زالت هذه السوسيولوجيا تدور في فلك النظريّات الكبرى الّتي عرفناها مع دوركهايم وماركس وماكس فيبر. وهي أنماط سوسيولوجيّة نشأت في مطلع القرن العشرين، واختفت تماماً في نهاياته. واللافت أيضا أنّ مناهج علم الاجتماع التربويّ في العالم العربيّ مستمرّة في الدّوران محوريّاً حول كلاسيكيّات علم الاجتماع التقليديّ، وأنّ معظم الإنتاج الفكريّ الأكاديميّ يتحرّك في الفضاء التقليديّ الكلاسيكيّ للسوسيولوجيا الدوركهايميّة والفيبريّة والماركسيّة، دون أن يهتدي بالنظريّات الجديدة والمتجدّدة. وهكذا يظلّ الفكر السّوسيولوجيّ التّربويّ العربيّ وإنتاجه بعيدين وغريبين عن مشكلات العصر الّذي نعيش فيه، وعن التحدّيات الكبرى الّتي تعتمل في باطنه.

 كما يثير الانتباهَ أنّ كتب علم الاجتماع التربويّ- الّتي غالباً ما تقرّر في الجامعات ما زالت تسير على إيقاع كلاسيكيّ واحد لا يتغيّر كثيراً بين كتاب أو آخر، أو بين مؤلّف وآخر، وكأنّنا إزاء وصفة سوسيولوجيّة واحدة لا تتغيّر في مسمّياتها أو طروحاتها التقليديّة الّتي يكرّر بعضها بعضاً بطريقة اجتراريّة خارج سياقها التاريخيّ.

ومن المهمّ في هذا السياق أن نثمّن عالياً جهود السوسيولوجيّين العرب الأوائل الّذين قدّموا لنا السوسيولوجيا التربويّة كما يجب أن تقدّم، وبما يتناسب مع زمنهم وقضايا عصرهم بطريقة إبداعيّة خلّاقة. ولكن يُؤْخَذُ كثيراً على الأكاديميّين الشباب الّذين اتّخذوا منهج الاجترار والنسخ والتقليد السوسيولوجيّ، دون تغيير أو تبديل يذكر في الطرائق والمناهج والنظريّات، ودون أن يأخذوا بعين الاعتبار مستجدّات هذا العلم وتطوّراته الإبداعيّة، وهم بذلك أبعد ما يكون عن قضاياه ومناهجه ونظريّاته المتجدّدة.

ومن يتأمّل في المؤلّفات السوسيولوجيّة العربيّة اليوم، ولا سيّما في مجال سوسيولوجيا التربية، سيجد أنّ هذه المؤلّفات لا تعدو أن تكون ركاماً من التكرار والاجترار لأعمال السوسيولوجيّين الروّاد العرب الّذي اجتهدوا في التعريف بالسوسيولوجيا التربويّة كما يليق بها في النصف الأوّل من القرن العشرين. ومع أنّ السوسيولوجيا التربويّة العالميّة تطوّرت تطوّرا عظيما في العقود الخمسة الماضية، لتستوعب مختلف الظواهر الاجتماعيّة والقضايا المتجدّدة بأدوات منهجيّة وتصوّرات نظريّة جديدة، فإنّ معظم السوسيولوجيّين الشباب العرب ظلّوا واقفين على أطلال العطاء الفكريّ لأساتذتهم، يراوحون في المكان الّذي وصلوا إليه، دون أن يتقدّموا كثيراً في مجال الإبداع السوسيولوجيّ، أو حتّى في التعبير عن السوسيولوجيا التربويّة المتجدّدة بنظريّاتها ومناهجها وقضاياها المعاصرة.

ومن أهمّ ما يُذكر في باب نقد السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أنّ سدنتها غالباً ما يقدّمونها مقطوعة الجذور عن أصولها السوسيولوجيّة المحضة، دون أن يردّوا فروعها إلى الأصول، علماً بأنّ السوسيولوجيا التربويّة ما تزال وثيقة الصلة بأرومتها النظريّة في علم الاجتماع، وهذا يعني أنّ أيّ فهم لقضايا السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة لا يمكن أن يتمّ إلّا في ضوء النظريّات السوسيولوجيّة النظريّة الكبرى الّتي تولدّت فيها. ومن المهمّ في هذا الخصوص التأكيد على أنّ الصلة تظلّ وثيقة جدّاً بين علم الاجتماع التربويّ والنظريّات العامّة في علم الاجتماع، ولا يمكن فهم نظريّات علم الاجتماع التربويّ إلاّ في إطار النّظريّات السوسيولوجيّة الشاملة الّتي ما زالت تجدّد نفسها، وتنطلق دائماً نحو آفاق جديدة. ومن الجدير بالأهمّيّة أنّ علم الاجتماع التربويّ نشأ في صلب علم الاجتماع، وارتبط به على أيدي مؤسّسيه ومنظريه الأوائل، الّذين أولَوه اهتمامهم كما هو الحال عند ابن خلدون ودوركهايم وفيبر وماركس وجون ديوي وغيرهم من الروّاد المبكّرين.

وقد وجدنا أنّه يصعب جدّاً على الطلبة والقرّاء أن يدركوا الفكر السوسيولوجيّ التّربويّ بصورة صحيحة ما لم ينطلقوا من فهم عميق لحركة السوسيولوجيا العامّة، ومن توغّل بعيد في مضامينها ومستجدّاتها النظريّة الأساسيّة. ومن المهمّ في هذا الجانب أن نشير إلى أنّ السوسيولوجيا التربويّة ما زالت تقدّم أكاديميّاً في الجامعات العربيّة بصورة منفصلة عن أصولها النظريّة العامّة، وغالباً ما تهمل النظريّات الأساسيّة الّتي تشكّل الحاضن الفكريّ والسوسيولوجيّ لأيّ فهم عميق لقضايا علم الاجتماع التربويّ وإشكاليّاته المعاصرة.

ومن الأمور الّتي تستحقّ الاهتمام أيضاً أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة غالباً ما تقدّم بطريقة نظريّة تستعرض ما جاء عند الروّاد والمنظّرين، إذ قلّما تقدّم في سياق التحدّيات والقضايا والمشكلات الّتي تعالجها، وتبحث فيها، وتخوض في غمارها، وهو الجانب الّذي يجب أن يحظى بدرجة أكبر من الاهتمام والتركيز. ولا ريب فإنّ القضايا والمشكلات الّتي تتناولها السوسيولوجيا تمثّل جوهر هذا العلم، وترسم حدوده، وتؤصّله في وعي الدارسين والباحثين. وثمّة اليوم تحدّيات هامّة وخطيرة جدّاً ما زالت خارج السياق العلميّ والمنهجيّ لما يدرس، ويقدّم في الجامعات العربيّة، وفي الفضاء السوسيولوجيّ العامّ لعلم الاجتماع التربويّ.

ونحن في هذا السياق، ندرك تماما بأنّ علم الاجتماع التربويّ الغربيّ استطاع أن يقدّم خدمات جليلة لمجتمعاته ولسياسات بلدانه. كما نلاحظ أنّه يسجّل، اليوم، في الوطن العربيّ، انطلاقته الجادّة لمجابهة مشكلات العصر ذات الطابع التربويّ الاجتماعيّ، ولمحاولة الإجابة عن التساؤلات الّتي تطرحها المسألة الاجتماعيّة للتربية، الّتي تتمثّل في جملة من المظاهر، كالانفجار المدرسيّ، والبطالة المدرسيّة، وحاجة مجتمعاتنا الملحّة إلى الكفاءات والخبرات واليد العاملة المؤهّلة الّتي يقتضيها عصر لا يعرف إلّا منطق التطوّر والحركة.

وإذا كانت المجتمعات الغربيّة تعاني اليوم كثيراً من المشكلات التربويّة والتحدّيات البيداغوجيّة الناجمة عن تطوّر الحياة، فإنّ الشرق العربيّ يواجه اليوم تحدّيات تربويّة واجتماعيّة لا مثيل لها في السّابق من حيث الحجم والعدد والنوعيّة، وهي تشكّل ركاماً من تحدّيات الوجود الّتي تمتدّ على مساحة زمنيّة هائلة في الماضي والحاضر والمستقبل. ولا ريب أنّ هذه المشكلات تمتدّ في العمق والجذور. وإذا كانت رهانات المجتمعات الغربيّة تتمحور حول الحاضر والمستقبل، فإنّ المجتمعات العربيّة تعاني مشكلات الحداثة والتقليد ومشكلات التخلّف والتقدّم، وهذا كلّه يفرض على التّربية العربيّة تحدّيا مصيريّا، ويُلقي على عاتق علماء الاجتماع مسؤوليّات جسيمة لا قبل لهم بها لكنّهم مدعوّون إلى تحمّلها.

فالتربية العربيّة تعاني اليوم خللاً وجودياً قوامه الفساد الّذي انتشر في مختلف مفاصل الحياة التربويّة في كلّ المستويات. وقد أصبحت المؤسّسات المختلفة تعمل على نشر الفساد وترسيخ الإفساد في المجتمع، ويمثّل هذا الأمر ظاهرة وجوديّة خطرة جدّاً، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بتربية أفسدها زمانها؟

ولا يُستغرب القول بناء على ما تقدّم: إنّ التربية العربيّة اليوم تعيش أسوأ لحظاتها التّاريخيّة، إذ أصبحت مجالا مغايراً للقيم الأخلاقيّة الخلّاقة الّتي عرفناها من قبل، فصار الغشّ في الامتحانات، والتلقين في الدروس، والانتحال العلميّ، والتمييز الاجتماعيّ، والوساطة والمحسوبيّة، وغياب التكافؤ، وانتشار التعصّب الاجتماعيّ بين جدران المدرسة، وهيمنة العنف والتنمّر المدرسيّين، واستفحال الأمّيّة الثقافيّة بين صفوف الأساتذة والمعلّمين والمتعلّمين، سمات جوهريّة في مدارس اليوم، وفي الأنظمة العربيّة التعليميّة السائدة. وهكذا لم تعد المدرسة - على النحو الّذي عهدناه والّذي يجب أن تكون عليه - مؤسّسة لبناء الأخلاق، وتكريس التسامح، وبناء العقول، واحتضان القدرات، وتحقيق العدالة، وترسيخ الجدّ والجهد والاجتهاد في طلب العلم. ولم يعد العلم والثقافة غاية في ذاتيهما، بل صارت المدرسة أنقاض مؤسّسة فاقدة للحسّ الإنسانيّ بتحوّلها إلى مؤسّسات لمنح الشهادات، وصارت الشهادات ذاتها وسائل نفعيّة للحصول على وظيفة أو عمل في سوق متوهّم للعمل. وحتّى الأهالي والأولياء لم يعد همّهم -كما كان في سابقات الأيّام - أن ينهل أطفالهم من المعرفة، وأن يُصقلوا بالثقافة والعلم، وأن تتأصّل فيهم مكارم الأخلاق، بل أصبح هاجسُهم الأكبر يتمثّل في أن يحظى أبناؤهم بالنجاح المدرسيّ وأن ينافسوا في الحصول على الشهادات كرخصة لسوق العمل بأيّ وسيلة أو معيار دون أيّ وازع أخلاقيّ أو رادع قيّميّ.

لقد تحوّلت مدارسنا ومؤسّساتنا التربويّة اليوم إلى منصّات تعمل على إيقاعات الأيديولوجيّات الاغترابيّة المضادّة للإنسانيّة والإنسان، وأصبحت مجرّد سجون مغلقة تمارس فيها طقوس الفساد والإفساد، فغدت في جوهرها مدارس تعمل على مقاييس الأسياد الّذين حوّلوها إلى قوّة هائلة لتدجين العقول، وتشكيل الوعي النمطيّ المستلب، والتدمير الممنهج للقدرات النقديّة والقدرات الإبداعيّة في نفوس الطلبة والناشئة والأطفال، لتبقى الأجيال خاضعة ضعيفة لا تملك أدوات التمرّد وأدوات الثورة على الواقع المأساويّ الّذي يهدّد وجودنا.

 وإنّه لممّا يدعو إلى الحسرة والأسى أنّ الأنظمة التربويّة العربيّة لم تسلم من فوضى الفساد والإفساد، وحين أصبحت مرتعاً للفساد أصبحت بذاتها منتجة للفساد وراعية له، بعد أن كانت أملا ورجاء لمجتمع توسّم فيها قدرتها على إصلاح ما أحدثه الفساد الاجتماعيّ، وأصبح حالنا حال الشاعر الّذي أنشد يقول:

بالملح نصلح ما نخشى تغيّره

فكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟

 إنّ ظاهرة الفساد والإفساد الّتي تشكو منها التربية العربيّة اليوم جعلت المشكلات الّتي تعانيها صورة مضخّمة للمشكلات الاجتماعيّة الّتي تعتور المجتمع، وتهزّ استقراره. وهي مشكلات صميميّة كان من نتائجها أنّ المنظومة التّربويّة تنتج، وتعيد إنتاج الآفات والبلاء في المجتمع. وهذا من شأنه أن يطرح على المجتمع تحدّيات خطيرة تفوق إمكاناته وقدراته على المواجهة، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بنظام تربويّ داخَلَهُ الفساد وتسرّب إليه الخلل؟

ولا تختلف وضعيّة الجامعات كثيراً، وقد غدت مجرّد ثكنات مدجّنة لإنتاج أجيال اغترابيّة عاجزة كلّيّاً، وغير قادرة على ممارسة الفعل التربويّ الحضاريّ إنتاجاً وإبداعاً. إنّ المؤسّسات الجامعيّة هي الآن آلة مدمّرة تعمل على تحويل طلبتها ومريديها إلى قوّة استلابيّة في عالم استلابيّ اغترابيّ مدجّن بقيم الطاعة والرضوخ والقبول بالواقع الراهن على عواهنه وسلبيّاته المخيفة. وقد تبدو هذه المؤسّسات التعليميّة مشرقة في مظاهرها السطحيّة - وذلك لمن لا يستطيع الخوض في الأعماق - إذ تأخذ صورة ممارسة تربويّة خلّاقة تعمل على بناء الأجيال المتعلّمة وتطوير قدراتها وإمكاناتها في عالم الثقافة والمعرفة، ولكنّ هذه الصورة الّتي تبدو على السطح تغاير تلك الّتي تتحرّك في الأعماق. ويمكن لمن يمتلك القدرة على النّفاذ إلى باطن الأمور - أي في خفايا البنية الوظيفيّة لهذه المؤسّسات والمدارس - أن يرى أنّها في جوهرها ليست أكثر من مؤسّسات تمارس أكثر أدوات القمع تدميراً لقدرات الأطفال والنّاشئين الإبداعيّة العقليّة والروحيّة، وذلك لإنتاج أجيال مروّضة هامدة خامدة ضعيفة مغيّبة. وعلى هذه الصورة تفعل المدرسة فعلها السّلبيّ في ترسيخ قيم الخضوع والهزيمة والانكسار؛ إذ تقتل في النفس كلّ قدرة على النقد، وكلّ نزوع إلى الثورة والتمرّد على الواقع الاستلابيّ المخيف الّذي يقضي على إنسانيّة الإنسان.

ومع ذلك، لا بدّ من القول: إنّ بوارق الأمل ما زالت تومض في العقول والقلوب، هو أمل في أنّ مجتمعاتنا ستجد سبيلها يوماً إلى إنتاج تربية حيّة خلّاقة تثور ضدّ العفن والفساد، وتبدأ رحلتها الواعدة نحو العدل والسلام والحبّ والعافية والخلاص. وما زال هذا الأمل يحيا قويّاً أصيلا في النفوس نابضا خفّاقا في القلوب مشرقا في العقول. وإذا كان يقال قديما إنّه "بالحبّ يحيا الإنسان"، فإنّنا نقول اليوم إنّ الأمل وحده يحيي في قلوب البشر الإيمان بقدرة المجتمعات الإنسانيّة على مواجهة المصير وتحقيق التقدم الإنساني المنشود.

وهذا يعني أنّ سرد التحدّيات ووصف الوضعيّات الاغترابيّة لا يعني الاستسلام لقدر الهزيمة والعجز عن مواجهة التحدّيات، والخلود إلى الأحلام والأوهام. ومن المؤكّد أيضاً أنّ هذه السرديّات الحزينة القاتمة لا تعني يأساً ولا قنوطاً ولا تشاؤماً مطلقاً، بل خلاف ذلك كلّه قد تكون – إذا أردنا- منطلقاً أساسيّاً للأمل والعمل، والإيمان بقدرة الإنسان على صوغ المصير، واقتحام المستقبل بالقدرة على المواجهة والبناء وتجسيد المصير المنتظر بتحقيق التقدّم الإنسانيّ والأخلاقيّ.

وإزاء هذا الإشكال الحضاريّ الاغترابيّ يجب على الإنسان العربيّ المعاصر أن يطرح أسئلة الكيفيّات الموضوعيّة الّتي تمكّنه من تجاوز هذا القصور الحضاريّ، والتّغلّب على الإحساس بالهزيمة في مواجهة هذه التحدّيات. وهذا الطرح الإشكاليّ يشكل منطلقاً لإيقاظ الوعي التربويّ، وذلك لأنّ السؤال ذاته يمثّل أخطر لحظة في عمليّة بناء الوعي وتشكيله وتطويره. ولا مناص اليوم من الوصول إلى هذا الوعي العميق بأبعاد هذه التحدّيات وطبيعة هذه المشكلات، وذلك لأنّ مثل هذا الوعي النقديّ هو مبتدأ التغيير والمواجهة والبناء والتطوير.

 ومن منطلق التّأمّل في هذا الواقع الاستلابيّ الاغترابيّ للأوضاع التربويّة المتردّية، تطرح السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أسئلة حيويّة ومصيريّة حول مختلف قضايا الوجود والحياة، ولاسيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص التعلمية، والتخلّف الحضاري، والتراجع الثقافيّ والانكفاء الحضاريّ وقضايا الحداثة والاغتراب والتقدم والثورة، وغيرها كثير. وفي مواجهة هذه التحديات والمشكلات يجب على السوسيولوجيا التربوية العمل على تحليل طبيعة هذه المشكلات الاجتماعيّة التربويّة وتقصي أسبابها ومتغيّراتها وديناميّات حركتها.

وعلى هذه الصورة، تطرح السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة أسئلتها المصيريّة حول السبل الّتي يمكن اتّباعها لتطوير أنظمتنا التربويّة وتحرير مجتمعاتنا من كوابيس التحدّيات، وثقل المشكلات، وعنف الأزمات. وتشكّل مثل هذه الأسئلة المنطلق المنهجيّ لعلم الاجتماع التربويّ المعاصر في مواجهة الصّعوبات الماثلة أمام الأنظمة التربويّة والّتي تسبّب لها حالة من العطالة والجمود والقصور. ويقيناً، فإنّ مثل هذه الأسئلة تدفع المفكّرين والمثقّفين، ولا سيّما علماء الاجتماع، إلى ساحة المواجهة الحقيقيّة الّتي تتّصل بالوعي الإنسانيّ بالمصير، وهو الوعي الّذي يُنتظر لزوما أن ينشأ في أعماق الأنظمة التربويّة المعاصرة.

 ويبقى السؤال الأساسيّ الثوريّ الّذي يمكن لعلم الاجتماع التربويّ أن يطرحه، وهو: كيف السبيل لإخراج المجتمع من دائرة الجمود والتخلّف واليأس الحضاريّ؟ وكيف يمكن تشكيل الوعي العامّ، والوعي التربويّ خاصّة، بأهمّيّة البحث عن السبل التاريخيّة الممكنة لمواجهة أعظم التحدّيات وأخطر المشكلات الّتي تعترض مجتمعاتنا الإنسانيّة ومؤسّساتنا المدرسيّة؟ وهنا يتجلّى دور علم الاجتماع التربويّ في تشكيل الوعي التربويّ العميق بمصادر التحدّيات وطبيعتها، وفي التّعريف بالقدرات والإمكانات الإنسانيّة للتّعامل مع الإشكاليّات في زمن الثورة الصناعيّة الرابعة.

فالحقيقة الاجتماعيّة للتربية ما زالت، في إطار خصوصيّتها العربيّة، تشكو الغموض المعرفيّ؛ ويعني هذا أنّنا مطالبون اليوم، أكثر من أيّ وقت آخر، بتطوير الدراسات والأبحاث ودفعها في ميدان علم الاجتماع التربويّ لاستجلاء الحقيقة الاجتماعيّة للتربية وبناء الوعي التربويّ العربيّ المتكامل بحدودها وأبعادها. وبناء على ذلك كلّه يجب على علم الاجتماع التربويّ في الوطن العربيّ أن يسجل ملحمته الجديدة في تقديم إجابات مقنعة حول مشكلاتنا وهمومنا التربويّة الاجتماعيّة، ومن أجل بناء وعي عربيّ متطوّر بالحقيقة الاجتماعيّة للتربية.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – جامعة الكويت

‏ "أكرهك"! ليست المرة الأولى التي أتلقى فيها أمثالَ هذه الكلمة المؤذية في رسائل على الخاص. طالما أتت الرسائلُ من حسابات شبحية، يعمل المرسلُ حضرًا بعد إرسال هذا الكلام الجارح، لئلا أتعرّف عليه. في الحياة من الشرّ أكثر من الخير، ومن الكراهية أكثر من المحبّة. علّمتني جروحُ الحياة أن الإنسانَ يحتاج الكراهيةَ كما يحتاج المحبّة، وربما يحتاج الكراهيةَ أشدّ من المحبّة أحيانًا. الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد، هناك حاجةٌ دفينة للكراهية في النفس كحاجتها للمحبة.

‏مَن يريدُ أن يعرفَ شيئًا عن الحضور المخيف للكراهية والشرّ في الأرض عليه أن يراجعَ أرشيفاتِ الاسترقاق للأفراد والمجتمعات في الماضي والحاضر، ويقرأ تاريخَ الاستبداد والاستعباد الذي مارسه ومازال يمارسه الحكّامُ الطغاة، وانتهاكَهم لكرامة الإنسان وترويعَه في السجون الكئيبة والزنزانات المرعبة، وينظر في جرائم الاستعمار والاحتلال الشنيعة أمس واليوم لمختلف بلدان العالم، ويرى المجازرَ في غزة والأرض المحتلة.

شخصيةُ الإنسان مركبةٌ مكوّنة من طبقات. الإنسان كائنٌ لا يمكن اختزالُ دوافع سلوكه بعاملٍ واحد. رأيتُ شيئًا من تعقيد شخصية الإنسان في مواقفِ الصعاليك وغرابةِ سلوكهم، إذ كنتُ ألتقط الصعاليكَ في مرحلة الشباب من حياتي وأتحمل تطفلَهم وعبثَهم وفوضويتَهم، وأتولى تأمينَ احتياجاتهم المتنوعة والمتواصلة، لم يبادر أحدٌ منهم بالشكر، كانوا يشعرون بأن ما أقدّمه لهم حقُّهم عليّ وعلى غيري، لذلك لا يتطلب منهم الإعرابَ عن الامتنان والتقدير. كنتُ أندهش مما يمتلكون من تهورٍ ووقاحةٍ في التعبير عن كثيرٍ من التناقضات المكبوتة لدى الإنسان. حاولتُ الابتعادَ عنهم منذ ثلاثين عامًا، لحظة صرتُ لا أطيق مَن يعشق دورَ الضحية في الحياة، والصعلوك أبرع مَن يمثّل هذا الدور، ويتفنّن في إخراجه بأساليب ذكية ووسائل مختلفة.

السلطةُ والشغفُ بالتسلّط والتملّك من أعمق الدوافع العدوانية للإنسان، حتى الصعلوكُ ينشدُ بمواقفه وسلوكه التسلّطَ عليك وتطويعَك لخدمته مجانًا، فيستعمل بمهارةٍ فائقة وبطريقته الخاصة كلماتِه، وتعبيراتِ وجهه ولغةَ جسده، ولباسَه، وبؤسَ مأواه، وغير ذلك؛ لتنقاد إليه وتلبي رغباتِه وطلباتَه بحماس، وتصبر على مواقفه الغرائبية مهما تمادتْ في خروجها على الذوق العام والأعراف والتقاليد والقيم والأخلاق. أكثرُ الكراهيات تنشأ من الشغفِ بالتسلّط على الغير وإخضاعِه، والاستئثار بالمال والثروة والسلطة، وهو سلوكٌ يمارسه الإنسانُ بحدود الفضاء الذي يعيشُ فيه ويمارسُ حضورَه وتأثيره. الأبُ يمارسه في العائلة الأبوية، والأمُ تمارسه في العائلة عندما يضعف دورُ الأب أو يختفي بالموت وغيره، المعلّمُ يمارسه مع تلامذته، الرئيسُ في المؤسسات الإدارية ومؤسسات السلطة، حتى الشرطيُ يمارسه في حدود ما تسمح له سلطُته. كلُّ إنسان يفعلُ ذلك بحدود طاقته، وحسبما هو متاح له من وسائل تمكّنه من ذلك، وحين يعجزُ الغيرُ عن المقاومة والدفاع عن النفس. ليس بالضرورة أن يلجأ الإنسانُ المتسلّط لتوظيف وسائل عنيفة أو مثيرة أو مباشرة بغية بلوغ هدفه، المتسلّطُ يستثمرُ القيمَ السائدة في العائلة والقبيلة والمجتمع،كما يستثمرُ العلاقاتِ المختلفة ويوجّهها في سياقٍ يكرّس سلطتَه، ويعملُ على استعمال اللغة وتغذيتها باستمرار بدلالاتٍ تنتج التسلّطَ وتمهّد للاستعباد.

الإنسان غير الروبوت، ليس هناك قواعد ميكانيكية أو معادلات رياضية صارمة تتحكم بالإنسان، الإنسان الذي يكون كالروبوت في كلِّ أقواله وسلوكه ومواقفه ليس طبيعيًا. ‏التناقض في الآراء والمواقف حالةٌ بشرية لا يكاد يسلم منها كليًا إنسان. ‏التناقض البغيض هو أن يقول الإنسان الشيءَ ونفيَه في موضوعٍ واحد ووقتٍ واحد. ‏هذا التناقض ينتجه أحيانا الإشفاقُ والمداراةُ والرفقُ بالآخرين، وأحيانا ينتجه الخوفُ من إعلان المواقف الصريحة، وأحيانا تنتجه مصالحُ عاجلة، وأحيانا عقدٌ نفسية كامنة في اللاشعور منذ الطفولة، وربما يعود ‏التناقضُ إلى النفاق، أو اضطراباتِ الشخصية والمرضِ النفسي.

