أقلام فكرية

أقلام فكرية

في عام 1982 أصدر عالم الاجتماع الانجليزي "أنتوني جيدنز" Antony Giddrns كتابه الشهير علم الاجتماع، والذي تطرق من خلاله لتطورات المفاهيم الجنسية وأثرها الاجتماعي على الأفراد، فيقول أن: مفاهيم الحياة الجنسية قد تعرضت لتغيرات وتحولات مثيرة في العصر الحديث، فقد تبدلت بصورة جوهرية جوانب مهمة من حياة الناس الجنسية في البلدان الغربية خلال العقود القليلة الماضية، إذ أصبح النشاط الجنسي جزءا محوريا في اخوية الاجتماعية ما أدى بدوره لظهور العديد من السلوكيات والتوجهات الجنسية التي لا تنتهي والتي تعد النسوية التقاطعية intersectionality feminism واحدة من تطبيقاتها.

ويمكن تسليط الضوء على النسوية التقاطعية فبعد أن تلاشت موجة الثورة الثقافية في أوائل سبعينات القرن الماضي في العالم الغربي، أصبح من الواضح أن موضوع المرأة لا يمكن أن يكون وحده مطلبا موحدا ووحيدا للنضال من أجل التغيير، حيث أثارت النسويات الأمريكيات من أصل أفريقي واشتراكي ونسوي قضايا مختلفة من الاضطهاد والقمع وعلاقات السلطة من قبيل العرق والطبقة والجنس والجغرافيا السياسية والميول الجنسية.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتعرض النساء بسبب هويتهن الجنسية (أنثى) وهويتهن الجندرية (امرأة)، بصورة أساس، لعنف قائم على النوع الاجتماعي، ولتمييز يصعب حصره في ٍشكل محدد، لأسباب عدة: لون بشرتهن، وهوياتهن العائلية والعشائرية والإثنية والطبقية والدينية والمذهبية... إلخ، أو بسبب ميولهن الفكرية والأيديولوجية والسياسية أيضا، وفي خضم الدفاع عن حقوقهن، غالبا ما تٌحصر في هويتهن الجندرية، وتحديدهن بوصفهن فئة واحدة تعيش التجربة نفسها، وتعاني الاضطهاد نفسه، وتقع عليهن النتائج نفسها، الأمر الذي يفضي إلى إعادة إنتاج الصور النمطية، وتكريسها ضدهن، وعدهن كتلة واحدة من الضحايا والمعتقدات والُمستغلات، ومن يستغلهن هو ”الرجل”، في تكريس لانقسام جندري معياري، يبسط القضايا، ويغفل الحالات التي تتراكب فيها عناصر التمييز المركب وتتقاطع.

وتعود بداية استخدام النسويات المعاصرات لمصطلح التقاطعية إلى عام 1989، عندما صاغت الناقدة الأمريكية والرائدة في نظرية العرق النقدية " كيمبرلي كريشنو" المصطلح لوصف وتحليل ما تواجهه النساء السود في أمريكا من تجارب فريدة ومتنوعة من الاضطهاد والتمييز.

وقد طرحت "كيمبرلي كرينشاو" عبر نظريتها "التقاطعية" كما يقول الأستاذ سليم سوزا أغلب المفاهيم والإشكاليات الرئيسة التي كانت قد ركزت عليها كاتبات نسويات ملونات من أصول أفريقية قبلها بسنين طويلة، لكن من دون أن يبتكرن مصطلحًا خاصًا بهذا الأمر. طُرحت هذه الإشكاليات من قبل من دون أن يتم تعريفها نظريًا، حتى جاءت كيمبرلي كرينشاو وصاغت هذا المفهوم (التقاطعية) في ورقتها التأسيسية الشهيرة (استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات) التي نُشرت لأول مرة في عام ١٩٨٩. قدمت كرينشاو للمرة الأولى مصطلح التقاطعية ليكون عنوانًا للعمل النظري وللممارسات العملية التي تحاول النسويات من خلالها فهم التجارب المركبة لبعض النساء، تلك التجارب التي كانت نتاج ظلم متعدد الأبعاد لم يقع عليهن بسبب كونهن نساءً فحسب، وإنما لأنهن يحملن انتماءات وهويات أخرى في آن واحد: العرق والدين والطبقة... إلخ.

وتشير التقاطعية عند كيمبرلي كرينشاو كما يقول الأستاذ سليم سوزا إلى تداخل الهويات الاجتماعية وأنظمة القمع والهيمنة و/ أو التمييز ذات الصلة. الفكرة هي أن الهويات المتعدّدة تتقاطع لتكوّن مجموعة مختلفة عن الهويات المكونة الأساس. التقاطعية أداة تحليل لدراسة الطرق التي يتقاطع فيها الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر) مع الخصائص/الهويات الشخصية الأخرى وفهمها والاستجابة لها، وكيف تساهم هذه التقاطعات في صنع تجارب فريدة للتمييز.

وكيمبرلي كرينشاو ليست أول من أوجدت فكرة التقاطعية، وإنما الفكرة كانت موجودة في الموجة الأولى وما بعدها أيضًا كما يقول الأستاذ سليم سوزا، حيث بدأت النسويات السود في الموجة الأولى وما بعدها، بسبب تأثير خطاب ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، تركز على أن المرأة السوداء لديها تجربة مختلفة وفريدة عن بقية النساء، سيما المنحدرات من العرق الأوروبي الأبيض. فمثلاً، التقاطعية كفكرة (وليست كمصطلح) كانت موجودة في كتابات الشاعرة المكسيكية ذات الأصول التي ترجع إلى سكان قارة أمريكا الأصليين، غلوريا أنزالدوا (١٩٤٢-٢٠٠٤)؛ وقبل ذلك، في محاججات سوجيرنر تروث ضد فريدريك دوغلاس، كما تطرقنا إليها في بداية الحديث. لكن كرينشاو هي من طورت هذه الفكرة وهذّبتها ونظّرت لها أكاديميًا ومنهجيًا وصاغت مصطلحًا مناسبًا لها في مقالتها التأسيسية المذكورة آنفًا، أي مصطلح "التقاطعية".

ما التقاطعية في بداية ظهورها؟.. تشكّلت التقاطعية في البداية من ثلاثة أشياء تخص بالأساس تجربة النساء السوداوات في المجتمع الأمريكي، الأولى: الطبقة، والثانية: العرق، والثالثة: الجندر (النوع الاجتماعي). انظر الشكل التوضيحي أدناه كما يقول الأستاذ سليم سوزا:3522 النسوية التقاطعية

تقع "المرأة السوداء" في مركز تقاطع الدوائر الثلاث تلك: الطبقة والعرق والجندر، إذ تُهمَّش وتُضطَهد بشكل مضاعف بسبب هوياتها المتقاطعة الثلاث هذه. التقاطعية مصطلح يُستخدم بشكل عام لوصف وجود أشكال متعددة من الاضطهاد التي تتداخل وتتقاطع لتشكيل تكوينات مختلفة لكل فرد، والتي تخلق تجارب وعوائق اجتماعية فريدة. فنجد عبارة "الحاجة إلى أن تكون تقاطعية" عبارة شائعة داخل الطبقة والجندر والعرق، مما يعنى أن أي صراع يجب أن يكون شاملاً وممثلًا للأفراد الذين يعانون من اضطهادات متداخلة مختلفة، بدلاً من فكرة التركيز ببساطة على مجموعة واحدة أو شكل واحد من الاضطهاد. في كلام آخر، أن المرأة السوداء على سبيل المثال ليست مضطهدة بسبب أنها امرأة، بل لأنها امرأة ومن طبقة فقيرة ومن عرق أسود (ظلم متعدد الأبعاد نتيجة تداخل وتقاطع ثلاث هويات في آن واحد: جندر، طبقة، عرق). بدأ هذا المفهوم "التقاطعية" يتجسد بوضوح في كتابات كرينشاو واستُخدِم كعدسة تحليل في النسويات (وفي العلوم الاجتماعية فيما بعد). تضرب كرينشاو مثلاً بحادثة شهيرة وقعت في إحدى المحاكم الأمريكية، إذ تعرضت مواطنة سوداء إلى الاغتصاب على يد رجل أبيض. حكمت المحكمة بعقوبة ما هي ذاتها العقوبة المنصوص عليها قانونًا مع جرائم من هذا النوع. إلّا أن كرينشاو هنا تنبّه إلى نقطة خافية عن الكثيرين من أن هذا الحكم لا يمكن أن يكون عادلاً هنا لأن هذه المرأة السوداء لم تُغتَصَب لأنها امرأة، بل لأنها امرأة وسوداء ومن طبقة فقيرة. يجب أن يُحاكم المغتصب ثلاثة أضعاف هذا الحكم القانوني الموجود لأنه ارتكب ثلاث جرائم سوية، اغتصب امرأة، وانتقم من عرق، واستغل فردًا من طبقة اجتماعية فقيرة. بالتأكيد، لا يعني هذا أن كرينشاو تريد حكمًا من هذا النوع، فهي قانونية وتعي تمامًا صعوبة تطبيق مثل هذا الأمر في الواقع، ثم أنها غير معنية بالجدال القانوني هنا وباعتراضات سطحية من هذا القبيل بقدر ما أنها تحاول إثارة موضوع أخلاقي وثقافي يسلط الضوء على ظلامات متعددة تتعرض إليها بعض النساء جراء تقاطع عدد من الهويات لديهن. جدالها تحليلي ثقافي وليس قانونيًا سطحيًا.

ومن هذا المنطلق تمثّل النسوية التقاطعية طريقةً لفهم واستيعاب العلاقات الاجتماعية، وتعدّ تأكيداً على تداخل أنواع التمييز في جميع أشكال الهويات الاجتماعية والسياسية. وهذا يعني الاعتراف بتعقيد النظام الاجتماعي، وأن الإنسان قد يكون معرضاً للكثير من أشكال الاضطهاد كالتمييز العنصري والجنساني والعمري. ويتم استخدام مصطلح التقاطعية غالباً لتوصيف ضرورة التصدي لكافة أشكال الاضطهاد وتقاطعاتها المتعددة.

وعلى الرغم من أن النسوية التقاطعية تعني القدرة على التعامل مع جميع العقبات المحتملة التي تقف عائقاً ضد السلامة الفردية والجماعية، لكنها ليست مجرد اعتراف بتعدد أشكال التمييز والتعامل مع كلٍ منها على حدة. فجميعنا ندرك حقيقة وجود التمييز العنصري والجنساني، والتمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن عندما تجتمع هذه الأشكال معاً فإنها تتضاعف وتتحول إلى اضطهاد، وبناء على ذلك فإن التقاطعية النسوية تؤمن بوجود اضطهاد استثنائي وتكرّس جهودها لمعرفة آلية التعاطي مع هذا المزيج المتعدد والمعقد من أشكال التمييز.

خلاصة القول: إن التقاطعية هي مقدرتنا على الإصغاء إلى الآخرين ومعرفة مزاياهم المختلفة، وتحديد الأشخاص المهمشين الذين تتم ممارسة التمييز تجاههم ضمن أماكن العمل وفي المجتمع؟ والأهم من ذلك، فهي الرغبة بتغيير هذا السلوك. واتّخاذ الإجراءات المناسبة لدعوة وتضمين جميع الأشخاص والعمل معهم للحصول على جميع حقوقهم وتخطي جميع أشكال التمييز والتعصّب التي يتعرضون لها.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.................................

المراجع

1- أسماء مقري: التقاطعية.. رؤية نسوية جديدة، موبريس، السبت 2-4-2022.

2- ندى مصطفي: النسوية التقاطعية: ماذا تعني؟، أوفيد، 07/01/2022.

3- أنظر محاضرة الأستاذ سليم سوزه عن مفهوم التقاطعية في دراسات العدالة الاجتماعية، منشورة يوتيوب ضمن الصالون العراقي بلوس أنجليس.

4- علياء أحمد: النسوية التقاطعية: معناها، تطبيقاتها، نقدها وإمكان استخدامها في السياق السوري، المجلة السورية للعلوم الإنسانية، العدد السادس عشر- تموز/ يوليو 2022.

مدخل عام: في شهر اوت 1909 الطويل والحار، وفي سن الثالثة والخمسين، أتيحت الفرصة لفرويد برفقة تلميذه وصديقه ساندور فيرينزي، للذهاب إلى السينما لأول مرة. وحدث ذلك في نيويورك خلال زيارته للولايات المتحدة حيث تم إلقاء خمس محاضرات في جامعةClark University  في Worcester رغم انه لم يكن منجذبًا جدًا للأفلام، باستثناء إبداعات تشارلي شابلن. ويؤكد الكثير من المهتمين بحياة فرويد وافكاره العلمية بأنه سيصاب بخيبة أمل كل من يبحث في نصوص فرويد على أمل العثور على بعض المراجع التي تشهد على اهتمامه بالسينما أو نقطة التقاء محتملة بين نظريته في التحليل النفسي والفن السابع فهل رفض فرويد كان نابعا من إمكانية تحويل التحليل النفسي الى سجل تجاري في ظل ثقافة غربية يغلب عليها الطابع المادي النفعي والاستهلاكي؟ وهل هذا الرفض ينفي وجود تقارب ونقاط تلاقي بين التحليل النفسي والشاشة السينمائية؟

لقد بدأ عالم السينما يهتم بالتحليل النفسي في منتصف العشرينات من القرن الماضي. ففي ديسمبر عام 1924 سافر المنتج صامويل جولدوين إلى أوربا وهو مؤسس شركة Goldwyn Pictures  Corporation  وفي تقرير أرسل إلى نيويورك تايمز على متن الطائرة، أعلن عن نيته زيارة فرويد والحصول على تعاونه في فيلم حب مبني على المشاعر الغرامية ، وانه مستعد لتقديم مائة ألف دولار لفرويد مقابل قبول عرضه. وكان رد فرويد على طلب المقابلة موجزا ونهائي: "ليس لدي أي نية لرؤية السيد جولدوين". رفض فرويد لعرض صامويل جولدوين تسبب في إحداث ضجة في نيويورك أكثر من نشر "تفسير الأحلام" والذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1900 وقد اشارت الى ذلك صحيفة نيويورك تايمز  وكتبت قائلة ان هوليوود تفشل في إغواء مؤسس التحليل النفسي. على الرغم من وضعه الاقتصادي الضعيف، بل ان فرويد لم يوافق حتى على مناقشة الاقتراح.

هذا الرفض نجد له امتدادا عند بعض المشتغلين بالفلسفة على الرغم من ان السينما بوصفها شكلا من اشكال الفن لها قدرة على التأثير في نظرتنا لأنفسنا وللعالم الخارجي  فهي تمنحنا كنقطة انطلاق إمكانية التحرر من الواقع ورتابته وصلابته والسفر في امكنة وزوايا متخيلة ذلك ان الأفلام السينمائية على تنوعها وتعدد اشكالها تمثل جسرا نعبر من خلاله الى ذواتنا فهي لا تتحكم في عواطفنا وانفعالاتنا فحسب بل و تسلب في بعض الأحيان منا ارادتنا الحرة والفاعلة وتحولنا الى كائنات منفعلة فسحر الموسيقى وقوة الصورة وبلاغة الكلمة عوالم سحرية لا يمكن مقاومتها واذا كان هذا الانقياد يحررنا من رتابة وقسوة الواقع ويفتح امامنا أبواب التأمل فهل يمكن الثقة بقدرة السينما على تحريرنا وعلاجنا من امراضنا النفسية في غياب الإرادة الفاعلة؟  وهل يمكن لجمهور عاطفي منقاد ولا يتمتع بحس نقدي ان يدرك طبيعة اللعبة التي تراهن عليها السينما ؟الا يمكن ان تحولنا الأفلام السنيمائية الى قطيع من الخراف كما كان يعتقد ألفريد هيتشكوك؟

التحليل النفسي والسينما علاقة حميمية

العلاقة بين التحليل النفسي والسينما علاقة وظيفية تماما كعلاقة الكلمة بالصورة هي علاقة حميمة ومتنوعة. فالفن بأشكاله المختلفة، يلتقط المحتوى العاطفي والخيالي والشخصي  للإنسان السوي و للمريض النفسي وهذا المحتوى هو الذي يعمل الطبيب النفسي على التفكير فيه بطريقة حرة محاولا الصعود به الى مستويات الوعي بالحفر والنبش في اللاشعور.

وتاريخيا السينما والتحليل النفسي لا يمكن الفصل بينهما من حيث النشأة فقد بدأت السينما في ليلة السبت من ليالي الشتاء البارد، في اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1895 حيث قدم الإخوة لوميير (أوجست ولويس) وهما من أبناء مدينة ليون عرضهما الأول لجهاز السينماتوغراف، في 14 شارع كابوسين بباريس، بمبنى (نادي جوكي) الذي يحتوي أسفل طابقه الأول على مقهى '' جراند كافيه '' هذا العرض الذي دام لمدة 20 دقيقة مقابل فرانك واحد من كل مشاهد حيث كان هذا الحدث مميزا ومنعطفا حاسما وشاهدا على تأثير الصورة. ولعل أول ما يلفت الانتباه في العلاقة بين السينما والتحليل النفسي ولادتهما المتزامنة، ففي السنة نفسها (1895) أصدر (سيجموند فرويد) بمشاركة الطبيب النفسي بروير أول مؤلف له بعنوان (دراسات حول الهستيريا).

وبما ان جوهر الفكر الفرويدي يقوم على منهج التحليل النفسي فانه يمكن فهمه من خلال الإحاطة ببعض الافتراضات الأساسية عن الطبيعة البشرية، وجميعها لها آثار ضمنية شديدة الأهمية على الطريقة التي يتم بها تفسير الأفلام ومنها:

1- الكائنات البشرية منذ الميلاد تتحرك مدفوعة برغبات أنانية (مثل الجوع ُ والجنس والعنف) بهدف جلب المتعة وتجنب المعاناة والبحث الاناني عن المتعة هو مما يكثر وجوده في الأفلام.

2- نحن نولد بدوافع أساسية، بطاقاتنا الحيوية الأولية المتمثلة في مايسمى (ال «هَو»). وحقائق الحياة تُعلِّمنا أنه لا سبيل لإشباع رغباتنا إشباعا كاملا ومن ثمة نقوم بالمساومات الضرورية في الحياة اليومية وهذا ما يشتغل عليه (ال «أنا»). وفي نهاية المطاف، نكتسب من والدينا ٍّحسا مدموجا بالصواب والخطأ  يتجسد في أوامر ونواهي (ال «الانا الأعلى»). بَيْد أنه ما لم «يتطور» هذا التنظيم الداخلي بطريقة سليمة، يبدأ الناس في الوقوع في المتاعب. وكثيرا ما تتبنَّى الأفلام الاعتقاد بأهمية عملية التطور في السنوات الأولى من العمر من خلال توظيف حبكات ِّ تغطي حياة الفرد بأكملها، أو الفلاش باك، أو الإحالات إلى أحداث هامة في فترة الطفولة من خلال الحوار على اعتبار ان الطفل اب الرجل.

3- ولأن ال «الهَو»، وال «الأنا»، وال «الانا الاعلى» ترغب جميعها في أشياء مختلفة، فإن تلك َّ البنى النفسية الثلاث تنخرط في «صراع» لا نهاية له بعضها ضد ِّ بعض. ويحدد فرويد ِ مركز ساحة هذه الحرب في ال «أنا» وهو «كائن مسكين يدين بالطاعة لأسياد ثلاثة ومن ثم َّ يتعرض لتهديد أخطار ثلاثة؛ العالم الخارجي، وظلمة (الليبيدو) ال «هَو»، وقسوة ال «الانا الأعلى » وقد قسم فرويد الجهاز النفسي الى ثلاثة اقسام (الانا،الهو،الانا الأعلى ) وقال :" يستمد الآنا طاقته من الهو، وقيوده من الآنا الآعلى و عقباته من العالم الخارجي انه يخدم ثلاثة سادة طغاة "

4- جميع السرديات السينمائية تقوم على صراع من نوع أو آخر ولأن الأفلام موضوعات رمزية، ِتتغذى من تلك العمليات يمكن اعتبار ملخص الحبكة هو َّ مجرد سطح؛ أما السْبر الرمزي فيَقُودنا إلى تلك الجوانب المظلمة.

صورة فرويد في السينما من السامي الى السخيف

على الرغم من أن سيغموند فرويد لم يكن مهتمًا بالسينما، حيث حضر العرض الأول أثناء إقامته في الولايات المتحدة، إلا أنه يوجد حاليًا مئات المقالات والكتب حول هذا الموضوع حيث لم تنل شخصية علمية هذا التميز والانفراد مثل شخصية فرويد وربما السبب يعود الى ان الاليات والمرتكزات على يقوم عليها التحليل النفسي هي ذاتها التي تشتغل عليه السينما تقول  إليزابيث كوي :" أن للسينما وظيفة مشابهة لوظيفة الأحلام، فعندما نشاهد فيلمًا، فإننا نشعر بنوع من الخيال، والذي سيُبنى عندما ينتهي الفيلم، بعد لحظات أو أيام من خلال استحضاره وإعادة التفكير فيه" وهكذا يتم عرض الأفلام على أنها حلم، والفرق فقط يكمن في أننا في السينما لسنا نائمين، ولكننا مهتمين بالمحفزات السمعية والبصرية و نواجه التحدي العقلي لخلق معنى في الشخصيات والحبكة. ومع ذلك فإن حالتنا المعرفية ليست حالة اليقظة العادية، لأنه على الرغم من أننا نحافظ على مهاراتنا الحركية، فإننا غير متحركين، صامتين، مضبوطين على هذه المحفزات، متجاهلين الآخرين الذين يتحدثون حولنا.

كمتفرجين ننخرط في عملية تحويل، حيث نتواصل مع الخيال، حتى للحظات القصيرة، "كما لو" كان حقيقيًا. نحن نرتبط بالأفعال والشخصيات "كما لو" كانت شخصيات في تاريخنا النفسي.  بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الأدوات الجمالية - على سبيل المثال، الاستعارات - التي تُستخدم في الأفلام لدعوتنا إلى تفسيرها في عملية تحليل منظمة، بناءً على توقعات معينة حول القصة والأحداث. في السينما، بصفتنا جمهورًا، نحن حالمون ومترجمون للأحلام، وكذلك محللون ومحللون.

في عام 2019، صدر فيلم فرويد في السينما: من السامي إلى السخيف، وهو مقال سينمائي من إدواردو لاسو وخوان خورخي ميشيل فارينيا، نتيجة عمل بحثي جمع وعلق على جميع الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي ظهر فيها سيغموند فرويد كشخصية على الشاشة. من أول فيلم لجون هيوستون، العاطفة السرية لفرويد في عام 1962، مع مونتغمري كليفت في الدور الرئيسي، إلى أحدث إنتاجات Netflix، حيث نلمس الطرق المختلفة التي تم بها تصوير فرويد: من البطل الفكري مكتشف اللاشعور وواضع أصول منهج التحليل النفسي، بطل الحقيقة المدافع عن كون الانا ليس سيدا حتى في بيته ، إلى شخصية العصابي المهووس بالجنس. أو من رجل طموح متمسك بأفكاره حول اللاوعي الى شخصية مدمن على الكوكاين . وتجسد الطرق التي تم بها تمثيل فرويد في السينما النظرة الى التحليل النفسي التي كانت تحدث بمرور الوقت. منذ الأربعينيات من القرن الماضي، تم تعزيز التحليل النفسي في الولايات المتحدة، وبعيدًا عن أن يصبح معمما كما توقع فرويد، فقد تم دمجه في الثقافة الأمريكية و كانت النتيجة النهائية لهذا المكانة المرموقة أول فيلم عن فرويد في عام 1962. وحتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، قدمت السينما صورة محترمة لفرويد، على الرغم من كونها صورة نمطية وغالبًا ما تكون بعيدة عن الحقيقة التاريخية.خلال الثمانينيات، هاجمته السينما أو صورته كاريكاتيرًا، بما يتماشى مع سلسلة من المنشورات التي تنتقد فرويد والتحليل النفسي. من عام 2004 فصاعدًا، ظهر فرويد كشخصية في الأفلام حيث يتم تهكمه أو تقديمه بطريقة متناقضة وسنتطرق هنا الى ثلاثة نماذج تتراوح بين الأعلى والادنى وهي:

1- فيلم "فرويد: العاطفة السرية" وبداية الفيلم  ترتكز على خلفية من الصور غير الدقيقة التي يتم تركيبها، يخبرنا صوت (صوت جون هيوستن ) عن الضربات الثلاث الكبرى لفخر الإنسان : الأول، إثبات كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون ؛ والثاني، عندما أكد داروين أن الإنسان جزء من الطبيعة، وحيوان آخر، نتيجة التطور؛ والثالث، الذي وضعه فرويد، أن العديد من العمليات العقلية غير واعية، وبالتالي خارجة عن سيطرتنا ويأخذنا هذا الفيلم  في رحلة رائعة إلى أعماق العقل البشري، إلى جوانبه الخفية والمظلمة  في محاولة لكشف أسرارها.

يعتبر هذا الفيلم "سيرة ذاتية" تغطي خمس سنوات فقط من حياة طبيب الأعصاب والطبيب النفسي الشهير في فيينا فرويد  وهو الدور الذي لعبه مونتغمري كليفت تحديدًا من عام 1885 إلى عام 1890، عندما بدأ في تطوير أفكاره حول اللاشعور وبناء منهجه الجديد المسمى التحليل النفسي . يبدأ الفيلم ببطل رواية شاب (قريب من 30 عامًا) يرتدي زيًا جميلًا ومعبّرًا باللونين الأسود والأبيض، مليء بالوهم والفضول، لا يزال طالبًا يعيش في ظل افكار ثيودور مينيرت  وهو رجل لامع ومسيطر، لديه أفكار قوية. حريصًا على توسيع معرفته وحل الآليات الغامضة للهستيريا ، يسافر فرويد إلى باريس ويكتشف الاحتمالات الهائلة للتنويم المغناطيسي للوصول إلى جزء من العقل اللاوعي  والذي على الرغم من أنه يتجاوز إرادة الشخص، يمكن أن يؤثر عليه بقوة.وبالعودة إلى فيينا، وهو متزوج حديثًا، يتعرض فرويد للانتقاد والسخرية من قبل زملائه الذين يصفون التنويم المغناطيسي بأنه "سحر". فقط جوزيف بروير  يثق بأفكاره، لكنه يفعل ذلك في الخفاء خوفا على سمعته. بفضل دعم شريكه الجديد، بدأ فرويد  في العمل مع بعض المرضى وتطوير نظرياته حول أهمية وعمل اللاوعي. هذه هي الطريقة التي يلتقي بها سيسيلي من خلال شخصية سوزانا يورك، في دور مخطط لمارلين مونرو، وهي أرستقراطية شابة تعذبها حلم متكرر لا تستطيع رؤيته وترفض شرب الماء. من خلال هذه القضية وغيرها من القضايا الغامضة،سيحقق فرويد اكتشافات مذهلة ومقلقة تعزله وتواجهه مع المجتمع العلمي. فقط زوجته مارثا وشجاعتها التي لا تلين تشجعه على مواصلة بحثه ...لم يكن إنتاج الفيلم يخلو من الصعوبات، رغم أنه تم حلها جميعًا بنجاح. في عام 1958، لجأ هيستون إلى جان بول سارتر لكتابة سيناريو "فرويد"، ولكن كان لا بد من تصحيحه ووضعه في صيغته النهائية من قبل تشارلز كوفمان وولفجانج راينهارت.، لأن سارتر لم يكن قادرًا على تقليص نص تجاوز على ما يبدو 400 صفحة (يُفهم أن الصفحة الواحدة هي حوالي دقيقة واحدة من الفيلم). أخيرًا، كان الفيلسوف الفرنسي المرموق غير سعيد جدًا بالنتيجة النهائية لدرجة أنه طلب عدم ظهور اسمه في الاعتمادات، على الرغم من حقيقة أن قاعدة الحبكة والعديد من الحلول السردية لا تزال سليمة (مثل تمثيل سيسيلي لثلاثة مرضى حقيقيين من فرويد). على الرغم من الاندفاع والقص في بعض الأحيان، تمكن السيناريو من الفوز بجائزة الأوسكار .

2- مسلسل فرويد: والذي يعرض على منصة نتفليكس سنة الإصدار: 2020 وجاء في تقديمه :

سعيًا لتحقيق شهرة في "فيينا" خلال القرن التاسع عشر، ينضمّ الشابّ المتعطّش "سيغموند فرويد" إلى وسيطة روحية ومفتش لحلّ لغز سلسلة جرائم دموية. يتكون من ثماني حلقات الأولى بعنوان الهستيريا بينما يواجه "فرويد" تحدّيات في عمله ويسرف في تعاطي الكوكايين، يجد نفسه في خضمّ جريمة مروّعة، ثم جلسة استحضار أرواح خاصّة تقودها وسيطة روحية. والحلقة الثانية بعنوان الصدمة النفسية ُحيث يقدم “فرويد"، الذي قوبِلت نظرياته بالمعارضة، معلومات للسلطات التي تبحث عن فتاة مفقودة، لكنه يضطرّ للتعاون مع شخصية غريبة ليصل إلى الحقيقة. وباقي الحلقات جاءت على النحو التالي : السير أثناء النوم، الطوطم والحرام، الرغبة، الانتكاس، تطهير الفكر، الكبت ومدة كل حلقة حوالي 55 دقيقة تدور أحداث سلسلة فرويد في فيينا عام 1886، وتقدم لنا سيغموند فرويد الشاب الذي بلغ الثلاثين من عمره ولا يزال بعيدًا عن كونه الشخصية الراسخة التي نعرفها اليوم. في محاولة لإنشاء مكان احترافي لنفسه، يجب عليه التعامل مع سوء الفهم الطبي للوقت ومع تعقيد ما يمكن أن يكون اكتشافه العظيم: اللاوعي. في هذا السياق، تقترح الحبكة عقبة جديدة: مواجهة والد التحليل النفسي بسلسلة من الجرائم الغامضة التي يجب أن يكشف النقاب عنها مع وسيط ومحارب قديم. يلعب الممثل النمساوي روبرت فينستر دور سيغموند فرويد، وبذلك انضم إلى الثلاثين الذين لعبوا دور البطولة فيه بالفعل على الشاشة، بما في ذلك مونتغمري كليفت وكورد يورجنز وماكس فون سيدو وفيجو مورتنسن وبرونو غانز.هل يمكن أن تعوض متعة الاستماع إلى Unbebuste بلغتها الأصلية عن التراخيص الفاضحة للسيناريو؟

3- فيلم «Freud’s Last Session» للمخرج ماثيو براون والذي يعتبر سيرة ذاتية عن عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد، يقوم ببطولته النجم أنتوني هوبكنز، من المقرر أن يبدأ تصويره خلال الربع الأخير من عام 2022، في لندن.وكشفت تقاير صحفية، أن الفيلم لا يقدم السيرة الذاتية للعالم الراحل، ولكن يركز على جزء فقط من حياته، حيث تدور أحداث الفيلم في عشية الحرب العالمية الثانية، في الفترة الأخيرة من حياة مؤسس التحليل النفسي، عندما يدعو عالم اللاهوت المسيحي الشهير سي إس لويس لمناقشة وجود الله، كما تتطرق أحداث الفيلم إلى علاقة «فرويد» بابنته، وعلاقة «لويس» مع والدة أقرب أصدقائه.ومن جانبه، قال المخرج ماثيو براون، «بعد فضولي العقلي وميلي نحو اتجاه، كان هناك إدراك عميق لمدى أهمية هذا الفيلم في التوقيت المناسب، نبقى في عصر شديد الاستقطاب أيديولوجيًا، حيث يبدو أن الجميع عالقون في أفكارهم الخاصة دون حوار حقيقي وأضاف: " أرغب في صنع فيلم لجميع الجماهير يكون عاطفيًا ومحفزًا للفكر وفنيًا، فيلم يطرح الأسئلة الكبيرة، أثناء التحقيق في ما يدور في القلب البشري ما بين الحب والدين والفناء"

لماذا رفض فرويد السينما؟

في 7 يونيو من عام 1924  استقبل كارل أبراهام في برلين زيارة من مدير UFA وهي أهم شركة إنتاج أفلام في ألمانيا. يقترح أن يصنع فيلمًا علميًا شائعًا عن التحليل النفسي، بإذن مناسب من فرويد وتحت إشراف تلاميذه المعروفين. بعد يومين، لم يستغرق فرويد أكثر من ساعة لإرسال إجابته: "المشروع المذهل لا يرضيني." ويحذر من مخاطر ترك المشروع في أيدي محللين متوحشين، لكنه في الوقت نفسه يقر بأنه "لا يمكننا منع أي شخص من صنع فيلم من هذا النوع دون موافقتنا"

بالنسبة لجولدوين، كان تعاون فرويد ضمانًا لنجاح شباك التذاكر: لقد راهن على أن اكتشافاته عن الحب "ستنير قلوب المتفرجين.

و مخطط الفيلم كان على النحو التالي الجزء الأول كمقدمة، مع "أمثلة بليغة" توضح الحلم، وعملية القمع، واللاوعي. الجزء الثاني يعرض حالة سريرية توضح  الأعراض والشفاء في ضوء التحليل النفسي.

في المؤتمر الذي عقد في جامعة كلارك في ورسيستر، عبر فرويد عن نفسه على النحو التالي:

ربما يمكنني أن أقدم لكم وصفًا حيويًا للقمع وعلاقته الضرورية بالمقاومة عن طريق تشبيه فج مشتق من وضعنا الحقيقي في هذه اللحظة بالذات. لنفترض أنه في غرفة الاجتماعات هذه وبين الجمهور، الذين لا أستطيع أبدًا أن أشيد بصمتهم وانتباههم المثاليين، هناك شخص ما، بعباراته المتعجبة وضحكاته وحركاته، يصرف انتباهي عن مهمتي. علي أن أعلن أنني لا أستطيع مواصلة المؤتمر. بعد ذلك، يقف ثلاثة أو أربعة رجال أقوياء منكم وبعد صراع قصير يطردون هذا الشخص  من الغرفة. وبالتالي، فهو "مكبوت" ويمكنني أن أكمل محاضرتي. ولكن حتى لا يتكرر الانقطاع في حال حاول المطرود العودة للغرفة، السادة الذين حققوا أمنيتي وضعوا كراسيهم على الباب وبالتالي أقاموا "مقاومة" بعد تحقيق القمع. إذا قمت الآن بالترجمة إلى مصطلحات نفسية، فإن التعريبين المعنيين هما "الواعي" و "اللاوعي"، فستكون أمامك صورة تقريبية إلى حد ما لعملية القمع.في الواقع، فإن التمثيل، أو حتى الصورة المتحركة لمجموعة من الرجال المزدحمين بالكراسي أمام باب "يقاومون" دفع شخص آخر يكافح للدخول، يوحي بإيقاع شبلينسك أكثر من آلية القمع اللاواعي. هذا التشبيه، التعليمي في سياق المؤتمر، عندما يتم وضعه في الصور يصبح ببساطة سخيفًا.

في نفس الشهر، أعلن في امريكا عن بدء تصوير فيلم "ألغاز الروح"، مشيرًا إلى أن تحقيقه سيحدث "بناءً على دراسة حالة سيغموند فرويد". و ذهبت مجلة تايم إلى حد التأكيد على أن فرويد نفسه خطط وأشرف على كل متر من الفيلم.

توفي كارل أبراهام في عام 1925 بسبب ما يُفترض الآن أنه سرطان الشعب الهوائية. في الشهر التالي، عُرض فيلم "ألغاز الروح" لأول مرة في برلين.

شكك فرويد في أي إمكانية للتمثيل البصري لأي من مساهماته النظرية. ومن النية التعليمية المزعومة، لم يلمح إلا إلى خطر السخرية. كانت جهود إبراهيم لإقناع فرويد بوجهة نظره غير مجدية. نظرًا لحماس تلميذه للمشاركة في النص، اختار فرويد ببساطة مشاركة اعتراضاته وإخطاره. من الناحية العملية، تم حذف الجزء الأول من الفيلم وتمسك النص بقصة التاريخ السريري. وبالمثل، قرر فرويد رفض ترخيصه لهذا الفيلم أو أي فيلم آخر.

يعتبر المهتمون والباحثون موقف فرويد غريبا لسببين على الأقل:

- الأول أن اللقاء بين التحليل النفسي والسينما، سواء على المستوى الإبداعي أو على مستوى الدراسات التنظيرية، قد أثمر أعمالا سينمائية غنية، خصبة، وطلائعية.

- والثاني أن هناك تشابها كبيرا بين الفيلم والحلم، بما يعني أن الفن السابع يعمل على تفعيل اللاوعي وإخراجه سينمائيا، لكن بطريقة مغايرة لطريقة التحليل النفسي.

لذلك انطلقت التأويلات لمحاولة فهم الموقف الفرويدي من السينما:هناك مَن فسّر الأمر بالانتماء الثقافي اليهودي لفرويد، وهو انتماء يحضر فيه الدين بكامل ثقله، مثلما تحضر فيه الصورة بوصفها ممنوعا أو محرما خاصة إذا سعت إلى الاقتراب من الإنسان نفسه ومن روحه.ويرجح الباحث السينمائي روجيه دادون في دراسة له بعنوان (اللاوعيان المتوازيان) تفسيرا لموقف فرويد الرافض للتعامل مع السينما بوجود تنافس شديد بين السينما والتحليل النفسي من حيث قدرتهما على التعبير والتمثل، أو من حيث قدرتهما على إخراج اللاوعي.ومرد هذا التنافس إلى أن التحليل النفسي يستطيع الوصول إلى عالم اللاوعي ورموزه وخباياه عن طريق الكلمة بالأساس، بينما تبلغه السينما أساسا عن طريق الصورة، التحليل النفسي يقترح علينا لاوعيا كلاميا، أما السينما، فهي تقترح بالمقابل لاوعيا صوريا (نسبة إلى الصورة)، وطبعا هناك بون شاسع بين الكلمة والصورة من حيث علاقة كل منهما بالواقع، تشكّل الكلمة دوما انزياحا عن الواقع، إنها تقول باستمرار أكثر مما تود قوله، وعبر إفراطها في القول تتجاوز الواقع نحو اللاواقع، أي نحو الخيال.

أما في الصورة، فإن الواقع حاضر بكامل ثقله، ومن هنا مقولة (الانطباع الواقعي) في السينما، وهي مقولة تؤكد القدرة الكبيرة للسينما على استنساخ الواقع. وقد استغلت الأديان هذا الاختلاف لتحريم الصورة وللتحذير من مخاطرها.

***

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من  دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كنفس متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.(1)

وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي، خلود الانسان كنوع.وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.(2)

وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت.حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.(3)

وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي سادت فيهما نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب، اصبح حدث الموت بالاضافة الى المخاوف المعتادة المرتبطة به، اكثر اثارة للفزع، لان لحظة الموت اكتسبت معنى خاصا ومشؤوما، حيث ان لحظة هروب النفس من الجسد المحتضر، هي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم للسيطرة على هذه النفس.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي، ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبونازي P.Pomponazzi الى صفوف القائلين بانكار الخلود، اصبح انكار خلود النفس بصورة تدريجية الموقف الفلسفي غير المنازع في كل من فرنسا والمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولم تهمل الفسلفة مشكلة الموت، فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم لخلود النفس ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنهم تناولوا الموت بالدراسة. وكان هناك دائما جهدا دائبا من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. وفي الضرب الاول أي الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1- يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتميته. وكانت هذه فلسفة شوبنهاور.

2- يمكن ان يكون الموت اداة للفلسفة التي تزعم انها وحدها التي تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود على حد تعبير هيدجر.

3- اخيرا الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراء المعرفة الحقة.

ان مهمة الفلسفة هي التيّقن من طبيعة الموت والبرهنة على انه ليس فناءا نهائيا، او اظهار الاسباب الكامنة وراء موقفنا من الموت الذي يذهب الى انه رغم الموت هو (النهاية) فانه لاينبغي ان يكون موقفنا هو الخوف بل اللامبالاة والاذعان بل التقبل والابتهاج (4)

 لقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة تحت ضروب التقدم المذهلة التي أحرزتها العلوم الدقيقة، الى ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق. وعلى اية حال فقد أعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت، بينما اعترف به بأسى ممثلو الدين التقليدي فقد كتب احدهم (ان الموت المجرد كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه). وكتب اخر (ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت، وما يعقبه فالرجل المحنك يكتب وصيته، ويؤمن على حياته، ويزيح موته جانبا باقل صور التأديب...  الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا).(5)

غير ان آرثر شننتزلر يجد انه ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر في الموت، وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت وأساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيا ويتنفس، وعلى وجودهم بصفة خاصة، وهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (أي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موت؟).

وهناك اونامونو (1864-1936) فيلسوف وجودي اسباني تأثر في مذهبه بابي الوجودية سورين كيركارد، الذي كانت شهوته للخلود، وشكهّ في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهروب من المعنى المأساوي للحياة، بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته، وهناك ريلكة الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحول الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة ، وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك، فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له.(6)

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي، فتمرد وليام جيمس، وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة ، ولاحظ جورج زمل بأسى (بأن جانبا بالغ الضآلة من المعاناة الانسانية شق طريقه الى الفلسفة).(7)

وحدث انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق بما اذا كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه، وانفصال الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذي يتعاطفون مع تصور اوسع نطاقا لمهمة الفلسفة باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان ولكن هناك كذلك اشكالا اخرى للانقسام فقد هاجم بشدة، برونشفيك جبرائيل مارسيل احد اقطاب الوجودية الحديثة وهو لاهوتي التفكير. وعند نيكولاي هارتمان (1882-1950) وهو فيلسوف الماني وضع مذهبا يدور حول الانطولوجيا النقدية، كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة، فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذبون انفسهم، وينكر اهتمام الفلسفة بالموت، لان تعذيب الذات امر لا اخلاقي ، ويذهب قائلا: اذا لم يكن الموت الا عدما، فانه لايمكن ان يكون شرا.(8)

غير ان شيلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لا يرغبون في معالجة المسائل المطلقة، ومشكلة الموقف بشكل خاص، وفي غمرة نظر راسل الى الانسان باعتباره محكوما عليه بان يفقد احب الناس اليه وانه يمر هو ذاته في الغد عبر بوابات الظلام، فانه يدرك بصورة ملحة الحاجة الى شيء (يلوح للخيال وكأنه يحيا في سماء بعيدة عن فكي الزمان المفترسين).

ويكتب بردياييف: (انني لا اميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال، لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتوا، وبدا لي قهر الموت المشكلة الاساسية للحياة، فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية للحياة من الميلاد).(9)

وفي عبارة كونفوشيوس المعاكسة (اننا لانعرف أي شيء عن الحياة، فكيف نستطيع ان نعرف شيئا عن الموت؟) فما لانعرفه عن الحياة أي معناها وهدفها المطلقين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالموت، ومشكلة هذا الاخير اننا لانعرفه خير المعرفة.

الفلسفة تعنى بامور كثيرة منها الموت والامر يرجع الى الفيلسوف الفرد في متابعة المشكلات التي يعتقد انها هامة، لكن الفلسفة باهمالها لمشكلات الموت كلية انما تفصل نفسها عن احد ينابيعها الرئيسية التي تنشّط البحث الفلسفي بقوة تضاهي الفضول العقلي والدهشة.

وان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحددة والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء والسعادة، تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني العام، وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر في الموت اكثر بكثير مما يفترض عادة. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث، فيكفي ان نشير الى هيمنجواي، فوكنر، مالرو، كامو، ت.س، اليوت، وديلين توماس، فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة( ). كما يجد البعض امكانية الاقتناع بان الحياة عبث، وانها مجردة من المعنى ولايحملها القلائل أي معنى آخر، وضروب الموت العبثية تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة، ويشير براتراندرسل قائلا: (ان اولئك الذين يحاولون ان يجعلوا من النزعة الانسانية التي لاتعترف بشيء اعظم من الانسان دينا، لايرضون عواطفي، رغم اني عاجز عن الايمان بان هناك في العالم على نحو ما نعرفه ما يمكن ان اقدره خارج نطاق الموجودات البشرية). (10)

ننتقل الى احد اقطاب البراجماتية وليم جيمس (1842-1910) وما يميزه عن غيره من فلاسفة البراجماتية هو رؤيته الخاصة الى قضايا الاعتقاد الديني، والحقيقة ان رؤية جيمس الدينية لا تصدر عن قناعة فكرية ولا تقوم على ايمان راسخ محدد، فهو في الحقيقة لايؤمن بالدين والديانات السماوية التوحيدية وهو ما نجده واضحا في قوله بان البراجماتية يمكن ان تكون دينية اذا ما كانت تؤمن بالتعدد والتطور.(11)

ان البحث في الجانب الديني من براجماتية جيمس تكمن اهميته عن حقيقة موقف جيمس من الاعتقاد، والمعتقدات الدينية ويعدها نوعا من التجريبية النفسية الواقعية، وفي تأكيده على النفعية فقد جعل من الدين بضاعة تباع وتشترى على اساس الرغبة ومقدار نفعها وقيمتها المادية العاجلة.(12)

يؤكد جيمس على الارادة انها حق الاختبار والاعتقاد يقوم على الرغبة الذاتية والمنفعة الشخصية، والاعتقاد لدى جيمس احد القوى النفسية ولابد ان يبقى عنصرا ثابتا من عناصر البناء الفلسفي، وخاصة لانه يحمل معه في كثير من الحالات براهينه، عليه فالدين عند جيمس اعتقاد فردي وموقف شخصي لايقرره منطق العلم، ولا يدعمه مصدر سماوي فالدين عند جيمس مجموعة وجدانات وافعال وتجارب يعانيها الافراد في وحدتهم كلما ادركوا انهم على علاقة مع أي شيء يعتبر الهاً، وان جوهر مثل هذا الدين الشخصي هو الاعتقاد. (13)

ان جيمس لا يقر دينا معينا وبخاصة الاديان السماوية، التي يرى جيمس ان الايمان بها في طريقة الى الزوال قائلا: (انه لم يهتم بالاديان السماوية، وسيوجه همّه الى الديانة الشخصية، وان لكل متدين دينه الخاص). فاساس الدين عنده امر واقعي وشخصي وليس الدين في ذاته، الدين الواحد الثابت حقيقة مدرسية فارغة، فهناك من الاديان بمقدار ما يوجد من افراد، ولم يكن عبثا ان يضع وليم جيمس على كتابه عنوان (تعدد التجربة الدينية)، وعن القضايا الروحية يقول جيمس (لم يحتقر العلم على العموم شيئا من تلك البواقي غير المنسقة كما احتقر تلك المسائل الروحية الغامضة. اذ ان علم النفس المحافظ يعرض عنها، واما الطب فيبعدها كلية، ويصفها بـ (عمل الوهم والخيال).

ومن المسائل الروحية التي يذكرها جيمس هي: (التفكير الديني، والتفكير الاخلاقي، والخيال الشعري، والتفكير الغائي، والتفكير العاطفي والانفعالي، وكل ما يصفه الانسان بانه افكار شخصية ليميزه بذلك عن الاراء الآلية الميكانيكية، او كل ما يصفه بانه افكار رومانتيكية، كل هذه الافكار كانت ولا زالت خارجة عن الدائرة العلمية، وهي في نظر الميكانيكية العقلية، حديث خرافة). (14)

ويؤكد جيمس: (لكننا لا ندري من اين أتت تلك الحاجة النفسية الى الاعتقاد في ان هذا العالم المشاهد ليس الا مجازا لعالم اخر اكثر منه روحانية وابدية. من القدرة والسلطان على النفوس هؤلاء الذين يشعرون بها مثل ما للحاجة النفسية الى الاعتقاد المطرد في قوانين السببية من قوة وسلطان على عقول العلماء)، ويعتبر جيمس حرية الاعتقاد ركيزة مهمة في تكوين قناعات الافراد، ويقول: (لنا الحق في ان نعتقد في بعض الموضوعات الدينية، على الرغم من انه قد لايكون لنا من الادلة المنطقية ما يكفي لاقناع قوانا العقلية). وفي تأكيده على حرية المعتقد الديني يتبين بحسب جيمس:

- حق الانسان الفرد في الاعتقاد بأن يؤيد فكرة مهما تبدو غير مناسبة لغيره من الافراد وتحقق المنفعة الذاتية له.

- الاعتقاد بالشيء ممكن، وان لم يدعمه دليل منطقي علمي.

- الاعتقاد قضية فرضية تصدر من تجربة نفسية ذاتية، و تخضع لقواعد المنهج العلمي في الفروض العلمية.

- الاعتقاد في موضوع من الموضوعات الاعتقادية ، يصدر عن ارادة المعتقد في السلوك ، وباصراره على الفعل دائما، ويدوم الاعتقاد اذا استمرت ارادة فعل نحوه عند الفرد.

- الاعتقاد لابد ان يكون نافعا، محققا رغبات الفرد في حياته.

ويرى جيمس: اذا كان الاعتقاد بالدين حقا فرديا، ولم تكن براهينه كافية، يكون الاعتقاد فرض يعتمد على المخاطرة، كما ان عدم الاعتقاد يقود الى المخاطرة ايضا. والاثنان ميل نفسي لا دليل قاطع يفصل بينهما. لذلك يدعو الى الاعتقاد الديني على وفق رؤية براجماتية خاصة تؤكد على ما هو عملي نفعي، يناقضه في ذلك البابا حين يدين الدفاع البراجماتي عن الدين، ويبين الرؤية الدينية القائمة على الايمان الراسخ بوجود الله دون تفكير في منفعة دنيوية عاجلة.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

الهوامش: المصدر كتاب (الموت في الفكر الفلسفي الغربي) جاك شورون، سلسلة عالم المعرفة.

   

نبدأ من سؤال نوعي ونستفسر، فأليس الوضع البشري محاطا بالحياة من كل جانب، ونحن في هذا السؤال لا نسعى إلى إجابة، وإذا كانت الحياة معنى وجودنا، من خلال المعنى الحرفي لكلمة – حياة-، فهي الإطار العام لوجودنا البشري، ونحن نمثل الموجود فيما هي تمثل الوجود، ولكن لا نملك غير محور تكهنات فقط للحياة ووجهات نظر فلسفية، وأما الإطار العلمي فغير راجح تماما، حيث اعتمد المنهج العلمي على أطر فيزيائية، ومؤشرات بداية التكون والكيفية التي أشرها خلق الحياة والعالم المشترك، ومؤكد العالم سبق الحياة، وفي التفسير الموضوعي العالم لا يقترن بنا تماما ولكن الحياة تقترن بنا بشكل مؤكد، فوجود العالم كان وجودا بلا حياة، يعني لا فائدة منه، لكن الحياة هي ذلك النفس المتعدد الإيقاعات والتردد، وإذا كانت الحياة قد وجدت قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة، فالعالم أقدم من ذلك، والعالم هو كوكب الأرض أما الحياة فهي الأنفاس التي شهقت داخله، وهنا تداخل ما بين العالم والحياة والوضع البشري، فالحياة من خلال البشرية تؤكد العالم، فالعالم هو الكينونة ونحن واقعها والحياة هي معنى الوجود ونحن فيها الموجود، والكينونة ساكنة حسب التفسير العملي فيما الوجود متبدل، وأما الموجود متحرك، وذلك المثلث في التفسير يختلف كل مكون منه، فيما في التفسير المعنوي هناك تقارب بنسب غير معينة، وعدم تعيين النسب يعود إلى تغير الوحدات الزمنية، والتي تتبدل بشكل مستمر، والاختلاف والتبدل يشمل كل ركن من أركان المثلث، وهذا هو من نبحث عنه، فسكون العالم وتبدل أفق الحياة من نهار إلى ليل وحركة الوضع البشري أمور مدركة في الإدراك المباشر.

تفسير علاقة الحياة باعتبارها تتبدل وتتغير سجنتها، ونحن نحيل الأجواء والطقس والجغرافيا إلى الحياة وليس للعالم، فالعالم تكون والحياة صيرورة تتبعها سيرورة، وقد بلغت من الأنطولوجيا حدا هائلا، في التفسير له يحيل الحياة إلى المعنى السرمدي، فالحياة التي يلغيها البعض ويسميها الأرض اختصارا، على اعتبار إن للأرض صيرورة تلتها مباشرة سيرورة سرمدية، وإلغاء السماء يعني إلغاء جزء أساس ومهم من أفق الحياة، وذلك غير ممكن فالسماء هي التي هي تقابل أختها الأرض من الجهة العليا، وتلعب الدور الأساس في التغير المناخي، والعقل الذي يقصي أسسا من أسس الحياة هو عقل سياقي في اتجاه وسبيل واحد ولا يمر بمنعرجات، ونحن لا تهتم بالتفاصيل بل نهتم بمعنى الحياة وعلاقته بالوضع البشري، ونوع التأثير الذي من الممكن أن يمر به الوضع البشري، وفي المتعارف العام الوضع البشري هو من ينتج للحياة معناها، وهذا ممكنا في الشكليات الكبرى من مثل الحرب التي مر بها الوضع البشري في أربعينيات القرن الماضي وفقد الملايين من الأبناء من أمم عدة، وهذا لا تتحمل الحياة الذنب المباشر فيه، وكما هي ليست تمتلك فؤادا لتحتج ضد الحرب، وفي ذلك أنا من ننوب عنها، لكن مدى تأثير الحياة على الوضع البشري يكمن في الجو العام، فالجو العام للحرب مثلا هو متلبد وبشع وليس فيها نور أو ضياء، وكما الليلة الظلماء لا تسر النفس أو تبهجها، والحياة تتلبس ذلك الجو الكئيب، وبذلك يكون انعكاس الحرب شاملا، وليس فقط في البقعة التي قامت عليها الحرب.

الحياة أنثى العالم الساكن والوضع البشري هو الابن إذا جازت التوصيفات، وعلي وجه الخصوص ما تقره الميثولوجيا الدينية، فتشكل أسطورة خلق آدم صورة جانبية وليست مباشرة في خلقه من تراب الأرض، وإذا خلق من تراب الأرض فما الذي كان يفعله في السماء، وترى أكانت تلك ذاته المعنوية التي خضعت للتمحيص والتفسير والتعيين، ولكن لسنا إزاء فكرة خلق آدم وملابساتها، ونحن نحصر أفكارنا في البعد الآني للوضع البشري والمشكلة الكبرى التي تعيشها البشرية، ولا نريد التفريط بالهدف السامي الذي نسعى إليها، ونحن نشعر أننا إزاء مسؤولية عميقة، وتحتاج إلى حد كبير الاهتمام من أكثر من وجه بها وهذا هو ما نسعى إليه، والعالم الرحب المعنى تقابله الحياة برحابة شكلية وسطحية، فالخيانة هي في الدور بالحياة أكثر ما هي في صمت العالم على ما يجري، وإذا افترضنا بأن مفهوم الإنسان الخلاق قد استهلكته الحداثة، وفكرنا بما بعد الإنسان، وتركنا خيانة الحياة جانبا، وفكرنا بمقومات إعادة إنتاج الذات بما يلائم المعنى الخلاق، وإعادة التعويل على الوضع البشري في امتلاك الشعور بالأمل والتفكير بالمستقبل بجدية، وتلك العوامل التي تحطمت إلى أقصى حد ممكن، تحتاج منا السبيل المناسب إلى إعادتها إلى جوهر الحياة العام ونشعر بها من خلاله، وإذا كان الماضي حافلا بالمثل والمعاني السامية، وكانت النفس البشرية بمؤشر استقرار مدهش، فالسرعة التي تخلينا فيها عن ذلك تكاد تكون أكثر دهشة.

لنا وجهة نظر إزاء التغيرات التي مرت بها السينما، وعلي وجه الخصوص في تغيير الرؤيا ووجهة النظر والبؤرة السينمائية من أمثلة حية إلى أخرى جامدة، والمعنى الإنساني الذي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالمثل الحية، ومن خلال وعي ومشاعر الشخوص، وانتقل إلى المثل الجامدة في ظروف ما بعد الحداثة، وبدلا من البشر صارت الآلة البديل النوعي، وأتاحت لها ميتافيزيقا ما بعد الحداثة بتلبس المشاعر البشرية، وما هو شعورك وأنت ترى قطعة حديد تبكي بعد هزيمتها وخذلان الناس، ونقر هنا بوجود متعة جديدة تتناسب مع روح العصر، لكن مديات ذلك الأنطولوجيا العميقة تاريخيا، قد أزالتها ما بعد الحداثة السينما في لحظة إدهاش وغرابة، وربما تقصد ما بعد الحداثة أن تجاهنا لمعنى ما بعد الإنسان، على اعتبار إن الإنسان في حضوره وتاريخه ومعناه قد استهلك تماما، وصراحة (يعادل اهتمامي بما بعد الإنسان شعوري بالإحباط حول الموارد والقيود الإنسانية المفرطة في إنسانيتها التي تحدد قدراتنا المكثفة والإبداعية شخصا وجماعة)1، وإذا نفر بوضعنا البشري من قيود زائفة نجد أمامنا القيود الأخرى بطريقة ملتوية تواجهنا، ويقدر ما خططنا لحفظ ماء وجه الإنسان نواجه أيضا ذلك التخطيط الماكر في عالم ما بعد الإنسان لا يسعى إلا إلى استغلالنا، وكما كانت السياسة تستغل الناس بالمبادئ صارت اليوم تستغلهم بالاقتصاد، وتتفنن في خلق قطيع يتوجه إلى السبيل الذي تريده السياسة وتسعى إليه.

نحن لا نهدف أبدا السعي إلى قولبة الحياة، لكن نحن أيضا ضد عدم التوازن، وإذا فقدنا بشكل واضح توازن القوى، والذي كان يجعل العالم يتمثل في كتلتي الناتو ووارسو، وصرنا في عالم يسمى عالما أحادي القطب، وصرحت النظرية الأحادية قد سبق التحول السياسي إلى القطب الواحد، فقبل أن تكون روسيا زعيمة حلف وأمريكا زعيمة الخلف المعاكس، انتقل الفن من تعدد الأبعاد إلى البعد الواحد، وثورة كاندنسكي الروحية للفن غيرت المعنى العام إلى معنى خاص، وكان سابقا يشعر الوضع البشري بأنه القرين إذا لم يكن هو المثل الأساس للفن، وصراحة انخفضت طاقة الذوق الفني كثيرا، وابتعد الفن عن المجتمع مثلما ابتعدت السينما عن الإنسان ومفهومه، وذلك التغير ليس بالهين، بل له تأثيرات مباشرة، وهذا ما جعل الحياة العامة تتأثر بتلك الصيغ الفنية البديلة، حارت في إيجاد تفسير مقبول، وبالتدريج انخفض مؤشر الحس الاجتماعي بالفن، وارتفعت قيمة الفن لتنحصر في الوعي الموازي أو وعي النخب، ونظرية الحداثة للفن ترى بأن وجود الضفة ملزم، ولا يمكن للفن التخلي عن البعد الأول، فيما ما بعد الحداثة نحت إلى إدخال أفكر حرة في تحليقها، وعلى الرغم من عدم جدارتها، لكنها صارت توازي ذوق النخب والتلقي المشترك معنويا، وطبعا البعض يرى ذلك لا تأثير مباشر له على حياته، فيما تجد في بيته لوحة لا يجد لها أي معنى مقبول.

نسب خيانة الحياة ليست بتلك التي يمكن تقديرها، والحياة التي شهدت منا البشر خيانة لأنفسنا أكثر من تلك الخيانة، فنحن نمتلك مسؤولية كبرى في تنمية روح الشر والخيانة، وصراحة قد تأصل الشر في نفوسنا، وصارت الكراهية شعار أساس لحياتنا بدل من المحبة، ونحن نتحمل أعلى المسؤوليات في ذلك، فبداية لا بد من أن نقر بأننا تحولات من اعتقاد مؤكد إلى حال تجاوز أهمية الاعتقاد، وصرنا نتصور وجودنا من جديد بصورة مختلفة عما كان في الماضي، وبعدما ضاق ذلك العالم الواسع المترامي وأصبح قرية عصرية كما يوصف، تغيرت أحوالنا النفسانية، فبدلا من تأكيد ذواتنا صرنا نفتش عنها ونبحث بلا استدلال، وصراحة ذلك البحث اللامجدي أحيانا يمكن تفسيره كمتاهة بروح معاصرة، وستتسع تلك المتاهة في المستقبل القريب أكثر، وكما سيتغير المعنى الاجتماعي أو ما تبقى منه ذلك الذي كان في ظروف وعهد الحداثة، وفي الحقيقة صعب على الوضع البشري بعد نبذه مؤشر الواقعية والتاريخ العيش في مواجهة متاهة اجتماعية من جهة ومتاهة شخصية من جهة أخرى، وسيكون الوضع البشري أصعب بكثير مما مر به بظروف الماضي، فحسنة الحرب في إيقاظ الضمير العام والخاص على السواء، كم نحن بحاجة لها الآن، وإذا كانت الحرب وجها للشر، فإن أثرها على البشرية فيه إعادة للصحوة الإنسانية المفقودة، وهنا لا بد من أن نقف بأن نقر نحن أبناء البشرية فينا وجوه عديدة للحرب ومعناها، مثلما فينا وجوه لتلك الصحوة التي قد تجدين في ظرفا معينا فقط وبعده تنتهي صلاحيتها.

إذا قد انتقلت الفلسفة الحديثة من الموضوعة إلى الذات في عهد المثالية وما بعدها من مفاهيم الوجودية التي سادت من خلال مقولة – أنا أفكر إذن أنا موجود – لديكارت، فهناك سبب وجيه استوجب ذلك الانتقال، فبعد تطور مفهوم الإنتاج العضوي، والتماس الحاصل ما بين البشر والآلة، تبلورت فكرة مهمة جدا للمعنى الإنساني على الرغم من عظم الشقة، فلقد أصبح الإنسان مركز الوجود وهرمه، وصار فعليا يسعى الوضع البشري إلى إيجاد حل ذاتي، وعلي وجه الخصوص للتضاد القائم تاريخيا ما بين الذات والموضوعة، وإذا صار العقل هو الفيصل في هو أعلى من النفس البشرية التي فيها نسب للشر ربما أكثر من النسب التي للخير، ولكن العقل ليس منزها بالشكل التام، فهو ما بين ذاكرة ولا وعي ومبادئ يكمن أو في دائرة تلك المقومات يدور، ومن الطبيعي أيضا أحيانا أن تجبره النفس البشرية أن يتنازل عن قمته وينحدر نحوها، وذلك جائز خصوصا في المسائل المتعلقة بوضع نفسي، ولكن رجاحة العقل هي التي جعلت الحياة بهذه الامتيازات من التطور، لكن العقل لم يصمد طويلا، وخصوصا بعد عصر ما بعد الحداثة، والذي فيه استبدلت الذات بالشخصية، وصار الأفق التاريخي للتدرج من الموضوعة نحو مثال الواقعي وهو الذات، وهذا الأمر طبيعي جدا، لكن التحول من الذات إلى الشخصية حدد على أنه انتقال للمسؤولية من الاعتقاد إلى الالتزام، لكن تحولت المسؤولية في صيغة الالتزام والغاية المرافقة له، ومن ثم دفعتها السياسة نحو المصلحة وهناك استقرت في عصرنا الحالي دون رجوع.