الإنسانُ أعقدُ من قدرتنا على فهم كلِّ شيءٍ في أعماقه. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاتِه1، وتقلّبِ حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد باستمرار، مالم يفلح  بالتغلّب عليها بمزيدٍ من تكريسِ الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي والجمالي الذي يسمو به في مراتب الكمال.

أحلامُ الإنسان لا تكفُّ عن فرض رغباتٍ وأعباء تفوق طاقتَه، الرغباتُ والأحلام تثير الآخرين وتستفزّهم، لشعورهم بأن صاحبَها يصطاد فرصَهم في الحياة، ويستحوذ على مواقعهم، وذلك ما يصيّر الحياةَ حلبةَ صراع، تراها كأنها سلسلةُ حلولٍ لمشكلات، تبدأ منذ وقتٍ مبكر من عمر الإنسان ولا تقف إلا بالموت. الإنسانُ الحكيم يستطيعُ تفهمَ هذه الحالة وإدارتَها بذكاء. إنه يدرك أن الجمعَ بين الأضداد متعذّر، كما يدرك إمكانيةَ تفسير ذلك التضادّ ومعالجته، بوصفه حالةً ليست طارئةً أو استثنائية. يمكّنه هذا التفسيرُ من العمل بالتدريج، على خفضِ ما يرهقه ويستنزف حياتَه من صراع الأضداد في باطنه، بإيقاظِ صوتِ الله في روحه، والمحبةِ في قلبه، وتغذيتهما وتكريسهما ليصيرا مكونًا ثابتًا لكينونته الوجودية.

الإنسانُ كائنٌ غامضٌ جدًا في الوقت الذي يظهر لنا واضحًا جدًا، ما يجري من قوانين في الطبيعة تنطبق أكثرُها على جسده، لكن لا ينطبق كثيرٌ منها على نفسه وعواطفه وروحه وقلبه وعقله. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلّ أسرار النفس الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التهافت في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله. لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيّ علمٍ ما يزال يواصل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئٌ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصين ويغربلها ويعلن أخطاءَها ويرمّم ثغراتِها، ويواصل بجدية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة2. المواقف المتضادّة لدى إنسانٍ واحد، في أزمنةٍ متوالية وحتى في يومٍ واحد، ليست غريبةً على طبيعة الإنسان. الإنسانُ الذي يمتلك عقلًا يقظًا مسكونًا بالتفكير العميق والأسئلة الوجودية الكبرى، يمكن أن يمتلك قلبًا متقدًا. الإنسانُ كائنٌ لا يشبه إلا ذاتَه. الإنسانُ كائنٌ شديد الغموض، ربما تراه غارقًا في الغربة الوجودية، وغارقًا في المحبة في وقتٍ واحد.

لن يختفي الشرُّ الأخلاقي ما دام الإنسانُ إنسانًا، مادام الإنسانُ يكذبُ ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء. ‏الثقافاتُ والقوانين والعقوبات والأديان تهدفُ إلى خفض وتيرة الشرّ إلى أدنى مستوى ممكن، ولولا ذلك لتحوّل الناسُ إلى أكلة لحوم البشر. الإنسانُ ليس كائنًا بريئًا أو محايدًا، بعضُ الأصدقاء لا ينقل لك من الأخبار العامة وما يخصّك الا ما يؤذيك، إنما يفعل ذلك بدافع التشفي الذي يلبي حاجةً عميقة تفرغ فيها نفسُه ألمَها، وتعيد تقديرَها لذاتها؛ بإشعارِ الغير بأنه غيرُ جدير بالثقة والتقدير.

لا وصفةَ نهائية تتطابق وكلَّ الاحتياجات المتنوعة للبشر في مراحل حياتهم المختلفة، حتى الفرد الواحد تختلف احتياجاتُه في مراحل عمره المتعدّدة، ربما تقوده عواطفُه للتعلّق بشخصٍ أو أيّ شيءٍ آخر في مرحلةٍ من عمره، غير أنه قد ينفر منه في مرحلةٍ أخرى. الإنسانُ كائن يمكن أن يختلف يومُه عن أمسه، الإنسانُ يتغيّر تبعا لتنوّع صلاته الوجودية بما حوله من بشرٍ وأشياء، وتتجدّد بعضُ احتياجاته ومصالحه، وتندثر احتياجاتٌ ومصالحٌ في المراحل المختلفة من عمره، وتضاف أخرى.

يختلف كلُّ شيء باختلاف زاوية النظر إليه، وهذا ما يُصطلح عليه في الفلسفة قديما بـ (الحيثية)، يقال: "لولا الحيثيات لبطلت الفلسفة"، بمعنى أن كلَّ زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدّد وتتنوع المواقفُ الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم، وهكذا يختلف تفسيرُ الحقائق وتختلف طرقُ الوصول إليها وإدراكها. باختلاف زاوية النظر يمكن للإنسان ملاحظةُ صور كثيرة بعضُها متضادّ في إنسان واحد. أحيانا تختلط المحبّةُ بالكراهية فتتناوبان، عندما تتصارع زاويةُ النظر الواعية لإنسانٍ مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه. تراه لحظةً يحُبّ إنسانًا، ولحظةً أخرى يكره هذا الإنسان، وهو لا يدري كيف يحدث ذلك، مثل أن ترى المرأةُ في رجلٍ واحد صورًا متضادّة، أو يرى الرجلُ في امرأةٍ واحدة مثلَ هذه الصور. في بعض حالات حبِّ الرجل للمرأة وحبِّ المرأة للرجل، يحدث تناوبٌ للحبِّ والكراهية باضطرادٍ مُضجِر. أظنه يعود إلى أن المرأةَ تكره صورةَ الرجل الأعمّ من هذا الرجل وغيره؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ جروحٍ كامنةٍ في اللاوعي لحياةٍ زوجية عاشتها أمس مع رجلٍ عنيف، ختمتْ بعد سنواتٍ من الصراع المرير بطلاق، وإن كانت هذه المرأةُ تحب الصورةَ الشخصية لهذا الرجل النبيل الذي تزوجته بعد الطلاق. الرجلُ أحيانًا يكره صورةَ الأنثى الأعمّ من هذه المرأة وغيرها في شخصِ هذه المرأة؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ كامنةٍ في اللاوعي من حياةٍ زوجية مشاكسة مع غيرها أمس، لكنه يحُبّ الصورةَ الشخصية لهذه المرأة المهذّبة التي هي زوجته اليوم. وأحيانًا يكون التناوبُ عكسيًا في الحالتين.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

1- التضاد والتناقض ليس بالمعنى المعروف في المنطق والفلسفة، أعني بالتضاد والتناقض هنا ضرب من المفارقة.

2-  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 70، ط 2، 2022، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار الرافدين، بيروت.

 

في مقولة لكانط اوردها الباحث القدير حاتم حميد محسن في مقالته المنشورة على موقع صحيفة المثقف تاريخ 23/12/  2023 تحت عنوان (صفحات من تاريخ الفيلسوف فريدريك هيجل) ان كانط قال: (العالم الواقعي لا يمكن معرفته ابدا) واضاف كانط (لا يمكننا معرفة العالم الخارجي كما هو (في ذاته) ونحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه).

دقة صواب العبارة هو في تعبير كانط انه لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما تدركه حواسنا في اختلافه التام عما هو يتقرر باذهاننا. لسبب تلاقي ازدواجيتي خداع الحواس وخداع اللغة في عدم التعبير الصحيح عن معرفة عالمنا الخارجي وليس ادراكه فقط. فالاوليات الحسية الواصلة من الاحساسات الى الدماغ تكون حتما مشوشة غير متماسكة وغامضة ولا تسهل للدماغ عملية التعامل معها معرفيا. فيحصل هنا ما يعرف بتضليل العقل الذي عبّر عنه كانط استحالة معرفتنا الحقيقية لعالمنا الخارجي.

هذه العبارة هي صياغة ثانية بنفس المعنى حينما قسّم كانط العالم الخارجي ب(النومين) الشيء الممكن ادراكه بالحواس وليس الشيء الممكن معرفته بالعقل. (والفينومين) هو الذي لا يمكننا لا ادركه ولا حتى معرفته. واعتبر الفلاسفة ان ما لا يمكننا ادراكه ولا معرفته ماعدا صفاته الخارجية انما هو الجوهراو الماهية في الاشياء التي يصعب التعامل في معرفته لانه لا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل بوضوح ولا يعيه وعيا معرفيا.

المسالة الثانية قول كانط لا يمكننا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه. العبارة صحيحة ولكن لماذا وكيف يتعذر علينا معرفة ادراكاتنا الخارجية بصورة صحيحة؟. نوضح باختصار:

1. علينا التمييز ما بين الادراك الحسي والمعرفة العقلية. فادراك الشيء لا يعني معرفته. كما ان ادراك صفاته الخارجية لا يعفي انعدام المعرفة العقلية له.

2. الحواس خاصيتها الادركات التي تكون على شكل انطباعات ذهنية. ومعرفة ذات الشيء هي خاصية الدماغ عقليا.

3. الانطباعات الحسية التي هي الادراكات الاولية للشيء هو وظيفة الحواس. اما معرفة الشيء اي الوعي التام به فهو خاصية العقل المعرفي – التجريبي.

4. من المفارقات الفلسفية الطريفة ان بيركلي وهو فيلسوف مثالي متطرف في القرن الثامن عشر ذهب الى ان ادراك الشيئ بصفاته الخارجية فقط هو سبب كاف لنقول اننا عرفناه باكمله اي كينونة واحدة موحدة وليس مهّما بحثنا عن الجوهر خلف صفاته الخارجية المدركة. وليس من حاجة لا تدعو اعتبار الادراك الاولي للصفات لا يمثل ادراكنا للجوهرخلف الصفات. المفارقة الاكبر ان الماركسية اخذت بمقولة بيركلي هذه لتحذو الوجودية والظاهراتية الاقتناع بما جاء به بيركلي. (باستثناء سارتر الذي له وجهة نظر حول الجوهر تناولتها باكثر من مقال لي منشور).

هيجل والوعي

كما اضاف هيجل على عبارة كانط السابقة قوله عن (الوعي هو الذي ندرك به العالم والتاريخ هو ادراك الوعي لذاته). " لو نحن اقررنا بحقيقة عالمنا الواقعي محدود الوجود الادراكي ولانهائي المعرفة يكون الجزء الاول من عبارة كانط صحيحا اننا امام استحالة معرفتنا العالم الواقعي من حولنا حتى لو اتيحت لنا امكانية ادراكه تماما.

هنا لا بد لنا من القول انه اذا اتيح لنا تفريق مصطلح ادراك الشيء عن مصطلح معرفة ذاك الشيء نفسه. وهو انفصال حقيقي ماثل واقعي يصبح من الصعب جدا فصل الوعي عن العقل خارج علاقة المحايثة التي تربط بينهما..

الوعي ناتج تفكير العقل في استيعابه الاشياء وردود افعاله عنها التي ينقلها الوعي كوسيط. التساؤل هل من الممكن لنا القول الفلسفي المتداول العقل هو الوعي؟ وانه لا وجود للعقل بلا وعي والعكس ايضا صحيح لا وجود للوعي بلا العقل. التساؤل في محله الخادع لادراكنا لانه خطأ نوضحه لاحقا. فالعقل والوعي مطابقة بالتفكير واختلاف منفصل بيولوجيا.

عبارة كانط الثانية اننا بالوعي ندرك العالم عبارة صحيحية ناقصة تكملتها الوعي يدرك العالم بمرجعيته للعقل. لم يضف كانط جديدا على مقولة العقل هو الوعي ولو تناوبا الوظيفة المعرفية للاشياء. وهي مقولة خاطئة. فالوعي لا ينوب عن العقل لا في الادراك الشيئي الاولي ولا بالادراك المعرفي العقلي البعدي.

الوعي هو الجوهر المرادف لماهية للعقل التفكيرية فماهية العقل ليس فقط كما قال ديكارت التفكير. بل ماهيته الجوهرية ان العقل يعي الاشياء بمعنى نقله ما اطلق عليه كانط مقولات العقل الاثنتي عشر حول معرفة الشيء المدرك والوعي به. الوعي محايث لصفته الجوهرية كوسيلة معرفية للاشياء عندما يكون الوعي هو الناقل لمقولات الفهم العقلي تجاه تلك الاشياء. السؤال الجوهري المهم هو ليس كيف يدرك العقل الاشياء بل هو لماذا يدركها؟.

الوعي هو افصاح العقل عن ذاته, وليس فقط الوعي وسيلة افصاح العقل عن ادراك ومعرفة الاشياء عقليا. خاصية العقل المعرفية هي الوعي. اذن الوعي هو الجوهر المحايث لتفكير العقل, والعقل لا يدرك ذاتيته من دون الوعي بذاته. اذن بماذا يكون الاختلاف بين محايثة الفكر للغة ومحايثة الوعي للعقل؟

 الفرق اننا كما ذكرنا سابقا أن بيولوجيا العقل يمكنها الانفصال عن تجريد الوعي من ناحية تعبير وعي العقل معرفته للاشياء. وهذا الانفصال لايحدث بين الفكر واللغة لانهما تجمعهما مجانسة نوعية واحدة هي صفة التعبيرالتجريدي عن الاشياء  . المفارقة في توضيح هذه العبارة ان امكانية فصل (بيولوجيا) العقل المتكوّن فسلجيا من الدماغ وتوابعه المخ والمخيخ والنخاع وشبكة الاعصاب يمكن انفصالها عن الوعي العقلي منردة لكنها تفقد قيمتها (الوعيية) من الوعي كونها مجتمعة تمثل خاصية الوعي التجريدية وليست خاصية الوعي البيولوجية مثل خاصية الدماغ.. بمختصر بكلمتين العقل المادي الفيزيائي هو بيولوجيا والوعي المحايث المرتبط به هو تجريد معرفي مثل تعبير اللغة والفكر عن الاشياء.

رغم امكانية انفصال العقل عن الوعي وظيفيا الا ان الوعي لا يستطيع بناء نسق معرفي وظائفي لا يلازم العقل لكنه منفصل عنه محايث له ولا يقاطعه. وهو لا يمكن تطبيقه على علاقة الفكر باللغة. لانهما كلاهما تجمعهما الخاصية التجانسية الواحدة الا وهي (التجريد).

حين يعّبر ديكارت العقل جوهر خالد ماهيته التفكير انما يكون جرّد العقل من ماديته البيولوجية وقصد ماهية العقل التفكيرية المجردة.. ولهذا حين يقول ديكارت العقل والنفس جوهران خالدان فهو بالتاكيد يهيم في خطأ أن خاصية العقل تجريدية تفكيرية اكثر منها بيولوجية عضوية هي جزء من اجزاء جسم الانسان هو الدماغ داخل جمجمة الانسان. ومن الطرافة الساذجة ان نقتنع بالدماغ البيولوجي خالدا لانه احد مكونات العقل البيولوجية الفاني بموت الجسم الانساني.

وقرن ديكارت بحذاقة خلود العقل مع خلود النفس وكلاهما ماهية تفكيرية تجريدية لاتفنى ولا تموت بموت الانسان وفنائه. ومن هذا المعنى يجوز لنا مع ديكارت اعتبارالعقل ويقصد به العقل التفكيري زائدا جوهر النفس – لاحظ لم يقل الروح بدل النفس كما هو في المتداول بفلسفة اللاهوت -  ولا يوجد فيلسوف يجيز لديكارت استعماله النفس لفظة مرادفة لها نفس معنى الروح. قل الروح هي من علم ربي اي هي مركب لاهوتي - ميتافيزيقي, بينما النفس هي جوهر علوم النفس بكل تفرعاتها واشكالها. والنفس مادية بتجلياتها على خلاف الروح التي هي مفهوم بلا حدود. ومفارقة الروح للجسد بعد موته وكيف لم يتم حسمها الى اليوم.

اللغة (وعدم معرفة العالم الواقعي ابدا).. مقولة كانط

بأية وسيلة ندرك معرفة العالم الواقعي؟ اولا الادراك الحسي الانطباعي المبدئي. ثانيا الادراك العقلي الواصل عبر شبكة الاعصاب في استلام العقل او الدماغ لاحساسات العالم الخارجي عبر شبكة الاعصاب وثالثا مقولات العقل عن تلك الاشياء والمدركات التي ينقلها الوعي عن العقل. واذا ما كانت هناك ضرورة ملزمة لترجمة ما يحمله الوعي في محمولاته من مقولات العقل. فيكون عن طريق تعبير تجريد اللغة.. .

مقولة تعبير اللغة عن الاشياء هي تضليل للعقل احيانا حسب بيرتراند راسل ومجموعة فلاسفة اللغة واللسانيات تعتبر حسب رايي البداية التي ندخل منها لماذا لايمكننا معرفة العالم الخارجي بواقعيته؟

ان ندرك صدقية ادراكاتنا عن زيف تعبيرات اللغة هي مشكلة يحسمها التطبيق التجريبي للفكرة او مجموعة الافكار كما تفعل الفلسفة البراجماتية الامريكية..ما يرتب ان يكون عجز الاحساسات في ابتداعها لغتها التماثلية في المطابقة الصادقة مع المدركات تكون بالمحصلة النهائية خادعة زائفة ايضا لعدم كفاية التحقق التجريبي من هذه المطابقة.

وبمقدار ما يكون خيالنا التفكيري اللغوي اللفظي عن العالم واسعا بلا نهايات بقدر ما يتوجب علينا التسليم ان الافكار لغوية او غير لغوية بالتعبير عن عالمنا هي قطع لامجال مناقشته انه تضليل العقل. هنا اجد عدم تحقق صدقية التجريب للتاكد من المطابقة اللغوية في تعبيرها عن الواقع وعن زيف الاحساسات الخارجية في ابتداع اللغة التماثلية في المطابقة الصادقة بين عالمنا الخارجي ووسائل معرفتنا الحقيقية له. عدم تشاكل الاحساسات مع مطابقتها التمثلي الحقيقي لعالمنا الخارجي يعطي تفويضا مشروعا للعلم وجوب ترك محاولات الفلسفة التقاطع معه ولا حتى مسار التوازي المتعايش معه. كون حقيقة تقاطع الفلسفة مع العلم لا تمتلك مقومات التحقق من الامكانية. وكذا الحال في توازي مسار الفلسفة مع العلم لا يعطي العلم تبعية فلسفية له او وصاية عليه. امام هذا الطريق المسدود عمدت المنطقية الجديدة الى ضرورة ادماج كل العلوم والفلسفة والرياضيات بما اطلقوا عليه(العلم الكلي).

اخيرا بالمقارنة الشكيّة بزيف اللغة تضليلها العقل وانها عاجزة عن التعبير الحقيقي لعالمنا وانها اي اللغة منطق تركيبي تجريدي لا يمتلك تجريبية التحقق من صوابه.

يتاكد لنا ان صدق الادراك لا يلغي زيف تعبير اللغة. فحقيقة الادراك لغة تصورية تسبق لغة التعبير عن الشيء المدرك. وادراكاتنا الاشياء على حقيقتها نتيجة عجز اللغة الالمام والاحاطة بها لا يجعل من الادراكات الصادقة وسيلة مضمونة لفهم العالم ومعرفته.

***

علي محمد اليوسف

 

What Is Classical Liberalism?

by John C. Goodman

ترجمة د. عدنان عويّد: (بتصرف)

***

قبل القرن العشرين، كانت الليبراليّة " الكلاسيكيّة " هي الفلسفة السياسيّة المسيطرة في الولايات المتحدة الأمريكيّة على ما يبدو، وهي التي شكلت منطلق الفلسفة السياسيّة لـ " توماس جفرسون " (Thomas Jefferson ).. ولموقعين بيان الاستقلال. وعلى أساسها تم تطبيق بنود بيان الاستقلال الأمريكي، ممثلة بالدستور، وأوراق الفيدراليّة، والعديد من الوثائق التي أنتجت من قبل الناس الذين أوجدوا نظام الحكومة الأمريكيّة، هذا وأن العديد من المحررين أو المعتقين الذين عارضوا العبوديّة، كانوا من حيث الجوهر ليبراليين، مثلما كان المنادون بحقوق المرأة أو ممن قاتل من أجل مساواتها في الحقوق ليبراليين أيضاً.

على العموم، إن الليبراليّة " الكلاسيكيّة " في سياقها العام هي الإيمان بالحريّة، وحتى هذا اليوم، فإن أوضح البيانات (النظريّة) لهذه الفلسفة هو ما جاء في بيان الاستقلال/ لجفرسون/، وفي ذلك الوقت، كما هي الحال اليوم، فإن معظم الناس يعتقدون أن حقوقهم تأتي من الحكومة، وأن معظمهم اعتقد  بأنه  يملك  هذه الحقوق فقط عندما يتم انتخاب الحكومة التي ستمنحهم هذه الحقوق، بيد أن الفلاسفة الانكليز أمثال " جان لوك " (John Locke)، فقد بينوا أن الطريق الآخر للحقوق يدور حول الإقرار بأن الناس يحصلون على حقوقهم بمعزل عن الحكومة كون هذه الحقوق تشكل جزءاً من طبيعتهم، ثم إلى حد بعيد يستطيع الناس تشكيل هذه الحكومات وحلها أيضا، على اعتبار أن الهدف الشرعي للحكومة هو حماية هذه الحقوق.

إن الناس الذين يطلقون على أنفسهم اليوم اسم "الليبراليون الكلاسيكيون" غالبا ما يميلون لامتلاك الرؤية ذاتها للحقوق، ولدور الحكومة ذاتها التي امتلكها أوعبر عنها "جفرسون" ومعاصروه، إضافة إلى ذلك، لم تكن لديهم الرغبة أو الميل لوضع أي تمايز هام ما بين الحريات الاقتصاديّة، والحريات المدنيّة.

على يسار بقعة الضوء السياسيّة لليبراليّة، توجد أشياء كثيرة معقّدة، حيث نجد الاختلاف الكبير بين ليبرالي القرن التاسع عشر، وليبرالي القرن العشرين، فليبراليون القرن التاسع عشر اعتقدوا بالحريات الاقتصاديّة، بينما لم يؤمن أو يعتقد بها  ليبراليون القرن العشرين، الذين اعتقدوا بأنها – أي الحريات الاقتصاديّة -  لاتكون اختراقاً أو اغتصاباً لأي حق أساسي بالنسبة للحكومة في ضبطها لمسائل مثل، أين  يعمل الناس؟، ومتى يعملون؟، أو ما هي الأجور التي يعملون من أجلها؟، وما هي الأشياء التي يستطيعون شراءها، أو يستطيعون بيعها، والسعر الذي يستطيعون الشراء به؟ ... إلخ .  هذا وفي الوقت نفسه، نجد أن ليبراليين القرن العشرين قد استمر تأثرهم بمعتقدات القرن التاسع عشر، وكذلك احترامهم للحريات المدنيّة، وفي محطة المدار الأخير للقرن التاسع عشر، كان هناك دعم غير محدود من قبل الليبراليين للحريات المدنيّة، وقد قامت بعض المؤسسات الاجتماعيّة الداعمة لهذه الحريات مثل  (الاتحاد الأمريكي للحريات المدنيّة)  (ACLU)  في أمريكا على سبيل المثال لاالحصر. هذا ونحب أن نشير هنا أيضا إلى أنه منذ أن أصبحت الليبراليّة هي الآيديولوجيا المسيطرة في القرن العشرين، راحت النزعة السياسيّة العامة لهذا القرن تعكس معتقدات هذه الليبرالية، ثم مع نهاية القرن العشرين ذاته،حقق المواطنون القليل من الحقوق الاقتصاديّة قياسا لما حققوه أو حازوا عليه في بداية القرن، بينما كان حضهم أوفر كثيراً في جانب الحريات المدنيّة.

نماذج الحقوق المدنيّة:

إن قوائم حقوق الإنسان تشير بأن للأفراد "حقوقا" كثيرة، ولكن الأسئلة المشروعة التي تطرح نفسها علينا هنا هي: ماذا يعني الحصول على الحق؟، وهل تكون بعض الحقوق مختلفة بالأساس عن الأخرى؟. ومع ذلك نجد في تقاليد الليبراليّة الكلاسيكيّة، أن الحقوق حازت على الكثير من الصفات التي تتضمن التالي:

أولا: الحقوق تعتبر وسائل اتصال

تعتبر الحقوق وثيقة الصلة بالمسؤوليات الأخلاقيّة التي يتعامل بها الأفراد مع بعضهم بعضاً، وهي تشير هنا بشكل خاص إلى نطاق السلطة أو السيادة التي يتمتع بها الأفراد داخلها، وتخويلهم رغبة الاختيار دون تدخل من أحد، ففي هذه الحالة تحكم الحقوق هنا كمسألة أخلاقيّة على أعمال الناس الآخرين في عالم لا يقوم على شخص واحد فقط، أو على عالم يتواجد فيه أفراد كثر لا يتفاعلون مع بعضهم. فالعدالة أو الحقوق وفق هذه الرؤية سوف لن توجد في عقل الفرد الذي لايريد لأي شخص آخر أن يطالب بحق مقابل، كما أنها لن توجد أيضا في عقل من يريد الدخول بصراع مع أية تجربة لحقوق الفرد، إن الحقوق توجد حيث  يتفاعل الناس مع بعضهم ويقيمون علاقات وفقا لاهتماماتهم ومصالحهم.

ثانيا: الحقوق الأساسيّة تقتضي الواجبات

إن من حق أي فرد أن يقوم بأعمال خاصة تتطلبها رغباته وحاجاته، على أن لايكون  لهذه الأعمال مساس بحقوق الآخرين، وهذه الأعمال الفرديّة في المقابل  تتطلب واجبات من قبل الآخرين تجاهها، فعندما يقوم ( جان ) مثلا بوضع ( مرجوحة ) في  منزله، يعتبر هذا حق مشروع له، ومن واجب الآخرين عدم ممانعته في عمله هذا، ولكن في المقابل ليس من المفروض على الآخرين تقديم المواد الأوليّة له على سبيل المثال، وهذا ينطبق على( جوي) أيضا تجاه الآخرين.