الرجوع إلى القاعدة المثلى صار مستحيلا، فلم يعد من الممكن رجوع البشرية إلى عالم المثال والمثال والمبدأ، فقد تغيرت الصيغ وتحول العالم البشري من صيغة العطاء إلى صيغة الاستحواذ، وفي صيغة الاستحواذ هناك نفس بشع الرائحة جدا، حيث لم تفسد القيم فقط وتتشوه بل انحدرت بها البشرية نحو الحضيض، وخسر العالم رهانه الرأسمالي بنسب كبيرة، وإذا كان سابقا نستطيع تحديد الأمور، فاليوم لم نعد نمتلك طاقة لمواجهة أي أمر، وخصوصا بعدما صرنا أمام كم هائل من الأمور المختلفة، والاختلاف في سرعة إيقاع العصر قد غير ملامح العصر عن الظرف السابق، والحياة لم تعد تلك المرجوة للتأمل والنظر من خلالها للمستقبل، فلم يعد اليوم يمكننا من النظر خلالها إلى الغد، وحتى ذواتنا التي كانت ذوات عينية أصبحت اليوم ذوات وصفية ليس إلا، وتقدير الأمور لم يعد كما كان، ولا بعد هناك تفكير جدي لخلق نتائج، وإذا نقر بوجود استثناء لخلق النتائج فهو نادر جدا، فمثلا تجد طالبا متفوقا جدا ويطمح إلى نيل شهادة عليا، لكن التميز الذي نهدف إليه هو ليس عبر الشهادة بل عبر العطاء، والعطاء إذا لم يكن يمتلك الرخاء الاقتصادي وقوم المال للتحويل إلى فعل وتكريس الجهود عمليا، سيكون ليس سوى برواز لتلك الشهادة اليوم، وسيكون لتلك الذات البشرية أما أن تستعبدها أيديولوجيا أو تتحول إلى سلعة مصيرها الاندحار والاستهلاك.

العالم إذا كان هو هوية الوضع البشري وكانت الحياة هي الانعكاس الإجمالي له، فما الذي يمثله الوضع البشري لنفسه؟، وهذا السؤال ليس بغاية أو بهدف نفسي أو أيديولوجي، بل بطموح فكري للبلوغ إلى نتيجة مقبولة من قبل العقل نفسه، ومن حق العقل أن يقوم بتوجيه السؤال لنفسه، وإذا كانت حرية العقل أوسع من حرية الذات والبديل لها الشخصي، فإن العقل في حريته لا يمثل هنا الخطاب المرجو، والذي يجد قبالته جهة تلقي، وذلك ممكن عندما يتحول العقل إلى خطاب، لكن العقل بنفسه يختلف تفسيره، وهناك من يرى على أنه مجموعة الأفكار المتجانسة، وآخر يطور الفكرة خصوصا حسب ما أتاحته ما بعد الحداثة، فيكون العقل أوسع، وأصبح إضافة إلى الأفكار المتجانسة أفكارا مختلفة، وهنا وجه الأشكال فالعقل المعاصر قد يختلف مع نفسه، وذلك بالنسبة له يحتمل حصوله بيسر في أفق ما بعد الحداثة أو ما بعدها، وإذا اتاحت ما بعد الحداثة للعقل بلوغ ذلك الحد العصيب، فلا بد من اسباب ترجوها الجهة التي روجت لمفهوم ما بعد الحداثة وما بعدها، واختلاف العقل مع نفسه يعني اختلاف العالم مع نفس، فالعقل هو الوحدة الجوهرية التي يعتمد عليها النشاط الروحي للعالم، والاختلاف يعني التغير في كينونة العقل، وبالتالي لا بد من وجود مظاهر عقلية جديدة يواجهان العقل نفسه، وتفسير العقل النشيط في مجال يختلف عن تفسير العقل الكامن، والذي يستجيب مباشرة للمظاهر العقلية الجديدة.

اليوم نواجه ذلك النوع الجديد من الجهل، فبعدما واجهنا الجهل بصفته الأساس في الحدود المتاحة له نواجه ذلك النوع الجديد الذي نطلق عليه الجهل المتعلم، حيث هناك كم هائل من الشهادات التي يقف خلفها ناس جهلة بالمعنى الحياتي، ولا يمكن درجهم بأية صورة حتى كأنصاف متعلمين، وهذا ما نقصده بمواجهة العقل لنفسه، فهؤلاء وجودهم ليس منعزلا تماما عن الوجود العام، ولا يمكن أن نصف المدنية قد تخلت عنهم وأبعدتهم عن أفقها، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي في إي بلد من بلدان العالم المعاصر، والعالم المعاصر نقصد به عالما ما بعد الحداثة والذي يختلف جزم عن عالم الحداثة الواسع والعميق تاريخيا، ففي الحداثة انعدمت مواجهة العقل نفسه بشكل كبير ولم نشهد وجود صراع بين الجهل والمعرفة، بل كانت ناصية الجهل تتوسم بناصية المعرفة أن تمدها بالمعلومات وتحقق لها تواصل التعلم، والغريب أن وسائل التعلم وتطوير العقل متاحة بشكل أوسع بكثير مما مضى، فاليوم الفضاء الإلكتروني ينقلك إلى أي معلومة بسرعة كبيرة ويختصر لك الزمن لبلوغها، والنجاح النوعي صارت اليوم سبله يسيرة، لكن تجد كما كبيرا يترك فائدة المعلومات التي من الممكن أن يملأ بها خانة فارغة من خانات العقل، لكن الجهل وجه البشرية إلى اللهو، بل تمادى أكثر فتحولت البشرية إلى الألعاب غير المسلية، والتي منها ما يحول الإنسان إلى قاتل متوحش، ولا بد ذلك العمل غير تام البراءة في تقديمه بتلك الميزة الدموية.

لابد من فصل شعورنا البشري عن معنى الحياة، واذا لا نقوم بالفصل فسنقف على فكرة أن الموجود البس الوجود قناعه وبالتالي راح يتهم الوجود على بشاعة ذلك القناع، والصراحة النفسية مفقودة وكذلك الصراحة الموضوعية بنسب اقل، ولم يعد هناك مورد عقلي نعول عليه (لم تلق الفلسفة بعد ضوء كاف على المضمون الاجتماعي للمعرفة ومن الروابط العقلية التي تربط بين الناس وتجعل التفاهم بينهم ممكنا)2، واذا انعدم سبيل الاتصال ما بين المعرفة والناس وانعدمت الدرجات المؤهلة، وتصاعد انطواء الفرد البشري على شخصه وليس ذاته النشطة عقليا، وازدادت نسب انفصاله عن النسيج الاجتماعي الاصغر وهو الاسرة، وهذا بدوره سيوسع مساحة الانفصال عن النسيج الاجتماعي الاكبر، وهذا الضياع الملموس لا ندري ما الذي سيأتي بعده، والفرد منا نحن جميعا لو حرك الساكن من حياته بعزم إزاء بشاعة ذلك القناع، وامتلكنا إرادة فاعلة إزاء علة ومشكلة ذلك التشويه وبحثنا في وقعنا وفي أنفسنا عن السبب المقنع، وبالتالي نحصل على نتيجة تستوجب علينا التفكير والتخطيط للمعالجة وحل المشكلة، لكن اعتقد جازم أن أحدنا لا يقف أمام المرآة طويلا ويبحث في نفسه عن السبب المباشر لتشويه حياتنا، بعدما تمكنت من أن تتنفس برضا بعد حرب عالمية أزهقت أرواح ملايين الأبناء، والحرب التي كانت تهرول بالموت تجاه أرواح الجند إذا همدت في أفق واقعها ومظهرها البشع، فهي قد عادت من جديد داخل نفوسنا البشرية.

إذا أردنا أن نفسر النزعات النفسية فمن الطبيعي لا نجلب ذلك الطبيب النفسي إلى الحياة ليكشف عنها، ومن المعتقد التاريخي بمقدرة علم النفس هناك مؤشرات عامة ليست لصالحه، وأقول صراحة علم النفس إذا عالج أحد المرضى فسينتج لنا مريض آخر، وتلك إحدى مشاكل الحياة البشرية، ولا أفصل البشرية عن الحياة ولا الحياة عنهم، ففي التفسير الموضوعي للفلسفة، إن الحياة هي الكيان العام للبشرية وحيواتنا هي الكيان الخص، ووفق هذا المعنى ننطلق لدراسة العلاقة بين الحياة والوضع البشري، والمفاهيم الأخرى الضيقة التفسير العام تجاوزنه جميعا، في مفاهيم ذاتية ونحن نسعى إلى مفهوم مشترك ما بين الفلسفة والمجتمع، لكن ليس على طريقة فلسفة ما بعد الحداثة، والتي لم تختلف عن مسعى علم النفس الإجرائي إلا بالمسميات، فدراسة التفاهة اجتماعيا لا تنتج نتائج ولا هي بفائدة ولا يمكنها تحسين حال المجتمع، ونحن لا نعيب على العقل الفلسفي الجديد، لكن لا نجد في مساعيه ما يفيد البشرية، وليدرك ذلك العقل أن مستويات اليأس الإنساني داخل الوضع البشري بلغت أقصى حدودها، فما الذي يضيفه الفكر الفلسفي من خلال مفهوم التفاهة للوضع البشري، ونحن ندرك تمام انحدار الحياة البشرية نحو التفاهات الموضوعية، ونفصل صراحة بينها وبين التفاهات غير الموضوعية، فالتفاهة الموضوعية تدخل في خضم الحياة فيمما غير الموضوعية لا تبلغ ذلك الحد إلا عند العقل البسيطة والساذجة، ولا تبلغ العقل العملي ولا العقل العلمي.

إذا قمنا بترجيح العقل النشيط كمتمكن من خلق جدوى للوضع البشري المنهار حضاريا وأخلاقيا ونفسيا، وتصاعد مؤشر انحسار الإنسان داخل وجودنا البشري، وإذا فصلنا البعد المفاهيمي للحياة وأبقينا على المقومات الواقعية فيها، فتلك المقومات هي نتاجنا وليست أنتجتها الحياة بمعزل عنا، ومن ثم هي ترد إلى مرجعيات بشرية، فكل فعل بشري له فاعل، فلم نقل ذلك من مقومات الحياة، وصراحة نحن نحتاج إلى فصل لساني وعضوي بين أفق وآخر، فأي أفق لأفعالنا تقع مسؤوليته مباشرة علينا، وإذا قبلنا أن تكون الحياة هي ذلك الانعكاس الذي يشعرنا بما فعلنا، أو هي تلك المرآة غير البيانية، وصراحة يا ليتها كانت بيانية ونشاهد أفعالنا كما نشاهد المشاهد إلا إنسانية في فيلم ونقوم بنقدها، وقيامنا بنقدنا بشكل عير مباشر هو إحدى المهمات المطلوبة منا، والتي تخلينا عنها بعدما كانت إحدى الطبائع الأسرية المثلى، وصراحة صرنا نقوم حتى بخيانة أنفسنا، ولسنا فقط اجتحنا الغير وصرنا ننقده بلا حق إنساني، وتجاوزنا الحدود صار أوسع بكثير ما كنا عليه، فاليوم تشهد المواقع الاجتماعية ليس بيان رأي إزاء فكرة معينة، بل تجاوز الحدود الشخصية بالشكل المستمر، ونحن لسنا نقصد تشخيص الأمور والأفكار هنا بالقدر الذي نسعى فيه إلى دعم الأفكار، وصراحة أجد اليأس بلغ أقصى حدوده من إمكان العودة إلى العقلانية، ولم نعد نملك الحلول المقبولة، وإذا لم نعد نمتلك الحلول المثلى لأنفسنا، فمن الطبيعي أن نتخلى عن مشاركة الغير.

ما هي السبل إلى السير؟ طبعا السؤال لا يحتاج إلى إجابة، فالصبر ينبع من داخلنا نحن البشر، ولن تجد في إي صيدلية وصفة مناسبة للصبر، إذن نحن أمام معضلة وعلى وجه الخصوص في وضعنا البشري المعاصر، وتلك المشكلة لا حلول واقعية لها تماما، وكذلك من الندرة أن تجد لها الحلول الجوهرية، وطبيعة الحياة حياتنا تلك الأم البائسة هي لا تهتم لعوامل الصبر إلا ما ندر، فمن الصدفة أن نعثر على إنسان صبور دون اكتراث، فتلك العصامية النادرة هي وجه رجعي في الأفق العام، والذي لم يعد يعرف معنى للصبر، حيث لقد اعتاد الوضع البشري في ما بعد الحداثة وربما ما بعد بعدها أيضا، أن يضع الصبر على الطاولة ويخرج، فالحياة في نمطها الجديد هي بلا أي معنى للصبر، وهناك في نمط الحياة الجديد هذا صرحت صيغة الزمن ونمط سرعتها أبعد الحياة بعيدا عن الصبر، ومن ثم تطبع الفرد البشري على صيغ الحياة الجديدة وتداولها جعله ميالا لعدم الاكتراث إلا بما تطبع عليه، ومن أكثر الأمور التي اعتاد عليها الفرد وتطبع هي استهلاك الأشياء، ودون إحراج نجد الفرد لا يصبر حين تنفد سجائره ويقوم على الفور بشراء السجاير بعد استهلاكه ما سبق، وليقوم باستهلاك تلك ويستبدلها بغيرها، وإذا قيل في الأمثال بأن الصبر مفتاح الفرج، فالفرد يصبر على سياسة بلد رعناء، لكن لا يصبر إذا نفدت شكائره .

***

محمد يونس محمد

..........................

1- ما بعد الإنسان – روزي بريدوتي – ترجمة حنان عبد المحسن مظفر – عالم المعرفة – ص 25

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 83

في تفسير الخطاب الذي يمتلك ارادة وحرية خالصة، يكون سهم الموقف يتجه اليك، مهما ابتعدت عنه، وتلك السمة الاساس التي تمثلت في موقف الحسين في كربلاء، حيث تحدت الحرية الخالصة ذلك الكم الهائل المستعبد، والحسين ليس فقط المثال المتفرد في اطار الحرية، بل هو المثال الأول على مستوى الواقع طرح حرية الانتخاب، ورسم صورة مثالية لجدارة الموقف وحرية الرأي، وتحول موقف الحسين الى نص الحرية في التفسير الفلسفي، وبنس كبيرة على مستوى الفكر والمعرفة، وفي التفسير الموضوعي لتجسيد الأمة، نجد بالتحليل الخالص تمثل الحسين المثال الاجدر في تأسيس امة الشدائد وليس امة الرخاء، ولابد من جعل المواقف دلالة للبراهين، والبرهان في تفسير مفهوم الأمة على مستوى الفكر والواقع، لدينة امة تاريخية للإسلام، تعيش وتتنفس الاختلاف المقبول حسب تفسيرها، لكن في اطار الفلسفة الموضوعة هي تعيش اعلى نسب الخلاف، ونمت تلك الكراهية التي كانت بين جنبات ماكبث، وازدهرت عند دين الطائفة البغيض، مخالفة تلك الروحية الباهرة والتفاني والاخلاص التام، الذي تمثلت به امة كربلاء، والتي اتجهت الى الموت لتخلد ولا تزول .

اهم مفاهيم الأمة هي الارادة، ولا نعني بها تلك الارادة الالية، والتي تكون بتراكب ما بين مثلث – الدولة – المجتمع – الفرد -، فهي بحد ذات وجه غير نقي للإرادة، ولا يمكن أن تبرهن على وجود ارادة خالصة، وفي التفسير الفلسفي لا يمكن لمن لا يملك الحق أن يعطي الانصاف، ومن لا يمتلك الحرية هو يعيش في قفص الدولة والاعتقاد والاعراف، وتاريخ الامة العربية الاسلامية لا يخرج ولا يبتعد ابعد من هذا التوصيف، والتاريخ المزيف صريح اكثر من الحقيقة التاريخية، وصراحة تلك الأمة بلا نص، ولا تمتلك غير وثيقة مزيفة، واما مثال اساس الفلسفة ودهشة المعرفة وتمام الارادة الحرة، وذلك الذي وصف بالخارجي العظيم  اعطى للبشرية اعظم درس، وبرهن بالتضحية الشجاعة على وجوب اعادة انتاج الدين كافلا لمعنى الحرية الفردية بأقصى المستويات، وبالرغم انحراف الوعي الاثني وارتداده، وبث السموم الرجعية لحفظ ماء وجه اليمين الدعي، وتسخير ذلك التاريخ المزيف ضد تلك الحرية الخلاقة، وبالرغم من تقديم اوثان الجاهلية كوكلاء للرب على الارض، وأية اراضي، والتي اغلبها حسب النص القرآني مغصوبة، فجاء في الذكر الحكيم – اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى وما حولها - ، وصراحة النص العلوي لا غبار عليها، وحدد النص المواقع الموجب حريتها، فهي مكة وما يحيط بها، وما كان ابعد من ذلك، فهو احتلال حسب المؤشرات التي اوردها القرآن .

من الاسهل تفسير الحرية في حدود المفهوم، ومن الصعوبة أن نتمكن من تفسير الحرية في مستوى الواقع العملي، والحرية حسب التفسير الفلسفي الذي نؤمن به هي انتاج وليس اكتساب، ونرى لا حرية بلا ارادة، وكما نقر بانعدام الارادة اذا انعدمت الحرية الحقيقية، ولا اجد في تلك السيرورة الواسعة من التاريخ الا ذلك الوجه المشوه للحرية والارادة، وكما لا تلمس في كيان الآمة غير ذلك النفس المنفعل من خلال التزام الاعتقاد الطائفي، والتي لا توصف الا بالدين السياسي، فالنص قد تم الاسراف في تزويقه، والذي هو نتاج رجال تحكمهم النوازع النفسية، واذا كانت المسيحية بوجه اساس اسهم ذلك العدد الذي لا يتجاوز اليد الواحدة، فيما تجاوزت ذلك امة الاسلام ذلك العدد، وامة بتزويق وانعدام الحرية والارادة،  والاف من مصححي المسار العقلي والعملي للدين .

النص الحقيقي هو حرية الاختيار، وحرية الاختيار هنا هي من يوازن ما بين الدوافع النفسية والاحتكام العقلي، والحرية التي تحليلنا الى الدوافع النفسية، هي ليس الا ذلك التهور او الفوضى التي تسمى بالخلاقة اليوم، والحرية من جهة اخرى التزام بالمعنى الإنساني من خلال ارادة حرة، والتي تعمل على تنظيم الجانب العقلي والجانب النفسي على السواء، ويمكن لتلك الارادة من انتاج بلاغة سلوك تسمو به وتصل الى حد الاستثناء، لكن ذلك كله لابد أن يصب في اطار العامل الإنساني، ولا – ابدا – أن يصب في مصلحة شخصية، بل السمو على الغرض الشخصي احد السبل الاخلاقية، والتي لمسناها في الترجي من قبل نص الحقيقة المعنوية وهو الحسين للرجال بأن يتخذا من الليل الجمل الذي يوصلهم بأمان، وكما يبقي لهم ماء وجوههم، لكن جاء الجواب من جهة التلقي المثلى للنص بالصورة الابداعية الموازية للدعوة النبيلة، وقبالة ذلك الأمة بلا حرية ولا ارادة تدافع عن السجون اللغوية، والتي ارتفع ايقاعها من التلقي الموازي الى صفة القداسة، ولكن يبقى الادعاء يصب في جهة اخرى، والاصول الفلسفية ترى بأن الدين فطرة سليمة وليس وثائق مكتوبة، والتي مهدت للتمايز والتفاضل ما بين المذاهب السياسية للدين، وعدم اتباع الفطرة واتباع الوثائق المكتوبة بأيدي ونوازع بشرية هو مسار ايديولوجي، ولا يختلف عن اتباع الماركسية والاعتقاد بها، وتلك مواقف جزئية وليست مواقف تامة الا في حدود نفس الاعتقاد .

النص الذي نعنيه في تفسيرنا الفلسفي لا تصل الى حدوده الوثيقة، فهي من جهة اشتركت في انتاجها النوازع النفسية اثناء ظرف الكتابة، وكما هناك جهة ثانية تشير الى حمية الاعتقاد، والتي برع  المفكر الدكتور علي الوردي في تحليل مضامين الذات البشرية التي انتجت الوثائق، والوثيقة الحقيقية هي من تكشف الزيف وليس تستره وتزوق ما يهدف اليه، حتى رسمت صور مهينة للنبي، فمرة يتسابق في الجري مع زوجة له، واخرى تكشف الاوضاع السرية، والتي تتنافى مع الاخلاق العامة، فيما النبي جاء لإتمام  مفهوم الاخلاق، الذي قدمه لنا الفيلسوف سقراط عبر صورة فقدمت تماما في تاريخ كتابة الدين، وسقراط هو الدرس الامثل للإرادة وحرية الاختيار، وجاء الحسين ليكون ذلك المثال الابلغ جدارة في اختراق سلطة الزمن العضوي، والخروج من مسار الزمن الى مسار المعنى وبلوغ افق الرمز، فكان ذلك النص الذي انجذبت لها اللغات، فجون اشر احال الحسين الى ركن العدل الاجتماعي، فيما الالماني ماربين يرى بالحسين الدرس الامثل، اما براون الانكليزي يرى نسب الالم الجبارة يمكن أن تسقط اي بناء مزيف، وتوماس كارليل يرى ذلك الايمان الفطري بالحرية راسخ ولا يمكن فصله عن الكيان البشري للحسين، والسؤال اليس الحسين هو النص الذي استعاره التاريخ لتكون هناك قيمة مضافة للتاريخ  وبلغات شتى، لذا (إن الرجال الذي مثلوا أعظم الأدوار في العالم، كانوا رجالا قويي الإرادة، مقدرين قدر نفوسهم، ولهم الجرأة أن ينسحبوا من جمهرة الناس ويخطون لهم طريقا)1. وتفرد تفرد النص، الذي انجذب اليه التاريخ برحابة صدر، وبقي يدور في مداره الزمني .

اذا كانت الحقيقة الدينية لا تحتاج الى اقنعة او تحسين، فلماذا كل تلك الاقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى قلبه الصولجان على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية او الدنيوية، قد فصلت النظرية الدينة عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني الى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما انتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى ابراهيم بيوتا لله، سأله الرب كم من الجياع اشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة  للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك الا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد انتج له ذلك الكم من الاحاديث والروايات، والصلاة في الجامع اصبحت البديلة لصكوك الغفران، واصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت اوقات الافراد، وتقريبا انعدم الاستعداد الى الواقع العملي، وانعدمت الارادة نتيجة لوجود الية حكمت الحياة البشرية، ويقول لنجلس (يجب ألا ينظر للعالم ككيان من اشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات)2، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة .

ثمة فارق هائل ما بين الوثيقة والنص، فالوثيقة هي تكفل ذلك الافق الزمني المحدد الزمان، قبل أن تدخل في متن التاريخ بعد ما يقارب مرمر قرن على صيرورتها، واما النص فهو الوجود والموجود، والنص خارج التحديد الزمني يكون، فنحن نقرأ اليوم الالياذة ويفصلنا عنها ما يزيد على خمسة قرن، وكذلك نجد في مكتبة كتاب دانتي، وفي تلك العملية الدلالية نقف على مغزى فلسفي جعل المنحى العلمي سبيل التأهيل، والنص ديالكتيك لكن ليس وفق ذلك السياق المشترك للديالكتيك، وعملية التلقي تشعر بأنها امام فعل، وهو سلطة نفسه، وليس كالسلطة الدينية او السياسية التي تحكم الناس، والدخول الى  النص يحتاج الى فطرة سليمة، ولا يحتاج ارصدة او ممتلكات ثمينة، فتلك تفنى وتزول، وكم ازيلت من شواهد عظيمة كما يصور للناس، وكذلك ممن البس ثوب العظمة والمهابة، ارتحل عاريا ويرتحلون عراة الا من الكفن، والنص بسلطته يدور ويدور التاريخ معه، وتلك الارادة التامة ما احوجنا اليها نحن من تسير اراداتنا عرجاء، وحريتنا التي تحتاج الى ما لا يحصى من التبريرات لكي تستقيم، وحرية النص الازلي كانت ابلغ صورة، وهنا وجه الاشكال، فالبشرية تحتاج الوجه العقائدي من الحسين ولا تحتاج الوجه الإنساني، فمفهوم الإنسان ليس قائما على وجه الحاجة، بل على وجه التضحية الباسلة، ونحن ابناء الظروف ولسنا ابناء الارادة التامة الاشتراطات، وكما لسنا نحن ابناء الحرية المسؤولة المنتجة من عزيمة فطرة سليمة .

اتوسم بنا جميعا انزال لافتة الامام، واعلاء لافتة المعنى، ومن يشكل موقع الامامة هو رجل تجري عليه ما يجري علينا، لكن المعنى حتى من الصعب أن نلمسه كما نقوم بلمس الامام، وامام الامة فرصة في التحول الى عقلي عملي فاعل، وبذلك نزيح عنه الكاهل العظيم، ويستعيد ما فقد في مرحلة التقديس، وتجاوز التكريس الروحي للدين، ولابد من التحول من مفهوم ترفيه النفس الى مفهوم محاسبة النفس، وصراحة محاسبة النفس هي اخر الامور، ومحاسبة الاخرين هي التي تحتل الزعامة في حياتنا، وكذلك امتلاك رد فعل يتجاوز الفعل بكثير، والنص يشير- لا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي احسن – ونحن نذهب باتجاه معاكس، ولو تطلبت الظروف والحتميات والموقف العام الذهاب في اتجاه معاكس لأنسحب الجميع، وهذا ما يجعل الدين في حرج، وكذلك الإنسان الذي بداخلنا لا يجد النفاد الى الحرية التي قد تتاح له، فعالم العبيد هو السائد صراحة وعالم الاحرار نجده مفقودا الى حد كبير، وهذا ما فصلنا عن النص وطاقته الكبرى، حتى فقدنا الارادة المناسبة الاشتراطات المهمة للجهتين، وفقدنا نسبيا حرية الانتاج  .

في النظرية الدينية لابد أن نفرق ما بين العقل المنفتح او الحر بما يمتلك من مخرجات، والعقل المقيد او المغلق الذي لا يخرج عن حدوده، والمخرجات التي يمتلكها غير مؤهلة لأبعد من حدود الاعتقاد، وكذلك في النظرية العلمانية المقابلة ذات الطرح نجده متوافقا، ولا يقول لي العقل العلماني هو المؤسس لنظرية العقل المنفتح، ونشير هنا مباشرة الى مفهوم الحرية ومديات تشكله في العقل العلماني، فالعلمانية الرشيدة تضع نسب للأيمان بالطروحات الفكرية، ولكن النسب الاكبر للنزعة الإنسانية، والعلمانية المغلقة تقابل التدين، فكلاهما لا يصل من جهة الى الدين الحر، ومن جهة اخرى الى العمانية الحرة، وثمة مشتركات ما بين معنى الحرية في الدين ومعنى الحرية في العلمانية، ومحور المشتركات هو العامل الإنساني، لكن ذلك يوجب الانطلاق من حرية تامة، وليس هناك تأهيل اذا قدمنا الايديولوجيا الدينية او العلمانية، ونحن ازاء المعنى ولسنا ازاء الذوات، ولابد أن تسمو العلمانية والدين نحو ذلك المعنى، فدين الرجال في التفسير الموضوعي يعكس لنا ايديولوجيا من نوع المغلق، والكنيسة حرقت البشر وهم احياء لمعارضتهم لها، والاسلام السياسي خلف ماسي وضحايا، بل بلغ الى الحد الذي يوصف به بأنه قتل نفسه بنفسه، وعجيب دين الرجال يشترك به الابرياء مع الطغاة والظلمة، ودين المعنى هو ليس باعتقاد الا  عبر الفطرة السليمة، وهو حس وشعور، ولا يضع فيه العقل خانات للخصوم في الجهة المقابلة .

النص يكون افق الطرح فيه عبر الممكنات الحسية والاحتمالات العقلية، التي ليست التبريرية ولا المغلقة الاعتقاد، بل عبر القيمة والموقف، وطبيعة الحياة الحرة تحتاج الى المحفزات من جهة تصعيد الحس الإنساني، وفي المعنى الديني من اجل رفع مستوى العرفان، وهيدغر يجد العرفان هو الجوهر، الذي يعطي للنشاط العضوي طاقة خلق وابداع، وهل هناك اجمل من الابداع الإنساني، وكم هو عظيم من ابدع وبكى، كما بكى الحسين بن علي على الاعداء، فرسم لنا صورة بهية للسيد المسيح، تركناها خلفنا في دين الاعراف والتقاليد، وكما العقل الرجعي اعتبرها نمطا للأيديولوجيا الدينية، ولا تغادر ذلك التوصيف، ولا ادري حتى يقبل دين العبيد أن يفنى الاحرار جميعا، ولا يبقى اثر لسبارتكوس، ولا يرسخ ذلك المعنى الابداعي، وتلك الشجاعة والارادة الحرة، التي لا تشترط الا العامل الإنساني، ولن يكون هناك أي تأثير غير ارتداء الملابس التي تحمل صورته، واما اثره فلا وجود له في النفوس، ويبدو المجتمعات اعتادت على دور العبودية، ولم تعد تهتم لقيمة الحرية، ولا يوجد لمعناها أي اثر، والدين المغلق والعلمانية المعادلة له استمرا في التسابق لكسب مساحات اجتماعية اخرى، فالناس اليوم عبيد الاستهلاك، وما نفد يكرر بشكل مستمر، ومن يصلي بتلك الارادة الهشة يستمر في تكرار ذلك، دون أي تطوير معنوي على اقل تقدير، وكذلك من اعتاد على احتساء الخمر يوميا ايضا يكرر ويستهل حياته بلا ابداع انساني، وارضاء النفس ذلك كم نود أن يستبدل، ويكون هناك ذلك الارضاء للعقل، وحسب تلك المؤشرات البشرية فإن على المستوى الإنساني لا وجود لنتائج مرضية، وما دام افق الاستهلاك يتكرر وقدر له البقاء مستمرا، فالحياة ستكون في توصيف فلسفي اشبه بنقطة تنمو ومن جديد تتخصر نفسها، وتعاد تلك المعادلة باستمرار، واي قدر كتبت البشرية لنفسها، قدر الاستكانة والاستسلام، وكونت اكبر مجتمع للاستهلاك في التاريخ .

***

محمد يونس

............................

1- قوة الإرادة – اوريسون سويت ماردان- ترجمة يوسف شديد أبي اللمع- دار صادر- ص 46 و47

2- الفن والإنسان – محمود صبري – مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية- ص 83

سخر العلماء من الفلسفة كونها ليست أكثر من تأملات نظرية تفتقر الى التجربة، حيث وصفها العالم البريطاني الراحل ستيفن هاوكنك بانها "ميتة". لكن من المؤسف ان يكون الوصف هكذا لأن الطريقة العلمية ذاتها هي تجسيد لتفكير فلسفي برز من حقل فرعي يُعرف بـ الابستيمولوجي. تاريخيا، عملت الفلسفة مع العلوم جنبا الى جنب لتطوير فهمنا للعالم. في الحقيقة، اتخذت "العلوم" اسم "الفلسفة الطبيعية" في الشطر الأكبر من التاريخ، والعلماء يجب ان يكونوا اكثر امتنانا للفلسفة. التقدم في الفلسفة السياسية والاجتماعية ربما حال دون تصفية العلماء الذين أثاروا الاضطراب للنظم القائمة . هنا، سنفحص ثلاث رؤى فلسفية قادت مباشرة الى التقدم في الكيفية التي يعمل بها العلم.

1- فرنسيس باكون واستدعاء البيانات التجريبية:

سؤال "ما الذي يجعل العلم مختلفا عن كل شيء آخر؟" هو في الأصل سؤال فلسفي. ذلك يعني ان الفلسفة تساعد في تعريف ماهية العلم. وهذا شيء هام، لأننا لكي نتعلم حول العالم، نحتاج ان نتأكد من صلاحية الطرق التي نعمل بها. في الجزء الاكبر من تاريخ الفلسفة الغربية كانت أفكار ارسطو هي الأكثر أهمية. كانت فكرة ارسطو في العثور على الأسباب في العلوم مرتكزة اساسا على المنطق الاستنتاجي، ولذا فان التجريب لم يكن جزءاً حيويا من العلوم.

فرنسيس باكون، الفيلسوف الانجليزي والمستشار المالي لجيمس السادس  كان مختلفا عن أسلافه، حيث اعتقد بقوة البيانات التجريبية. في كتابه Novum organum وترجمته من اللاتينية (وسيلة جديدة للعلم) (1)عرض باكون بديلا للفكر الارسطي من خلال الجدال عن أهمية البيانات التجريبية. ومع ان طريقته لم تعد تُستعمل على وجه الدقة، لكن كتابه يوفر الأساس للطريقة العلمية.

فكما يتضح، باكون ذاته لم يكن جيدا في التجريب حيث (ان الالتهاب الرئوي الذي قتله ربما نتج عن تجربة تبريد استلزمت حشو الدجاج النافق بالثلج). هو احيانا قورن خطئا بنيوتن الذي راجع طرق باكون ووضعها في استعمال أفضل. غير ان أعمال باكون وجدت جمهورا متحمسا للتلقّي أثناء فترة التنوير. فولتير أطلق عليه "أب الفلسفة التجريبية".

2- اطروحة تشرتش- تورينج church-Turing والتمهيد للكومبيوتر

الحوسبة الحديثة ارتبطت بمحاولات فلسفية لتقرير أي المشاكل الرياضية يمكن حلها.ومع ان كل شخص عرف عام 1936 ما يعنيه الكومبيوتر – كائن بشري يهيء الجواب لمشاكل رياضية صعبة – ولكن ما هي المشاكل التي كان يمكن حلها بهذه الطريقة بقي سؤالا مفتوحا.

آلن تورينج أنجز أحد الحلول للمشكلة عام 1936. ورقته التي غيّرت العالم كانت بعنوان مرهق "حول الأرقام القابلة للعد، مع تطبيق لقرار المشكلة Entscheidungsproblem". من هذه الورقة، نحصل على العديد من الأفكار الجريئة، بما في ذلك "اطروحة تورينج"، التي تقول، اذا اعطيت وقت كاف، فان أي شيء يمكن تمثيله كخوارزمية يمكن حسابها. هو يجادل بان "ماكنة حساب عالمية" يمكنها القيام بهذا بدلا من الانسان.آلن تورينج كتب حله للمشكلة مباشرة بعدما قام الرياضي والمنطقي الونزو تشرتش Alonzo church بكتابة اطروحة خاصة به حول هذا الموضوع. نسخة تشرتش هي "تكامل لامبدا" lambda calculus ،وهي طريقة يمكنها ان تحاكي كل الطرق الاخرى للحساب. الاطروحة هي بالاساس ذاتها. هو ايضا وجد ان كل شيء يمكن حسابه بواسطة الانسان (او الماكنة باستعمال عمليات مشابهة) يمكن حله في عدد محدود من الخطوات يُعبّر عنها بعدد محدود من الرموز.

اتجاه تورينج يُعتقد بشكل عام هو الأكثر تفوقا – حتى بموافقة تشرتش. والأكثر اهمية هو حقيقة ان عمله اتخذ اتجاهات مختلفة للوصول الى نفس الجواب بما يؤكد صحة الاطروحة . الجدالات اللاحقة وفرت دعما آخراً. اليوم، اطروحة تشرتش- تورينج هي فرضية أساسية لعلوم الكومبيوتر التي قادت للعديد من التقدم.

تقريبا كل كومبيوتر صُمم باعتباره "ماكنة تورينج عالمية" بما يعني يستطيع إجراء أي خوارزمية يمكن حسابها. ايضا، فكرة خزن التعليمات التي سيتبعها الكومبيوتر  بشكل الكتروني وليس مادي (مثل رموز لوحة الحروف او المقابس) ايضا تعود تاريخيا الى صياغة تورينج في الاطروحة.

3- نعوم تشومسكي بدأ ثورة الادراك:

في اواسط القرن العشرين، ركزت العديد من الطرق المهيمنة على التفكير حول الذهن والدماغ على السلوك كليا. مدارس الفكر مثل السلوكية ركزت على استجابات الانسان للمحفزات والعقوبات. فمثلا، في حالة اللغة، كانت النظرية الرائدة في بداية الخمسينات من القرن الماضي هي ان الأطفال سمعوا عدد كبير من الكلمات وتعلموا استعمالها عبر التعزيز الايجابي، وعندما استعملوها بشكل صحيح، حدثت اشياءً جيدة.

هذه النظرية فقدت مصداقيتها بعد ان كتب نعوم تشومسكي أول كتاب له. هو تخلى عن النموذج السلوكي عبر الاشارة الى ان الاطفال لم يكونوا قد حصلوا على أمثلة كافية للّغة في سنواتهم المبكرة لتوضيح كم السرعة التي تعلّموا بها. بدلا من ذلك، هو يجادل ان الناس وُلدوا مع قدرات فطرية ليتعلموا لغات جديدة، وهو ما يسمى "وسيلة اكتساب اللغة". وبسبب افتراض قدرات تعلّم اللغة الطبيعية، كان الاطفال قادرين على تعلّم لغة جديدة بسرعة.

وبينما يستمر اللغويون في النقاش حول مدى ملائمة الصياغة الأصلية للنظرية، لكن النظرية أطلقت الثورة الادراكية وقادت مباشرة لما يُعرف الآن بعلوم الادراك. هذا الحقل يستخدم اتجاها متعدد الحقول لفهم الذهن الذي يحوّل الطريقة العلمية باتجاه فحص ما يجري داخل الجمجمة. وبالتالي، اثّرت علوم الادراك على العديد من مظاهر علم النفس بالاضافة الى الذكاء الاصطناعي.

***

حاتم حميد محسن

.............

الهوامش

(1) في Novum organum يضع باكون تفصيلا لنظام جديد للمنطق يختلف عن النظام القديم لارسطو. هذا يُعرف الآن بطريقة باكون. يأمل باكون ان التحقيقات التجريبية سوف تحطم الافكار العلمية القديمة وتقود الى فهم اكبر للعالم وللسماء. هو اتخذ موقفا مضادا من اتجاه ارسطو القديم في العلوم، مجادلا بوجود حاجة لطريقة جديدة بسبب التحيزات الطبيعية والضعف في الذهن الانساني، بما في ذلك التحيز الطبيعي للبحث عن توضيحات ميتافيزيقية لا ترتكز على الملاحظات الواقعية. اعتقد باكون  بالطريقة التجريبية المرتكزة على الملاحظة والتجربة في السعي للمعرفة. هو رفض اتجاه ارسطو في الوثوق بالعقل وحده، بدلا من ذلك هو دعا اكثر لنهج عملي لفهم العالم الطبيعي. ارسطو من جهته اعتقد بأهمية العقل والمنطق في فهم العالم وأبدى اهتماما قويا باستعمال المنطق الاستنتاجي للوصول للمعرفة.

ثمة فارق كبير جداً بين كوْن الإسلام (ديناً عالمياً universal religion) وإسلام الرحمة (كمفهوم كوني cosmic concept). لأنَّ عالمية الرسالة جاءت في المواعيد السياسية والإجتماعية المنتظرة لكل مُتطلِّع لفرض الاسلام (بالدعوة أو السياسة أو التنظيم أو التطبيق). وهذا التعميم هو أحد (الأشكال المقلوبة للصراع) والتي تعدل الأوضاع فيما بعد لصالح منفذيها. أي هي تستحوذ على صورة الإسلام مدعيّةً (نموجاً خاصاً) فوق كل اختلافات البشر. فشعارات العالمية بُذلت وتطايرت هنا وهناك لصالح الأفكار المحلية القُح، وغدت لوناً من التبرير الخاطف لممارسات القمع والاستعلاء. وقد باتت الأديان في هذا المضمار تتزاحم وتحشُر أقدامها محل الأخرى داخل المشاهد العالمية.

بالفعل لقد استعمل رجالُ السياسة موارد الدين لأغراضهم الخاصة، منذ حقبة الإسلام المبكر حتى اللحظة. والأمر هنا ليس مصادفةً، لكون الإسلام قد استمر متجذراً في الثقافة الشائعة، وعندما كان الحاكم يريد غلبةً إزاء الجماهير، كان عليه أنْ يتقوّى لاهوتياً من هذا الجانب. وكان عليه أنْ يستثمر الثقافة الدينية في ترويج صورته وسياساته. وحدثَ أنْ وجدَ أصحابُ السلطة تراثاً زاخراُ - لكل ما ينتوون فعله- من التفسيرات والتأويلات، وصولاً إلى استعمال المذاهب وتغليب مكانة الفقهاء على سواهم من المفكرين والفلاسفة والمتصوفة.

جميع ذلك كله كان (خدمةً مقدّسة) في بلاط الحكام المسلمين، حتى تبناها البعضُ لإدامة عمر الأنظمة السياسية أطول فترة ممكنة. يعلمنا التاريخُ العربي أنه لا يبقى أيُّ نظام حاكم صامداً من غير (حزام من التفسيرات والأحكام والفتاوى  والشروح الدينية) حول أركانه ومصالحه، حزام يوثق الأدمغة والأفكار ونمط الرؤى السائدة تجاهه، بحيث يجد النظام دعماً من الحزام الديني حائلاً دون إنهياره. وطوال الوقت، يتحكم رجال السلطة في هذا الحزام الديني تضييقاً واتساعاً، بحسب ما يرتئون منه، وقد يحولونه وقت اللزوم إلى (حزام ناسف)، حين يستشعرون تهديداً لوجودهم على رأس السلطة!!

في هذا الاتجاه، خاضت كل الأنظمة والفرق والتنظيمات الاسلامية عملية تبرير لممارساتها بالرأسمال الديني (النصوص والمصادر والأدبيات المذهبية والرموز والسير الذاتية والمعارف والتأويلات...) وتسلّحت بالأيديولوجيا وطغت عليها صور "الغلبة والغنيمة" المعروفة. تلك النزعة التي كانت ذات طابع قبلي موروث حتى الثُمالة. عندما كانت القبائل البدوية تشن غارات حربية إزاء بعضها البعض سالبةً أموالها ونساءها وممتلكاتها الخاصة. وليس هذا فقط، بل كان  الغالبُ ضمن هذا الصراع يُشّهر بالمغلوب في إطار ما يُسمى(لاهوت الحروب). وهو اللاهوت الذي ظل سارياً في بعض تفاصيل الفقه وتفسيرات القرآن ومعتقدات العامة وأنظمة المجتمعات الإسلامية.

الغريب أنَّه عبر كل مرحلةٍ كان يمر بها الإسلام، قادت (سمة العالمية) أصحاب الدعوة إلى نشر الإسلام بهذه الصورة، سواء أكانت شعارات المرحلة "الإسلام دين عالمي" أم " الإسلام دعوة عالمية" أم "  الإسلام جماعة عالمية" أم "الاسلام في الغرب" أم " الإسلام والنظام العالمي" أم " الإسلام والعولمة" أم "الإسلام وأستاذية العالم"  كما مارسَ الإسلام الساسي. وهذا ما جعل الآخرين(غير المسلمين) يحتشدون – مؤامرةً أو غيرها- ضد زحف اللاهوت الإسلامي المسيَّس. وفي المقابل تلقائياً، نشأت توجهات الإسلام فوبيا Islamphobia بين شعوب الأرض بفعل العمليات الترويج المضادة للإسلام ككل.

وهذا للدقة كان خطّاً قد اخترقَ الخطابات والممارسات الدينية، حين كانت تُستنفَر كردود أفعال نتيجة وجود الغرب على أراضي الاسلام، وكانت كذلك أشد ضراوة بصدد التعامل مع المختلف دينياً. وقد انساقت حتى أغلب خطابات التجديد وراء تلك النبرة الحماسية إن لم تكن صراحة، فإضماراً. ولنراجع كتب الأمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وكذلك مؤلفات رفاعة رافع الطهطاوي على (الإيقاع العالمي) بين الشرق والغرب، لأن التجديد الفكري الديني يردد أصداء العصر وآفاق الثقافة الجارية شاء أم أبى أصحابه. إذ سنجد خط التمايز بين الإسلام وسواه من الأديان، وسنجد محاولة المقارنة مع صور الحكم وأنظمة القوى العالمية مؤكدين على الصحوة أو التجديد بمنطق العالمية. وهي الثقافة التي ورثت طابع الجذور الاجتماعية والمعرفية للمجتمعات العربية الاسلامية، ثم اندمجت في الطابع العام للعصر ليس أكثر. ولذلك عندما يمتد الفكر الإسلامي إلى تلك المساحة، لن يجد مرجعية مفتوحة تدعمه غير الصور الأولى من التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل الأديان الأخرى.

أمَّا الرحمة كمفهوم كوني، فهي أولاً: تتحلل من تلك الموروثات المقيدة مرةً واحدةً. وثانياً: بجرة قلم وحكمةِ وجود، لن تكون الرحمة مثل المفاهيم الأخرى (كالجهاد والآخر الديني والحقيقة ودار الحرب ودار السلام) التي اجترّت العنف، فالرحمة ودوائرها الكونية قائمة على قدرتها الذاتيه خروجاً من هذا المناخ كله. وكأنَّ الإسلام ظل يقول سلفاً إن طريق (عالمية الدعوة) بممارساته الخطابية طريق مسدود، وأنَّ عصوراً لاحقة للإسلام المبكر لن تكون مفتوحة كما يظن الناس. وأن هناك إنسانية أخرى لكل عصر، تليق به مفاهيم جديدة ومختلفة خارج لاهوت الدعوة بمعناها الأيديولوجي والوظيفي. إن الله في الاسلام وضع الرحمة التي تخلق فضاءً مختلفاً، لا الرحمة التي تنزع الفضاءات المتنوعة. فالجانب الكوني من الرحمة جانبٌ قد بُسطَ إلى أقصى نقطة مفترضة. وليس هذا فقط، بل وكانت هذه النقطة داخلة في صلب الإسلام، صلب الوجود الإلهي من تلك الحدود البعيدة.

والمعنى الكوني دوماً يزيح تراكمَ التاريخ الذي تشكّل وأصبح غطاءً سميكاً حول الحياة، ويمثل بداية جديدة مع إنسانية كونية تجدد الفكر واللقاء مع الآخر. وكأنَّ الله يقول ضمنياً: إذا كان المسلمون لم يكونوا على مستوى الإيمان الحُر، فالرحمة هي التي تجُب ذلك صراحة، هي (القيامة الفعلية الحانية) لكل ترسانة الكراهية الموروثة وإساءة استعمال الإسلام من أصحابه قبل أغياره. وكان الله قد أدخل الرحمة في متن الإعتقاد، لا بطريقة التأثيل ولا التخريج لمفاهيم ونصوص التعامل مع أهل الأديان الأخرى، لكن بالاستناد إلى (ذاته الخالقة) رأساً.

ولو نلاحظ، فإنَّ الفارق السابق ليس قليلاً على الإطلاق، لكنه فارق ضخم بقدر الإلتقاء مع كل إنسانية ممكنة، لا وفقاً لمعتقدات سابقة، إنما بحسب القطيعة التي قد تحدثها الرحمة عندما تقتضي الضرورة. وهذا في الحقيقة هو أحد أسباب الاختلاف بين أنماط التدين بالإسلام من داخله، فلو تمَّ التمسُك بحرفية المعنى ومراسم الشريعة والتأصيل الفقهي، فغالباً سيكون هناك إسلام الاعتقاد الذي يخضع لمبررات المرجعيات ويظل دائراً مع تخريج النصوص والأحاديث وإعادة كتابة الأفعال والأعمال وفقاً لأصول ثابتة لا يبرحها المتدينون. وهذا النمط الغالب من التدين الإسلامي أحكم سيطرته مع ظهور المذاهب السنية والشيعية... وغيرها، فالمذاهب بمثابة آليات ومبررات فقهية لرسم صورة لكيفية التدين في حياة الناس. كما أن هذا النمط يحمل نموذج حياته الخاصة منذ بواكير الإسلام ويصعب لمتدين أن يخرج عنها إلا جزئياً.

ولكن لو كان ثمة تمسُك بالرحمة، وما يتكون حولها من أفكارٍ ومفاهيم وعلاقات وآفاق وأنماط حياة وآمال حرة، فالإسلام هو الاسلام الكوني عندئذ، إى لن يكون إسلاماً معتاداً وخاضعاً لصور بيئية ثقافية متواترة. ولن يكون إسلاماً لاهوتياً خاص بهيكل بعض المؤدلجين ولا الذين يتخذونه حربةً سياسية بمسميات شتى.

تأسيسان للإسلام

بدا الوضعُ تباعاً كالتالي: أنَّ الاتجاهين (الإسلام كدين عالمي وإسلام الرحمة كمفهوم كوني) قد خرجاً من متن الاسلام المعروف نفسه. بل التأسيسان  tow foundations قد أتيّا من مصدرٍ واحد، وقال بهما الوحي الإلهي وأكد عليهما القرآن في أكثر من سياق، ولكن الرؤية وجوهر انطلاق التأسيس مختلفان إلى حدٍ ما. وبالتالي، ستختلف المسارات والتوجهات وطرائق العمل والأهداف البعيدة. فالتأسيس الأول (الإسلام كدين عالمي) ظل معمولاً به طوال التاريخ وطوال التحولات الاجتماعية والحضارية التي كانت مهمة لتكوين الثقافة الحاضنة للإسلام كما وصلت إلينا.

كانت كل نقطة ينطلق منها الاسلام كدين عالمي تجعله وثيق الصلة بجوهر المصادر المتداولة للإسلام، وبجوهر الفهم المتداول والرسمي للقرآن وكتب الصحاح المعترف بها وكتب المذاهب الفقهية التي تشتغل على ما سبق.  وهذا ما جعل (تغيير وتطوير) طابع الفقه والتفسيرات السادة للقرآن وكتب الفكر الإسلامي بطيء جداً، بل لا يكاد يكون هناك تغيير من المنبع حتى أخر نقطة ممكنة. وعلى ذلك، فقد تكوّن سياق الفكر الإسلامي وظل يناقش قضايا التراث والمعاصرة وقراءة التراث على طريقة الكتاتيب وبأساليب الطلاء الخارجي للبيت المتوارث. وإذا حاول أحدُهم – أي من المفكرين- أنْ يخرج عن السرب، فإنَّه يناقش الموروثات في ضوء الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة بحسب وقتها.

وهذا التأسيس (اسلام الدعوة العالمية) ظل مرتهنا بالماضي رغم استعماله لمنتجات العصر، وكذلك ظل منشداً لمرجعياته كلما شعر القائمون عليه بأن هناك انحرافاً عن الأصول. بل بقيت مقولة الانحراف عن الأصول مقولة في ماهية التأسيس نفسه من تلك الزاوية. وعندما كان يحدث شيء جديد أو ما يسمى بالبدعة (كما في عرف السلفية)، كانت مقولة الانحراف تستدعي ذاتها من غير استئذان، وتظل بمثابىة الرقيب التاريخي على ربط الإسلام بمصادره الأولى. وحتى مصطلح المصادر الأولى، لم يخلو معناه وتاريخه من تماهٍ مع الثقافة والفكر الغالب بشكل عام. لأن المصادر الدينية المبكرة لم تحضر عارية وخالصة دوماً بعد هذه القرون الطوال من وجود الاسلام، فهناك تراكمات تأويلية علقت بها وحرمتها من التعبير المباشر عن نفسها. ولم تترك لها فرصة التنفس الحي بين أنفاس الناس، وبحسب تغير الأحوال والظروف المستجدة. وهذا ما يعرف بكون المصدر ينطق بالرجال كما قال الإمام على بن أبي طالب إن القرآن لا ينطق بنفسه ولكن بلسان الرجال.

وهو مبدأ غاية في الخطورة لما ينطوي عليه من معانٍ مهمة، وقد قاله علي بن أبي طالب في رده المشهور على الخوارج حين قالوا: " لا حكم إلاَّ لله " رافعين المصحف على أسنة الرماح، فقال الإمام على رداً عليهم: " القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال". والدلالة الواضحة لهذا المبدأ أنَّ عقول الرجال ومستوى وعيهم و قدراتهم المعرفية وفهمهم للآيات والنصوص هي التي تحدد الدلالات القرآنية، وهي التي تعطي النص الصامت لساناً فصيحاً أو غير فصيح للتكلم بحسب ما يريدون.

جاء هذا التأسيس التاريخي من الخلف إلى الأمام، أي انطلق من المرجعية الغالبة في كل عصرٍ إلى الفروع التي تتلقى دعماً رمزياً، وتحققُ ما تقول به المرجعية المهيمنة. وهو الشأن الذي ساد داخل كل بلاد الإسلام على اختلافها وتباعدها اتساقاً مع حركة التاريخ من الأقدم إلى الأحدث. إنَّ الحركة التأسيسية جرت مثل مجرى النهر الذي يسير من المنبع إلى المصب، ولكنها حركة لا تضمن نقاءَ مياههِ تجاه الممرات والحُقول التي يرويها. وهذا ما حدث مع الإسلام حيث حدث تلوث لمصادر الإسلام من خلال البيئات التي انطلق منها، لأن منتجي الخطابات الدينية وأصحاب الأفكار إنما يعبرون عن تجاربهم الدينية مع رؤيتهم للأصول التي تلقوها كما هي.

لعلَّ ظهور بذور التعصب والإقصاء بإسم الإسلام جاء مع هذا المجرى الطول، وإذا كان البعض يجادل دوماً بكون الإسلام لا يدعو للتعصب والعنف، فمن أين أتى العنف إذن؟! ... الإجابه أنَّ كل الأديان - وليس الاسلام فقط - لا بد أن تتفاعل مع الثقافات، وتترك عليها الأخيرة فهماً معيناً بحسب محدداتها التاريخية. والعنف جزء من طبائع الثقافة، حتى تواصل الحياة وهي البقايا التي تظل سارية رغم مرور السنوات. وسبب انتشار العنف والطابع التكراري العام للفكر الإسلامي أن الناس لا يلتفتون إلى تلك الحقيقة البسيطة جداً!!

فقد يكون ما تؤمن به أنت ليس معتقداً عنيفاً. ولكن عندما يصبح جزءاً من جهازك النفسي والعصبي وبالتالي الثقافي، سيخرج على هيئة أفكار لا تخلو من توتر وتشدد. وشئت أم أبيت، لن تستطيع القول بكونه إيماناً خالصاً، إنه عندئذ معبر عن رواسب ثقافية هي ما تتحكم فيها وفيك قبل أن تتكلم في حضورها، وهي التي تسبقك قبل أن تجيء إلى أي موقع ثقافي جديد، وهي المختزلة في أدق التفاصيل بجانب وجودك، وهي التي ستحيلك إلى علامة من واقع نظامها السابق والمهيمن عليك وعلى غيرك.

وهنا تظهر خطورة التأسيس الآخر في الإسلام (الرحمة كمفهوم كوني)، وهو جزء من تأسيس كوني قال به الله في القرآن، وينتمي إلى بنية الإسلام نفسه، ولكنه ذو طبيعة كلية عابرة لكل الحدود، ولم يسقط من علٍ ولا من موقع مجهول الهوية. وهذا التأسيس لا يخضع لمحددات الثقافة النوعية، ولم يترك فرصةً لأن يجادل المسلمون بكونه مختلفاً عما يعتقدون، لأنَّ الله حصراً ينسبه إلى ذاته قبل أي بشر: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ "(الأنعام/ 54).

هو النسب إلى النفس الذي يدرك تاريخ البشر، وهو نوع من الحوار الصامت حين يقول أحدهم كيف تكون الرحمة مع المختلفين وغير الدينيين، فسيكون الرد أن الرحمة شرط وضعه الله على ذاته، أي أن الله بإرادته المطلقة وضع شرطاً مطلقاً على نفسه. وتلك الإشكالية تثبت إطلاق الإرادة الإلهية من جهةٍ، وتثبت إطلاق الشرط (الرحمة) من جهةٍ أخرى. وأن الرحمة رافعة ضخمة لمعان وجوانب أخرى من الإسلام. إشكالية لا تدع لأي كائن وليس المسلم قصراً أن ينساق وراء دعاوى التعصب ومنع الرحمة عن مجالها الكوني الخالق. وفعل كتب الوارد بالآية، يعني : فرض وحدد ووضع ميثاقاً غليظاً: أنه لا مفر مما لا مفر منه بحكم خطورة المخلوق أيا كان وبحكم رحمة الخالق.

وتأسيس الاسلام من النقطة الكونية تأسيس جدير بالإنسانية قاطبة، وكأن الاسلام يقول إن نقاط التأسيس متحركة ومتنوعة ومازالت مفتوحة من عصر إلى آخر، ولن يضع  أصحاب العنف قيداً على الإسلام أيا كانت صورته. وهو تأسيس تفكيكي لكل تاريخ الإسلام التأصيلي بمعناه الثقافي والبيئي. وكأن الرحمة تجري حواراً أصيلاً بين جنبات الإسلام، بين ما تحقق بالفعل وما ينبغي أن يكون، بين ما جرى تشويهه وما ينتظره في الآفاق الرحبة، بين ضيق المذاهب و وسع الإنسانية الكونية.

وليس أكثر دلالة من إتيان التأسيس من دائرة الكونية، وهي الفضاء الآخر الذي تعد به صلاحية الإسلام خارج ذاته بالمعنى الأول. وليس هناك دين يمكن أنْ يتأسس على هذا الضمان المرتبط بموضوعاته الكونية التي لا يمكن لأحدٍ أن يمسكها حصراً. ولا يمكن لأحد بالتبعية أنْ ينال منها أصلاً كما يستحيل على الناس إدراك سرها. والقرآن في هذا الصدد، عندما يربط الرحمة بالذات والوسع الإلهيين، يضع دلالة الضيق في إحراج منطقي لاهوتي. وهو إحراج من صنع البشر، لأنهم عجزوا عن مواكبة مضامين نص القرآن ومعانيه.

وهذا التأسيس لا يشكل تناقضاً مع التأسيس الأول، بل يمثل أحد أساليب التجديد والرؤى المختلفة الكاشفة عن آفاق الفكر الإسلامي. فلو كانت مرجعيات الصراع قد أغلقت مجال التلاقي مع الحياة، فإن المرجعية الكونية هي الملائمة لعصر الانفتاح والإختلاف بإمتياز. باتت عملية التأسيس للإسلام من الرحمة الكونية أمراً لا مناص منه، نظراً لكونها ستقدم أفكاراً جد مثيرة للعقول التقليدية وغير التقليدية، وستضرب موعداً مع الحقائق الإنسانية. وبخاصة أن الله (وضع ذاته) مع هذه الحدود القصوى واللانهائية. لقد استبق واقع الحال إلى ما لا يتصوره إنسان.

إنَّ معاني الرحمة نقلةٌ خيالية غير متوقعةٍ في تاريخ الثقافة الإسلامية، خطوة غير مسبوقةٍ وتشكل مركزاً لثقل الحياة الحرة وزخمها. وبصريح العبارات، نصَّ عليها القرآن بشكل قاطع لا هوادة فيه، وأتى على تنويع سياقاتها ومعطياتها الإنسانية والوجودية. وليس ذلك أمراً طارئاً بحسب الظروف، لأنَّ كل ما يتعلق بالكون والإله لا طارئ فيه من الأساس. فهنا المسألة تخص الخلقَ والوجود مباشرةً، ومنطق الألوهية هو الذي يتكلمُ في تلك اللحظة الفارقة. وهو ما يجعل الرحمةَ مرجعيةً أخرى للإسلام ظلت متوارية جانباً في تاريخ المسلمين.

وتكمن الأهمية كل الأهمية في تحويل الرحمة من لاهوت الجماعة إلى أنظمة الحياة المعاصرة، ومن أنياب التوظيف إلى دلالة الحياة، ومن التماثل إلى الاختلاف، ومن الهبة والتفضُّل إلى الحق، ومن المقايضة إلى المساواة والعدالة، ومن الاحتكار إلى الإنفتاح. ولكن هل ستواصل الرحمة دلالتها متجاوزةً الخلفيات التاريخية لنشأة المفاهيم والثقافة؟! ولو حدث ذلك، فبأي معنى كوني ستعبر، وما (الرافعة القوية) التي ستنتشلها من هذا التراث؟!

***

د. سامي عبد العال

إذا كانت الحداثة بمجمل آفاقها كانت تضيع قيمة الإنسان أولا، وهو مركز وجود العالم، وأيضا هرمية الوجود البشري، وهو مثال الأخلاق العامة، على الرغم من  بعض الحيوانات قامت تنافسه، ومن مثل الكلب في الوفاء، بل أصبحت الفقمة تسألين الصغار والكبار أيضا، ونحن استثنينا الحيوانات الشرسة، والتي بعضها في السيرك يكون يمثل ويلعب أيضا، وتلك القيمة التي قد مثلها الإنسان كدور فاعل في روح الحياة ومظهرها، وكانت الحياة فيها نوع من الأمل، والأمثلة الإنسانية كثيرة، والكل يقف احتراما لها، وتلك الفلسفة المكتسبة من الفلسفة القديمة، حيث اعتبر الفرد البشري حيوانا متكلما، ولم تقل الفلسفة يمتلك عقلا راقيا في ظروفها واعتبرت أن الكلام وسيلة عقلية، وفي هذا الجانب تجاوز البشر الصفة الحيوانية، وبالتدريج صار يكتسب الصفة الإنسانية، ووقف كثيرا يدافع عنه، وفي الثقافة اهتم بها من خلال الفن والأدب، واجتماعيا يدعمها ويشير لأي فعل إنساني، لكن الحداثة عندما وصلت أقصى آفاقها، والذي هو آخر عصر للحداثة، وقد سبقت بعض الموضات التي تمثل عصر ما بعد الحداثة عصرها، وقد أثرت تلك الموضات في جعل فكرة الإنسان أن تخرج من إطارها للتحول إلى إطار آخر، والإطارية لا نقصدها بنفسها، بل في تمثيل جوهري، وصراحة اثرت تلك الموضات في اطر شخصية، وليس في الافق العام، والذي هو مثال، ولا وجود لشخصية تمثله بشكل كامل، والتغير لا بد من أن  يؤثر على المبدئية الإنسانية المتعددة، والتي تشابه الافق الغيبي، لكن هي اطارها بشري، ولم تتمكن الحداثة بذلك حفظ المعنى الإنساني، وتشابه المعنى بالأفق الغيبي جعل الحداثة عاجزة بشكل نوعي.