على العموم يمكنا القول في هذا الاتجاه: إن هناك واجباً سلبياً وآخر إيجابياً في مثل هذه الحالة، فوضع (المرجوحة) في منزل "جان" على سبيل المثل فرض الواجب (السلبي) على الآخرين تجاه بناء المرجوحة، عدم ممانعتهم أو تدخلهم في وضعها، كما أنه لم  يفرض واجباً إيجابياً في المقابل وهو المساعدة في تقديم المواد الأولية لـ  "جان".  هذا وفي السياق ذاته يمكننا الإشارة هنا إلى أنه من الحقوق الأساسيّة المعروفة وهي، حق الحياة، والحريّة، وحق الملكيّة، قد تدفقت حقوق كثيرة أخرى أو اشتقت من هذه الحقوق الأساسيّة بناء على تزايد النشاط العملي والفكري للناس، ثم راحت من هذه الحقوق المشتقة  تتكون واجبات جديدة.

ثالثا: الحقوق مصانة

بين "توماس جفرسون" في بيان الاستقلال، بأن الحقوق الأساسيّة مصانة، وهذا يعني أنه من غير الممكن التفريط  بها من قبل الفرد الذي حاز عليها، كما أنه من غير الممكن تصديرها أو استيرادها .. بيعها أو شراءها، أو المتاجرة بها، ولكن من الممكن انتهاكها على أية حال .

رابعا: الحقوق الأساسية لايمكن أن تأتي من الحكومة:

وهنا أيضا نتكئ على بيان الاستقلال الذي أشار بأن الحقوق الأساسيّة لاتعطى أو تصنع أو تحوز على شرعيتها من قبل الحكومة، بل إن الحكومة ذاتها تحصل على شرعيتها من وجود هذه الحقوق ذاتها، وحسب رؤية كل من "لوك" و "جفرسون"، والعديد من الآخرين الأخلاقيين والعقلانيين، فإن الحكومات تشكل من أجل حماية هذه الحقوق، هذا وقد أكد " لوك " في هذا الاتجاه أيضا، بأن شرعية الحكومات في الحقيقة قد أسست لتسهل أكثر الأعمال تأثيراً وهي فرض هذه الحقوق الأساسيّة، وأن الحكومات الشرعيّة وجدت بالتوافق، بينما الحقوق الأساسيّة لم تؤسس أو توجد بالتوافق.

خامسا: الحقوق الجوهريّة مقابل الحقوق الإجرائيّة

إن بعض الحقوق التي دخلت  ضمن قائمة حقوق الإنسان عدّت حقوقا "جوهرية" وبعضها الآخر حقوقا "إجرائية"، والآباء المؤسسون لقضايا حقوق الإنسان، كانوا مهتمين جدا  وبكل وضوح بهذين النوعين من الحقوق، والعمل على التمييز بينهما، لذلك كثيراً ما نجدهم يشيرون إلى أن الحكومات الشرعيّة وجدت أساساً لحماية الحقوق الجوهريّة، ولكن أثناء ممارستها لهذه المهمة الحكوميّة، تكون بحاجة للإلتزام بإجراءات حقيقيّة لتحقيق مهمتها، فعلى سبيل المثال، لكي تحمي الحكومة الحقوق، وتحكم أو تفصل في الخلافات حول هذه الحقوق، يجب على الحكومة هنا أن توجد وتدرب أجهزة خدمة لهذه المهمة (قوات شرطة)، وهذه المسألة تدخل في مدار الحقوق الإجرائيّة، هذا وتحوز الحقوق الإجرائيّة على أربع سمات أساسية هي الآتية:

1-هي أقل أصالة من الحقوق الجوهريّة.

2- هي حقوق عرضيّة.

3- هي تدل ضمنا على الواجبات الايجابيّة.

4- هي نتاج توازن المصالح.

الحقوق في الدولة التشا ركيّة:

ما يميز نشاط الدول ذات الطابع التشا ركي في القرن العشرين، مثل الدولة  (الشيوعية) أو الدول ذات الطابع القومي العنصري، مثل، (النازية، والفاشية)، هو رفضها الفكرة الكلاسيكيّة للحقوق الليبراليّة، حيث نجد أن كل أنموذج من هذه الدول يؤكد وفقا لاتجاهه الأيديولوجي، طبيعة أو صيغة الحقوق التي يطالب بها، فبالنسبة للشيوعيّة كان التركيز على حقوق الطبقة العاملة، ومواجهة الحقوق الفرديّة في صيغتها الليبراليّة، وبالنسبة للنازيّة والفاشيّة، كان التركيز على حقوق العرق والأمّة والمجال الحيوي، وبالنسبة لمهندسي دولة الرفاه، كان التركيز على مطالب الحاجات الاجتماعيّة بعمومها، هذا وأن كل هذه الأنظمة تقر بشرعيّة عيش الأفراد من أجل الدولة، ومعارضة الحقوق التي طرحتها الليبراليّة الكلاسيكيّة، ثم نادراً جداً ما هاجمت فكرة الحقوق في حد ذاتها، بل هي في الحقيقة  طرحت تعريفا جديدا لمفهوم "الحق" بالشكل الذي أفرغت  منه معظم محتوى الحق في صيغته الليبراليّة.

مصادر الحقوق:

سؤالان مشروعان يطرحان نفسيهما علينا هنا وهما: من أين تأتي الحقوق؟، وكيف يمكن لهذه الحقوق أن تصان؟.

إن الآباء المؤسسين لمسألة الحقوق، اعتقدوا أن الحقوق الأساسيّة أو الجوهريّة تأتي من الطبيعة، لذلك من هنا جاءت تسمية "الحقوق الطبيعيّة"، هذا في الوقت الذي اعتمدوا فيه أيضاً على النماذج الأخرى من المفاهيم أو الرؤى العقلانيّة لحماية كلا الاتجاهين في الحقوق وهما، الجوهريّة منها والافتراضيّة وهي التي تتضمن المذهب النفعي، والقانون المشترك، ونظريّة العلاقات الاجتماعيّة.

أما أهم مصادر هذه الحقوق فهي:

الطبيعة كمصدر للحقوق:

إن الحقوق كمطالب أخلاقيّة وشرعيّة، تعمل على محاصرة أعمال الحكومة والأفراد التي تتخذ ضد الفرديّة، أو ضد ما من شأنه  أن يقوي أو ينمي تلك المطالب التي نهضت بداية مع الحقوق الطبيعيّة التقليديّة في الفلسفة، فالفلاسفة أمثال " هوجو كروتيوس "Hugo Grotius"  (1583 -1645 )، و(سامول فون فبندوروف)) (Samuel von Pufendorf ) ( 1632- 1694 )، والعديد من المشاهير أمثال (جان لوك) ( 1704- 1632 (، ناقشوا بأن الإنسانيّة قد حازت على حقوق أساسيّة (طبيعيّة) أكيدة مثل حق (الحياة، الحرية، الملكية)، وهذه الأفكار قد أثرت في الحقيقة وبكل وضوح في الآباء المؤسسين، كما انعكست في بيان الاستقلال الأمريكي والعديد من الوثائق المتعلقة بحقوق الإنسان. ففي الوقت الذي نرى فيه العديد من المفكرين المبكرين بما فيهم "لوك" يعتقدون أن "الله" هو الذي منح هذه الحقوق  ونجدهم أيضاً يشيرون إلى أن الإنسانيّة امتلكت حقوقاً أخرى حتى مع إبعاد  فكرة أنها من عند "الله"، (مثل حق التعليم والصحة والعمل .. وغير ذلك – المترجم)، وبذلك استطاعوا عبر اكتشافهم لإمكانيّة استخدام القدرات الإنسانيّة للعقل، أن يمتحنوا حتى القوانين الطبيعية ذاتها.

إن مسألة الجدال حول القوانين الطبيعيّة غالبا ما يتسع ليجذب إلى محيطه نماذج القوانين الأساسيّة، أو الجوهريّة أيضاً، مثل: حق الحياة، الحرية، والملكية، وأنه من السهل بمكان أن نرى كيف أن نظريّة الحقوق الطبيعيّة قد توافقت مع الحقوق الافتراضيّة، لتدرج في قائمة الحقوق فضاءات حق (الكلام، والدين، والاجتماع).

المنفعة مصدر من مصادر الحقوق:

تعامل الاتجاه الفلسفي الثاني من الجدال مع الحقوق الأساسيّة أيضا، حيث أكد دعاة هذا الاتجاه أن الحقوق الأساسيّة أو الطبيعيّة تكون ذات بعد حيوي، كونها تخلق الظروف التي تكمن تحتها السعادة، أو القاعدة العامة للرفاه بشكل متزايد، إضافة إلى ذلك، وبسبب، أن معظم الأفراد يعتبرون هم أنفسهم الحاكم الأفضل لحاجاتهم، التي تمثل متطلباتهم، رغباتهم، قيمهم، ومن ثم مجموع الرفاه الاجتماعي لهم، فإنه من الممكن أن تتحقق هذه الحاجات وبشكل متزايد عندما يكون الشعب حرا في قراراته، ومستقلا عن تلك القرارات التي يصنعها شخص بمفردة، أو كتلة اجتماعيّة صغيرة تحركها منافعها الشخصيّة أو الأيديولوجيّة الضيقة. لذلك، ولكي تتحقق سعادة الإنسان ورغبته في العيش، من الضروري إيجاد مجال أو فسحة واسعة للاستقلال الذاتي داخل هذا الإنسان. فكل حكم للفرد نابع من إدراك الفرد بذاته (هو أو هي) لطبيعة وأهداف عمله، يكون هذا الإدراك هو الأساس، أو المنطلق للحريّة الحقيقيّة، وأي تدخل من قبل الآخر فرد كان أم حكومة في هذا (الحكم) المتعلق بالفرد، سيكون غير قانوني.

إن المنظرين القدماء لحقوق الإنسان، أمثال (لوك)، قدروا تماماً ذاك الجدال الذي دار حول أهميّة (المنفعة) كمصدر للحقوق، ففي نقاشه حول مسألة (الملكية) وجد " لوك " أنه عند السماح للناس في نقل ملكيتهم من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، فإن الجهد الذي وضعوه من أجل تحسين ملكيتهم عبر هذه الطريقة يهدف – برأيه – إلى إنتاج المنفعة للمجتمع بعمومه.

القانون العام مصدر من مصادر الحقوق:

يعتبر هذا المصدر الذي عرف واشتهر من قبل المؤسسين بـ (القانون العام) قريباّ في رؤيته من رؤية (الحقوق الطبيعيّة)، هذا ويمكن للقانون أن يقسم هنا إلى قسمين هما: القانون العام، والقانون الخاص، والقانون العام في سياقه العام وجد من قبل هيئات تشريعيّة  ويتألف من قوانين شرعيّة، أسست بدورها على أبنية دستوريّة. أما على مستوى القانون الخاص، فقد ارتقى عبر السياق التاريخي له كنتيجة للقرارات الرسميّة المتعلقة بالمحكمة، أو للقرارات القضائيّة، في دوائر الملكيّة والاتفاقات القانونيّة بين الناس. (ومن هنا يأتي في القضاء الحق العام والحق الخاص لمن يرتكب جريمة ما بحق الآخرين، فإذا سقط الحق الخاص بسبب التسامح والتنازل عن الحق من قبل المتضرر، فإن الحق العام يبقى ويحاسب وفقه مرتكب الجريمة – المترجم).

إن (القانون الخاص) صفة استخدمت لوصف عمليّة قانونيّة قديمة، عملت على تصوير وكشف أن أساس هذه العمليّة القانونيّة جاء تراكميّاً – قضية قضائيّة بعد أخرى – عبر التاريخ، وبذلك فإن الحكام الذين تعاملوا مع هذا القانون الخاص، لم يروا أنفسهم كخالقين لهذا القانون بقدر ما هم مكتشفين له، وبالتالي هذا الموقف دفعهم إلى تأييد مبدأ (القانون الطبيعي) الذي بموجبه يكون هناك قوانين طبيعيّة للتصرف تأصلت في الإنسانيّة نفسها، وبسهولة كبيرة اكتشفت عبر ثورة العادات والتقاليد التجاريّة. (وهذا ما يسمى بالغرف والعادة.. المترجم).

إن وظيفة أو مهمة حاكم القانون الخاص، كانت النظر وبذل الجهد لكشف القوانين التي وجدت مسبقاً، ثم تقديم أحكام جديدة تؤسس عليها.

العقد الاجتماعي مصدر من مصادر الحقوق:

لقد أدركت سلطات  الدساتير التي انطلقت من حقوق الإنسان ذاك الأثر العظيم لنظريّة العقد الاجتماعي على الحقوق الفرديّة، وفي هذا الاتجاه ناقش الفيلسوف "توماس هوبس" بأن الحكومة الشرعيّة هي التي تؤسس على عقد اجتماعي بين المواطنين (الذين تعهدوا بإطاعة الدولة)، وبين سلطة الدولة (التي تعهدت بدورها مقابل تنفيذ المواطنين لتعهدهم أن تقوم بحمايتهم من الجريمة والاعتداء الخارجي.)، وللفيلسوف "جان لوك" وجهات نظر حققت تأثيراً واسعاً على المؤسسين، حيث شرح مفهوم العقد بين أعضاء المجتمع على أنه وعد يتم فيه تبادل التخلي عن الحريات الحقيقيّة التي استطاع الأفراد قانونيّاً ممارستها في الحالة الطبيعيّة من أجل التزود با الأمان عبر الحكومة التي أنشئت بذاك العقد الاجتماعي. ثم أن كلا من "هوبس" و "لوك" وفي إدراك محدود جداً، ناقشا بأن المواطنين الحقيقيين اعتقدوا بضرورة الحفاظ على الحقوق الأساسيّة بمستوى يواجه عمل الحكومة.

إن المعرفة الأساس لنظريّة العقد الاجتماعي، هي أن الحكومة ربحت شرعيتها من خلال موافقة المحكوم (الشعب) الذي حاز على حق تشكيل الترابط السياسي بين الطرفين (الحاكم والمحكوم)، هذا الترابط أو الدمج الذي هو نفسه أوجد الواجبات والقوة لكلا الطرفين،  بينما نرى في الواقع  أنه  لاتوجد حكومة قامت من خلال عقد اجتماعي، وراحت تتطور عبر طريق ميثاق العقد الاجتماعي  الذي فرض طاعة المواطنين للحكومة مقابل حمايتها لحقوقهم وتامين الاستقرار لهم، لذلك غالبا ما نجد تلك الاختراقات والتعديات على الحقوق غير المبررة إما من قبل المواطنين أنفسهم تجاه بعضهم بعضا، أو من قبل الحكومة نفسها التي تقوم بتجاوز سلطتها الشرعيّة باختراقها للحقوق الفرديّة.

من بين الفلاسفة الأكثر حداثة، يأتي الفيلسوف  "جان رالوز"    (John Rawls)، الذي أعطى حياة جديدة لنظريّة العقد الاجتماعي،  فبدلا من عرض الحقوق على أنها هدايا من الحكومة أو من (الله)، ثم بدلا من كون أساسها المنفعة، أو العقل، وما يحققه هذا العقل من نتائج تتعلق بأسس هذه الحقوق، فهو يرى أن العقد الاجتماعي كأساس للحقوق، لم يكن عقدا اجتماعيّاً يوقعه الناس فيما بينهم، بقدر ما هو (اتفاق افتراضي) يريده الناس (العقلاء) الذين عرفوا بأنهم ذاهبين بالضرورة للعيش تحت ظل حكومة، غير أنهم لم يعرفوا إلى أين تقودهم مواقفهم الفرديّة، ففي هذه الحياة الحقيقيّة، كل واحد منا يعرف بأنه  يحوز على ممتلكات، ومسؤوليات قانونيّة تتضمن في سياقها العام، الذكاء، القوة، الصحة، الدخل الوافر، وعلاقات أسرية .. الخ،  وبهذه المعرفة كل واحد منا أيضاً،  يفضل هنا الميل بالضرورة نحو المؤسسات التي تحقق له منافعه الخاصة  حتى ولو كانت بعيدة عن الحكومة وسلطتها.

***

كاتب وباحث من سوريّة

مصطلح Amor Fati هوعبارة لاتينية تعني حرفيا حب المصير. هذا ببساطة يعني ان كل منْ يمارس حب القدر سوف يحتضن كل ما يقع عليه . الفوز باليانصيب، فقدان وظيفة، بتر ذراع، جميعها يتم مواجهتها بنفس الروح المطمئنة من حب المصير. هذا قد يجلب انتباهنا الى الفلسفة الرواقية القديمة، لأن الفكرة لها صدى عميق في عدد من المبادئ الأساسية للرواقية. فمثلا، الفيلسوف الرواقي ايبكتيتوس يقترح اننا يجب ان نركز فقط على ما نستطيع السيطرة عليه شخصيا. كما يذكر في (فن العيش):

"السعادة والحرية تبدأ بفهم واضح لمبدأ معين: بعض الاشياء تقع ضمن سيطرتنا، بينما اخرى ليست كذلك، لذلك فان الهدوء الداخلي والفاعلية الخارجية تصبح ممكنة فقط بعد ان نتعلم التمييز بين ما نستطيع السيطرة عليه وما لانستطيع". وبدلا من الكفاح ضد أشياء لا سلطة لدينا لتغييرها، يقترح ايبكتيتوس ان نكيّف أنفسنا للقبول بالأشياء كما هي:

"لا تنتظر من الأشياء ان تأتي كما ترغب، بل إرغب ان تأتي الاشياء تماما مثلما تحدث". في تأملاته، الفيلسوف الرواقي ماركوس اورليوس يصف الفرد السعيد والفاضل بعبارات مشابهة:

"هو يحب ويرحب بكل ما يحدث له ومهما جلب له المصير".

نيتشة يناقش ببلاغة حب المصير

اذا كان تعبير حب القدر جرت مناقشته من جانب الرواقيين، فان المصطلح ذاته اكتسب جاذبية بفضل استعماله من جانب الفيلسوف الالماني فردريك نيتشة في القرن التاسع عشر.

في كتابه (العلم المرح، 1882)، يكتب نيتشة: "انا اريد ان أتعلم الكثير والكثير لأرى كشيء جميل ما هو الشيء الضروري في الاشياء، انا سأكون واحدا من اولئك الذين يجعلون الاشياء جميلة. حب القدر: ليكن ذلك حبي من الان فصاعدا، انا لا اريد شن الحروب ضد ما هو قبيح. انا لا اريد ان اُتّهم، ولا اريد ايضا ان اتّهم اولئك الذين يتّهمون. ومع أخذ كل شيء بالحسبان، وبشكل كلي: في يوم ما انا أرغب ان أكون قائل – نعم فقط".

وفي عام 1888 في (Ecco Homo)، يكتب نيتشة:

"صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان المرء لا يريد أي شيء ان يكون مختلفا، لا نحو الامام، ولا نحو الخلف، وليس في كل الأبدية. ليس فقط يتحمل ما هو ضروري، وانما يحبه".

كيف يُفترض بنا ان نتقبّل الأحداث المروعة؟

احد الردود المباشرة الذي قد نبديه حول حب القدر هي التساؤل كيف يمكن تطبيق الفكرة بوجه الأحداث الفضيعة. بالتأكيد، نستطيع القول "نعم" للعالم عندما يقول العالم "نعم" لنا – لكن ماذا عن الناس الذين يعيشون مع ألم مستمر، او الذين عالقون في منطقة حرب؟ هل يُفترض انهم "يحبون" مصيرهم؟، من المهم ملاحظة انه لا الرواقيين ولا نيتشة تعاملوا باستخفاف مع نتائج حب القدر . هذه ليست فكرة انبثقت من الترف، في الحقيقة، هي فكرة صُممت جيدا للتأقلم مع الظروف الشاقة. الرواقيون الرومانيون الكبار – سينيكا وايبكتاتوس وماركوس اورليوس لم يعيشوا حياة سهلة:

1- سينيكا (4.ق.م – 65م) كان مستشارا لدى الامبراطور الروماني نيرون، وفي النهاية اُجبر على الانتحار.

2- ايبكتيكوس (50 – 135 م) كان عبدا استعاد حريته.

3- ماركوس اورليوس (121 – 180 م) كان امبراطورا لروما في وقت شهد كوارثا مستمرة من حروب وأوبئة، ومعظم اطفاله ماتوا قبل وفاته.

نيتشه، عانى معاناة هائلة طوال حياته – ألم مزمن، رفض، شعور بالوحدة وعزلة كانت السمة المميزة لوجوده اليومي. كون هؤلاء الفلاسفة عاشوا أثناء الحروب والاستعباد والآلام المزمنة وموت المحبين، ومع ذلك يدافعون عن حب القدر انما هو دليل على إيمانهم بقوة الفكرة. لكن لكي نفهم حقا لماذا ينصح الرواقيون ونيتشة بحب القدر، يجب اولاً ان ننظر في سياق أنظمتهم الفلسفية الواسعة. وحالما نقوم بذلك، سوف نرى لماذا كانت تصوراتهم للفكرة مختلفة حقا.

ما الفرق بين تصورات الرواقيين ونيتشة لحب القدر؟

بينما قد يبدو هناك شبه بين الرواقيين ونيتشة حول حب القدر، لكن اتفاقهما هو سطحي لأنهم يفسرون جزءا هاما من مسألة المصير بطرق متضادة. بالنسبة للرواقيين، الكون منظّم عقليا طبقا لرعاية الآلهة. عندما نحتضن المصير وفق هذه العبارات، نحن نحتضن شيئا ما هادف ومنظّم عقلانيا – شيء يتجاوزنا، شيء أكثر حكمة، شيء إلهي. لهذا، هناك مستوى من التفاؤل يمكن العثور عليه في احتضان الرواقيين للقدر، في النهاية، نحن في أيدي طبيعة منظمة عقلانيا، ويجب ان نتفق بأحكامنا حول ما يحدث لنا طبقا لذلك.

تصوّر نيتشة للكون، يعود في الأصل لصورة هيرقليطس عن التدفق الأبدي الفوضوي: الكون ليس عقلانيا او هادفا، انه غير منظم وبلا هدف. لا وجود هناك لغائية عظمى يمكنها ان تريحنا، هناك فقط تدفق مضطرب ولا نهائي للوجود. احتضان المصير وفق هذه العبارات هو افتراض مختلف كليا. بالنسبة لنيتشة، حب القدر يعني إعتراف باللاهدفية الفوضوية للوجود. ومع ذلك يؤمن بها بقوة ومهما كان. وبهذا يرفض نيتشة الغائية المتفائلة للرواقيين، وبعمله هذا يجعل فكرة حب القدر ذات تحدّي كبير. نحن لا نضع انفسنا في خط واحد ضمن هدف رواقي كبير"خطة الله"، او عبارات فخمة لا معنى لها مثل "كل شيء يحدث لسبب". بدلا من ذلك، يسألنا نيتشة للإعتراف بان كل شيء يحدث بلا سبب، وان الكون ليس له هدف – ولكي نحب حياتنا لا فرق في ذلك.

كيف يستجيب الرواقيون ونيتشة للمعاناة؟

ان الفرق بين تصور الرواقيين ونيتشة لحب القدر يأتي عندما ننظر في الكيفية التي نظر بها كل طرف للتوفيق بين "حب القدر" و ما يسببه لنا حدث هام من ألم كبير، مثل موت مفاجئ لحبيب. الرواقيون،مثلا، يذكّروننا بان المعاناة الذهنية التي نشعر بها هي نتيجة لحكمنا على موقف معين، وليس للموقف ذاته: انه زيفنا، ايماننا اللاعقلاني حول الحدث، وليس الحدث ذاته، هو الذي يؤلمنا. وبهذا فان إراحة أنفسنا من المعاناة تعني تصحيح إيماننا الزائف، تطهير أنفسنا من العواطف اللاعقلانية، ورؤية موقفنا بوضوح وعقلانية. في سياق الموت، هذا يعني الإعتراف بأننا دائما جزء من الطبيعة العقلانية المنظّمة للرواقيين، وان الموت لا مفر منه. الوجود، حسب ايبكتيكوس، هو هدية مؤقتة. وفي معالجته المباشرة للكون يعلن ايبيكتاتوس:

"الآن انتم تريدونني ان أتخلى عن الصدق، لذا انا أذهب، لا أشعر بشيء الاّ الإمتنان لكوني سُمح لي للمشاركة معكم في الإحتفال". الحياة هي حدث، ومثل كل الاحداث انها يجب ان تصل الى النهاية. الزمن الذي اُعطي لكل واحد منا، هو هدية من الكون الذي يجب ان نعود له نحن ومنْ نحب:

"تحت أي ظرف لا يجب القول "انا خسرت شيئا"، فقط نقول "انا أعدته". هل طفلك يموت؟ كلا، انه اعيد. زوجتك ماتت؟ كلا انها اُعيدت ... انت أحمق حين تريد ان يكون أطفالك وزوجتك وأصدقائك خالدين، ذلك يستدعي قوة تتجاوزك، وهدايا ليست لك لتمتلكها او تعطيها". بالطبع، تبنّي هكذا موقف هو أسهل في القول من العمل، ويأخذ عدة سنوات من التفكير الرواقي لتجسيد مثل هذه السيطرة العقلانية على أحكامنا. لكن بالنهاية، الاتجاه الرواقي للمعاناة يتّبع هذا الطريق: نحن يجب ان نعيد صياغة أحكامنا بطريقة رشيدة حتى تتم إذابة المعاناة "اللارشيدة". حب القدر بالنسبة للرواقيين يعني الإذعان وإخضاع أحكامنا للنظام العقلاني للطبيعة.