هل نقر بأن المعنى الإنساني اختفى تماما في عصر ما بعد الحداثة وزال مفهومه، واعتقد رضينا أو لا نرضى الأمر أصبح بصيغة مختلفة كثيرا، ففقد الفرد البشرية الهرمية التي كانت تميزه، وأيضا فرضت الظروف الجديدة عليه التخلي عن مركزه والذي هيمنت عليه الأشياء والحاجات، وصارت هي البديل للفرد البشري، حيث إن العالم اختلف بعدما كان عالم الإنسان أصبح عالم الحجات والأشياء، والحاجات نفسه تغيرت بعدما امتد إليها أفق العولمة، وصارت الشركات مثال الإنتاج بدلا من الدول الأساس التي كانت صيرورة الإنتاج فيها، وإذا فقد الفرد البشري قد فقد هرميته، وأصبح موقعه كمركز للوجود يخلو منه، والحاجات هي التي تقوم نيابة عنه، واستبدال البشر بالحاجة هو بحد ذاته أمر مهين، لكنه قد تحقق وبسهولة نستدل عليه، والحاجة إذا تكون ليس توازي قيمة الإنسان، بل أصبح الإنسان أدنى منها قيمة، فالحياة أصبحت بصورة مختلفة، وصراحة هناك آثار سلبية عاشتها الحداثة، وهي أصلا ضد المعنى الإنساني، فجريمة قتل حيوانات برية تسمى رياضة، فذلك الامر مثير للأسى، والطبيعة المنعدمة اخلاقيا في هكذا نوع – رياضة-، التي (مقبولة شعبيا يبرهن على الصفة الفطرية للذة في القتل يقدم شهادة على الموقف الساذج الى حد كبير في السلوك الاجتماعي)1، وطبعا تنحدر القيم الإنسانية الى ادنى الحدود، اذا يعتبر ذلك القتل اللذيذ رياضة، ولا يعتبر جريمة اخلاقية تتنافى تماما مع اصول اخلاقيات المجتمع، وتتنافى مع القوانين والاعراف في حماية الحيوان، وكان الاجدى أن يكون بدلا من حماية الحيوان من الانقراض، أن يقدم معنى حماية الحيوانات من القتل، وبالرغم من قيام  بعض الدول بتنفيذ حمالات نسبية لمنع صيد الحيوانات، والامر يقودنا الى ما اخزى واكثر الما، حيث اليوم البشر يقتل البشر بدم بارد لوجود اختلاف ايدولوجيات سياسية او دينية.

من الطبيعي أن نؤمن بوحشية الحرب، وندرك أن الحرب آفة مشوهة لا تبرد نارها حتى لو استعلت نار الألم البشري بين الجنبات، وتصرخ الحياة مستغيثة أن تتوقف وتهمد نيرانها، لكن الدول نتتبع خيط الأيدولوجيات لوجدناه فتيلا وليس بنسيج أفكار مقبولة في الأفق العام، فالسياسة صراحة جحيم لا يحتاج إلى عود ثقاب في وجه الانفعالات السياسية، وأخط ما يكون من تأثيرات لذلك الجحيم البارد أحيانا هي اختراقه لبنية المجتمع الطبيعي، وصراحة تفسير مدى خطورة ذلك ليس بالسهل، لكن كمن يضع في قنينة عسل أحد السموم، فالمجتمع الطبيعي أولا هناك فطرة عامة تلزمه، وثانيا هناك قانون اجتماعي يفرض عليه الالتزام به، وثالثا هناك أعراف عامة تمنع المجتمع الطبيعي من الانهيار، وتلك أركان المجتمع العام أو الطبيعي، وإذا انهار أحدها تأثرت الأخرى بشكل بالغ، والحمية البشرية هي فطرية وليست كما الحمية السياسية فهي ملوثة، وهذا الاختلاف لا بد من أن  يستمر ولا يتوقف، فهو إحدى سمات عزل سبيل أمثل إنسانيا عن سبيل التلوث والاستغلال والهدم، فتداخل المتناقضات يعني أن يكون المعنى الإنساني استغل ببشاعة ووضاعة، أو هدمت مقوماته الأصيلة الحيوية في عدة وجوه إنسانية، والتي بوجودها تقل آفاق العنف وتنخفض نسبة تضخم الذات، وينحدر انفعال النفس البشرية السلبي حتى الحدود التي يمكن من خلالها يكون البشر بصفاء روحي مقبول، فيما العكس يعني أن العامل الإنساني في خطر، والحياة لا تحتمل إلا التوافق والتالف والمحبة الصافية والعرفان والإيثار، ومن دون ذلك تكون في حساسية شديدة، وتجد هناك ركنا سينهدم، وحتى لو كان في شخصي فنحن لا نرضى أو نقبل بانهياره، فالفرد مثال للحياة، وهو شبكة من علاقات متعددة، وجميعها ستتأثر طبعا، ونحن كما نراهن على المعنى العام، كذلك نهتم بأفق خاص، فذلك الأفق الخاص عبارة عن شبكة علاقات متعددة المعنى، ولا يمكن أن نجزم بأن المعنى الإنساني مفقود كلي في مجمل العلاقات ولا اثر له، ولا بد من أن نتجاوز فكرة العام والخاص في تفسيرنا.

العالم الواسع المترامي في أفقه العام إلى أقصى الحدود من التضاريس كان في التفسير الموضوعي للوضع النفسي بين الإيجاب أو على العكس، ولكن هناك نموا للعامل الإنساني في بعض الحالات، فشخصي قريب إلى نفسك قصي وبعيد يحضر وتلتقي به، من الطبيعي هنا يرتفع المؤشر الإنساني، وهذا ما يعزز في النفس الراحة النفسية، ومن الطبيعي أيضا المسافر بالقطار أو بالحافلة يشعر بأناسه حين يواجه الطبيعة الجذابة بصريا، والنفس البشرية تشعر براحة كبيرة تعزز جوهرها الإنساني، وأما في إطار ما بعد الحداثة فقد تغيرت الأمور فقد أصبح ذلك العالم المترامي قرية عصرية، وصار من خلال التطورات الإلكترونية الهائلة التحول من أفق المشاهدة العضوية إلى مشاهدة مرئية، وطبعا لسنا مع الوضع السابق للبشرية وأيضا لسنا ضد الوضع الحالي، بل نحن نهدف إلى عرض وتحلي كل وضع وما هي امتيازاته وسماته وأثره، وصراحة محنة الإنسان أصبحت واسعة جدا، وهي ببعد شخصي، وأما في البعد العام فقد تختلف الفكرة فكريا، فالبعد العام هو بعد مفهومي وهو صراحة بلا معيارية محددة، ويتبدل حسب الموافق التي تمثل المفهوم في سلوكيات لا يمكنها رسم المفهوم بدقة، وذلك احد الاشكالات التي وقفنا عليه، ففي تفسيرنا الموضوعي ليس لدينا تأكيد على وجود توافق كلي بين المفهوم واثره في الواقع، والحياة هي بدورها تختلف من معنى الى اخر ايضا، وليس من الممكن تحديد المفهوم ولا حتى اثره في الواقع ايضا.

***

محمد يونس محمد

..................

1- تشريح التدميرية البشرية، أريك فروم، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، منشورات أفكار، ص 221

الأنظمةُ الاجتماعية المُرتبطة بتاريخ الأفكارِ قائمةٌ على دَلالاتِ اللغةِ تَوَاصُلِيًّا وثقافيًّا ورمزيًّا، وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ تُمثِّل شَرعيةَ الجَوهرِ الوُجودي للمُجتمع، وتُجسِّد مَشروعيةَ الفِعْلِ الاجتماعي الذي يَرتكِز على المعايير الأخلاقية في تفاصيل الحياة اليومية، مِمَّا يُسَاهِم في تَكوينِ مَنهج تحليلي للرابطة المصيرية بين الوَعْي بالماضي وإدراكِ الحاضر، ومُساعدةِ الفرد على أن يَكُون نَفْسَه بعيدًا عَن مَتاهةِ الأقنعةِ وشَظَايا الأزمنةِ. وإذا كانَ طريقُ الفردِ نَحْوَ تحقيق نَفْسِه يَمُرُّ عَبْرَ استعادةِ أحلامه المَقمومة، فَإنَّ طريقَ المُجتمع نَحْوَ الاندماج الثقافي يَمَرُّ عَبْرَ تفجير طاقة اللغة. وهذان الطريقان يَحْمِيَان الفِكْرَ الإنساني مِن التناقضات الحياتية الناتجة عن أنماط الاستهلاك المادي، ويُؤَدِّيَان إلى تَشييد مَصادر المعرفة على قواعد البناء الاجتماعي، بِحَيث تُصبح المعرفةُ سُلطةً حاكمةً على البُنى الوظيفية في مراحل التاريخ، التي يَتِمُّ تحليلُها وَفْقَ الرَّمزيةِ اللغوية، والدِّينَامِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ، والعَقلانيةِ المُنفتِحة، وهذا يَدفَع باتِّجَاه إعادة صِياغة العلاقات الاجتماعية، كَي تُصبح مُنْسَجِمَةً معَ فَلسفةِ تَحرير الفَرد مِن الخَوْف، ومُتَوَائِمَةً معَ شخصية الفرد الإنسانية، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً مَعرفيةً لِتَوليدِ التاريخِ بشكل مُستمر، وكُلُّ وِلادةٍ جَديدةٍ للتاريخِ على الصَّعِيدَيْن اللغوي والشُّعُوري، تُمثِّل هُوِيَّةً جَديدةً للفِعْلِ الاجتماعي، باعتباره بَصْمَةً وُجوديةً في إفرازاتِ الواقعِ المُعَاشِ، ولَيْسَ أداةً للهَيمنةِ على كَينونةِ الوَعْي الحُرَّةِ، وبيئةِ التفكيرِ الحَيَّةِ.

2

الجُذورُ الفلسفيةُ للأنظمةِ الاجتماعيةِ مُتَدَاخِلَةٌ معَ الفِكْرِ الإنساني، لَيْسَ بِوَصْفِه إفرازًا مِيكانيكيًّا للأحداثِ اليَوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ، بَلْ بِوَصْفِه قُوَّةً دافعةً للعقلِ الجَمْعِي القادر على تَحويلِ سُلطةِ المعرفة إلى صِناعةٍ للواقع، الذي تَكتشِف فيه الرَّمزيةُ اللغويةُ آثارَ التفاعلاتِ الثقافية بَيْنَ تاريخِ الأفكارِ وجُغرافيا الحُلْمِ الإنساني مِن جِهَة، وبَين جَسَدِ المَعنى الوُجودي وتَجسيدِ هُوِيَّة المُجتمع مِن جِهَة أُخْرَى. وإذا تَغَلْغَلَت الرَّمزيةُ اللغويةُ في البِنَاءِ الاجتماعي، واندمجتْ معَ الشُّعُورِ والإدراكِ، فإنَّها سَتُؤَسِّس مَنَاهِجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تَحويل التجارب الشخصية إلى اكتشافٍ دائمٍ لِمَاهِيَّةِ الفردِ كّذَاتٍ إبداعية في الظواهر الثقافية، وكَوُجُودٍ مُتَحَرِّر مِن الانقطاعاتِ التاريخية الناتجة عن المصالحِ الشخصيةِ وسِيَاسةِ الأمْرِ الواقع. وإذا كانَ التَّحَرُّرُ بُؤْرَةً مَركزيةً للإبداعِ في الذاكرة الجَمْعِيَّة والمَصيرِ المُشْتَرَكِ للأفراد، فإنَّ الإبداعَ إعادةُ تَكوينٍ لِمَنظومةِ التَّحَرُّرِ مِن مَنظور العقلِ الجَمْعِي ومَنْطِقِ اللغةِ. وهذا التشابكُ يُوضِّح الدَّوْرَ الوظيفي للفردِ والمُجتمعِ في بُنيةِ التاريخ العميقة، لَيْسَ باعتباره مَاضِيًا لا يَمْضِي فَحَسْب،بَلْ _أيضًا_ باعتباره كَينونةً مُتَشَظِّيَةً لا تَنتهي، وصِرَاعًا مُستمرًّا على تأويلِ اللغةِ والواقعِ.

3

جَوهرُ الأنظمةِ الاجتماعية يَستمد أهميته مِن قُدرته على التمييزِ بَين المَعرفةِ والمَصلحةِ، وتَوظيفِهما ضِمْن مَسَارَاتِ العقلِ الجَمْعِي المُتَحَكِّمِ بالتَّنَوُّعِ الثقافي، والمُسيطِر على تأثيراتِ الفِعْلِ الاجتماعي، والمُهيمِن على آلِيَّاتِ التأويلِ اللغوي داخل هُوِيَّةِ المُجتمع. والعقلُ الجَمْعِي لَيْسَ انعكاسًا آلِيًّا لِسُلطةِ المَعرفة، وإنَّما هو إعادةُ إنتاجٍ لهذه السُّلطةِ بَين تأثيراتِ الفِكْر الإنساني وتفاصيلِ الحياة اليومية، مِن أجل بناءِ مراحل العملية الإبداعية على اللغةِ والذاكرة، باعتبارهما تحليلًا مُزْدَوَجًا لِصُورةِ المُجتمعِ وانعكاسِه في الأفرادِ. وإذا كانَ تاريخُ الأفكارِ تحقيقًا لِوُجودِ الفردِ نفسيًّا وسُلوكيًّا، فَإنَّ العقلَ الجَمْعِي تَحقيقٌ للواقعِ المُعَاشِ مَعْنًى ومَبْنًى. ويَنْبَغي عَدَمُ وَضْعِ حَدٍّ فلسفي فاصل بَين وُجودِ الفرد والواقعِ المُعَاش، فَكِلاهُمَا يَنتميان إلى وَعْيٍ مُشْتَرَكٍ بالزَّمَنِ وإرادةِ المَعرفة، ويَكشِفان كيفيةَ انبعاثِ الرَّمزية اللغوية في الفِكْر الإنساني، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْمٍ لِتَعقيداتِ الحاضرِ ضِمْن مَركزيةِ الوَعْي بالماضي، وتفكيكِ أنساق المَاضِي ضِمْن مَرجعية إدراك الحَاضِر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يقال عنه بأنه عالم غريب لا يُعرف عنه الكثير حتى الآن، ولكنه بدأ ينتشر بشكل كبير في أوروبا وخاصة بريطانيا، حيث يريد عدد من الرجال البالغين أن يكونوا "كلابًا"، يرتدون أزياء الكلاب المصنوعة من اللاتكس والجلد ولديهم علاقات مع عمال من البشر، والمتحمسين لها يقولون إنها ليست دائمًا مسألة جنسية ولكنهم يريدون فقط أن يعيشوا حياة الكلاب، ووصل عدد المنخرطين بظاهرة "الكلاب البشرية" في بريطانيا وحدها 10 آلاف فرد.

والكلاب البشرية هم بشر على هيئه كلاب يلبسوا ويتعاملوا مثل الكلاب بالضبط معظمهم من الرجالة وابتدأوا ان يظهروا في الوطن العربي بكثره وبالأخص في مصر والسعودية ولبنان والأغرب أنهم بكامل قواهم العقلية والأكثر من هذا  يصل راتبهم الشهري لأكثر من 7000 دولار.

ففي عام 2016 أخرجت منصة Firecracker وثائقيا تحت عنوان " الحياة السرية للكلاب البشرية Secret life of the human pups لنرى وثائقيا فريدا من نوعه، فهو يرصد الروتين اليومي لحياة مجموعة من الكلاب، لكنه مع ذلك لا يشابه وثائقيات الحياة البرية والبحرية الشهيرة، فأنت هنا لن تشاهد أسدا يفترس غزالة، ولن ترى معاناة اصطياد سمكة التونة العنيدة، لكنك بدلا من ذلك سترى مجموعة من البشر يرتدون أزياء جلدية ضيقة، ويعتمرون أقنعة كلاب فوق رؤوسهم، ويشمون على أربع، ولا يصدرون إلا النباح.

هم بشر في الهيئة، لكنهم يعرفون أنفسهم بوصفهم كلابا، شأنهم في ذلك شأن بشر يعرف نفسه كإمراه أو امرأة تتفاخر بأنها تنجذب فقط للنساء، فما حكاية هؤلاء الكلاب البشرية ؟، ومن أي رحم خرج هذا السقط المقزز إلى عالم الإنسان؟

ففي حوار لصحيفة The Guardian البريطانية مع أحد المستكلبين، والذي يدعى " توم Tom  " أو سبوت Spot"، قال هذا الكلب البشري أنه يستمتع بعيش حياة الكلاب، ولو بشكل جزئي، فهو لا يقلقون بشأن المال أو الطعام أم العمل، ولا تشقيهم أي من مشكلات الإنسان المعهودة، مما دفعه لتعريف نفسه بوصفه كلبا، مرتديا بدلة جلدية بيضاء فيها نقط سوداء، وقناعا على هيئة رأس كلب.

إلا أن المفارقة الأكبر هي أن رعيته، كانت خطيبته التي رفضت إتمام زواجها به، ولكنها لم تجد غضاضة في رعايته ككلب، بل أدى ذلك للتقارب بيهم بصورة أكبر، كما يزعم هذا المستكلب، والذي لا يمثل نفسه وحسب، وإنما يعبر عن نفسه عن عشرة آلاف بشري، يعيشون حياة الكلاب في بريطانيا، فضلا عن آلاف آخرين يعيشون في أنحاء أوروبا ليشكل ظاهرة فريدة من طمس الفطرة، والتي لم تحظ بقبول واسع في أوروبا حتى الآن، بالرغم من قبول متحولين آخرين طمسوا فطرتهم واختاروا لهم هوية غير التي خُلقوا عليها.

والسؤال الآن والمهم: أين ومتي بدأت ظاهرة الكلاب البشرية؟، وما أسباب ظاهرة المستكلبين أو الكلاب البشرية؟، وما قصة الرجال مقطوعي الرأس وعلاقتهم بظاهرة الاستكلاب؟

إن البشر الكلاب والبشر مقطوعي الرأس، وأمة العيون الواحدة.. مخلوقات غريبة ما بين الأسطورة والتاريخ، وهناك روايات تاريخية عن هذه المخلوقات منذ العصور القديمة وإلى العصور الوسطى، تحديدا بالمناطق النائية وفي أماكن شتى من العالم. ولعل هذه الوفرة في الروايات من ناحية الزمان والمكان وتعدد مصادرها هي التي أسبغت على الموضوع نوعا من الواقعية بعيدا عن عالم الأساطير، أو بالأحرى دفعت الباحثين للتنقيب والبحث عن الأصل الواقعي للأسطورة.

ودعونا نبدأ رحلة حديثنا من العصور القديمة، فقد جاء ذكر الرجال مقطوعي الرأس ( Headless men ) على لسان هيرودوت في تاريخه، وذلك في معرض حديثه عن الأقوام الساكنة في ليبيا القديمة، فزعم وجود هذه المخلوقات في الجزء الشرقي من البلاد إلى جانب مخلوقات غريبة وقبيحة أخرى كالبشر الكلاب وإنسان الغاب المتوحش.

وفي السياق ذاته ذكر المؤرخ اليوناني "بليني الأكبر" في تاريخه الطبيعي قبيلة ( بليميا Blemmyae ) وعدّهم من قبائل شمال أفريقيا وقال: (ليس لديهم أي رؤوس، وأفواههم وعيونهم تقبع في صدورهم )، وقيل بأن هذه القبائل تقطن في أثيوبيا، وأما المؤرخ سترابو فقال جاء على ذكرهم أيضا، حيث قال بأنهم مسالمين ويعيشون في الصحراء الشرقية بالقرب من مدينة مروي في السودان. وفي الواقع كانت هناك بالفعل قبيلة تدعى بليميس عاشت جنوب مصر وخاضت حروب عدة ضد الرومان.

وهناك صورة من مخطوطة اوربية قديمة لعالم اللاهوت الفرنسي صموئيل بوخارت تطرق إلى كلمة (البليميا) وقال بأنها مشتقة من مصطلحين أو كلمتين عبريتين معناهما "بلا دماغ". مما يعني أن شعب البليميين كانوا بشرا بلا أدمغة.

وخلال عصر الاستكشاف، تحدث المستكشف والمغامر الانجليزي السير والتر رالي عن رجال مقطوعي الرأس أطلق عليهم أسم ايوايبانوما، وذلك في معرض حديثه عن رحلته الاستكشافية إلى مقاطعة غوايانا في فنزولا، وأستشهد كذلك بما ذكره بعض الرحالة الأسبان الأوائل في كتبهم.

أما البشر الكلاب، فشعب الأزتيك في المكسيك كان يؤمن أيمانا مطلقا بوجودهم، زعموا بأنها وحوش تقتل الصيادين، وآمنوا بأن هذه المخلوقات التي تسمى نجويل (Nagual ) تسرق الجبن وتغتصب النساء لكنهم لا يقتلون أحدا ما لم يتعرض لهم.

والسؤال الآن: هل ظاهرة الاستكلاب لها علاقة بأسطورة الاله انوبيس الفرعوني؟

أغلب الظن أن معظم تلك الأساطير مستمدة من أشكال الآلهة الفرعونية القديمة، خصوصا انوبيس، أله الموتى الذي يتجسد في هيئة إنسان برأس أبن آوى، وكذلك حابي، وهو أحد أبناء حورس الأربعة الذين يحرسون عرش اوزيريس في العالم السفلي، والذي يظهر بهيئة إنسان برأس قرد البابون، وهو شبيه بالكلب طبعا. ومن وحي هذه الأساطير المصرية القديمة ظهرت أسطورة البشر المستكلبين (Cynocephaly ) فذكرت المصادر الإغريقية القديمة أن هؤلاء البشر هم أقوام متوحشة تسكن الهند وتستوطن الجبال العالية، وقالوا بأن هذه الأقوام أو القبائل تتواصل مع بعضها عن طريق النباح وتعتاش على الصيد. أما المؤرخ الشهير هيرودوت فقد ذكر بأنهم من الأقوام التي تستوطن شرق ليبيا القديمة، وقد تطرقنا لهذا أنفا.

وهناك نقش قديم للقديس كريستوفر، فالكثير من الناس في العصور القديمة كان يؤمن بأن هذه المخلوقات موجودة حقا، لا بل هي كانت حقيقية في نظرهم إلى درجة أن جدلا طويلا ثار حول كونها من نسل آدم وحواء أم لا.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أن بظاهرة الاستكلاب ربما لها علاقة بأسطورة المستذئب الاوروبية ؛ فالإيمان بوجود البشر الكلاب أستمر خلال العصور الوسطى في أوروبا، ولعل أسطورة الرجل الذئب (Werewolf ) مستمدة أصلا من أسطورة الرجل الكلب.

ومن الأساطير الغريبة الأخرى التي تطرقت لها المصادر القديمة هي تلك التي تحدثت عن مخلوقات ذات عين واحدة، وهي مخلوقات كان لها شهرة واسعة لدى الإغريق والرومان، وعرفت بأسم سايكلوبس (Cyclops )، وقيل بأنها من جنس العمالقة ؛  وهناك أسطورة أخرى عن ذوي العين الواحدة، وهي تتحدث عن الشقيقات غراييا، وهن ثلاث شقيقات ساحرات كن يتناوبن النظر بعين واحدة، كل واحدة منهن كانت تنتظر دورها لتأخذ العين وتنظر بها.

كذلك المصادر التاريخية القديمة تحدثت أيضا عن وجود أمم من ذوي العين الواحدة، قيل بأن قبيلة منهم كانت تعيش جنوب روسيا وتدعى اريماسبي (Arimaspi )، وهي قبيلة سكيثية من المحاربين الأشداء وكانت في حرب مستمرة مع جيرانها. في الفلكلور الألماني هناك أيضا محاربي الهاغين المرعبين. وفي ايرلندا هناك العملاق بالور الذي يموت في الحال كل من يجرؤ على النظر إلى عينه الوحيدة.

كذلك وردت العديد من الإشارات إلى وجود هذه الأمم الغريبة في كتب الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين. فلقد ذكر الشيخ الجغرافي العلامة العثماني محيي الدين أبن محمد الريس الذي تـ عام 962 هـ في خرائطه أن بأمريكا الجنوبية: (أمم من الناس وجوههم في صدورهم وليس لهم رؤؤس وطول الواحد منهم سبع أشبار وبين عينيه مسافة شبر وهم غير مؤذون وأمم أخرى وجوههم وجوه الثعالب والكلاب).

وقال العلامة زكريا القزويني في كتابه كتاب (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) في قسم – أمم غريبة الأشكال – قال منها – أمة (منسك) وهم في جهة المشرق لهم أذان مثل أذان الفيلة وكل أذن مثل كساء (وهم الذين طولهم وعرضهم سواء) –ومنها- أمة في جزائر البحر وجوههم مثل وجوه الكلاب وسائر بدنهم كبدن الناس يتقوتون بثمار الأشجار وأن وجدوا شيئا من الحيوانات أكلوه –ومنها- أمة لا رأس لأبدانهم وأفواههم وعيونهم على صدورهم).

وقد ذكر خبر هذه الأمم التي لا رؤوس لأبدانهم أيضا في كتاب (المعارف) وقال: (ثم ملك التُبع العبد بن أبرهة وهو ذو الأذعار سمي بذلك لأنه كان غزا بلاد النسناس فقتل منهم مقتله عظيمة ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم في صدورهم فذعر الناس منهم فسمي ذا الأذعار وكان هذا في حياة أبيه فلما ملك أصابه الفالج فذهب شقه قبل غزوه وكان ملكه خمسا وعشرين سنة).

من كل ما سبق يمكن القول  بأنه لأجل هذا تباينت التفسيرات النفسية لوصف هذه الحالة، فبحسب تقرير لشبكة سكاي نيوز العربية، يرى العديد من الخبراء النفسيين بجامعة لندن، أن هؤلاء المستكلبين مصابون باضطراب شخصي الاجتنابي، والذي من أعراضه احتقار الذات وتعذيبها، إضافة بالشعور بالعجز والدونية، والشعور بعدم حب الآخرين بهم، والذي بدا جليا في تصريح أحد المستكلبين " كل الناس بحبون الكلاب فإذا أصبحت كلبا، فسيحبني الجميع ".

وإلى جانب ذلك فإن عددا من التفسيرات النفسية الأخرى برزت في هذا السياق، فوفقا للباحث " ليام ويجنال" فإن الداقع الجنسي المنحرف قد يؤدي بالمرء للعب هذا الدور، وهو دافع شديد الصلة بالمازوخية وحب الإهانة والإذلال، وفيه يمنح الشخص نفسه مملوكا كشريكه الجنسي يفعل به ما يشاء، إلى جانب تفسيرات أخرى، كالرغبة في الهروب من الواقع، فيما يًصطلح عليه بـ" مساحة رأس الكلب"، والتي يتخلى فيها المرء عن بشريته هربا من المسئولية، ورغبة في العيش كشيء لا يفكر ولا ينشغل بمشكلات.

وهي الحالة التي يعبر عنها أحد المستكلبين بقوله" إن كانت كلبا، فأنت لست ملزما بالتعامل مع أحد كإنسان أو بوصفك مكافئا له تحت مظلة القواعد الاجتماعية للبشر؛ كما يمكنك أن تقفز على المارة أو تتودد لهم للحصول على مكافئة، دون أن تشعر بالعار أو الخجل.

وبالنظر إلى هذا التحور المتطرف من المسئولية، فقد نجد أن التفسير النفسي وحده ليس كافيا لفهم هذه الظاهرة، وأننا بحاجة إلى نظارات أخرى ذات عدسات أكثر ارتفاعا، حيث يرى الفيلسوف العدمي الكبير " أرثر شوبنهور في كتابه " الحياة إرادة وتمثلا"، أن الحياة تتأرجح كبندول بين الألم والملل، فلا شيء أكثر ولا شيء أقل، وكل شيء آخر محض عبث، وفي حياة كتلك تكون اللذة هي مركز الحياة ومحورها، فهي المهرب الوحيدة من وطأة الألم، والمنقذ الوحيد من دوامة الضجر.

لكن الحقيقة أن الحياة التي عبر عنها شوبنهور لم تكن إلا حياة الإنسان العلماني الحديث، ذلك الإنسان المتحرر من الدين، المفارق للإله المنغمس في الطبيعة حتى النخاع، فهو وحده إله نفسه، ولا شيء فوقه، وهنا  تحديدا ينتهي الإنسان.

يذكر الدكتور سامي عمري في كتابه " العلمانية طاعون العصر" أن هذا التغيير الجذري في هوية الإنسان المتعلمن كسر في الإنسان تركيبته وحوله في زمن سيطرة اللذة إلى شيء بسيط ذي بعد واحد أملس بلا تنوءات، باهت بلا ألوان، مكرر بلا تميز، يعيش في خديعة كبرى اسمها الحرية ؛ حيث يفعل ما يريد وينمغس في كل جديد، بينما هو في الحقيقة إنسان مدجن تجذبه اللذة وتحركه.

من هذه النظرة يمكننا أن نفهم لما نجد أن كثير من المستكلبين مثلي الجنس، وثنائي الجنس، فبحسب تقرير " ليام ويجنل Liam Wignall بمنصة " Discovery Society فإنه خلال مقابلاته مع المستكلبين وجد 30 شابا مثلي الجنس أو ثنائي الجنس مما دفعه ليرى أن الاستكلاب نوعا من النشاط الجنسي الغريب، وكأنه امتداد لخط الشهوة واللذة الذي لا نهاية له، والذي يتطلب  تجربة كل جديد بحرية لا سقف لها، فما دامت القيمة مفقودة والمعنى من الحياة مسلوبة، فإن اللذة هي المسعى والملاذ.

ومع ذلك فإن محاولة تفسير الاستكلاب على أنها اضطراب نفسي تضعنا أمام سؤال مهم: ما الفارق بين إنسانا يعرف نفسه كلبا وبين رجل مكتمل الذكورة يصر على أن إمراه ؟، ولماذا يرى المجتمع الغربي هؤلاء مرضى ومضطربين واعتبر الآخرين أحرارا يمارسون حقوقهم ؟

في الوثائقي الكبير المثير ما هي المرأة ؟، حاول الباحث "مات ولش Matt Walash " طوال ساعة ونصف أن يقدم بنا تعريفا محددا وواضحا للمرأة، إلا أنه أراد تقديم ذلك من خلال المجتمع الأمريكي، وذلك من خلال العديد من المختصين الطبيين والنفسيين والاجتماعيين ليجد أن الحصيلة النهائية صفر ؛   نضاب تام، بل وهجوما شديد في بعض الأحيان، فلا أحد يريد تعريف المرأة ولا الرجل، بل ربما لم يصبحوا قادرين على هذه التفرقة من الأساس.

كان هذا الأمر مغايرا تماما عندما نقل " مات والش" بعض دقائق من رحلته لقبيلة بدائية بأفريقيا، فلم يحتاج سؤاله أكثر من ثواني ليجد إجابته واضحة بينة على لسان الجميع، فالمرأة هي من خلقت أنثى، الأمر بهذا الوضوح.

خلال هذا الوثائقي يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى ظاهرة الاستكلاب، ونعيد السؤال: لماذا هؤلاء مرضى ؟، بينما الآخرون أحرار؟، هل لأن الهوية البشرية ما تزال صلبة وواضحة حتى في الغرب السائل، بينما الهوية الجندرية والجنسية  تكمنت منها السيولة بشكل تام ؛ هل لأن ظاهرة الاستكلاب صدمة عنيفة لهذه العلمانية السائلة، وكأنها صفعة على وجهها تخبرها إلى أي مدى دمرت العالم، وهتكت معايير الحياة، فيكون رصدها هنا محاولة لتبرئة جنابها؟

لا بأس، فقبل عقود، كانت المثلية جريمة ذات عقوبة، وبيست محض مرض يوصم صاحبه بالاضطراب، والآن هي في أعلى هرم الحقوق والحريات، وفي هذا يخبرنا " Zygmunt Bauman أن الحياة الاستهلاكية السائبة، قد جعلت العالم كله موصوعا للاستهلاك، وهنا تنقلب الحياة إلى ركب متسارع على الرمال المتحركة، فكل استهلاك يصحب وراءه استهلاكا آخر، وما دامت القيمة فإن ما هو مستقبح اليوم، سيكون مقبولا غدا، الأمر يتوقف فقط على عدد الداعمين له، فالإنسان الغربي صار إله نفسه وكلما كثرت الإلهة غلبت بعضها بعضا، وبهذا يكون التغير هو الثابت، ويكون اللايقين هو اليقين الوحيد كما يقول باومن Bauman أيضا، فالفارق بين ضبابية تعريف المرأة في المجتمع الأمريكي المعلمن ووضوحه في المجتمع الإفريقي التقليدي هو الفارق بين مجتمع تأخذه العلمانية رويدا رويدا إلى الهاوية رغم حضارته المادية، ومجتمع تحافظ عليه الفطرة من الخواء والاندثار، إلا أنه ليس ثمة ضامنا لهذه الفطرة إلا الدين، فلو ضربت تحديث هذه القبيلة البدائية، فربما تسيل مفاهيمهم ونراهم يرتدون أزياء الكلاب يوما، فلا مانع من اللذة إلا القيمة، وقيمة في العالم يغير الله.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

....................

المراجع

1- عبدالله صلاح: المستكلبون... ظاهرة غريبة تغزو أوروبا، النيل اليوم للنشر 57:45 م

2- مركز رواسخ:  !الكلاب البشرية.. انحطاط جنسي لم يكن في الحسبان، يوتيوب.

3- مريم بدر الدين: سر ظاهرة "الكلاب البشرية"فى أوروبا، اليوم السابع، الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020 12:18 م

4- أحمد السيد: البشر الكلاب، والبشر مقطوعي الرأس، وأمة العيون الواحدة.. مخلوقات غريبة ما بين الأسطورة والتاريخ، نوفمبر 15, 202162845

متى تتحقق كونيّةُ المعنى في الاسلام؟!.. استفهامٌ بالغ الأهمية إلى درجة كبيرةٍ، لأنَّه قد يأخذنا بعيداً عن تنظيرات العقائد والمذاهب، وكذلك يمثل سُؤالاً مختلفاً يبحث عنه الآخرون. إذْ كثيراً ما تساءل أهل الأديان عن الجانب الذي لا يخصُ المسلمين من أنفسهم، وعما يُعطّىَ من حياتهم إلى الحيوات المغايرة لدى كافة البشر. أي أنَّه إذا كان الإسلام قد ترك تراثاً وفهماً معيناً للحياة وقد أخضعهما البعضُ للتوظيف، فماذا عن الحقائق والمعاني المعطّاه منه للإنسانية قاطبةً؟ وبخاصة أننا داخل عصر يُجري (جرداً يومياً) لما يرتبط بطابعه الكوني، ولما يعتمل في توجهاته النوعية نحو الإنسان.

لأول وهلة، الرحمة في الاسلام موضوع مضمخ بإمكانيات إنسانية واعدةٍ، هي مفهوم طارد لكل نزوع نحو التسلط والعنف إنْ وجدا. تقع الرحمةُ في الإسلامِ خارجَ حُدود الجماعةِ والسلطة والحياة التقليدية، حتى أنَّه يستحيل لمفرداتٍ كهذه أنْ تتحكم فيها بسطّاً أو قبضاً. وكذلك تُمارس الرحمةُ دورها خارجَ (وضعية الدين ذاته) في واقع البشر. لدرجة كونِّها تغدو فكرةً مثيرةً للتعجب والإدهاش إذا ما تمت مقارنتُها بأية مفاهيم دينية غيرها، لأنَّها تخالفُ المعتقدات العامة كأجهزة إنسانية ذات طابع رقابي وفقاً لطبائع الثقافة، ولأنَّ الرحمة تناقض صراحةً ممارسات المسلمين وأيديولوجيات الاسلام السياسي على السواء. وستزداد الدهشة إتساعاً في حالة لو قُورنت دلالة الرحمة بتصورات البشر وطرائق تفكيرهم تجاه الآخر.

هذا الوضع للرحمة بمنطوق القرآن: "وما أرسلناكَ إلاَّ رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107) يعني وحدةَ الرسالة والغاية ارتباطاً بالإنسان أيّا كانَ دون تفرقةٍ. إذ يؤكد القرآن على هدف الوحي قصداً: هذه الرسالة التي تخرج من نفسها إلى غير ذاتها. تخرجُ من بيئتها التي نزلت فيها إلى فضاء الحياة الرحب بألف ولام التعريف، بل وستقف -متى انطلقت- ضد معقلها لو حاول اجراء القيود إزائها. إنَّها عندئذ رحمةٌ ذات طابع كوني لكل الحيوات المتحققة والمتخيلة، ولا أقل من ذلك. وربما وجه الإدهاش أنَّه في آفاق الرحمة الكونية، يُوجد مَنْ ليسوا بمسلمين ومَنْ ليسوا بمؤمنين، ويوجد كذلك مَنْ ليسوا حتى بشراً مثل: الحيوانات والكائنات والأشياء المادية وغير المادية والأشياء الواقعية والمفترضة.

يفيد الإستثناءُ في الآية (...إلاَّ رحمةً للعالمين) إطلاقَ العنان للمعنى (كقاعدةٍ كليةٍ)، حتى أمسىَ قانوناً وراء (قدرة التراحم)، وقد وضعها في حيز الإمكان الدائم طالما هناك مخلُّوقٌ. بل والمُسلم مطالبٌ بها مادام يتنفس حياةً بين أقرانه وبين غير أقرانه، ذلك باعتبار أنَّ الرحمةَ mercy مُعطّاةً للإنسان كإنسانٍ وممنوحةً للكائن ككائن. وهو ما قد ترجُوه سلوكياتُنا العامةُ من (صلاحية كونيةٍ) تجاه العالم وأنماط العيش في المجتمعات المعاصرة. وحْدُها الرحمة يمكن أنْ تقدم جديداً لكل البشرية من تلك النافذة. إنَّ معانيها سَتُعرِّف العالمَ إلينا نحن البشر بمجمل اختلافاته الثقافية والدينية، كما لو لم يُعرف من قبل.

ليست الرحمةُ في الإسلام فكرةً مجردة، لكونها تكسرُ حدود العقلانية بمستوياتها المنطقية والصورية. وليست وسيلةً، لكونها لا تستهدف غاية معينةً إلاَّ الرحمة ذاتها، وليست إطاراً ثقافياً، لأنها تحطم الإطر الدينية والبشرية المعروفة. وليست الرحمة هبةً، لكنها قانون كوني ممنوح سلفاً من الله، وليست موضوعاً خاصاً، لأنها لا تشترط ذاتاً يراها أو يقوم بمنحها ومنعها إنْ أرادَ.

الرحمة: (الرؤية-الأسئلة)

في الاسلام، لا ترتهن الرحمةُ بحالة خطيئةٍ وخلاص (الديانة المسيحية)، ولا برفع اللعنة وإنهاء الشقاء الأنثروبولوجي نحو حياةٍ سويةٍ (الديانة اليهودية)، ولا حتى ترتهن بالرضا والقبول بعد غضبٍ إلهي مقدَّس (بعض الفقه الإسلامي)، وليست مشروطةً بالانتماء لجماعات دينية (علاقات الجماعات الاسلامية مع سواها). الرحمة عمل يُقارب (فعل الخلق والوجود) بالدرجة الأولى. ولذلك لا تقتصر الرحمة في الاسلام على خانةِ الآداب العامة ولا الواجبات المنتظرة من المؤمنين، إنما هي (العطاء الإلهي- الإنساني) بلا نهايةٍ، العطاء الآخذ لكلِّ المعاني الممكنة والمستحيلة في تاريخ العفو والغفران.

إنَّ الرحمة ممنوحة دون مقابل لجميع الكائنات باختلافها. وليس متصوّراً أنْ تهبط الرحمة أو أن تُمارّس بعيداً عن تلك الدلالة الكلية. فلا يعنيها الجزئيات هنا أو هناك، لأنَّ الأخيرة كوقائع أو أحداث تظل مشمولةً بكل رحمة تلقائياً. وإذا كانت الرحمةُ تلامس الحدود القصوى لوجودنا، فمن بابِ أولى أنْ تدخل فيها الحدود القريبة داخل المجتمعات الواحدة.

وبخاصة أنَّ (كلمة العالمين الواردة بالقرآن) كلمةٌ تقصد جميع المخلوقات الظاهرة والباطنة، القريبة والبعيدة، الماضية والقادمة. أي لا تستهدف الرحمةُ إنساناً هو الكائن الأبرز، بل تتوجّه إلى كائنات أخرى هي الأخفى. ومن ثمَّ، فالسؤال المُثير للتفكير: لماذا يوجد مفهومٌ (يَخصُ) ديناً بعينه، ثمَّ (يُعطّى) إلى الإنسانيةِ قاطبةً خارج أتباعه؟! ولماذا تكسر الرحمةُ (إطارها المقيّد تاريخياً) بخلاف المفاهيم الدينية الأخرى؟! حتى أنه جاء في دلالة الرحمة أنَّها تذهبُ إلى: الكافر والمؤمن، العاصي والطائع، الصديق والعدو، المحبُوب والمكرُوه، الأموات والأحياء. هكذا فإنَّ الرحمة مفهوم كوني سيهدِّم (بنص القرآن نفسه) الحدود الدينية والوجودية الموضُّوعة لهذا المفهوم ولمن يؤمن به أيضاً. يقول الله في القرآن منسوباً إلى ذاته: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ" (الأعراف/ 156).

قولُ القرآنِ عن النبي (رحمة للعالمين) هو (إقرار واعتراف) بصفح مفتوح أمام الخلائق جميعاً. بينما الله كمصدر هو الرحمن بصيغة المبالغةِ، فالنبي بما يحمل من رسالةٍ ومن مرحلة ختام الأديان التوحيدية كانت مهمته: أنْ يكون رحمةً بتأكيد اللفظ. لدرجة أن ماهية الرحمة ستعبر عن النبي والفكرة والهدف في (صورةٍ كلية). وستضع أتباع نبي الاسلام حتى اللحظة أمام أنفسهم وأمام التاريخ الذي تحقق. فلو لم تكن الرحمة واردة على النحو الكوني، فما كانت سوى صرخة على العسف واساءة استعمال الدين. إنَّ الدين نفسه يحتج من داخله، الرحمة بذرة ذات قدرات خاصة لتفكيك ترسبات هذه الاستعمالات المضادة لمعناها.

وتباعاً ستقفُ الرحمة في الإسلام بمفردها (مفهوماً حُرّاً) ضد كل المذاهب وحتى ضد نماذج الإسلام الأخرى. وهذا يتم وفقاً لطبيعة الرحمة ذاتها المُشتقة من فكرة الإله الخالق (الرحمن) والفعّال لما يُريد. ومن ثمَّ، فهناك قاعدة تقول: إمَّا أنْ تكون رحمةً للإنسان والمخلوقات هكذا دون شروطٍ أو لا تكون من حيث المبدأ. لأن الرحمة مثل الإيجاد من عدم كفعل إلهي على الأصالة. أي تمثل (هبة الوجود) باطلاق المعنى، وهذا ما يجعلها تطال كافة الموجودات، فالوجود يعني الرحمة، لأنَّ الموجودات جميعاً بها فعل الإيجاد على نحو أو آخر. فالسر الكامن في الرحمة- هكذا يجب إقرار الفكرة – هو معنى الله (الرحمن الرحيم).

الرحمة في الإسلام تلامسُ المادة والحيوان معاً، إمرأة دخلت النار (في هرّة عذبتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش الأرض)، ورجل دخل الجنة (بسبب كلبٍ قد سقاهُ، حينما وجده يلهث عند بئرٍ ويأكل الثرى من العطش)، وقد تبلورت هذه الفكرةُ راهناً في جمعيات (الرفق) بالحيوان وفي أخلاقيات البيئة والتنوع البيولوجي والطبيعي.

ومن طبيعة الرحمة، تأتي مستوياتُ المعنى[1]: الرفق والقبول والشفقة واللين والرأفة والحنُو والحب والإحسان والإنفتاح والحرية والتواضُّع والسمُو والتجاوز والنعمة والهبة واللطف والإنقاذ والإهتمام والمشاركة والرعاية والحماية (الرحم) والفيض بالجديد (الميلاد) والتلاحم والتراحم والتشارك. وليس ذلك بطريقة التدرج من (الشفقة) مثلاً إلى (الرفق) ومن (الحنو) إلى (الحب)، لكن الرحمة تُمارِس ما هو مستحيل impossible (فعل الرحمة كلياً من غير شروط without conditions)، حتى يتحقق كلُّ مستوى آخر. فالرحمة تَجمع (ما لا يُجمع بالضرورة) داخل فضاءِ عملها العام.

لقد عَرِف اللهُ أنَّ البشر لا يعطون إلاَّ بحدودٍ معينةٍ، فكان هو الرحمن بلا حدود، أي واهب الرحمة لكل البشر. وعَرفَ أنَّهم خَطَّاءون، فكانت الرحمة لا تُخطئ أية نقطة من مساحتها الكلية، وعرف أنهم يأثمون، فجاءت الرحمة فعلاً غير قابل لتأثيم أي عمل، وعَرِفَ أنهم سيعودون إلى الكراهيةِ، فكانت الرحمة غفراناً مطلقاً. فهي (فعلٌّ كليٌّ) قد خرَج لتوِّه من تحت سيف الأحكام الأخلاقية، ذلك لكونها تهدم عن قصد تصنيفات الأخلاق: (الخير/الشر، العدل/الظلم، الإحسان/ الحرمان، اللين/ القسوة) وأسسها الأوليّة.

وإذا كانت بأضّادها تتمايز الأشياءُ، فالرحمة لا ضدَّ لها إلاَّ الضد النسبي في جزءٍ من دوائرها فقط. الشقاء، البُؤس، الهم، القسوة، العدوانية، الاقصاء.. فهذه الكلمات نقاط جزئية في (معنى كلي)لها. وهذا نظراً لكون الرحمة شاملةً وغير مشروطةٍ، إنَّ إستثناء الدلالة الكونية هي القاعدة العامة لشيءٍ لا قاعدة له في الإسلام إلاَّ باطلاق فعل الرحمة. فالرحمة تقفُ في المطلق دون مكافئ ولا مقابل ولا معادل إلاَّ ذاتها من حيث كون الإله (الخالق الرحمن) بلا ضدِّ. ففي جميع السرديات الدينية، يمثل الشيطان عنصراً مخْلُوقاً من الوجود لا مساوياً لله، حتى وإنْ دخل في ثنائية (الإله/الشيطان). والتخابث والنفث في الروع وايقاع الشرور (الشيطان).. هي أمور مختلفة عن الخلق كنتاج للرحمة (الإله).

ثمة أسئلةٌ فلسفية إزاء الرحمة: هل تحمل الرحمة تقليلاً من شأن الشخص الذي يتم رحمته؟ هل الرحمة تضمر إهانةً نتيجة موقف مزري لشخص ما يستحق الرحمة؟ هل يعد استحقاق الرحمة إنسانياً خالصاً دون أثرٍ ملاصق؟ هل الرحمة تُعطي فرصةً للآخر لأنْ يعوض موقف الضعف (موقف الرحمة) بالانتقام والثأر لاحقاً؟ ما علاقة الرحمة بنماذج التعامل مع الآخر: الصفح، الغفران، التسامح، قبول الآخر، التعايش؟ وما علاقة الرحمة بالأيديولوجيات والمذاهب والنحل؟ لماذا يقال شعبياً للتعبير عن قوة شخص إزاء شخص غيره (إنّه تحت رحمة فلان)؟

لماذا ترتبط الرحمة بدلالة الخالق؟ وهل عندما يدعُو الله إلى الرحمة يجعل (القائم بالرحمة) جزءاً من وجوده الخالق؟ أي يغدو إنساناً خالقاً على مستوى خطير من الفعل الإستثنائي؟ فلا يقدر على الرحمة كلُّ إنسان مثلما لا يقدر على عملية الخلق إلاَّ الله. أنْ نرحم الآخرين معناه أنْ نملك (قدرة إلهية) معطّاة لنا، وربما هي المناسبة الوحيدة في الإسلام التي يسبع فيها الله على الفرد مكانته العُليا حينما يرحم أخاه الإنسان وأخاه الكائن.

هل الله في الاسلام ضمن الرحمة يعطي الأولوية لكونه خالقاً واجداً لا معبوداً فقط؟ وهل حين يصل العبادُ إلى درجة البؤس تكون الرحمة خالقة بالمعنى الوجودي والإلهي مرة ثانيةً؟ وإذا كان الخالق مطلقاً، فهل ستكون الرحمة مطلقة كذلك؟ هل دلالة الخلق (الخالق) في الرحمة مقدّمةً على دلالة الدين فيها (التكليف)؟

لقد غَيّر الإسلام (عامداً) دلالة الرحمة عن اليهودية والمسيحية، وهناك ثلاثةُ مستوياتٍ لكلمة الرحمة في هذا الإطار:

مستوى القانون- الطبيعة: فالرحمة تكون لجميع الكائنات (ظاهرةً وباطنةً) أو لا تكون رحمةً إطلاقاً. إنّها قانون كوني ذو أبعاد إنسانية طبيعية من واقع الحال، ورغم كونها تتجاوز (ظواهر التاريخ)، إلاَّ أنها تحريك أحداثه لأجل الإنسان. تعدُّ الرحمة بهذا (قانونية القانون legality of law)، فلا تخضع لقواعد في عُرف البشر ومعتقداتهم. أي ليس هناك نظام قانوني يؤكد أنَّ كل مبادئه غير سارية المفعول في موقف من المواقف. فما بالنا إذا كانت الرحمةَ تقف خارج هذه القواعد!!

ولذلك ستكون الرحمة في سياقات الإنسان موضوعة قيد العمل باستمرار، فعندما تغلق كل الطرق وتمتنع قدرتنا على القبول والتفاعل، ستحل الرحمة لفك عقدة الوجود الإحراجي بين الناس. فالتناقض قد يبلغ مداه ويستحكم بقوة، وليس ثمة طريق لرأب الصدع. هنا ستكون الرحمة من جنس الأزمة، وكما ستكون الأخيرة مستحكمة، ستأتي الرحمة بلا حد. إنها الحل الأخير باطلاق حيث تظل أعلى من أي شيء آخر. إنها بهذا الشكل الورقة الكبرى المطروحة.

مستوى المعنى: تقدم الرحمةُ معنى الإله الخالق (ارتباطاً بالله الأحد الفرد الصمد) على كافة المعاني الأخرى المتداولة مثل: الحسيب والرقيب والمنتقم والجبار والواثق والماجد والمتكبر والعزيز. أي أنَّ هناك مستوى وجودياً لكلمة الرحمة (أنطولوجيا الرحمة)، لدرجة أنه بالوقت الذي تعبر فيه عن العطاء، تشيرُ أيضاً إلى طفرة الوجود بامتياز. والمعنى هنا لا يتوقف عن التطور، فإذا كان الناس يصنعون آلهتهم كما يحبون على حد قول أرسطو، فالرحمة نوع من رفع اليد عن الجانب الإلهي. لأن معناها المفتوح لا يحتمله بشر وقد لا يتصوره الناس بالطريقة ذاتها. وستكشف الرحمة من هذا الصنف عجزاً عن العيش الآدمي، حيث ستضع الإنسان في مكانه الطبيعي لا أكثر ولا أقل.

مع أنَّ الفكرة بسيطة هي: رحمة بلا شروط، فهل يتصور إنسان أنَّ هناك شيئاً بلا شروط، أن هناك معلولاً بلا علةٍ!! العقل نفسه مصمم آلياً باحتمالات الشروط التي يفرضها على ذاته. ولكن التناقض أنه هو الذي يفرض الشروط وهو نفسه من يحاول التحلل منها.. فكيف يحدث ذلك؟ أما منطق الرحمة إذا كان لها منطق، فهو منطق يفترض التحلل من كل شيء سابق أو لاحق، إذن لن يكون مصدرها محدوداً ولن تكون لها غاية. والمصدر والغاية بالنسبة لعقول البشر هما شقا الرحى الحقيقيان اللذان يستنفدان طاقة البشر طوال الوقت. عليك أنْ تتصور مقدار طاقة من يقول بالرحمة دون هذين الشقين الإحراجيين. ربما التفكير في الرحمة كموضوع كوني يفتح المجال لإثبات أفكار ومعانٍ لم تكن معروفة، ولإثبات طاقات بشرية لم تكن قابلة للتفتح من تلك الجهة.

مستوى الفعل: الرحمة تعبر عن فعل بلا مقابل ولا عائد ولا استغلال ولا علاقات قوة، فمن يَرحَم لا ينتظر شيئاً من أحد. وهي تلغي فكرة المقايضة وانتظار المقابل، تعطل (عن إرادة) حدود الشرائع والقوانين والعادات والتقاليد بين البشر، لأنها تعمل خارج تروس الكراهية والصراع. فلكي تشتد الكراهية تحتاج كراهية مقابلة من أطراف أخرى، بينما الرحمة تذهب من غير كراهية إذن: ماذا سيكره الإنسان عندما لا يجد كراهية مقابلة؟!

إنَّ أخطر شيء في تاريخ المجتمعات البشرية هو وجود أطراف متقابلةٍ تتصور أنها مغروزة في وحل الصراع قبل أنْ تولد. وأنَّه لا محيص لها سوى السير في الاتجاه نفسه الذي سار عليه أسلافها. ويبقى الصراع ناشباً أظفاره في كيان هذه الأطراف، كأنَّه قدر تاريخي لا محل له من الإعراب، ولا مهرب منه سوى إدامة الاشتعال دون طائل.

***

د. سامي عبد العال

...................

1- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000)، ص 336.

2- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)، ص 498.

"الانسان هو مقياس كل شيء" -  بروتاغوراس

واحدة من بين أكثر المعتقدات شيوعا بين الناس حول الأخلاق هي الفكرة بأن مختلف الأوقات والثقافات لها معايير أخلاقية مختلفة جذريا. هذا الافتراض يعطي دفعا قويا للنسبية الأخلاقية. النسبيون الاخلاقيون يعتقدون ان الثقافات والافراد والاوقات كلها تختلف في قيمها الأخلاقية الاساسية، وان النسبية هي أفضل توضيح لتلك الاختلافات. النسبيون الأخلاقيون ايضا يؤمنون بان كل الرؤى الأخلاقية هي متساوية في الصلاحية لأن كل ثقافة او فرد يخترع أخلاقه الخاصة به.

الافتراض بان مختلف الأزمان لها معايير أخلاقية مختلفة يمكن رؤيته ايضا في موقف يسمى الحاضرية الاخلاقية moral presentism(1)، والذي يؤكد اننا يجب ان لا نحكم على الماضي باستعمال معاييرنا الاخلاقية الحالية. فمثلا، الكوميدي الامريكي بل ماهر Bill Maher ذكر مؤخرا ان كولومبس ارتكب الفظائع، "لكن الناس في ذلك الوقت كانوا أغلبهم فظيعين". هو جادل بان حكمنا على كولمبس او واشنطن هو مثل "لوم نفسك لأنك لاتعرف ما تعرفه الآن عندما كنت في سن العاشرة". رؤيته هي انه من غير الإنصاف الحكم على الماضي من منظور حالي أكثر نضجا. وبينما هناك اختلاف بين النسبية والحاضرية، لكنهما كلاهما يطرحان هذا الافتراض الشائع والعرضة للتساؤل بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الأخلاقية. هذا المقال يرفض هذا الافتراض عبر الجدال بان القيم الاخلاقية الاساسية لا تتغير مع الزمن والثقافة، ونحن الناس الحديثون لم نعد اكثر أخلاقا من أسلافنا. الطريقة الصحيحة للنظر الى التاريخ هي ليست برفض أخطاء الماضي من خلال القول انها امتلكت معايير مختلفة، ولا الحكم عليها باستعمال معايير أخلاقية جديدة. لدعم هذه الرؤية، سوف نطرح ثلاث مغالطات يستعملها النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية.

1- النسبيون والحاضريون يضخمون الاختلافات الاخلاقية ويقللون من قيمة التشابهات الاساسية بين مختلف الازمان والثقافات.

المشكلة الاولى بالادّعاء ان الاخلاق تتغير مع الزمن والثقافة هي انها ليست كذلك، طالما ان اسس الاخلاق لا تتغير. الناس الاخلاقيون في كل الازمان يسعون لتقليل المعاناة غير الضرورية، وخلق نظام، واشاعة الانصاف، والتعامل مع الناس باحترام. يسوع وبوذا،مثلا، يستحقون التقدير ليس لأنهما حديثون وانما لأنهما عاشا بانسجام مع معايير أخلاقية لازمنية.

الادّعاء الرئيسي الذي يمكن الدفاع عنه هنا هو انه من الخطأ الاعتقاد بان هناك اختلافات اخلاقية اساسية بين مختلف الاوقات والثقافات. في (أخلاق للمبتدئين،2022)، يتفق بيتر كريفت Peter Kreeft ويجادل بان المحتوى الضروري للاخلاق عبر الثقافات والازمان لم يتغير كثيرا.

"لا أحد نجح في خلق نظام للقيم كانت فيه العشوائية، الانغماس بالذات، الانانية، القسوة، عدم الانصاف، القوة، الكذب المتعمد، الغطرسة والسخرية والتعالي هي الفضائل، بينما الحكمة والتحكم بالذات، والتضحية والشفقة والعدالة والتعقل والصدق والتواضع كانت شرورا. من المستحيل سايكولوجيا ممارسة الالتزامات الاخلاقية لتجسيد مجموعة الشرور في القائمة الاولى او الشعور بالذنب عند العيش في مجموعة الفضائل في القائمة الثانية"(ص21). حتى نيتشة و اين راند لم ينجحا في تحويل القسوة والكذب الى فضائل او تحويل العقل والتحكم بالذات الى شرور. الشيء الاكثر أهمية هو اننا لا نستطيع الهروب من حقيقة ان تلك هي فضائل اساسية وشرور واسعة الانتشار، وان اولئك الذين يضخمون الاختلافات الثقافية بين الثقافات او الافراد يفشلون في الاقرار بذلك.

وهناك دليل آخر يدعم الادّعاء بان الاسس الاخلاقية لاتتغير مع الزمن. انه من المعروف جيدا ليس كل شخص في القرن الثامن عشر والتاسع عشر اعتقد ان العبودية شيء جيد، ولكن في الحقيقة هناك كان دائما مصلحون اخلاقيون يرفضون العبودية في وقتهم. ليس صحيحا القول ان كل شخص قبل القرن التاسع عشر اعتقد ان العبودية جيدة، بل انه ايضا من عدم الاحترام لدعاة إلغاء العبودية الذين جادلوا ضد العبودية في زمانهم. بعض الناس احتجوا دائما على العبودية واستمروا على ذلك اليوم(هناك الكثير من العبيد في العالم حاليا مقارنة بالماضي).

باختصار، معايير الاخلاق الاساسية لم تتغير. واذا كان صحيحا ان العبودية كانت عقيدة للغالبية في التاريخ، فان الالتزامات الاخلاقية الاساسية لتقليل المعاناة والتعامل مع الناس باحترام هي ليست جديدة. لكن فقط عدد قليل من الأبطال في كل فترة زمنية يتّبعون هذا القانون الاخلاقي الذي كُتب في قلب كل كائن بشري.

2- النسبيون والحاضريون يفشلون في التمييز بين القيم الاخلاقية الرئيسية والثانوية.

الخطأ الثاني الذي يرتكبه النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الازمان والثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية، هو انهم يفشلون في التمييز بين القيم الرئيسية والثانوية. وبينما هم على صواب بان بعض القيم الاخلاقية تتغير، لكنهم يفشلون في ملاحظة ان القيم الثانوية فقط هي التي تتغير وليس الرئيسية. القيم الاخلاقية الرئيسية هي القيم الاساسية (والعالمية) التي توجد قبل ان ننطلق للتفكير منها، بينما القيم الثانوية هي نتاج القيم الرئيسية بالاضافة للتفكير . فمثلا، الناس الاخلاقيون يتفقون على قيمة الاخلاق الرئيسية في تقليل المعاناة الغير ضرورية، واذا ادركوا لاحقا ان لقاح بوليو polio يقلل من المعاناة، عندئذ هم يجادلون انه من واجب الاخلاق الثانوية الحصول على لقاح. يجب ملاحظة انهم لم يخترعوا الالتزامات الاخلاقية الثانوية بل هم اكتشفوها: هم اكتشفوا ان لقاح بولو يقلل من المعاناة غير الضرورية، وهكذا لديهم الان طريقة جديدة لإنجاز القيم الاخلاقية الرئيسية (اللازمنية) في تقليل المعاناة. القيم الاخلاقية الرئيسية لا تتغير مع الزمن او عبر الثقافات بينما القيم الاخلاقية الثانوية تتغير.

انظر ايضا في تضحية الانسان. العديد من الناس المنخرطين في التضحية الانسانية لديهم معتقدات مختلفة، وليست قيم اخلاقية رئيسية مختلفة. هل انت تعارض التضحية الانسانية لو انت اعتقدت في إله أمر بالتضحية،وان هناك العديد من المنافع الناتجة عن التضحية مثل المطر للغلات الضرورية لحياة بقية الناس؟ مرة اخرى، عدم اتفاقك مع اولئك الذين مارسوا التضحية الانسانية هو على الاغلب عدم اتفاق حول الحقائق الواقعية والقيم الاخلاقية الثانوية المرتبطة بها، وليس عدم اتفاق حول القيم الاخلاقية الرئيسية.