نيتشة: المعاناة تلعب دورا لا غنى عنه

بالمقابل، نيتشة يرفض الغائية المتفائلة للرواقيين. في سلسلة مبكرة من المحاضرات له ألقاها عندما كان شابا حول ما قبل الفلاسفة الافلاطونيين، يناقش نيتشة كيف تطورت الرؤية الرواقية عن الكون والتي اقترحها هيرقليطس، مؤكدا بعبارات مضادة:

"الرواقية أعادت تفسير هيرقليطس على مستوى ضحل، أحطّت من مكانة فهمه الجمالي للكون لتشير الى إعتبارات مبتذلة لغايات مفيدة للعالم، خاصة تلك الغايات المفيدة للعرق الانساني. فيزياء هيرقليطس اصبحت بأيديهم تشكل تفاؤلا ساذجا". في عمله عام 1886 (وراء الخير والشر)، يوسّع نيتشه نقده هذا مدّعيا اذا كان الرواقيون يدّعون ان فلسفتهم "تتبع من الطبيعة"، فهم بذلك صبغوا الطبيعة بغائية متفائلة. وفي مقطع هام يكتب نيتشة:

"لذا انتم تريدون العيش طبقا للطبيعة؟ حسنا ايها الرواقيون النبلاء ، كم هو الاحتيال في هذا الكلام، تصوّروا شيئا كالطبيعة، متحرر بلا معيار، لافرق لديه، بلا هدف، او إعتبار، بلا رحمة او عدالة او بلا خصب او جفاف، لا يقين في نفس الوقت، يؤمن ان اللااختلاف قوة – كيف تستطيع ان تعيش طبقا لعدم الاختلاف هذا؟  أليس العيش هو الرغبة خصيصا لتكون شيئا غير هذه الطبيعة؟ أليس العيش هو تقييم وتفضيل وان تكون غير منصف ومقيّد وتريد ان تكون مختلفا؟ ولو افترضنا ان اهتمامك الاساسي "في العيش طبقا للطبيعة" يرقى الى "العيش طبقا للحياة" – كيف لا تستطيع ذلك؟ لماذا تعمل مبدأ خارج مما انت فيه ويجب ان تكون عليه؟ - ولكن في الحقيقة، هناك شيء ما يجري مختلف جدا : بينما تتظاهرون بفخر في قراءة قوانينكم وفق الطبيعة، انتم تريدون المضاد، فخركم يريد فرض أخلاقكم ومُثلكم على الطبيعة، انتم تدّعون ذلك طبيعي طبقا للرواقية وانتم تريدون جعل كل الوجود موجود في صورتكم وحدها  وكتمجيد أبدي وتعميم للرواقية لأجل حبكم للحقيقة، انتم أجبرتم أنفسكم طويلا، وباصرار وقساوة لتكون لكم رؤية زائفة للطبيعة، لدرجة لم تعودوا ترون أي طريقة اخرى، وان بعض الغطرسة السيئة بالنهاية تعطيكم أملا جنونيا لأنكم تعرفون كيف تستبدون بأنفسكم – الرواقية مستبدة بذاتها، الطبيعة تدع ذاتها لتكون مستبدة ايضا". بكلمة اخرى، بينما الرواقيون يدّعون العيش وفق الطبيعة، فان كل ما يدّعونه هو انهم يرغبون ان يكون الكون بطريقة معينة وان يعيشوا كما لو انها حقا هذه الطريقة. الرواقيون لم يشتقوا فلسفتهم من الطبيعة، هم صبغوا الطبيعة بفلسفتهم. هم يفترضون ان الطبيعة منظمة عقلانيا، ويدّعون اننا يجب "ان نسير جنبا الى جنب مع الطبيعة" عبر تطهير أنفسنا من جميع اللاعقلانية.

هذه ليست فقط عقيدة غير مبررة في نظام الكون، كما يرى نيتشة ، وانما ان رؤية الرواقيين ايضا تذهب سريعا في نبذ المعاناة . في مذكراته يكتب: "الرواقية تقلل من قيمة الألم، قيمة الإثارة والعاطفة". وبينما يسعى الرواقيون لتطهيرنا من الألم "اللاعقلاني"، يعتقد نيتشة اننا حالما ننزع الغائية المتفائلة للرواقية بعيدا، فان المعاناة يمكن النظر اليها كاستجابة أصلية ومفهومة للحياة في عالم بلا نظام او هدف. الطريقة التي يريدها نيتشة لنا هي ان نوفق بين الألم و حب القدر ليس بالنظر الى المعاناة كغلطة يمكن تصحيحها، وانما عبر الإعتراف بانها تلعب دورا ضروريا لا غنى عنه في حياة تامة وممتلئة.

في الحقيقة، لا يمكن ان تكون هناك عظمة بدون معاناة. في كتابه (العلم المرح) يكتب نيتشة: "إفحصوا حياة أفضل الناس واكثرها ثمارا واسألوا انفسكم ما اذا كانت الشجرة التي يُفترض ان تنموا لعلو مرموق يمكن ان تتخلص كليا من الطقس السيء والعواصف، وما اذا كان سوء الحظ والمقاومة الخارجية ، وبعض انواع الكراهية والحسد والعناد وعدم الثقة والصعوبات والجشع والعنف لا تنتمي الى الظروف المواتية التي بدونها يصعب تحقيق أي تقدم عظيم او فضيلة ".

وهو يتأمل في الدور الذي لعبته المعاناة في حياته، يكتب نيتشة  في (نيتشة ضد فاغنر) "بقدر ما يتعلق الامر بمرضي، انا مدين له اكثر من صحتي وبشكل لا يوصف؟ انا مدين له بفلسفتي ايضا".

اذا كانت هناك اشياء في حياتنا نريد تقييمها، فان نيتشة يريدنا ان ندرك اننا لا نستطيع تقييم تلك الاشياء بدون تقييم كل شيء أدّى لها. في مذكراته، هو يكتب: "إفترض اننا قلنا نعم للحظة معينة، نحن لم نقل فقط نعم لأنفسنا وانما لكل الوجود. لأن لا شيء يقف وحيدا، لا في أنفسنا ولا في الأشياء، واذا حصل ذلك لروحنا فهي حالما تهتز مع وتر السعادة، فان كل الأبدية تكون ضرورية لتؤدي لهذا الحدوث – وفي هذه اللحظة المنفردة عندما قلنا نعم، تكون كل الأبدية جرى احتضانها واستردادها وتبريرها".

حب القدر بالنسبة لنيتشة يعني إعتراف بالترابط الكلي. السعادة لا توجد في عزلة، العظمة لا تحدث بدون معاناة. اذا كان علينا تأكيد الحياة، يجب ان نؤكد كل ما فيها بدون إخفاء للعيوب. في العلم المرح، هو يكتب " فقط الألم العظيم هو المحرر النهائي للروح .. انا أرى ان هذا الألم يجعلنا "افضل"، لكني أعرف انه يجعلنا أكثر عمقا".

مع انها ليست ممتعة، المعاناة تملأنا بنوع من الحكمة المأساوية. ربما يكون المقياس الواقعي للفرد حسب نيتشة هو مقدار الحقيقة التي يستطيع بها الصمود. وكما يذكر في (Ecce Homo): " صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان لا أحد يريد شيئا مختلفا، لا الى الامام ولا الى الخلف، ولا في كل الأبدية. هي ليست فقط تحمّل ما هو ضروري، وانما حبّه".

نيتشة يطور هذه الافكار الى مدى أبعد في عقيدته بالعود الأبدي، التي يتحدّانا بها لنعيش بطريقة نرغب فيها ان نعيش نفس الحياة مرة بعد اخرى. كل حسرة، بهجة، كل يوم طويل من الضجر، في سلسلة متعاقبة مرة بعد مرة. فقط عندما نستطيع القول "نعم" الى العود الابدي نستطيع حقا نواجه التحدي المنبثق من حب نيتشة لقدره.

لمنْ الصدى الأكبر بشأن حب القدر؟

الرواقيون يدعوننا لتطبيق حب القدر لأننا بالنهاية تحت رحمة عقلانية الطبيعة المنظمة. نحن يجب ان نمارس الفضيلة في كل ما يكمن ضمن سيطرتنا، ونطهّر أنفسنا من المشاعر اللاعقلانية حول كل ما يقع خارج سيطرتنا،  في هذا نمتثل للنظام العقلاني الغائي للطبيعة. بالنسبة الى نيتشة يرفض الرواقية التيليلوجية المتفائلة. وفق رأيه نحن يجب ان نخضع أنفسنا للضرورة ليس عبر ملئها بالمعنى والهدف، وانما عبر مواجهتها كما هي بدون افتراضات مسبقة غير مبررة.

وهكذا ينصحنا نيتشة لممارسة حب القدر لأن هذه الممارسة، في مواجهة كون عبثي فوضوي بلا إله، تصبح هي الاستجابة الملائمة الوحيدة للعدمية: فقط عبر تأكيد قصة حياتنا نستطيع تحمّل الوجود. العبء يقع علينا، لا يمكننا الاستعانة بمصدر خارجي تيليلوجي – الحياة يمكن تبريرها وتستحق العيش فقط اذا كنا نعتقد بانها كذلك.

بينما الرواقيون يخلقون نظاما غائيا يجب الخضوع له ، نيتشة يبحث عن حب القدر بدون اللجوء الى هدف موجود سلفا او الانسحاب من العالم.

***

حاتم حميد محسن

المواطنة في سياقها العام برأيي مفهوم يحمل دلالاته الاجتماعيّة قبل أن يحمل دلالاته السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ففي دلالاته الاجتماعيّة، هو دعوة إلى الانتقال بالإنسان من حالة ضياعه وغربته واستلابه في مجتمع أو دولة التخلف والتفاوت والتمايز الطبقي والعرقي والديني بكل أشكاله وتجلياته، إلى مجتمع أو دولة التقدم والحريّة والعدالة والمساوة وحق الاختلاف والمشاركة في بنية الدولة والجمتع. وعند تحقيق هذه الدعوة على أرض الواقع، فهذا يعني نقل الإنسان من حالة (الرعيّة) إلى حالة (المواطنة)، أي إلى الحالة التي ستؤدي في المحصلة إلى فسح المجال واسعاً أمام الجميع لتحقيق العدالة في الحياة الاقتصاديّة والرفاه والتعليم، وكذلك المساواة أمام القانون، وحق الانتخاب والترشيح والوصول إلى مناصب الدولة والمشاركة في القرار السياسي وبناء الحياة السياسيّة للبلد، مثلما يعني أيضا، تحقيق المساواة بين الجنسين (الذكر والأنثى)، والحد من سلطة المجتمع الذكوري، إضافة إلى تحقيق عدالة إنتاج واستهلاك الثقافة والمعرفة للجميع. هذا ونحب أن نؤكد هنا على مسألة في غاية الأهميّة من الناحية المعرفيّة والإنسانيّة معاً، وهي، أن تحقيق حالة المواطنة، أي تخليص الإنسان من حالات اغترابه وضياعه واستلابه، لا تنال من وقع عليه فعل الاغتراب والاستلاب والضياع فحسب، بل تنال أيضاً من فرض حالات الاغتراب والاستلاب والقهر على الآخرين بفعل امتلاكه سلطة القهر والاستبداد في حال اقتناعه بضرورة التنازل عن هذه السلطة. وفي حال تحقق مثل هذه الصيغة من المواطنة، نكون في الحقيقة قد وصلنا إلى مجتمع الدول المدنيّة، وهو المجتمع الذي لم يتحقق بعد رغم كل التحولات التاريخيّة التي مرت بها المجتمعات البشريّة، والنظريات التي طرحت لتحقيق هذا المجتمع.

أمام هذه المعطيات النظريّة المتعلقة بمفهوم المواطنة، هناك مجموعة من الأسئلة المشروعة تطرح نفسها علينا وهي : هل الدعوة إلى مجتمع (المواطنة) -مجتمع الدولة المدينّة - هي دعوة مشروعة أو عقلانيّة في وقتنا الراهن؟. هل شعارات المواطنة التي جئنا عليها أعلاه، أو ما نستطيع تسميته مضامين المواطنة، هي شعارات أو مضامين تتحقق بالإرادة الطبية؟، أم هي فعل مقاومة مفتوح في كل دلالاته؟. وهل مهام المقاومة وأساليب تحقيقها إرادويّة، أم هي مهام تتطلب فعل مقاومة، يضعها الإنسان المقاوم وفقاً لظروفه الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم بحركته ونشاطه والمهام التي يضعها لنفسه؟. أي هل مهام المقاومة توضع وفقاً لتصورات ذاتيّة، أم هي مهام تحدد طبيعتها ودرجتها ونوعها وأساليب تحقيقها معطيات الواقع الماديّة والفكريّة؟، وذلك انطلاقا من مقولة (أن الناس يضعون لأنفسهم المهام التي يستطيعون إنجازها فقط، أو التي ساعدت الظروف على تحقيق إنجازها).

إن الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة باعتقادي ستحدد لنا النتيجة التي نرمي إليها من طرحنا لموضوعة المواطنة. لذلك هذا ما يدفعنا للقول: إن أي دارس لطبيعة تكوّن وتطور المجتمعات البشريّة سيجد أن التطور الذي يصيب المجتمعات تتحكم به جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة، وهذه الظروف لا تفرخ بشكل مجرد، بل هي نتاج الواقع ذاته وآليّة عمله، دون أن نغفل مسألة أساسيّة في هذا الاتجاه وهي أن الظروف الذاتية، وبخاصة الحوامل الاجتماعيّة، هي في طبيعتها حريّة وضرورة معاً، وبالتالي فإن الحامل الاجتماعي محكوم بضرورة الواقع أولاً، ثم بالضرورة الكامنة فيه هو ذاته أيضاً، من حيث مهاراته وقابلياته واستعداداته النفسية والفسيولوجية، ودرجة وعيه لذاته وللآخرين ودرجة وطبيعة ثقافته، وللمهام المناطة به  .. الخ.

إذن، ما هو مطروح للتغير في هذا الواقع محكوم بالضرورة بمعطيات الواقع، وأن كل الشعارات والمهام التي تُطرح من أجل تغيير الواقع غالباً ما تعمل على إنتاجها وتحديد مسارها وأساليب عملها الظروف التاريخيّة المعيشة. وهذا يذكرني بمقولة عقلانيّة للمفكر النهضوي "رئيف الخوري" يتكلم فيها عن أفكار مفكري الثورة البرجوازيّة في فرنسا التي أدت إلى كومونة باريس حيث يقول بما معناه: لم تكن أفكار فولتير مونتسكيو وروسو وهلفسيوس وغيرهم، هي التي حركت الثورة البرجوازيّة، بل كانت أفكار هؤلاء هي نتاج لهذه الثورة. ولكن هذا القول لا يحجب الحقيقة التي تقول إن أفكار هؤلاء استطاعت فيما بعد أن تلعب دوراً هاماً في التأثير على تفكير النخب المثقفة لشعوب العالم وما لعبته هذه النخب من تأثير على حياة شعوبها، ومنها الشعب العربي منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر مع الطهطاوي، وخير الدين التونسي وإبراهيم اليازجي، وبطرس البستاني، وفرح أنطون، ومحمد عبده، والكواكبي، والأفغاني، وأديب اسحق وغيرهم الكثير.

على العموم نستطيع القول: إن مسألة طرح مشروع المواطنة هي مسألة نسبية في تطبيقاتها أولاً، وهي تدخل في نطاق التغيرات الكبيرة التي تصيب حياة الشعوب ثانياً، وهي تأتي ثالثاً، في مرحلة لاحقة لسيادة المجتمع المدني، وتحقق الدولة البرجوازيّة، لذلك نجد أن الإرهاصات الأوليّة لدولة المواطنة، (الدولة المدنيّة)، راحت تطرح نفسها مع بدء تشكل الطبقة الرأسماليّة، التي أخذت تطمح إلى السلطة أو المشاركة فيها، وإلى التخفيف من حدّة السلطة الاستبداديّة لدولة الملك والكنيسة والنبلاء. وهذا ما عبر عنه مفكرو الطبقة البرجوازية والمدافعون عن مصالحها آنذاك أمثال، توماس هوبس (1588- 1679) الذي راح يدعو إلى إقامة دولة المواطنة (الدولة المدنيّة) بما يتفق وطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة آنذاك، ووفقاً لقوة سلطة الدولة ما قبل الرأسماليّة، مؤكداً على دور السلطة (الملكيّة) المطلقة التي يجب أن تكون بيد الدولة التي لا حدود لسلطتها، كونها المسؤولة عن  حقوق الأفراد ورعاية مصالحهم والدفاع عنها، والأفراد في مثل هذه الدولة كلهم رعايا في خدمة القانون المدني. يقول هوبس: ( إن السلطان الحاكم غير مقيد بشيء، وهو الذي يضع القوانين ويعدلها حسب مشيئته) .

أما جون لوك (1632 – 1704) الذي جاء بعد "هوبس" بمسيرة نصف قرن تقريباً من التحولات باتجاه النظام الرأسمالي، فقد كان أكثر جرأة من هوبس، بل وعلى النقيض منه في حدّة وعمق أطروحاته تجاه دولة المواطنة، فدولة المواطنة، أو (الدولة المدنيّة) عنده تقوم على الحريّة لا على الطاعة العمياء لسلطة الدولة، وهو يرى انه بموجب العقد الاجتماعي بين الأفراد والدولة يتم احترام سلطة الدولة والقانون طالما أن الدولة تقوم بإشباع حقوق الأفراد وتنفيذ العدالة واستقرار وأمان المجتمع، وفي حال فقدان الدولة القدرة على تأمين هذه الحقوق، فمن حق الأفراد الدفاع عن حقوقهم. أما السلطة عند لوك فتنبع من البرلمان وليس من الملك، هذا وقد دافع لوك عن الحرية الفرديّة والتربية والتسامح والملكيّة الخاصة التي لاتتعارض مع سلطة الدولة.

أما جان جاك روسو، (1712- 1778 )، الذي جاء أيضاً بعد "لوك" بمسيرة  نصف قرن آخر من التحولات ذاتها، نراه يقدم مشروعاً لدولة المواطنة (المدنيّة) يقوم على أساس الإرادة الشعبيّة العامة، مبيناً في ذلك، أن العقد الاجتماعي هو العقد الذي يكون بين طرفين وليس من حق  طرف واحد أن يملي شروطه كما يريد على الآخر، ومن هنا يتحد الفرد عند روسو بالمجموع وبإرادته، مكوناً مع الكل إرادة جمعيّة لتحقيق المصالح المشتركة.

هذا دون أن نغفل الكثير من النظريات الأخرى التي طرحت مع قيام النظام البرجوازي في أوربة، وكانت تدعوا إلى دولة المواطنة لتحقق المساواة والعدالة والحرية الفرديّة وحق التملك والاختلاف بين الموطنين، ويأتي في مقدمتها النظرية الليبراليّة الكلاسيكيّة التي قامت على تحطيم أسس الدولة الاستبداديّة بكل سلطاتها التقليديّة القائمة على الملك والنبلاء ورجال الدين، والدعوة لمشروع الدولة الديمقراطيّة الدستوريّة القائمة على البرلمانات المنتخبة من الشعب، ولكن دون النظر إلى البنية الطبقيّة لهذه المجتمعات والدور الذي يلعبه الصراع الطبقي في تحديد معالم المجالس النيابيّة لهذه المجتمعات وطبيعية القوانين والتشريعات التي ستسنها أو تشرع لها. وهذه المسألة بالذات - أي مسألة النظر إلى طبيعة الصراع الطبقي داخل المجتمع -  جاءت النظريّة الماركسيّة فيما بعد لتأسس عليها نظريّة الدولة المدنيّة (المواطنة) التي تقول بأن مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطية والعكس صحيح.

مع انتشار أفكار الحريّة والعدالة والمساواة بين شعوب العالم، ومع ما تم من تحولات تاريخيّة هامة في حياة الشعوب، راح ينعكس بالضرورة على طبيعة عمل الدولة ذاتها، التي راحت وبخاصة في دول العالم الثالث، تأخذ في حساباتها طبيعة أفكار المواطنة وأهميتها بالنسبة لمستقبل الطبقة الحاكمة لهذه الدولة نفسها. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم القائم برأيي، وشكل الدولة ذاتها، وطبيعة حاملها الاجتماعي، فإن قيم المواطنة أصبحت من المهام الأساسيّة التي تفرض نفسها على السياسات الداخليّة لحكومات هذه الدول، لاسيما بعد التحولات التي تمت في مضمار النظام العالمي الجديد، حيث فرضت هذه التحولات وعياً لدى المواطن بمواطنتيه أولاً، والسعي لتحقيق هذه المواطنة عبر وسائل عدة، يأتي في مقدمتها تشكل الكثير من الأحزاب السياسيّة، ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. مثلما فرضت على الدولة ذاتها أن تقدم تنازلات تجاه فكرة المواطنة من الناحية العمليّة وبخاصة على المستوى الدستوري.

إن قيم الموطنة، أصبح من الواجب على الدولة أولا، ومن ثم على مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسيّة ثانياً، ترسيخها عمليّاً وفكريّاً لدى الفرد والمجتمع، ويأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الطبيعيّة منها والمكتسبة للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة وأنواعها، وبكيفيّة تشكيل القرارات السياسيّة، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالميّة، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفيّة المشاركة في الانتخابات، وتشكل المجالس المحليّة والنيابيّة، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سويّة المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقليّة وثقافة الراعي والرعيّة، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون، هذه الدولة التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها، ستشكل هذه المواطنة الرافعة العمليّة والفكريّة لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، والرفع من القيمة الإنسانيّة لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

........................

ملاحظة: إن م يتعلق بفكر "توماس هوبس" و"وجون لوك" و"جان جاك روسو" و "ماركس والماركسية).حول قيام الدولة المدنية أو دولة المواطنة. يراجع كتاب " (تاريخ الأفكار السياسيّة) لجان توشار – جزآن – ترجمة ناجي دراوشة – منشورات وزارة الثقافة السوريّة – دمشق – 1984.

 

مقال من تأليف: كيتلين كريسي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن سمعة فريدريك نيتشه المعروفة باعتباره محرضًا فلسفيًا ترجع جزئيًا إلى التزامه بتحرير قرائه من مجموعة متنوعة من المعتقدات: معتقداتهم في الهدف الأسمى في الحياة الآخرة، والمعرفة النزيهة، والقيمة المطلقة لـ "الفضائل". مثل الرحمة وغيرها. ولكنه لا يرفض هذه المعتقدات لمجرد أنه يعتقد أنها كاذبة (وهو يفعل ذلك)، أو لأنه يأمل في تعطيل نظام الاعتقاد السائد في أوروبا في القرن التاسع عشر (وهو يفعل ذلك أيضا). إنه يرفض هذه المعتقدات لأنه يعتقد أنها تشكل خطراً واضحاً وقائماً على قرائه. مثل هذه المعتقدات لا تنكر الحياة وتقلل من قيمة الوجود الإنساني فحسب، بل إنها تعرض صحتنا النفسية للخطر أيضًا. لكى نفهم سبب اعتقاده ذلك يتطلب منا أن نفهم تشخيصه لهذه المعتقدات على أنها عدمية.

تُستخدم "العدمية" اليوم للإشارة إلى مجموعة واسعة من المواقف. غالبًا ما يتم تصنيف العدميين على أنهم أولئك الذين لديهم معتقدات معينة حول غرض الحياة أو أهميتها: فهم يعتقدون أنه لا يوجد هدف أو "هدف" للحياة، أو أنه لا يوجد شيء مهم. وبدلاً من ذلك، يمكن تمييز العدميين عن غير العدميين من خلال افتقارهم المزعوم إلى أي إيمان على الإطلاق: كما يمثلهم الأخوان كوين في فيلمهما The Big Lebowski (1998)، قد “لا يؤمن العدميون بأي شيء”. وفي أحيان أخرى، توصف العدمية بأنها تنطوي على غياب الالتزام بالقيم الأخلاقية، مثل شخصية أنطون تشيجور في رواية كورماك مكارثي "لا يوجد بلد لكبار السن من الرجال" (2005) الذي يرفض كل مفاهيم الصواب والخطأ. ووفقا لهذه المفاهيم الشعبية، فإن العدمية تنطوي على التنصل من المعتقدات والقيم المختلفة. إنها ظاهرة معرفية تنطوي على مواقف مجردة وفكرية عالية.

ومع ذلك، وفقا لنيتشه، فإن هذه المواقف الفكرية لا تعتبر في حد ذاتها مظاهر للعدمية. وكما تم تقديمه حتى الآن، هناك عنصر أساسي مفقود. ومن وجهة نظر نيتشه، فإن المعتقدات القائلة بأنه لا يوجد أي معنى للحياة أو أنه لا توجد قيم أخلاقية تصبح عدمية فقط عندما يجد الفرد الذي يحمل مثل هذه المعتقدات فيها سببًا لرفض الحياة والوجود ككل، أو للتنصل من الحياة نفسها أو فك الارتباط بها. . العدمية تنطوي على رفض أساسي للحياة نفسها. إنه إنكار الحياة، إنكار الحياة.

ما معنى إنكار الحياة أو إنكارها؟ لتجسيد أحد معاني إنكار الحياة العدمية، دعونا نأخذ الاعتقاد المذكور أعلاه بأنه لا يوجد هدف شامل لهذه الحياة وهذا العالم. من وجهة نظر نيتشه، من الممكن تمامًا الاعتقاد بلا هدف للحياة ككل دون اتخاذ هذا الاعتقاد سببًا لتقييم الحياة بشكل سلبي. (في الواقع، نيتشه نفسه يحمل هذا الاعتقاد ويقيم الحياة بشكل إيجابي؛ فهو يعتقد أنه حتى بدون هدف شامل يشارك فيه جميع البشر، فإن الحياة تستحق العيش!) ولكن إذا اعتقد الفرد أن الحياة لا تستحق العناء إلا إذا كان هناك هدف أسمى لها، ثم وصل إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد مثل هذا الهدف، فإن هذا الاعتقاد الأخير سيكون بمثابة سبب لاكتشاف أن الحياة لا تستحق العيش. في هذه الحالة، بما أن اعتقاد الفرد بعدم وجود هدف في الحياة يؤدي إلى تقييم سلبي للحياة نفسها -وبالتالي بمثابة سبب لإنكار الحياة- فإن نيتشه سيصنف هذا الاعتقاد على أنه عدمي. بهذا المعنى الأول، يتضمن إنكار الحياة العدمية أحكامًا سلبية على الحياة والوجود: أن الوجود لا يستحق العناء، أو أن الحياة لا تستحق العيش، أو أنه من الأفضل عدم الوجود.

إن فهم العدمية باعتبارها إنكارًا للحياة بالمعنى الأول يسمح لنا بالتعرف على واحدة من أبرز أفكار نيتشه: إذا كان إنكار الحياة يتضمن حكمًا سلبيًا على هذه الحياة والعالم كما هما في الواقع، ومن ثم، فحتى المعتقدات والقيم التي نفهمها عادةً على أنها تمنح معنى وقيمة للحياة يمكن أن تعد عدمية بشكل خفي . دعونا نعود إلى الفرد الذي يعتقد أن الحياة لا تستحق العيش إلا إذا كان هناك هدف أسمى لها، يشارك فيه جميع البشر. بالنسبة لمثل هذا الفرد، ليس من العدمية فقط أن تنكر إيمانها بالهدف الأسمى؛ ومن العدمية أيضًا أن تؤمن بهدف أعلى. بعد كل شيء، يجادل نيتشه، إذا كنا نعتقد أن الحياة تستحق العيش فقط إذا كان هناك هدف أسمى نشارك فيه - واتضح أنه لا يوجد هدف أسمى نشارك فيه (وهو أمر يصر نيتشه على أنه يجب علينا قبوله) - إذن إن إيمان المرء بهدف أعلى هو إنكار للحياة لأنه يقلل ضمنيًا من قيمة الحياة كما هي في الواقع (أي أنها خالية من الأهداف العليا) بمعنى آخر، نظرًا لعدم وجود هدف أسمى، فإن الإيمان بهدف أعلى مثل ذلك المطلوب لجعل الحياة تستحق العيش يقلل من قيمة الحياة سرًا: إنه يشير إلى أن الحياة، كما هي في الواقع، لا تستحق العيش.

حتى الآن، تم تقديم العدمية كظاهرة معرفية تنطوي على حالات اعتقادية مختلفة وغياب التزامات قيمة معينة. ومن أجل فهم المعنى الثاني لإنكار العدمية للحياة في فكر نيتشه ــ وبالتالي، لفهم لماذا يقدم نيتشه العدمية باعتبارها مشكلة رهيبة ــ يتعين علينا أن ننظر إلى تحليله للعدمية باعتبارها ظاهرة نفسية. أي اعتقاد أو حكم يتضمن تقييمًا سلبيًا للوجود ككل - سواء كان علنيًا أو خفيًا - سوف يصنفه نيتشه على أنه منكر للحياة، وبالتالي عدمي. لكنه يعتقد أيضًا أن مثل هذه المعتقدات والأحكام تنكر الحياة بمعنى أعمق بكثير: فهي إما تنشئء أو تثير أشكالًا مختلفة من إنكار الحياة النفسي.

أولاً، من وجهة نظر نيتشه، تميل المعتقدات والأحكام المنكرة للحياة إلى أن تنشأ في أفراد مغتربين عن الحياة والوجود أو كارهين لها. هذا هو ما ينوي التقاطه عندما يصر في "شفق الأصنام" (1889) على أن نفس الحكم على الحياة الذي وصل إليه "الحكماء الأكثر حكمة في كل العصور" - "أنها لا قيمة لها" - ينشأ من "تعب" هؤلاء الأفراد. مع الحياة" و"العداء للحياة". إن الحكم على أن الحياة، كما هي في الواقع، لا تستحق العيش هو أحد أعراض السأم الخطير من الحياة، وعدم القدرة على التعامل بفعالية مع عالم المرء، والنمو في شكل حياته، والازدهار. وهذا ينطبق بغض النظر عما إذا كان هذا الحكم خفيًا (على سبيل المثال، إذا كان الشخص يؤمن بهدف أعلى، ويتخذ ذلك سببًا لتأكيد الحياة) أو علنيًا (على سبيل المثال، إذا كان ينكر هدفًا أعلى، ويتخذ ذلك سببًا). سبب لرفض الحياة).

في الواقع، يعتقد نيتشه أن تبني معتقدات تنكر الحياة هي استراتيجية تكيف منتشرة دون وعي، يستخدمها الأفراد الذين سئموا الحياة وغير قادرين على التعامل بفعالية مع العالم. وإلى حد ما، تنجح هذه الاستراتيجية. إذا تبنى الفرد المنعزل والمرهق من العالم الاعتقاد بأن هناك هدفًا أسمى للحياة يمكن أن يوجه حوله حياته وأفعاله بشكل هادف، فمن المحتمل أن يواجه تخفيفًا من تعبه من الحياة وإعادة الارتباط بعالمه. ومع ذلك، فمن خلال تبني الإيمان بالهدف الأسمى، يرى نيتشه أن مثل هذا الشخص لا يتعدى كونه يتأقلم. وفي حين أن استثمارها في هذا الاعتقاد يضمن لها البقاء، فإنه لا يضمن أي شيء آخر. وعلى الرغم من أنه يتجنب النفي النفسي للحياة الذي يعتبره نيتشه "العدمية الانتحارية"، إلا أنه غير قادر على النمو والازدهار. (إن التمييز بين "البقاء على قيد الحياة" و"الازدهار"، والذي يتم التذرع به عادة عندما نجيب على أسئلة حول رفاهيتنا، له صلة هنا).

بالإضافة إلى أن أصولها تعود إلى أفراد يعانون من "العدمية الانتحارية"، فإن هذه المعتقدات المنكرة للحياة تميل إلى إثارة النفور من الحياة لدى الفرد الذي يتبناها. هذه هي الطريقة الثانية التي يعتقد نيتشه أن التقييمات السلبية للحياة يمكن أن تنكر الحياة على المستوى النفسي. ولنعود للمرة الأخيرة إلى الفرد الذي يعتقد أن قيمة الحياة تعتمد على وجود هدف أعلى. إذا توصل مثل هذا الفرد إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد مثل هذا الهدف، فسيكون هذا أمرًا مزلزلًا. كما يعتقد نيتشه، فإنه سيثير أيضًا مجموعة من المشاعر - اليأس، واليأس، واللامبالاة، والتناقض العميق، ومشاعر الفراغ - واضطرابات في الحياة التحفيزية للفرد: فقد يعاني من التردد، أو فك الارتباط، أو الاستسلام. وفي نهاية المطاف، فإن هذه الاضطرابات العاطفية والتحفيزية تقوض إرادته في الحياة. .وبعبارة نيتشوية أكثر دقة، فإن هذه الاضطرابات تقوض قدرتها على الانخراط بشكل فعال في عالمها، والسعي لتحقيق أهدافها، والنمو في تلك المساعي (كما يؤكد الباحث إيان دونكل). وبما أن جميع الكائنات الحية تهدف إلى هذه الأشياء، فإن عدم القدرة على تحقيقها يعني الفشل في تحقيق الأهداف الأساسية للإنسان ككائن حي. هذا هو التأثير الذي ينكر الحياة والذي تحدثه الاضطرابات العاطفية والتحفيزية المذكورة أعلاه على الفرد الذي يعاني منها - وهذه هي الطريقة التي تقوض بها الحياة نفسها.

إن هذه الفكرة التي يريد نيتشه أن يلفت انتباه قرائه إليها - أن التغيير في بعض المعتقدات الموجهة نحو الحياة أو التزامات القيمة يمكن أن تنتج تغييرات عميقة تنكر الحياة في مشاعر الشخص وحالاته التحفيزية وتعوق في النهاية ازدهار الشخص - منطقية تمامًا. إذا تعززت ذات مرة بالاعتقاد بأنك منخرط في هدف متعال يتجاوز نفسك - ربما خطة الإله المسيحي الإلهية لحياتك - وتؤمن أن مثل هذا الهدف غير موجود على الإطلاق - فربما تصدق أنك لم تعد تؤمن بالله - تفقد قوة محفزة للحياة. خاصة إذا كانت هذه هي القوة المحركة الأساسية لحياتك - أو إذا لم يكن لديك أي قوة محفزة أخرى - فسوف تشعر بالإحباط، وتثبيط الهمم، والانفصال عن العالم الذي كنت تعتقد أنك تعرفه؛ قد تتعرض رغبتك و/أو قدرتك على الاستمرار في العيش كما كان من قبل للخطر. وكما يقول نيتشه في كتابه عن أصل الأخلاق (1887)، في مثل هذه الحالة، هناك خطر حقيقي يتمثل في انخفاض "قدرتك الفسيولوجية على الحياة". علاوة على ذلك، إذا واصلت تقدير مثل هذا الهدف على الرغم من إنكارك له، كما يشير الباحث برنارد ريجينستر في تأكيد الحياة (2006)، فإن مشاعر اليأس الوجودي - التي يمكن أن تعيق قدرة الفرد على الانخراط بشكل فعال في عالمه، والسعي لتحقيق أهدافه. ، وتنمو في مساعيها - من المؤكد أنها ستتبعها.

من الضروري استخلاص هذه المعاني المختلفة للإنكار العدمي للحياة من أجل فهم مدى خطورة مشكلة العدمية من وجهة نظر نيتشه. ما يثير الإشكال في العدمية ليس تبني معتقدات جديدة مفاجئة ومثيرة للجدل أو رفض القيم الأخلاقية التقليدية. عندما يتمكن الفرد من التمسك بما يبدو لنا أنه اعتقاد عدمي - ربما أن الحياة ليس لها معنى - ولكنه يستمر في العثور على حياة تستحق العيش والنمو في أسلوب حياته، فهذه علامة على الازدهار النفسي. في مثل هذه الحالة، لا يشكل هذا الاعتقاد العدمي ظاهريا أي مشكلة على الإطلاق. وسواء كانت المعتقدات المختلفة التي نتبناها أو وجهات النظر الفكرية التي نعتنقها تعتبر عدمية إشكالية، فهي بالأحرى مرتبطة بالديناميكيات النفسية التي تنتج وتنتج تلك المعتقدات. المشكلة الأساسية في العدمية هي الديناميكيات النفسية الضارة التي تجلبها معها. إن المواقف التي نربطها عادة بالعدمية - مثل تلك التي نجدها في "The Big Lebowski" أو "لا يوجد بلد لكبار السن من الرجال" - تكون مهمة فقط إذا كانت تشير إلى أو تنتج مشاعر ضارة وحالات تحفيزية.

من المؤكد أن نيتشه يحدد المعتقدات التي تقيم الحياة بشكل سلبي على أنها إنكار للحياة لأنها ببساطة تنطوي على مثل هذا التقييم. ولكن كما يجب أن يكون واضحًا الآن، فهو يعتقد أنها تنكر الحياة بطريقة أكثر جوهرية: فهي إما تشير إلى فشل الازدهار النفسي أو تسببه. من المؤكد أنه من الإشكالي للوهلة الأولى الاعتقاد بأن الحياة لا تستحق العيش. لكن المشكلة الأكثر إثارة للقلق في مثل هذا الاعتقاد هي أنه يشير إلى الافتقار إلى الازدهار، وهو الافتقار الذي وصفه نيتشه لدى البشر بأنه ميل نفسي نحو الانتحار. وعلى نحو مماثل، يحثنا نيتشه على رفض الاعتقاد بأن الحياة لا تستحق أن نحياها. لكنه يفعل ذلك ليس فقط لأنه يجد مثل هذا الاعتقاد بغيضًا، ولكن لأن اعتناق مثل هذا الاعتقاد يضعنا في خطر جسيم: فهو يميل إلى فصلنا عن الحياة ويجعلنا نكره هذه الحياة وهذا العالم. وهذا الاعتقاد – حرفيا-  قاتل.

(تمت)

***

..........................

الكاتبة: كيتلين كريسي/ Kaitlyn Creasy: أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة ولاية كاليفورنيا، سان برناردينو. وهي مؤلفة مشكلة العدمية العاطفية عند نيتشه (2020).مصدر المقال ، مجلة: Psyche / 5 أبريل 2023م

https://psyche.co/ideas/for-nietzsche-nihilism-goes-deeper-than-life-is-pointless

Article

For Nietzsche, nihilism goes deeper than ‘life is pointless’

Author

Kaitlyn Creasy

DATE PUBLISHED BY PSYCHE

5 April 2023

"بين التحويل والاسقاط "يبرز الانفعال والرغبات المكبوتة؟

يقول سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي ينشأ الطرح – التحويل  تلقائيًا في العلاقات الإنسانية، وقول "حسين عبد القادر" بأن التحويل هو تشكيلة تباينات في كافة أحوال الإنسان في الصحة والمرض "موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ص 450"

ومن المعروف لدى عامة الناس أن التحليل النفسي بكل اتجاهاته هو معرفة حقه عن أعماق النفس وما يدور بين ثناياها، شعر بها صاحبها، أو كبتت في اللاشعور " اللاوعي"، هذا الفعل الذي تم كبته أو خزنه بلغة الجانب المعرفي، أو تم تشفيره In coding   وأعطي ترميزًا  في الدماغ إن سلمنا جدلا بفكرة تحريف التحليل النفسي لابد له أن يعود يومًا ما، بفكرة عابرة، حلم أقض مضجع صاحبه، هفوة فلتت من عقال من يدير الحديث، خاطره غير متوقعه في فعل في غير محله، أو زلة لسان، وربما زلة قلم. أنه  فعل تخطى المحدود – المسيطر عليه فعل تخطى السيطرة من النفس وتداعى بدون "بلا" سيطرة من الوعي بمساعدة اللاوعي، بقدر ما به استمتاع، به عنف موجه لمركز السيطرة برقابته الصارمة ليظهر الحديث بكل أدب، ومقبولية من الآخر المستمع، الذي يصغي، نتساءل هل هو نوع من الحصر " القلق" لم تستطع النفس أن تغمره بملفاتها المظلمة فتراجع أمام الحقيقة، أم هو الرغبة في البوح بشئ بعد الهروب من الرقيب القاسي، يقول "مصطفى صفوان الرغبة موضوع  يصعب السيطرة عليه، فهو موضوع يجعلك بلا أسلحة، وحتى في خبرتنا اليومية عادة تُخبر الرغبة بوصفها ندمًا أو حنينًا إلى الماضي، أو يمكن تعريفها على أنها " ما لا أعرفه، أو " لم أعنِ ذلك" أو " لا أعرف ما لا أريده " أو " كنت أريد شيئًا آخر" .

التحويل- الطرح  Transference  كما تدلنا أدبيات التحليل النفسي هو نقل فعل، أو نمط من السلوك من عمل إلى آخر " Woodworth " (في) الموجز في التحليل النفسي ويضيف " سامي محمود علي" هو موقف انفعال معقد يقفه المريض تلقائيًا من المحلل النفسي ويتميز أحيانًا بغلبة مشاعر الحب، أو مشاعر العدوان وإن كان يتألف غالبًا من مزيج من العنصرين " التحويل الموجب، التحويل السالب، التحويل المزدوج الميل" وهذه المشاعر لا تنطبق على الموقف الحاضر وإنما هي مواقف لاشعورية "لاواعية" طفلية يحياها المريض ثانية في الموقف العلاجي ويخلع فيها على المحلل شخصية الأفراد المسؤولين عن نشأة هذه المشاعر وعن تكوين شخصية المريض تكوينًا يتسم بالصراع النفسي والعجز عن النمو النفسي الكامل " الوالدان ومن حل محلهما" (الموجز في التحليل النفسي، فرويد، ص 90) وكما يعرف المشتغلين في التحليل النفسي أن التحويل هي الظاهرة الاساسية في عملية العلاج بالتحليل النفسي .. وربما هي مفتاح للعلاج رغم ما فيها من غموض وتفسيرات ومداخلات.

أما الاسقاط Projection يشير إلى حيلة لاشعورية "لاواعية" من حيل دفاع الأنا بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية، يرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب، فالإسقاط وسيلة للكبت، أي أسلوب لاستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور، والعناصر التي يتناولها الإسقاط يدركها الشخص ثانية بوصفها موضوعات خارجية منقطعة بالخبرة الذاتية الصادرة عنها أصلا.

يقول "بيير داكو" كل عمل سيكولوجي أكان سطحيًا أم في الأعماق، علاقة إنسانية بين عالم النفس ومريضه- الشخص الذي يدير العملية العلاجية – المحلل النفسي – والشخص الذي يرغب بالعلاج بطريقة التحليل النفسي، إنه عمل تعاوني كثيف، فلا يسع عالم النفس أن يفعل شيئًا دون مريضه، والعكس صحيح، إن المحلل ومريضه رفيقا طريق، ومازال الكلام " لـ داكو" فيقول المريض يعرف ضربين شائعين من الاستجابات : الهروب إلى الأمام، أو الهروب إلى الوراء، وذلك انطلاقًا من الخوف، فمن المنطقي إذن أن يعزو المريض إلى عالم النفس ضربي الاستجابات نفسيهما: المحبة أو العدوانية. وهنا نتعرض لهذين النوعين من الاستجابات حينما يكون المريض أمام نفسه تارة، وأمام المحلل النفسي تارة اخرى، فيكون التحويل ضرب من الإسقاط، والاسقاط كما عرضناه في الاسطر السابقة وهو بأن الشخص ينسب  إلى غيره ميولا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية ويضيف  "داكو" يكون الاسقاط أقوى بمقدار ما تكون الآليات اللاشعوريية "اللاواعية" قوية، أما التحويل نوع من الإسقاط ولكنه أكثر إتساعًا بكثير، وهو يظهر دائمًا في أثناء التحليل النفسي على صورة أو على أخرى "بيير داكو، انتصارات التحليل النفسي، 1994، ص 207" 

من كل ما تقدم عن  عمليات التحليل النفسي المعمقة،  يوجد رابط أساس يجمع تلك وهو الانفعال، ولكي نفهمه لابد من وجود معنى له، وله وظيفة أيضًا ومن ثم فنحن مسوقون إلى الكلام كما يقول "سارتر" عن غائية الانفعال. ويضيف أيضًا يمكن بغير جهد مفرط إظهار الغضب أو الخوف بوصفهما وسيلتين تستعين بهما الميول اللاشعورية – اللاواعية لتشبع نفسها إشباعًا رمزيًا، وأنه يتطور وفقًا لقوانينه الخاصة دون أن تتمكن تلقائيتنا الشعورية من التأثير في مجراه تأثيرًا ملحوظًا، وهذا الفصل بين السمة المنظمة للانفعال مع طرح موضوعها المنظم في اللاشعور – اللاوعي، وبين سمته المحتومة التي لا يمكن أن تكون كذلك إلا بالنسبة لشعور الفرد. ويؤكد "سارتر" قوله ولا جدال في أن سيكولوجية التحليل النفسي هي أول من أبرز معنى الوقائع النفسية، أي أنها أول ما أكد أن كل حالة شعورية – واعية تمثل شيئًا آخر غيرها" سارتر، نظرية في الانفعال، ص 41"، نحاول أن نزج بفكرة الانفعال في آلية الطرح  أثناء الجلسة العلاجية لأنها تقترب من النواة الأولى لتكون الحدث الذي ظل مؤثرًا وأنفجر في موقف ربما أصبح مرضيًا، وخلق لصاحبه أشكالات نفسية تقض مضجعه، وتبعده عن السوية في أحيان كثيرة، هذه النواة التي ربما تضخمت وكبرت وحملت معها الكثير من المواقف المؤلمة. ورغم تأكيدات"  فرويد"  بأن العلاقة الطرحية تهدف إلى  إيصال المريض إلى معرفة ما يجري بداخله وقوله : فلئن كانت قيود العرف التي يفرضها المجتمع مسئولة عن الحرمان الذي يكره عليه المريض، ففي وسع العلاج أن يشجعه، بل وأن يغريه مباشرة يتحدى هذه القيود، وبالتماس الإشباع وطلب الصحة، وعليه  فنحن نبتعد ما وسعنا البعد عن أن نقوم بدور الناصح ولا نريد من المريض إلا شيئًا واحدًا هو أن يصل بنفسه إلى حلوله وقراراته" محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، المحاضرة 27، بعنوان الطرح" . ويضيف "فرويد"  أن الشخص الذي يتم تحليله يكرر بدلًا من أن يتذكر، يكرر في ظل ظروف المقاومة، ويمكننا الآن أن نسأل ما الذي يكرره، أو يتصرف فيه بالفعل؟ الجواب : هو أنه يكرر كل ما ساد بالفعل في كيانه الواضح من مصادر كبته، وموانعه ومواقفه غير المجدية، وسمات شخصيته المرضية، يكرر جميع أعراضه أثناء العلاج، والآن يمكننا أن نلاحظ التأكيد على الإجبار على التكرار" فرويد، مقالة التذكر، التكرار والعمل خلال، ترجمة ف. محمد أمين"

ونستعير ممن أقام علاقة علاجية في العملية العلاجية التحليلية فإن  "فيرنزي" يرى بأسلوبه النشط الذي يقصد به فرض المحلل لموانع ومطالب على المريض، أي إلى تعبئة مقاوماته ووجداناته، ويشمل تعطيل مبدأ اللذة، ومن ثم تعريض الأنا لمواجهة ضعفه ودفاعاته اللاعقلانية (  Schwartz,E.K  ) ( في) مليكه، لويس كامل، وأزاء ذلك فإن فيرنزي لديه فكرة  تطبيق قاعدة الامتناع أسلوبًا نشطًا وهو يستخدم العلاج النشط فقط لمعالجة مقاومة أدت إلى ركود التحليل، ثم الرجوع إلى التحليل الكلاسيكي بعد التغلب على هذه المقاومة، وهو التحليل الذي يتطلب سلبية من كل من المحلل والمريض "طالب التحليل"، ولكن إذا لم يقم طرح قوي مستمر، فإن بعض المرضى ربما لا يتحمل هذا القدر من الارغام، وقد يقطع العلاج في بدايته ولذلك فإنه قد يكون ميزة في المراحل النهائية من العلاج. ويشارك "فيرنزي"  "ولهام رايك"  الرأي بأن المحلل يتعين أن يواجه أعراض الخلق – الطباع "Character Symptoms " بدلًا من الاعراض العصابية" مليكه، لويس كامل، التحليل النفسي والمنهج الانساني في العلاج النفسي، 2010، ص 82" وعندما  نطلق على العلاقة في التحليل النفسي هي علاقة إنسانية فإن الأمر ينطبق على جميع المعالجين النفسيين بطريقة التحليل النفسي ومنهم "ولهلم رايك " وتحليل الخلق، حيث يرجع الفضل له في الاهتمام في الممارسة الحديثة للتحليل النفسي بتحليل المقاومة والخلق، وليس فقط بتفسير الدفعات اللاشعورية – اللاواعية، أو المضمون، ولكن لا زال هدف أسلوب تحليل الخلق هو اختزال التفعيل إلى تذكر عن طريق مواصلة تحليل مقاومة الخلق – الطباع والتي تؤدي تلقائيًا إلى تذكر المواد الطفلية. وأن خلق الأنا إنما ينشأ من رواسب شحنات الموضوع المهجورة والتي تحوي سجلًا لماضي اختيارات الموضوع كما ذكرها "فرويد" في كتاب الأنا والهو – 1923" (في) حسين عبد القادر، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ص 322"، وهناك رؤية ربما أعمق في عملية التحويل في ثناياها أثناء الجلسة العلاجية التحليلية عند جاك لاكان مجدد فكر التحليل النفسي الفرويدي.

***

* أسعد الإمارة - دكتور في علم النفس

 استاذ جامعي  باحث في التحليل النفسي  

 

عندما نكون في قبضة العواطف، كالغضب مثلا، فلا شيء يمكننا عمله للخروج من ذلك، نحن سنخضع لها، وكل ما يمكن فعله هو الانتظار لحين مرور الموجة. الفلاسفة الرواقيون في اليونان والرومان القديمة عرفوا هذا جيدا، في مقالته الرائعة عن الغضب، يصف سينيكا الغضب كجنون مؤقت: " فيه يفقد المرء التحكم بالذات، لا اعتبار الى اللياقة، نسيان العلاقات، إصرار منهمك للبدء في العمل، لا استماع لصوت العقل والنصيحة، الاندفاع بأسباب تافهة ودون مهارة في تصوّر ما هو حقيقي وعادل، كصخرة ساقطة تحطّم ذاتها الى قطع متناثرة فوق الشيء الذي ترتطم به".

وفي النظر الى المدى الذي تكون فيه العواطف مدمرة حسب الرواقيون، كان للرواقيين سمعة جيدة في محاولة كبحها. سينيكا الذي ولد سنة 4 ق.م كان فيلسوفا رواقيا رومانيا أشرف على تدريس الامبراطور نيرو. تأثير سينيكا على نيرو أخذ يضعف بمرور الزمن وفي عام 65.م اُجبر سينيكا على الانتحار بدعوى التأمر على اغتيال الامبراطور وهي تهمة زائفة لم تثبت. رواقية وموت سينيكا الهادئ كانا موضوعا لعدد هائل من اللوحات الفنية.

وعلى الرغم من ان الفلسفة تنصحنا ان نكبح مشاعرنا بطريقة – عض على أسنانك ولا تبيّن شعورك عند الغضب – لكن الرؤية الرواقية تبدو مختلفة بشكل هام. نصائح الرواقية ليست ان تكبح مشاعرك وانما ببساطة لا تجعلها الهدف الاول، هذه قد تبدو نصائح غريبة. نحن كبشر: كيف لا نمتلك مشاعرا؟

كيف عرّف الرواقيون العواطف؟

الشيء المهم هو معرفة كيف عرّف الرواقيون المشاعر. جميعنا يمارس ما يصفه سينيكا بـ "الحركات الاولى" في رد الفعل لأحداث معينة. نحن قد نشعر بالصدمة او الإثارة او الابتهاج او الخوف. كل هذه هي ردود أفعال سايكولوجية طبيعية تحدث لنا وليس لدينا السيطرة عليها. من المهم معرفة ان، هذه ليست عواطف بالنسبة للرواقية: انها ردود افعال اولية، "حركات اولى".

العواطف هي ما يحدث عندما نسمح – من خلال الحكم السيء – لهذه الحركات الاولى بالهروب منا. هناك ثلاث مراحل في انتاج العواطف:

1- الحركة الاولى

2- الحكم

3- العاطفة

نحن لا سيطرة لدينا على المرحلة الاولى. وعندما نصل الى المرحلة الثالثة، سوف لن تكون لنا سيطرة عليها ايضا. المرحلة الحاسمة هي المرحلة الثانية: مرحلة الحكم. نحن نستعمل قدرتنا على الحكم اما لوقف الحركة الاولى عن مسيرها، او لنسمح لردود افعالنا الاولية بتجميع زخمها لتصبح عواطف مدمرة خارجة عن السيطرة. فمثلا، عندما يكون رد فعلنا الاولي عند الصدمة والخوف من رؤية عنكبوت مثلا، هو اننا قد نحكم انه من الطبيعي ان نقفز خوفا، هو في الحقيقة مجرد عنكبوت صغير لا يمكن ان يسبب لنا أذى، يمكن ان نحضر كوبا لإحتجازه وإطلاقه للخارج – نأخذ نفسا عميقا لتهدئة انفسنا – بهذا نكون نجحنا في إبطاء افراز هرمون الادرينالين في أجسامنا، وأوقفنا "الحركة الاولى" في مسارها.