في (عناصر الفلسفة الاخلاقية،1986)، يستعمل جيمس راشيلز مثال الاسكيمو الذين احيانا يقتلون الاطفال الرضع.  يبدو كما لو ان الاسكيمو كانت لديهم اخلاق مختلفة، قبل ان نفهم بانهم في بيئة قاسية  ليس لديهم الموارد الكافية لإطعام كل شخص. المرأة في الاسكيمو تسمح بموت طفلها لأن البديل وهو – موت الاطفال الكبار – كان أسوأ. مرة اخرى، اختلافنا الاخلاقي الظاهر مع الاسكيمو هو ليس اختلاف في القيم الرئيسية، لأننا كلانا نشعر بالالتزام في رعاية الاطفال. الاختلاف يبرز بسبب مختلف البيئات والادّعاءات الواقعية الناتجة اثناء العمل. في هذه البيئة القاسية، انت يُحتمل ان تختار التضحية بطفل لتنقذ طفلين آخرين أكبر سنا.

ولو أخذنا مثالا حديثا، عندما لا يتفق شخصان حول التزام اخلاقي للحصول على لقاح، هما عادة يتفقان بانه من الجيد تقليل المعاناة غير الضرورية، لكنهما يختلفان حول الادّعاءات العلمية. فمثلا، جون يريد الأحسن لابنه، لكنه لايؤمن بالالتزام الاخلاقي في ان يحصل ابنه على لقاح لأنه يعتقد ان اللقاح سيؤذي ابنه. في هذه الحالة، مرة اخرى، الاختلاف الاخلاقي الظاهر بين المؤيدين والمعارضين للتطعيم هو حول الادّعاءات الواقعية، وليس حول ادّعاءات القيمة الرئيسية.

باختصار، معظم الاختلافات الاخلاقية بين الأزمان والثقافات هي ليست حول القيم الاخلاقية الرئيسية وانما هي حول الادعاءات الواقعية والقيم الثانوية. الحقيقة هي اننا نشترك بقيم اخلاقية اساسية مع أسلافنا. وهذا لايجب ان يكون مدهشا طالما نحن نفس المخلوقات على نفس الكوكب. ولايجب ان يكون مدهشا لو وجدنا انفسنا نشترك بجذور اخلاقية مشابهة مع انواع حيوانية اخرى.

3- النسبيون والحاضريون يعتقدون خطئا ان مختلف الازمان لها معايير اخلاقية مختلفة جذريا  لأنهم يعتقدون خطئا ان الحاضر اكثر تقدما اخلاقيا من الماضي. معظم الناس الحديثين يعتقدون ان العالم الحديث هو افضل اخلاقيا من الماضي لأن عدة دول ألغت رسميا العبودية وعمالة الاطفال والشرور الاخرى. لكن دعونا نعالج مشكلتين بالادّعاء ان الحاضر افضل اخلاقيا من الماضي.

اولا، في (الارثودكسية،1908)، يجادل شيسترون G.K.chesterton ان اولئك الذين يعتقدون بان الحاضر اكثر تقدما عادة يقولون ان الناس يجب ان "يفهموا ويتكيفوا مع الأزمان"، لكن هذا ليس اكثر فائدة من القول "انسجم مع الساعة الثالثة مساء الخميس بدلا من الساعة الواحدة مساء الجمعة". الزمن هو فقط رقم، ولا فائدة من الطلب للناس ان "ينسجموا مع الزمن". هل يجب ان تنسجم مع الالغائيين او مالكي العبيد في زمانهم؟ او في الزمن الحديث، هل تنسجم مع الاخلاقية النباتية او مع اخلاق آكلي اللحوم؟  كيف يمكن للمرء "الانسجام مع الزمن"، عندما يحتوي الزمن دائما على رؤى متناقضة؟

لذا بدلا من الدعوة لـ "الانسجام مع الزمن" التي تعني احيانا "الانسجام مع الأغلبية"، يجب على المرء ان يدعو الناس للانسجام مع الضمير، الذي يحاول تقليل المعاناة غير الضرورية والتعامل مع الناس باحترام . وعموما، يجب على المرء التحلي بتفكير جيد ومظاهر أعمق للاخلاق لا تعتمد على ثقافة المرء او أغلبية الرأي او الزمن الذي يعيش به الفرد. علينا الانسجام مع الاخلاق بدلا من الازمان.

ثانيا، يمكننا هنا الجدال  باننا عموما أقل أخلاقا من أسلافنا (حتى اولئك المالكين للعبيد). التكنلوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي وأسلحة الدمار الشامل جعلت من السهل الشيطنة والتجرد من الانسانية وقتل الآخرين. الاقتصاد المعولم يساعدنا للانتفاع من عبودية العمل بحكم الواقع بدون الحاجة لرؤية وجوه العبيد. بدلا من ذلك، هناك عدة قوى حديثة تجعل من السهل لنا خلق معاناة غير ضرورية وشيطنة الاخرين وعموما نكون غير اخلاقيين قياسا بالعديد من الناس السيئين في العصور الماضية.

باختصار، انه انحياز ضيق القول ان الناس الحديثين هم اكثر أخلاقا من أسلافهم. اذا انت تتبع ضميرك في أي وقت، فانت سوف تتصارع مع زمنك حول بعض القضايا، و سوف يكون لديك الكثير من المشتركات مع المصلحين الأخلاقيين في الماضي (او في المستقبل) قياسا بما لديك مع أي اناس آخرين في زمانك. الناس الاخلاقيون في كل الازمنة يمارسون القانون الاخلاقي، ويواجهون الفشل لإنجاز ما متوقع. وهنا تبرز نقطتان:

1- لا احد يدّعي هنا اننا نتصرف بشكل مختلف عن الناس في الماضي الذين امتلكوا عبيدا او ساهموا بالتطهير العرقي لو كنا في نفس ثقافتهم. بالعكس، كلا التجربتين السايكولوجيتين (على سبيل المثال،تجربة ملغرام)(2) والدليل من التاريخ يشيران الى ان اكثر من 90% منا يذهب بانسجام مع ضغوط السلطات والزملاء(أي مع المعتقدات الاجتماعية) حتى لو استلزم ذلك التصرف ضد الضمير. لكن هناك ضمير انساني، وجذوره أقدم منا ومن أي ثقافة. انت ليس لديك ضمير افضل فقط لأنك تعيش في زمن حديث .

2- البعض سيجادل انه طالما هناك افراد وثقافات لايشتركون بأي قيم اخلاقية رئيسية، فان القول بان بعض القيم هي عالمية يجب ان تكون خاطئة. فمثلا، هناك من هم غير اجتماعيين تكون قيمهم الرئيسية هي ان يتسببوا بمعاناة غير ضرورية بدلا من تقليلها.

المشكلة في هذه المعارضة هي انها ترتكز على سوء فهم للاطروحة. الزعم هنا هو ان هناك قيم اخلاقية عالمية – قيم اخلاقية صادقة لكل الازمنة والأمكنة في تاريخ الانسان – لا يعترف بها او يتبعها كل شخص. مقارنة رياضية يمكن ان تساعد لرؤية الالتباس. الفرد الذي يعتقد ان 2+2=5 لايمتلك رياضيات مختلفة، ولا يثبت ان الرياضيات ليست عالمية، بدلا من ذلك هو عاجز رياضيا. وبطريقة مشابهة، الفرد الذي يشعر بعدم وجود التزامات لتقليل المعاناة غير الضرورية لايمتلك اخلاقا مختلفة وانما هو خارج ميدان الاخلاق. هذا الفرد لايرفض اطروحة الاخلاق الاساسية العالمية وانما هو عاجز اخلاقيا.

استنتاج

 مختلف الثقافات والأزمان لاتمتلك قيما اخلاقية مختلفة راديكاليا، ومن الخطأ الإعتقاد اننا متقدمون اخلاقيا لأننا حديثون. ومع اننا حقا نمتلك معرفة واقعية حول كيفية تقليل المعاناة (مثل نظرية الجراثيم او لقاح بولو)، لكن الالتزام الاخلاقي لتقليل المعاناة غير الضرورية هو قيم رئيسية لا زمنية نشترك بها مع أسلافنا والى حد ما مع الاجناس القريبة من الانسان.

من الصعب ان نكون أرقى اخلاقيا في أي وقت لأنه في كل الأزمان الناس يميلون لوصف الآخرين بالشر والتسبب في معاناة غير ضرورية عندما تكون لمصلحتهم. هذا يفسر لماذا الابطال الاخلاقيون في مختلف الأزمان لديهم الكثير من المشتركات مع بعضهم البعض قياسا بما مع الاكثرية في زمانهم. عندما يفهم شخص ما هذه المسائل سيكون من غير المحتمل ان يرفض الاخلاق ذاتها كنتاج لزمانه وثقافته.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Right and wrong about Right and wrong: philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) الحاضريون presentists في الأصل يعتقدون ان الحاضر وحده هو الواقعي وهو دائما صحيح بالضرورة. هم ينظرون الى الماضي بمنظور عقائد ومواقف الايام الحالية، اي، يستخدمون افكار الزمن الحالي في وصف و تفسير الماضي. بعض المؤرخين الحديثين اعتبروا هذا الاتجاه مغالطة، وهم سعوا في عملهم لتجنب الحاضرية لأنهم يعتبرونها شكلا من الانحياز الثقافي وانها تخلق فهما مشوها للموضوع قيد الدراسة.

(2) تجربة ملغرام هي دراسة سايكولوجية شهيرة قام بها Stanley Milgram من جامعة يال لاستكشاف رغبة الافراد في تنفيذ اوامر السلطات عندما تتعارض تلك الاوامر مع الأحكام الاخلاقية الخاصة بالافراد.

مدخل: لقد كانت قيم الليبراليّة التي أسقطت دولة الاستبداد، ممثلة بالملك والنبلاء والكنيسة، مشروعاً إنسانيًاً عظيماً، حمل بين طياته قيم العدالة والحريّة والمساواة، وتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الآخر والتعدديّة السياسيّة وتداول السلطة، واحترام الحقوق الطبيعيّة للإنسان وفي مقدمتها حق الحياة للقضاء على الفقر والجوع والظلم والاستلاب والتشيىء  والغربة.

ومع تحول الطبقة الرأسماليّة صاحبة هذا المشروع الليبرالي التقدمي إلى طبقة برجوازيّة احتكاريّة، ممثلة لليبرالية الجديدة في دول أوربا الغربيّة، ومع وصول الطبقة السياسيّة الحاكمة المشبعة بالطائفيّة والقبليّة والعشائريّة في دول العالم الثالث تحت مظلة أحزاب شموليّة دكتاتوريّة، سقطت القيم الليبراليّة النبيلة في الغرب خدمة لاقتصاد السوق الحر الذي تمثله الطبقة البرجوازيّة الاحتكاريّة، مثلما سقطت قبل أن يكتمل نموها في العالم الثالث ومن ضمنه عالمنا العربي، على يد قوى حاكمة أنانيّة أغرتها شهوة السلطة وتحكمت بالسلطة بقوة الحديد والنار، وباسم شعارات فضفاضة مجردة تدعوا إلى الديمقراطيّة والعلمانيّة والحريّة، وأيديولوجيات جموديّة أثبت الزمن هزيمتها فكراً وممارسة.

الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة وتحطيم القيم الليبراليّة النبيلة:

كثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة، وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطيّة الثوريّة) المتبنية لمشروع الاشتراكيّة العلميّة في العالم الثالث ومن ضمنه عالمنا العربي بشكل خاص، في محاربة قيم الفكر الليبرالي، شأنها شأن القوى الأصوليّة الدينيّة الرافضة للآخر، وفي مقدمة ما حاربوا من هذه القيم النبيلة، الديمقراطيّة الليبراليّة وعلمانيتها في صيغتيهما التقدميّة اللتين تبنتهما الطبقة البرجوازيّة في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة، منطلقين قادة هذه الأحزاب من مقولة لماركس قد فهموها خارج سياقها التاريخي بالنسبة لتطور الطبقة البرجوازيّة بعد أن تحولت إلى طبقة احتكاريّة استعماريّة، وهي: (إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسماليّة تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات). لا شك أن هذه المقولة تنطبق تماماً على الطبقة الرأسماليّة الأوربيّة  بعد أن تحولت إلى طبقة احتكاريّة استعماريّة في مرحلتها الامبرياليّة، وبعد استلامها الحكم، وتحكم شهوة السلطة السياسيّة، وسلطة الربح الفاحش بها من خلال استغلالها لشعوبها واستعمارها لشعوب العالم الثالث. وهذا ما جعلها تتخلى عن كل قيمها ومبادئها الليبراليّة التي نادت بها في بداية انطلاقتها، وهي القيم المشبعة بالمفاهيم الإنسانيّة، كالحريّة والعدالة والمساوة.

نعم. لقد أخذت هذه القيم الليبراليّة تنهار في مجال الممارسة، وراحت الطبقة الرأسماليّة صاحبة هذه القيم تتحول إلى طبقة استغلاليّة فاق استغلالها لشعوبها الأوربيّة آلاف المرات  استغلال هذه الشعوب من قبل القوى التي كانت تسيطر عليها قبل وصولها إلى السلطة، أي استغلال الملك والنبلاء والكنيسة.

وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازيّة وقيمها، حوربت أيضاً القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكية أو الاشتراكية العلميّة والقوميّة في دول العالم الثالث التي تبنت الخط الاشتراكي للتنمية طارحه البديل عن هذه القيم الليبراليّة، وهي قيم الديمقراطيّة الشعبيّة، التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكيّة يعني مزيداً من الديمقراطيّة)، تشير إلى ذلك. فمزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها هي وسيلة لتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها، وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانيّة تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكيّة القائم على فكرة (الديمقراطيّة الشعبيّة) ممثلة في المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة، التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها، راحت هذه القيم الايجابيّة لمفهوم "الديمقراطيّة الشعبيّة" بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، وتحكم قادتها بها، وفرض سياسة الحزب الواحد، كصيغةً أساسيّةً في الدولة والمجتمع معاً، هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسماليّة الدولة في صيغتها الجموديّة، كأنموذج اقتصادي، أخذ مع مرور الأيام يُشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة، التي اغتنت على حساب أموال الدولة، الأمر الذي حول الحزب ذاته والمنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة، تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعليّة إلى مكوناتها التنظيميّة وبالتالي إلى الشعب، دون أن يكون لها  أي الأحزب والمنظمات والنقابات - ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطيّة الشعبيّة وآليّة عملها، وتحولات إلى شعارات مفرغة من مضمونها العملي.

وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبيّة التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب، تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه، إلى أحزاب شموليّة استبداديّة تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً، وعلى الشعوب التي تحكم باسمها ثانياً، خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على سلطة الدولة، وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعليّاً من أجل خدمة مصالحه ومن يؤيد سياساته الأنانيّة الضيقة.

أمام هذه المعطيات يحق لنا أن نتساءل هنا: ماهي القيم الليبراليّة في صيغتها الايجابيّة؟، وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث؟.

ما هي القيم الليبراليّة  وتجلياتها:

الليبراليّة منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخيّاً حصيلة تطور طويل، تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المُسْتَغِلِة والمُسْتَغَلة، وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجارية والصناعية وحواملها الاجتماعية من الطبقة البرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعيّة المضطهدة تاريخيّاً، مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وما مثله هذا العصر من قيم إنسانيّة تدعو إلى الحريّة والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع والنبالة.

لا شك أن منظومة القيم الليبراليّة، أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة، قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربيّة، من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي والسياسي القائم على التراتبية، ومن خلال نقدها أيضاً لتلك السلوكيات الاستبداديّة التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانيّة النبيلة التي تدل على إنسانيّة الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعيّة والقانونيّة المشروعة.

لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازيّة ووصول حواملها الاجتماعيّة إلى السلطة، قيم الليبراليّة في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي، وعلى أساسها نُظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسيّة ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان (الفرد والمجتمع) كرامته. أي بتعبير آخر لقد أصبحت قيم الليبراليّة أنموذج حياة للمجتمع الأوربي، وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.

إن الليبراليّة في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه، ضد استبداد الملك والنبلاء والكنيسة، وضد الفكر اللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الساعي دوما لعزل  الفكر عن الواقع، والرافض لتطور الحياة، وفي مقدمة هذا التطور، تطور العلوم الطبيعيّة التي حطمت أسس المعارف الدينيّة الأسطوريّة في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات، وموقع الأرض من الشمس، وطبيعة دوران الأرض، والرفض لوجود قوانين موضوعيّة مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، وأخيراً وليس آخراً، امتلاك عقل الإنسان وإرادته القدرة على اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع والتسلح بها وتسخيرها لمصلحته.

إن هذا الفكر الرجعي المثالي الوثوقي الاستسلامي الرافض لحركة الواقع وتطوره وتبدله، كان يَحولُ بين الإنسان وقدرته على تحقيق مصيره الإنساني، والفسح في المجال واسعاً أمام فكره العقلاني النقدي وحرية إرادته في تغير مصيره بيده، مثلما كان يعمل على إقصاء فكرة أن الإنسان ذاته ضرورة وحريّة.

حقيقة لقد حاربت القيم الليبراليّة التي حملتها الطبقة البرجوازيّة الوليدة، الاستبداد وقواه المستبدة، واعتبرت الديمقراطية والعلمانية وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنيّة، والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.

إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ، لم تكن يوماً ذات نظرة أحاديّة، كأن تُختزل في الاقتصاد فحسب، بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى، قد عبرت عن قيم تقدميّة مشبعة بالروح الإنسانيّة المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.

إن مشكلة القيم الليبراليّة وتلاشيها تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح المتوحش بإسم الحريّة. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرة، ساهم بالضرورة في نمو العلاقات غير العقلانيّة بين المالك والمنتج، وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع  لقوى اجتماعيّة واسعة من أبناء المجتمع، وهي القوى المنتجة، وما يتعلق بحياة هذه القوى من فن وأدب وفلسفة وفكر. حيث راحت هذه القيم الإنسانيّة التي بشرت بها الطبقة الرأسمالية وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليديّة السلبيّة، تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابيّة لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسمالية في صيغتها الاحتكارية المشبعة بالروح الأنانية الفرديّة القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار.

إذاً إن قيم الليبرالية المشبعة بالقيم الايجابية  في مراحلها الأولى ممثلة بالحريّة والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيريّة في السلطة وغير ذلك من قيم، هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمّة في أي مرحلة تاريخيّة تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن أمتنا العربيّة تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبويّة استبداديّة، فقيم الليبراليّة في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدميّة في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه، هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا أيضاً، وهي قيم مشبعة من جهة أخرى بقيم الاشتراكيّة وعدالتها، وهي التي تشكل الرافعة الحقيقة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه، بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها،  أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مساراته.

نعم... لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا، لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم الليبرالية ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشموليّة واستبدادها، وما فرضته على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالح قوى سياسية اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق مصالح أنانيّة خاصة تهيمن عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.

ملاحظة: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخيّاً  من دمار للدولة والمجتمع، بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات وإقصاء سياسي واقتصادي، إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخيّاً، قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشمولية ومستبديها تجار الديمقراطيّة والعلمانيّة والدين، وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبراليّة أو الديمقراطية الشعبيّة لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها، والوصول إلى تحقيق طموحاتها. وهذه هي مسيرة الشعوب الحرة. والعيب في هذه الشعوب ان تسكت على مستغليها، ومن يمارس عليها القهر والتجويع باسم الوطن، وهم أكثر استغلالاً لهذه الوطن والمتاجرة به.

***

كاتب وباحث من سورية

د. عدنان عويّد

تمهيد: علاقة الزمن بالاشياء علاقة ادراكية محايدة بالدلالة المعرفية لا يقوم الزمن بها بل بدلالتهما معا "الزمن والاشياء" ندرك العالم والطبيعة والموجودات .

علاقة الزمن بالاشياء ليست علاقة جدلية ديالكتيكية. بل هي علاقة ادراكية معرفية فقط. ادراك الشيء موجودا حسيا او خياليا تسبق معرفته والوعي به عقليا. الادراكات الحسية هي نقل انطباعات ادراكات الحواس للاشياء في المرورالوقتي بالذهن وهذه الانطباعات الحسيّة هي مرحلة اولى على طريق المعرفة العقلية والوعي بالمدركات.....

الزمن لا يعي ادراك الاشياء بدلالته ولا الاشياء تدرك الزمن ذاتيا الا بدلالة ثالثة اخرى تكون وسيطا بينهما هو حركة جسم ما . حركة الشيء تعني ادراك دلالة الزمن ولذا يطلق سقراط على الزمن انه مقدار حركة جسم او شيء لكن الزمن في ماهيته الجوهرية غير المدركة عقليا ليس حركة.. الوعي يدرك ذاتيته من خلال محايثة موضوعه له والوعي لازمني بالنسبة لادراك موضوعه.

الوعي القصدي والموضوع

حين لا نستطيع تعريف ماهو الوعي الا بدلالة غيره من حلقات سلسلة المنظومة الادراكية العقلية التي تبدا بالحواس وتنتهي بالدماغ. فكيف يعي الوعي موضوعه ويدركه بالاحاطة به والتعبير عنه؟

مخترع الوعي القصدي يالفلسفة هو الفيلسوف السويسري هيرمان برينتانو 1831 – 1917 وهو عالم نفس ايضا. حاضر بالفلسفة وعارض النقد الكانطي وانصب اهتمامه على علم النفس. كان تاثيره شديدا على تلميذه ادموند هوسرل فيلسوف الظاهريات (الفينامينالوجيا) وبدوره اي هوسرل كان له التاثير الاقوى على فلاسفة الوجودية مارتن هيدجر، بول سارتر، ياسبرز، جبرييل، ميرلوبونتي واخرين جمعتهم الهجمة الشعواء التي شنوها على كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود حتى اصبحت مقولة ديكارت تفلسف من لا شاغل له بالفلسفة.

ترك برينتانو اهتمامه باللاهوت المسيحي وغادر الكنيسة بافكارها وطقوسها الى غير رجعة. لكنه لم يتخل عن اهتمامه المركزي حول وجود الله بمحاضراته في جامعتي تورنبورغ وفيّنا.

العبارة التي استوقفتني واسعدتني لبرينتانو لانها تطابق ما انا اؤمن به تلك هي (الوعي لا يصنع موضوعه، بل موضوعه محايث دائم لوجوده) ما اروعك يابرينتانو في عبارة لم يتوصل لها الا القليل من نوادر الباحثين بفلسفة الوعي من الفلاسفة الاميركان جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز إحتواهم مستنقع البحث في الوعي حتى قادتهم حيلة الخلاص من تعقيداته وتداخلاته مع فلسفة العقل وفلسفة اللغة وعلم النفس وعلم وظائف المخ لجوئهم الى الغموض في التناول البحثي حول الوعي.. وتناولت بدوري ذلك المبحث مع الثلاثة الاميركان وغيرهم في اكثر من مقال منشور لي خاصة جون سيرل..

الجميل في عبارة برينتانو الفلسفية انه وضع الباحثين في فلسفة الوعي بندول ساعة متأرجحين بين كيفية ادراك الوعي هل هو موضوعا مستقلا للعقل ام هو وسيلة العقل الالمام بمعرفة موضوعه.؟ ام هو اختراع علم النفس السلوكي.؟

ترجم برينتانو ربطه الوعي بعلم النفس بتأثير تخصصه الاكاديمي كي يجعل من الوعي موضوعا علاقته بعلم النفس السلوكي ولا علاقة تربطه بمجمل المنظومة الفكرية العقلية. هذا التوجه الفلسفي جعل برينتانو يحاول تطويع فهم الوعي بضوء مرجعية علم النفس لا غيره بحكم تخصصه الاكاديمي الجامعي كعالم نفس ما جعل اهمية برينتانو الفلسفية تكمن في اختراعه مصطلح (الوعي القصدي). بمعنى الوعي الذي يعي هدفه في الموضوع الملازم له.

كتابات الفلاسفة الاميركان الذين عنوا بفلسفة الوعي جون سيرل ورورتي وسيلارز وغيرهم لم ياخذوا عن برينتانو وجوب تفسير الوعي بعلم النفس السلوكي القائم على مرتكز الارادة الذاتية الفردية. بل اخذوا الوعي في مركزية فلسفة اللغة واللسانيات وفلسفة العقل ومباحث فلسفية اخرى معتبرين فلسفة برينتانو حول الوعي افل نجمها وانتهى تاثيرها مع افول نجم الوجودية بعد اكتساح الفلسفة البنيوية لها وازاحتها..

السلوك النفسي الذي ربطه برينتانو بالوعي لم يكن موفقا اذ السلوك هو ماتمليه حاجة الاشباعات النفسية المادية الخاصة بالعالم الخارجي وبحاجات الجسم الداخلية في تلبية اشباع احاسيس ما ترغبه الغرائز البيولوجية.

السلوك النفسي الذي جعله برينتانو دافع ومرجعية تصنيع انطلاقة الوعي جعله لا يهتم كثيرا بعلاقة ارتباط الوعي بسلسلة حلقات المنظومة الادراكية للعقل. ساعده هذا التوجه ان الوعي هو افصاح لغوي ادراكي تجريدي عن موضوع داخل الجسم او خارجه من دون ذكر اهمية مرجعية العقل في ارتباطه بالوعي. التي استبدلها برينتانو بمرجعية علم النفس السلوكي الذي تحكمه ارادة النفس في السعي لاشباع حاجات وغرائز الجسم..

لا بد هنا من التنبيه الى ان الوعي يختلف عن الادراك الحسي الذي هو نقل الحواس انطباعاتها عن العالم الخارجي للذهن عبر شبكة الاعصاب المعقدة. ويعتبر الادراك الحسي مرحلة اولى في تشكيل منظومة الادراك العقلية التي تنتهي بالدماغ في انتاجه الوعي القصدي المطلوب تجاه معرفة مدركاته.. الوعي هو رد فعل العقل بناتج مقولاته الواصلة اليه من الحواس على صورة انطباعات ذهنية يتولى جزءا خاصا من الخلايا العصبية في قشرة الدماغ تحليلها واعطاء ردوده الوعوية عنها.. لا الوعي ولا الذهن يمتلكان قابلية التفكير في معرفة ومعالجة الاشياء بدون الاستعانة بمرجعية العقل.

لا الحواس ولا الوعي ولا العقل يصنع مواضيعه المستقلة وجوديا بل المواضيع المحايثة لسلسلة منظومة العقل الادراكية موجودة باستقلالية في العالم الخارجي وعالم الجسم الداخلي قبل وصول الاحساسات والانطباعات الذهنية عن تلك العوالم للعقل والمخ تحديدا.

الوعي هو نتاج عقلي وليس نتاج نفسي منعزلا عن المنظومة العقلية البيولوجية للادراكات المعرفية. الشيء الاخرهيرمان برينتانو جعل معادلة الوعي- الموضوع ثنائية بالاسم فقط ولا وجود حقيقي في امكانية الفصل بين الوعي وموضوعه مثلما لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة كموضوعين غير مستقلين احدهما عن الاخر.

ترجمة هذه النظرية لدى برينتانو تعود الى عبارته التي اشرنا لها بداية المقال ان موضوع الوعي محايث له ولا وعي بلا موضوع وهي مقولة فلسفية صائبة تماما.. لكن الوعي لا يمّوضع موضوعه المحايث له داخله كتكوين مادي. وتبقى مقولة الوعي هو موضوعه صائبة من حيث الوعي لا يعمل في فراغ وجودي كما حاوله ادموند هوسرل..

لكن طالما الوعي هو تجريد العقل عن موضوع يحدده العقل وينفذه الوعي ولا يصنعه الوعي عندها يصبح مساواة الوعي بموضوعه غير وارد. فالوعي تجريد يعبّر عما هو مادي بما يمليه عليه العقل. برينتانو رغم خلفيته كعالم نفس الا انه يعتبر الوعي لا يحتوي على احداث او حالات ذاتية سايكولوجية بل يتضمن ايضا موضوعية غير واهمة وليست من صنعه، لكنها في الوقت ذاته تنتمي اليه لانها تظهر فيه ناتجة عن مصدر الوعي. نقلا عنه نصا وهي عبارة معقدة.

فرضية برينتانو الفلسفية حول موضوعية الوعي (المادية) يعتبرها تصنيع سايكولوجي سلوكي وليس تصنيعا عقليا بيولوجيا غير صحيحة. فالوعي إلمام ادراكي تجريدي لغوي في التعبير عن مدركات مواضيعه المادية والخيالية ليس من اجل ادراكها كما تفعل الحواس بل من اجل معرفتها وتغييرها.. الوعي هو محصلة تفكير العقل النهائية بموضوعه.

كما اشرنا سابقا الوعي تصنيع عقلي لا نفسي وطالما الوعي نتاج تصنيع عقلي وليس نفسيا كذلك النفس هي تصنيع عقلي ايضا ولا فرق بين مرجعية الاثنين سوى بالسلوك او الارادة المترتبة على علاقة الوعي معالجة موضوعه عقليا وليس نفسيا. النفس لا تصنع وعيها القصدي في تلبية وتحقيق حاجات وغرائز الجسم دون مرجعة العقل.

عن هذه الحيثية يترتب التساؤل كيف يكون للوعي موضوعات وحاجات ورغائب هي غير حاجات الاشباعات الغريزية للجسم والنفس معا؟ الجواب هو بالتفريق هل الوعي في امتلاكه موضوعه يكون مصدر معرفة ام وسيلة معرفية؟ برينتانو يقر بعجز الوعي تجريده عن موضوعه حقيقة غير واهمة تمثّلها قصدية الوعي. صحيح جدا تثبيت حقيقتين لبرينتانو حول الوعي الاولى الوعي هو موضوعه كجوهرين مستقلين متلازمين في تبادل اعطائمها مشتركين معرفة الاشياء والتخارج التغييري لها.، والثانية لا يوجد وعي بدون قصدية ملازمة له تقوده تحو هدف ذهني مرسوم سلفا. اي بمعنى الوعي قصديا ليس اعمى خلفية التفكير العقلية..

هنا نتساءل كيف يجمع الوعي بين ان تكون قصديته ناتجة عن موضوعه وبين ان يكون الوعي وسيلة العقل في التعريف بمدركاته؟ الحقيقة يتم ذلك في واحدية مرجعية العقل للوعي. اذا اعتبرنا امكانية النفس بما تحتويه من تعبيرات نفسية مثل الفرح، الالم ، الحزن، الكآبة، السلوك وغير ذلك ان تخلق وعيها الخاص بها بمعزل عن بيولوجيا وظائف اعضاء الدماغ يصبح معنا الخطأ الشائع ان للذهن تفكير مستقل ينوب عن تفكير العقل ساريا لا اعتراض عليه.. وكذا نفس الحال ينطبق على قضايا خاطئة اخرى عديدة مثل علاقة الذاكرة بالاستذكار التاريخي وحول علاقة ترابطية الخيال والزمن. وعلاقة الزمن بالمكان رومانسيا كم فعل جاستون باشلار في كتابه الزمن والمكان.

مصنع الوعي

اخذ هوسرل عن استاذه برينتانو فكرته عن الوعي القصدي الذي كان رد فعل قوي على عبارة ديكارت الشهيرة تاكيده ان مجرد التفكير يعطي قطعية وجود الانسان الحقيقية كينونة واعية. هوسرل ارسى مقولة الوعي القصدي في اعتباره القصدية هي فعل الوعي المنتج للموضوعية، وبهذا اختلف مع برينتانو الذي اعتبره لم يقم بشيء عن القصدية سوى السلوك النفسي العملي نحو بلوغ هدف محبب لنفسه. كما اعتبر برينتانو لم يعط معنى الوعي بل ذهب الى ان القصدية تنتج الموضوع.

الحقيقة قبل مناقشة الاهم ان القصدية هي الوعي الذي يلازمه موضوعه لذا يكون تحصيل حاصل ان الوعي بقصديته يتجه نحو تحقيق هدف في موضوعه. قد يذهب البعض ان ملازمة الموضوع للوعي يعني تأبط هذا الاخير لموضوعه تحت ذراعه. لا الموضوع هو المتعيّن المستقل في ماديته وحتى في الخيال يكون متموضعا بتجريد يقوم على تجريد لغوي هو الوعي. عبارة برينتانو الوعي هو الموضوع لا تعني الانابة البينية المتبادلة بينهما بل تعني استقلالية مادية الموضوع عن تجريدية الوعي المصاحب له.

الان ننتقل الى ان القصدية هي فعل الوعي ليس الادراكي فقط بل المعرفي التغييري ايضا. الوعي ليس التوجه التجريدي الاعمى نحو موضوع متعيّن لادراكه بل الوعي القصدي هو ناتج تفكير تطبيق مقولات العقل التي يقوم بتنفيذها الوعي الذي هو اولا واخيرا تجريد لغوي في الافصاح الالمامي بموضوع مادي او خيالي للتخارج المعرفي معه..

الوعي كما نفهمه فلسفيا

القصدية هي فعل الوعي ناتج التفكير العقلي الذهني الواصل عبر شبكة المنظومة الادراكية للعقل الى الموضوع المراد التداخل المعرفي به بوسيلة الوعي. الوعي ليس مادة حتى حينما ينقل مقولات العقل تجريديا الى مدركاته من الاشياء ومواضيع العالم المحيط بنا. الوعي هو خلاصة الادراك الذي لا قدرة له ان يتحول الى فعل مادي يخلق موضوعا يعالجه تفكيرا تجريديا معرفيا متخارجا معه. الموضوع المادي او الخيالي وجود موجود قبل معالجة الوعي به وقبل ادراكه حسيّا ايضا..

هوسرل كان صائبا في اعتباره الوعي كالزمن مفهموم محايد بعلاقته مع الاشياء لا ندرك ماهيته. الوعي ليس تفسيرا توضيحيا حول موضوع معين، بل هو وعيا حياديته مستمدة من طبيعته التجريدية انه متخارج معرفيا مع مدركاته. الوعي وسيط توصيل مقولات العقل معرفيا عن مدركاته والوعي لا يتموضع تكوينيا بموضوعه بل كل منهما يحتفظ باستقلاليته المتلازمة في جمعهما الوعي مع – موضوعه.

هوسرل كان غير موفق فلسفيا ايضا اعتباره الموضوع المحايث وجودا للوعي هو الذي يعطي معنى القصدية. الحقيقة ان الوعي لا ينتج ولا يخلق القصدية وانما يقوم الوعي بتنفيذ قصدية العقل منتجه البايولوجي. والقصدية لا تنتج مواضيعها كونها هي موضوع ماهيته انه يحمل قصديته التي يروم الوعي معرفتها والتخارج معها حول الموضوعات المدركة ليس حسيّا فقط بل وايضا عقليا بالمرتبة الاولى..

القصدية هي هدف الوعي يفتقد "آلية" منظومة الادراك العقلي المعرفي في علاقتها مع اشياء العالم الخارجي وغرائز اشباع رغائب احاسيس اجهزة الجسم الداخلية.

هوسرل في عبارته (كل العالم الواقعي الموضوعي عبارة عن تمثّلات الوعي به) العبارة صائبة وصحيحة خاصة بعد اقرارنا بحقيقة الوعي بالشيء هو ليس ادراكه بل التداخل التصنيعي التخارجي معه. احكام الوعي القصدي عن عالم الاشياء والمدركات هو توصيف معرفي لها وتفسير توضيحي لمعالجتها وليس تخليقا ماديا لوجودها.

الوعي والمعنى

قصدية الوعي تحمل صفتين هامتين هما الوعي جوهر ذاتي منفرد كوجود مستقل لا علاقة ترابطية تجمع الوعي بموضوعه سوى باستقلاليتهما احدهما عن الاخر وتعالقها القصدي المعرفي المتخارج بينهما. الصفة الثانية بينهما ان الوعي قصدي بالضرورة التعالقية مع موضوعه في تحقق معنى الموضوع المحايث له.

اذن نلاحظ بجلاء واضح تشابه الوعي بالاشياء انه مرادف طبق الاصل بالادراك الحسّي لها من حيث آلية التنفيذ فقط وليس من حيث الجوهر الوظيفي. حيث نجد كلا من الادراك الحسي الذي يسبق الوعي يتلاقيان في تحقيق المعنى القصدي في الاشياء والمواضيع. ليس معنى ذلك الادراك غير منفصل عن الوعي الذي يحتوي الادراك بتفرد مختلف عنه. لا الادراك الحسي ولا الوعي قادرين على تخليق موضوعهما الذي هو الوجود المادي المستقل بذاته السابق عليهما.

نعود الى العلاقة التي اشرنا لها الوعي ملازم موضوعه المستقل وجودا عنه لكنه متخارج معه معرفيا. الوعي احاطة معرفية عقلية تخارجية لمدركاته وليس خالقا بيولوجيا مستقلا لها بعيدا عن مقولات العقل عنها الذي هو الاخر يعجز خلق مواضيعه الادراكية بيولوجيا بل يعبر عنها فقط بلغة الوعي التعبيري اللغوي المجرد .

الشيء الاخر انه لا وجود لوعي ادراكي قصدي لا يحمل ملازمة معنى تلك القصدية مسبقا يسعى تحقيقه سلوكا وتعبيرا لغويا. الوعي جوهر ذاتي والذات المجردة من علاقاتها لا تدرك ولا تعي ما لا معنى له. الوعي كما سبق لنا تكراره فعالية قصدية تحمل معها معناها السلوكي المرتبط بمنظومة العقل الادراكية. اي تفسير لمعنى فارغ لا يحمل قصديته التي يسعى لها يكون بالمحصلة لا وعي غير موجود ولا يقبله منطق العقل.

فرق الوعي عن الادراك

اذا اردنا تفريق الوعي عن الادراك من حيث قابلية امتلاك المعنى، يكون عندها المرجعية الداحضة في عدم وجود وعي لا يمتلك معنى انما تحدد خطله الزائف علاقة الذات بالدماغ وظائفيا بيولوجيا.

لكن اذا نحن اجرينا مقارنة بين الوعي والادراك ايهما اصدق في تعبيره الادراكي؟ نحن هنا نقع في اشكالية ان الوعي ناتج موضوع ادراك العقل. اما الادراك العفوي الطبيعي لموجودات العالم الخارجي فهو انطباع اولي في نقل الحواس للاحساسات الصادرة عن ادراكها لموضوعات وموجودات العالم الخارجي. ويطلق ديفيد هيوم على هذه العملية بنقل الحواس للانطبات الحسية للذهن وهي انطباعات وقتية تاخذ طريقها عبر شبكة الاعصاب وتراتيبية منظومة العقل الادراكية الى الدماغ ولا قيمة حقيقية تحسب لها كما اكد هذا المنحى جورج بيركلي ايضا.

ميزة الاختلاف الادراكي ان الحواس تنقل انطباعاتها الحسية الى الذهن بعشوائية غير منتظمة ليس كما هي في معالجة الدماغ لها. ادراك عشوائية موجودات العالم الخارجي عبر الحواس قد يفقد الاحساسات الانطباعية المنقولة عنها صدقيتها وعدم كونها خاطئة غير صحيحة.

بماذا يختلف الوعي الادراكي لعالم الموجودات عن الادراك الحسي الذي تقوم به الحواس وكليهما مرجعيتهما الذات؟ رغم اننا تحدثنا باسطر سابقة عن هذا الاختلاف نضيف هنا لما سبق استجابة على التساؤل، انه لا يمكن للذات ان لا تعي نفسها وجودا معرفيا مركزيا للجسم وعلاقة الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي. ما يرتب على ذلك ان وعي الذات لنفسها يستتبعه بالضرورة انها تعي مواضيعها وعلاقاتها الارتباطية بالعالم الخارجي والخيالي الداخلي. اي نوع من التفكير لا يكون بلا معنى يحتويه عديم الجدوى ولا اهمية له والا كيف يحدد الوجود الانساني كينونته الذاتية بدلالة تفكير لا يحمل معنى ما يفكر به؟.

***

علي محمد اليوسف

مقدمة: نسمع كثيرًا هذه الأيام عن كيف تسعى المؤسسات جاهدة لتحقيق التوازن بين الحاجة إلى تحقيق أهداف ضخمة للإيرادات والربح وبين الرغبة في خلق ثقافة مبنية على أساس من الأخلاق والنزاهة. هذا يثير سؤالا مهما: ما هي بالضبط الثقافة "الأخلاقية"؟

إن المنظمات الأكثر أخلاقية هي تلك التي تكون قادرة على تطوير هذه القدرات الأربع في موظفيها: الوعي الأخلاقي، والشجاعة الأخلاقية، والتفكير الأخلاقي، والفعالية الأخلاقية . تنظر الثقافة الأخلاقية باعتبارها ثقافة قادرة على دمج نظامين متميزين: الثقافة الأخلاقية، التي تركز على تعليم الموظفين قيمًا تنظيمية محددة وأهمية "فعل الشيء الصحيح" ؛ والمناخ الأخلاقي، الذي يؤكد على تطوير المواقف والتصورات وعمليات صنع القرار المتعلقة بالأخلاقيات في جميع أنحاء المنظمة. بغض النظر عن كيفية تعريف المرء لمفهوم الثقافة الأخلاقية، فإن المنظمات التي تحقق أكبر قدر من النجاح في إنشاء بيئة قائمة على الأخلاقيات والحفاظ عليها تميل إلى الالتزام بأفضل الممارسات في المجالات العشرة التالية، على النحو الذي حدده كيرك أو. هانسون، المدير التنفيذي من مركز ماركولا للأخلاقيات التطبيقية بجامعة سانتا كلارا:

بيان القيم القوية

بيان القيم هو عبارة عن تلخيص قصير وموجز لما تمثله المنظمة والقيم التي يتوقع من موظفيها تجسيدها وما تهدف منتجاتها / خدماتها إلى المساهمة في العالم. في معظم المنظمات الأخلاقية، تصبح هذه البيانات مبادئ راسخة بعمق والتي تعمل بمثابة علامات إرشادية لقرارات وإجراءات الموظفين والتنظيمية.

قواعد سلوك جيدة الصياغة

مدونة قواعد السلوك هي مجموعة مكتوبة من المبادئ تعمل جنبًا إلى جنب مع بيان القيم لتكون بمثابة خارطة طريق أخلاقية للمؤسسة. أفضل قواعد السلوك هي الوثائق الشاملة والمنظمة جيدًا والتي تتم كتابتها بلغة واضحة ومفهومة بدلاً من اللغة القانونية. يعد تطوير مدونة قواعد السلوك عملية متعددة الخطوات تتطلب عادةً مدخلات مكثفة من جميع مجالات المنظمة.

القيادة بالقدوة: النمذجة التنفيذية

كثيرا ما يقال أن الأخلاق تبدأ من القمة. حتى بيان القيم المصاغة جيدًا ومدونة قواعد السلوك لن تستحق الورقة التي كُتبت عليها ما لم "يعيش ويتنفس" كبار المديرين التنفيذيين المبادئ التي يتبنونها يوميًا. تتمثل إحدى الطرق الممتازة للمديرين التنفيذيين والمديرين الماليين وغيرهم من المديرين التنفيذيين الرئيسيين في تحديد نبرة أخلاقية من خلال مشاركة أمثلة على المواقف التي واجهوها والتي شكلت معضلة أخلاقية، وكيف اختاروا المسار الصحيح عند اتخاذ قراراتهم.

تدريب أخلاقي شامل ومستمر

يقدم عدد كبير جدًا من المؤسسات تدريبًا على الأخلاقيات للموظفين الجدد فقط. التدريب المستمر ضروري أيضًا لترسيخ الأخلاق في الثقافة. يجب أن يتكون التدريب من أكثر بكثير من مجرد دورة عبر الإنترنت توفر مراجعة سريعة لمبادئ الأخلاق الأساسية. يجب أن يشمل مراجعة شاملة لمدونة قواعد السلوك وسياسات وإجراءات الأخلاقيات الخاصة بالمنظمة. يجب أن يتضمن أيضًا دراسات الحالة وسيناريوهات العالم الحقيقي التي تطلع الموظفين على كيفية اتخاذ قرارات أخلاقية وقيمية تتعلق بوظائفهم الوظيفية المحددة. يُنصح أيضًا بإجراء تدريب منفصل للأخلاقيات والامتثال.

تكامل القيم في عمليات العمل

يجب أن تتضمن أي عملية عمل تطورها المؤسسات إشارات إلى القيم وكيفية تأثيرها على القرارات المتعلقة بالنظام. تتمثل إحدى الطرق الجيدة لتحقيق ذلك في دمج عنصر الأخلاق / القيم في عملية تقييم أداء الموظف مع التركيز على كيفية تطبيق العمال للأخلاقيات في عمليات صنع القرار الخاصة بهم.

إنشاء آلية سرية للإبلاغ

حتى المنظمات التي تجعل الأخلاق أولوية قصوى من المحتمل أن تتعرض لانتهاكات أخلاقية وحالات من السلوك غير اللائق في مرحلة ما. يوفر إنشاء خط ساخن للإبلاغ من طرف ثالث مجهول للموظفين آلية سرية لإبلاغ الموظفين المعينين داخل المنظمة عندما يشهدون أو يقعون ضحية لارتكاب مخالفات. يمكن أن يكون الخط الساخن أداة فعالة للغاية لإيقاف سوء السلوك في المراحل المبكرة، قبل أن يتحول إلى مشكلة كبيرة.

عملية تحقيق شفافة لانتهاكات الأخلاق

سيحجم الموظفون عن استخدام الخط الساخن إذا اعتقدوا أن تقاريرهم ستختفي ببساطة في أسفل درج المكتب. تمتلك المنظمات الأكثر أخلاقية آلية لإجراء تحقيق سريع وشامل وشفاف في جميع تقارير الخط الساخن حتى يمكن حل المشكلة بطريقة منصفة وفي الوقت المناسب. إن إدارة الإجراءات التأديبية العادلة أمر بالغ الأهمية أيضًا. ستضيع بالتأكيد رسالة قيم المنظمة إذا تلقى كبار المديرين عقوبات أخف من موظفي الخطوط الأمامية عن نفس السلوك غير اللائق. إن توفير الحماية للمبلغين من الانتقام هو أيضًا عنصر أساسي في عملية التحقيق.

إدارة الأخلاق الفعالة

تنص أفضل الممارسات على تعيين مسؤول الالتزام بأخلاقيات الشركة، وهو مسؤول تنفيذي كبير يشرف على وظيفة الأخلاقيات ويلعب دورًا رئيسيًا في إنشاء البوصلة الأخلاقية للمؤسسة. يجب منح هذا الفرد مجالًا واسعًا لتطوير وتنفيذ السياسات والإجراءات الأخلاقية. يعد إنشاء لجنة الأخلاقيات التي ترفع تقاريرها إلى مجلس الإدارة خطوة أخرى فعالة في حوكمة الشركات.

المراجعة الدورية للمعايير الأخلاقية

من المهم مراجعة المعايير الأخلاقية على فترات دورية للتأكد من استمرارها في تلبية احتياجات المنظمة واكتساب منظور جديد حول الفعالية الشاملة لجميع مبادرات الأخلاقيات. يوصي هانسون بمراجعة شاملة للمعايير كل ثلاث سنوات تأخذ في الاعتبار أي تحديات أخلاقية جديدة تواجهها المنظمة. يجب أن يتضمن أيضًا تقييمًا لأي انتهاكات أخلاقية قد تكون حدثت منذ المراجعة السابقة.

تركيز لا يتزعزع على التحسين المستمر

من السهل على المؤسسة أن تشعر بالرضا عن الوضع الراهن فيما يتعلق بالأخلاقيات، خاصةً عند عدم حدوث انتهاكات كبيرة خلال فترة زمنية طويلة. ومع ذلك، عندما تتخلى المنظمة عن حذرها وتقليل مستوى التركيز الذي تضعه على الأخلاق، يكون لها تأثير غير مرغوب فيه يتمثل في تعزيز الثقافة التي تدعو إلى السلوك غير الأخلاقي. تبحث المنظمات الأكثر أخلاقية باستمرار عن طرق للحفاظ على الأخلاق والامتثال في طليعة كل إجراء تتخذه.

في الختام، تجدر الإشارة إلى أن إنشاء ثقافة أخلاقية ليس بالأمر السهل، ولا يحدث بين عشية وضحاها. ومع ذلك، فإن تلك الكيانات التي تواصل المسار وتسعى إلى تكييف هذه الخصائص العشر لديها فرصة ممتازة لتطوير وتنفيذ ثقافة الأخلاق التي تتخلل كل مستوى من مستويات المنظمة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

السبل التي تؤدي الى الفلسفة عديدة، وصراحة هي اكثر من السبل التي تؤدي الى المنهج العلمي، لكن في اشارة اولية نذهب الى فكرة توضيح، حيث السبل المعبدة هي التي نجدها في اطار المنهج العلمي، واما السبل العديدة التي تؤدي الى الفلسفة فهي اغلب تلك السبل يحتاج الى تعبيد، ومن هذه المسارات المرتبطة بالذاكرة البشرية، فهي اصبحت كما الطرق المهجورة، وهذا ما جعل الفلسفة تفقد احد الاركان المهمة، وفي اطار تصنيف الاجناس البشرية، فعنصر الرقي والحضارة لم يشكل ذلك الدافع النشط في تحريك العقل الاجتماعي نحو ركن الفلسفة، ومن هنا من الاولى أن نستبعد فكرة الاجناس، واذا ذهبنا الى المستوى الحضاري، فلم يعد ذلك الجانب ركنا اساسيا، واذا كانت الفلسفة الرومانية قد عاشت اولى مظاهر الحداثة، فالفلسفة العربية عاشت الظروف العصيبة والمعقدة، وعاش من الفلاسفة كما عاش سقراط، بل العقل المغلق تجرأ بتقولات على العقل الرحب المنفتح، واسهم في تجريده من القيمة المعنوية، وقدر على ابن رشد أن يواجه ذلك القتل المعنوي، وفي تصنيف الفلسفات الحديثة، تنوعت ايقاعات الخطاب، وكانت الفلسفة الانكليزية الاكثر وضوحا ورجحانا واهمية سياسية على وجه الخصوص، وبالرغم من رجحان افق الفكر وليس افق الفلسفة، وكمثال ما كان من تشخيص خطاب جون لوك كفكر وليس كفلسفة.

لقد تبنت الفلسفة الانكليزية من اكتساب احد اهم الافكار التي طرحت في الفلسفة الحديثة، لكن كانت هناك جدارة في صيغة التبني، فالمثالية كمفهوم بيني شكل الاهمية الكبرى في القرون الثامن عشر والتاسع عشر، واهمية طرح كانت لهذا المفهوم القديم، والذي استحدث بصيغة بينية لالا تميل الى الدين كليا ولا الى الفلسفة العضوية كليا، بل كان مفهوم المثالية كجلقة وصل جوهرية ما بين المعنى الدين المستحدث بروح ليبرالية، وبين ما اكتسبته الفلسفة الحديثة من حس علماني بنسب عالية، ونحن هنا نبحث في تطورات الخطاب الموازي للمفهوم من خلال دقة وعمق المعرفة اللسانية، ونهدف الى تحليل بنية الخطاب اولا منفردة، ومن ثم ثانيا نتمعن في طبيعة ما بين المفهوم والخطاب، ففلسفة المثالية التي انبثقت من افق الماني كميزة موضوعية في افق عصر التنوير، وكانت فكرة مفهوم المثالية بالاطار المركب معنويا ما بين حس علماني وحس ديني موازي له مهيأة للتناظر، واستقبل لوك وهيوم المثالية في صيغة مستحدثة، على وجه الخصوص في بنى الفلسفة التجريبية والفلسفة العقلانية، ونشير كما قد انتج الماركسيون ماركسا اخر، فقد انتجت الفلسفة الالمانية افقا جديدا للمثالية، ووسعت الفلسفة الانكليزية افق المفهوم وطورت الابعاد التي تتوافق مع الانثروبولوجيا من جهة، وقاربت بين المفهوم والسعي العلمي، فتجد خطاب راسل يدخل من جهة في ترسيخ المنطق العلمي، ومن جهة اخرى بالمنطق الاخلاقي الجديد، والذي بدت ملامحه تتوضح بوقت مبكر في القرن التاسع عشر  وما تلاه.

اهتمت الفلسفة الانجليزية بالمنطق العضوي، وقد انبثق ذلك من خلال فرنسيس بيكون، ثم جاء دور توماس هوبز، والذي طرح فكرة الميتافيزيقا المادية، والتي اثارت ورفعت من منسوب الجدل خصوصا ضد الكنيسة والنظام الملكي، لكن اسعفته علاقته الوطيدة بذوات رفيعة، وتفسير فلسفة هوبز التي تبلورت بشكل موضوعي في القرن السابع عشر، ونشير الى وجود شغف بالموسيقى والتي يجد فيها راحة نفسه واطمئنانها، وكما زيارة هوبز لغاليليو في العام  1636من السعي لتطوير المضامين الفلسفية، والنزوع الى تجديد تفسير الوجود، فكانت هناك حمية فكرية تدفعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية، وتلك تعتبر نقطة تحول مهمة في الخطاب الفلسفي الانجليزي، وشكلت ظروف الحرب الاهلية في بداية اربعينيات القرن السابع عشر اجد المعوقات، والتي فصلت ما بين جهة التحديد المدني وجهة قيم التراث، وذلك ما وسع افق الاشكالية حين انقسمت الأمة على نفسها، وهذا صراحة من الامور العصيبة، حين تتعارض الأمة مع نفسها، والانقسام وانتاج شعوب ذات توصيف ايديولوجي، وكانت الحرب الاهلية تؤكد من عنوانها المعنى الجدلي للأيديولوجيا، ونشير هنا الى انعدام المجتمعات من وضع دستور فلسفي لها، هو من جعلها لعرضة لمواجهات العداء النفسي والايديولوجي، والفلسفة هي الضحية الاكثر تضررا على المستوى العضوي، فإذا سنحت الظروف لهوبز للنجاة من الحرق، لم تتح لغاليليو من امتلاك الحرية الكافية، وذلك يعني وجود ظروف مشابهة لطروف الفلسفة الاسلامية التي ظلمت ابن رشد .

لقد اسهمت الحروب بشكل فاعل في انحسار الخطاب الفلسفي، فبدلا من أن يجد العقل ذلك النوع من التفاعل ما بينه وبين العقل الاجتماعي، شغلت الحروب التفكير البشري، وكان لنابليون بونبارت الاثر العصيب، في رفع مستوى القلق والخوف عند الناس، فأثار الحرب والمديات المروعة في تدمير الاقتصاد، او شله على اقل تقدير، وهذا بدوره سينجم عنه خمول القدرات البدنية، وعلى العكس من اثار الحرب المدمرة للقدرات البشرية والموجودات، والاثر النفسي المتصاعد خشية منها، كان هناك ما شهدت بريطانيا من ازدهار للفلسفة الوضعية، وقد اسهم خطاب كونت في رفع الروح المعنوية للتطور العضوي، والتي تعنى بتطوير الفكر الرأسمالي، ومن الطبيعي أن تشهد تلك الافكار ردود افعال لا تسير في اتجاهها، فقد وصف كونجريف في رده على كونت بأن الفلسفة الوضعي هي دين بلا تعاليم عقائدية، ودمجت بالمضمون العلمي لتبشر بوجود دين جديد، وصراحة كان ان نلمس ذلك الاثر البليغ في الافق العضوي للرأسمالية، وكما قد بثت طاقة روحية في كيان الرأسمالية ليبدأ بصيغة جديدة، وممن كان له رد فعل مضاد ضد فكر كونت، فطرح جون رسكين مقولته التي بها قد (احتج باسم الفن والجمال على عقيدة الآلات البخارية والمصانع، وعلى الاتجاه الى التصنيع والايمان المتعصب بالتقدم، وغير ذلك من الأفكار التي كان الوضعيون في رأيه هم دعاتها )1، لكن هاريسون تصدى لتلك الطروحات المعارضة، وضد سوء الفهم او تشويه الغايات الفكرية.

هناك فكرة جانبية نود عرضها، وهي ليست في اصول الفلسفة الانجليزية، وانما في كتاب يدرس الفلسفة الانكليزية في قرن او اكثر من قبل عقل الماني، وتلك اقرب الى المفارقة، ونحن لسنا ضد هكذا فكرة، لكن هي تفرض نوعا من التأمل، لكن نحن نشيد بالتتبع المتواصل لتاريخ الفلسفة الانجليزية، وبالرغم من وجود معرضة نسبية من قبل الفلسفة الالمانية لطروحات الفلسفة الوضعية، وهناك التزام كبير من قبل الفلسفة الانجليزية بالأصول والقواعد التي انبثقت من الفلسفة القديمة، لكن هناك تباين في قبول او رد الفلسفة المعاصرة، فقد وجه مانسل النقد لخطاب مانويل كانت، واعتبر في طرح له في جامعة اكسفورد بأن كانت بلا ارادة معرفية، والكتاب الذي نحن بصدده قد طرح تلك المقولة ولم يعلق عليها، وتلك الصيغ التي يكون فيها الخطاب بحيادية تامة، هي التي اكثر تفسيرا للأفكار بشكل موضوعي، وهي الافضل في الدقة والتركيز على صيغ الافكار، وكما في تفسير لنا نجد هنا توازي ما بين الغايات العقلية في الفلسفة الوضعية وما بين الطروحات التي قدمها لنا رودولف متس، واذا كانت مراحل الفلسفة الوضعية تنتهي الى تسيد العلم كنتيجة اخيرة، فأن صيغ الخطاب في الكتاب ايضا تتجه الى ذات المسعى العلمي، وتكون ايضا بتلك الروح البينية الحرة، فصيغ الخطاب كانت تتمحور بحرية ما بين التسلسلات التاريخية للفلسفة الانجليزية، والانصاف والموضوعية كانت هي الملامح الاساس التي انبثق منها الخطاب في الكتاب.

شكلت الكنيسة بتلك الصيغ الاستبدادية والعنف النفسي وتسخير اشد انواع التعذيب، وجميع المؤشرات التاريخية تشير الى وجود مؤشر للظلم هو بأعلى النسب في طرح نوع من الاقتصاص يتعارض مع روح السماء السمحة، والكنيسة استغلت

العقيدة بصياغة قوانين الرعب المتعاقبة لوضع الشعوب في زاوية الحرمان والخوف والطاعة، ووضعت جملة من خطوط الرعب التي احاطت بالوجود البشري، وكان نصيب وجزاء العقل الفلسفي تلك العقوبات القاسية، وما يملك الخطاب الفلسفي من قيم تحيد وفصل ما بين مفاهيم الخير والشر والعلم والضلال، والكنسية انبثق خطابها المتشدد من الضلال والجهل، وقد استعارت الكنيسة من جهة الصورة التي كان عليها سقراط، ولكن بدلا من أن يختار الفيلسوف التضحية، كانت الكنيسة تختار له العقاب الاقسى والاشد، بل تتجاوز الكنيسة كل القيم والاعراف، وابتكرت انماط من التعذيب لا تليق بالمعنى الإنساني مهما اختلفنا معه، فحرق الاشخاص وهم احياء كان ابشع الصور التي تليق بصولجان، فكيف تكون تليق بكنيسة دين، وكانت الفلسفة هي من قدمت الضحايا النوعية، وكان هناك فلاسفة لم يمنعهم الخوف من العقاب الصارم، قدموا البراهين على أن الدين هو المعنى فيما السلطة الدينية الوجه البشع لذلك المعنى الفطري، ونحن لسنا بصدد العلائق التاريخية للفكرة، بالقدر لتوضيح احد الامور، والفيلسوف نيومان قدم كناب – قواعد التصديق -  واقتصر تفسير فكرة الدين على أنها ذاتية، لكن الكتاب الثاني الذي عني بتطوير تعاليم الدين، والفكرة الاساس التي يطرحها نيومان، تبرز حالة اساس في هدم فصل الدين عن تاريخه، لكن اذا كانت الاشكالية هي احد مفاصل التاريخ، فقرون من التزمت الديني التي لم تنتج غير القسوة والعنف وحرق الناس وهم احياء، فحتى وباء الطاعون كان اكثر رحمة.

بدأت الفلسفة الانجليزية في بداية القرن السابع عشر على انتاج خطاب جديد لتفسير الدين بحرية اوسع، وتجاوز تلك السمات والمظاهر في تشديد العقاب، وتعتبر تلك اولى المحولات العقلية الجادة في رفع مستوى العزيمة الإنسانية للخطاب الفلسفي، وكان بلونت احد اهم الفلاسفة في تلك المرحلة، وفي تصعيد نفس المواجهة عبر التأليف، وليس عبر المواجهة المباشرة مع القسس، وبداية ترجم احد الكتب، وبلغ فكرة من خلال القراءة الى الفصل ما بين المعاجز التي تنتجها الوثنية بسيرورتها التاريخية، وبين اعتقاد المسيحية التاريخي، وبعد ذلك بسنوات قدم بلونت احد اهم كتبه، فيعتبر كتاب – وحي العقل – نوع من الاحتجاج على تلك الديانة الاثمة، وعلى العنف الديني في حرق الناس احياء، ورفض وامتناع عن سبل معاقبة العقل المنتج، والذي يسهم بتطوير العالم اضافة لدوران عجلة الحياة، ومن ثم كان كتاب – المعجزات وقانون الطبيعة – وطرح فكرة بطلان تلك العقائد الاسطورية التي تستغل العقل الساذج، والتي فيما بعد تلبسه ثوب الاتهام، اذا ما تجرأ ورفض، ويعتبر بلومنت ثورة فكرية وذلك الصوت المعرض لكل ما يتنافى مع العقل، لكن ما اشيع من ان بلومنت انتحر لفرض القانون الانجليزي من زواجه من اخت زوجته المتوفاة، ومن الممكن أن تقوم الكنيسة العاجزة عن مجاراته في الخطاب العقلي الى اتهامه والسعي لتشويه الموقف الاجتماعي له، ونحن نقف مع العقل والخطاب والفكر، ولسنا مع الوقائع بأي صورة كانت.

***

محمد يونس محمد

........................

1- الفلسفة الانجليزية في مائة عام، رودولف متس، ترجمة فؤاد زكريا، دار النهضة العربية، ص 210

لو ننظر تاريخ الأديان البشرية التي فقدت نقاء الفطرة بالتدريج، لنقف على أبشع الصور المنعدمة الإنسانية، وصراحة تاريخ الأديان مشوه إلى حد ما، حيث تصاعد حمى الأيدولوجيات في كيان الديانات، وتحولت إلى سلطات بشرية صلبة وفاقدة للرحمة، والتاريخ البشري اكتظ وتزاحم بالمؤشرات العديدة التي تحيلنا إلى أوضاع بشعة من أنواع القسوة التي تتجاوز كثيرا قسوة شريعة الغاب، فالقسوة البشرية الموجه ضد ذات النوع البشري أشد من قسوة الحيوان الجائع وتدفع غريزته لافتراس نوع آخر من الحيوانات، فيما النوع البشري هو يستخدم أشرس أنواع السلوك ضد نفس النوع البشري باسم الدين أو الطائفة، وفقدان الحلم والحكمة عند رجال الدين واستبدال ذلك بحمية شرسة وقحة وعنيفة بنفس وحشي، وخطابنا ليس بخطاب مضاد وعاكس اتجاه المؤسسة الدينية، بل هو يدرس ظواهر مرت بتحولات من أفق معنى إلى آخر، وتكون مخالفة لمعناها الأصيل، وأعتقد أن المؤسسة الدينية بتاريخ الأديان الثلاثة بلغت اقصى نسب البشاعة والعدوانية، ونحن هنا لسنا ازاء فعل او سلوكا شخصيا، بل سلوك جمعي مثله من رجال الاديان الثلاثة الكبرى، فلقد اقرفت جرائم باسم الدين، انحدر فيها السلوك البشري الى ادنى درجات الحضيض، ونحن في خطابنا لا نقر بأن الدين بذاته هو مشوه، بل نقصد السلوك البشري الذي من جهة هو المشوه المعنى الديني، وقتل فيه المعنى الإنساني.

لقد كون المعنى الديني هوية له، وتلك الهوية تقترب كثيرا من الفلسفة الأخلاقية، وكان هناك نوع من التقارب الكبير بين هوية الدين ذات الطابع المتعدد الوجوه من الحكمة إلى السرد ومن ثم الأحكام غير القسرية غالبا، والفارق بين هوية الدين وهوية الفلسفة هي في مرجعيات الخطاب، فهوية الدين هي نتاج خطاب علوي ومرجعية الخطاب هي سماوية، فيما مرجعيات هوية الفلسفة في بعد التقارب هي أرضية، وهنا هي تحتمل القبول أو الرد، وهي على عكس الهوية السماوية التي ذات أفق حتمي، لكن واقع الفلسفة أكثرا قبولا عند العقل الحي من واقع الدين، حيث هناك نفس بيروقراطي يسود الواقع الديني، بل حتى تجاوز تلك البيروقراطية إلى مستويات بشعة في التطبيق والسلوك، وقد شهد الواقع الديني خلال مراحله التاريخية أبشع الصور التي تترجم سلطة صولجان وليس بحكمة دين، وتناوبت الأديان الكبرى الثلاثة بمراحلها التاريخية في تصعيد خطاب القسوة والعنف أكثر وأكثر، ولم توجه تلك القسومي والعنف ضد أهل الإلحاد بالقدر الذي كانت فيه الممارسات العنيفة موجهة لذات الدين نفسه بشريا، وصراحة من انزلوا الدين من عليته إلى أغراضهم الشخصية لم يفسدوه فقط، بل قتلوا كل معنى للدين في أنفسهم وفي نفوس من تسيدوا عليهم باسم الدين، ولا دين للمؤسسة وإنما الدين لله، لكن تلك المؤسسة استغلت الدين وفرضت قوانينها على أنها منزلة من السماء وبطشت بمن يعارض تلك التعاليم المسيسة بخاشع صورة.

يشكل الدين في ذاته وكينونته نظرية وموضوعة، وتلك الموضوعة من الخلل أن تقابل بتأويلات بشرية تعاملت مع الدين من جهتها وليس عبر المشتركات التفسيرية والتأويلية، وهنا أهم نقاط الإشكالية تكمن، فالفرد العام في علاقته مع الدين يؤمن بيقينه حتى في الإطار النسبي، لكن فرد المؤسسة الدينية يمن بحتمية الدين بلا يقين، وعلى أنها مطلقة وتامة من خلالها ومن خلال تسيسه لها، والمؤسسة الدينية تتعارض التباين الاجتماعي والتحولات العقلانية، وتسعى المؤسسة إلى تسيس العقل العام، كي يمكنها فرض قوانينها عليه، وكي تتوسع الخبرة الاعتقادية في أفق العقل الجمعي، ويتم ذلك بشل مباشر ودون شعور تأمل أو ترجيح، كي يرجح في التفكير العام للفرد، لقد (كانت الديانة التي ينتمي إليها الفرد تفرض عليه أن يقوم باستجابة دفاعية)1، وتقوم المؤسسة الدينية بإشاعة حاجة الدين إلى القوة والفاعلية،

وتنمي في نفس الفرد سياستها من خلال تفاعله النفسي مع الدين، ويصبح واقع المؤسسة الدينية بهذا الوضع أشبه بفصيل فرقة إعدامات الجنود الهاربين من المشاركة في الحرب، وصراحة قد تتوافق البشاعة الفعلية والنفسية عند المؤسسة الدينية على هذا المضمون، ومن الصعب على الدين جدا موازاة هكذا سلوك ديني يتعارض معه، لكن صراحة لا صوت للدين إلا من خلال البشر، وإذا كانت المؤسسة ترفع حرابها بوجه أي صوت، حتى لو كان هذا الصوت صافيا دينيا ودون أي شوائب، فمن طلبوا من نبيهم مائدة طعام من المؤكد لا يطلبون في إي ظرف لهم أحد الكتب المفيدة في تزكية الانفس.

لا بد من أن  نعترف بأن الدين قد اخترق من الداخل بالشكل الذي وضع الدين في مأزق إنساني، فالنظرية الدينية غادرت عليتها حين تحولت إلى واقع، وذلك الواقع في تفسيره الموضوعي يتعارض مع روح الدين ومعناه الأصيل، فالدين لا يعارض حرية أحد ولا يعارض حرية أحد ما دام هناك نفس سلمي مشترك بينه وبين الآخر، وصراحة برزت فكرة خائبة كثيرا، وقد تبلورت وأصبحت مفهوما في القرن العشرين، وهي في ما يعنيه – الآخر – من علاقة مضادة حسب تفسير المؤسسة الدينية، فالدين في أصله وجوهره هو رحب ولا يتعارض مع معنى مضاد إذا كان بروح سلم وواقع سلمي، وكما هو في أصله لا يكره أحدا في مضمونه العقائدي، وما جرى من رسم صورة معاكسة في الأديان الثلاثة الكبرى، هي نتاج المؤسسة الدينية، وليس الدين نفسه، فالدين نفسه هو مجرد وليس بواقع، وإنما كان المفروض أن يكتسب الواقع من الأطر الفكرية للدين ويكون مثالها في الحياة البشرية، ولا يتعارض أبدا في جانب معها، وإذا كان هناك عدم هضم الأفكار أو عدم فهمها، فالأولى أن يرد ذلك إلى منطقة الفراغ، كي لا يكون هناك جدل عقيم، لكن المؤسسة الدينية، والتي على مدار التاريخ نجد من أدار تلك المؤسسة هم من النفعيين والبراغماتي وايضا فيهم من الديماغوجيين، وقد لجأ اولئك الى القسوة المفرطة دون اكتراث، فالدين بحد ذاته يجدونه يبرر تلك القسوة ولا يعارضها، وهي سلاح السدنة الذي يتملكون الدين لصالحهم، فهم سيسوا الامور ولم يعودوا كما البشر الاخرين، بل هم الاستثناء المتفرد بشكل مطلق.

لم يكن دور المؤسسة الدينية جاء وفق التغيرات الكبيرة لشكل الحياة والتي فرضتها أطر ما بعد الحداثة، بل نرد الأمر إلى التاريخ القديم، ونصل إلى أقصى المراحل في العمق البشري، ونؤكد بأن براغماتيا التدين تتيح للسدنة التحول من امتلاك ناصية الكفر إلى امتلاك ناصية الدين، ومن عارضوا إبراهام حين أطاح بالأصنام وأسقطها أرضا هم ليسوا سوى الوجه الآخر للسدنة، وفي تفسيرنا للتاريخ نجد أول استثمار واع للدين تم خلال حياة موسى، حيث يحيط به مجموعة تختلف علاقتها مع الدين، وهناك أكثر من موضع وإشارة للعلاقة النفعية بالدين عند هؤلاء، فهم قالوا أذهب قاتل أنت وربك ونحن سنقعد هنا، وطبعا هم قصدوا انتظار النتيجة، ومن الصعب تفسير الدين في اتجاه واحد، لكن الدين في تلك الظروف كان حاجة ليست قصوى، بل منفعة في الإطار النوعي ولا يزال، وقد أساءت البشرية فهم الدين أصلا، لكن البشرية عولت على الأمور التي تتصل بمنفعتها، وليس بما يتصل بالمفهوم الديني، والنفس البشرية إذا تبعت فطرة سليمة اتجهت نحو المفهوم الديني، وإذا اتبعت الغريزة اتجهت نحو الانتفاع من الدين، وعولت عليه في المكاسب المادية اكثر من المكاسب المعنوية.

إذا أشرنا إلى أن الدين معرفة، فسنتصل بمرحلة تاريخية أساءت فيها المؤسسة الدينية إلى أحد أرقى وأنقى الفرق الدينية، فالمعتزلة قدمت خطاب الحداثة في زمن مبكر جدا، لكن قد واجه رقيها المعرفي شرطة دينية، وما كانت تلك الشرطة إلا إحدى الصور البشعة للمؤسسة الدينية وبشاعة شعورها الديني الاستبدادي، من الطبيعي إن المعرفة هي نتاج العقل الراقي، وهذا الأفق البشري، أما المعرفة العليا فهي الأولى أن تكرس عبر وعي مدرك وقريب منها، وليس أن تحولها المؤسسة الدينية إلى أدوات براغماتي، وذلك الاستغلال للمعرفة العليا وجعلها مادة استعلاء حتى على أرقى العقول البشرية، والمؤسسة الدينية هي لا بد أن  تكون افقية واسطية، لكن هي تجعل نفسها يد الله وسلطانه على الارض، والواقع التاريخي للمؤسسة الدينية لن يخلو من صور استبداد او قمع للحريات الدينية، فيما قد جعلت السماء حدود سلطة الانبياء والرسل في التبليغ والنصح فقط، وفيما عدى ذلك يعتبر تعديا على الحريات الشخصية، فيما المؤسسة الدينية تجاوزت في الفقاهة حدود ذلك الابلاغ والنصح، واصبحت سلطة ارضية بديلة للسلطة السماوية، لكن على مستوى التحليل النفسي والوجداني والإنساني نجد اساءة المؤسسة لم يبلغ أي حد منها اهل الالحاد، فالدين في جوهر حقيقته يمتلك روح التسامح والصفح، فيما المؤسسة الدينية لا تمتلك غي اللوم او التعنيف لمن في جبهتها، ومن كان في الجبهة الاخرى فلربما اقامة الحد عليه بعد تجريمه هو عقاب عادل، وقسوة المؤسسة الدينية منذ بداية تاريخ الاديان الى اليوم قسوة المؤسسة الدينية قائمة ولم تتغير، وتحولت القسوة عبر سيرورة التاريخ الى سياق ملزم، ومن خلال ذلك السياق الذي انتجته اعراف المؤسسة الدينية، تحولت سلطة المؤسسة الدينية من اعراف الى حقيقة ملزمة.

من الطبيعي أن يكون هناك فارق ما بين النظرية الدينية والتطبيقات البشرية لها، وكان من المفروض الا أن يكون حتى دور العقل الراجح الحر مثال ارضي للسماء، حيث الطبيعة البشرية نفسيا هي في اطار نسبي في جانب العدل الاجتماعي، والعقل الراجح اذا تحرر من الاطر القبلية لا يمكنه التحرر من الاطر النفسية، وايضا لا يضع مرآة امام ذاته، وهنا نقف امام مفرق مهم، حيث لابد من إلغاء أي سلطة دينية أرضية، وخصوصا إذا نتفق ونقر بأن دور النبوات هو يحدد في التبليغ وأقصى حدا تبلغ به هو النص المجرد الحر، ولا يمكن هنا إلا جعل الفرد البشري هو من يملك حق الاختيار التام والكامل، ولا يشاركه أحدا في ذلك، وصراحة حرية الاختيار هي سبيل الحرية الشخصية، وما الذي تختلف به المؤسسة الدينية عن الأيدولوجيات إذا كانت هي من يرجح الحرية الدينية، لذا هي أكدت عدم اختلافها عن الأيدولوجيات عندما سيست النظرية الدينية وجعلتها آفاقها سياقا وثوابت، وعلى البشرية الالتزام بها، وجاهدت واجتهدت المؤسسة الدينية وقمعت وارعبت واذلت وبطشت كي تكتسب سلطتها البعد السياقية، وتكون المثال الذي لا يجد اي اعتراض عليه، وبكل ما تستطيع من سبل قامت المؤسسة الدينية بتقنين الدين بالسبيل الذي لا يحد فيه البشر الحق والعدالة الا من خلال المؤسسة الدينية، وساعد تاريخ الفقاهة تلك المؤسسة، والذي قام بتضيق سبل الوعي المقابل، فالكنيسة الكاثوليكية نفت تماما وجود اي سبيل غيرها للدين قبل عدة قرون، وقبلها وجد المعتزلة الطريق مسدود امامهم واما الاستسلام واما القتل بعد التجريم، وحتى مبدأ الاخبارية انحسر بالتدريج، بعدما اوهمت الفقاهة العقل البسيط بأن لا دين بلا تقليد، ونمت داخل المؤسسة الدينية عقول راجحة، لكنها اقرت بأن مبدأ التقليد يرتبط اساسا بالعقيدة، وكأنه احد اسس علم العقائد، وكما اسلفنا أن العقل الديني لا يقف امام المرآة، فهو يخشى أن تبدي له المرآة ما يكره، ونشطت المؤسسة من خلال الفقاهة، وجعلت كل حرية مشروطة لعامة البشر، ولن تتحقق تلك الحرية الا من خلالها.

نشأت الأديان منذ بداية التاريخ، لكنها لم تسبق أيديولوجيات الصولجان ولا الأعراف العامة، فالدين لا يأتي لفرد أو مجموعة أو جماعة، بل لا بد من أن يقابله ذلك المجتمع التام عرفا كما يسمى قديما، وكما اليوم هو ماثل أمام المنهج العلمي لعلم الاجتماع، والذي من خلاله يعتبر الدين منهجا تجريبيا، لكن الدين في جانبه الفكري هو خارج وحدة الزمان، وكما هو منهج إدراك عقلي وليس بادراك بصري، والإدراك البصري انحصر في الشواهد الكبرى وأساطير الدين، من مثل انفلاق البحر لموسى حسب المرويات الميثولوجي، فيما الواقع الديني هو المرآة الحية للدين، لكنه قد استغل وحرف، وتحول إلى سياسة مؤسسة مستبدة، وسلطة الغريزة التي يراها وليم جيمس نموذجا للطبيعة البشرية، مثلما يرى أفلاطون المنهج البدئي في الدين هو أفكار أو مثل، والتي يرى هيدغر أنها ليست بميتافيزيقا ولا هي دين، ويرى هيجل الدين هو ديالكتيك نظري الذي يخسره التطبيق، وستكون المؤسسة الدينية قاصرة حتما، فالقصد البشري سيسمو على القصد السماوي، ولم تتفق وترد كينونة الدين في تعاليها مع ذلك القصد القاصر نسبيا والعاطل عن الإطلاق، ومن الطبيعي أن يكون التفسير الموضوعي هنا أننا نفرق ما بين الخطاب الأرضي والسماوي، والذي هو (الرد المتعالي في الوقت نفسه من حيث هو منهج العلم الكلي؛ منهج تأصل وجود الموجود)2، وهنا لم نقدم الخطاب وفق الحكمة وعلم العقائد، بل عبر منظور فلسفي، وهنا يتسع الفارق إلى حد كبير ما بين النظرية الدينية وبين التطبيقات البشرية لها.

ثمة فرق كبير بين جهة الدين التي تستغل، وبين جهة الاستغلال البشرية، فالمعنى الديني هو حتمي في ذاته وفي استيعاب العقل له، ولكن جهة الاستغلال تحول المعنى الديني إلى سياق مستغلة تلك الحتمية، ولكن هي تستغل حتى تلك الحتمية حسب المقاصد والغايات البشرية، حيث هنا لا يمكن للعقل البشري نقض تلك الحتمية أو رفضها، وقد دفنت داخل تلك الحتمية رغبات تلك المؤسسة، والتي هي تلبس ثوب القداسة والتبجيل، وبذلك على أقل تقدير تضمنا لصالحها العقل البسيط والبشر منعدم الوعي، أو أصحاب العقل الساكن، وفي تفسير السعي البشري لتجنيد البشر لصالح المؤسسة الدينية شارك فيه حتى الفقهاء، والذين فيه من يقول – الله اعلم- وهناك من يقول – أنا أعلم –، فيما كل علم من جهة البشر هو نسبي، وهذا يشمل حتى الأنبياء والرسل، ولا يستثنى منه حتى أنشتاين، حيث مرة اثبت منظار التلسكوب على عدد من النجوم، وفي اليوم الثاني وجد أنها قد تغيرت بشكل لافت للنظر، وصراحة نحن في المنهج النسبي أما المنهج الحتمي ففي كليته موجود ولا موجود، فهو موجود في نفسه، لكن لا وجود لها أمام عقلنا البشري وإدراكه أو المستوى الإدراكي للنظر، حيث ينعدم تماما، لكن يبقى إيماننا به، فيما سلوك المؤسسة الدينية نحن نراه من جهة الإدراك البصري، ويراه الخالق من جهته، وليس حسبا ما ندرك أو نبصر.

***

محمد يونس محمد

..........................

1- سسيولوجيا المقدس، فيليب ميلور/ كرئيس شلني، ترجمة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، ص 27

2- نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، مارتن هيدغر، ترجمة وعد علي الرحبة، دار التكوين، ص 65

(إن الثقافة إذ هي تؤول العالم، فإنها تغيره)... بول ريكور

(مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة والسفر الطويل يبدأ دون أن تسير القاطرة!).. أمل دنقل

يستطيع الإنسان الكوني اليوم أن ينوجد في صلب المفهوم الجديد للذاكرة الثقافية، بما هي موضوع للتساؤل النظري الواعي بأولوية تأصيل التجربة الاجتماعية وموقعها في التاريخ والثقافة.

يقترح علماء الاجتماع في صلب هذه المقاربة الحديثة، الاتصال بالثقافة، كما هو الحال بالنسبة لجورج سيميل الذي يعتبرها مشروعا بديلا لتهذيب الأفراد من خلال فعالية النماذج الخارجية التي أصبحت عامة وموضوعية عبر التاريخ. وهي مواضعة يؤسس عليها جورج سيميل نظريته باعتبار أن أساس تدهور الثقافات يأتي بالدرجة الأولى من التسلسل الهرمي واحترام التقاليد . عكس بيير بورديو الذي يدمج الفئات الاجتماعية والاقتصادية ضمن هذه الرؤية، باعتبارها فئات مرتبطة ببعضها، ولا يمكن أن تختزل الثقافة داخلها.

القصد من إيراد هذه التقعيدة، هو الانفعال مع الأشكال المستحدثة لمجموع الثقافات الجماهيرية وتكورها على نطاق واسع، وما صاحب ذلك من تسوية للاختلافات والاختلالات الاجتماعية والثقافية، وكذا تفكيك الفئات الاجتماعية في المجتمعات الكونية، التي طالما ضمنت "نقل القيم التي يتم تذكرها بشكل جماعي والحفاظ عليها" علامة على الأفول والانهدام تحت سلطة أفول الذاكرة الحضارية، وانصرام دهرها ونكوصها تحت نظر ما أصبح يطلق عليه اليوم ب "الوعي النظري والتاريخي".

إن ثنائية "الذاكرة والثقافة" تثير هذه الأسئلة، الموتورة والمتوثرة، من "شعور بالأزمة والتحول"، وأعراض ذلك على قيم الاتصال والمثاقفة الحضارية بين الشعوب، وانعكاسها على واقع "الذاكرة الفردية والجماعية"، التي تتجادل في سياقات متقاطعة ومتناقضة وسط فوضى السوشيال ميديا ووسائط التواصل الاجتماعي المتعددة، وهو ما يسهم بشكل أفقي في صناعة نقاشات فارغة ومجتزأة من سياسات مخدومة لإحياء ثقافات مهيمنة ومقنعة.

إن التفكير في حالة الذاكرة وعلاقة الذاكرة بالتاريخ والثقافة، يؤشر على ضياع بوصلة الفكر الجماعي، وانحصار ذلك في الابتداع الفج والهامشي للمجتمعات المقسمة والمتناحرة، محدودة الرؤية والحدود الجغرافية والسياسية، ومتباعدة في علاقاتها الإنسانية، وغير قادرة على التسامح والحوار وقيم الاختلاف، حيث تصبح هذه العلاقات المتضاربة والمتجادلة، ليس فقط بين الذاكرة والتاريخ، ولكن أيضًا بين الذكريات المتناقضة في كثير من الأحيان للمجموعات العرقية والمجتمعات الدينية المختلفة.

وفي هذا المستوى يمكن طرح قضايا الانحسار الثقافي وتداولياته، في بنية تماس المنظومة الغربية وربيباتها، حيث تستقيم جدارات التأثير الأيديولوجي، وآثاره في محيط المستعمرات القديمة، ومستتبعات ذلك في المآلات الكبرى للتنمية، كالتعليم والخدمات الاجتماعية الموازية، والرهان على مجتمع المعرفة وتطوير البحث العلمي والأكاديمي الجامعي ..إلخ.

 وقد أفاضت المؤرخة الفرنسية نادين بيكودو في تأطير وتفكيك هذه القطيعة، في كتاباتها حول الفعل الاجتماعي الثقافي داخل المجتمع العربي المتدين، وخصوصيات الذاكرة الجماعية في تحصينه من مخاطر الأيديولوجيات والتيارات الفلسفية المتداعية؟. ولهذا لا يمكن الحديث هاهنا بمعزل عن نظرية المفكرة الفرنسية نفسها، من كون "الإيديولوجيا هي بمثابة “رؤية للعالم”، كما الإسلام، يقدم لمعتنقيه رؤية للعالم"، وهو الأمر الذي يتعزز بآليات امتداد الأيديولوجيا في السلوك الإنساني الجماعي المحدود، والذي يعني من ضمن ما يعنيه اقتياد البوصلة ك"جماع أفكار، أو تصورات ومعايير وقيم، ومثل"، يتم اعتناقها والإيمان بها تحت مسميات إنسانية عديدة، تتجافى، وتتقاطع، وتتلون، ولا تراوح حيزا في الزمان والمكان، دون أن يشكل ذلك وحدة مبيانية في التأثير والامتداد ..

وإلى ذلك، يمكن أن نطعم هذا المنهج برؤية جديرة بالتأمل، ساقها الكاتب الفرنسي فرانسوا برون في إحدى دراساته حول (الأيديولوجية لحكم أفضل .. موت وقيامة الأيديولوجيات)، يذهب فيها إلى أن "أيديولوجية المجتمع أو الطبقة الاجتماعية تنخدع في معظم الأحيان بالطبيعة التعسفية لرؤيتها للأشياء. تمزج ما تؤمن به، بما تراه قمينا بالمتابعة والتمحيص، وسرعان ما تحتفظ فقط مما "تراه" بما يؤكد ما تؤمن به، ثم تأخذ نظامها في التفسير لواقع العالم. إنها تبني أساليب الحياة الموروثة من التاريخ، والمتعلقة بالثقافة..". وهو ما يؤكده رولان بارت أيضا في كتاب “أسطوريات” أو "البرجوازية الصغيرة"، حيث "الطبيعي الذي تُلبِسه الصحف والفن والحسّ المشترك باستمرار لباساً مضحكاً من الواقع..، عن الطبيعة والتاريخ وقد احتدما في سردية واحدة، عن الخداع “الذي يُحوِّل ثقافة البرجوازية الصغيرة إلى طبيعة كلّية”، عن “اللازمانية” التي تسم بشكلٍ عام أية أسطورية؛ رغبة الخطاب الأسطوري الدائمة في احتواء الماضي والحاضر والمستقبل ضمن القول الواحد.

بمعنى آخر، لأجل قياس مدى رغبتنا في الامتداد عبر الذاكرة، وتأسيس مرمى ثقافي بإزاء ما ننظر إليه بأدمغتنا، هناك ما يشدنا إلى التدافع الاختلافي، وتجنيب مبدأ الحياد الفكري، حتى نتمكن من تصويب علاقتنا بقضايا العصر وروحه المتقدة.

وهو الصرح الذي لطالما ننشده، بالقليل من الاقتبال والجهوزية التاريخية والثقافية، لأن الذي يربطنا بالماضي أكثر مما نحاول استعادته بالمنظور المستقبلي. وما نبتدعه عند استعادتنا للمبادرة وتوجيهنا إياه بما يضمن سيرورة أعمالنا وأثرها في المجتمع، يجافي غالبا قلب الهدف الذي نطمح إليه؟.

هل هي الرغبة في التغيير، التي لا تنثني عن مظاهر الفعل الحقيقي والواجب، أم أن أوهاما تحيط بنا من كل جانب، تأبى إلا أن تجحد الطبائع وتأسر العقول، متنكرة، وجائرة في صحراء لا ممتدة؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

الحب أسمى علاقة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، وبنفس الوقت عرف الكره والحقد والعدوان، وأقصد هنا حب الرجل لإمرأة في الوضع السوي- العادي، ويدون لنا التاريخ الديني في كتبه السماوية وكذلك مدونات الكهوف والمغارات ورسوم الإنسان ومنحوتاته تلك العاطفة التي عجز الشعراء والكتاب عن سبر معرفتها، فبقدر ما وجدت هذه النزعه كنزعة عند الإنسان وجد نقيضها، وهي بحق ثنائية متناقضة، لا محبة إلا بعد عداوة، لا تنتهي هذه العدواة بعد الحب،" صراع قبل وفاق، وصراع بعد وفاق – كما يقول مصطفى زيور" بل تترسخ في عمق النفس، في اللاشعور " اللاوعي" طالما بزغت وكبتت في اللاشعور، ستعود يومًا ما ولو بشكل مُحور، بشكل آخر، وتشكل أزمة حتى وإن أستتب الرضا وحصل الإشباع النفسي من الرغبات التي تحكم محور العلاقة، وهي العلاقة الجنسية سواءً بعقد النكاح، أو التواجد معًا بالمساكنة" العيش معا بدون عقد زواج"، أو العلاقة خارج الاتفاقات الشرعية أو الإجتماعية، سينتهي الأمر بالكره في كل الأحوال من كل ما تقدم ذكره، ومن الحب ما كره، وفي الحقيقة هو أساس الحب الكره!!؟؟ لأن النرجسية هي محور العلاقة بين المحبين.

 إن الحياة مع المرأة عبارة عن هدنه، وإن الحياة مع الرجل هي أيضًا هدنة، لأن الحب هو إخفاء الكراهية وإعلان نقيضه، ويقول د. سعد صلال "الرجل والمرأة عدوان طالما هما حيان" وقوله لقد خُلق الرجل والمرأة على أساس الاختلاف أولا وليس الاتفاق ولهذا فمن المستحيل القول من الناحية الأخلاقية الساذجة أنهما يتفقان إلا في حالة واحدة هي الهدنة، والهدنة هي مرحلة قبول الآخر، وإقامة علاقة حب.

الإنسان في تكوينه نرجسي، الرجل والمرأة، والنرجسي يحب أيضًا، يحب الحياة، فهو يحب نفسه، يعشق ذاته، ولما يعشق ذاته، لا يرى من يشبهه في الجمال، وفي الحب، وفي عشق الوجود، لذا من يحب، يحب نفسه أولًا، وهو يستخدم ميكانيزم" آلية" الإسقاط لاشعوريًا "لاواعيًا" على الآخر، أيًا كان الآخر، الحبيب- الحبيبة، العشيقه- ممن يشاركه في ممارسة الرغبة الجنسية، ممن يشبع رغباته في مؤانسته وتواجده معه معًا، فهو لابد أن يختلف معه ولو على المستوى الرمزي المتخيل، وليس على المستوى الواقعي، فإذا كان الرجل هو من يحب هذه المرأة، فهو يحاول أن يرضيها بأية طريقة، إن لم يكن لشيء فمن أجل أن يمارس معها الجنس، حيث لا الإحساس العميق منه باغتصابها دون رحمه، كما أن المراة لديها الإحساس ذاته من حيث الرغبة العميقة بان تتعرض هي الأخرى للاغتصاب، ومن الغباء القول أن النساء يردن الجنس بطريقة متحضرة، الجنس بالنسبة للمرأة عبارة عن ممارسة اغتصاب رسمي. لأنه" الآخر" ليس هو نفسه، فهو منفصل عنه فكيف يمكن أن يحبه؟

يقول "هيجل" أن الرغبة ليس لها أي نتاج سوى تدمير الآخر، سوى المنافسة مع الآخر، أو في الأحرى: الرغبة في اختفاء الآخر، وعند "جاك لاكان" الرغبة تتحقق في الآخر وبوساطة الآخر، وتكون في مرحلة المرآوية، اللحظة التي يتمثل فيها الفرد صورة لذاته، أو التي يتكامل فيها أناه" نيفين زيور، 2000، ص 18"

إن ثنائية الوجدان هي سمة صراع الحب والكراهية والتي تعصف في الوجدان ويرى "مصطفى زيور" إن قلب الإنسان تسكنه قوتان متناقضتان، لكل منهما طاقة تكاد تساوي الأخرى، تتنافسان في اتجاهين متعارضين، ومع ذلك فإن هاتين القوتين قد تتداخلان الواحدة في الاخرى، أو قد تحل الواحدة محل الأخرى، بل يبدو أن التداخل سمة اساسية في حياة الإنسان تبهظ كاهله، وهي التي يطلق عليها في التحليل النفسي ثنائية الوجدان Ambivalence  ويضيف " زيور" وهكذا نجد الإنسان مدفوعًا بحاجة ملحة إلى الحب والخلق والتشييد، ونجده في نفس الوقت، وأحيانًا بنفس الإلحاح، مشدودًا إلى الكراهية والتدمير، إنه موجب وسالب معًا، وإذا وجهنا النظر إلى الكراهية في صورتها الفجة المدمرة، وجدنا الإنسان الكاره محطمًا لغيره وهذا ما نجده في الشخصية المضادة للمجتمع "اللااجتماعية" السيكوباثية، وكذلك الشخصية النرجسية، وفي ظروف بعينها محطمًا لنفسه، إذ لم يسعفه الحب في تلطيف حدة الكراهية فتكون الصورة الاكتئابية، ويقول " زيور" في هذه الظروف يتخلق الاكتئاب في صوره المتدرجة من الأكتئاب العصابي الطفيف إلى الاكتئاب الميلانخولي الذهاني " العقلي" الشديد الذي ينتهي بالإنسان في الإنتحار، في حالة البوردر لاين Borderline .

أن ثنائية الوجدان " ديالكتيك الحب والكراهية" موجود في النفس البشرية طالما هو يحيا ويستمر في الحياة، فالنفس متجددة ومتغيرة في رؤاها للإشياء والأشخاص والمواقف الحياتية، ففي حالة فقدان الحب في النفس البشرية يكون هو الموقف المسبب والباعث الأساس على بروز الاكتئاب سواء أكان الشخص لم يعد محبوبًا، أم لم يعد يشعر أنه محبوب، والكلام ينطبق على الرجل والمرأة معًا، مرتبط بعلاقة زوجية، أو حالة عشق، أو تعلق، أو اهتمام من الطرف الآخر، والامر سيان من جهة أخرى لم يعد الشخص يسعه أن يحب، أو يكون محبُا.

أن العلاقة بين أثنين رجل وامرأة أو رجل ورجل "صداقة" أو امرأة وامرأة " صداقة أو علاقة قربى، لابد أن يكون محورها الحب لأن الهدف السامي في الحياة هو الحب والحياة قائمة على الحب، وأقصد بأحد شقيه الحنون فضلا عن شقه الجنسي كما عبر عنه سيجموند فرويد. وتؤكد لنا الدراسة المعمقة للنفس أن الحب قد يكون غطاء للكراهية، أو ربما يكون ممتزجًا بقدر عظيم منه، فحب الأبن لأبيه هو حب المحكوم للحاكم، يظل خافيًا لسنوات لحين يتفجر موقف الإختلاف الذي لا يقبله الأب أبدًا عند سن البلوغ، فالأب رمز للقانون وعلى الأبن أن يذعن لهذا القانون حتى وإن خالفه رؤيته، ويرى " جاك لاكان" في رؤيته لهذا الديالكتيك بصورة الأب بأشكاله بالأب الرمزي والأب المثالي والأب المخيالي، وما ينشأ عنه من صراع. وكذلك ثنائية الوجدان بين من يحبون بعضهم، هو قدر الإنسان في وجوده وأستمراره في الحياة، ولكي تستمر الحياة بلا مياه راكده على الإنسان أن يقبل التجدد في تفكيره وما يمليه عليه سلبًا أو إيجابًا، ليس هو خلاف على أرث مادي، أو خلاف على تربية، أو خلاف على رؤية عابرة، إنه منهج يتجدد في النفس لا تطيق النفس الركود والارتكان لهذا الأمر لأنها متجددة في الرؤية ومتطورة، وقتل التطور هو وضعها في صيغة واحدة وهو أمر محال.. فثنائية الوجدان هي محك استمرار الوجود الإنساني ونستعير من جاك لاكان فكرته الوجود مرهون بالكلام "المتكلموجودي" ننقلها بأن الوجود مرهون بثائية الوجدان "الحب والكراهية" لكي تستمر الحياة بلا موت أكلينيكي. 

***

د. اسعد الامارة

...................

المصادر:

- صلال، سعد (2012) الأنانية أخلاق النبلاء، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان.

- نيفين زيور(2000) من النرجسية إلى مرحلة المرآة، مكتبة الأنجلو، القاهرة.

- زيور، مصطفى (1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.

اعتُبر كوجيتو ديكارت (انا افكر لذلك انا موجود) كأساس للفلسفة الحديثة، اتجاهه كان متميزا عن أسلافه، واتسم بمحاولة البدء من الصفر في فهم الانسانية والعالم. في المبدأ 1.8 يشير ديكارت الى ان الكوجيتو لا يثبت فقط وجوده، وانما يثبت انه شيء يفكر. لكي نفهم بشكل أفضل ما يعنيه هذا، يحاول ديكارت إعطاء تعريف لـ "التفكير" في المبدأ 1.9. بـ "التفكير" هو يعني الاشارة الى أي شيء يتصف بالإطلاع والوعي. هذا لا يتضمن فقط التفكير او الفعاليات الفكرية الاخرى وانما ايضا التصور، الاستشعار، الرغبة، الاعتقاد، الشك، الأمل، الخوف، وجميع العمليات الذهنية الاخرى.

كونه أثبت انه كيان يفكر، ديكارت يستمر لإثبات اننا نعرف عن وجود الذهن أفضل مما نعرف عن وجود الجسم. الحجة المعلنة في المبدأ 1.11 تسير كالتالي:

1- كل صفة او خاصية يجب ان تنتمي لجوهر(طالما هذه هي بالضبط طبيعة الصفة او الخاصية)،

2- كلما اكتشفنا المزيد من الصفات للجوهر كلما كانت معرفتنا بوجوده أفضل،

3- عندما نتعرف على صفة لأي شيء، نحن ايضا نتعرف على صفة لأذهاننا – الصفة المسؤولة عن امكانيتنا لمعرفة أي صفة. علاوة على ذلك، نحن نأتي لمعرفة هذه الصفة الذهنية بيقين اكثر مما لو تعرّفنا على صفة اخرى . فمثلا، نحن نأتي لمعرفة ماهية الوردة عبر رؤيتها. لكن ربما نحن مخطئين في الحكم على ان الوردة حمراء. ما لا يمكن ان نخطأ به هو اننا عملنا ذلك الحكم واننا امتلكنا هذا الإحساس. وهكذا نحن نصبح اكثر قوة في معرفة ان ذهننا موجود.

الاستنتاج باننا نعرف وجود أذهاننا بتأكيد اكثر مما نعرف وجود أجسامنا هو ضد البديهة، وديكارت يحاول لاحقا تفسير لماذا ذلك يبدو قاس جدا لنا. السبب الذي يجعلنا نميل للاعتقاد اننا نعرف أجسامنا أفضل من معرفتنا باذهاننا، هو اننا نفشل في التمييز بين اذهاننا واجسامنا. وهكذا نحن ندرك ان وجودنا هو اكثر تأكيدا من وجود آي شيء آخر، نحن نستنتج من هذا وبشكل خاطئ ان وجود اجسامنا هو المؤكد  وليس وجود اذهاننا.

بعد إثباته انه شيء يفكر، وقبل إثباته ان الذهن يمكن معرفته افضل من الجسم، ديكارت يحاول الإلتفاف في المبدأ 1.10 لإحباط أي معارضة  يدرك انه سوف يواجهها من جانب الفلاسفة المدرسيين: نظرا لفشله بتوفير تعريفات لعباراته مثل "الوجود" و "الوعي". هو يحذر بانه سوف يستمر للقيام بهذا على طول الكتاب ويوضح ان هذا ليس نقص في الاهتمام او أعراض لتفكير متعجل. بل، هو يعتقد ان معاني هذه المصطلحات هي واضحة تماما بذاتها لدرجة ان أي محاولة لتوفير تعريفات (مثلما يفعل المدرسيون) سوف تعمل فقط على تشويش المسائل. هذه هي الملاحظة الاولى من بين عدة ملاحظات ساخرة  يطرحها ديكارت ضد طريقة المدرسيين الفلسفية.

تحليل

في المبدأ 1.8 يستنتج ديكارت انه شيء مفكر. ولكن هل ذلك كل ما يستنتجه؟ يبدو مريبا كما لو انه يستنتج ايضا انه مجرد شيء يفكر، كأنه استنتج بان  الـ "انا" الذي اكتشفه يمكن تحديده بالذهن مع استبعاد الجسد.هل هذا حقا هو الموقف؟ هل ديكارت يستنتج هنا ليس فقط "انا أعرف فقط بأني ذهن" وانما ايضا " انا أعرف اني فقط ذهن وليس جسما؟".

اسئلة حول هذا المظهر من فلسفة ديكارت نوقشت بحرارة منذ ان نُشرت تأملاته . لو تصورنا ان ديكارت هو في الحقيقة، يجادل للادّعاء بانه ذهن وليس جسم. ماذا سيكون جداله؟ سيكون جداله على الشكل التالي:

1- انا أعرف بأني شيء يفكر

2- انا لا أعرف اني شيء كجسم

3- لذلك، انا لست شيئا جسمانيا.

 هو سيستنتج ادّعاءً ميتافيزيقيا من ادّعاء ابستيمولوجي، ادّعاء حول ما هو كائن من ادّعاء حول ما يعرف. مغالطة من هذا النوع تسمى "مغالطة الجهل؟ لأنها تفترض ان جهل الشخص هو برهان على شيء ما في العالم.

ديكارت يبدو كأنه يهرب من الخناق بقدر ما تذهب هذه المغالطة. هو يستنتج المبدأ 1.8 بالكلمات التالية: "لذا فان معرفتنا بتفكيرنا هي سابقة لمعرفتنا بشيء جسدي وهي اكثر تأكيدا،لأننا أدركناه سلفا رغم اننا لانزال في شك حول عدة اشياء اخرى". هذا البيان تأكيد واضح بان ما يثبته هنا،وبقدر ما يعرف،هو انه فقط شيء يفكر. هو لا يعتقد على وجه اليقين انه أثبت كونه مجرد شيء يفكر.

عبر التفكير المحض، ديكارت يطرح استنتاجات ملفتة وواسعة النطاق من يقين الكوجيتو البسيط. عندما نستعمل كلمة "انا" نعني بها الروح او الذهن، والروح ذاتها جوهر متميز عن الجسم وعن كل الاشياء المادية. ورغم اننا مرتبطون بجسمنا الانساني الخاص بنا، مع ما لدينا من شعر كثيف، لياقة بدنية،ابتسامة رقيقة، وربما في مواقف اخرى تدهور الرؤية، وغزو الشيب للذقن، وعلامات التعب، لكننا نستطيع ان نوجد بلاجسد.

الإستعارة التي استعملها ديكارت كانت سلة تحتوي على تفاح جيد وآخر متعفن. لكي نتجنب انتشار التعفن، من الحكمة ان نتخلص من كل التفاح ونضع في السلة فقط التفاح الجيد. بنفس الطريقة، في تبنّي طريقته في الشك، نحن يجب ان نتخلص من كل تلك العقائد ونبقي فقط العقائد الصادقة غير المشكوك فيها. هنا تبرز بعض المشاكل في مقارنة التفاح. في النهاية نحن نحتاج الى عقائد لتقييم عقائد اخرى. مقارنة أفضل طرحها اوتو نيورات Otto Neurath من حلقة فيينا وهي: "نحن نشبه مجموعة من البحّارة يجب عليهم إعادة بناء سفينتهم في بحر مفتوح، غير قادرين ابدا على تفكيكها في حوض جاف وإعادة بنائها من مواد جديدة ". نحن يجب الإعتماد على بعض عقائدنا لتقييم العقائد الاخرى، ننبذ البعض، نحتفظ بالاخرى، ومن ثم نعيد مراجعة تلك العقائد التي كنا نتمسك بها بقوة في البداية.

تجدر الاشارة الى ان استنتاج ديكارت في الكوجيتو ليس أصليا. القديس اوغستين في القرنين الثالث والرابع الميلادي طرح استنتاجات مشابهة لديكارت.

***

حاتم حميد محسن

......................

Sparknotes, philosophy, principle of philosophy

النظامُ الوُجودي في اللغةِ مُرتبطٌ بِمَركزيةِ الوَعْي الإنساني زمنيًّا ومكانيًّا، وهذا النظامُ لَيْسَ كُتلةً فلسفيةً جامدةً، وإنَّما هو حركةٌ اجتماعيةٌ يَتَزَاوَج فيها تاريخُ الأفكارِ معَ الأحداثِ اليَوْمِيَّة، مِن أجْلِ تَتَبُّعِ آثارِ الزَّمَنِ عَلى جَسَدِ المَكَان، وعَناصرِ البيئة، وطَبيعةِ الإنسان، وسُلطةِ المُجتمع، باعتبار أنَّ الزَّمَنَ لا يُمكِن مَعرفةُ مَاهِيَّتِه عَبْرَ الإمساكِ به، وتَقييدِه، وإنَّما تُعرَف مَاهِيَّتُه عن طريقِ تَتَبُّعِ آثارِه . وكما أنَّ آثارَ الزَّمَنِ تدلُّ عليه، كذلك تأويل اللغةِ يدلُّ عليها . والبِنَاءُ الزَّمَني هو أرشيفٌ يَحْوِي أحلامَ الإنسانِ المَكبوتة في دَاخِلِه، ويَشْمَل خصائصَ المُجتمع المُسْتَقِرَّة في أعماقه . والبُنيةُ اللغوية هي هُوِيَّةٌ تَحْوِي مَصَادِرَ المَعرفةِ المُتمركزة في السُّلوك، وتَشْمَل العلاقاتِ الاجتماعية المُتَجَذِّرَة في الثقافة.والمَنظومةُ المُجتمعية المُتَكَوِّنَة مِن البِنَاءِ الزَّمَني والبُنيةِ اللغوية تُسَاهِم في بَلْوَرَةِ الرُّؤى الفِكريةِ التي تَتَحَكَّم بالتفاعلاتِ الرمزيةِ في اللغةِ والبيئةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة اكتشافِ الإنسانِ لشخصيته كَوَحْدَةٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للمَاضِي والحَاضِرِ، وإعادةِ تأويلِ المُجتمعِ لِسُلطته كَصِيغَةٍ حَيَاتِيَّة مُتَدَفِّقَة في الوَعْيِ والشُّعُورِ والإدراكِ . وإذا كانَ الزَّمَنُ يُمثِّل هَيْكَلًا تَنظيميًّا لعناصرِ النظامِ الوُجودي في اللغةِ، فإنَّ اللغةَ تُمثِّل تجربةً ثقافيةً تَبْنِي القَواعدَ الماديَّة الحاملةَ للقِيَمِ الأخلاقيةِ المُطْلَقَةِ، التي لا يَتِمُّ التلاعبُ بها لتحقيق مصالح شخصية، ولا يَتِمُّ إخضاعُها لِنِسْبِيَّةِ العَلاقاتِ الاجتماعية التي يُطَوِّرُها الأفرادُ لتثبيتِ وُجودهم في الزَّمَنِ، وتكريسِ شرعيتهم في المَكَانِ .

2

كُلُّ نَسَقٍ لُغَوي هو بالضَّرُورةِ وَعْيٌ مُتَجَدِّدٌ في الفِعْلِ الاجتماعي، وأساسٌ مَعرفي للبُنى الوظيفية الثقافية، التي تُحَوِّل شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ إلى كَينونةٍ سَائِلَةٍ في صَيرورة التاريخ، فالشَّخصيةُ لَيْسَتْ بُعْدًا وُجوديًّا أُحَادِيًّا، ولَكِنَّهَا شَبَكَةٌ حَيَاتِيَّةٌ مُعَقَّدَةٌ، ونَسِيجٌ مُتشابِكٌ مِن آلِيَّاتِ التأويل اللغوي، وأدواتِ صِناعة الواقع الإبداعي القادر على مُواجهة النَّزْعَة الاستهلاكية القاسية . وفي حَقيقةِ الأمْرِ، إنَّ الفَرْدَ يَمتلِك عِدَّة شَخْصِيَّات، ووظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي هي اختبارُ هذه الشَّخْصِيَّاتِ بواسطةِ التجارب الحياتية، وُصُولًا إلى الشخصيَّة المَركزيَّة الفَعَّالةِ في مَناهج النَّقْد الذاتي، والمُتَفَاعِلَةِ معَ سُلطة المُجتمع التي تُوَازِن بَين الفِكْرِ والعاطفةِ . وإذا كانَ الفِكْرُ يُحَدِّد طَبِيعةَ الفردِ إنسانيًّا وثقافيًّا، فإنَّ العاطفةَ تُحَدِّد مَاهِيَّةَ العلاقاتِ الاجتماعية شُعوريًّا وسُلوكيًّا، وهذا الترابطُ المَصيري بَين الفِكْرِ والعاطفةِ يَمنَع الفردَ مِن الانسحابِ مِن الحَيَاةِ، والغرقِ في الذات، كما يَمنَع المُجتمعَ مِن الهُرُوبِ مِن الوَعْي، والغرقِ في الماضي .

3

الرُّمُوزُ الحاكمةُ على عَملية التأويلِ اللغوي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، تَنقُل الأنساقَ الثقافيةَ مَن التَّمَركُز حَوْلَ الذات إلى اقتحامِ الذات، ومِن تحليلِ الأشياءِ السَّطحيةِ في الحياةِ إلى الغَوْصِ في أعماقِ مَعْنى الحياة، ومِن تَفسير الشُّعُورِ الإنساني اليَومي كَآلِيَّةٍ رُوتينيَّةٍ إلى تَغييرِه، وتَحويلِه إلى تجربة حياتية إبداعية تتعامل معَ الحَاضِرِ كعمليَّةِ تَوليد مُستمرة لتاريخ الأفكار، ولَيْسَ إعادة إنتاج المَاضِي وَفْق مَقَاسَاتِ قوالب الحَاضِر . وتاريخُ الأفكار هو انقلابٌ مُستمر على الوَهْمِ، وفَحْصٌ مُتواصِل للمُسَلَّمَاتِ الافتراضية، وكَسْرٌ دائمٌ للقَوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّةِ مُسْبَقًا، التي كَرَّسَتْهَا إفرازاتُ سِيَاسَةِ الأمْرِ الواقع للحِفَاظِ على المصالحِ الشخصية والمنافعِ الوَقْتِيَّة . وتاريخُ الأفكارِ يَصْنَع زَمَنًا خاصًّا به في هَياكلِ المُجتمع، ويُحَرِّر الوَعْيَ مِن اغترابِ الذات، ويُخلِّص مَاهِيَّةَ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن الشُّعُورِ بالعُزلةِ والقطيعةِ معَ المَاضِي، ويَنقُل بُنيةَ الوُجودِ الإنساني مِن إطار الأحداث اليومية المِيكانيكي إلى فضاء إرادة المعرفة الدِّيناميكي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تأسيسِ هُوِيَّةٍ للفِعْلِ الاجتماعي قادرة على تَوليدِ نَفْسِها مِن نَفْسِها، وتَجَاوُزِ التفاعلات الرمزية في اللغةِ والبيئةِ، مِن أجْلِ مُساعدةِ الفردِ على التَّكَيُّفِ معَ آثارِ الزَّمَنِ في شكلِ المُجتمعِ ومَضمونِه، والتَّأقْلُمِ معَ تأثيرِ التَّغَيُّرَاتِ التاريخية في هَياكلِ المُجتمع والبُنى الوظيفيةِ الثقافية . وكُلُّ فَرْدٍ لَهُ كَينونةٌ ذات امتداد مَعرفي في النظامِ الوجودي لُغَويًّا واجتماعيًّا، وهذه الكَينونةُ تُحَدِّد مَوْقِعَ الفردِ داخل الحَيَاةِ، باعتبارها شرعيةً لتاريخِ الأفكار، ولَيْسَتْ نَزعةً استهلاكيةً للهُروبِ مِن النَّقْدِ الذاتي . وإذا كانت كَينونةُ الفردِ لا تَنفصِل عن الشُّروطِ التاريخية، فإنَّ شخصيته لا تَنفصِل عَن المَعاييرِ الأخلاقية، وهذا يَعْنِي أنَّ الفردَ - إذا أرادَ أن يُصبح فَاعِلًا في التاريخ ومُنْفَعِلًا به ومُتَفَاعِلًا مَعَه - يجب عَلَيه أن يَعُود إلى ذاته للانطلاقِ نَحْوَ العناصرِ المُحيطة بها، لأنَّ الذات هي أساسُ التأويلِ اللغوي، ومَرجعيةُ الفِعْلِ الاجتماعي، ومَنْبَعُ الأخلاقِ .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

اذا كان سقراط يناقش الفلسفة في الساحات العامة، فهو ايضا كان يتدرب كجندي مشاة قاتل ضمن كتيبة عسكرية. وحين يستخدم المناورة وهو مرتديا درعا ثقيلا يكون قد جسّد مقدارا كبيرا من القوة والرشاقة. حرب الرقص الباهضة الثمن التي كان يقوم بتمثيلها القدماء حول جثمان القائد باتروكلس، وصفها افلاطون في القوانين، وتطلبت تقليد حركات الهجوم والدفاع "باسلوب رجولي مباشر".

في حوار افلاطون (ابولوجي) ، يعلن سقراط بفخر أمام الادّعاء العام انه لم يترك واجبه في معركة بوتيديا ومعركة ديليوم وامفيبوليس خوفا من الموت، لذا هو سوف لن يتخلى الان عن حياة الفيلسوف. اولى المعارك الثلاث هي معركة بوتيديا التي وقعت عام 432 ق.م، عندما كان سقراط بعمر 38 سنة، بما يشير الى انه ربما شارك في حملات اخرى مبكرة. على خلاف أسلافه مثل فيثاغوروس وامبيدوكليس اللذان كانت لديهما رؤية سلمية، سقراط لم يشك في الحرب التي نظر اليها باعتبارها واجبا وطنيا. غير انه، رفض تنفيذ أوامر غير عادلة، كما فعل يسوع بعد أربعة قرون، حيث رفض سقراط قانون الأسلاف في الإنتقام، قائلا، في كريتو Crito، "نحن يجب ان لا ننتقم او نخلق شرا لأي شخص مهما كان الشر الذي قاسيناه منه". في القوانين، يذهب افلاطون أبعد من ذلك، مجادلا ان الحرب يجب المشاركة فيها فقط لأجل السلام.

معركة بوتيديا Potidaea

الحصار الذي فُرض على مدينة بوتيديا الثائرة ضد اثينا، استمر حتى عام 429. في ندوة افلاطون Symposium، يقول السيبياديس ان سقراط أنقذ حياته بمفرده في بوتيديا، وتحمّل صعوبة الحملة"اكثر بكثير من أي شخص آخر في الجيش".

أثناء فترة الصقيع الشديد، هو سار حافي القدمين وحتى تفوّق على رفاقه مرتدي الأحذية الذين أبدو كراهية تجاهه لأنه كان يحتقرهم". ورغم ان سقراط أنقذ حياته، لكن السيبياديس بسبب ميلاده وطبقته، هو الذي استلم جائزة البطولة. عندما احتج السيبياديس مع الجنرالات بان الجائزة يجب ان تذهب الى سقراط، كان سقراط اكثر تلهفا من أي شخص آخر في ان تذهب الجائزة الى السيبياديس .

معركة ديليوم Delium 

وقعت هذه المعركة في بوتيا عام 424، أي بعد خمس سنوات من حرب بوتيديا، وانتهت بهزيمة مؤلمة لأثينا. في حوار لاتش Laches لإفلاطون، يقول الجنرال لاتش بان سقراط كان رفيقه في الانسحاب من دليوم، ولو كان الآخرون مثله "لتعزز شرف البلاد ولما حصلت الهزيمة الكبرى". وفي تكريم لبطولته في دليوم، لاتش يدعو سقراط لتعليمه والوقوف ضده قدر ما يستطيع، دون اعتبار لكبر سنه او رتبته.

اثناء الانسحاب من ديليوم، التقى السيبيداس وهو على حصانه سقراط ولاتش. في ندوة افلاطون، هو يقول بانه حتى في الانسحاب، بدا سقراط شديد الهدوء وواثق من نفسه ويفرض على الآخرين عدم التفكير بمهاجمته او مهاجمة مرافقيه، مفضلا بدلا من ذلك متابعة منْ سلكوا اسلوب القتال المتهور.

معركة امفيبوليس Amphipolis

وقعت هذه المعركة في عام 422، بعد سنتين من معركة دليوم عندما كان سقراط بعمر 48 سنة، عمر يصعب فيه تحمّل درع المعركة. في السنة السابقة للمعركة، نظّم الكاتب الساخر اريستوفان مسرحية الغيوم التي سخر بها من سقراط واصفا اياه بالملحد ، ومن المحتمل ان شهرة سقراط، خاصة بين الناس العاديين ارتكزت على شجاعته في المعركة بنفس مقدار قدرته الفكرية. في امفيبوليس، كانت اثينا هُزمت مرة اخرى لكن وفاة كلاون في الجانب الاثني وبراسيداس في الجانب السبارطي أعدّ الارضية للسلام في نيسياس، وبالنسبة لسقراط، العودة الى الفلسفة في الشارع.

سقراط وافلاطون حول الشجاعة

في حوار لاتش لإفلاطون Laches، ويُعرف ايضا بـ (حول الشجاعة)، يستنتج الجنرال نيسياس ان الشجاعة عبارة عن المعرفة بالمخيف والمأمول في الحرب وفي كل المجالات والمواقف الاخرى. سقراط يقول اذا كان نيسياس يعني ان الشجاعة هي معرفة أساس الخوف والأمل، عندئذ فان الشجاعة هي نادرة جدا بين الرجال، بينما الحيوانات لايمكن ابدا تسميتها "شجاعة" وانما "لا تخاف"- مثلما يؤكد استخدام اللغة العادية، مضيفا ان ذات الشيء ينطبق على الأطفال.

بعد ذلك يقترح سقراط التحقيق في أصل الخوف والأمل، هو يقول، الخوف يبرز من توقّع الأشياء الشرّيرة، ولكن لايبرز من الأشياء الشريرة التي حدثت او التي تحدث، بينما الأمل، في المقابل يبرز من توّقع الأشياء الجيدة، او على الأقل توقّع الأشياء غير الشريرة او الأقل شرا.

ولكن في أي حقل من الدراسة، لا يوجد هناك علم للمستقبل وعلم للماضي وعلم للحاضر: معرفة الماضي، الحاضر والمستقبل جميعها نفس النوع من المعرفة. لذلك، الشجاعة ليست فقط معرفة بالمخيف والمؤمل، وانما معرفة بكل الاشياء بما في ذلك تلك التي في الماضي والحاضر. الشخص الذي لديه مثل هذه المعرفة لا يمكن القول عنه يفتقر للشجاعة، وانما هو لا يمكن القول عنه انه يفتقر الى أي من الفضائل الاخرى – العدالة، الإعتدال والتقوى.

سقراط في محاولته تعريف الشجاعة، يشير الى انه ومعه لاتش ونيساس نجحوا في تعريف الفضيلة ذاتها. الفضيلة هي معرفة، وهو ما يفسر لماذا الناس الذين لديهم قدر من الفضيلة عادة يمتلكون قدرا مشابه لفضائل اخرى بشكل عام – وهي الاطروحة التي تُعرف بوحدة الفضائل.

لاتش ويسياس أعجبا لكن سقراط ألحّ على انه لم يفهم بعد طبيعة الشجاعة ولا الفضيلة. في حوار لاتش، سقراط يعرّف الشجاعة كمعرفة او معرفة الخير. لكن معرفة الخير ليست كافية. ما نحتاجه ايضا هو قوة سقراط في الاستمرار على قناعاتنا من خلال المتع والرغبات وفوق كل ذلك الخوف. وهكذا، في الجمهورية، افلاطون يعيد تعريف الشجاعة كـ "الحفاظ على القناعة .. حول الاشياء المخيفة". صحيح جدا لو ان سقراط سقط في أرض المعركة، لكان لزاما علينا اليوم ان نعيش في أذهان مختلفة.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Psychology today, July 6, 2023

يبدو لا يوجد اتفاق عند المهتمين بالشأن الفلسفيّ على النطاق الدقيق لتحديد مفهوم المنطق، لكنه في سياقه العام، يقوم على تناول أو استخدام الحجج والوسائل المعرفيّة المتاحة، للكشف من خلالها عن حقائق الظواهر موضوع البحث، وهي وسائل وحجج منها ما هو مبنيّ على البرهان والاستدلال والاستنتاج والتجربة وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا. ومنها ما هو مبنيّ على الحدس والتأمل والخيال والعاطفة والذاتيّة وغير ذلك. (1)

ويمكن القول أيضاً: إن المنطق من الناحية العلميّة، هو علم دراسة مناهج الفكر، وطرق الاستدلال والاستنباط للوصول إلى معرفة الظواهر قيد البحث. ويشار إلى أهميّته، لأنّه يساعد الناس على التمييز بين الأفكار المنطقيّة، القويّة منها والضعيفة، حتى يتمّ الوصول إلى المعرفة المنطقيّة أو العقلانيّة.

هذا وتقوم المعرفة المنطقيّة على اتجاهين رئيسيين هما:

أولاً: المنطق الشكليّ أو الصوريّ: وهو الصيغة التي تبرز سماتها وخصائصها في التالي:

1- هو منطق مجرد يتجاهل حركة الظواهر وتطورها. أي أن الظواهر مواضيع البحث تعتبر ثابتة ومطلقة في وجودها عند الحوامل الاجتماعيّة الحاملة لهذا المنطق، فهذه الحوامل تعتمد على الحدس والملاحظة الحسيّة الشكليّة للظواهر والخيال والتأمل، كما تعتمد على الاستنتاجات المنطقيّة المجردة القائمة على الحركة الذاتيّة للتفكير،

2- هو منطق يضع حدوداً صارمة بين الظواهر. أي هو يعتمد على تفكيك الظواهر، ولا يؤمن بوحدتها وتنوعها في الطبيعة والمجتمع، وبوجود علاقة جدليّة بينها، وبالتالي لا يضع بالاعتبار التحولات أو التبدلات التي تصيب الظواهر بسبب حركتها وتطورها. وهو بذلك يكون أقرب إلى المنهج التفكيكي للظواهر وتفريدها.

3- هو لا يأخذ بالحسبان الفوارق والأضداد التي تشكل لب الظواهر الطبيعيّة. أي هو ينظر إلى طبيعة الظواهر نظرة سكونيّة في جوهرها وآليّة عملها، ولا يعترف بجوهر التناقضات القائمة في بنيتها الداخليّة ودورها في حركة الظواهر وتبدلها عبر الزمان والمكان. أو بتعبير آخر هو لا يؤمن بوحدة وصراع الأضداد داخل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة.

4-  هو يعزل الصورة عن المضمون. أي هو لا يقر بتلك العلاقة الجدليّة بين شكل الظاهرة ومضمونها، بل يفصل بينهما، وغالبا ما يشتغل على شكلانيّة الظواهر ليقرر معرفتها النهائيّة. أي هو يأخذ بالدراسات المورفولوجيّة (الظاهراتيّة)، (2) كوسيلة للمعرفة ويتناسى الجوهر، كونه يعتمد على التجربة، والتجربة ليست من وسائل بحثة.

5- هو يركز كثيرا على المستقبل الذي يلعبه العقل. والعقل عنده هو العقل المجرد الميتافيزيقي أو اللاهوتيّ. أي العقل المسبق المعرفة، والمنفصل عن الواقع، أو بتعبير آخر، العقل الذي يتبنى أفكاراً وتعاليم مثاليّة تعتمد على الفرضيات والتصورات والتخيلات التي يتعذر البرهان عليها، والتي تُخضع جوهر الأشياء بشكل مسبق لمنطق الفكر الذاتي البحت، لا لقوانينها الطبيعيّة الخاصة.

ثانياً: المنطق الواقعيّ، أو العقلانيّ الجدليّ: وهو المنطق الذي تبرز سماته وخصائصه في التالي:

1- هو منطق حي. أي منطق واقعيّ عيانيّ تكشف حقائقه التجربة والممارسة أولا، لتصل أخيراً إلى الاقرار النظريّ بما تم الوصول إليه عبر هذه التجربة والممارسة ثانياً.

2- يعلمنا هذا المنطق أن الكل الكونيّ هو ما هيّة واحدة. أي أن الطبيعة والمجتمع كلاهما يشكلاًن وحدة لا يمكن الفصل بينهما، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مكونات الطبيعة تشكل وحدة قائمة بذاتها، وكذلك المجتمع. وأن هناك علاقة جدليّة تربط هذه المكونات كلها مع بعضها، بحيث أن كل جزء منها يؤثر بالآخر ويتأثر به.