لو نحكم بان الخوف مبرر – انه عنكبوت وانا اخشى العنكبوت ماذا سافعل انا في خطر " – عندئذ ستستجمع "الحركة الاولى" زخمها  - حكمنا السيء يدفع استجابتنا الفسيلوجية لتتكثف – لتصبح شعورا كاملا من الخوف، ولا شيء نستطيع عمله سوى الانتظار حتى مرور العاطفة، في تلك الاثناء نتصرف بلا عقلانية وخارج عن السيطرة .

لذا، فان نصيحة الرواقيين هي ليس اننا يجب ان نتجنب "الحركة الاولى" لأن هذا مستحيل. النصيحة هي اننا نبدأ باستعمال حكمنا لتجنب السماح لمثل هذه الحركات لتصبح عواطف مدمرة. الشعور بالخوف، العصبية، الإزعاج، هذا جزء مما يعنيه ان تكون انسانا. الفكرة هي اننا نستعمل حكمنا للقبول بهذه المشاعر الطبيعية والدوافع، ومن ثم نشير بلطف لأنفسنا باننا لا يجب ان نسمح لها بتشويه رؤيتنا للعالم، او تدير افكارنا او تحكم تصرفاتنا (في الحقيقة ان منْ يحكم أفعالنا يجب ان تكون هي فقط الفضائل الرواقية الاربع: الحكمة، الشجاعة، العدالة، الإعتدال).

من الجيد ان ننزعج باشياء الآن او في المستقبل، انه شيء طبيعي تماما. انه يصبح مشكلة عندما نسمح للازعاجات بتجميع زخمها الى غضب لا يمكن السيطرة عليه. هذا ما تعنيه سيادتنا على عواطفنا بالنسبة للرواقيين: لا نكبح او نتجاهل مشاعرنا، لكن استعمال حكمنا بحكمة سيضيف رؤية ويمنعنا من فقدان السيطرة.

الشيء المهم، هو ان الاحتفاظ بالسيطرة ليس فقط لنجعل أنفسنا أفضل، بل هو لكي نستطيع التحرك الى الامام بشكل بنّاء، ولكي نعمل الشيء الصحيح. وكما يكتب سينيكا: "العواطف، لا تتمثل في التأثر بمظاهر الأشياء، وانما في الاستسلام لها واتّباع المشاعر العرضية. لو ان كل شخص يفترض ان التحول الى اللون الشاحب، او انفجار الدموع، او الإثارة الجنسية، والنظرات العميقة للعيون، هي علامة لمشاعر وحالة ذهنية، هو خاطئ ولا يفهم ان هذه هي مجرد استجابات جسمية .. الانسان يعتقد بنفسه مجروح ويريد الانتقام، وعندئذ – كونه أقنع بعدم القيام بذلك لسبب ما – هو بسرعة سيهدأ مرة اخرى. هذا لا يُسمى غضب، وانما هو دافع ذهني خاضع للعقل. الغضب هو ما يتخطى العقل ويحمله بعيدا".

تطبيق الاتجاه الرواقي في الحياة اليومية

بالطبع، كان الرواقيون يكتبون في زمن سبق البحث الجيد والفهم لحالات فسيولوجية مثل القلق المزمن، لذا فن نصائحهم – إستعمل حكمك لإعطاء رؤية لموقفك – قد لا تكون كافية في جميع الحالات، ولا تستبدل العلاجات المهنية. مع ذلك، استذكار دروس الرواقية لايزال ذو فائدة واقعية: عبر محاولة عمل أحكام اكثر وضوحا حول مواقفنا، سنستطيع حماية انفسنا من العواطف المدمرة ونخلق مساحة للتحرك قدما ضمن الفضيلة.

فمثلا، لو ان شخصا ما يسبب لنا الإهانة. في تلك اللحظة، نحن ربما نحكم بان هذا عمل مخز لذلك الشخص، ولذا فان "اول حركة" لنا هي ان نصبح بسرعة غاضبين. الخطأ هنا، كما يشير الرواقي ابكتيتوس، هو الاعتقاد باننا وبسبب تلقّي الاهانة سنكون مجروحين اوتوماتيكيا: "تذكّر، لا يكفي ان نُصاب بالضرر فقط بسبب الضرب او الإهانة، نحن يجب ان نؤمن باننا تعرضنا للضرر. لو ان احدا ما نجح في تحريضنا، ندرك ان ذهننا متواطئ في الاستفزاز".

نحن نُجرح فقط عندما نقرر اننا كنا كذلك. وكما يوضح الفيلسوف المعاصر جون سيلر في كتابه القصير والمهم (دروس في الرواقية): "لو ان شخصا ما يقول شيئا ناقدا حولك، قف لترى ما قاله صحيح ام زائف. اذا كان صحيحا، عندئذ هو اشار الى عيب فيك تستطيع انت الآن علاجه. وبهذا سينفعك. واذا كان قوله زائفا، فهو على خطأ وهو وحده منْ يتضرر. وبكل الاحوال انت لن تتأثر من ملاحظاته النقدية".

الدرس هنا هو اننا يجب ان لا نسمح لردود أفعالنا العفوية كي ترشد سلوكنا. اذا قمنا بهذا، فهو ليس فقط حكما سيئا وانما هو نقص كلي للحكم، نحن نسير مباشرة من "الحركة الاولى" الى العواطف بدون تطبيق أي استعمال مهدئ للعقل . لذلك نحن يجب ان نضمن ان نأخذ وقتا للتوقف والتفكير قبل القفز الى الفعل. يجب ان نقبل بمشاعرنا كما تبرز، نفكر جيدا، نجلب الفضيلة للذهن ومن ثم نتصرف.

سينيكا يوضح ذلك جيدا عندما يقول "أعظم علاج للغضب هو التأجيل"، و : "اذا كنت تريد ان تقرر طبيعة أي شيء، فوّضه للزمن. عندما يكون البحر عاصفا انت لا ترى أي شيء بوضوح".

لذا: توقّف وتذكّر هذا الخط من التفكير لأشهر فيلسوف رواقي وهو ماركوس اورليوس: "انت يجب ان لا تعطي الظروف القدرة على اثارة الغضب،فهي لا تهتم بذلك ابدا".

ماذا لو لم نستطع ايقاف عواطفنا؟

ماذا لو ان الانتظار لا يخفف من قوة مشاعرنا؟ ماذا عن حالات الإساءة الظالمة والغير عادلة لمحب؟ ماذا يجب ان نعمل عندما تستبد قوة مشاعرنا و مهما كانت درجة الاتزان في أحكامنا التي نحاول تطبيقها عليها فننزلق نحو عواطف خارجة عن السيطرة؟

التكتيك الرواقي هنا – اذا كنا غير قادرين على عقلنة غضب الحركة الاولى – هو استعمال حكمنا لإعادة توجيه قوة مشاعرنا الى شيء بنّاء. لذا، في حالة وجود شخص محبوب يعاني من ظلم، استجمع "حركتك الاولى" للعاطفة تحت شعار لا غضب وانما عدالة. دع شعورك يُقاد بالفضيلة وليس بالسوء الغير مسيطر عليه. وبهذه الطريقة، يصبح من غير المحتمل ان تتمكن المشاعر التدميرية السلبية من ازعاجنا، لاننا نعمل وفق غاية بنّاءة في الذهن. لنكافح لأداء الشيء الصحيح بهدوء  وباسم العدالة بدلا من خسارة أنفسنا لغضب مدمر.

باختصار: الرواقية تهدف لمساعدتنا في التعامل مع العواطف المدمرة عبر استذكار الدرس الأساسي في تقسيم السيطرة: نركز على ما يمكننا السيطرة عليه. نحن لا نستطيع السيطرة على ردود أفعالنا الاولية للمواقف، وانما نحن نستطيع السيطرة على حكمنا في مثل هذه "الحركات الاولى". عبر تدريب أنفسنا على التوقف، والتفكير والحكم البنّاء،سوف نستطيع – بالممارسة – منع الحركات الاولى من تجميع أي زخم، وهكذا نحرر أنفسنا من المشاعر السلبية الخارجة عن السيطرة التي يمكنها تخريب حياتنا.

كيف يمكن للرواقية التعامل مع العواطف الايجابية؟

ماذا عن العواطف الايجابية مثل الحب؟ هل يعتقد الرواقيون اننا يجب ان نعقلن ونخفف من تلك العواطف ايضا؟ الجواب هو ان الرواقية تهتم بالعواطف التي لها إمكانية إفساد هدوء حياتنا. الغيرة، طغيان الحب، مثلا، له امكانية تدمير الحياة ويجب التعامل معه مثل أي عاطفة سلبية اخرى، لكن الحب العاطفي المرتكز على حاجتنا الطبيعية للصحبة هو صحي تماما – نحن فقط يجب ان نكون واعين بعدم وجود توقعات غير واقعية او عقائد زائفة لدينا حول الحب يمكنها تحطيمنا في المستقبل. فمثلا، لو اعتقدنا زيفا ان الحب بيننا وبين الاب او شريك او أطفالنا سوف يستمر الى الابد، عندئذ – في ضوء حقيقة اننا جميعا فانون –سنكون امام مفاجئة سيئة. لهذا نحن يجب ان لا نكبح او نحبط "الحركات الاولى"، وانما يجب ان نكون حذرين بان لا نسمح لها تتطور الى آمال زائفة او عقائد حول ما يمكن ان يحمله المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

حاول أستاذ الأدب الإنجليزيّ في جامعة برمنجهام توني ديفيز أن يبحث في كتابه "النّزعة الإنسانيّة" عن معنى محدّد لهذا المصطلح، وكيف تطوّر بعد عصر النّهضة، وارتباطه بالجانب العرقيّ خصوصا عند الرّجل الأبيض، وبالجانب الفلسفيّ، وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة المترجم المصريّ عمرو الشّريف، وصدر عن المركز القوميّ للتّرجمة في مصر عام 2018م.

ويرى أنّ "كلمة النّزعة الإنسانيّة نفسها استخدمت لأول مرة ككلمة ألمانيّة ... وترجع أصولها إلى اللّغة والثّقافة اليونانيّة الّتي تستمد منه دلالتها ومصداقيّتها، ومن المرجح أن يكون فريدريش إيمانويل نيثامر (ت 1848م) أول من استخدم مصطلح الإنسانيّة في بداية القرن التّاسع عشر، لكي يشير إلى مناهج الدّراسة الثّانويّة والجامعيّة الّتي تعتمد على ما كان يطلق عليه في القرون الوسطى الدّراسات الإنسانيّة، ألا وهي دراسة اللّغة اليونانيّة القديمة واللّاتينيّة ... وسرعان ما التقط مؤرخو الثّقافة من أمثال جورج فويجد وجاكوب بيركهارت (ت 1897م) تلك الكلمة لكي يصفوا العلوم الإنسانيّة الحديثة، والنّهضة كإعادة لبعث الحضارة اليونانيّة الرّومانيّة وقيمها".

ومع هذا – حسب رؤيته – ظلّت النّزعة الإنسانيّة "كلمة ذات تاريخ شديد التّعقيد، ومعان يصعب حصرها، فضلا عن عدد السّياقات الّتي يمكن أن تظهر فيها"، "فالإنسانيّة تماما كالواقعيّة والرّومانسيّة هي إحدى تلك الكلمات الّتي يمتدّ حقلها الدّلاليّ من المعاني المتخصّصة الّتي يستخدمها المثقفون إلى المعاني الّتي يشوبها الغموض لشدّة عموميّتها"، لهذا "تحمل الإنسانيّة حتّى في أكثر السّياقات الوصفيّة حياديّة دلالات قويّة، بعضها سلبيّ وبعضها إيجابيّ لانتماءات أيدلوجيّة مختلفة، وقد أدّى الغموض والعموميّة اللّذان يحيطان بالكلمة إلى أن تصير لفظة استحسان وازدراء على حدّ سواء".

ولعلّ تشعب الحالة المعرفيّة أمام النّزعة الإنسانيّة جاء كحالة من حالات من الانعتاق من النّزعة اللّاهوتية والتّحرّر منها، لأنّ النّزعة اللّاهوتية ذاتها لم تكن باسم اللّاهوت المطلق (النّصّ المطلق)، بل صاحبها الشّراك الإنسانيّ لفئة من الكهنوت البشريّ حتّى في النّصّ نفسه، وهذا ظهر بشكل كبير في العصر الوسيط في الجانب المسيحيّ الكاثوليكيّ، لهذا حاول البروتستانت الممايزة بين ما هو لاهوتيّ مطلق، وبشريّ تأريخيّ متحرك.

هذا الانعتاق لم يكن مصاحبا للعقلانيّة الأوروبيّة في التّعامل مع شموليّة النّزعة اللّاهوتيّة، من حيث المرجعيّة ذاتها، ومن حيث الانفكاك بين المقدّس وغير المقدّس، بل شمل الانعتاق لعوامل عديدة، منها ما هو سياسيّ وحقوقيّ واجتماعيّ مثلا، ومدى حضور النّزعة الإنسانيّة في تشكل هذه الجوانب وغيرها، وهذا طبيعيّ أن يحدث اضطرابا في ضبط معنى  النّزعة الإنسانيّة، إلّا أنّ الغاية منها أقرب إلى الوضوح من المصطلح ذاته.

فينقل  ديفيز عن جون سيموندز (ت 1893م) أنّ جوهر النّزعة الإنسانيّة يتمثل "في إدراك جديد لكرامة الإنسان على أنّه كائن عاقل بعيد عن كلّ المحدّدات الثّيولوجيّة، وكذلك أيضا في إدراك أنّ الأدب الكلاسيكيّ وحده هو الّذي استطاع أن يعرض النّفس البشريّة بكامل طاقتها الفكريّة وحرّيّتها الأخلاقيّة، وكان ذلك ردّ فعل ضدّ السّلطويّة الكنسيّة من ناحية، ومحاولة لإيجاد نقطة محوريّة يتوحد حولها كلّ فكر فيه الإنسان، وقام بفعله من خلال العقل الّذي ثاب إلى رشده، وأدرك قوّته المسيطرة على العالم".

ولارتباط النّزعة الإنسانيّة بالكرامة الإنسانيّة لهذا كانت في مقابل المطلق، "فالنّزعة الإنسانيّة في عصر النّهضة والّتي تعبّر عن جوهر إنسانيّ ثابت لا يتأثر بالزّمان والمكان والظّروف المحيطة"، هذه الرّؤية لم تكن رؤية لغير اللّاهوتيين فحسب، بل هناك من اللّاهوتيين من تبنى ذلك أيضا، ويرجع  توني ديفيز تبنيهم إلى محاولة العديد من اللّاهوتيين إلى فصل الكنيسة عن السّياسة، فإذا كانت الكنيسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة اللّاهوتيّة؛ فإنّ السّياسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة الإنسانيّة المتمثلة في الكرامة الإنسانيّة، فيرى أنّه "كان يُشتبه في أنصار النّزعة الإنسانيّة الأوائل بأنّهم خارجون عن صحيح الدّين، بل وكان يظنّ بهم الكفر، وكان معظمهم مثل رجلي الدّين إيرازموس وبرونو مناهضين لتأثير الكنيسة وتدخلها في الشّأن السّياسيّ، على الرّغم من أنّهم نادرا ما كانوا مناهضين للدّين".

لهذا يخلص أنّه في الابتداء "تعدّ الإنسانيّة في جذورها فكرة سياسيّة مستمدة من الخطاب الثّوريّ لحقوق الإنسان أكثر منها فلسفيّة، فعندما أعلن روسو في الكتابه العقد الاجتماعيّ  ... أنّ الإنسان يولد حرّا إلّا أنّه مكبل بالأغلال في كلّ مكان"، ثمّ تطوّرت فلسفيّا بعد ذلك.

هذه الجدليّة مدارها حول مركزيّة الإنسان في الوجود، فهناك نزعتان علويّة لاهوتيّة، يقابلها نزعة إنسانيّة وجوديّة، وكما يرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه  "في الدّين والعقل والفلسفة" أنّ كلّ دين "يؤسّس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي"، بيد أنّ الإنسان يتضخم في مقابل اللّانهائي، فيحدث تحريف للثّاني، فينسب هذا التّضخم إلى الدّين ذاته، وأهم أسبابه كما يراها النّفعيّة الّتي تنقل البشر من المساواة بين الجميع في مقابل اللّامتناهيّ إلى النّفعيّة الّتي تتمثل في فئة من الكهنوت باسم اللّامتناهي ذاته، "فكلّما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم .... ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء ... وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة".

وما ذكره تولستوي يتوافق مع الرّؤية المبدأية الّتي أشار إليها توني ديفيز من ارتباط نشأة النّزعة الإنسانيّة بالبعد السّياسيّ، والّتي تمثلت في نفعيّة البابا والكهنوت باسم الدّين نفسه، لهذا تصوّر أنّ مفهوم المساواة وفق الكرامة الإنسانيّة يتعارض مع الدّين ذاته؛ لأنّه أوجد نفعيّة معينة لفئة من رجال الدّين، كما يصوّرهم المؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت 1959م) في كتابه  "قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م" أنّه "يتمتع رجال الدّين بأعظم الامتيازات ... ومزودون بمحاكم خاصّة، المحاكم الأسقفيّة، ولا يدفعون أيّ ضريبة، ويحدّدون بأنفسهم الهبة المجانيّة الّتي يمنحونها للملك ... وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سياديّة ... ويحتكرون التّعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرّقابة على كلّ ما يطبع قانونيّا"، وهذه النّفعيّة من حيث الاستناد الدّينيّ مرتبطة بالنّزعة اللّاهوتيّة المطلقة، فكانت  النّزعة الإنسانيّة في مقابل تحطيم هذه النّفعيّة التّأريخيّة من خلال الفصل بين الدّين كجوهر قيميّ، وبين السّياسة المرتبطة بحراك الإنسان ومساواته.

رؤية النّزعة الإنسانيّة لم تعد بعد ذلك لمحاولة الممايزة بين جوهر الدّين وبين تطوّر الاجتماع البشريّ، بما فيه السّياسيّ، بل أصبحت معقدة بشكل كبير، وأصبحت أقرب إلى العلمويّة والوجوديّة منها من التّنويريّة المسيحيّة الأولى، فهي وإن كان جدليّة مسيحيّة في ظرف تأريخيّ معيّن، إلّا أنّها اليوم جدليّة عالميّة بما فيها عالمنا الإسلاميّ أيضا، وحاول هشام جعيط في كتابه "أزمة الثّقافة الإسلاميّة" أن يحاول الجمع بين مركزيّة الإنسان من حيث النّزعة الإنسانيّة، وبين النّزعة اللّاهوتيّة في النّصّ الدّينيّ، فيرى أنّه "يوجد في القرآن مركزيّة إنسانيّة، لكنّها خاضعة للمقاصد والمخطّطات الإلهيّة، وهذا بحدّ ذاته يمثل شكلا من أشكال النّزعة الإنسانيّة، ففي القرآن درجة إنسانيّة أرفع، إنّها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، في غائيّة الخالق، وفي التّاريخ"، بيد أنّ الجدليّة حتّى بحضور هذه المركزيّة في النّصّ القرآني تبقى حاضرة ومتشعبة أيضا؛ لأنّ مساحة مركزيّة الإنسان أوسع من كونه حضورا إجرائيّا، بل هو عامل مهم في صناعة نص أوسع من النّصّ الأول، له هيمنته التّصديقيّة نسخا وتخصيصا وتقييدا، ثمّ الفهومات الأولى، والّتي أصبحت لها صبغتها اللّاهوتيّة المطلقة مع مرور الزّمن، لهذا لا يمكن بحال تبسيط حضور النّزعة الإنسانيّة في واقعنا الإسلاميّ اليوم، بل أنّ واقع الإسلام السّياسيّ – إن صح التّعبير – مثلا خير مثال لمثل هذه المراجعات، وقراءتها عن عمق بشكل أكبر، وفق النّزعتين اللّاهوتيّة والإنسانيّة.

***

بدر العبري – سلطنة عُمان

 

مصطلح ما فوق اللغة* هو مصطلح إخترعه فلاسفة وعلماء فلسفة اللغة واللسانيات. ما فوق اللغة هو باختصار شديد ان تتكلم عن اللغة العادية التداولية بكمالها النحوي بلغة اخرى ليست اعلى منها بالدرجة النوعية من حيث التراكيب والقواعد والنحو وحسب بل تعتبر اغنى من اللغة الام في اسبيقتها التراتيبية الفطرية النحوية وقواعد اللغة التداولية المتعارف عليها.. كما ان اختلاف مافوق اللغة جوهريا عن اللغة العادية التداولية الأم انها فطرية غير مكتسبة. وهذه مسالة اشكالية ليست محسومة. المتعارف عليه أن كل ماهو فطري يكون موروثا جينيا بالوراثة فهل هذا المنطق العلمي ينطبق على فطرية اللغة؟ لا اعتقد ان هذه الاشكالية يمكننا اختصار حسم الاجابة عنها بنعم او لا فالقضية اصعب من ذلك.

قام الفيلسوف فردريك سكينر الامريكي 1904 - 1990 رائد (نظرية السلوك اللفظي) وعالم النفس والمخترع الميكانيكي متعدد الاهتمامات. شغل سكينر كرسي الفلسفة في جامعة هارفرد. باختراع نظريته في السلوك اللفظي في مرجعية اللغة الى علم النفس.

يعتبر الباحثون في علم اللغة واللسانيات سكينر صاحب الكتاب الفريد (السلوك اللفظي) الذي حاول فيه جعل تعلم الطفل للغة سلوكا تجريبيا يقوم على ثنائية الاثارة والاستجابة حسب هذه الترتيبية اللفظة اللغوية الدالة + الاثارة + رد فعل الطفل + الاستجابة وتتم هذه العملية تحت مراقبة وتوجيه طرف ثالث يشمل الطفل المتعلم والمفردة اللغوية والقائم على تعليمها.. كما ويعتبر الباحثون سكينر ممهّد الطريق امام نعوم جومسكي في نظريته التوليدية اللغوية. رغم الاختلاف الجوهري الذي جرى بينهما لاحقا. ما فوق اللغة هي لغة تخارجية معرفية تجمع بينها وبين اللغة الام وما فوق اللغة لا يلغي اصل اللغة من حيث ثبات نحو وقواعد اللغة الام. بل تحاول ما فوق اللغة تعديل بعض قواعد اللغة الام بالاضافة عليها او حتى اختزال حروفها الابجدية.

معيار قياس ما فوق اللغة

ما الجديد الذي يمكنني اضافته على ما سبق لي ونشرته على صفحات العديد من المواقع الالكترونية المحكمة في دراستي الموسومة (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة)؟... ينظر الهامش لطفا.

بأي معيار يمكننا الكلام عن مصطلح ما فوق اللغة؟ وهل يمكننا توطين المصطلح عربيا اسقاطيا كما فعلت انا بدراستي المشار لها حين اسقطت مصطلح ما فوق اللغة على اللغة العربية الفصحى عندنا منذ عصر ما قبل الاسلام وفي لغة القران الكريم ما قبل تنقيط الحروف في القران وفي اللغة العربية ووضع ضوابط النحو والحركات الاربعة على الحروف والشدة والتنوين في اللغة العربية من قبل عبقري اللغة العربية الخليل بن احمد الفراهيدي 100- 170 هجرية.. الذي وضع بحور الشعر العربي واجملها بستة عشر بحرا.

تبدو لي مفارقة غريبة ان اللغة العربية الفصحى في العصر الجاهلي كانت تمتلك مقوماتها النحوية وقواعدها التي يتكلم بها العربي ولو اخذنا مثالا صارخا لا يقبل التفنيد هو السليقة الشعرية الفطرية التي كانت القبائل العربية تتناقل بها القصائد الشعرية شفاها او مكتوبة بالعربية الفصحى من غير ما تعرف تلك القبائل ان الشعر العربي له ضوابط وبحور الا بعد مجيء عبقري اللغة العربية في القرن الثاني الهجري الخليل بن احمد الفراهيدي 100-170 هجرية وقام بتصنيف وحصر الشعر العربي بستة عشرا بحرا. ولما وجد الصحابة عثمان والامام علي وعمر بن الخطاب وآخرين غيرهما انتشار (اللحن) في كلام المشفهة وفي قراءة القران الذي اخذ يتنامى بعد دخول غير العرب من الاقوام الفارسية والتركية والهندية بالاسلام.

قام الصحابة رحمهم الله بتكليف ابو الاسود الدؤلي البدء بتنقيط لغة القرآن الكريم يساعده كلا من عاصم الليثي ويحيى بن يعمر ولم يستطيعوا ثلاثتهم انجاز المهمة الا زمن الدولة الاموية حين امر عبد الملك بن مروان تكليف الخليل بن احمد الفراهيدي بتنقيط القران الكريم ووضع الحركات الاربعة الضمة والفتحة والكسرة والسكون على الحروف بأمر من والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي حينذاك.. كما وقام هذا العبقري الفذ الفراهيدي باختراعه التنوين والشدة. (للمزيد حول الموضوع يمكن العودة الى دراستي المنشورة قبل سنتين بعنوان: (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة).

في هذا المثال لو اسقطنا مصطلح ما فوق اللغة على لغتنا العربية الفصحى منذ العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام. لوجدنا ان العربية كانت بالعصر الجاهلي وبعد قرنين من ظهور الاسلام لغة متوارثة بالفطرة والسليقة في مقدمة ذلك ياتي نظم الشعر الجاهلي وصدر الاسلام. هنا اعترف بان هذه الاشكالية جعلتني افكر مليّا كثيرا قبل أن احكم على نظرية وجود لغة فطرية ام هي في طبيعتها الانثروبولوجية مكتسبة؟. السؤال من الذي وضع الابجدية العربية في دلالة كل حرف على صوت معيّن في العصرين الجاهلي وصدر الاسلام قبل ان يقوم الفراهيدي بتنقيط حروف اللغة اللعربة؟

نعود الى صلب موضوعنا هل تعتبر لغة مافوق اللغة انها لغة فطرية موروثة عقليا وهي تتجاوز بالتجديد اللغوي النحوي قواعد اللغة الام المتداولة قبل لغة ما فوق اللغة علما أن الاثنتين متعايشتين. الفطرة اللغوية الغير موجودة فما فوق اللغة هي لغة مكتسبة عن اللغة الام التي تتحدث عنها. يوجد فرق كبير بين أن تقول فطرة لغوية موروثة تتبلور بالنمو التجريدي النحوي وبالاكتساب المجتمعي في دخول كلمات جديدة عليها. وبين ان تقول يولد الطفل مزودا بجينات استعداد فطري لتعلم لغة ابويه واسرته بالممارسة.