3-  هو يمثل علما مطلقاً من التطور. أي أن الحركة والتطور وبالتالي التبدل هي قيم مطلقة في الظواهر. ففي الحركة تتجدد الظواهر في الشكل والمضمون دائماً، وما السكون إلا طريقا لموت الظاهرة.

4- هو لا يكتفي بعكس التطور والتغير اللذين يجريان في العالم، بل ويتوجب عليه تفسير التناقض القائم على أساس هذا العالم. إي أن المنطق الجدليّ أو الواقعي لا يكتفي بكشف سمات وخصائص الظواهر والتأكيد على حرتها وتبدلها وتطورها فحسب، بل هو يعمل على كشف جوهر الظواهر موضوع البحث أو المعرفة، وذلك من خلال البحث عن التناقضات الداخليّة في جوهر الظواهر. أي الوحدة والصراع داخل الظواهر ذاتها التي تؤدي إلى الحركة والتطور والتبدل في هذه الظواهر. وهو هنا يرفض التعليل اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ في التعامل مع الظواهر. أي هو يعتبر التناقض مشروعاً واقعيّاً لأنه موجود في الأشياء ذاتها.

6- إن علم المنطق العقلانيّ الجدليّ، يهتم بالعالم الواقعيّ الذي يرتبط ارتباطاً بنا وبأفكارنا. وفلسفة العمل في هذا المنطق هي المدعوة لا  لإشباع حب الاستطلاع الإنسانيّ فحسب، بل وإلى إعادة تنظيم الحياة تنظيماً عقلانيّاً أيضاً، إن تطور الفلسفة سيودي بالضرورة إلى تحويل الفكر إلى عمل.

7-  إن المنطق العقلانيّ الجدليّ ينظر إلى الظواهر نظرة ماديّة مرتبطة بالواقع، ويمكن البرهان على وجودها ومعرفتها من خلال التجربة، ومعرفة القوانين الخاصة بها، وأن ليس هناك شيء غير ماديّ في العالم، والفكر ذاته مادة عندما يشخص واقعيّاًّ. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل، تتم وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وأن الطبيعة والمجتمع في حالة حركة تطور وتبدل وتحول إلى اشكال أخرى دائمة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...........................

الهومش:

1- الويكيبيديا: المنطق (من اليونانية القديمة: λογική، بالحروف اللاتينية: logikḗ) هو الدراسة المنهجية لشكل الاستدلال الصحيح، وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا، الاستنتاج الصحيح هو الذي يُوجِد علاقات محددة للدعم المنطقي بين افتراضات الاستدلال ونتائجه.

2- راجع موقع  المعرفة:الظاهريّة (أو الظواهريّة أو الظاهراتيّة) Phenomenalism في الفلسفة هي المذهب القائل بالوجود الحقيقي للظواهر وإنكار الجوهر المادي. ويزعم أصحاب هذا المذهب أن الإدراك لا يكون إلا بظاهر الأشياء، أي بما تبدو عليه، بمعنى أنه إدراك بما ينطبع من الظواهر على الحس، وما يتخلف عن هذا الانطباع من صور، وما يترتب عليها من أفكار، وعلى ذلك يكون الحديث عن الشيء، حديثاً في الواقع عن انطباعات عنه، وليس عن الشيء نفسه، وكأن وجود الأشياء هو وجودها في الوعي، وليس وجودها في الواقع، والتفكير بها أو الحديث عنها هو إيجاد لها.

مثال: نحن نعرق الثلج بلونه وبرودته وملمسه ودرجة صلابته فقط، وليس بآلية تشكله وعلاقاته مع محيطه وغير ذلك.

كتب: روبرت مايكل رويهل

ترجمة: علي حمدان الرئيسي

***

في عدد 107. "الفلسفة الان" حرر من قبل جيمس الكسندر" تفنيد الحلزونات " لروست بيف، مقالة يشجب فيها الفيلسوف الفرنسي المعاصر الان بادو (من مواليد 1937) " تلفظ بالفرنسية باجيو". كانت نقطة انطلاق الكسندر في المراجعة غير المحببة لروجر سكروتن لبادو "مغامرة الفلسفة الفرنسية" (2012). هو يعترف "بان سكروتن بوضوح لا يحب كل ما يمثله بادو" ولكن في نفس الوقت يزعم بان سكروتن كان مع ذلك لبقا. كتب بان " بادو يستحق السخرية". وبعد جمل معينة اخرى، يزعم ان معظم ما كتبه بادو يعتبر زبالة. ويضيف "انه لا يمكن لنا سوى ان نضحك على ما كتبه بادو". وحتى تلامذة بادو لم ينجو من التعليقات السلبية للكسندر: هو يسخر بان عوضا ان يقوموا بتدوين ملاحظاتهم في محاضرات بادو فانهم يقفون مصفقين".

ورغم انني سأكون مستمتعا اكثر اذا انغمست في مثل هذا النوع من الموقف الرافض، اتجاه الكسندر عموما واتجاه هجومه على بادو خصوصا. الا انني اخترت اتجاها اخر في دفاعي عنه. انا اقدر الطريقة الجدلية لفلسفة سقراط، لذلك انا سأطرح وجهة نظر مغايرة، أوضح فيها عدم دقة الكسندر في تقليله من قيمة بادو. لن اطرح وجهات نظر مبنية على عدم معرفة كافية (الكسندر يعترف بعدم معرفته بأعمال بادو)، سأطرح موقف مبني على معرفة عميقة بفلسفة بادو.

و لصياغة موقفي المعارض لنقد الكسندر، فسأعلق على خلفية بادو الشيوعية وعلاقتها بالفلسفة. هذا سيقودنا لشرح احد الثيمات المهمة في كتابات بادو: الإمكانيات الجديدة، الرياضيات ، وكيف تساعد هذه النظرية في الثورة. لذلك موقفي يأتي مغايرا تماما لموقف الكسندر فهو يريد اسكات بادو، بينما أرى ان اعمال بادو مهمة للفلسفة. افهم ان موقف بادو بالنسبة للفلسفة متسقا مع موقف افلاطون في "رمزية الكهف" (Allegory of Cave)، فهي عوضا عن حياديتها السياسية، فهي تدافع عن حقوق الناس، الفلسفة معنية بمساعدة الناس في التحرر من اللامفكر فيه، ومن مساعدة الناس للانعتاق من الاذلال الذي يواجه الانسان يوميا في شتى مساعي الحياة. لذلك انا اخذ كلمات باديو على محمل الجد حينما يعتبر نفسه "كأفلاطوني" معاصر.

باديو سهولة قرأته وراهنيته

سأبدأ بمشكلة هامة في تصور الكسندر لبادو، فهول يقول بسخرية لماذا يريد أي شخص ان يقرا بادو. مع ذلك في السنة الأولى في فرنسا، اشترى القراء عشرين الف نسخة من كتابه "الكائن والحدث" (2001)، على سبيل المثال، كما ان بادو معروف عالميا منذ فترة. فكتابه "الكائن والحدث" على سبيل المثال تم نشره بالفرنسية، والبرتغالية، والإيطالية، والاسبانية، والألمانية، والإنكليزية. "بادو والسياسة 2001"، يكتب برونو بوستيلز، وهو احد ابرز المتخصصين في الدراسات الخاصة ببادو قائلا بان في التسعينات من القرن الماضي حينما كانت اعمال بادو بالكاد تم اكتشافها من قبل قراء اللغة الإنكليزية، كانت اعماله مصدرا مهما للعديد من المثقفين الراديكاليين، والمناضلين في أمريكا اللاتينية وفي اسبانيا وبالذات في منطقة الباسك وعلى طول الساحة حتى المكسيك والبرازيل، و الارجنتين وتشيلي. في الحقيقة ان كتب بادو وجدت طريقها الى الاسبانية منذ بداية التسعينات، والى الإيطالية في منتصف التسعينات والى الألمانية في 2001. وهذه الحقائق توضح ان اعمال بادو الفلسفية لم تكن فقط اكاديمية وان كتاباته كانت متاحة. كما انها كانت مناسبة للتحليل السياسي في أمريكا اللاتينية. لذلك على المثقفين ان لا يصرفوا النظر بسهولة عن فلسفة بادو. لذلك الهجوم الشخصي والقراءة السطحية لإعماله، تحجب، صرامة واهمية وراهنية اعمال بادو. اليوم مع ازدياد رفض اللامساواة في الاقتصاد، عنف الشرطة، والعنصرية تتطلب النظر والتفكير والعمل بصورة مغايرة، أيامنا هذه تتطلب فلسفة ملتزمة بواقع المحتجين الذين نزلوا الى الشوارع لمواجهة الظلم.

بادو والسياسة

بادو لا يسعى الى اخفاء علاقة الفلسفة بالسياسة. الجدل يحتدم عندما يعلن بادو عن انتماءه سياسيا بانه ماركسي، مخلصا لفكرة الشيوعية. لا يوجد شك حول ماركسيته، وميوله الماوي، واستخدام كلمة شيوعية تثير مشاعر الغضب لدى البعض. ولكن قبل ان يثار البعض، من المهم معرفة موقف بادو. في مقابلة مع فيلبو ديل ليشوس وجاسون سميث، حدد بادو خلفيته الشيوعية كالتالي:

" لا اعتقد انه من الضروري اطلاقا الإبقاء على كلمة الشيوعية. ولكنني احب هذه الكلمة كثيرا. احبها لإنها تعبر في العام عن فكرة عامة لمجتمع وعالم تكون فيه فكرة المساواة مهيمنة، عالم لم يعد مبني على العلاقات الاجتماعية الكلاسيكية، تللك المبنية على الثروة، تقسيم العمل، الفصل العنصري، والاضطهاد من قبل الدولة، الاختلافات الجندرية الى اخره. هذا بالنسبة لي هو الشيوعية. الشيوعية بشكل عام ببساطة تعني ان الجميع سواسية وذلك ضمن التعددية والاختلاف ضمن التنوع الإجتماعي.لا يوجد سبب ان عامل تنظيف الشوارع ان يحاصر من قبل الدولة ويكون اجره ضعيف بينما المثقفون في مكتباتهم اجورهم مرتفعة. انه سخف. ما اسميه بالشيوعية هو نهاية هذا السخف. وبهذا المعني فانا شيوعي. (نحن بحاجة لانضباط شعبي، 2007).

لتقدير نهجه الفكري، علينا ان نفهم هذا الموقف السياسي. بادو يقرر ربط الفلسفة مع التغيير الثوري وعدم الإذعان. إشارة الي سقراط، بادو يكتب في الفلسفة للمناضلين (2012).

"لإفساد الشباب، بعد ذلك هي صفة جديرة بالعمل الفلسفي، شريطة معرفتنا بما نقصده بالفساد. لإفساد معناه ان نعلم إمكانية رفض كل الاستسلام الاعمى للأفكار السائدة. لنفسد معناه ان نمنح الشباب وسائل معينة لتغيير أفكارهم بالنسبة للأعراف الاجتماعية السائدة، ليكون النقاش والتفكير النقدي بديلا عن التقليد والموافقة، وحتى تكون مسالة مبدا هو باستبدال الطاعة بالرفض.")ص 10 (كمفكر حر، بادو يصنف السياسة التحررية على انها وجه اخر للفلسفة، لذلك الفلسفة هي جزء منطقي من عملية الرفض والتي تسعى لفهم والتعبير بشكل واضح حول الإمكانيات الجديدة للرفض و التي تكشف وتنمي. الفلسفة تساعد في عملية الرفض وذلك بمساعدة القراء لتبصر حول النضال السياسي، وذلك لنكون معارضين وقادرين على تغيير العالم. لذلك من السهولة رؤية كيف ان موقف بادو قريب جدا من أفكار كارل ماركس من خلال ملاحظات في اطروحته الحادية عشر حول فيورباخ (اطروحات حول فيورباخ 1888). "لم يقم الفلاسفة سوي بتفسير العالم بطرق مختلفة لكن المهم هو تغييره". بادو أيضا يسعى الى تغيير العالم.

لذلك من خلال انغماسه في النضال السياسي، فلسفة بادو تركز علي مسالة الاحتمالات الجديدة ، مسالة مضادة تماما للرأسمالية المعاصرة وما تمثله من حداثة والتي تسعي الي مضاعفة الأرباح . بالنسبة لبادو ان حداثة الرأسمالية ماهي سوى تكرار، انه الوضع السائد للناس الذين يعيشون فقط للاستهلاك بإدمان. انه يسعى نحو الاحتمالات التي ستاتي. "ضمن الحدود المتوقعة للحياة اليومية فان الاحتمالات الجديدة تبدو مستحيلة"، لذلك بادو يرحب بالمستحيلات او تلك الاحتمالات غير المتوقعة التي تصدم هذا الواقع المقرر. ومع ذلك، فان هذه الاحتمالات التي تبدو مستحيلة، او غير ممكنة الحدوث بناء على التوقعات المهيمنة، لذلك لا يمكن ان يكون مصدر هذه التوقعات من الخارج وانما مصدرها يكون من الداخل، وأفكاراها حول ما هو مهم، وما هو ممكن وما هو مقبول. بهذه الطريقة فان الاحتمالات الجديدة هو تدخل جوهري ليضطرب الوضع السائد والمعرفة المقبولة.

وحول أهمية إمكانية التحول ضمن كل وضع، بادو يكتب " انها مسالة ان نعرض كيف ان مساحة الامكانية هي اكبر مما هو متاح، وان هناك شيء اخر ممكن". (Ethics, 2013, p.115). الإمكانيات الجديدة عطلت الهيمنة والاضطهاد في السابق، وبإمكانها عمل ذلك مرة أخرى. مستوى عملية التدمير الواسع التي تحافظ على ما يدعى بسلاسة عمل الرأسمالية ليس امرا حتميا، ان فكرة فرانسيس فوكوياما حول ان مع الديمقراطيات الرأسمالية وصلنا الى نهاية التاريخ هو مفهوما خاطئا: ان العوائق القمعية التي تسود حياتنا ليس لها علاقة بالتاريخ في مفهوم بادو. على الضد بادو يربط التاريخ بمفهوم الاضطراب في الوضع الراهن. الاحتجاج، التظاهر، وبروز السياسة هي عوامل أساسية للتاريخ القادم. لذلك بادو يكتب عن "ولادة جديدة للتاريخ"، "لذلك انا اقترح ان أقول اننا نجد انفسنا في زمن الاحتجاجات، حيث اننا في زمن إعادة ولادة التاريخ عوضا عن تكرار بسيط وخالص للاسوا الذي سيتبلور" (Rebirth of History, 2015, p5). الاحتجاجات والمظاهرات من الممكن ان تقود الى تفكير جماعي الذي سيوحد الناس المهانون من خلال النهب المستمر للرأسمالية العالمية المغطاة بالديمقراطية تحالف يسميه بادو بالبرلمانية(Parliamentarism)، عندما يصل الناس الى قناعة بانهم يجب ان يخرجوا الى الشوارع، والاتحاد مع بعضهم البعض بطريقة تتعدى حيزهم الجغرافي ومصالحهم الضيقة، وذلك للبدء بعملية تكون ولادة أخرى للتاريخ. على الناس ان لا تنسى على ان كل حالة حبلى بإمكانيات التغيير الثوري وذلك ببساطة نظرا لان الانتفاضات كانت نادرة وان الاحتكار الرأسمالي يبدو حتميا. بادو يذكرنا بان الياس يمكن تجنبه، و ان هيمنة الرأسمالية ليس امرا محدد مسبقا. في حين، ان الاحتمالات كامنة في المجتمع وعليه ان نمنح المضطهدون بريقا من الامل. في مجمل فلسفته بادو يبقى مخلصا لإمكانيات التحول ومؤمنا بإمكانية ان تكون الأمور غير ما هو عيه حاليا.

***

...........................

* روبرت مايكل روهيل أستاذ في قسم الفلسفة في مركز كلية سانت جون فيشر، روشيستر. نيويورك.

موضوعة الفلسفة الفرنسية

من المهم أن نبدأ من فكرة ذات اهمية في مغزاها، فالفلسفة التي بدأت في عصور بعيدة لم تكن فلسفة بلد معين، وحتى بعد ظهور الامم بقت تلك الفكرة راسخة، وهي من فرضت بنسب عالية عدم الوقوف عند جنس بشري معين، لذا نحن عندما نفرق بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية يأتي ذلك للتأشير، وعادة لا يبلغ حدود المضامين الخطابية بملامسة تامة، وفقط المسميات هي التي تحيل مباشرة الى نوع الجنس البشري، واما على مستوى الخطاب فهناك اختلاف كبير ما بين مقومات خطاب لجنس بشري واخر، وقد امتازت الفلسفة الفرنسية عن اقرانها بتلك اللغة، فهي فلسفة مضامين لغوية من جهة، وهذا ما مهد لفلسفة البنيوية أن تنتشر بسرعة زمنية اعلى من مجريات الحداثة الزمنية، واذا كان هناك مجال تاريخي قد عكسه لنا ديكارت، والذي جعل من مقولته الشهيرة عنوان بارز ذا اهمية كبيرة في التأثير، حيث العقل الفاعل تمسك تماما بتلك المقولة، والتي مثلت العنوان الاوسع في تاريخ الفلسفة، فمقولات افلاطون وارسطو، وقبلها تضحية سقراط البليغة، وحتى تفاحة نيوتن، ومقومات اخرى لم تبلغ من الانتشار مثلما بلغته مقولة ديكارت، حيث البشرية صارت ترى علاقتها بالعالم قد تغيرت، وتحولت الى صيغة اخرى ذات جذب مفاهيمي، وهذا ما جعل ديكارت المقولة الفلسفية الاجدر، وليس فقط في عصر الفلسفة الوسيط، بل حتى ما بعد الفلسفة - اذا جاز لنا أن نطلق هذا المفهوم – تكرر تلك المقولة، والتي ترى البشرية بأنها تمكنت من خلق توازن نوعي ما بين مفهوم الوجود ومفهوم الموجود .

اذا عدنا الى اصول الفلسفة الفرنسية فنجد أن ميشيل دي مونتين قد سبقه فيلسوفا حول حياته بمقدرة الاخلاص والاحساس وصدق المشاعر الى اسطورة، فحياة الفيلسوف بيتر أبيلار الذي عاش من عام 1079 الى العام 1142، تصدرها ذلك الحب الاسطوري، بالرغم من كون أبيلار يمتلك خبرة عقلية في اللاهوت والمنطق، وكما كونه داخل اطار الدرس، لكن نمط العشق الذي منحه الى إلواز  كان خارج توصيفات المألوف، ولا يمكن درجه كسمة معتادة للحب، وتلك اولى بوادر الفلسفة الفرنسية بالتوجه لتجريد المعنى العام، والمدى الاسطوري لتلك العلاقة جعل جالة الحب تدخل في تفسير مضاد لواقع الحب المتعارف، وتلك الحال الاسطوري  نقر بوجود الممكنات في ذلك التاريخ من تأهيله الى المستوى الاسطوري، وفيلسوف المنطق والعقلنة لا يمكنه كبح او منع تلك المشاعر المتصاعدة الى ذلك المستوى، وكما أن عنصر التاريخ يمثل احدى الموجهات الى الاسطورة بنسب اكبر من أن يكون موجها للمنطق العقلي، حيث يشكل نسق الحياة العام التوافق مع ظواهر الاسطورة المتجاوزة لمعنى الخرافة الملتبس، وبذلك يكون ما عاش أبيلار في مشاعره ووجدانه اهم شخصيا مما يعيشه في المنطق العقلي، ولا نقر هنا بالمفاضلة ما بين ما هو استثنائي وما بين هو طبيعي ودارج، كما لا يمكن المقارنة ما بين الدرس واسطورة العشق .

في تفسير المنطق العقلي للفلسفة لا يمكن الحكم على التجريد حكما جازما، ففي الفصل اللساني هناك جنس لغة يقابل جنس لغة اخرى، ولا يمكن لجنس اللغة الأول أن يكون قيما على الجنس الثاني للغة، وتلك من الاشكاليات التي يقع فيها العقل الفلسفي، ولا نقر هنا بأن هناك جنس لغة احادي للغة،  وعلى وجه الخصوص في كشف مضامين الخطابات، وفي تفسير ثقافة فرنسا فهي الاسرع زمنيا بسيرورة الحداثة من جهة التغيرات الثقافية، ومن جهة اخرى شكلت فرنسا تلك الواحة الحرة بشكل تام، في انكلترا حددت حرية الخطاب القولي في البيكاديلي، ففي فرنسا هناك حرية كبيرة للخطاب وعلى وجه التحديد في النصف الثاني للقرن العشرين، وتلك الحرية مكنت اللغة من أن تسابق الزمن، وشارك الأدب الفرنسي في تسريع الحداثة بشكل ملحوظ، وشكلت موجة ما بعد الحرب العالمية الثانية طرح ما بعد الخطاب اذا جاز التوصيف، وشكلت الفلسفة الفرنسية التوافق بنسب اقل مع ذلك التسريع، ومن المهم أن نشير بأن الأدب الفرنسي طرح فلسفة جديدة، قلبت موازين الأدب، فقد تخلت الذات عن موقعها التاريخي، واستبدلت الاشياء والحاجات تلك المركزية، ولم تتدخل الفلسفة الفرنسية ازاء تلك الاشكالية، والتي نشير الى صحتها في مؤشرات الواقع، ونكرانها في المسارات العامة والسياقات، و ننكر أن تكون تلك الفكرة صدمت العقل فهي منبثقة من الواقع، وفلسفة الرواية الفرنسية تجنب تزويق الهم البشري، او استعارة صور الرفاهية المنحسرة وتقديمها في تفاصيل سردية كحقيقة تمثل النسيج الاجتماعي .

اذا قنعنا بالفكرة التي تضع ديكارت كأب للفلسفة الحديثة، واعتباره هو الصيرورة الانسب لتمثيل تلك الفكرة، لكن علينا أن نقر بأن الفلسفة خارج الجنس البشري، حيث يشير مؤشر النسب الى أن الفلسفة الالمانية هي التي اكثر مساحة بعد ديكارت، واذا كان دوستوفسكي يرى بأن الأدب الروسي خرج من معطف غوغول، لكن في اطار الفلسفة يختفي الجانب القومي نسبيا، حيث ما بعد ديكارت كانت النسبة الاوسع في الخطاب للفلسفة الالمانية، ولا نحتاج الى تفسير للمعطى الفكري للفلسفة وانبثاقها الملموس في الصفة العضوية للخطاب، وعلى وجه التحديد اكدت الفلسفة الالمانية الحضور الامثل على مستوى التداول، ومن الطبيعي يختلف الامر بين الحضور العضوي للخطاب وفي اطار الذات، والذات تعكس الحضور في المحيط المعتاد لها، واما الخطاب فيتجاوز في الواقع العضوي تلك المديات بالحضور المادي، واذا نقر بفكرة التأثر والتأثير، فيكون ديكارت تلك الصيرورة الفاعلة وقطب الجذب ايضا، وايضا هناك فكرة في حدود التصور، حيث لا يمكن اغفال الجانب النفسي ومدياته، وكن نجد المثال الاساس ما تمتلكه نقطة الجذب، وعلى وجه الخصوص حيث مثل ديكارت نقطة الفصل ما بين تاريخ مدرك ومعروف من الفلسفة، واخر في حالة الصيرورة، ولكن لا نقول بأن ديكارت هو وسيلة نقل من الماضي الى الحاضر والمستقبل لذلك التاريخ الفلسفي، لكن على مستوى الانطولوجيا نقر بأن ديكارت هو نقطة التحول الديناميكية .

من البداية تنطلق الافكار الى تأكيد صيغة من الصيغ الاساس التي اعتمدتها الفلسفة الفرنسية بشكل مباشر، فتحريك الثوابت في مستويات اصطلاحية للوجه الدلالي، وكذلك بث طاقة قاهرة في الجانب المستقر او الساكن من الفلسفة، كي يتمخض عن تلك الطاقة اطر تجديد المعنى الفلسفي، وبث نفس مختلف في الخطاب، والكشف عن مناخ فلسفي جديد بمقومات جذب واثارة، وجعل مسؤولية التفسير غائبة عن الحضور المطلوب، وقد تحولت علاقة الفلسفة بالإنسان بعد طروحات ديكارت، والتي اعادت الى المعنى الإنساني هيبته الوجودية، ولكن نقر بأن سيرورة الفلسفة الفرنسية قد مرت بتحولات ومنعرجات، كان لها المساس والتأثير المباشر بالخطاب، ويمكن اعتبار الفلسفة الفرنسية قد تداخلت بالأدب في القرن العشرين على وجه الخصوص، ودرج ذلك المسعى اللساني في اطار التحديث والتطوير من خلال مقومات اللغة المشتركة، وصار  يلوح ذلك المسعى الجديد، حيث استحدثت طبيعة جديدة للعلاقة ما بين الفكر والتجربة، لذا( أن من مميزات الفكر الحديث ازدياد التوفيق قدما بين العقل والتجربة، حيث انتهى او كاد ينتهي، عصر المنافسة القديمة بين العقلانية والتجريبية )1، ومسار العقل الجديد ليس فقط اجدر واكثر حرية، حتى احيانا تجد الدلالة تعيد تشكيل نفسها، بعد ما مرت به من ثلم، ولابد أن نقرق ما بين الجديد والتجديد، فالفلسفة الفرنسية لابد أن نقر هي الجديد، وصاحبة نسب عالية جدا من التجريد الواضح في سمات الخطاب .

لقد تمكن نيتشه من تجريد هيجل، وذلك قد شمل السمات الظاهر للخطاب، وعندما تقرأ خطاب نيتشه لا تجد اثرا لهيجل، ولا تلمس تراكم خطاب في الخطاب، وتشعر بأنك امام خطاب منفصل عن التاريخ الفلسفي، وهذا يسحبنا الى هنري برغسون الذي قاد المنعرج الدينامي والسياق الفني لخلق ذلك النفس الفلسفي الجديد في تاريخ الفلسفة الفرنسية، والتركيبة النفسية لبرغسون ذات النفس الما بعد التاريخي كان لها الاثر في تلك التحولات من تاريخ الفلسفة الى المعنى المثير ادبيا وفلسفيا. وبالرغم عدم تقديم برغسون خطابه عبر مستوى الخطابات المتعالية، لكن سمات التطور الخالق والوعي جديد، اثمرت من بلورة فلسفة بنسب تجريد كبيرة للتاريخ الفلسفي، وسعي الى انقاذ  القيم الفلسفية التي حددها المذهب المادي للفلسفة، او تلك التي بلورها المنهج العلمي بسياقات العقل العلمي، وقد تميز العقل في المؤالفة ما بين الغاية الفلسفية والقصد العلمي، وذلك ما منح الفلسفة الفرنسية ميزة الخلق والتنظيم اكثر بكثير من الفلسفات الغربية الاخرى، وما يفسر سابقا السعي لتوحيد الاضداد، اصبح في ظروف جديدة بصيغة اخرى تتناسب مع التطورات العامة للمعرفة والعلم، فقد اصبح السؤال المعرفي هو من ينيب عن التزام المحمول العلمي، وهذا ما انعش العلوم من فيزياء ورياضيات، بعدما اصبحت بتماس مباشر مع الفلسفة، ونجحت التجارب المشتركة، ويعود الفضل الى التجريد المناسب، اكثر ما وصف العصر في القرن العشرين بأنه عصر العلوم، وقد وسع بالشار حدود المنطق العلمي بطرح فكرة التجريب العلمي، والذي استعار فكرة ادبية اساسا، وانعش ابعادها لصالج المنهج العلمي وغاياته واهدافه .

***

محمد يونس محمد

.......................

1- نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة – جان لاكروا – ترجمة يحيى هويدي، انور عبد العزيز- المركز القومي للترجمة - ص 16

(هناك استشراق في أكثر الرواد قلقًا، وأبعد الغرب هو أقصى الشرق) هنري ديفيد ثورو

عادت الرواية الاستشراقية إلى الظهور بقوة من جديد، بعد حادثة مقتل الشاب المهاجر ذي الأصول الجزائرية نائل، وما خلفته من تداعيات خطيرة على المجتمع الفرنسي.

الأفكار التي صيغت من قبل وسائل الإعلام الفرنسية بخاصة، والأوروبية عامة، بطريقة تعمم المفاهيم والاتجاهات والتقييمات التي بناها التفكير الاستشراقي، على منظورات وتأويلات، تأسيسا على التشويه الثقافي والتاريخي، أو على شكل "العرقية" الناتجة عن سوء استخدام متعمد أو غير مقصود للغة، على خطى "كل العمليات اللغوية هي تشوهات" لرولان بارت، هي ذاتها تلك التي سرت في ركبان أبحاث ودراسات المستشرقين المقاربين على نحو مغالط وفضفاض لصور النمطية السلبية عن الآخر، وبالغاية الدقيقة، عن العربي والمسلم؟

لاتزال مفاهيم "الرواية الاستشراقية" التي وظفها المفكر ادوارد سعيد في كتابه الأمثولة "الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق"، حاضرة بقوة، باعتبارها منشأ سوسيولوجيا واجتماعيا وتاريخيا تؤثث أوجه تخلصها من الهويات المعقدة في قطعة واحدة بسيطة، غير بعيد عن جدليات القضايا الكبرى المتعلقة بالإسلام والهجرة الإسلامية والجاليات المسلمة في أوروبا، وما تحمله من قطائع ونحوت في التقييمات المعاصرة لتلكم الزواحف الاستشراقية، وارتباطاتها  بسرديات وسائل الإعلام والحركات الشعبوية والرأي العام، وخاصة الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وما تستنتجه من مجمل التأطيرات والنقاشات الغارقة في الإسفاف والمهاترة.

ويبدو أن هذه السرديات لازالت تدعم التوجهات السالفة الذكر لعالم الاستشراق وتصنيفاته، والدليل ما أتبتته الأحداث الفرنسية الأخيرة، وانفلات بعض الأحزاب السياسية السائدة والرأي العام والحركات الاجتماعية في مجمل بلدان الغرب، والتئام كل ذلك مع التقاءات التفكير الاستشراقي وتشكيلاته الجديدة.

ولهذا كنت أتوافق مع إدوارد سعيد في اعتبار "الاستشراق قوة أيديولوجية مثل أي قوة أخرى"، بل "إنه مجرد اتجاه مألوف يحاول تبسيط المجموعات الاجتماعية من أجل النفعية السياسية أو العلمية، أو حتى السيطرة". مع أن ذلك يتفوق نظريا على قاعدة أن "الاستشراق يمثِّل مبالغة في الاختلاف، وفرضية تنطوي على تفوق الغرب، وتطبيق نماذج التحليل النمطية عن العالم الشرقي".

وهو المنظور الذي ينسجم مع أنساقية الاستشراق "كمصدر للتصوير الثقافي غير الدقيق، أي أصول الأفكار والتصورات الغربية عن الشرق". بينما الأخطر في البعيدين الهائمين على أعقاب رؤية الاستشراق الأيديولوجية ومنفذها السياسي والثقافي للقوة والتحضر والاستلهام، هو تكريسها لهذا التجوهر الذاتي المغرور، والكامن في التسلط والانتهازية وتشويه الآخر؟

الاستشراق أيضا، يحتمي خلف منظومة ابتداعية غربية جديدة، تذكي نيران التجويف المخدوم لأهم القضايا المعاصرة للإسلاموفوبيا، التي يتم استخدامها إجرائيا وتضليليا للكشف عن بساطة الحجج المعادية للإسلام، والتي تتغاضى عن التعقيد وتكشف قضايا الخطاب اليميني التبسيطي، المجاهر بالكراهية والحقد وتشويه الخصوم دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لمنظومة القيم المتداعية التي ترمز بالصنم الديمقراطي وتتحوط به وتجعله إلاها أو ضميرا للعالمين.

حتى أضحى رهاب الإسلام المعاصر، وجها من أوجه الاستشراق الحداثي لدى غرب يجرف بدائل "كيفية صياغة الإسلام كمفهوم"، في اتجاه تحويل الأنظار من مجرد تأويل ثنائية "شرق غرب" كحضارة متنقلة ومتفاعلة، "غالب ومغلوب" إلى افتعال تصوُّر متهارش للإسلام، من خلال النقاشات المعدمة التي تصوغ المواقف الاجتماعية والتصورات الثقافية والأيديولوجية السياسية، وتجعلها "بؤرة" و"اقتساما للغنيمة" و"تطويرا لآليات الاستعمار"، بما فيها "الثقافية" و"اللغوية" والاجتماعية وغيرها.

هل حان الآن وقت التفكير في تفكيك مقولات الاستشراق وتبعاته؟ ما الذي يجعل مركزية التجاوز الاستشراقي المعاصر للنظريات الثقافية المستحدثة، متباعدة ومتواطئة في الصلب العميق لرؤيتنا للتفكير المستقل والعقلاني، المناهض للاستبعاد والاقصاء والعدمية؟.

ما الذي يجعل الاستشراق كتوجه فكري وثقافي أممي، منكمشا ومتواريا، ومستبعدا من باراديجمات الممارسات الثقافية الجديدة، بأبعادها الحضارية المشعة واشتباكاتها مع العوامل التكنولوجية والرقمية الحديثة؟

وكيف يمكن الخروج من كل تلك المآزق والحتوف، التي أوغلت في فضح المذاهب الاستعمارية المشغولة بتكريس "الصراع الحضاري" و"الحروب النووية" و"تفشي الفاشيات" ..إلخ؟ ..

ربما نحتاج لإعادة قراءة الاستشراق، كفكر إنساني ووجداني مصلح، يرمز للتسامح والوعي بالمعرفة، والتسلح بالحقيقة وتطوير الحياة، ما يؤكد على فكرة بناء الوعي النقدي، وتحويل الذاكرة إلى مشتل لتأصيل الثقافة وتقديمها ضمن حدود ومقومات ثابتة ومتحولة وذات صيرورة متدفقة وجسورة.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

ثلاث عبارات هي مقولات دي سوكا ارغب التعليق الحواري عليها:

دي سوكا كاردينال لاهوتي وفيلسوف القرون الوسطى مقولته الاولى (الوعي هو نوع من التحرر من الواقع) والثانية هي (الزمن بعد سببي للزمكان) والثالثة (الزمن يسبق الوعي الحقيقي).

الوعي حين يعبّر عنه دي سوكا تحررا من الواقع بمعنى ثنائية جمع الوعي بالواقع لم تعد قائمة كون الوعي يستنفد طاقته الوظيفية بالتعريف بالواقع واعطاء وسائل فهمه بلغة التجريد التعبيري عنه في مرجعيته للعقل. اما الزمان بعد سببي للزمكان فهي بديهة منطقية قائمة كمعطى  كون الزمان هو ثنائية ملزمة له في وحدته الثنائية مع المكان. الزمن لا يخلق المكان فهو ليس فراغا استيعابيا مجردا عن ملازمته المكان كواقع وصيرورة علاقات ثابتة او متحركة. الزمان دلالة ملازمة معرفة الاشياء لكننا نفتقد ادراكنا ماهو الزمن كموضوع وليس كمفهوم ميتافيزيقي؟

بالنسبة للمقولة الاولى فالوعي ليس نتاج الواقع بل ناتج تفكير عقلي وإلا تساوى الوعي مع انطباعات الحواس الناقلة لاحساساتها الى شبكة منظومة العقل الادراكية عبر الشبكة العصبية. الوعي ناتج عقلي تجريدي يمثل فعل الادراك الحسي حول الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لا يدركه الوعي ايضا فما هو موضوع للعقل يكون موضوعا للوعي..

أي بمعنى آخر الواقع ليس موضوعا يعيه الوعي باستقلالية ادراكية يحاول الافلات منه الا باشتراط ايعاز من العقل والوصاية العقلية عليه.. الوعي ليس موضوعا للعقل لكنه وسيلة العقل في ادراكه كل شيء كمواضيع. الوعي هو النسخة الكاربونية للعقل في معرفته الواقع وليس ادراكه الواقع فقط. فالادراك الشيئي هو خاصية الحواس قبل خاصية العقل.

توجد علاقة معرفية تكاملية بين الواقع والوعي، فالوعي تجريد لغوي عقلي لا ينتجه الواقع بل يحتويه معرفيا بصيغة التكامل المعرفي والتخارج بينهما ليس بصيغة جدل التضاد الديالكتيكي. الوعي هو الوسيط العقلي الذي ينقل الفهم المعرفي للعقل في تعبيره التجريدي الحيادي بوسيلة اللغة عن موضوعات الواقع لا كما هي في وجودها المادي الثابت بل في وجودها التغييري المطلوب.. الوعي صيرورة تشكيل الواقع برؤى عقلية تجديدية مغايرة. الوعي ليس ادراكات حسية انطباعية عن الاشياء وموجودات العالم بل احاطة استيعابية لمواضيع كان أعطى العقل مقولاته بشأنها كيف هي وكيف تكون؟.

مقولة دي سوكا  الزمن يسبق الوعي فرضية نظرية فلسفية صحيحة. تجمع تجريدين غير متجانسين لا في الماهية ولا بالصفات كما هما غير مدركتين عقليا في كليهما. فكما لا يمكن للزمن ان يكون موضوعا مستقلا للعقل كذلك هو الوعي.

الزمن في علاقته البينية بين الواقع والعقل هو دلالة معرفية حيادية غير مدركة عقليا كما والزمن لا يدرك ذاته ولا يدرك العلاقة الترابطية الدلالية بالمكان. . اما الوعي فهو توسيط ناتج تفكير العقل ولا يكون موضوعا مستقلا للعقل لانه هو نسخة عقل مكررة. عديدة المفردات التي تشكل حلقات منظومة العقل الادراكية مجتمعة ولا ينفرد احدها ان يكون موضوعا مستقلا للعقل الوعي احدها. كذلك الذهن، شبكة الاعصاب العنكبوتية، الضمير، الهواء، الزمن، الحواس، النفس، الاحاسيس داخل الجسم الخ.

الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي مصنوع عقليا والزمن معطى ازلي ميتافيزيقي. الوعي في ادراكاته العقلية للاشياء يحكمه الزمكان الشيئي لكنه لا يستغني عن الزمن كدليل ادراكي لمعرفة الاشياء.في اللاشعور من خلال مثال حالة النائم الحالم نجد الزمن يتقافز ملازما تداعيات المكان التي لا يضبط انتقالاتها الحلمية زمنا غير عشوائي.

الوجود مكانا هو وجود زمكاني في ثنائية وثيقة العرى هي انك لا تستطيع ادراك الشيء مكانا الا بملازمة غير مدركة عقليا لزمانها. حين تناول فرويد علاقة الوعي او الشعور بالزمن لخصّها بعبارته القصيرة اللاوعي اي اللاشعور بمصطلح علم النفس لا يحتاج الزمن.

على اعتبار الوعي اللاشعوري الحلمي هو تداعيات عقلية غير منتظمة زمكانيا في حالة من الصيرورة المواكبة لصيروة الواقع الخيالي الغائب عن الوعي خارج سيطرة العقل. وهذا الوعي اللاشعوري لا يخضع لسطوة العقل من جهة ولا لسطوة الزمن من جنبة اخرى وهو ما يتمثل بأحلام الشخص النائم على انها تداعيات لاشعورية تفتقد العلاقات الترابطية كما في حالة الشعور عند الشخص اليقظ غير الحالم..

لقد سبق لافلاطون ان ذهب الى اننا بدلالة انتظام المكان في قوانينه الطبيعية الحاكمة له تنتظم عشوائية الزمان الملازمة له. يلاحظ ان افلاطون هو السبب الاول فلسفيا في جعل كل من ارسطو ونيوتن يؤمنان بنظرية افلاطون الزمان مطلق لا نهائي ازلي عشوائي وهو معطى لخالق مجهول بعد اعطائه لنا الطبيعة المنتظمة بقوانين حاكمة لا قدرة على الانسان اكثر من اكتشافها وليس اختراعها او التلاعب بها وتغييرها.. واعتبر وجود الطبيعة سابق وجود الزمن. ولا حتى متلازمين بالخلق الآني الواحد. ويبقى ماجاء به افلاطون نظرية فلسفية لم يؤكدها العلم تجريبيا.

الغريب بالامر هو ان افلاطون اعتبر الزمن وجودا عشوائيا وبدلالة انتظام المكان – يقصد الطبيعة بقوانينها الثابتة – يتخلص الزمان من عشوائيته وينتظم ذاتيا كما هو الحال في نظام الطبيعة. الحقيقة الفيزيائية العلمية برهنت على ان الزمن تداعيات لانهائية عشوائية على شكل حزم متماوجة بالكون تحت شروط واحكام فيزيائية كونية معينة. والزمن ليس مطلقا على خلاف ماذهب له افلاطون وتوارثه عنه ارسطو ومن بعده نيوتن حتى جاءت نسبية انشتاين ونسفت نظرية مطلق الزمان. لقد استطاع انشتاين تجريد نيوتن من مطلق الزمان لكنه عجز  تجريد عبقرية نيوتن من قانون الجاذبية المعجزة الارضية المنسوبة له التي قلبت كوسمولوجيا الفضاء..

نعود لاستطراد ينسب لفرويد حول الموضوع فهو يرى المكان وجودا محدودا بابعاد مادية ثلاثة متعارف عليها الطول والعرض والارتفاع قبل اضافة انشتاين البعد الرابع للمادة هو الزمن. وهذه اشكالية يؤكدها منطق نسبية انشتاين الفيزيائية الكونية. لكن بمنطوقنا التصوري عن ثبات فيزيائية ابعاد المادة ارضيا  تحمل نقاشا ومداخلة. المادة كمتعيّن ارضي ثابت بابعاد ثلاثة على الارض هو غير الفهم الكوسمولوجي لها. فمثلا نحن الان نؤمن بالنظرية التي تقول الزمكان كمفهوم هو ثنائية لا انفكاك لها تجمع بين المكان والزمان. ونحن ندرك الزمكان الارضي كوحدة لا تتجزا. لكن المادة التي يمكننا التعامل معها كموجود ومتعيّن ارضي نستطيع التعامل معها كاجزاء يمكن انفصالها مثل حاجتنا الطول فقط او العرض فقط او الارتفاع فقط.

الملاحظة الاولى ان قوانين الكون الفيزيائية لا تحكم قوانين الارض بشأن ابعاد المادة كاجزاء تكوينية منفصلة الواحدة عن الاخرى لها.. من البديهيات القول المادة بابعادها كي تصبح كينونة مادية مستقلة ليس في الفضاء فقط وانما على الارض ايضا.

الملاحظة الثانية ان ابعاد الجسم المادي على الارض هي مدركات عقلية يمكن تجزئتها حين يراد التعامل مع بعد مادي واحد من تكوينها. على خلاف النظرية الكونية التي هي ايضا لا تدرك الزمن الكوني موضوعا بل تدركه ملازمة احتواء للمادة وموجودات الكون كما نحن نتعامل به على الارض.

الملاحظة الثالثة كل مدرك مادي بابعاد ثلاثية متفق عليها يترتب عليه متعينا محدودا على خلاف نسبية انشتاين الفيزيائية التي اضافت لابعاد الجسم او المادة بعدا رابعا هو الزمن لكنها ايضا تتعامل معه كونيا فيزيائيا كدلالة وليس تموضعا رابعا في تكوين المادة الموجودة على الارض بثلاث ابعاد فقط.. هنا علينا التفريق بين وجوب حضور الزمن كي ندرك المادة وبين التعامل مع ابعاد المادة متجزئة منفردة التي هي ايضا تحتاج الحضور الزمني لاتمام ادراكها.

الملاحظة الرابعة قياس مقدار الزمن الكوني ياتي ضمن اشتراطات معادلات فيزيائية علمية تكون سرعة الضوء متسيدة تلك الاشتراطات. اما مقياس مقدار الزمن على الارض فهو يكون محكوما بسرعة الصوت وليس سرعة الضوء لقطع مسافة بسرعة معينة هي لا شيء بالنسبة لقياس السنوات الضوئية كونيا..

لقد سبق لافلاطون كما اشرنا له سابقا انه قال الطبيعة اقدم وجودا من الزمان، وان الطبيعة منتظمة بقوانين ثابتة والزمن سديم عشوائي كوني وبدلالة انتظام قوانين الطبيعة نستطيع تطويع عشوائية الزمان الى انتظام مشابه للطبيعة. وهي عملية ميتافيزيقية لا يدركها العقل كما ولا يوجد ما يؤكدها علميا تجريبيا. وهذا التفسير الافلاطوني بالقياس الى معطيات زمنه الماضي في فلسفة اليونان القديمة يبدو مقبولا اذا حاولنا تفسير هذه النظرية تفسيرا ميكانيكيا يرى الزمان حركة دائبة لا تدركها عقولنا، ويرى المكان ثباتا ماديا ندركه بابعاده المادية الثلاث.

لعل الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الحائز على جائزة نوبل بالادب هو الذي غرّد خارج السرب في مقولته اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلي البيولوجي مجردا عن ملازمة الزمن للمكان في ثنائية لا انفصام بينها ومن السذاجة تصديق ان ادراك المكان يشترط ملازمة زمن له. (تقريبا نقلت فحوى ما جاء به برجسون)

ماذا فعل برجسون بمقولته الاستفزازية هذه لعلماء الفيزياء والفلاسفة واشياعهم؟

اولا : الغى حقيقة وجود الزمكان. على صعيدين هما جعله الزمكان ليس مادة يدركها العقل، ولا هو فراغا استيعابيا احتوائيا خارج ادراك العقل.(يوجد نقاش فلسفي – فيزيائي حاد بين مؤيد ورافض لهذه الفرضية).

ثانيا: اثار برجسون ربما عن غير قصد فلسفي ناضج منه فرضية ان يكون الزمن (وهم) لا وجود حقيقي له يمكن اثباته.(برز حديثا في الفلسفة الاميريكية ما يدعّم صحة هذه الفرضية). لي مقال منشور كتبته مؤيدا فرضية الزمان وجود غير موجود. مستفيدا من مقالة الباحث الفلسفي حميد محسن الذي عرض فيها كتابا بالانكليزية غير مترجم للعربية لثلاثة فلاسفة اميركان ذهبوا منحى الزمن وهم افتراضي غير موجود. المقال نشره موقع المثقف مع مقالتي .

لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان.

ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..

صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين.

ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدها علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية خلفها.

***

علي محمد اليوسف

لغة العقل

العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا  تعبّير اللغة عنه .

كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكيرالمعرفي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدركه العقل في معناه لغويا تفكيريا..

ان ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة فكلا التفكيرين هو ابجدية صورية تمثلية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى للمفردة والجملة..

كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتوه اللغة الصورية ويتمثله العقل لا يدرك العقل معناه ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية مجردة ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات حسيّة تعيها اللغة ماديا.

قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارز الامريكي قوله الوجود لغة واضيف انا العقل جوهر لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي (المخ) او سواء مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته الشيئية.

في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معنى لهوية الله.. واجد ان هذه التعبيرات واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل.

أن العقل هو لغة معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء لا تعبّر عنه اللغة.

الذات بين الدين والطبيعة واللغة

صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا, عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج. . لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين او تحت وصاية وتسلط راس المال ووسائل الانتاج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع منتج للحياة. الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين في كتابة الاجناس الادبية.

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة تشابه المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم الحياة. ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

الحداثة والعلمانية

في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بينهما (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة معرفية تكاملية ام معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية هي بداية الخروج من معطف الماقبل حداثي وبلغت اوجها في الحداثة ووصلت قمتها المتطرفة اكثر في ما بعد الحداثة..

العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة ديمقراطيا التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان.

الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة نفي لاحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين, وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يجتنب الديني الخوض في معتركه في انقياده للعقل المادي.ما يثبته العلم لا يخوض معتركه الدين.

الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه. لذا يكون الاسلم ان يحكمهما الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما. من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها الاستفراد التدين الوضعي ويقرّه مستقلا به وحده..

اسبينوزا والالحاد

ورد في ويكيبيديا الموسوعة في دفاع هيجل عن الحاد اسبينوزا ما يلي" ان هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله. والاصح ان هذه الهوية تلغي الطبيعة. وبدلا من اتهام اسبينوزا بالالحاد ان لا يسمى بالالهية بل يسمى بالكونية او اللاطبيعية بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته. لان كل ما يوجد انما يوجد في الله."

اجد في تعبير هيجل حول توضيح معنى مفهوم وحدة الوجود لدى اسبينوزا تحليلا دقيقا سليما في تفعيله العقل  معرفة دلالة هوية الخالق. ويذهب بعض الفلاسفة ان اسبينوزا له من الاعتقاد بالله ما يكفي او يزيد.

هيجل حينما استعار فكرة (هوية الله) المتجانسة مع الطبيعة على انها تلغي فكرة الطبيعة كانت فكرة صائبة تنظيرا لكنها خاطئة واقعيا. هذا لا يعني ان اسبينوزا لم يفهم الفرق بين هوية الله في الطبيعة التي هي مرتكز فلسفته بوحدة الوجود. وبين هوية الله الميتافيزيقية في مرجعية ما تقوله الكتب المقدسة والمعجزات الدينية..الطبيعة ادراك محدود غير كوني نهائي لا يجوز الاستدلال به في الغاء هوية الله الميتافيزيقية غير المحدودة لا بالصفات ولا باللامتناهي.

***

علي محمد اليوسف

تظل معالم الحقيقة باقيةً مهما كانت التحديات والظروف المحيطة بها، ونحن ندرك أنَّ السلطة تقدم لها تأويلاً بحسب مآربها الخاصة. وترى فيها خطراً داهماً يجب التخلص منه. ولكن نظراً لكون الحقيقة لا تتلاشى (كما سنعرف بعد قليلٍّ)، فلا تملك أيةُ سلطةٍ سوى حجبها. إنَّ فعل الحجب، الحظْر، المنع، يلائم الحقائق الإنسانية لا فعل النهاية ولا الموت. أبداً لا تموت الحقيقة، فلا أحد بإمكانة قتل الحقائق كأنها ضحية لعملية اغتيال أو دهس بالطريق العام. وهي خطر على السلطة، لأنَّ الأخيرة ترى فيها ما كانت تود أنْ تراه في نفسها، أي ترى السلطة فيها الأصل الذي لا تستطيع أنْ تكونه.

بقاء

تقف الحقيقة عصيةً على التلاشي، ليس لها حدٌ يمكن اعتباره حدَ الفناء. هي ممتنعة أيا كانت محاولات النيل منها. وعندما تتراكم السنون والأيام فوق حقيقة إنسانية معينةٍ، يتخيل الناس أنها قد دُفنت دون رجعةٍ. ولكن هذا محض وهم لا أساس له من الصحة، لأَّن الحقيقة لم يحدث أنْ دفنت، ولن يُفعل بها ذلك. لقد تحولت -حال غيابها لأي سبب من الأسباب- إلى طبيعة رمزية أخرى من التواجد المكثف.

البقاء هو نتاج لعمل الثقافة والذاكرة ضد كل نسيان، وليس هو النسيان الوارد عادةً لدى آحاد البشر، لكن أقصد أنَّ البقاء يصمدُ مع ذاكرة المجتمعات. فالمجتمعات انشئت لتتلافى آليات وقوانين النسيان. ضمن التاريخ الفعلي لا يوجد ما يُسمى بالنسيان. لأنه عبارة عن ذاكرة بنيتها الجمعية على اتساع الأزمنة وتحولاتها، إنه ذاكرة لا يعنيها فرداً بذاته، لكنها ترصدُ موقعه بكافة التفاصيل مثل تفاصيل الآخرين في حركة المجتمع الدائرةِ عن كثبٍ.

كل أدوات التذكُّر متوافرة وتعمل بقوة فائقة التقدير: الأرشيف، التسجيلات، الوثائق، التدوينات، القصص الشعبي، الأمثال العامية، الآداب، الأشعار، النصوص، الخطابات العامة، المحاضر الرسمية للمؤسسات والهيئات، ذاكرة الأجيال، سجلات القضاء، المناسبات والطقوس. أشياء تصب بطريقة أو أخرى في زاوية رصد الحقائق. وإذا كان العقل البشري ممتزجاً بقوى الضعف والوهن، فليست ذاكرة المجتمعات كذلك. المجتمعات لا تنسى، وهي تفعل هذا بملء الكلمةِ لا غير.

هكذا تبقى الحقيقة كامنة هنا أو هناك، وهي كذلك بالنسبة لجوانب التاريخ. والتاريخ من زاوية الحقائق عدة أنواع تحتفظ بآثارها وحفرياتها.

أولاً: التاريخ العام: ذلك الذي يحمل تفاصيل الأحداث الكبرى، أي بما يخص المجتمع ككل مثل الثورات والتحولات السياسية والظواهر الاجتماعية والحروب والتطورات الاقتصادية. ولا يعبأ كثيراً بالأحداث الصغيرة التي قد تقع بين ردهات الحياة اليومية. وهذا التاريخ عادةً تاريخ متجمدٌ إلى حين، لأنه ينتظر عقوداً من السنين حتى يرصد ما يقع، كما أنه يمتلك عيوناً واسعة الحدقات لا تلتقط إلاَّ الحركة الزمانية والمكانية بعيدة الخطى.

ثانياً: التاريخ الخاص: تاريخ يهتم بالأحداث الخاصة مثل مسار بعض الشخصيات الشهيرة وتاريخ المدن والقصور والتجمعات البشرية وتطورات السياسات النوعية في قطاعات المجتمع والإقتصاد. وهذا التاريخ يهتم بتلك الأشياء بقدر ما تؤثر في المجتمعات، وبقدر ما تصب في مجرى الأحداث الكبرى. إن تاريخاً كهذا يضرب موعداً مع الأحداث الخاصة (ظواهر– شخصيات– وقائع) على فترات متباعدة، لانه ليس يظهر مثلها على نحو متقارب زمنياً.

ثالثاً: التاريخ اليومي: تاريخ يرصد تفاصيل الحياة اليومية، الممارسات والعلاقات والحركة اليومية للمجتمعات. وفي الواقع يقوم الإعلام بهذا الدور مع إيقاع المجتمع وجوانب الحياة اليومية واسعة الانتشار. التاريخ اليومي تاريخ متناثر ومترامي الاطراف. كان يمثله قديماً تاريخ الجماعات والكتل البشرية والأفراد على الصعيد اليومي وطرق الحياة والعلاقات وأخبار الملوك والوزراء وتراجم الأخبار لما يحدث طوال الوقت مثل كتاب عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار). وراهنا غدت مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي فضاءً فسيحاً لتسجيل اليوميات، والأشياء التي لا يلتفت إليها أحد، وتسجيل أدق التفاصيل التي تسقط من غربال الأحداث الكبرى.

رابعاً: تاريخ المهمشين: تاريخ ينقب في جوانب وصور التهميش الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، راصداً حيوات المهمشين والآثار الواقعة عليهم ضمن تفاصيل الواقع المعيش. وهذا التهميش لصيق الصلة بتكوين المجتمعات البشرية. وليس التهميش مكاناً ولا زماناً ولا نمطاً، ولكنه وظيفة لنمط العلاقات والسلطة الغالبة في المجتمعات. أي لو لم تكن السلطة مستحوذة على الاهتمام فارضةً كل ما يتعلق بها، ما كانت لتوجد هناك جماعاتٌ مهمشةٌ وحرف مهمشةٌ وعلاقات مهمشةٌ. وأن التهميش هو المعادل الموضوعي لهيمنة السلطة موضوعياً بالمثل. والحقيقة في هذا التاريخ غير الحقيقة في أنماط التاريخ الأخرى.

خامساً: تاريخ المسكوت عنه: هو تاريخ الأسرار والقصص الضمنية والخلفيات والصور الخفية من الحيوات والمهن والوظائف والسياسات والمواقف والعلاقات المسكوت عنها، ولم تجرؤ السلطة وضعها في دائرة الضوء. وهو تاريخ الصمت والممارسات غير المعلنة التي لو ظهرت لتغيرة صورة فاعلي المجتمعات في نظر الجماهير ولألقت الضوء على الصور المعتمة من الواقع والحياة. وهو تاريخ ضمني يفهم من خلال مظاهر المجتمع، ويمتد في نواح متعددة بقدر عجز الواقع عن أن يقول كل شيء.

سادساً: التاريخ المتخيل: وهو تتبع مسارات وصور وأبنية الخيال وتوظيفه في المجتمعات البشرية. ولاسيما أنَّ الخيال هو العالم المتصوّر الذي يوازن حركة الواقع ويمثل الجزء الأكبر من جبل الثلج الذي تدسه السلطة في حياة الناس لرسم معالم الحياة وتسويق السياسات والأعمال العمومية بصرف النظر عن حقيقيته من عدمه. وتدخل في هذا الجانب عمليات التقديس والسرد وبناء الصور المتضخمة للحكام والأعمال في آفاق الناس. فإذا كان الواقع لا تبلعه الجماهير بسهوله، فلا مانع من تغليفه بالخيال والسرد لتسهيل ابتلاعه.

سابعاً: التاريخ الافتراضي: وهو التاريخ الذي يفترضه الناس والقوى في المجتمعات وينتظرون تحقيقة. وكل المجتمعات تمتلك أرصدة ضخمة من الافتراض التي تفسح مجال الواقع وتضعه في إهاب المستقبل. أما الجانب الآخر، فهو التاريخ الذي يؤرشف للعوالم الموازية إفتراضياً مثل الحيوات الافتراضية ووسائط التواصل الافتراضي في مجال الذكاء الإصطناعي وما تمارسه من تأثيرات على العقول والرغبات، لأن الوسائط عوالم وبيئات وعمليات سرد تسقط دلالتها على الواقع والحياة والتاريخ وتعكس نظام الحقائق.

ثامناً: التاريخ الرمزي: وهو التاريخ المعني بتدوين الجوانب الرمزية لحيوات الإنسان وأنشطته وأسسها العملية وكيفية ممارستها وأهم الرموز المؤثرة، سواء أكانت في الأديان أم في السياسة أم في حركة المجتمع أم في الاقتصاد أم في الانثربولوجيات واسعة الانتشار أم في الثقافة. لأن العيش مع المقدسات والطقوس والعلاقات القائمة عليها والرمزية الناجمة عن كل ذلك يضرب بجذوره في تاريخ طويل وراء الرموز وبدائلها واستعاراتها. وبخاصة أن ذلكم التاريخ جزء لا يتجزأ من النظام الرمزي الذي تستند إليه السلطة، فهناك حقائق رمزية توفر لها أرصدة من الفاعلية والقدرة على التأثير والاستمرارية بين الأفراد والجماعات.

اختصاراً، فإن جميع هذه التأريخات لا تترك الحقائق تمرُ مروراً عابراً، فهي تحمل تفاصيل الحقائق بشكل أو بآخر. وأتصورها لو وضعت بجوار بعضها البعض، فستوضح أي مجال إنساني ولن تفلت جوانبه دون كشف وتدقيق. لأن التاريخ يضع بين أيدينا الحقيقة في المقام الأول ويحيي الذاكرة الجمعية التي ترى الأحداث والأفعال العامة كما هي. والمجتمعات التي تعيش تاريخها وتعي منعطفاته هي المجتمعات الحية على الأصالة.

تأثير

الحقيقة تتميز بقدرتها على التأثير، وهو تأثير في تقييم الأشياء والحياة ورؤى الناس حول ما يحدث بالضبط. وتؤثر في نمط التفاعل بينهم، وكيف يتعاملون مع مفردات الواقع، لأن الحقائق أساس التوازن والتواصل. فمن المهم عندما يستند الناس إلى تصورات وأفكار ووقائع حقيقية ومتداولة بهذا المنطق، أنْ يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين الصور المزيفة للواقع، وأنْ يكفوا عن إعادة انتاج الكذب في الممارسات العامة.

لنتذكر قليلاً، أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون كان تحت نيران النقد المتواصل وجرت مناقشات في الكونجرس وغيره لإمكانية إقالته وتوبيخه أو استقالته من منصبه الرئاسي نظراً لملابسات علاقته اللاأخلاقية بموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي. ولم تكن الوقائع في القضية آنذاك هي السبب المباشر، ولكن كان السبب الأقرب هو تزييف الحقائق والكذب على الشعب الأمريكي. أي هو لم يقدّر تأثير الحقيقة على الناس وإن كان يعرف ماذا حدث بالضبط؟! وكانت السلطات الأمريكية تريد أن يقول الرئيس كلينتون الحقيقة ولا شيء غيرها.

ولكن الرئيس كذب على الرأي العام وقام بتضليل العدالة حين أنكر في البداية. إن تأثير الحقيقة أكبر من الوقائع في ممارسات السياسة، فقد تكون الوقائع خاصة ولكن التأثير عمومي بالضرورة عندما تتحول المواقف إلى جانب آخر. وكذب بيل كلينتون وقع في هذا الجانب وبدا كما لو كان حجباً لحقائق مصيرية على الشعب بمجمله. في حين يعد الرئيس مسئولاً وكان يجب أن يبذل التمسك بالحقائق إلى أخر نفس، فهي الكفيلة بتجديد الثقة في وجوده. ولذلك تعالت الأصوات وقتها بضرورة خضوعه لتحقيقات ولجلسات توبيخ أمام السلطة الشعبية المتمثلة في الكونجرس الأمريكي.

هذه الخطوة تقول إن رد الفعل (التحقيق والتوبيخ) من جنس العمل (الكذب العام) بصرف النظر عن الممارسات اللاأخلاقية، لأن الحقائق تصعد الأثر إلى مرتبة التعميم الذي يمس كيان المجتمعات، كما أنه تأثير مهم من جانب السلطة الواقع على رأسها كلينتون حتى تحقق وجودها أمام الشعب. فبالرغم من كون السلطة تقدم تأويلاً للحقيقة، إلاَّ أنه يهمها في المقام الأول (غلق الدائرة) عليهما، حتى يُخيل للمتلقي أنهما (السلطة والحقيقة) شيء واحد. فلو بدا أن الاثنين شيئان مختلفان، فهنا تكون التهديدات خطيرة، وقد تلفظ السلطة أحد عناصرها كما حدث مع كلينتون على قارعة الحياة، وقد تعرضه للتوبيخ أمام العيون، حتى يتم استعادة صورتها المهتزة.

إن تأثير الحقيقة يأخذ مكانتها في اللاوعي الجمعي بالفعل، لأنها تستند إلى خلفية استراتيجية من الفاعلية غير المرئية، وتساوي عملية إخفائها مساحة القوة التي كان يأخذها التأثير. ولذلك قد يرى كلينتون أن أمر كذبه على الشعب الأمريكي أمراً بسيطاً، لكنه كان كذباً يزداد في نواحٍ أخرى من المجتمع، ويترقبه الناس انطلاقاً من حجم السلطة المفترضة له.