نعم هنا يكون الاستعداد الفطري لتعلم اللغة هو في وراثته الجينية له عن طريقين هما تطور حنجرة الانسان بمرافقة اللسان على امتلاك الطفل تعلم اللغة في اطلاق حنجرته النوعية الانسانية غير الحيوانية اصواتا لها معنى محددا لا تستطيعه الحيوانات التي تعيش معه؟.

ولو نحن ذهبنا الى ما يقوله علماء اللغة واطباء فسلجة وظائف اعضاء جسم الانسان فهم يقارنون بين طبيعة تكوين حنجرة الانسان عبر مرور الاف السنين انها هي سبب امكانيته نطق اصوات لغوية لا يستطيع الحيوان مجاراته بها. كما ان لسان الانسان لعب دورا لا يستهان به بتماهيه حنجرة الانسان بالنطق اللغوي صوتيا الذي له معنى. فطرية اللغة لا تكتسب بكروموسومات DAN كغيرها من الصفات الوراثية مثل لون البشرة، شكل العينين، طول القامة، لون العينين وهكذا.

 نعوم جومسكي ميّز في نظريته التوليدية اللغوية بين الفطرة اللغوية والاستعداد الفطري لتعلم اللغة حسب فهمي. ولم يتنكر جومسكي الفيلسوف اللغوي المرجع ان يتنكر للمبدأ اللغوي أن اللغة فعالية فطرية مكتسبة عن الاسرة والمحيط والمجتمع. واللغة تتجدد ابتكاريا توليديا ناميا متصاعدا بتاثير من المحيط والبيئة بالاستعمال.

أهم عقبة تقف امام أن لا تكون اللغة فطرة موروثة هو عامل أن كل لغة تمتاز عن غيرها بضوابط وقواعد نحوية وابجدية حروفية صوتية خاصة معينة بها لا تجدها بغيرها. والسبب الاهم تطور حنجرة الانسان في اطلاقه اصوات لا يستطيعها الحيوان.

بناءا على ما تم ذكره نتساءل هل اللغة منطق عقلي شفاهي أي بمعنى هل نستطيع القول عن اللهجة العاميّة مثلا انها لغة ما دون اللغة الام وليس ما فوقها؟ لا بالتاكيد كون اللغة تمتلك ثوابتها النحوية وقواعدها وابجديتها المحكمة التي لا يمكننا التفريط بها وهو ما تفتقده اللهجات التي تعتاش على اللغة الفصحى الام في خروجها التام عن ضوابط واحكام اللغة النحوية المرجع الاول والاخير.

الوعي واللغة

عندما نقول الوعي ليس هو العقل فنعني به افصاح العقل عن ذاته في مدركاته. بعبارة ثانية العقل لا يدرك ذاته الا بوعيه الاشياء والعالم من حوله. الادراك العقلي ليس هو المطابقة في وعي مطابقة الدال مع المدلول. ولا بتعبير هيجل ماهو عقلي موجود وكل موجود عقلي. بل العقل لا يدرك ذاته الا بادراكاته الغيرية من الاشياء. وما لا تعبر عنه اللغة في الاشياء والمواضيع لا يكون موضوعا لتفكير العقل. واذا ما كانت اللغة هي تضليل العقل اغلب الاحيان فمع من يكون صدق الحقيقة مع اللغة الام ام مع تعبير ما فوق اللغة؟.

اللغة والوجود:

(اللغة هي استفهام حول المعنى والوجود). بول ريكور

يتوسط الوجود بين حقيقة الشيء واللغة المعبّرة عنه، وكلاهما الحقيقة واللغة، مفاهيم تصورات نسبية، تنعكس عن الوجود المستقل للاشياء، وحقيقة اللغة كما يعبّر عنها عالم اللغات دي سوسير(نظام معرفي قائم بذاته) من جهة، ونسبية الحقيقة الوجودية من جهة اخرى. وفي تعالقهما الثنائي بالاشياء والموجودات يتعيّن بهما الوجود الحقيقي.

(كما ان الانسان لا يوجد في المطلق، بل يوجد في الزمان والتاريخ، يوجد حيث يفكّر، ويفكّر حيث هو موجود، ولا يمكن فهم الذات من دون توسّط اللغة والعلامة والرمز والنص)1، وبحسب بروتاغوراس ان الحقيقة هي مظهر الوعي، وان كل شيء نسبي، والموجود لا وجود له الا بالاضافة الى الوعي. الوعي هو إفصاح العقل عن ذاتيته.

هذه الجدلية التعالقية العلائقية بين الوجود والفكر كان تم حسمها منذ قرون، في اما ان تكون علاقة (مثالية) او ان تكون علاقة (مادية) ويتوضّح معنا هذا لاحقا.

ان اللغة ادراك عقلي مفاهيمي تداولي، شفاهي ومكتوب ومرئي، وتعبير رمزي صوري تواصلي. اما لغة الصمت فهي نوعين من التعبير اللغوي، من حيث الادراك العقلي لها، فهي لغة حيّة لا تقل اهميتها الوظائفية عن اللغة المنطوقة او المكتوبة، او المرئية، حين تكون لغة الصمت ادراكا ذاتيا واعيا بضروراته التواصلية والوظائفية، كما نجده في طقوس الديانة البوذية التأملية وبعض الاديان الوثنية الاخرى المعبّر عنها بلغة الصمت الطقسي الشعائري، واليوغا، المسرح الصامت، رقص الباليه، ولغة بعض المتصوفة المجذوبة الاغترابية عن المجموع*.

الوجود كينونة متعيّنة بالادراك العقلي لها، ويكون وجودا معطّلا من غير ادراك اللغة تواصليا معه. اما ان تكون لغة الصمت غير مدركة عقليا، بمعنى التعطيل الوظائفي لها في الحياة، عندها تكون وهما، وتعبيرا زائفا عن وجود الاشياء، بل تكون وهما خارج فاعلية الوجود، فهي لغة خارج المدرك الحسّي والعقلي للاشياء والموجودات، وهذه اللغة نجدها عند بعض الحيوانات وفي غطرفة وهذاءات المجانين العصّية على التلقي والاستقبال. فهي لغة غير منطوقة بنظام لغوي تعبيري تعريفي، ولا تهتدي بالعقل ادراكيا، وهي بلا معنى ولا هدف. فلغة الحيوان هي نوع من اللغة التواصلية (غريزيا) فقط، ليست لها امتدادات وظائفية خارج الحاجات البيولوجية الغريزية المحدودة للحيوان، بينما اللغة العقلانية لدى الانسان، لغة تواصل تداولي لمحمولات وظائفية لا حصر لها تغطّي جوانب الحياة بمجملها من ابسط الامور والى أعقدها. وبذا تكون اللغة المؤنسنة بالنوع خاصية انسانية لا يشاركه بها الحيوان، هنا الانسان يتأنسن باللغة وهي تتأنسن به، مثلها مثل علاقة الانسان بالطبيعة فهو يتأنسن بها وهي بدورها تتأنسن به .

 اللغة وجود ادراكي عقلي يتفرّد الانسان بحيازته ويختّص به دون غيره من الكائنات. واللغة هنا وسيلة العقل لأثبات وجود الاشياء، وبحسب غاديمير: (الكائن الذي يمكن ان يفهم هو الكائن اللغوي، وان اللغة هي الفهم، وهي التي تحدد علاقة الانسان بالعالم)2 .

يذكر الزواوي بغورة ان الفلسفة الوضعية المنطقية حوّلت التحليل اللغوي المنطقي الى واقع فلسفي قائم، وحصرت مهمة الفلسفة في التحليل اللغوي، واعطت اولوية اللغة على الفكر. كما سبق لفنتجشتين قوله (ان اللغة هي الفكر).

 تساؤلنا ايهما أسبق ادراكيا الوجود ام اللغة؟

في معرض اجابتنا اود تثبيت هنا تناقض كبير في عبارة عالم وفيلسوف اللغة دي سوسير يقول: (وجود الاشياء يسبق فكرتنا عنها) وهذا منطق مادي سليم ليس فلسفيا وحسب وانما علميا ايضا، لكن لنتأمل تكملة العبارة حين يقول:( الا انه يمكن القول بأن تصوراتنا هي التي تخلق الاشياء)؟ كيف؟.

طبعا هذا التناقض في عبارة واحدة، ينكر فيه دي سوسير موضوعة فلسفية معرفية ان مثالية التفكير تقود لمثل تلك الاستنتاجات الفكرية البائسة، في تقاطع ان وجود الشيء يسبق فكرتنا عنه، وهذه نظرة علمية مادية صحيحة، اما اننا ندّعي اننا نستطيع خلق اشياء من تصوراتنا عنها فهو لا يستقيم مع اي منطق عقلي اوعلمي. وجود الشيء لا يحدده التفكيربه، وانما يحدد الفكر وجود الشيء السابق عليه على الفكر.

في هذا التناقض المثالي لسوسير نجده ينسف ابجدية الفكر المادي حين يقول بامكانية المفاهيم المدركة واللغة خلق وجود الاشياء، فالجدل الماركسي يقول ان وجود الشيء يسبق ادراكنا له، وليس بأمكان تصوراتنا ان تخلق واقعا حقيقيا لوجود الاشياء، وانما وجود الشيء يخلق تصوراتنا التجريدية والمفاهيم عنه، واللغة او التصورات المنبثقة عنها لا تخلق حقائق الوجود، وانما الوجود يخلق حقائقه لغويا تجريديا بعد ادراك العقل له.

اما اذا أخذنا في نفس السياق مقولة فينجشتين(اللغة هي الفكر) فيكون معنا ادراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكر، من حيث ان الفكر هو انعكاس تجريدي وصوري لغوي في فهم الواقع والوجود. والعقل مستودع الافكار ومكمن انطلاقها، لذا فان ادراك العقل للوجود والاشياء يسبق ادراك العقل للافكار او اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية لوجود الاشياء. والادراك اللغوي مستمد من علائقية ادراك العقل للاشياء. وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا(الحواس+العقل)، وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.

انه من المهم جدا ان لا نغفل ان اروع الافكار هي التي تصوغها عبقرية اللغة، ولا يعطي وجود الاشياء المادية اللغة جمالية التعبير العبقري. ان عبقرية اللغة تسبق عبقرية الفكر. كما لا تقل اهمية اللغة في التعبير عن اهمية التفكير العقلاني، واللغة وسيلة العقل لا ثبات الوجود. ولغة الخيال ادراك غير فاعل لواقع الاشياء والموجودات في تعطيله التواصل المثمر.

اهمية ادراك اللغة للاشياء

ادراك العقل للوجود والاشياء ادراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الافصاحية عنه. الوجود يتم ادراكه عقليا كموضوع مستقل فقط قبل ادراك اللغة له، الوجود من غير ادراكه لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير، اللغة كشف ادراكي عقلي للاشياء والموجودات، والوجود الواقعي لا ندركه ادراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا ادراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة.

وتعجز اية فكرة مدركة عقليا، أن يكون ادراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير ادراك اللغة لها تداوليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة ادركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها.

نجد في دعوة كروتشة ان اهمية اللغة، يجب ان تكون مقتصرة على دراستها (جماليا) على صعيد الشعر تحديدا، فيها الكثير من التطرّف في تجاوز أهمية دراسة ابعاد اللغة كوسيط تداولي تعبيري، فلسفيا، اجتماعيا، وثقافيا واقتصاديا. ودراسة اللغة جماليا هو دراسة لواحدة من خصائصها الوظائفية العديدة وليس منتهاها .

ومثل ذلك ذهب هيدجر في اهمية دراسة اللغة، وايضا الشعر تحديدا لتبيان (المقاصد الوجودية من اللغة) وهي دعوة ايضا تستبطن اهمية اللغة جماليا، وفي تعطيل السمات والخصائص المتعددة للغة وظائفيا. ويضيف هيدجران اللغة وهي من تركيبات الانية، الا ان هذا التركيب لا يظهر الا في حالة الوجود الزائف، في صورة ثرثرة يومية، وهذه لا تتضمن حوارا بمعنى الكلمة او تبادلا للافكار. وقد ترتب على ذلك ان يصبح الوجود الحقيقي هو الصمت.

ان اهمية ادراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو اكبر من اهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية واهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في ان تكون تداولية تواصلية ذات حيوية واثراء نافع للحياة.

***

علي محمد اليوسف

.........................

هوامش

* حول مصطلح ما فوق اللغة نشرتها دراسة قبل عامين ولاقت اعجابا كبيرا بعنوان (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة) فقد نشرت الدراسة على مواقع عديدة منها موقع كوكل، موقع الحوار المتمدن، موقع المثقف، موقع اضواء للبحوث والدراسات، موقع انفاس نت، موقع المجلة الثقافية الجزائرية. وغيرها من المواقع.

(1) و(2) نقلا عن الزواوي بغورة، شذرات عن كتاب الفلسفة واللغة، عرض وتلخيص.

* احيل الى دراستنا الخيال واللغة والتصوف، موقع صحيفة المثقف الغراء

عندما نطرق أبواب النصّ واتجاهاته الفلسفية والمنظورة في دائرة الحكم النصّي، نعتبر الاستدلال"  " إشارة نصّية، أو علامة من علامات النصّ التي تشترك في تواجده كمعنى وتأويل كلّي، فيتحرك كدالة انفصالية على المستوى الذهني، ومن هنا، نستطيع أن نقول: بأنّ الاستدلال مشترك في علوم الحداثة ومنها؛ الدلاليات واللسانيات والتداوليّات وعلم النفس، ومن خلال هذه العلوم سوف نطرق أبواب الاستدلال، وخصوصاً تلك العلائق المبنية ما بين الاستدلال والحِجاج، وبين الدلاليات والاستدلال، حيث أنّهما يشكّلان العلامات الدالة في النصّ المكتوب، وكذلك هي من ميزة المفاهيم النصّية وما تحوله من دوال حركية تؤدي إلى المعاني وتفسيراتها في المنطق والتفكيك والاختلاف (دريدا)، وفي ملامح الكينونة لدى (هايدجر)، وفي ملامح الاختلاف أيضاً. (تتصّل عبارة الاستدلال بجدول لغوي ثريّ من قبيل الدليل والدلالة واللزوم والاستنتاج والاستنباط والاقتضاء والبرهان والقياس والحجّة... إلخ ").

إذا بحثنا في هذا الخصوص إلى أنّ النصّ حالة جسدية فردية غير تقليدية، فإنّه يحوي على متعلقات تنغيمية، ومن هنا، نستطيع القول على هذا المنظور بـ (القول الجسدي التنغيمي)، وأمّا القول فهو المفتاح الأوّل لكي يوصلنا إلى البؤرة النغمية المرافقة للجسد، وإن تطرقنا بهذا الخصوص فذلك لكي نعمل جسراً بين الجسد التنغيمي والاختلاف، فإذا أخذنا اختلاف (دريدا)، فالكتابة لديه، هي ليست بين كلّ البشر، ولكن في الوقت نفسه، إنّ العوامل النفسية هي التي تدفع العامل الكتابي إلى التواصل، ومن هنا، يكون ربط الاستدلالي الكتابي بالعامل الداخلي للمؤلف، والذي يكون مستقرّاً كما تستقرّ الكتابة خارج الانفعال، أمّا في الانفعال الداخلي؛ تكون مساحة الكتابة، مساحة سريعة سرعان ما تختفي عند التوقف عن الانفعال الذاتي (وبما أنّ الكتابة ليست هي بين كلّ البشر، فإنّ الكلمات المنطوقة تكون كذلك. في حين أنّ أحوال النفس التي تكون هذه التعبيرات بمثابة علامات عليها بصورة مباشرة هي واحدة عند الجميع، كما تكون الأشياء التي تكون هذه الأحوال صوراً لها واحدة أيضاً ").

لا يمكننا إنهاء النصّ إلا من خلال المتموضعات، ومنها التموضع الفعلي الصاعد والتموضع الفعلي التنازلي والتموضع الفعلي المنتشر، ونعني من وراء ذلك سبل استقامة النصّ من خلال قصدية الباث، حيث أنّ اللغة حِجاجية قبل كلّ شيء، وقد تتجاوز الإبلاغ.

الفعل التموضعي الصاعد: وهي الأفعال الحركية الاتّجاهية والتي تتموضع في النصّ من خلال الاستدلال؛ وتعتمد على لغة مكثفة خارج التفاصيل، ويكون الحجاج اقتراحاً وليس مفروضاً على اللغة، ومن هنا تكون حركة المعاني أكثر تأويلا وتكون البراهين (ومنها البراهين اللغوية) أكثر قوّة.

في الحركة التموضعية يكون الحجاج مفهوماً لغوياً استدلالياً، فعندما نقول العاصفة قادمة، إذن هناك سماع دوي وحركة للأشجار وقد ينقلع بعضها، وتعتبر هذه النتيجة استدلالاً. فيكون الصعود؛ هو القوة التي تلازم الحركة، فمن الطبيعي أن تبدأ بحركة خفيفة، ولكنّها قابلة للتصاعد، وهكذا يكون الفعل التموضعي في النصّ، وهو يختلف بين فعل وفعلٍ آخر. (إنّ الحِجاج هو تقديم الحِجج والأدلة المؤدّية إلى نتيجة معينة وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، وبعبارة أخرى، يتمثل الحِجاج في إنجاز متواليات من الأقوال، بعضها بمثابة الحِجج اللغوية، وبعضها الآخر بمثابة النتائج التي تستنتج منها.).

الفعل التموضعي التنازلي: ويكون الفعل الحركي تموضعياً من الأعلى إلى الأسفل، فالذات الحقيقية تعلن عن نفسها عندما تفرغ شحنتها الكتابية، لذلك لا يعلى على اللغة أية ذات مستعارة، فاللغة هي العليا في جميع المجالات والكتابات النصّية، المقروءة منها والمكتوبة، والذي يكتب سيقرأ بكلّ تأكيد، لأن الرسالة الموجهة قد تكون رسالة تخييلية ولكنها تنزل من الذات لتوازي النصّ، وكذلك اللغة تنزل لكي تتوازى مع المعاني التي تحملها وتعتبر موازية لمعاني النصّ المكتوب.

تختلف تنازلات الأفعال فيما بينها، فهناك الاختلاف الزمني وكينونته، وهناك الاختلاف المكاني وصيرورته، فالأوّل نضعه ضمن زاوية الزمان والمكان (الزمكانية)؛ أما الثاني فتركيبه المكان على المكان، وفي الوقت نفسه، ربّما تتشابه الأزمنة، ولكن لا تتشابه الأمكنة إلا نادراً. وإذا تقصينا وحدة الحدث الكونية، فسوف نقترب من هذا التشابه (التشابه المكاني) كما يحدث لأحداث متتالية في عواصم عديدة في العالم.

الفعل التموضعي المنتشر: وتكون المساحة النصّية مستوعبة جميع حركات الأفعال، الحركية منها والانتقالية والتموضعية، لذلك يعتبر انتشار الفعل في النصّ المنظور، بأنّه الحاوي لجميع اتجاهات الأفعال وحركتها، العليا منها والسفلى، وكذلك الاتجاهات، الأمام والوراء...الخ

من المواضع التي تتقبل الانتشار النصّي، المطابقة وفعلها الإنتاجي، فعندما تكون الجملة تركيبية، فهي مطابقة المفردات مع بعضها، لذلك أكد ابن سينا على خصوصية تقبّل المفردات للتركيب؛ أيّ أنّ المطابقات تأخذ مساحتها في جملة على جملة أخرى وذلك لإتمام المعنى والتأويل، حيث تظهر العلاقات التأويلية بين جملة وأخرى، ويظهر الفعل المؤجل أيضاً.

سنخوض معارك تداولية ما بين الحِجاج والاستدلال من خلال بعض العناوين التي تكون البؤرة النقاشية وما نقدّمه بهذا الخصوص، حيث أنّ المفاهيم تختلف خارج الشروط؛ فأوجه التشابه يقابله أوجه الاختلاف، ووجه السنن يواجه الشيفرة المتواصلة في التداولية النصّية:

الحقيقة والسببية... الاستدلال والحِجاج... الكتابة النسقية... الكينونة والبناء الزمني...

لكلّ عمل برهانه، وطالما أنّ البراهين متعلقة بالأعمال المنتجة، إذن هناك وسائل بث لهذه الأعمال وهي المحطة الرئيسية (الباث) التي تتولى بثّ العمل المتجه لهدف ما، فالعلاقات المتواجدة بين الاستدلال والحجاج والبرهان، علاقات تواصلية – تداولية، لذلك يكون السند، ويكون التفكيك، ويكون الجدل (لدى هيغل)، وتكون الكينونة (لدى هايدجر)؛ وكلّ فعل حركي أو انتقالي أو تموضعي، يتنافى مع فعل آخر، أو يقف بالضد، وهذه العملية تعني لنا بأن النصّ الجامع، فيه من الضدّ التواصلي، وفيه من الوفاق التواصلي، وذلك بسبب العلاقات القائمة بين العناصر الدالة.

إذا كان الشخص الأوّل متطابقاً مع ذاته، فالشخص الثاني مختلفاً مع ذاته، ومن هنا، تظهر المتباينات والمسمّيات وكذلك الفوارق في العلاقات النصّية بين الشخص الأول الذي نفرضه كـ (برهان)، والشخص الثاني والذي يكون الأكثر تشعباً كـ (الاستدلال).

الحقيقة والسببية

يتعلق النصّ السببي بالذات الحقيقية، لذلك، ومن خلال العلاقات التي تظهر في النصّ، نجد بأنّ لكلّ نصّ سبباً، ولا نستطيع أن نكون مع الأسباب المباشرة، فقد تكون تلك الأسباب مدغمة من خلال المعاني، وقد تكون ظاهرة، وتحدّدها أيضاً المعاني التي تفتح أبوابها للتأويل؛ فإذا أخذنا الحقيقة كتحوّل ذاتي، فإنّ سبب التحوّل يقابله تحوّلات نصّية، حيث أنّ النصّ لا يمكنه أن يتواصل بكلام عادي أو يعتمد المباشرة والاستسهال الكتابي؛ لأنّه سيصطدم بالكتابة الساذجة.

لا نبتعد عن سياق الحقيقة، حيث أنّها على علاقة بالواقع، وقد تدغم حقيقة الواقع في الفعل الخيالي، ولكن هذه المهمّة لا تسيطر سيطرة تامة على النصّ، فلابد من إشارات حقيقية تقودنا إلى دلالات معرفية، والتي تكون المرشد الأوّل في الخطاب الكتابي. ما يكسبه النصّ في الثبات لا يمكنه التغيير، وما يرفضه النصّ من تغييرات؛ فهو الضرورة النصّية التي لا تلزمها التغييرات، وذلك لأنّ البنية اللغوية لا تستجيب لأيّ تغيير نصّي قد يطرأ عليها، وتعدّ هذه من الأسباب الضرورية في العلاقات النصّية التي تلائم النضوج النصّي، والكشف عن المفاهيم اللغوية والتباينات بين كلّ من الاستدلال والحِجاج، حيث أنّ العلاقة بينهما علاقة برهانية من خلال ترابط الأقوال التي يزرعها الباث في الخلق النصّي (فترابط الأقوال لا يستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي وإنّما هو ترابط حِجاجيّ لأنّه مسجّل في أبنية اللغة بصفته علاقات توجّه القول وجهة دون أخرى وتفرض ربطه بقول دون آخر فموضوع الحِجاج في اللغة هو بيان ما يتضمنه القول من قوّة حِجاجية تمثل مكوناً أساسياً لا ينفصل عن معناه، يجعل المتكلّم، في اللحظة التي يتكلّم فيها، يوجّه قوله، وجهة حِجاجيّة ما. "   ").

لا يوازي النصّ الحقيقي إلا نصّاً حقيقياً، لذلك يعتبر الباث نصّاً مستقلا، لا يوازيه إلا النصّ المقروء مثله، لذلك يكون الباث الجزء المحرّك بذاته، وهو ضمن بعض البيانات التي يتكئ عليها، ومنها التوجيهية والمرجعية والتجنيسية؛ وفي الوقت نفسه إذا ما أخذنا موضوع العتبات النصّية، فبالإضافة إلى العنونة، فالباث أحد هذه العتبات، وخصوصاً أنه المقروء الأوّل قبل أن يكون واحداً من المعاني الخارجية. 

تمتلك هذه العناصر نظاماً إشارياً حركياً، وبما أنّ الباث يشكل إحدى تشكيلاتها، إذن فالنصّ الأثر الكلي، والمعنى هو الأثر الباقي من التأويل.

الاستدلال والحِجاج

إنّ النصّ المكتوب يأخذ على عاتقه التصوّر المختلف في الكتابة التي لا تراجع عنها إلا بموضوع النسف، ولكن لا يمكننا أن ننسف الزمكانية عندما يتعلق الأمر بالدال الذي يكون سبباً للدلالة التي نعنيها في المعنى، لذلك نمنح النص النتائج المرسومة من خلال أسباب وعلاقات ومتعلقات نصّية، والبناء والتشييد والإعادة النصّية اللذين يلازمون حالات الاستدلال عندما تكون اللغة دالة ومقوّمة على المعاني المتواصلة، لذلك فالتحوّلات التي يخرج بها النصّ، هي تحولات استدلالية تؤدي إلى نتائج بالتأويل.

تقودنا بعض العبارات النصّية إلى قول مؤكّد وقول غير مؤكّد، فالقول المؤكّد هو الخارج من واحة التفكّر الكلامي عندما يكون الباث قد اعتنى بهذا التأكيد، وفي الوقت نفسه، هناك القول المتأرجح الذي يحتاج إلى دلائل تأكيدية لتؤدي إلى نهاية نصّية، ومنها الضوابط المعرفية.