وعلى نطاق أكبر دولياً، سنجد تأثير الحقيقة معقداً ولا يخلو من نتائج مدمرة. تقرير مبعوثي الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين في بداية القرن الواحد والعشرين، كان تقريراً يتعامل مع قضية الحقائق وجهاً لوجه. وبدا سؤاله كالتالي: هل توجد حقيقة لأسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي؟! أو هل الأسلحة من هذا الصنف المجرّم دولياً حقيقة أم لا في الدولة العراقية؟ طبعاً مع رحلات ومهمام المفتشين الدوليين إلى العراق، بدت الحقيقة، ملابساتها، وما إذا كانت هناك قوى تؤثر في هذا الاتجاه أم لا، هي مصدر التأثير ذاته على المشهد العالمي.

ليست للحقيقة قيمةٌ ما لم يكن تأثيرها أكبر مما نتوقع، وهذا المعني مؤداه أن السلطة هي الكائن الخفي في الموضوع. لأن التأثير يأتي عادة من المنع أو من التلاعب بالحقائق، وعندما يكون ثمة تأثير، فهو آتٍ من ضخامة المنع أوالتلاعب. ولذلك كانت قضية أسلحة الدمار الشامل هي الستارة التي نضجت تحتها مآرب وأغراض أخرى، وتباعاً طرحت حوارات ومخاوف حول احتلال العراق، ووراؤها أيضاً تحركت القوى الدولية لمزيد من الضغط في هذا الاتجاه.

الوضع الغريب أن جرت هناك مناقشات في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول مهمة الجيش الأمريكي لنزع أسلحة الدمار الشامل. وكأن الموضوع مسلم به وأخذ يقفز إلى الأمام، وهو نزع لسؤال الحقيقة وتحويله إلى حركة عسكرية على الأرض، سرعان ما نتج عنها تدمير المجتمع العراقي وتدمير إمكانياته ومساندة الكيان الإسرائيلي وتوغل أمريكا وأصابعها الدولية في المنطقة العربية، وتم نهب ثروات البلاد وحدث مزيدٌ من الانقسام وفشلت الدول العربية في إقامة دول ذات مصداقية وذات وجود حقيقي هي الأخرى.

إن سؤال الحقيقة بهذا المعنى الدولي شكل سياسات ورسم خرائط النفوذ والقوى بقدر ما كان سؤالا ملتفاً مع طبيعة تكوين الدول القوية، وكذلك حين كان ملتفاً حول إدارة القوانين الدولية والمنظمات ذات الصلة. إنه سؤال حول كيفية إدارة التأثير واستغلاله على نطاق واسع. وبعد هذا السنوات التي مرت على غزو أمريكا للعراق، قد اتضح أن الدولة العراقية لم تكن تمتلك أسلحة الدمار الشامل وأن المجتمع العراقي كان مجتمعاً ككل المجتمعات العربية يعاني من فكي عنف النظام الحاكم والإرهاب، ولم تكن دولته تساند إرهاباً عالمياً بصيغة اسلاموية كما زعم نظام جورج بوش الابن. وبعد الحرب الأمريكية على العراق واحتلال دولته، غدت القضية هي: كيفية كتابة سؤال الحقيقة بهذه الإشكالية المركبة؟

لأن تأثير الحقيقة كانت له عدة خيوط:

1- طرح الفكرة المراوغة (أن هناك أسلحة دمار شامل) في العراق.

2- تجنيد الهيئات الدولية للقيام بالدور المنوط بها وفقاً لطرح أمريكا والتظاهر بكونه لصالح العالم.

3- استنفاد المهام الدولية لمفتشي الأمم المتحدة واستنزاف مصداقيتها بناء على نوايا مسبقةٍ.

4- تحريك القوى الغربية المساندة لأغراض الاحتلال والتواجد في المنطقة العربية.

5- التلاعب بالقوانين الدولية وعدم احترام سيادة الدول بحسب المواثيق والاعراف السياسية.

6- تفعيل تراث اللاهوت السياسي وفقاً للأصولية المسيحية المتمثلة آنذاك في أدبيات نظام بوش الابن وترسانته التأويلية والتكنولوجية حول لاهوت المنطقة الذي تشكل اسرائل مركزه داخل دائرة بشرية مسيحية وإسلامية.

7- إدارة الصراع العسكري مع القوى الإقليمية من دول عربية ودول متوسطية ودول أفريقية لصالح أمريكا.

8- تغطية المآرب بكم مهول من الضخ الإعلامي لأخبار الحرب ونتائجها طوال الوقت (الأيام والشهور والسنوات).

9- غسيل أيدي أمريكا مما حدث للعراق والمنطقة على طريقة الكاوبوي، وبث دراما وأفلام سينمائية لحلب التعاطف مع جنود الاحتلال على حساب الشعب الوطني.

10-   تمييع القضايا وقتل الحقائق القائلة بعدم وجود أسلحة دمار شامل وتدمير المجتمع العراقي.

11- توظيف المصطلحات السياسية وبلاغة السياسة لردم الهوة بين الواقع والمتخيل عن طريق الزعم بأن أمريكا كانت تريد نشر الديمقراطية مقابل الارهاب ونقل المجتمعات العربية إلى خانة الدول الحرة.

عودة

حقيقة بلا عودة ليست حقيقة على الاطلاق. لو أردنا تعريفاً ثانوياً للحقيقة، لقلت إنها نظام إدراك لا يمل من العودات المتواصلة دون توقف. كثيراً ما نفكر بكون الحقيقة تظهر وتنتهي إلى الأبد. وهذا تصور غير صحيح، لأنَّ الحقيقة تعود بشكل قوى، وتثبت أن هناك شيئاً معيناً قد حدث، فلا يجب أن نتناساه. وكأنها في كل مرة توقظ ذاكرتنا الجمعية كنوع من توازن الردع إزاء الأوهام، وإثبات مبدأ الواقع أمام الناس.

والعودة تأخذ أشكالاً كثيرة، منها خطاب الحقيقة الذي يوجد منتشراً في السرد والتاريخ والعبارات المتداولة. ليؤكد أن الحقيقة هي الأساس، وأن هناك من يحاول التلاعب بها أو جعلها نوعاً من الشحن المتواصل لوجوده. والأهم كون هذا الخطاب مصدراً لمعرفة كيف توجد السلطة، وكيف تُورد الحقائق لصالحها. وقد تكون العودة نوع من التواصل الذي يمتد إلى طبيعة المجتمعات. فالتواصل يظل قريناً للحقائق، لأنها أسهل الطرق للإلتقاء والتفاهم. كما أنها في لحظة واحدة تنزع عن مختلف الناس السلطة تاركة إياهم والجوانب الإنسانية.

ومن أحد أشكال العودة أيضاً، هناك عملية الالحاح على الحقائق، وتلك عملية متناثرة في مناهج التعليم وكتب المعارف والأدبيات والقصص المتداولة وبرامج الإعلام، وكأن هناك قوى تريد تثبيت الصورة على هيئة معينة وتشكل اللاوعي الجمعي الذي يوفر لها غطاءً تلقائياً في حالة غياب الحقيقة.

والالحاح لسان حال نيابة عن المُمسك بصورة الحقيقة ليقول ها هي الحقيقة كما أصورها، وإنها بمثابة الأساس الذي يجب أن نسير عليه إلى منتهاه. وهذا المُمسك بخيوط الصورة يهمه دفع الجماهير في اتجاه معين، حتى يلتقي مع أهدافه في الواقع. وليس شرطاً أن يكون الإلحاح ظاهراً، لكنه غير مباشر في غالب الأحيان.

العودة من جهة أخرى بواسطة التأويل، والتأويل إزاء الحقيقة بدل لوجودها بصورة فجة وخشنة، فالتأويل للحقائق لا يحاول تقديم تفسير لها ولا يطرح إشكاليتها، بل بإيعاز من السلطة يصوغ من نفسه بديلاً عنها. كأنه يقول إذا لم نكن نحن البشر بقادرين على تحمل عُري الحقيقة ولا مواجهتها، فليكن هناك تأويل يعطيها شكلاً مقبولاً. وليس يمنع من وجود إطار مبرر جمعياً، حتى تمر الحقيقة دون حساسية ثقافية. ولذلك ياتي كل تأويل للحقيقة من جانب ما نرغب في معرفته ورؤيته، وليس من جانب ما نكره ولا ما نريد مواجهته.

وبما أن الحقيقة لا تخلو من صدمة ودهشة، فهي أقل ما تكون من خلال العودة المؤولة لها، مع كونها لا تفتأ تذكرنا بالأصل، أصل وجودها بالأساس. وأحد وجوه التأويل كون صورة الحقائق تأتي ملحقة بصور ثقافية واجتماعية أخرى. فلو كانت هناك أحداث معينة لها مكانتها إجتماعياً مثل الانتصار في حروب أو الأعياد القومية، فبالإمكان أنْ تخلع دلالتها على مناسبات أخرى وتتبادل الأدوار معها مثل المناسبات الدينية أو الاجتماعية المختلفة.

أخيراً تشكل عودة الحقائق ذاكرة حيويةً للناس، وتمثل مصدر إلهام في جوانب أخرى من الحياة، لأنَّ الذاكرة نوع من السرد الذي يتسق مع أنماط العيش ويعطي الإنسان صيغة إشباع وتكيف مع ظروف المجتمعات، وقد تنحي الذاكرة كل ممارسات السلطة جانباً، لتلتقي إزاء الحقائق الإنسانية بما هو أصيل. والأصيل في حياة المجتمعات كثير جداً، قد نسميه روح الشعوب وطريقة ممارساتها المبدعة للثقافة وكيفية التغلب على المشكلات.

***

د. سامي عبد العال

المَنهجُ الاجتماعي الكامن في الأنساق الثقافية يُمثِّل كِيَانًا فلسفيًّا يُعَاد إنتاجُه باستمرار في التجارب الشخصية للفردِ، مِن أجلِ تَحويلِ صِيغة الوَعْي إلى فِعْلٍ اجتماعي، ونقلِ إرادة المَعرفة مِن الذِّهْن إلى الواقع . وكُلَّمَا تَكَرَّسَت التجاربُ الشخصيةُ للفردِ كَسُلطةٍ وُجوديةٍ واعيةٍ بذاتها، وواعيةٍ بالعناصر المُحيطة بها، تَجَذَّرَت الأحداثُ اليوميةُ كَسِيَاقٍ إنساني عَقْلاني يُنتِج نَفْسَه بِنَفْسِه، ويُعيد تأويلَ الجَوهرِ النَّقْدِي للعلاقات الاجتماعية ضِمْن الشُّروط التاريخية الرَّامية إلى تأسيس السُّلوك الحَيَاتي انطلاقًا مِن مَنظور لُغَوي إبداعي، يَتعامل معَ ماهيَّةِ الأفكار كَآلِيَّةٍ للتصالح معَ المُجتمع دُون التَّخَلِّي عَن النَّقْدِ البَنَّاءِ، ويَتعامل معَ هُوِيَّةِ الزَّمَن كَأدَاةٍ لاكتشاف الخصائص المَعرفية في أشكالِ الوُجود ومَضامينِ الحضارة دُون التَّخَلِّي عن البيئة المُعَاشة . وإذا كانَ الواقعُ يُكَوِّن أنساقَه الثقافية لِمُقاوَمة غُربةِ الفردِ في ذاته، واغترابِه عَن مُحيطه، فَإنَّ الزَّمَنَ يُكَوِّن تفاعلاتِه الرمزية لِمُقاوَمةِ المشاعرِ الاصطناعية، والحياةِ الاستهلاكية الميكانيكية . واللغةُ تَقُوم بِتَوحيدِ الواقعِ والزَّمَنِ في البناء الاجتماعي لتحقيقِ التوازن بَين ذاتيَّةِ الفردِ ومَوضوعيةِ التاريخ مِن جِهَة، وبَين حَتميةِ العَقْلِ الجَمْعِي واحتماليةِ التأويلِ اللغوي للتفاعلات الرمزية مِن جِهة أُخْرَى . كما تَقُوم اللغةُ بِتَعريةِ العلاقات الاجتماعية مِن أنماطِ الهَيمنةِ والاضطهادِ، إذْ إنَّ اللغة تُمثِّل فاعليَّةً وُجوديةً قادرةً على كشفِ أشكال المَعْنَى المُضْمَرِ في إرادةِ المَعرفة، وإظهارِ المَسكوتِ عَنه في الأحداث اليومية، واستدعاءِ المَكبوتِ في ذاكرة المُجتمع، واستحضارِ المَقموع في الوقائع التاريخية، وإبرازِ المُهَمَّشِ في الهُوِيَّة الحضارية، واستعادةِ المَنْسِيِّ في الأنساق الثقافية، لتحليلِ الرابطة بين البناءِ الاجتماعي وبُنيةِ الوَعْي كَمًّا وكَيْفًا، وتفسيرِ المَنظومة الأخلاقية بَيْنَ فِعْلِ الحُرِّيةِ وحُكْمِ الضَّرُورة .

2

المَنهجُ الاجتماعي المُتمركز في البُنيةِ الزَّمَنِيَّةِ يُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ نَظرية في مركزية اللغة في الوُجود الحَيِّ والحُرِّ، ويُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ تَطبيقية في البُنى الوظيفية لمصادرِ المعرفة في الحياةِ اليومية، والآلِيَّاتِ الفِكرية المُتَحَكِّمَة بِمَسَارِها ومَصِيرِها. واللغةُ هي ثَورةٌ مُستمرة في الوَعْي والإدراكِ والواقعِ لِمُساعدةِ الفرد على التَّكَيُّفِ معَ إفرازات النظامِ الاستهلاكي المادي، ومُساعدةِ المُجتمع على التَّأقْلُمِ معَ تأثيرات التجاربِ الشخصية، والشُّروطِ التاريخية، والأنساقِ الثقافية . والفردُ يَنتقل مِن وَعْيِه بذاته إلى وَعْيِه بِمُجتمعه، ويَعتمد على تفاصيل حياته الخَاصَّة لإصدار أحكام على طبيعة البناء الاجتماعي . وهذا يَعْني أنَّ زوايا الرُّؤية للأشياء في الوَعْي الفردي الجُزئي تُحَدِّد ماهيَّةَ العَقْلِ الجَمْعِي الكُلِّي، وأنَّ المَصلحة العَامَّة هي مَجْموع المصالح الشخصية، وأنَّ مركزية المُجتمع في التاريخِ والحضارةِ هي حَصِيلة الأحلام الفَرْدِيَّة البسيطة، وأنَّ العناصر الوُجودية المَنْسِيَّة في كَينونة الفردِ الذاتية تُؤَثِّر بشكل لا واعي على أنماط الحياة، لذلك، كانَ الواقعُ انعكاسًا لِقُوَّةِ الخَيَالِ في تَفسيرِ الفِعْلِ الاجتماعي، وتَغييرِ مَصادرِ المَعرفة، وكانَ الزَّمَنُ رِحلةً فِكريةً مِن سُلطةِ المَعنى الإنساني إلى فضاءات التأويل اللغوي رمزيًّا وسُلوكيًّا وقِيَمِيًّا .

3

المَنهجُ الاجتماعي المُستقِر في التأويلِ اللغوي يُؤَسِّس شرعيةَ وُجوده في المُجتمع اعتمادًا على الجَمْعِ بَين الفِعْلِ الاجتماعي والمَسؤوليةِ الأخلاقية،مِمَّا يُسَاهِم في تحقيق الوَعْي داخل الأنساق الثقافية باعتبارها تفاعُلاتٍ ناتجة عَن العَقْل الجَمْعِي الذي لا يَعِيش خارجَ الزَّمَنِ واللغةِ . وحركةُ الزَّمَنِ تَكتسب مَفهومَها مِن رمزية اللغة، بِوَصْفِهَا فَضَاءً حَاضِنًا لتاريخِ الأفكار،وحَقْلًا مَعرفيًّا مُنْدَمِجًا معَ التَّحَوُّلاتِ الجَذرية في بُنيةِ العلاقات الاجتماعية. ورَمزيةُ اللغةِ المُتمركزةُ في تفاصيل الواقع المُعَاش تَقْدِر على تَحويلِ الزَّمَن إلى كائن ثقافي مِن لَحْمٍ وَدَمٍ، وهذا يَعْني انتقالَ طبيعةِ المُجتمعِ مِن هُوِيَّةِ الفَلسفةِ إلى فَلسفةِ الهُوِيَّةِ، فَيُصبح الوَعْيُ لُغَةً مُتَجَدِّدَةً في الأحداث اليومية، وتُصبح اللغةُ وَعْيًا مُستمرًّا في التَّقَلُّبَاتِ الحَضَارية . وتبادلُ الأدوارِ بَين الوَعْيِ واللغةِ يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات إبداعيَّة حَوْل مَاهِيَّةِ الزَّمَنِ المُنفعِلِ بالعقل الجَمْعِي، والمُتفاعِلِ معَ الفِكْر الإنساني، والمُتَجَاوِزِ لِذَاتِه ووُجُودِه، وُصُولًا إلى الحقيقةِ التي مُفَادها أنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ جَسَدًا لِسُلطةِ المعرفة فَحَسْب، بَلْ هو أيضًا تَجسيدٌ للمَنهجِ الاجتماعي في أحلامِ الفردِ وطُموحاتِ المُجتمع .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ستُواصل الحقيقةُ طريقها نحو (الاعتراف المُمتنِع)، وهو لونٌ من الإعتراف الباهت، حيث سيتم العودة إليها عاجلاً أم آجلاً. ولكن على كل حقيقة أنْ تخرج إلى مستوياتٍ أخرى من الوجود. الحقيقة ضرب من السعي إليها أيضاً، فهي لا تُوجد بين كائنات تأكلُّ من خشاش الأرض. إنَّ النضال لأجلها ومحاولة كشفها أمور تحسب من طبيعتها في المقام لأول. لا تعيش كلُّ حقيقة زمنها إلاَّ مع إمكانية الاعتراف بشكل من الأشكال. وهذا معناه مرحلةٌ تالية للتعامل مع الحقائق الإنسانية مثل الأحداث والممارسات سلباً وإيجاباً.

إقرار

الاقرار بالحقيقة اعتراف يأخذ صورةَ الإعلان عنها، ويتمُ طرحه بحسب الصيغ العمومية للتعبير. ومن جملةِ معاني الإقرار أنَّه منطوٍ على نبرة الحق في الوجود. وليس الحقُ غريباً على الكلمة معجمياً، لأنَّ فعل (أقرّ) يعني أنَّها لم تأتِ سهلةً من تلقاء ذاتها، ثمة ضغوط مطروحة موضوعياً وقد أتت مع أنفاس الكلمة. جعلت على المعنيين بالحقيقة أنْ يقروا بها دون تفلت إلى الوراء، عليهم أنْ ينظروا إلى الأمام دوماً.

والإقرار هو اقرار لواقع معين دون شيء آخر، أي عليك أنْ تؤكد أنَّ ما جرى قد حدث بالفعل أو أنه مازال يحدث بطرق أخرى. وهذا إقرار يُساق إليك وتساق إليه كمتابع للمسألةِ, وقد يأتي دون أسباب، وقد يكون مدفوعاً إليه المُقر بها نتيجة رغبة عميقة في القول، وألَّا يظل الإنسان صامتاً، لأنَّ الصمت معناه قطع لسان الحقيقىة. مع أنَّ الصمت في المجتمعات لون من الكلام، حتى ولو لم ينطقُ ببنت شفةٍ. إننا مطالبون بالسؤال عن السكوت المتكلم بالتبعية قبل أنْ نتكلم بالفعل. ولذلك تُسمى الحقيقة المنفية وسط الصمت بـ(المسكوت عنه)، إنها شكل من أشكال الانتماء إلى ما يجب أنْ يتكلم يوماً ما. بينما الإقرار نوع من الدمغ لهذا المسكوت عنه حتى يعرفه الجميع، أي فكْ شفراته ومعرفة ابجدياته الأساسية، تحرير ساحته من اغتصاب لسانه الفصيح كي يعبر.

الإقرار اعتراف قد وصل لتوّه بلغة الحقيقة، لكننا أدركنا أنَّ الآوان قد مضى ولا يصح التراجع عنه. فغدا الموقفُ إقراراً ممهوراً بما حدث، سواء أكان ذكريات أو أحداثاً معينة أم أفعالاً وقعت ويجب الكشف عنها. لقد واجهت حركات الثوار مع تحرير الأوطان في بداية القرن العشرين تلك المعضلة المزدوجة. متى يتم كشف الحقائق التي ارتكبتها دول الغرب في البلاد التي استعمرتها؟ وكيف يتم إقرار المستعمر بها؟ وبأية وسيلةٍ يكون المجتمع الدولي على إطلاع حقيقي بها؟! بل اتضح من الأسئلة الماضية: أنها معضلة ثلاثية الأبعاد، نظراً للأطراف الثلاثة الفاعلين في الوقت نفسه على تراب الدول والآخر والكون جنباً إلى جنب.

ألم أقل منذ قليل أنَّ الإقرار عمل تحت ضغطٍ من متغيرات عدة؟ بالقطع هذا ما يبدو عليه الأمر. إنه عمل مُوزع على تلك الدوائر الثلاث، ففي البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً مثل بعض البلاد الأفريقية(روندا – حالة الهوتو والتوتسي) حيث الحرب الأهلية التي شهدت قتالاً دموياً شرّد آلاف البشر وذُبح وقُطّع أمثالهم، وبعض البلاد الأسيوية(بورما– حالة البوذيين والمسلمين) التي شهدت بالأمس القريب أحداثاً دموية للاجهاز على الأقلية المسلمة. وفي الحالين يمثل اقرار الحقائق بُعداً ضرورياً لمعالجة المشكلات ومعرفة جذور الصراعات القاتلة في نسيج المجتمع الواحد.

كان الإقرار وما زال مهماً بدرجة توازي قدرتنا على الحياة، هو قدرة إيصال رسالة قوية بأن ما يحدث يمثل جرائم حرب ضد الإنسانية. وأن الاقرار يشير إلى ترجيح احتمال الاحداث لصالح من وقع في حقهم الأثر الأسوأ، وليس يجدي الإخفاء، لأنَّه إذا كان البعضُ ينتظر إخفاء (الحقائق) لأجل مصلحة طرفٍ معين، فالجميع سيتضرر ما لم تكن الحقيقة واضحةً. والإقرار إشارة إلى الكل لا البعض. أي إقرار يحمل المسألة إلى من يعنيّه الأمر ومن لا يعنيه أيضاً، هو مثل دلالة القانون الذي يؤثر في المجتمعات بقوته الناعمة (قوة ردع) لا عقاب فقط.

إقرار الحقائق أمر يُعطي لصاحب الحق فرصة أنْ ينال ما كان يبحث عنه ورد اعتبار وجودي لقضايا موضوعية كادت أنْ تفقد حياتها. وهو إعطاء حق كان ضائعاً بمنطق التناقض السلطوي. يقول طالما كون الحقيقة مُضرةً لو تم كشفها، فلن يكن هناك إقرار بها لتحقيق المصلحة. وتبلغ درجة الإقرار مرتبة حقوقية في القوانين الإنسانية العامة وفي ترسانة القوانين الدولية والقوانين المحلية لكل مجتمع. عندما أقرت بعض دول الاستعمال بجرائم تم ارتكابها أثناء فترة الاستعمار كان هذا رداً لاعتبار الشعوب، وهو إقرار بعدالة القضايا التي يدافعون عنها.

والأهم أنَّ تعتبر الشعوب مدافعةً عن حقوقها المسلُّوبة، وليست طرفاً فوضوياً ولا معتدياً على آخرين. فنحن عندما ندافع عن الحقائق، بل جينما ندخل حروباً كشفاً لها، فهذا عمل يستحق الاقرار. أي أنْ يقرر المجتمع الدولي مثلاً هؤلاء المدافعيتن عن الحقيقة التي تخصهم يقفون في دائرة النضال وليسوا إرهابيين ولا معتدين.

حُكم

لا توجد حقيقة من غير إشارة إلى جانب الحُكم بصدد حالتها، لأن ترجيح الإحتمالات والكشف عنها تباعاً بمثابة حكمٍ ينتظر الاعلان. وبالتأكيد طالما سيعرف المتابعون ملابسات الحقائق العامة تحديداً، فمن شأنهم البحث عن الأسباب والدوافع والتأثيرات.. وتلك أشياء تدل على أطراف معينةٍ وأحداث محددة.

ثمة فارق بين الإتهام والحكم بصدد الحقائق. ليست الأخيرة معنيةً في ذاتها بالاتهام، لأنَّ هذا اللفظ لفظ قانوني بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ، أما الحُكم، فهو حكم تاريخي وإنساني بالمقام الأول. أنْ تكشف الحقائق فحواه أنك أصدرت حكماً تاريخياً، إنك تقول للتاريخ عليك أنْ تلتفت بقوة إلى ما جرى، أي عليك أن تسجل الأحداث، وأنْ تحتفظ بالأسرار التي ستقال للأجيال القادمة. فالحكم هو: شهادة تقرر ما حدث، شهادة يقين وشهادة توثيق وشهادة عدالة معرفة وأداء واجب النفاذ.

وهي معطيات الحقيقة على الأصالة بصرف النظر عن الإتهام من عدمه. ولن يختلف إنسان- في الظروف العادية لكلمة إنسان – حول معرفة الحق. وهذا هو رأس الأمر عندما تكون هناك ملابسات حول حقيقة صادمة مثل الجرائم أو التحولات السياسية، فالإنسان سيهتمُ بقول الحقيقة من أجل الحق لا غير أو هكذا ينبغي أنْ يكون. لدينا نحن الكائنات البشرية تلك الخاصية التي تجعل الإنسان يهب بعضاً من ذاته لقول الحق دون انتظار النتائج. وبطبيعهة الحال ليست خاصية (الاهتمام بكشف الحقيقة) متوفرةً لدى كل الناس، لكنها موجودة لدى البعض على الأصالة.

إنَّ الحقيقة برمتها تهب نفسها إنسانياً لقول الحق، حتى وما لم يتم الإعتراف بها. فما يُقال عنها كحقيقة يدخل من باب الإقرار طالما وجدت القوى التي تعطيها المساحة. والحُكم بمثاية القرار الافتراضي الذي يكمل وجودها. ولا يشترط أنْ يكون حكماً قانونياً، فالقوانين- سواء أكانت دولية أم محلية - تقبل ذلك، لكن الطريق مختلف إلى حد ما.

الأهم أنْ يكون هناك من يستطيع الحكم بمنطق التاريخ والثقافة، أي من يضع الحقائق في دائرة الشفافية، لأنَّ الإنسانية تستطيع أنْ تخطو هذه الخطوات وبإمكانها أنْ تلخص تاريخها الفعلي فيما هو متاح لكل الناس دون التعمية والحجب. في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق على خلفية اتهام نظام صدام بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وأنه في طريقة لتصنيع قنابل نووية، جاءت أصوات من داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتعري النظام الأمريكي (نظام جورج بوش الابن)، أبرز هذه الأصوات صوت المفكر المعاصر نعوم تشومسكي الذي اتهم أمريكا بصناعة الإرهاب وعدّها مسئولة عن تدمير الدولة العراقية وليس ملاحقة الارهاب.

ولم يصمت تشومسكي عن تعرية أصابع أمريكا في نهب الثروات، وصناعة دوائر سياسية قذرة في مناطق الشرق الأوسط لتدمير اقتصادها وكيانها السياسي. وذهب تشومسكي إلى أبعد من ذلك معتبراً أنَّ أمريكا لا يعنيها حقوق الإنسان ولا فكرة الحرية والديمقراطية التي تلصقها بأي هدف تريد اقتناصه، ولكنها تعمل ضد هذه الإفكار الإنسانية، فهل نترك الحقائق بلا تعرية؟، هل يغيب حُكم يمكنه الإشارة إلى ما حصل؟

هذا الصوت وغيره من الأصوات الحرة كان صوتاً مُعبراً، ليس صوتاً صائحاً في البرية الفارغةٍ. هناك تيار عالمي ضد الخداع باسم السياسة من قبل القوى الدولية أيا كانت مصادرها. وليس هذا فقط، بل ويظل مهموم بكشف الحقائق، لا من أجل عودة عقارب الزمن إلى الوراء، لكنه يناضل لوضع الإنسانية على طريقها الصحيح. وهذا التيار أغلب رموزه لا ينتمون حتى إلى المناطق والبلدان التي يطالبون فيها بكشف أحداث الحروب وتفكيك الخدع السياسية التي تعصف بقوانين الهيئات الدولية لتنفيذ مآربها. وهذا التيار مكون من مفكرين وسياسيي وفلاسفة وكتاب وأدباء ونقاد كبار وممثلين لمنظمات ومؤسسات دولية. وجميعهم معنيون بتعرية الحقائق وعرضها أمام الرأي العام العالمي وقت الأزمات.

إنَّ الشعوب المنكوبة بالاستبداد يجب أن تعرف وعياً مغايراً بالحقائق، وهو ما يطرحة معنى الحكم في هذه الحالات، ليس يجدي أن تظل الحقائق غائبة، وفوق ذلك لا تدرك الشعوب قولاً فاصلاً فيها. وما لم يتوافر الوعي المغاير، ستضيع القضايا المصرية وتصبح فكرة المجتمع نفسه مهددة بالتفكك. لأن الحقائق رغم حجبها في بعض الأحيان إلا أنها توجد كخلفية لتقوية المجتمعات، فهي مصدر معرفة التاريخ وهي مصدر تماسك الجماعة البشرية، وهي المختبر الذي يتعلم فيه الناس من تجارب الحياة.

كما أن الحقائق تشكل محكمة التاريخ السرية التي تصدر إحكامها وتعطي الشعوب دروسا مجانية– وأحياناً قاسية- في الدفاع عن الحقوق. ولذلك فإن الشعوب التي تستنيم إلى غياب الحقائق، ولا تستطيع رؤية الأحداث والظواهر واضحةً لن تستفيق حضارياً، وسيُعلق التاريخ أحداثه كجرس إنذار في رقبتها طوال الزمن، حتى إذا تحركت ألتفت إليها العالم من باب السخرية ليس أكثر، لأنها شعوب لا ترى في وضح النهار.

***

د. سامي عبد العال

أولاً: المثاليّة الأفلاطونيّة

ظلت المثل تشكل المنطلق المعرفي والسلوكي للكثير من الفلاسفة والكتاب والأدباء والفنانين الذين اعتقدوا بأن المعرفة تكمن خارج العالم الحسي أو الإدراكي. أي هي معرفة تأتي أو تتشكل من داخل عقل الإنسان وتأمله أو حدسيته، أو من عالم آخر مفارق لواقعه. هذا ويُعتبر أفلاطون مؤسس نظريّة المثل، حيث يذهب إلى أن الفكر المجرد عن الواقع هو الحقيقة الكبرى في الوجود، التي لو أسقطناها من الاعتبار، فإن الواقع كله سيسقط، وهو يُفَصِلْ ذلك في نظريّة المثل التي تعني عنده التالي:

إن المثل عنده غير مقيّدة بالزمان أو المكان، وهي بالتالي غير مخلوقة، وليس للواقع أي دور في إنتاجها أو التأثير فيها، وهي جوهر الخير والحق المطلقان، والفيلسوف بعد أن يرى حقائق الأشياء كما هي في عالم المثل، عليه بعد ذلك أن يعود إلى الكهف، أي إلى واقع الحياة وعلاقات الناس الاجتماعيّة كي يمارس هذه المثل. (1).

إذن، إن القاعدة التي يفسر بها أفلاطون الأشياء، أو الأحداث الاجتماعيّة، هي قاعدة تكمن خارج الكهف، (أي خارج الوجود الاجتماعي). وإن الإنسان وحده القادر أن يطل على عالم المثل ويدرك حقائق الأشياء، وهو وحده الذي يختص بفن إدارة وسن القوانين التي تضبط عالم الكهف. أو بتعبير آخر إن نظرية المُثُل نظرية تعني بأن عالم ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان على علم بجميع العلوم والخفايا بشكل مسبق، وعند ذهابه إلى العالم الحسي (أي عالم الكهف) يكون قد نسي كل هذه العلوم، وما عليه إلا أن يتذكرها في هذا العالم الحسي، ويعيد تجسيدها في الواقع المعيوش.

هذا ويعود أصل (فكرة المثل) أو نظريّة المثل إلى عمليّة التمييز بين الحقيقة المجردة (المثل) والمظاهر أو الأشياء الظاهرة، ويعتقد أفلاطون أن العالم الذي نلمسه من خلال الحواس، ونختبره من خلال التجربة، هو عالم غير حقيقي، بل هو عالم مشابه أو مستنسخ من العالم الحقيقي المجرد (المثل) بصورة غير كاملة إلى حد ما. وحسب رأيه: (ففي هذا العالم تتغير الأشياء أي الظواهر، فهي تأتي وتذهب، لذلك هو عالم الاخطاء الكثيرة. لكنه يرى أن هناك عالماً حقيقيّاً توجد فيه كل الاشياء الحقيقيّة التي تتصف بالكمال ولها مثيلاتها المشابهة لها إلى حد ما، أو المستنسخة منها في عالمنا المحسوس. وسمى افلاطون هذا العالم عالم الحقيقية أو الصحيح. هذا العالم الذي يعتقد أفلاطون بأنه مستقل عن كل شيء، وغير مـتأثر بالتغيرات التي تحصل للعالم الذي نختبره عن طريق الحواس.(2).

إذاً وبتعبير أخر: إن الفلسفة الأفلاطونيّة في المحصلة، تجعل عالمنا التجريبي والمحسوس تابعا لعالم الأفكار أو المثل، ففيما وراء العالم المحسوس والمتغير والخاضع للصيرورة والسيرورة، هناك وجود لحقائق ثابتة، وهي موضوعات الفكر الخالص، بل هي نماذج الأشياء ذاتها، إنها الأفكار أو المثل. وتتميز هذه المثل (الماهيات) بكونها غير مدركة، رغم كونها أكثر واقعيّة من الموضوعات الحسيّة، وهي التي تؤسس معقوليتها وتعطيها مشروعيّتها. وعلى هذا الأساس، هو يشير إلى وجود ثنائيّة جوهريّة في فلسفته، وهي ثنائية الدال والمدلول. والمقصود بالدال هنا هو هذا العالم المادي المحسوس، والمدلول هو العالم المثالي المتعالي المحتجب عن الرؤية، وبسبب هذا الحجب (فإن الفلسفة الأفلاطونيّة تحتقر الحواس إلى حد كبير كوسيلة للمعرفة، وتقول إن الإنسان يمكن أن يصل إلى المعرفة من خلال تجاوز الحواس والمادة، بالرجوع للعقل والتأمل أولاً، بالإضافة للحواس، وأنه إذا تم الوصول للمعرفة، فإنه يمكن أن تكون متداولة بين البشر من خلال اللغة.). (3).

العالم المادي:

يقول افلاطون: إن عالم المادة يحكمه قانون آخر في الكون، هذا العالم الذي ليس فيه أي شيء من عالم الكمال أو المثل الذي تكلمنا عنه الآن. أي أنه عالم المادة الأوليّة الذي صورت فيه أو بصمت عليه أفكار عالم المثل. فهو يقول: (لنفكر في عمل النحات، ولنفرض أن لديه فكرة في صنع تمثال معين من مادة الرخام، لنقل الآن إن الفكرة هي (صورة التمثال) وهي مستقلة عن كل أنواع الرخام أو المادة الأوليّة الموجود في الكون، لكن بالنسبة للرخام (أي المادة الأوليّة) هناك حالة ضروريّة (قانون طبيعي حسب رأي افلاطون) تتطلب إيجادها من أجل أن تكون مدركة أو معروفة للأخرين عن طريق الحواس. لذلك أخذ النحات قطعة من الرخام ونحت عليها صورة التمثال الذي يرغبها. وبالتالي، فالرخام كمادة أوليّة انطبعت عليها فكرة التمثال، وبدون فكرة النحات لم يكن هناك أي احتمال ان يُكون الرخام هذا التمثال بذاته، لكن النحات يستطيع عمل عدة أنواع من التماثيل من نفس الفكرة دون أن تتأثر بها الفكرة الاصليّة، أي فكرة التمثال. (4)

إن عالمنا إذن ليس عالماً حقيقياً، لكنه عالم مبصومة أو مطبوعة عليها فكرة الحقيقة. لذلك يقول افلاطون: (إن معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف أمام النار ويرون ظلال أشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، لذلك العالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم الاخطاء، عالم النقص. ولا يعود نقصه إلى عالم المثل أو الحقيقي.). (5).

نقد نظريّة المثل الأفلاطونيّة:

ثانياً: منهج أرسطو ونظريّة الجوهر:

لقد خالف أرسطو أفلاطون في نظريّة المثل، باعتبار أن فكرة المثل المطلقة هذه، فكرة تلتف بالغموض والابهام، وهي ذات صفات غير محددة، وبالتالي، لا تصلح أن تكون مرتكزاً أصوليّاً يفسر ظاهرات الحياة ويعطيها معنى واتجاها، لأنه كيف تتم عمليّة تفسير الحياة بإرجاعها إلى قوة لا مواصفات لها وتحتاج هي نفسها للتفسير.

لقد رفض أرسطو فكرة المثل، واستعان عنها بفكرة الجوهر، فبدلاً من القول بأن الحقائق المطلقة الاشياء توجد في عالم المثل، ينبغي أن يقال إن كل شيء (ظاهرة) جوهر، وأن حقيقة الشيء تكمن في جوهره، بدلاً من القول بأن العالم يحكم من خارج الكهف الاجتماعي ويرى في عالم المثل، وينبغي أن يقال إن الفرد والمجتمع والدولة كلها كيانات تسعى لتحقيق وجودها. وإن القانون الذي يسنه الحاكم ويطبقه في المجتمع، ليس قانونا يهبط من عالم المثل، إنما هو قانون يكتشف ويؤخذ من واقع العالم الاجتماعي. (6).

ثالثاً: الديانات وعالم المثل (الفضيلة):

اعتبرت نظريّة المثل (الفضيلة) في الدين برأيي نتاج سلطة عليا مقدسة، وبالتالي تحولت المثل في شريعة هذه الديانات إلى نصوص مقدسة يحويها معبد ويحرسها رجال دين، وفي الأغلب رجال سياسة. وهي صالحة برأي حملتها لكل زمان ومكان، وما على الناس إلا الالتزام بنصوص الدين والسعي لتطبيقها في الواقع، وأي خروج عنها هو خروج عن عالم المقدس، أي عالم المثل. أي بدعة وضلالة.

نقد نظريات المثل – النظرية العلميّة في المعرفة:

يرى أصحاب أو دعاة هذه النظريّة وأنا واحد منهم، أن هناك قوانين كامنة في الطبيعة وفي عالم الروابط الاجتماعيّة، وهي قوانين ثابتة ومستقلة عن وعي وإرادة الإنسان لا تتغير في الزمان والمكان، إلا أنها تقر بحركة وتطور وتبدل الظواهر، وأن هناك علاقة جدليّة ما بين أشكالها ومضامينها، وداخلها وخارجها، ومكونات أجزائها، يكتشفها الإنسان من خلال استخدام عقله وحواسه وتجربته، وبالتالي استخلاص الكثير من المعارف العلميّة من خلالها  أيضاً،  ثم يقوم بتوظيفها لمصلحته. ومن خلال معرفته لهذه القوانين الموضوعيّة وآليّة عملها، يكتشف الإنسان أسباب استغلاله وظلمه وجهله وتشيئه واستلابه وتغريبه، مثلما يكتشف سر حريته وعدالته، ومساواته اجتماعيّاً، وحق الحياة، والمساواة أمام القانون، وحق الملكيّة، والأمن والاستقرار، ومقاومة الظلم... الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في معرفة نظرية المثل عند أفلاطون العودة إلى موقع: (المرسال - نظرية المثل عند أفلاطون - دينا محمود).

2- (لمعرفة الركيزة الأساسية لنظرية المثل عند أفلاطون – راجع: (موقع ريندات 2023 نظرية المثل عند أفلاطون: مفهومها والركيزة الأساسية فيها).

3- موقع وكيبيديا.

4- موقع ويكيبيديا.

5- موقع وكيبيديا.

6- أنظر إلى تعريف سقراط للجوهر:(موقع المعرفة – مفهوم الجوهر)، وكذلك نقد نظرية المثل الفلاطونية من قبل سقراط – (موقع المرسال - نظرية المثل عند أفلاطون - دينا محمود).

كتب: دومنيك فنكيلدي و تود مككوان

Dominik Finkelde and Todd McGowan

ترجمة: علي حمدان

***

لسنوات عديدة الان، كانت الاحكام عن الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك كما هي عن جيجك نفسه متطرفة. الناقدون يتهمونه بالدجل، من جهة، بينما الاخرون، يشيدون بعبقريته، ولاسيما كمفكر عام. مما يجعل من الصعوبة بمكان تقديم تقييم نقدي مناسب لمساهمته في الفكر. علاوة على ذلك، يرى بعض قرائه ان نتيجة تفكير جيجك التأملي معقدة للغاية، بالنسبة للبعض فان حجج جيجك تتسم بالاستنتاجات التخمينية، وبالتالي تفتقر الى صرامة الحجج الاستنتاجية ولاستدلال المعقول. وهذا الحكم ينطلق عادة من أولئك الذي يتبعون المذهب التحليلي في الفلسفة. يعتبرون جيجك تجسيدا "بالجانب المظلم" من الفلسفة القارية والتي تم ادانتها منذ عهد ردولف كارناب (Rudolf Carnap) ورفضة الشهير لأسلوب مارتن هيدغر في الكتابة الفلسفية. وبناء على هذا النهج الفكري، جيجك، قد يصوغ فرضية يطلق بها نقاشا فكريا، ولكن نظرا لان اصلها ناتج عن قواعد نحوية زائفة او أفكار غير واضحة، لا يمكن الوصول الى الصواب او الخطأ حسب اقتباس Gottlob Frege، فلهذا الناقد، تضل الفلسفة من هذا النوع لا معنى لها.

ولكن وراء هذين الموقفين المتطرفين المذكورين أعلاه من التبجيل والازدراء، هناك جيجك ثالث. هذا الفيلسوف الذي اثار اكثر من غيره من أبناء جيله، نقاشات فلسفية تمتد الى ابعد من حدود الفلسفة، بل الى جميع تخصصات العلوم الإنسانية. قام بذلك من خلال إعادة تفسيره المادي الراديكالي لمفاهيم المثالية الألمانية، وخاصة ارث هيجل، ومن خلال نقد الايديولوجية الماركسية وفلسفة التحليل النفسي كما طورهما كلا من فرويد ولاكان (Lacan). بهذه الخلفية النظرية، لقد اصدر اكثر من خمسين كتابا تركز على الأسئلة الكلاسيكية عن الوجود، الابستمولوجيا، فلسفة الذات، والنظرية الثقافية.

المنظر العاطل

سلافوي جيجك اقتحم المشهد النظري العالمي بكتابه الأول باللغة الإنكليزية، موضوع الايدلوجيا المتسامي The Sublime Object of Ideology، في عام 1989. لقد كان الكتاب مخالفا لروح العصر وذلك عوضا عن يأخذ موقفا نقديا من شخصيات مركزية في الفكر الفلسفي الغربي، جيجك وبكل شفافية تبناهم لجذريتهم. بينما مفكرون كثيودور ادرنو، ميشال فوكو، جيل دولوز، وجاك دريدا هؤلاء دائما كانوا يقوضون او يفككون هيمنة الفلسفة الغربية من رينيه ديكارت حتى هيجل، فان  كتاب موضوع الايدلوجيا المتسامي والعديد من كتبه التي أصدرها فيما بعد، اتخذت من ديكارت، كانت، وهيجل كمنظرين مهمين والذي من الممكن ان يقدموا مساهمة مهمة للوضع المعاصر. لم يكن هؤلاء المفكرون، بالنسبة لجيجك هدفا للتفكيك او وضع نصوصهم  في سياقاتها التاريخية، لكنهم كانوا منظرين حيويين يمكنهم المساهمة والقاء الضوء على الطريق المسدود للفكر السائد حاليا. وعوضا عن اعتبارهم سادة تخطاهم الزمن، جيجك استوعبهم كمفكرين ذو راديكالية غير مكتشفة، راديكالية تتحدي ليس راديكالية ماركس فحسب، وانما تتحدى راديكالية حركة اليسار الجديد.

ولد جيجك في لوبليانا، سلوفينيا في عام 1949، وترعرع في يوغسلافيا الاشتراكية في ظل قيادة تيتو. كمفكر شاب في يوغسلافيا، تأثر بفكر مارتن هيدغر وجاك دريدا، هذا التأثير جعله يبتعد عن خط الحزب الحاكم. كتب كتابه الأول "ألم الاختلاف" The Pain of Difference بالسلوفينية، وكان عمره آنذاك اثنان وعشرون عاما، والكتاب يعكس تأثره بالمفكرين المذكورين. كتب رسالته لنيل الدكتوراه حول هيدغر، ولكن في منتصف السبعينات، جيجك تحول الى الاهتمام بفكر لاكان، والتي كانت خطوة حاسمة في مساره الفكري. تبني جيجك للفكر الفرنسي كلفته فرصة تبوؤه لمنصب في يوغسلافيا. منذ 1973  حتى 1977 كان عاطلا عن العمل مع درجة الدكتوراه. لقد اعتقدوا انه ليس ماركسيا كفاية ليكون مدرسا جامعيا. تخوف النظام من جيجك ان يفسد شباب الجامعة بأفكاره. وأخيرا تحصل على وظيفة كباحث في معهد البحوث الاجتماعية في جامعة لوبليانا في عام 1979. لقد اعتقدوا انه خطرا ليكون مدرسا للطلبة، ولكن في المعهد لا يمكنه التأثير على الطلبة. هذا الوضع أتاح له المزيد من الحرية للعمل والتفكير. غالبا ما يقول ان هذا العقاب سمح له بالتطور كفيلسوف عالمي. لو سمح له بالتدريس لظل بروفسورا مغمورا في سلوفينيا.

في بداية 1980، جيجك سافر الى فرنسا ليحضر لدكتوراه ثانية في التحليل النفسي. هناك درس لدى زوج ابنة جاك لاكان، جاك الان ميلر. هو يدعي انه كذب على ميلر خلال جلسات التحليل، واخترع اعراض واحلام مزورة.  وادعى أيضا بانه يكره ممارسة التحليل النفسي، مفضلا التنظير من التحقق من اعراضه او عصابه. لقد الف جيجك خلال تلك الفترة كتب عن سلوفينيا، وفرنسا، وألمانيا، ولكن كتاب" موضوع الايدلوجيا المتسامي"، هو الذي غير على الفور المشهد الثقافي في العالم الناطق بالإنكليزية. وفي الحال اصبح كل من هيجل ولاكان نقاط مرجعية مهمة في مجال التنظير العالمي، والفضل يعود الى جيجك.

منذ ,1989 اصدر جيجك  في المتوسط كتابا واحدا في السنة باللغة الإنكليزية، كما انه يحاضر في الغالب في معظم انحاء العالم، كما اصبح الفيلسوف الأكثر شهرة منذ وفاة دريدا في عام 2004. في عام 1990، رشح نفسه لرئاسة  جمهورية سلوفينيا الحديثة وحصل على المركز الخامس. ورغم انه تخلى عن الانغماس الشخصي في السياسة، الا انه ضل مفكرا سياسيا ملتزما. يدلي بتصريحات عامة حول الاحداث السياسية الهامة ويتحدث عن الحركات السياسية والاحتجاجية مثل حركة احتلال سوق المال في نيويورك في عام 2012. تظهر مداخلاته السياسية المختلفة على مواقع ومصادر إخبارية يسارية مختلفة.

جيجك يجمع بين الفلسفة والثقافة الجماهيرية، وهو مزيج يفسر الى حد كبير انتشاره وتأثيره الجماهيري. كتابه الثاني  بالإنكليزية "يبدو منحرفا: مقدمة لجاك لاكان من خلال الثقافة الجماهيرية" (Looking Awry: An Introduction to Jacques Lacan through Popular Culture) 1991، تم تحويله الي فلم. اهم اعماله هو التعايش مع السلب: كانت، هيجل، ونقد الايديولوجيا ( 1993)، اقل من لا شيء: هيجل والمادية التاريخية ( 2012)، كتاب من 1000 صفحة ويعتبر إصداره الأهم، حيث يتناول تداخل العلاقة بين هيجل ولاكان. شعبية جيجك قادت الى اصدار فيلم وثائقي عنه بعنوان جيجك (2005). كما انه انتج فيلمين وثائقيين تم اخراجهما من قبل سوفي فينيس، احدهما دليل المنحرف في السينما" (2006 ) و"دليل المنحرف للايدلوجيا" (2012). يظهر في العديد  من البودكاست وعدد لا محدود من المقابلات في اليوتيوب.

العلاقة الثلاثية: لاكان، هيجل، ماركس

كمفكر، جيجك يحاول الجمع بين ثلاثة اتجاهات فكرية: لاكان، هيجل، وماركس. ربما تكون محاولة اكتشاف سياسة  التحليل النفسي هو البعد الأساسي في مشروعه، لكنه في نفس الوقت لا يريد ابدا ان يفقد الميزة النقدية التي يوفرها التحليل النفسي عند التركيز على مشروع سياسي. لاكان يمنح جيجك طريقة في التفكير حول بنية الذات والمجتمع وحول العلاقة بين الذات والمجتمع. على عكس المفكرين الاخرين في عصره، جيجك مدافع شرس لفكرة الذاتية. هو يرفض تفكيك الذات، ويجادل ان الذات هي نقطة الانطلاق لدى لاكان.

جيجك يعيد لاكان الي مكانة بارزة في النظرية الثقافية، غالبا المنظرين، وبالذات المنظرين الاميركيين بكل سهولة يضعون في سلة واحدة لاكان مع فوكو، دريدا، ودولوز على أساس انهم ممثلين لتيار ما بعد البنيوية (مصطلح لم يستخدمه أي من هؤلاء المفكرين). ولكن جيجك اظهر كيف يختلف لاكان بشكل جذري عن المنظرين الفرنسين الاخرين من خلال إصراره على الاحتفاظ بان الذات هي نقطة الانطلاق. كان فصل لاكان عن هذا الكيان الوهمي المعروف باسم ما بعد البنيوية احد إنجازات جيجك الرئيسية. هو يفعل ذلك من خلال التأكيد على مفهوم لاكان للحقيقي على حساب مفهوم الرمزي والخيالي مفهوميه الاخران. الواقع او الحقيقي، لجيجك هو مصدر المتعة ( Jouissance). المتعة تقرر كيف تتصرف الذات. يرى جيجك ان كل بنية رمزية تتعثر بالحقيقي، ولكن هذا الحقيقي هو كامن في الرمزية ولا يوجد خارجها. لا يوجد ما وراء او في الخارج، وفقط من خلال تخلينا عن التفكير فيما هو خارجي يمكننا التوصل الى الحقيقي. الحقيقي هو مجرد تشوية داخل البنية الرمزية و هذا على غرار" عمل الاحلام" الوارد في فكر فرويد. حقيقة الحلم ليست الظاهر ولا المحتوى الكامن. انها تشويه المحتوى الكامن في المحتوى الظاهر الذي يحدث عندما تحلم الذات. يصبح هذا التشويه مرئيا، كما يعتقد جيجك في الاعمال الفنية، وفي النكات، او في العرض المفرط. لهذا يركز جيجك باهتمام شديد على تأويل الاعمال الفنية او في رواية النكات، او في العرض المفرط ( The performance of excess).

هيجل يمنح جيجك طريقة في التفكير بالعودة الى الذات. يتطلب فكر هيجل الديالكتيكي ادراج موقف  الذات في نهايته. انها دائما ما تدرج ذاتها فيما تبحث عنه. فلسفة هيجل في التعاطي مع السلب ليس فقط تضيف الى فكر جيجك فحسب، بل زودته بعنوان لكتابه الخامس باللغة الإنكليزية. هيجل هو مفكر السلب، يري ان التناقض ليس متواجدا فقط في تفكيرنا بل متواجد في الوجود ذاته. السلب ينعش الوجود ويجعل من التفكير امرا ممكنا. ان فكرة هيجل عن المعرفة المطلقة ليست حلا كاملا للسلب بل هي اعتراف باننا لن نتغلب على السلب ابدا. يحاول جيجك دمج هذا الاعتراف في فكرته حول النضال السياسي. المطلق ليس حيث النقطة التي كل جزء يكون في محله بل حيث يكون الكل قد تم قسمته على نفسه، حيث ان ثمة ثغرة تكون واضحة ضمن الكلي. الحرية بالنسبة لجيجك ليس تحقيق الانسجام، ولكن في تضمين اضطراب الانسجام في مشروعنا  السياسي.

في تحليله يتبع جيجك هيجل وذلك بإظهار الطبيعة الديالكتيكية لواقعنا الأجتماعي. انه يؤكد كيف ان الخصوم الظاهرين مرتبطون بالفعل ببعضهم البعض دون علمهم بذلك. احد الأمثلة المفضلة لديه هو الارتباط بين الراديكالية الصهيونية والمعادين المتحمسين للسامية. كلاهما يتبع نفس منطق الرغبة في عزل اليهود، حتى ريناهارد هيدريش والذي قرر ما يسمى (بالحل النهائي ، أي الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية) كان في البداية صهيونيا. اليوم لدينا شخصيات صهيونية معادية للسامية الذي يجسدون هذه العلاقة الديالكتيكية. هذه الشخصيات محسوبة غالبا على الأصولية المسيحية، تؤيد إسرائيل بشراسة والتي تعتبرها متراسا ضد الإسلام وفي نفس الوقت تهاجم تزايد عدد اليهود في أوروبا. يوضح هذا  المثال بصورة جلية بالنسبة لجيجك ان معاداة السامية ليس بالظاهرة المباشرة وانما يمكن فهمها من  خلال هيكلها المتناقض. هذا هو جوهر تحليله الديالكتيكي. ورغم ان جيجك معروف اكثر بانه من مناصري التحليل النفسي اللاكاني، الا ان هيجل هو النقطة المحورية في تفكيره. دعوته المستمرة بالنقد الهيجلي لماركس يمثل اهم مداخلة سياسية له. في مقابلة له عام 2003  بعنوان " التحرير يؤلم،" يدعى:

ما يثير اهتمامي حقا هو الفلسفة، وبالنسبة لي، فان التحليل النفسي هو في النهاية أداة لإعادة التفاعل، مما سيجعل من المثالية الالمانية واقعية الان، وهنا مع كل مغازلاتي للماركسية ، انا مغرور للغاية. اعتقد لا يمكنك فهم "راس المال " لماركس، ونقده للاقتصاد السياسي، دون معرفة مفصلة لمقولات هيجل. ولكن في النهاية اذا علي ان اختار مفكرا معينا سيكون هيجل. هو سيكون اختياري. وانا هنا ساذج تماما وبلا خجل. قد يكون ابيض، ميت، رجل ومهما يكن الموقف الخطأ اليوم، ولكن هذا هو موقفي.

اعجاب جيجك وتفانيه لهيجل ينبع من قدرة الأخير على استيعاب مركزية سلبية نفي الذات( self negating negativity). هذا السلب الذي يقوض نفسه باستمرار، هي الذات ونشاطها ما اعتبره فرويد لاحقا رغبة الموت(Death Drive )  والتي تكون ربما النقطة المركزية في تفكير جيجك. لدى فرويد رغبة الموت ليست مجرد مفهوم خسارة الحياة البيولوجية. رغبة الموت  تشير الى البعد الخالد لقوة رمزية عظمى مضادة للبيولوجيا. وبعيدا عن مجرد الوجود البشري فهو ينتمي الي البيئة الأساسية للواقع مثل الكم الميتافزيقي. مثل ما يقول جيجك " حياة البشر ليست حياة فقط: البشر مسكونين برغبة للاستمتاع بالحياة بإفراط. هذا الافراط لا يقود الذات فحسب وانما يقود جيجك نفسه.

الموقف النبوي للمهرج

ربما تكون اهم  مساهمة لجيجك في النظرية المعاصرة هي إعادة تقديم نقد الايديولوجيا الى الاجندة النظرية. بعد ان جعل لويس التوسير نقد الاستدعاء الأيديولوجي مركزيا في التحليل الاجتماعي، سرعان ما تعرض نقاد الايدلوجيا لانتقادات من اليساريين الاخريين. مفكرين كمايكل فوكو وجاك دريدا شككوا في مصداقية نقد الايدلوجيا الذي قدمه التوسير من خلال اظهار كيف ان هذا النقد اعتمد على أسس معرفية هشة. هذا يعني ان نقاد الايديولوجيا يفترضون انهم  يستطيعون ان يروا من خلال الخداع الايديولوجي الذي يخدع الجميع. لكن لشخص مثل فوكو، فإن هذا النوع من المعرفة المتخصصة هو بالضبط الذي يعمل كوسيلة للسلطة. وهكذا، فإن ناقدي الأيديولوجيا هم في الواقع يخدمون السلطة بينما كانوا يعتقدون انهم يفضحون الخداع الايديولوجي.

لقد قام جيجك بتحويل نقد الأيديولوجيا وذلك بإبعادها من مجال المعرفة وبالتالي تجنب نقد فوكو. لجيجك، الايديولوجيا لا  تعمل من خلال منحنا معرفة مضللة او انها تقوم بالتلاعب بوعينا ولكن من خلال تعميم متعتنا (Jouissance). نحن في الايديولوجيا ليس لأننا لا نعرف الحقيقة، ولكن لأننا نستمتع بطريقة تدعم السلطة الاجتماعية او فيما يسميه لاكان الاخر الكبير. في The Sublime Object of Ideology، جيجك يقدم تصريحه الاهم عن الايديولوجيا، يقول" ان وظيفة الايديولوجيا ليست ان تقدم لنا نقطة للهروب من واقعنا، ولكن تقدم لنا الواقع الاجتماعي نفسه حيث يهرب البعض من واقع الحقيقة الصادم". الايديولوجيا هي استراحة من صدمة الحقيقة. صدمة الواقع، وهي صدمة الجمود الأساسي او استحالة تحقيق أي توافق. في اغلب الأحيان، تعمل الايديولوجيا من خلال توجهينا الى ما يبدو تجاوزات. وفقا لجيجك، انه الانتهاك المشترك، وليس الطاعة الجماعية، هو ما يجعلنا مختبئين حقا ضمن الايديولوجيا.

على الرغم من ان لا احد اليوم يطيع ويعترف ببساطة انه يطيع. ان ما يدفع الأشخاص الى الخضوع للسلطة الاجتماعية ليس الايديولوجيا العامة نفسها، بل الجانب الباطن من تلك الايديولوجيا او الخيال الايديولوجي. هذا الخيال ينتهك القواعد التي تحكم الفكر العام للأيديولوجيا، ولكن تفعل ذلك بطريقة تدعمها عوضا عن ان تقوضها. يتضح هذا الامر بشكل خاص في الازمات السياسية، كمثال عندما يكون القانون المعياري العام قريبا من الفشل. ثم " يبدا" الجانب الباطن الفاحش من القانون يوحد المجتمع من خلال الانتهاك المشترك للقانون الفاشل. يقول جيجك " القانون العام مضطر للبحث عن دعم من خلال المتع غير المشروعة. لذلك الان المتع غير المشروعة وليس العقل الرسمي هو الذي يضمن العقد الاجتماعي.

ان تركيز جيجك على الجانب الباطن الخيالي الفاحش للأيديولوجيا هو مفتاح نقده للأيديولوجيا. انه ينظر الى الثقافة الشعبية التي تخفي الأوهام والتي تدعم النظام المعاصر، لأن الاحتمال الوحيد لتقويض الايديولوجيا يكمن في كسر قوة هذه الأوهام. احد اقوى هذه الأوهام هذه الأيام بالنسبة لجيجك، هو البوذية الغربية. فالبوذية الغربية توهم الفرد بان علاقات الإنتاج الرأسمالية غير حقيقية. في الواقع، تجعل البوذية الغربية هذا الامر ممكنا من خلال منح مساحة داخلية للفرد من اهوال النظام الرأسمالي. يمكن للمرء ان يتصرف بلا رحمة كرأسمالي اذ اعتقد ان أيا من افعاله القاسية لا تهم فعلا.

ان التركيز على الجانب الباطن من الايديولوجيا يقود جيجك الى تقدير ما يسميه التطابق المفرط مع الايديولوجيا العامة. بدلا من انتهاك الايديولوجية العامة مع التمسك بالجانب السفلي الفاحش لها، يجادل جيجك بان الفعل السياسي ينطوي على العكس- الالتزام بنص القانون الذي يرفض الجانب الباطن الفاحش. ان مهمة المفكر النقدي ليست مقاومة مستمرة. بل تتمثل بدلا من ذلك في رؤية كيف ان الحضارة نفسها قائمة بالفعل على فعل جذري. ان التقليديين بالفعل متعديون ومفرطون، لكن يجب علينا ان نجعل هذا الافراط مرئيا.

المشكلة هي ان الفرد ينكر وجود افراط في النظام الاجتماعي. نعتقد ان الحياة نفسها هي القيمة النهائية وان البقاء يستحق العناء في حد ذاته. لكن فقط ارتباطنا المفرط بطريقتنا في العيش هي التي تجعل من الحياة تستحق العيش. هذا واضح في حالة الحب، التي تخل بسير الحياة الطبيعي وتمنحنا في نفس الوقت سببا للعيش. الحب دائما مفرط ويتطلب التخلي عن المتع الصغيرة التي تجعلنا نعيش حياة طبيعية. في الحب نلمس الاخر بشكل حقيقي وليس نسختنا المتخيلة عن الأخر.

الاستفزازات المستمرة لجيجك تحاول تشجيع الحب بهذا المعنى من المصطلح. سيكون الامر ثوريا لأنه سيواجه الحقيقة المؤلمة وسينظر الى هذه المواجهة كمصدر للرضا الشخصي. ان هذه المواجهة دائما عنيفة، وجيجك أحيانا يبدو رسولا للعنف. ولكن العنف الذي يمتدحه ليس بالضرورة هو عنف جسدي ضد الاخرين. الامر لا يحتاج الى ذلك، حيث يمكن تسمية أي اضراب عام من قبل العمال ستحاول الحكومة الإطاحة به بالعنف الكافي الذي يمكن ان ينتهي باستدعاء الحرس الوطني.