في حالة نسف الموجود في اللاوجود، تكون اللغة هي الفاصل القياسي بينهما، فالحالة تصبح افتراضية قبل أن تكون حالة تواجد فعلية، وذلك لأنّ النصّ وإن اعتنى بالزمنية، فالزمنية ضمن الموجود، في اللاوجود الفعلي في النصّ، ومن هنا يكون مثلا؛ قياس الماضي، ضمن وجود الحاضر، الذي هو في دور الحدث الفعلي، أما الحدث المستقبلي، فهو ضمن الوجود الذي لم يحدث بعد.

من خلال اللغة الحجاجية نجد أنّ هناك الالتزام والتبرير والشرط وكذلك الاستنتاج، وفي الحالة التواصلية نقيس الحجاج على التقنيات الاستدلالية. ومن الممكن أن تكون حجة أكثر قوّة من حجة أخرى، وهذا وارد في اللغة التي يوظفها الباث عندما يكون متكئاً على آليات استدلالية تواصلية مثلاً: لا نضطرّ أن نذكر بعد الأسماء بالتفصيل، فعندما نتكلم مثلا عن الحدادة، فبكل تأكيد هناك حداد يدير هذه المهنة، وبدلا من أن نقول مثلا؛ المدينة الفلانية هي ضمن البلد الفلاني، فنكتفي بذكر المدينة أو العاصمة فقط، وهي بالنتيجة استدلالية لا غبار عليها والمتلقي سيعرف المقصود من وراء ذلك، كأن نعتمد على التشفير الجزئي عندما نبحر في اللغة الممكنة.

الكتابة النسقية

إنّ الاستعانة بالعقل والمنطق تعد سمة من سمات الكتابة السياقية، والتي تميل أيضاً إلى المتعلقات الدلالية وذلك لكي تأخذ البراهين والاستنتاجات في الجمل التي يرسمها الباث طريقا أوّلياً، وهي بكلّ تأكيد متعلقة باللغة، فالانحياز اللغوي خير دليل على التواصل معها، وخصوصاً إذا كانت لغة نصّية ذات علاقات داخلية وخارجية؛ والغاية منها تأطير النصّ بما يلائمه من مفردات وجمل وتعابير ومركبات، فيكون الالتزام بالاستدلال بكلّ أنواعه قد أخذ مساحته الجدلية، وتوظيف المساحة الجدلية في النصّ المكتوب، بسبب البناء كهدف تواصليّ بالتسلح بالحجاج وذلك للتأثير والإقناع والحوار. والهدف من هذا كله أن نذكر أنّ الكتابة النسقية؛ كتابة منطقية، حجاجية وجدلية وحوارية، ويكون الحوار الحِجاجي ذا أنواع مختلفة، ويدخل معنا على هذه الخطوط الرأي التشكيلي الذي يهمّ المتلقي (سياق المتلقي)، والذي يكون إمّا على شكل علامات موجهة أو شيفرة لغوية ضمن السياق الكتابي (إذا كانت المقاربات البنيوية قد تعلقت بوهم النسق المغلق والتحليل المحايث فإنّ المقاربات السيميائية استطاعت أن تتجاوز هذه الحدود الضيّقة لترتقي بها إلى منزلةٍ انبثق منها خطاب واصف Métadiscours تمثلت وظيفته في البحث عن الأنساق السيميائية الدالة بمستوياتها اللسانية وغير اللسانية. وهذه الأنساق لم تفصلها السيميائية عن إطارها الاجتماعي العام والملابسات التي أحاطت بنشأتها؛ وذلك ما تنبأ به دي سوسير في محاضراته حول اللسانيات العامة).

تعتبر السيميائيات من الأنساق الدالة، دلالياً ومعرفياً، حيث أنّ التأويل صيغة رئيسية في المنظور النصّي، لذلك فالسيميائية عندما تدرس النوع ومنها النوع الأدبي فإنّها تقودنا إلى أنساق دلالية وآليات تأويلية، ومن هنا من الممكن أن نوضّح الدوال النصّية، حيث يكون التشفير النصّي سمة من سمات الرموز والتي تتخاتل في المنظور النصّي إذا ما اعتمدنا السيميائية كمنهج سببي. وإذا ما أخذنا الناحية الجسدية، فيكون نظام الإشارات الدالة هي الأقرب في توضيح الجمل التواصلية في النصّ؛ فهناك الإشارات المتعلقة في ذهنية الإنسان ومنها إشارات اليد والأصابع وحتى حركة الإنسان واتجاهاته، وهناك العلائق الدلالية غير اللفظية ومنها السمع والبصيرة.

التعلّق الدلالي: كلّ نصّ من النصوص يحوي على حركتي الدال والمدلول، ويكون للتأويل مساحة حركية من أجل أن تكون الدوال خلايا بنائية متعدّدة الاتجاهات، لذلك تظهر في النصّ بعض المتعلقات الذاتية، وهي الجزء الأكبر من التفكّر الذي ينعكس على النصّ المكتوب عندما يكون الباث قد فقد الصور المباشرة وراح يستدعي المدلول من خلال الصورة الذهنية؛ حيث هنا تكمن الطبقة الخصبة للمعرفة الدلالية والتي تلتف حول المعاني المؤولة، وكلّما كبرت المعاني تكبر الدلالات وتتعدّد المفاهيم.

في المفاهيم الدلالية ومن خلال الاستدعاء الذهني يكون الباث بين اتجاهين، الأوّل من خلال الدال، والثاني من خلال المدلول، وهكذا تكون المعاني قد التمت وخصبت في الحكم الدلالي المعرفي.

الصورة الذهنية = الدال... الصورة الذهنية = المدلول ".

كما أنّ أمر الدلالة يقودنا إلى أمر كلّي وأمر جزئي، يلتقيان في المعنى الكلّي للدلالة أو يبنيان نفسهما في الأمر الجزئي للدلالة، ومن هنا، يعتني المؤلف بأمر الدلالة وحركتها، كأن تكون من خلال الدلالة المعرفية أو الدلالة التموضعية والتي شغلت منطقة حديثنا في التعلق الدلالي.

***

كتابة: علاء حمد - عراقي مقيم في الدنمارك

آخر كتبه النقدية: المحسوس وثقافة المتخيل، الصادر عن دار جبرا في الأردن...

..................

المصادر

1  - الاستدلال بمعناه العام – فهو طلب الدليل، أو طلب الدلالة، والدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشيء – وقد جاء ذلك في بعض كتب المؤلفين ومنهم: التعريفات – ص 17... الإحكام لابن حزم 1/39 ... قواطع الأدلة 1/44

2- (راجع مثلا التهانوي، مواد دليل واستدلال ودلالة وقياس وحجة واللزوم مثلا، وراجع كذلك المحاولة التأليفية التي يقترحها طه عبد الرحمن، 1988، ص 85 – 89 وص 138 – 145). من كتاب: الاستدلال البلاغي – ص 14 – الدكتور شكري المبخوت.

3- في علم الكتابة – ص 72 – جاك دريدا – ترجمة وتقديم: أنور مغيث ومنى طلبة...

4- اللغة والحِجاج – ص 16 – الدكتور أبو بكر العزاوي.

5- أهمّ نظريات الحِجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم – ص 352 – شكري المبخوت ضمن مجموعة من الباحثين.

6- القراءة النسقية، سلطة البنية ووهم المحايثة – ص 113 – د. أحمد يوسف

7- من وجهة نظر عقلية صرفة، توصّل الفيلسوف الأمريكي بيرس Pierce إلى تقسيم ثلاثي للعلامات يقترب من أنواع الدلالات عند العرب. فتقسيم العلامة إلى شاهد Index وأيقونة Icon ورمز Symbol. الذي شاء من بعجه في السيمياء الحديثة، يشبه ولا شك أنواع الدلالات الثلاثة، أعني العقلية والطبيعي والوضعية. كما أنّ هناك أكثر من جانب تقارب بين نظرية الدلالة عند العرب والسيمياء عند بيرس. – علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة في السيمياء – ص 13 – تأليف: عادل فاخوري.

المثقف في سياقه العام، هو كل من اشتغل على المعرفة وساهم في انتاجها، بغض النظر عن النسق المعرفي الذي اشتغل عليه هذا المثقف أو ساهم في إنتاجه، إن كان على المستوى الديني (المقدس) أم على المستوى الوضعي (الدنيوي)، مختصاً كان هذا المثقف أم شموليّاً/ موسوعيّاً.

والشيء المؤسف في الحقيقة أن معظم هذه الشريحة من الشعب تظل في عالمنا العربي مغيبة وفاقدة لدورها في بناء الدولة والمجتمع، الأمر الذي يدفع قسماً منها أحياناً إلى انتقاد طبيعة الأنظمة الحاكمة وخاصة الشموليّة منها. وهذا الموقف الانتقادي لها، غالباً ما يدفع هذه الأنظمة إلى محاربة هذا المنتقد أو إقصائه وزيادة الضغط عليها، الأمر الذي قد يحوله إلى معارض للسلطة.

يقول الحجاج عن المعارضة ومنها حتماً أصحاب الرأي، أي المثقفين ممن عارض السلطة أو الخلافة الأمويّة في سياستها آنذاك قائلاً: (من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غماً). هذه المقولة التاريخيّة المعبرة عن استبداد السلطات الحاكمة وقهرها لمعارضيها أو منتقديها بشكل عام وللمثقفين العقلانيين التنويريين بشكل خاص لم تزل سارية المفعول حتى تاريخه.

لقد ظل تعاضد السيف والسلطة قائماً في الدولة العربيّة منذ بداية الخلافة الإسلاميّة حتى اليوم، هذا التعاضد الذي عبر عنه الخليفة عبد الملك بن مروان بعد توليه الخلافة خير تعبير، عندما مسك القرآن بيده وراح يخاطبه بعد أن قبله قائلاً: (هذا فراق بيني وبينك)، ثم ذهب ليخطب بالناس في الجامع قائلاً عبارته المشهورة: (من قال لي بعد اليوم اتقي الله لقطعت رأسه بحد السيف). فالسيف والسلطة في السياسة العربية صنوان، أو وجهان لعملة واحدة وضحيتها دائماً المعارض للسلطة أو الناقد لها وفي مقدمة هؤلاء المثقف، وإن سادت أحياناً شعرة معاوية بينهما، إلا أن هذه الشعرة تُقطع عند تضارب المصالح أو الرغبة في تحقيقها، كما جرى في حادثة تولية يزيد بن معاوية الخلافة عندما وقف والي الأردن “زياد بن المقفع” أمام حشد من الولاة جاؤوا لزيارة معاوية وهو على فراش الموت، فقال مخاطباً الولاة: (أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، وإن مات هذا فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى منكم فهذا، وأشار إلى السيف. – وهنا قال له معاوية تعال واجلس بقربي فإنك والله خير المتكلمين). فشعرة معاوية هي ليست أكثر من تكتيك لحاكم حليم يريد أن يكسب الناس ويُسكتهم بالحسنى، حباً أو رغبة بالسلطة والاستمرار بها، ومن يمانع أو يحتج على هذه الرغبة، فستقطع بالضرورة شعرة معاوية وتفقد مفعولها أمام حد السيف. وفي أغلب الأحيان لا توجد ضرورة أصلاً لهذه الشعرة بالأساس إذا ما توفر من مشايخ السلطان ومثقفيه من يبرر حتى استبداد الحاكم ويشرعنه. ﻛ (الطرطوشي) على سبيل المثال لا الحصر، في كتابه (سراج الملوك) في الباب السابع ص 156، قوله: (كذلك السلطان إذا كان قاهراً لرعيته، كانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء في أهلها محقونة، والحرم في خدورهم مصونة، والأسواق عامرة بالأموال محروسة).(1) وهناك في الحقيقة الكثير غير “الطرطوشي” من مثقفي ومشايخ السلطان، في تاريخ الدولة الإسلامية الذين نَظَروا للاستبداد والملك العضوض، ومحاربة الشورى وتداول السلطة، أمثال: عبد القادر البغدادي وابن حزم والماوردي وأبو يعلي الذان دافعا عن سلطة البويهيين، وهناك الغزالي الذي دافع عن سلطة المماليك، وهناك ابن جماعة الذي دافع عن سلطة المغول حيث يقول: (عندما يطمع في الخلافة من لا يستحقها، ويقهر الناس بقوته وقواته، وذلك بغير اعتراف شرعي ولا دليل على خلافته، فينبغي الاعتراف بشرعيته ووجوب الطاعة له، وذلك للحفاظ على نظام الجماعة الإسلاميّة ووحدتها، وعندما يأتي شخص آخر ويقهر الأول بقوته وقواته، فإن الأول يُخلع ويكون الثاني هو الخليفة، وذلك خدمة للجماعة الإسلامية.(2)

إذن هذا هو حال السلطة ومنتقديها أو معارضيها بشكل عام، والمثقف العقلاني التنويري بشكل خاص في دول عالمنا العربي في مجملها. ولكن لا يمكن أن تكون هناك معارضة حقيقيّة إذا لم يكن هناك من يعمل على توعية الناس والاشارة لهم إلى مواقع ظلمهم وأسبابها ومن هي القوى الكامنة ورائها، وهنا يأتي دور المثقفين الذين يقودون المعارضة ويحرضون على الثورة، رغم معرفتهم المعاناة التي سيلاقونها أثناء ممارستهم لدورهم التحريضي داخل الدول والمجتمعات، وخاصة في المجتمعات والدول التي يسود فيها الجهل والتخلف والاستبداد. هذا ومن بين هؤلاء المثقفين (الثوار) خرج سياسيون، منهم من كان مواليّاً للسلطة ويعمل لخدمتها بعجرها وبجرها كما بينا أعلاه، ومنهم من كان معارضاً للسلطة وخاصة المستبدة أو الشموليّة منها. ومن خلال رؤى هؤلاء المثقفين ظهرت عبر التاريخ العربي الإسلامي المذاهب والفرق الدينيّة، التي عُرف الكثير منها بأسماء أصحابها، بينما في تاريخنا المعاصر تحولت هذه التكتلات الاجتماعيّة المعارضة إلى أحزاب سياسيّة تغيرت البنية الفكريّة فيها تاريخيّاً، من الفكر الديني، إلى الفكر الوضعي المشبع بشعارات الوطنيّة والقوميّة والحريّة والعدالة والمساواة والمواطنة وتحرير المرأة وغير ذلك. وإذا كان أصحاب تلك المذاهب والفرق بشكل خاص قد لقوا الكثير من ظلم وقهر السلطة في الخلافة الإسلاميّة في عصرهم، بسبب معارضتهم للسلطة أو عدم محاباتها أو تقديم الولاء لها، أو حتى نصيحتها أو رفض الاشتغال معها، كما هو حال الفقيه صاحب المذهب المالكي، عندما رفض إقرار حديث للمنصور على لسان الرسول يخدم البيت العباسي، فسجنه الخليفة “المنصور” وصلبه بعد أن عراه من كل ملابسه، حتى يهين إنسانيته، وهذا أبو حنيفة قتل مسموماً في زمن المنصور نفسه كونه كان يميل لآل البيت من جهة، ثم لرفضه استلام القضاء بعد أن كلفه المنصور به من جهة ثانية. وهذا ابن حنبل يسجن ويعذب في زمن الخليفة المعتصم كونه رفض القول بالقدر وبخلق القرآن الذي كانت تقول به السلطة الحاكمة آنذاك. وهذا “جعد بن درهم” يأمر الخليفة هشام بن عبد الملك أن يضحي به والي العراق يوم العيد الكبير كما يُضحى بالخراف في هذا اليوم، كونه وقف إلى جانب الموالي في احتجاجهم على ظلم الخلفاء لهم، ولكونه قال أيضاً بخلق القرآن، وإن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وليس كما يقول خلفاء بني أميّة بأن أفعال الإنسان وفي مقدمتها أفعال الخليفة مقدرة له من عند الله، وليس له أي دور في أعماله ولا يحاسب عليها بعد أن أكد لهم هذا الرأي أربعون مثقفاً من مشايخ السلطان المؤمنين بالجبر، عندما اجتمع بهم يزيد بن معاوية وقال لهم: (هل يحاسب الخليفة على أعماله يوم الحساب؟. فقالوا له: إن الخليفة لا يسأل عن أعماله ولا يحاسب). لذلك، كيف يأتي مثقف آخر مغرض في قوله ونواياه ويقول بأن الخليفة يسأل!. فهذا خروج على الدين نفسه، وبالتالي هي ضلالة وكل ضلالة كفر، ومن يُكفر يجب أن يذبح. وهذا الموقف الجبري بعد أن كثر المثقفون القدريون في عصر المأمون، جاء الخليفة الواثق ليصدر فرماناً يحرم فيه استخدام العقل على كل رعايا الخلافة، وعلى رأسهم المثقفون (المشايخ)، الذين شُكلت لهم محاكم تفتيش راحت تسألهم عن قناعاتهم بالقدر والجبر، ومن يشك في أمره ونواياه (القدرية) يسجن فيعذب أو يقتل.

نقول: إن هذا الموقف المعادي للمثقف التنويري القدري في العصور الوسطى من الخلافة الإسلاميّة، ظل سائدا حتى تاريخ دولنا الحديثة والمعاصرة تجاه المثقف التنويري العقلاني في المفهوم الحديث للمثقف، ففي القرن التاسع عشر ظهر “الطهطاوي” الذي استطاع بعلمه ومعارفه العقلانيّة التنويريّة التي تأثر بها عند دراسته في فرنسا (أفكار الثورة الفرنسيّة)، تطوير التعليم في مصر حتى سبقت مصر الدولة العثمانيّة نفسها بكل ولاياتها آنذاك عدا تونس في مرحلة (خير الدين التونسي)، ومع ذلك حاربه ولي النعم الخديوي العباس ونفاه إلى السودان جزاءً له على تعليم الناس والوقوف بوجه مشايخ السلفيّة الذين كانوا يُعلمون أبناء الشعب المصري كيف يقطعون أعضاء أجساد أبنائهم أو سمل عيونهم كي يمنعوهم من الذهاب إلى المدارس التي افتتحها الطهطاوي برغبة “محمد على باشا” لأنها برأيهم كفر وبدعة.!. وهذا ما جرى مع الشيخ المتنور علي عبد الرازق في النصف الأول من القرن العشرين، عندما أصدر كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وقال بأن الإسلام ليس دين سياسة، ولم يحدد النص القرآني ولا الحديث طبيعتها ونظامها أو آليّة عملها، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة. فغضب عليه أصحاب القرار السياسي آنذاك وعلى رأسهم الملك فاروق، الذي كان يطمح بالخلافة الإسلاميّة بعد أن أعلن كمال أتاتورك إنهاءها وإعلان تركيا دولة علمانيّة، فنال “علي عبد الرازق” جزاءه على فعلته هذه، حيث فصل من عمله وحورب بلقمة عيشه وقدم للمحاكمة بجرك التكفير، فاضطر أن يتراجع عن رأيه.

مع بداية القرن العشرين ظهرت أحزاب سياسيّة، راحت تحارب ليس المثقفين التنويرين العقلانيين فحسب، بل محاربة حتى التعامل مع هذا الفكر العقلاني التنويري ذاته والحد من نشاطه بهذا الشكل أو ذاك، وخاصة عند من استلم السلطة من هذه الأحزاب، فهذا مشيل عفلق مؤسس حزب البعث يقف ضد المعرفة ذاتها بقوله: (إن أصدق مرآة للنفس الإنسانيّة هي الأعمال… ولا أكتمك أنني كلما فكرت بأن أكرس نفسي للكتابة أخجل في داخلي وأحتقر نفسي نوعاً ما، لأن الكتابة ليست غايتي العميقة، بل أنظر إليها كأنها شاهد على عجزي عن العمل ودليل نقصي).(3) بهذا الموقف من الفكر، بالنسبة لقائد حزب قومي استلم السلطة في دولتين عربيتين كبيريتين (سورية والعراق)، كيف ستكون حال البنية الفكريّة والتنظيميّة لهذا الحزب.؟!، كون الكتابة التي يمقتها عفلق لا يمكن أن تقوم بدون فكر، وهو ذاته الذي لم يقرأ كتاباً واحداً على حد قوله منذ عام (1956). فمع غياب الفكر، سيحل بالضرورة الكسل العقلي، وستغيب الممارسة السليمة أو العقلانيّة حتماً، لأن هذه الممارسة ستفتقد إلى المنهج الفكري الذي يحدد كيفية الوصول إلى الأهداف المراد تحقيقها. ومع غياب المنهج الفكري ستسود الذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. وهذا ما حدث في حزب البعث، حيث ظل المثقف فيه مهمشاً ومحارباً داخل الحزب وخارجه، لذلك لا نستغرب أن نجد صدام حسين الذي حكم العراق أربعين عاماً بالحديد والنار باسم (بعض المنطلقات النظريّة) التي وضعت على الرف منذ المؤتمر القومي السادس الذي أقرها فيه عام 1966، عندما قُبض عليه وقدم للمحاكمة كان يحمل بيده القرآن وليس المنطلقات النظريّة التي حكم العراق باسمها ثلاثين عاماً، وأن نائبه “عزت الدوري” شكل بعد سقوط البعث في العراق فصائل (النقشبنديّة)، التي تحول معظمها إلى تنظيم (داعش).

وهذا الموقف من الفكر ومحاربته أو التقليل من أهميته لدى الأحزاب القومية العربية، نجده عند عبد الناصر الذي يقول في الميثاق: (نحن لا ننظر إلى الواقع في النظريات، وإنما ننظر إلى النظريات في الواقع)، لذلك هو لم يختلف في شيء عن البعث سوى أنه وضع الحريّة أول أهداف الحزب، في الوقت الذي وضعها البعث الهدف الثاني بعد الوحدة. وعندما توفي عبد الناصر انهارت هذه الأهداف ومشروعها القومي وتحول اسم مصر من (الجمهورية العربية المتحدة) إلى (جمهورية مصر العربية)، وجاءت كلمة العربيّة هنا على استحياء، بالرغم من أن السادات باع العرب والعروبة، وراح ينسق مع التيار الديني وإسرائيل معاً عند استلامه السلطة. وهذا الانهيار نجده عند بعث العراق، فمع إعدام صدام انهار البعث في العراق، وكذا الحال في ليبيا، فمع سقوط القذافي انهارت نظريته العالميّة الثالثة، التي هي بالأساس ولدت ميته.

في نهاية هذا البحث نود الإشارة هنا إلى العلاقة بين السياسي المحترف، والمثقف المحترف، حيث لا علاقة إيجابيّة بين الاثنين. فالسياسي المحترف ظل يتعامل بنديّة مع المثقف المحترف، ويسعى بشكل دؤوب لإقصائه بما يمتلكه هذا السياسي من قدرات سلطويّة داخل الحزب وخارجه. ونتيجة لحصار المثقف التنويري العقلاني، غالباً ما يضطر هذا المثقف إما إلى الجلوس في بيته كي يموت بهمه كما يقول الحجاج، أو يشد الرحال للهجرة أو الهروب من وطنه إلى وطن أخر غير وطنه ليقع بالضرورة في فخ سلطة أخرى أكثر سوءً من السلطة التي هرب منها، حيث ستقوم سلطة البلد المهاجر إليه هنا باستثماره للتطبيل والتزمير لها، أو العمل على محاربة بلده ووطنه لمصلحتها، وما أكثر هذه الحالات اليوم بسبب ما سمي بثورات الربيع العربي، فمعظم المثقفين التنويريين الذين هربوا من بلادهم إلى بلاد البترودولار، تحت ظروف اللجوء السياسي، اضطر بعضهم أن يكون أداة بيد هذه الأنظمة، وهي بطبيعتها أسوا بكثير من أنظمتهم في استبدادها وقهرها لمواطنيها.

إن هؤلاء الهاربين من المثقفين، اعتقدوا بانهم بهروبهم سيفتح لهم المجال واسعاً أيضاً كي يتحولوا إلى فلاسفة ومنظري ثورات، بيد أن ذلك لم يحدث، فكان هروبهم في حالته، كحال المستجير من الرمضاء بالنار.

نعم… إنها السلطة الاستبداديّة الشموليّة وسيفها وأيديولوجيتها، ستظل المعوق الرئيس للمعرفة العقلانيّة وحواملها الاجتماعيّة. وهذا ما اشار إليه الكاتب النهضوي “شبلي شميل” مع نهاية القرن التاسع عشر بقوله: (ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكتاب في المشرق وقوف حكوماتهم ضدهم، فقد تعودت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها، وذلك لعدم معرفة الكثير من الحكام مالها من الأهمية وما لكبارها من النفع في رفع شأن هذه الأمة، إذ لا يعرف قدر الشيء إلا أهله، فمهما أجاد الكتاب في حكومة هذا شأنها، ومهما أظهروا الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ فلا يصادفون إلا إعراضاً منها يحملهم على أحد أمور ثلاث هي: إما كسر القلم، وإما تحديده ضدها، وإما إذلاله لها. وأبلغ من ذلك هو الإساءة إلى تخريب ذمم الكتاب وشرائهم بالمال ليكتبوا غير ما يفكروا به، أو يصمتوا عما يعتقدون، حتى ينحط مقام الكتابة بهم والنتيجة من ذلك في كلا الأمرين قتل الأفكار وإفساد الأخلاق وموت الكتاب الذين يفتخر بهم، وما وجدت الحكومات لمثل هذا).(4)

ملاك القول: مسكين هذا المثقف التنويري، فإن سار على طريق (إقرأ باسم ربك..) أي المعرفة، لاقى من السلطة الحاكمة المستبدة القهر والظلم والمعاناة جزاء قراءته وعلمه ومعرفته، وإن لم يقرأ تحول إلى إنسان جاهل شأنه شأن أي مواطن آخر تريده هذه السلطة من سقط المتاع.

***

بقلم : د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.........................

المراجع:

1- عن مجلة النهج- مركز البحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي- دمشق- العدد/ 18/ 1999. ص 47

2- شتنبات– فرنسيس– الإسلام شريكاً– عالم المعرفة– الكويت– ص 170.

3- النهج- مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي- دمشق – العدد 4- 1995- ص 75.

4- النهج المصدر السابق- ص 157.

في المثقف اليوم