***

.........................

من مقدمة كتاب جيجك يرد!  تحرير دومنيك فنكيلدي وتود مككوان. بلوومزبيري.

ZIZEK RESPONDS! EDITED BY DOMINIK FINKELEDE & TODD McGOWAN, BLOOMSBURY  ACADEMIC, LONDON. NEW YORK. OXFORD. NEW DELHI. SYDNEY.

نقلا عن مجلة الأفق الالكترونية نشر بتاريخ 6/6 2023

نبذة مختصرة

مثلت الفلسفة الالمانية الطليعة الاجدر في تصنيف الخطاب، ويحسب ذلك لكل من هيجل وماركس، فهما قطبا الصيرورة في تمثيل المعطيات الفكرية، واستحداث نمط جديد بخطاب يحمل روح المعاصرة، والتجاوز للقيم المؤثرة في الفلسفة القديمة، ونمط المثالية الحديثة التي قدمها واهتم بها كل من هيجل وكانت على وجه الخصوص، واما ماركس فقد اهتم بخلق فكر اقتصادي جديد، وكان مفهوم الديالكتيك هو جذر الفلسفة الماركسية، وصراحة لا يمكن تفسير التطورات التي مرت بها الفلسفة الالمانية بشكل ارسطي، فهناك مد افلاطوني مضطرب وعميق، ولكن لابد أن نقر بأن الافق النظري قد طغى على الفلسفة الالمانية، ولم تكن بذات القدر الذي تحولت فيه الفلسفة الانجليزية الى فلسفة عملية، ولم يكن هناك في الفلسفة الالمانية بعد محاكاة لنسيج المجتمع، فهي حتى المجتمع الالماني وضعته في بعد افقي تام، فيما هي في العلية وتوخت من العقل الاجتماعي الاهتمام بها، ولم يكن هناك غير افق القومية اهتم به العقل الاجتماعي، ولابد هنا أن نفصل لسانيا ما بين لغة خطاب الفلسفة الالمانية ولغة العقل الاجتماعي، وهذا ما يجعلنا نقر بأن ماركس العملي هو المحتوى الاساس للرأسمالية، وغايتها الاشهارية ايضا .

من اولويات الانصاف الاشارة الى كون الفلسفة الالمانية هي صيرورة الحداثة الفلسفية، ومنها انطلق العالم الفلسفي الحديث، ونحن اضافة لذلك الايمان نقر بوجه المقارنة والتصنيف، فنرى الفلسفة الفرنسية هي افق التجريد الذي تحولت به الفلسفة الفرنسية من خطاب معلوم الى خطاب مجهول، لكن الفلسفة الانجليزية اهتمت في ابتكار خطاب فلسفي معاصر بلامس المحتوى العلمي مباشرة، واشتمل ذلك حتى على الدرس المنهجي، وتلك اهم الميزات العضوية في تلك الفلسفة العملية، وهنا نخلص الى وجود مشتركات معيارية ما بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية، فيما تقف الفلسفة الانجليزية في الجهة المقابلة بتميز واقعي، وعلى مستوى التفصيل اللساني فنشكل الفلسفة الالمانية جذر لغوي لا يمكن نكرانه من العقل الراجح، وذلك الجذر ميز الخطاب الفلسفي الى حد اصبحت فيه الفلسفة الالمانية ذلك المثال الاعتباري الارجح، والركن الاساس الذي على العقل الانطلاق منه، وتلك الصفات ليست فقط ذلك التمييز المتفرد، ولكن علينا الاعتراف بأن الفلسفة الالمانية ليست ذلك السياق الفلسفي، الذي اعاد صياغة الخطاب الفلسفي القديم وجددها، بل هناك احتمالات عدة ومناطق خطاب في الفلسفة الالمانية، قد تجاوزت الاعراف الفلسفية المتعارفة، واتجهت الى الانفصال النوعي، او القيام بتجريد الخطاب الفلسفي .

لقد اشتملت الفلسفة الالمانية على منعرج لساني، فلم تكون هناك وحدة خطاب الا في الافق القومي، واما على مستوى الفكر فهناك تعدد لرؤى فلسفية، حتى اذا كانت الفكرة ذاتها، والمسار من هيجل الى هيدغر، فليس في سبيل واحد، ولا يمكن ابدا درج خطاب معين من تلك الفلسفة بخطاب اخر من ذات الفلسفة، واللغة المشتركة هي عامل توصيل وليست عامل تأصيل للمشتركات في الخطاب، فالعقل هنا اشبه بمحطات فلسفية كل منها بعلامة تختلف عن العلامات الاخرى، واهم ما يلاحظ في خطاب الفلسفة الالمانية تلك اللسانيات المتعددة الخانات، حيث لا يمكن ابدا على المستوى اللساني أن نشرك خطاب هيجل ونيتشه في خانة واحدة، ولا يشترك جنس لغة الخطاب عند ليبنتز وشوبنهاور، وكذلك لا يمكن جمع كانت وفويرباخ، وكذلك هناك بون واسع بين خطاب ماكس شتيرنر المختلف عن خطاب هيدغر، وفقه اللغة لا يقر ايضا بمشتركات عبر المقارنة بين لغة خطاب فلسفي واخرى، وذلك التحديد اللساني يلزمنا بالتفريق الذي تتبناه الفلسفة الموضوعية، ولا يلزمنا باعتماد التاريخ كوحدة مشتركات، هي تجمع لتلك الخطابات وتوحدها، فذلك في جنس التاريخ وليس في جنس اللغة التي تختلف لسانيا من خطاب الى اخر .

تعتبر الفلسفة الالمانية فلسفة عميقة ومعقدة ايضا، فمن جانب استيعاب التلقي، لقد اعاد صديق لكانت كتابه، وعلل عدم فهمه للكتاب هو السبب في اعادته لكانت. ومن جهة السعة والعمق والتعدد، ايضا هناك تعقيد يتفاوت عند الكشف لها، ومرت الفلسفة الالمانية بتحولات عديدة، فالمنطق الجوهري للعرفان تجسد في الخطابات ذات الحس الايديولوجي للدين، وفي القرن الثامن عشر اعيد صياغة ذلك الحس، بل اتسعت افاق الخطاب وتنوعت مضامينه، حتى بلغت في اكثر مستوياتها اتساعا حالة قصوى من الاحتجاج غير المكشوف بشكل عام، والذي يمكن تصنيف لسانيا بالتحول من جنس لغة فلسفة الى جنس لغة فلسفة اخرى، ومن اكثر العقول توضحت سمات التطرف لديه كاستدلال لساني كان نيتشه، وشكل الخطاب امتيازا رمزيا، وانسحب ذلك على العنونة بوصفها عتبة استدراج للتلقي، فمرة يبدي لك افق العنونة نيتشه كمصلح اخلاقي، وفي صفة اخرى يتخلى عن ذلك، وهناك اقنعة متعددة ابداها الخطاب المتغير من افق رمزي الى اخر، وعلى المستوى اللساني وضحت ثنايا الخطاب تحولات متواصلة في جنس اللغة، فمن لغة رمزية الى اخرى، ومن مضمون الى اخر، وما تخلى نيتشه ابدا عن تلك الاقنعة التي نقر لم يكن مختفيا خلفها، بل هي اكتسبت قيمته الفكرية .

شكلت قيم الخطاب في الفلسفة الالمانية مفترقات عدة، فكل جنس خطاب لا يتمحور تماما في بنية ذلك الخطاب، فالتعدد في السمات الاسلوبية اتاح للتيارات الفكرية عدم التسلسل في افق الزمن، وقد انعدم التحديد الالزامي في خطاب الفلسفة الالمانية بالشكل الذي من الممكن أن يتيح لكل خطاب اتخاذ المسار الملائم للوعي والفكر، وقد اتسمت بذلك التعدد الاحادي القومية التنويعات الفكرية، بعدم التفريط في جنس اللغة الفلسفي، فبالرغم من كون اللغة هي ذات اللغة في مستوى الفلسفة وفي مستوى النسيج الاجتماعي، لكن هناك ميزات متعددة لتلك اللغة في الخطاب الفلسفي. وايضا شكل تحرك الحداثة ذا السرع الزمنية الفائقة من جعل الوعي الفلسفي لا يتجاوز افق المستقبل، وكانت الفلسفة الالمانية المتباينة المستوى الرمزي، والمختلفة التعبير بشكل واضح، فيمكن درج فلاسفة اللاهوت في جانب، وفي جانب فلاسفة المعرفة والعلم في جانب اخر، وفي جانب اخر ندرج تلك الفلسفة الحرة، والتي اتصف بها بشكل واضح نيتشه على وجه الخصوص، وكذلك امتلك جدارة نوعية ماكس شتيرنر في كتابه المتفرد والاوحد في طرحه، بالرغم من سطوة خطاب هيجل بشكل واضح، وكذلك شكلت المثالية الليبرالية عند كانت قيمة فكرية الى الحد، الذي اعطى لكانت مكانة مرموقة تاريخيا .

ثمة علاقة ما بين الفلسفة والنظرية صارت تتبلور تدريجيا وتأخذ المدار الانسب لها، فلقد اندفع القرن الثامن عشر على مستوى الحداثة بسرعة زمنية غير معتادة، وتغيرت الكثير من ايقاعات الخطاب الفلسفي، لكن بقت بعيدة في التحديد اللساني عن افق النظرية، والتي يمكن وصفها كفلسفة ادبية، وبرز خلاف واضح ما بين الفلسفة والنظرية، ولم يختف هذا الخلاف، فقد (ظهور غدد متنام من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة)1، وهناك مغالطة في اعتبار افق النظرية هو افق منهجي ويدخل في مدار العلم، وقد ساهمت الحداثة بشكل فاعل في تلك السرعة الزمنية بهذا الجانب، فأطرت النظرية وبالمقابل جعلت الفلسفة الجديدة ليست ذلك المنهج المتعارف في الاجناس الادبية، بل كمعطى علمي رصين، وقد نجخ ذلك التجنيس بنسب معينة، لكن نحن حسب التفصيل اللساني نضع كل في خانة من – الفلسفة – النظرية – العلم – والتفسير الذي تقره الفلسفة الموضوعية، بأن تضع المسألة على عاتق الجنس، فجنس اللغة هو المعيار المعتمد وفقه تحديد لغة عن لغة اخرى .

شكلت التحولات الفلسفية السعي الواضح الى تحديث الخطاب، وقد شهدت الفلسفة الالمانية منذ هيجل الى المغايرة المباشرة، فقد شهدت الفلسفة التغير الواضح في المفاهيم، فشكل عصر الانوار بث المعنى المثالي في الدين، وقد تغيرت افكار اللاهوت بعد التأثر بالقيم الجديدة للدين، ولكن تلك القيم بما كان من نشاط زمني للحداثة اصبحت تلك المبادئ الجوهرية، والتي لم تتغلغل في كيان المجتمع الالماني بالقدر الواسع، ومن جهتها الكنيسة سعت الى التكفير عن الذنب التاريخي المشين عبر تلك التحولات الحادة الإيقاع، فتحولت الكنيسة الى دار دين مثالية، ومن ثم الدخول في ليبرالية التوافق الرائعة، ولكن لسوء الحظ فقد استبدل الدين السياسي دور الكنيسة وحل محل ذلك التاريخ البشع، ونشير الى أن الكنيسة التي فرضت على قيصر المانيا المشي حافيا على الصقيع والتوجه الى الفاتيكان، قلب تلك الصيغة الدين السياسي، فزاد من تمجيد وهيبة الملوك والحكام، والى الحد الذي اصبح فيه الحكام والملوك الهة ارضية، وهذا الفارق الهائل جاء في ظروف ما بعد الحداثة، والتي كانت فيها نعمة الميتافيزيقا هبة لمن تمكن من قلب المعايير، واذا كانت بشاعة وقسوة الكنيسة محددة، فالقسوة والعنف في الاسلام السياسي تجاوز التحديد الى الظن والاشتباه، وهذا لا يتعارض مع الفلسفة بالقدر الذي يتعارض فيه مع القيم والمبادئ وحتى الاعراف .

***

محمد يونس محمد

...........................

1- الفلسفة الالمانية مقدمة قصيرة جدا، أندرو بووي، ترجمة محمد عبد الرحمن سلامة، مؤسسة هنداوي، ص 9

(الديانة التي تخاف العلم لا تحترم الله، لا .. بل تنتحر)... رالف امرسون

مثلما يطالب قوم، بضرورة انتهاج تربية قائمة على الحرية الشخصية وبناء المعارف بشكل ذاتي، وتصحيح نظرتنا للحرية والتقائيتها بالتعبير والرأي والتناغم العقلي والوجداني، يؤسس آخرون مبدئيتهم الفكرية في الاكتساب الثقافي الديني الأولي، خلال الانخراط المدرسي الابتدائي والثانوي، على اعتبار أن ذلك يجسد البناء العميق للمجتمع المتناغم، وشرطا أساسا في إنجاح مهمة التعليم والتربية كسلوك وبيداغوجيا إنسية أخلاقية.

والحقيقة أن المذهبين، يمثلان جدارا صلبا لمدى أهمية الدرس التربوي الديني في تمكين المتعلمين من تصحيح علاقة المعرفة بالدين، أو ما تعتمله مضامين الدستور والقانون المؤطر له، في علاقة بالمرتكز الاعتقادي للدولة والأمة، وتوفير الحماية الثقافية والتوعوية تجاهها.

يشيع المنخرطون في الانكشاف على التجارب التربوية الرائدة في المجال، على أن الواجهة الجوهرية التي يجب الالتحاف بها، والامتداد بإزاء قيمها وآثارها في التوجيه والتأطير، هو إيثار ذائقة النقد والوعي بتنظيراته على كل التشويهات الذهنية المقابلة، على اعتبار أولوية البناء الشخصي والسلوكي للمتمدرسين، واعتماد قيم التسامح واحترام الآخر داخل هذا المرمى.

وقد سبق لبيداغوجي فرنسي، يدعى إريك كورنلييه ، أن أثار هذه الخاصية التربوية، ودعا إلى تحريرها من الأيديولوجيا والتقوقع الفكري الديني. بل طالب بتحييدها عن مناهج التدريس، عبر تضمينها في مقررات الدراسة وما يلزم من انفتاح على التجارب الأخرى في الحوار والتوجيه المتدرج.

وكان كورنلييه قد دافع مسبقا على اعتماد مادة الأخلاق والثقافة الدينية، كدورة يخضع لها جميع طلاب المدارس الابتدائية والثانوية. متسائلا : هل توفر دورة الأخلاق والثقافة الدينية معلومات جيدة لأطفال المدارس الابتدائية ومراهقي المدارس الثانوية وهل تقدم تعليمًا في قيم التسامح؟

المشكل في طرح هذه النظرية، أنها تربط الطفرة النقدية على الأديان أو ما يسميها ب "الأساطير أو المذاهب الموجودة في العالم " بما هي تأسيسات حقوقية مرتبطة بالواقع الحديث للدولة الحداثية. وهو ما يعطي انطباعا خاطئا كون جميع الأديان يمكن تجميعها في سلة واحدة، ما دام جوهرها الأصيل يضمن احترام الآخرين والصالح العام ؟.

ومع أن إريك كورنلييه، يطرح سؤال "الوجه الخفي للأخلاق والثقافة الدينية" انطلاقا من تحصين مفهوم الحرية من كل أنساقها التاريخية والمرجعية، على اعتبار أن تلقين احترام العيش المشترك يولد أخلاق احترام الآخر وعقيدته وسلوكه، دون الالتفات إلى خصوصية الأديان وموقعها الثقافي والتربوي والمجتمعي، فإنه يواجه بكم هائل من التأسيسات المسبقة لتلكم الخصوصيات واصطدامها بالشعارات المحمولة على شرطية الدولة الجديدة، كمسائل المساواة بين الرجل والمرأة ، والحريات الفردية بما فيها حريات الاعتقاد، وكذا التسامح مع اللا أدريين والملحدين ، حتى في حالات انتقادهم للرموز الدينية من الكتب المقدسة والأنبياء وغير ذلك.

إنه لا يمكن تقديم الدين كمنتج ثقافي ، مهما كان ذلك مناطا للتحفيز التاريخي لحال العلم والفلسفة والشعر أو الصناعات العلمية والاجتماعية والفكرية المماثلة، وهو بالطبع لا يمكن أن يرقى إلى الاغتيال الصريح لجميع الأديان. وإلا ضاقت الرؤية وانفلتت وجاهتها وانخرمت تحت وطأة السؤال الأخلاقي والقيمي الذي يرفع السمت الديني ويوطنه في النظام البشري ككل؟.

الأولى في هذا السياق التقاطعي المضطرب، أن نعمل على التفكير في إنتاج أساليب جديدة، لتأطير قضية "الأخلاق والثقافة الدينية" وجدوى تطوير علاقتنا بمنهاج التربية الدينية في مقرراتنا الدراسية ومناهجها الضعيفة.

وهو الشكل الملائم لإدارة علاقة اكتساب الثقافة الدينية تلك بباقي المناهج الدراسية والتربوية الأخرى، خصوصا تلك التي تشتبك في جوهرها مع الدرس الفلسفي والتاريخي والأدبي، وذلك من خلال رفض السماح بانتقاد خطابات الديانات المختلفة ، وهو ما لا يسمح به مقرر الأخلاق والثقافة الدينية بإبطال الحقائق التي يزعمون أنها تبطل. ولهذا لن يكون بمقدور مسؤولينا في التربية والتكوين، أن يعملوا على إلغاء هذا النمط من التفكير، والاستعاضة عنه بدورة عن تاريخ الأديان تمنح لمتمدرسينا الفرصة لتنمية تفكيرهم النقدي واعتقادهم المبني على الاقتناع والحجاج الخطابي الرصين والمبادرة المبنية على التميز والتفوق والاقتدار.

***

د مصْـطَـــفَى غَـــلْمَــان

السؤال الذي يتردد الى الذهن هو هل الرياضيات ملتحمة ضمن نسيج الكون ام انها مجرد نتاج للذهن البشري؟ نحن محاطون برياضيات مجردة حتى لو لم نكن نعرف ذلك. في الحقيقة،الرياضيات هي السبب الرئيسي الذي يجعل كل الناس في العالم الحديث أحياءً ويمارسون أعمالهم. الوسيلة التي أنت تقرأ بها هذه الكلمات يتم فبركتها بسبب المعادلات المعقدة المرتبطة بميكانيكا الكوانتم. معظم الطعام والمنتجات الاخرى التي نشتريها وتصل الى مخازننا تتم بفضل رياضيات صارمة تدور حول ديناميكيات شبكة التجهيز. وبهذا، نحن نعم محاطون بالنتائج الواقعية للرياضيات مهما كانت درجة التجريد التي تكتنفها. ولكن تحت ذلك تكمن حقيقة هامة أعمق بكثير وسؤال أكثر أهمية وهو هل الرياضيات واقعية؟

هل الحقائق المتجسدة في تلك الرياضيات واقعية بحد ذاتها؟ هل الرياضيات بطريقة ما منحوتة في نسيج العالم، او في أفكار الله؟ (قبول هذا الوصف او رفضه يعتمد على ميول المرء). ومن جهة اخرى، ربما الرياضيات هي فقط شيء ما نحن اخترعناه . لغة مثل أي لغة اخرى – صادف ان تكون عظيمة الفائدة في بناء الكومبيوترات وادارة شبكات التجهيز.

هناك الكثير ينتظر الجواب على هذا السؤال، بما في ذلك قدرتنا على التحدث مع كائنات فضائية، لو حدث ان التقينا بها.

الرياضيات كعظام للعالم

فكرة ان الرياضيات هي وحدها الواقع الحقيقي تعود تاريخيا للفيلسوف افلاطون قبل أكثر من الفي سنة. افلاطون يرى ان الرياضيات – الهندسة بالنسبة له – كشفت واقعا مختبئا يشكل الاساس الذي تقوم عليه. الرياضيات بالنسبة لافلاطون تشبه هيكلا عظميا غير مرئي يُعلّق عليه جسد العالم. العلاقات الهندسية للمثلث تشكل المثلث الحقيقي والتام. جميع المثلثات التي نصادفها في حياتنا هي معيبة وأمثلة ناقصة لتلك التي تصفها الرياضيات. بهذه الطريقة، فان كل شيء نتعامل معه هو نسخة رديئة للأشكال المثالية التامة للرياضيات الموجودة في عالم المُثل.

قد يعتقد احد ان هذه فقط نسخة من مهارة اليونانيين القدماء المفرطة. ومع تعاقب القرون وتقدّم العلم الحديث وتأملاته في القرن السادس عشر،حصلت الإفلاطونية في تقديرها العالي للرياضيات على أنصار ومؤيدين جدد. وفي أعقاب اسحق نيوتن، اصبح من المستحيل تجاهل تطبيق الرياضيات المعقدة على مشاكل العالم الواقعية. اختراع نيوتن للتفاضل والتكامل بشّر بعصر جديد يمكن فيه للمعادلات الديناميكية ان تتنبأ بكل شيء بدءاً من حركة الكواكب وانتهاءً بمسار قذيفة مدفع.

بعد نيوتن،اتخذت هذه المعادلات الديناميكية أشكالا أكثر تجريدا. وعلى أيدي علماء مثل جوزيف لويس او وليم هاملتون، كانت الرياضيت المتعلقة بشيء ما مثل دوران كوكب حول الشمس يتم تصويرها على شكل هندسي يشبه الحلقات المتعددة الأبعاد. لو عرفنا خصائص الحلقات، نستطيع التنبؤ بحركة الكوكب.

اذا لم يكن ذلك المستوى من التجريد غريبا بما يكفي، فان نسبية اينشتاين استكملت ذلك حين ظهرت بأبعادها الهندسية الأربعة للزمكان. بعد ذلك جاءت الرياضيات التجريدية الغريبة لميكانيكا الكوانتم، رياضيات غريبة جدا لدرجة أمضت العقول الذكية سنينا قبل ان تتمكن من فهمها .

هل هي لغة عالمية ام لغة محكية؟

التجريد أنتج أجوبة سمحت ببناء كومبيوترات، طيران المسبار الفضائي نحو المريخ، او وصف هيكل المادة. قدرة الرياضيات الخارقة على التجريد في وصف العالم حفز المنظّر الكبير ايجين ونغر Eugene Wigner لكتابة مقال "الفعالية اللامعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية". في هذا المقال الشهير ذكر الكاتب ان،"معجزة قابلية لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء هي هدية رائعة نحن لم نفهمها ولا نستحقها". هذا يفسر لماذا كان العديد من الفيزيائيين افلاطونيين بشكل او بآخر حول تأثير الرياضيات في فيزيائهم الرياضية. انه تماما يشبه ان الرياضيات ترتبط بشيء موجود تحت هذا العالم – شيء يعطيها أساسا.

بالنسبة للعديد من الرياضيين والفيزيائيين والفلاسفة، هذه الرؤية في المعادلات كـ "فكرة في ذهن الإله" هي سوء فهم كبير. هم يرون ان الرياضيات تعمل لأننا اخترعناها. فائدتها هي انعكاس لحقيقة اننا ومعنا أدمغتنا تطوّرنا في العالم. إختراعاتنا الرياضية تعمل لأن تجسيدنا في العالم يعني اننا واعون سلفا  بالطريقة التي تتصرف بها. (هذه هي الرؤية الشهيرة لعالم الإدراك جورج لاكوف). تعقيد آخر للجدال هو ليس جميع الرياضيات تعمل في العالم. الكثير منها لم يجد تعبيرا في الفيزياء ابدا. هنا تنوّع واسع بالرؤى غير الفيزيائية التي تنكر فكرة ان الرياضيات هي الشيء الأكثر واقعية. اذاً، ماذا هي؟

الجواب بوضوح له انعكاسات فلسفية ثقيلة، لكن هناك نتائج تطبيقية ايضا. لو أمكن لنا إجراء اتصال مع كائنات فضائية، كيف يمكن الاتصال بها؟ اذا كانت الافلاطونية صائبة، عندئذ كل الحقائق الرياضية يجب ان تكون عالمية. الرياضيات الفضائية يجب ان تكون تماما مثل رياضياتنا. في تلك الحالة، نحن نستطيع استعمال الرياضيات كنوع من حجر روزيتا Rosetta stone(1)، ذلك سوف يعطينا طريقة للبدء بفهم بعضنا البعض. لكن اذا كانت الرياضيات شيء جرى اختراعه ولم يُكتشف، فسوف لن يكون هناك سبب للاعتقاد بوجود علاقة بين رياضيات فضائية ورياضياتنا. في تلك الحالة سوف لن نكون قادرين على الاتصال. اذاً ماذا نعتقد؟ هل نحن حقا مجرد ظلال لمجموعة عميقة من الحقائق الرياضية؟ ام اننا وتجاربنا شروط مسبقة لوجود أي رياضيات ؟  

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) حجر روزيتا او حجر رشيد، هو حجر بركاني اسود وُجد عام 1799 في مدينة رشيد شمال مصر. الحجر يحمل نقوشا باليونانية واستُخدم لفك رموز اللغة الهيروغلوفية المصرية القديمة.

"ليس كلُّ ما يُقال حقيقةً، لكن يجب أنْ تُقال الحقيقة يوماً ما.."

هل للحقيقة قُوى خاصة تحُول دون استغلال السلطة؟ بالطبع، ولكن قبل التفصيل، يجب معرفة اختلاف القوة عن السلطة في هذا السياق. القوة هي (إمكانية ذاتية) على الظهور المُحايد لا العنيف، على التجلي الظاهر بدرجاتٍ لا المتواري بإطلاقٍ، على إدهاش الفهم لا انجذاب الغرائز، على انعدام التملُّك لا الاستحواذ، على الوجُود العام لا الخاص. أمَّا السلطة، فهي: نسقٌ يحجبُ لا يُوضح، كتلةٌ تتطلب حشداً لا تمييزاً، نظام يتضمن عنفاً غامضاً لا شفافيةً حائرةً، هيكل استقطاب لا  تحرُر.

لا تقع سلطةٌ خارج الحقيقة ولا توجد حقيقةٌ خارج السلطة، لأنَّ هناك (مساحة تنازُع- شد وجذب) بالداخل منهما في الوقت نفسه. كلٌّ منهما يُردد أصداءَ الآخر، أي يتبادلان مساحةً لا أقول مشتركةً، لكنها مساحة موجودة بالضرورة شاءت السلطة أم أبت، وقبلت الحقيقة أم لم تقبل. مساحة متداخلة، متماهية، ملتفة التكوين ضمنياً وفي القلب منهما بالتبعية، ولا تخضع لهندسة مكانية ولا لجغرافيا الحركة وخرائط توزيع التأثير بينهما أمام المتابعين، لكنها مساحة تأويلية interpretative area بالأصالة عن المجتمعات البشرية.

كل ذلك في الحالين (القوى والسلطة) يتوقفُ على موقع الحقيقة وتوظيفها عبر سياق المجتمعات. فالحقيقة إذا كانت بائنةً كما ينبغي أنْ تكون، استطاعت التموقع في دائرة من الحياد الكاشف، وهي دائرة غير معقولة عادة .. أي لا تقع على نسق المعقولية الخاص بالحياة المشتركة بين الناس، بسبب كونها غير ملونة ولا منحازة، مساحة تحرر لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك من ضروب الهيمنة. هي تقف وسط (نقطة مفاجئة) حتى لعناصر الحقيقة ذاتها. فأنْ يكون بعض الأطراف هم عناصرها، فهم في حالة إنكشاف وممارسة لا تعليق عليها.

ذلك مع كل ما يحيط بأية حقيقة من ملابسات وصور وعوامل شد وجذب تأويليين. لا يتخيلن أحدٌ أنَّ الحقيقة طالما أنَّها كذلك قادرة على الإنكشاف، فهي عارية، بل العكس هي دائماً مفاجئة، متوترة، غريبة، تكاد تكون مشقوقةً إلى نصفين إنْ لم تكن مشقوقة إلى أنصاف الأنصاف. هكذا لكونها غارقة وسط كم هائل من عمليات الحجب، عمليات التعمية، عمليات الترقيع والقص واللصق، عمليات التأجيل والتسويف. وحتى على صعيد التعبير تخضع لصياغات استعارية ومجازية تعطي السلطة الغلبة والسطوة.

لو نلاحظ، فإن فعل الإنكشاف إزاء الحقائق، يحتوي على نبرة الفاعل (كشف، انكشف، تكّشف، سيتكّشف). وهذا مستوى من قوى ذاتية للحقيقة، فهي مسكونةٌ بمعطيات نوعيه تجعلها في حالة ترقُب وظهورٍ. وينطوي فعل الإنكشاف أيضاً على نبرة المفعول (منكشفة - واضحة)، لكن الحقائق هدف للظهور، إنها تنتظر الفرصة- ولو كانت هامشية- لتُلقيها الحياة في وجه المجتمعات. حينئذ تبدو كما لو كانت هي الفاعل على الأصالة، لأنَّها تلفت الأنظار، وتبدو هي البطل الأساس لكل حالة إنكشافٍ.

دلالة قوى الحقيقة دلالة قابلة للتبرير في سياقات مختلفة. يكفي القول عندئذ بأن هناك حقيقةً ما قد وَضُحت، وإنَّ هناك أبعاداً قد ظهرت إلاَّ ويلتفت المعنيون للموضوع بجديةٍ. وقد يُنّحي هؤلاء انحازاتهم جانباً ليستمعوا إلى (صوت الحقيقة). وبالرغم من أن الإنسان لا ينسلخ عما ينحاز إليه، إلاَّ أنه على الأقل سيدركُ كون الحقيقةَ تقول شيئاً مختلفاً.

ومن ثمَّ، فالمعالم الآتية سأسميها قُوى، من باب كونها قوى تجلٍّ وسط الملابسات التي تجد نفسها واقعةً داخلها. فهي قوى تعطيها مسوغاً بين الناس. فالتكّشف لكل حقيقة لا يجري في عراء كما أشرت، لكنه عملية مخاض عسيرة تتم دوماً عنوة تحت إكراهات وعوامل كبح ثقافية وجوانب قسر شديدة الوطأة. إن السلطة لا تترك المسألة للمصادفة، فلا شيء مصادفة هناك، بل نتيجة هذا التجلي والظهور الصعب. لا تظهر حقيقة دون هذه المقاومة الصعبة لتلك الملابسات والظروف.

عدالة وجود

رغم اختلاف الحقائق وتنوعها، غير أنها تُعلن عن وجودٍ موضوعي ما. وجود يحيّدُك بالضرورة، ولا يعطيك فرصةً للقفز عليه. كلُّ حقيقة تعبر عن وجود قابل للاستفهام، وليس كالسؤال عندما يضعنا بين مفترق طرق جميعها ممكن الولوج عبرها بالتساوي، وكلها صالحة للاستعمال، وليس هناك واحدٌ منها جديراً بالاقصاء والاهمال. الحقيقة أشبه بالمطرقة التي تدق الرؤوس فتحدث استفاقة بائنة.

عندما تسمع كلمة حقيقة، لابد أن تنتبه من فورك بكل كيانك، فهي نقطة فارقة لا خلاف عليها. مع أو ضد، لايهم الأمر، ولكن الأهم أنه لن يكون المشهد بعد الآن كما كان. في وجود الحقيقة لا أحد يقترب، هناك مسافة تفصل الجميع من الجميع حتى، وإن كانوا فوق بعضهم البعض. لأن التراتب لن يفيد، لن يجدي. يجب أن ندع المجال للحقيقة المقصودة.

إنها عدالة وجود، العدالة بكل تنويعاتها الفاصلة؛ (الظهور، المعنى، الحق، العلاقة، الاقناع، الدليل، فهم الواقع، إعادة ترتيب الأشياء، واجب الإفصاح، إعادة الاعتبار). وكل هذه الصور تقول إن الحقيقة جديرة بالمعرفة، هي مهبط العقول لمعرفة ما الذي حدث بالضبط. أي هذا الذي حدث كما هو دون زيادة أو نقصان. وإذا كان عقل البعض مأخوذا بتحميل التبعات لجهة معينة إزاء الحقيقة، فالأخيرة اعلان عن وجودها وعدالة قضيتها دون أسبابٍ. لا تعنى الحقيقة بكونه رامية نحو أسباب بقدر ما تشير إلى ظروف وملابسات وقيود مفروضة عليها. دوما العدالة لا تتحقق من تلقاء نفسها، غير أننا نعرف أنها عدالة وستظهر في وقت من الأوقات.

عدالة وجود مرتبطة بأشياءٍ أخرى على الدوام، لأنّها عدالة بالنسبة إلى كذا... وكذا. والـ" كذا" لا يكف عن ممارسة الضغوط السلطوية، حتى لا تبدو الحقيقة آتية، هناك من يترقب، لا ليعرف، بل ليحول دون وجود الحقيقة. لأنَّ معادلة الواقع أخطر ما تصُوغه السلطة فارضةً نمط الرؤية المناسب لأهدافها. ليست السلطة سلطةً من غير أنْ تمتد أناملها إلى ما ترى، هي طريقة في كيفية رؤية الآخرين لما لا يريدون. الحقيقة تظهر من وراء الغيوم، مثلما تشرق الشمس وسط كتل السحب الداكنة.

ليست عدالة الوجود معادلة رياضية منطقية، لكنها عدالة واقع.. والواقع بائس ومفجع عادة. لأنَّه لا يوجد بصدد الحقيقة نوع من التوازن بين متغيرات سلطوية حتى وإنْ حدثت. لكن الحق في الوجود أكثر مما يتصور القابضون على زمام السلطة في أي مكان. فالعدالة مقولة جوهرية بالنسبة للحقيقة تدفع الباحثين عنها بكل ثقة ويقين. فالتاريخ لا يترك شاردة ولا واردة دون الإشارة ولو بطرف خفي إلى ما حدث. والعدالة من واقع الثقة في الحقائق ستبدو نقطة ظهور لا قصاصاً، نقطة حضور لا توازناً.

اعتراف

تُولد الحقيقة إلى حد الظهور ومعها بطاقة ميلاد خاصة. هي بطاقة اعتراف أصلية لا مزيفة، لأنَّ كل حقيقة لا تتسول اعترافاً على قارعة الطريق. ولو فعلت لفقدت صلاحيتها، فالإعتراف قضية مصير لا تسول عارض هنا أو هناك. وبالتالي يكون النضال لأجل الاعتراف بالحقائق والأحداث الفعلية في تاريخ المجتمعات أمراً جديراً بالاهتمام.

هناك تاريخ مضن للنضال من أجل الاعتراف بأدق تفاصيل الحقائق حتى أكبرها، النضال جزء من مسئولية الحقيقة بوجودها لدينا نحن البشر. ليس كل البشر بطبيعة الحال، لأن السلطة حجاب غليظ لدرجة الاستحالة. هم أولئك البشر المسئولون عن قول الحقيقة، عن الاعتراف بها. إنَّ موقعك من الحقيقة مهم بدرجة توازي إنسانيتك الحرة. ولذلك يعد الإعترافُ مهمةً وجوديةً بالمقام الأول. ليس بها تردد ولا آراء لجوجة، إذا كنت تدرك أنَّ هذه هي الحقيقة. الإنكار عندئذ عمل مشين إنسانياً في حق وجودتك، مثلما أنَّ وجودك عادل، فستكون مسئوليتك جزءاً لا يتجزأ من هذه العدالة.

لا تكف السلطة عن زج الاعتراف إلى دائرة أخلاقية خلافية، قد يأخذها الإنسان على محمل الجد أو لا يأخذ، لكن الحقيقة ليست وجهة نظر، وليست سلوكاً، لكنها فعل وجود. إنَّه الاعتراف بالحقيقة الذي يعطيك في التّو اعترافاً بوجودك. ليس هناك من ينكر الحقيقة دون أنْ ينكر نفسه بالمثل، فكل إنسان مهما كان منكراً لن يفلت من آثار الحقيقة في بعضه أو كله. بعضه عندما يفتعل كونه لا يعرف شيئاً، بينما ستكون الذاكرة حافظة لما حدث. أمَّا كله، فحين يمارس قصداً منكراً لحق العدالة والوجود، عندئذ سيكون قد اعترف بالعدم في نفسه، لقد مارس إعداماً وانتحاراً وجودياً على ذاته.

ولذلك يُقال في جلسات القضاء والمحاكم: الإعتراف سيد الأدلة، كل اعتراف يبقى محافظاً على نفسه من الضياع. لأنه جزءٌ من جهاز عام إسمه ذاكرة المجتمعات. لا يوجد إعتراف بين المرء ونفسه في السر. هذا ليس اعترافاً، لكنه نوع من الهمس الذي لا يخرج بعيداً. الاعتراف فعل عام بطبعة، وإلّا لفقد معناه الوجودي، ناهيك عن ضياع غايته في مسألة الحقيقة. لأنَّ الحقائق بالنسبة للناس تهم الجميع من غير استثناء، حتى وإن لم يدركوا ذلك من أول وهلةٍ.

ما مصدر هذا الاعتراف إذن؟ مصدره المسئولية الإنسانية عن الحقائق، الإنسان هو راعي الحقائق بالمقام الأول، فكل منا يشعر بوجود حافز وجودي لإظهار حقائق الأحداث والتاريخ والحياة إجمالاً. ليس بإمكاننا أنْ نعيش بلا اعتراف متبادل، حتى أننا نعترف للآخرين طوال الوقت بحريتهم وخصوصياتهم دون تدخل. والفرد الذي لا يعترف بالحقيقة سينال العقاب الرمزي من جنس العمل، سيهمله الآخرون عياناً بياناً وسيكون جزءاً من عملية تسلط لا مبرر لها. وبقدر ما هو في أمس الحاجة لأنْ يتم الاعتراف بحياته وكيانه، سيأتي الانكار رداً موجعاً عليه.

الاعتراف هو القاعدة التي تحمل المجتمعات الحديثة على الاستمرارية، والاعتراف به لون من التقدير والاحترام والحياد الإيجابي وقدرة على إعطاء الحقوق لأصحابها ومشاركتهم الوجود. لأنَّ هناك منْ تعنيهم الحقيقة بقدر ما يعنيهم وجودهم الضروري. أحداث الصراعات والمشكلات الاجتماعية تحتاج إلى أنجع وسيلة للإظهار وهي الاعتراف بوقوعها  أو لا، بحسب ما ينتهي السعي نحو كشفها.

تقع الحقيقة دوماً على أحد طرفي النقيض (نعم أو لا). يصعب أن يقف الإنسان على طرفي (نعم ولا) معاً، وكأنَّه لم يقل شيئاً. لابد له من الشعور بالمسئولية الوجودية وأنْ يتكلم كإنسان يتمتع بإنسانية تجمعه والآخرين. وبينما تسير السلطة طوال الوقت على منطق المنْع والحجب والتغطية، سيكون الاعتراف خيطاً  يجذب الناس لقول الحقائق واشهار ما حدث.

وهذا يفسر أنه في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعاتنا العربية يصعب: أن نعرف- مجرد المعرفة - إزاء الحقائق: ماذا حَدَثَ؟ إن الاستفهام: ماذا عن كذا بالفعل؟ لا يكون حافزاً إلاَّ للدوران خلفاً والهروب الكبير من ساحةِ الأسئلة. وكأنَّ هناك من ألقى قنبلةً واسعةَ النطاقِ في فضاءٍ عام مكتظ بالناس، فإذا به يخلو في لمح البصر من جميع الناس.

***

د. سامي عبد العال

الانفعال هو حالة نفسية ذات شحنة وجدانية قوية، مصحوبة بتغيرات فسيولوجية خاضعة للجهاز العصبي الودي، أو هو المشاعر التي يعبر عنها الافراد مثل الحزن والغضب كرد فعل لمختلف الافكار والمواقف التي يواجهونها.

أن التعامل الصحيح مع المواقف الضاغطة لا يمكن أن يكون في إطار من الرد السريع أو العشوائية، بل يجب ان يكون على وفق استراتيجيات محددة، ترمي إلى التقليل من آثار أحداث الحياة الضاغطة، التي تقوم على أسس من الاقتناع والاستقلالية وتمتع الفرد بمستوى مناسب من الصحة النفسية.

انفعالاتنا هي نمط شخصياتنا وهي تعبر عن سلوكنا، فبعض الشخصيات تستطيع أن تقمع هذه الانفعالات إذا استطاعت، لكنها لا يمكن أن تلغى أو تموت أو تنتفي، تظل مخزونة في دواخلنا.

إن إعادة التركيزالإيجابي إلى التفكير في قضايا متنوعه ومختلفة في حياة الناس بعضها ممتعة ومبهجة بدلاً من التفكير في الحدث الفعلي، وإن إعادة التركيز على الأشياء الإيجابية يمكن أن تعد شكلاً من أشكال فك الارتباط العقلي، ويمكن عَدها على انها تميل للأفكار أو إعادة تركيزها على قضايا أكثر إيجابية من أجل التفكير بشكل أقل في الحدث الفعلي، وربما يكون ردًا مفيدًا على المدى القصير ومع ذلك فقد يعيق التكيف على المدى الطويل، وهو يركز بشكل حصري تقريباً على الأبعاد السلوكية، أما في المدارس الأخرى ومنها التحليل النفسي يكون أحد ميكانيزمات الدفاع التي تعيد الإتزان إلى النفس من خلال ميكانيزم الاسقاط، أو النقل، أو الطرح، أو حتى الكبت في الحالات الخطيرة والقوية، وتنجح هذه الستراتيجيات، أو الميكانيزمات الدفاعية في تغيير الحالة النفسية للإنسان.

أن الاستراتيجيات الشعورية " الواعية " واللاشعورية " اللاواعية" تستخدم في تقليل أو زيادة مكون من المكونات للاستجابة الانفعالية لكنها بنفس الوقت تكبح جماعها وتوقف الجانب السلبي منها وتحد منه.

أن استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي هي أكثر من مجرد النظر إلى الجانب المضيء في الحدث الفعلي، والإيجابية الناجحة تكمن في توجيه الاهتمام إلى النجاحات وتحقيق موضوعي للوضع النفسي مما يقلل الجانب الذاتي في تأويل ما يدور في النفس قبل وأثناء وبعد عملية التفكير وتشظيها وربما تعقدها، ولذا فإن دماغ الإنسان مقتنعاً تمامًا بالتفسيرات الإيجابية للاحداث، فضلا عن تذكر اللحظات الطيبة في حياته لأنها تغير في مزاجه وحالته النفسية، يستدعيها كذكريات تخفف وطأة وشدة الضغوط الحياتية اليومية مثل ضغوط العمل، وضغوط الدراسة والامتحانات، وضغوط الحياة الاقتصادية الصعبة، وضغوط التنقل والانتقال في الشوارع المزدحمة المكتظة بالسكان والازدحام، فقوة التركيز الإيجابي نراها في كثير من أساليب العلاج النفسي، اذ يستخدم المعالجون – عادة- تقنية يطلق عليها (إعادة الصياغة) لتشجيع طالب المشورة، أو المسترشد على رؤية مشكلاته بصورة جيدة وأكثر إيجابية .

إن طروحات علم النفس المتعلقة بالجانب الإيجابي مثل التفاؤل والأمل والطموح والحب الحقيقي، والصدق في التعامل في الأسرة وبين أفرادها رغم تغيير الحضارة ومتطلباتها وجشع الحياة وسرعة جريانها، إلا أنها تساعد هذه الإستراتيجية في تغيير الكثير من جوانب السلوك لانهما عمليتان فكريتان تولدان شحن وجداني فيكون لها تأثير كبير على سلوك الانسان، وإذا ما أردنا المقارنة بين طرفي الشخصيات البشرية وهما الإيجابيين والسلبيين بهذا المعنى فاٍننا سنجد العديد من السبل الادراكية والمعرفية بشكل واضح، حيث تتميز الجوانب التي تفرق بين الفرد الإيجابي والفرد السلبي، بما فيها التفكير والتصرف بإيجابية، فالإيجابيون يشجعون على التقدم والنجاح، وفي كثير من الأحيان يكونوا متفائلون وينشرون من حولهم شيء من السعادة مع القدرة على التغيير فضلا عن الطاقة الإيجابية على العمل والنشاط ويحركون في الآخرين دوافع الإنجاز ويبثون بذور التعاون والتسامح .

أننا أزاء حالة مهمة حيث تبين لنا أن وراء كل أنفعال – إيجابي أو سلبي – بناء معرفي ساعده على تكوين بنية صحيحة للذات، ولما كان السلوك والإنفعال يتفاوتان من حيث السواء والمرض، فإن التفكير المصاحب أو السابق لهما يتفاوت أيضاً من حيث القبول والرفض، وبعبارة أدق اذا كانت طريقة التفكير مقبولة ومنطقية فإن السلوك أو الإنفعال سيكون إيجابياً ودافعاً لمزيد من النشاط والحيوية والبناء، واذا كان العكس فإن السلوك والانفعال سيكون على درجة مرتفعة من الاضطراب وعدم القدرة على الإتزان .

أن استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي تعد من أساليب التفاعل والآليات الدفاعية التي تساعد الناس على خفض القلق والتوتر، خاصة عندما يواجه الأفراد الكثير من المشكلات والهموم، وأن استعمال هذه الأساليب والآليات الدفاعية هو مداولة مناسبة لتحقيق التوازن الداخلي للإنسان ربما ترتفع وربما تنخفض حسب الموقف الضاغط وشدته.

أن التعامل الصحيح مع المواقف الضاغطة لا يمكن أن يكون في إطار من الرد السريع أو العشوائية، بل يفضل أن يكون على وفق استراتيجيات محددة، ترمي إلى التقليل من آثار أحداث الحياة الضاغطة، التي تقوم على أسس من الاقتناع والاستقلالية وتمتع الفرد بمستوى مناسب من التوافق النفسي لا سيما أن التوافق هو الذي يؤدي إلى الصحة النفسية .

تمثل استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي حجر الزاوية في مفهوم التنظيم الانفعالي، والتي تشير إلى الأساليب التي يستخدمها الافراد ويتم توظيفها لتعديل التعبير عن الخبرات والانفعالات الإيجابية، وإن استخدام هذه الاستراتيجية تظهر وجود فروق فردية سواء بين الافراد أو داخل الفرد نفسه، فبعض الافراد لدية القدرة على استخدام هذه الاستراتيجية بشكل أكثر فعالية من بعضهم، في حين لا يمتلك البعض الأخر مثل هذه القدرة، ولنا لقاءات في تأثير الفروق الفردية في استخدام هذه الستراتيجيات والآليات الدفاعية النفسية.

***

د. لمياء حطاب رحيم - استاذة جامعية

دكتوراه علم النفس التربوي

عشر مغالطات جعلت الحداثة سيئة السمعة

تُعاني الحداثة من سمعة سيئة في بعض الأروقة الدينية والأقسام العلمية، فهي كلمة ثقيلة على نفوس بعض السامعين فلا يقل وقْعها على آذانهم عن كلمة “بائعة هوى”، ويقف وراء ذلك عدة أخطاء شائعة التصقت بالحداثة في التداول العربي، يُمكنُنا إجمالها في المغالطات العشر التالية:

أولها: التعاطي مع الحداثة كمصطلح ثابت لا يتغيّر، متأثرين بفكرة قديمة طرحها المنطق الصوري حول إمكانية إيجاد مفهوم جامع مانع، تلك الفكرة التي استبعدتها الدراسات الحديثة، فالحداثة كغيرها من المفاهيم في حالة تفاعل وتغاير مستمر، سيما أن العقل الغربي لم يتوقف عن نقدها بكل ما أُوتي من قوة. فالمفاهيم ليست صلبة يُمكن أن نحددها تحديدا نهائيا، نتفق عليه اتفاقا كليا؛ كما أننا أمام عشرات التجارب مع الحداثة، وليست تجربة واحدة، فالحداثة الألمانية تختلف عن الحداثة الإنجليزية فكريا، والحداثة الفلسفية الفرنسية تختلف عن الحداثة الفلسفية الأنجلو سكسونية، والحداثة اليابانية في مجال السياسة تختلف عن الحداثة الهندية؛ لذا تعددت تعريفات الحداثة في كتابات الحداثيين.

ثانيها: الخلط بين الحداثة بمفهومها الرّحب والحداثة في نسختها الغربية، فالحداثة بمفهومها العام، فعل تاريخي مستمر لا يقبل التحديد بفترة معينة، فلها جذور في الماضي وامتدادات في المستقبل، فـ”الحداثة ليست سوى علاقة بالزمن” على حدّ تعبير “هيغل”، ووفق هذا المفهوم؛ الإنسان يستمد قيمته من حاضره وما يُقدّم فيه من إنجازات ولا يكون فيه الإنسان مجرد امتداد لأسلافه، تلك الفكرة التي تسيطر على الفكر الديني التقليدي وتظهر في مفردات مثل: السلف، والأشراف، والقبيلة وعراقة العائلة، والأجداد وروعة الماضي.

فالحداثة حالة انتقال بالبشرية من هيمنة الأفكار العاطفية لصالح الأفكار العقلانية، بهذا يستعيد الإنسان مكانته وكرامته في هذا الوجود، ففرق كبير بين الإنسان في القرآن الكريم المكرَّم بالعقل ومن مقتضياته حرية التفكير والنقد وبين الإنسان في جانب من الفكر الديني المسلوب منه حق حرية التفكير.

فالحداثة في مفهومها العام فعل حضاري يُطلب من كل أمّة؛ كي تكون معاصرة لزمانها؛ فالأمة التي تستطيع أن تقوم بواجبات زمانها تفكيرا وإنجازا؛ فقد حققت الحداثة. فتاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ للحداثة بمفهومها العام، فهناك حداثات على مرّ التاريخ تناوبت عليها مجتمعات متنوعة في ثقافتها وتراثها، وداخل هذا الإطار العام للحداثة تأتي الحداثة الغربية المتمثلة في جملة التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع الغربي منذ خمسة قرون بداية من القرن السادس عشر مع “النهضة” و”الإصلاح الديني”، وترسّخها مع “حركة الأنوار” وانتشارها مع “ثورة الاتصالات” حتى تكاد أن تسع العالم كلّه.

ثالثها: تداول الحداثة في الثقافة العربية كمرادف للادينية، وهذا ما يُكذّبه الواقع الحداثي الذي يمنح أتباع الديانات المختلفة مساحات من حرية الحركة والعمل والتعايش لا تُمنح لهم في أوطانهم الأصلية، فالحداثة ليست تنظيرا مطلقا لجدلية فكرية عميقة في علاقتنا بالآخر، والطرح النظري للحداثة ومحاولات تطبيقها ليس معناه مصادمة أو مفاضلة مع الوحي.

وأسهم في انتشار تلك المغالطة محاولات بعض الحداثيين العرب تقديم الحداثة بوجهٍ واحدٍ يدعو للقطيعة مع التراث، ويراها بديلا عن الدين، وهذا يتنافى مع الحداثة حتى في نسختها الغربية التي سعى بعض منظريها مثل سبينوزا وديكارت وكانط وبول ريكور إلى عقلنة الدين وليس نفيه؛ فالحداثة ليست ذات موقف واحد ثابت من الدين، فمن المغالطة اختزال الحداثة في مفهوم أو تجربة بعينها؛ لنقول: انظروا إلى بشاعة الممارسة، وتناقض المفهوم مع الدين، فهذا طرْح المنفعل الغاضب الذي يحاول تقديم عواطفه في إطار موضوعي.

رابعها: تجاهل أهم السمات المميزة للحداثة الغربية من كونها تحوّلات ذاتية إنمائية تراكمية قام بها الغرب نتيجة حراك فكري داخلى تلبية لتساؤلات حاضره وتطويرا لتجارب مجتمعه، فالحداثة لا تُفرض من الخارج على مجتمع لمّا يُدرك بعد حاجته إليها، فلا يجوز أن نطالب الأمة بموقف لا تعي دوافعه؛ لأنّ الموقف نتاج الثقافة أيا كان اتجاهها، والأمة محجوبة عن مناشئ الثقافة الواعية، بعد أن رسّب الخطاب الديني التقليدي في لا وعيها فكرة أن العصور الذهبية في كل شيء قد فاتت، وأنها غير قادرة عن إنجاز حاضر يتفوق على الماضي.. وللتحرر من تلك الأفكار السلبية نحتاج إلى تعزيز الشعور بالثقة في منجز الثقافة العلمية والفنية في العصر الحديث.

خامسها: نزوع المفكرين الإسلامويين إلى مثالية متعالية على الواقع تجعلهم يرفضون التفاعل النقدي مع التجارب الحداثية التي لن تخلو من قصور شأن التجارب الإنسانية، زاعمين أنهم يمتلكون تصوّرا نظريا لتجربة مثالية لمّا تتحقق.. وأمام العجز الأخلاقي للنظام العالمي الذي من أوجه عجزه: ضعف العدالة الاجتماعية، وتدهور النظام البيئي، واختلال موازين المؤسسات الدولية يجد الإسلامويون فرصة لممارسة خطابية جوفاء، زاعمين أنّهم يمتلكون البديل، متجاهلين كونهم أداة في إشعال الصراعات وعجزهم عن تقديم نموذج يحظى بالقبول الاجتماعي.

فـ”الصراع اليوم ليس صراع براهين أو أفكار، فلم يعد يصلح في هذا العصر المنطق النظري الذي يقوم على ترتيب الجمل وتنسيق الكلمات في مقدمة كبرى وصغرى لاستخراج نتيجة منطقية، ونقول هذا هو برهاننا، وإنما هو صراع نماذج وتجارب على أرض الواقع، أصبح الإنسان المؤمن في حاجة أن يُقدّم تجربته مع الإيمان في صورة تجربة حضارية واقعية محسوسة – نُشير إليها، ونقول هذه تجربة المسلم المتدين المعاصر”، فالعالم اليوم حلبة منافسة بين نماذج معرفية متنوعة يُحاول كلّ منها أن يُثبت عمليا أنه الأقدر على خدمة الإنسانية في واقعها المعاصر، والإحصائيات المستمدة من واقع تلك التجارب جزء من النتائج التي تحكم بين تلك النماذج.

سادسها: نقْل مظاهر الحداثة من نهوض بالفعل العمراني والتّقني على أوسع نطاق، وإهمال جوهرها المتمثل في استرداد الإنسان، وهذا ما جعل الحداثة العربية مشوهة على حدّ تعبير أحد المفكرين العرب “كلّ شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا، بسبب أنّ “الحداثة” الوافدة تمّ تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي – ولا أقول الحداثي – فتمّ تقبّل الشلو التقني فقط، وتمّ رفض الأساس العلمي للتقنية، بكل مكوّناته من عقلانية ونقد وإبداع… تمّ تقبّل الديمقراطية، بدون أساسها، وهو حرية الفرد، تمّ تقبّل الاقتصاد الحرّ، بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل الراعي والحامي والزعيم الملهم والرئيس المؤمن”.

ومن أوضح نماذج اجتزاء الحداثة تأسيس الدولة الحديثة في مصر، فعندما أرادت أسرة محمد على باشا بناء المملكة المصرية على غرار ممالك الغرب، يشاركها في ذلك أبناء البعثات القادمين من جامعات الغرب، بدأوا من حيث انتهى الغرب، فنقلوا قشرة الحداثة التي من مظاهرها تعدد الصحف في وقت لا يعرف عامة المصريين الكتابة والقراءة، وأنشأت الجامعة في وقتٍ لم يُسمح فيه بحرية الفكر البحثي، وكُتب الدستور المصري وبدأت الحياة النيابية والحزبية السياسية، وبدأت الأنشطة الفنية والثقافية في الظهور في وقتٍ كان يرى عامة المصريين الديمقراطية كفر، والفنون حرام، والحزبية انقسام، فلم يتجاوز حوار الحداثة إلى يومنا مستوى النخب، فعلى مدار قرنين من الزمان تعاقب على حكم مصر نسخ مكررة من أبناء أسرة محمد على، وبعدها حركة الجيش سنة ١٩٥٢ التي قدّمت ثلاث تجارب من الحكم، لم تُركز على بناء وعي الإنسان قدر ممارستها وصاية عليه ينازعها في تلك الوصاية جماعات التمايز الديني، فتوالت عشرات السنوات منذ بداية عصر النهضة، وما زالت بلادنا لم تبرح مكانها؛ فحداثتنا العربية فاشلة؛ لأنها تُمارس التطوير في القشرة السطحية، وليس في بنية الأفكار المنتجة للحداثة.

فلا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار. ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محوا كاملا، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقًا.

سابعها: ضعف الثقافة الحداثية، فما زالت على المستوى النظري نخبوية غير قادرة على التغلغل في أعماق الأوساط الأكاديمية والثقافية لما يكتنف كتاباتها من غموضٍ؛ لطبيعة الموضوعات والمسائل والنظريات شديدة التعقيد لكتّاب من بلاد ذات لغات وثقافات مختلفة، فغموض النصوص الأصلية للمفكّرين الحداثيين جعلها – على حدّ تعبير أرثر أيزابرجر – “جزءا من ثقافة النخبة وعاجزة عن اكتساب قراء جُدد”، فإذا إضفنا إلى ذلك افتقاد لغة بعض المترجمين العرب للدقة والإبداع لعدم إتقان اللغتين المنقول منها وإليها، وضعف حركة الترجمة العربية، فما تقوم بترجمته اليونان في عامٍ يزيد عما تقوم به الدول العربية مجتمعة؛ لأدركنا لماذا لا يخرج الفكر الحداثيّ خارج نادي نخبة النخبة!

ثامنها: تجاهل الطريقة التي تكوّن من خلالها الفكر الإسلامي الذي أفرزه العقل العربي عبر وسيلتين:

– تراكم اجتهادات العرب والمسلمين في فهم وحي الله إلى العالمين.

– التلاقح الثقافي بين العقل العربي وغير العربي الذي ُوجد منذ البيئة العربية الأولى، وعزّزه الإسلام بانسيابه في الدنيا، فحمل كل غير عربي قادم إلى الإسلام أجزاءً من ثقافته وعلمه وفلسفته إلى الثقافة العربية. ولم يقف الأمر عند حدود النقل الأحادي العشوائي؛ بل تعداه إلى حركة نقل جماعي منظّم عن الحضارات السابقة، ولم ير جيل صانعي الحضارة الإسلامية في مهدها الأول عيبا في ترجمة نتاج اليونان والهند والفرس وغيرهم من الأمم السابقة، فلا يوجد فكر إنساني يمكنه الحياة منعزلا، رافضا الالتفات إلى الحراك الفكري والثقافي المحيط به.

تاسعها: انشغال الحداثيين العرب بتسويق ثمار حداثة لم ينجزوها، وانشغال خصومهم بقراءة انتقائية لإبراز مساوئ تجارب حداثية لم نصنعها، وأهمل كلا الطرفين التركيز على تعزيز المبادئ والقيم التي تقوم عليها الحداثة، وفي مقدمتها: “استقلال” يمنح الإنسان حرية الاختيار والتعبير بلا وصاية، و”إبداع” يُمكّن الإنسان من الابتكار والتجديد على نحوٍ لم يُسبق إليه، و”عقلانية” هي المحكّ لكل شاردة وواردة، وترى كلّ رأي يستند إلى سلطة دون دليل عقليّ هي اعتداء على العقل.

عاشرا وأخيرا من أكبر إشكاليات واقعنا الفكري العام رفض “النقد المعرفي”، أحد أهم قيم الحداثة، ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون الثقافة الإسلامية المعاصرة – بحكم حداثيتها ومعاصرتها – أكثر قدرة على تقبّل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة، أتى الأمر على خلاف ذلك بعد أن أخذت كلمة “النقد” – بالدال – مدلول كلمة “نقض” – بالضاد – في التواصل اللغوي الاجتماعي، فصار يُنظر إلى “النقد” بوصفه هدما و”نقضا”، هكذا انتقلت دلالة السلب في كلمة “نقض” إلى كلمة “النقد”، وغُيّب المدلول الإيجابي لكلمة “نقد” الذي يُفيد معنى الفرز والتمييز، فالتفكير النقدي قائم على عمليات عقلية مستمرة؛ لتصوّر وتطبيق وتحليل وتقييم الأفكار كمقدمة لابد منها للنهوض الحضاري.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ في جامعة الأزهر

ربما تكون الثقافة العربية من الثقافات النادرة في عدم توفرها على تراتبية زمنية وتاريخية في التكوين. فالثقافة العربية من بين أكثر الثقافات التي تعرضت سيرورتها للقطع وإعادة اللصق، بسبب هيمنة المتخيل السياسي أو ظروف وملابسات إنتاجه، منذ بداية تأسيس الدولة في العهد الاموي، مروراً بالدول التي تولدت خلال مراحل تطور شكل ونظام الدولة التي أعقبت مرحلة التأسيس تلك.

تاريخياً، وفي عصر ما قبل الإسلام، أنتج الفعل الثقافي العربي، بناه ونتائجه التطورية، بوتيرة واحدة، قد تكون كسلة وهشة نعم، ولكنها تأتي كنتيجة للتطور العقلي والرؤيوي، أي من دون متخيل سياسي موجه، وهذا ما يظهره بجلاء تطور شكل ومضمون القصيدة العربية القديمة، باعتبار أنها كانت وسيلة التعبير الثقافي الوحيدة آنذاك.

وبالتحليل، نستطيع أن نعيد أسباب هذا الوضع إلى خلو حياة الجزيرة العربية (موطن العرب) من شكل الدولة وبناها السياسية، أي إن مصادر ومفاعيل العملية الثقافية لم تكن تخضع لأي شكل من أشكال المتخيل السياسي وتوجيهاته. وفي الفترات والبقع التي توفر فيها الشكل البسيط للدولة، فهو أيضاً لم يأت مصحوباً بمتخيل سياسي وايديولوجي، إنما اقتصر على هيئة بناء دارة الحاكم أو الملك ومن يحيطون به من أذرع تنفيذ شكل هيبته.

المتخيل السياسي رافق ظهور دولة الإسلام في حياة العرب، وتطور إلى فاعل ثقافي موجه مع بروز الدولة الأموية وظهورها كفاعل سياسي في المحيط الذي قامت فيه ومارست فيه سلطتها. وهذا يعني أن ما يمكن أن نسميه بالبنى الثقافية العربية، التي مثلت بدايات المشروع الثقافي العربي، قد نشأت وترعرعت تحت هيمنة المتخيل السياسي ومقاصده ولم يأت كعملية تطورية لنضوج عقل حر تمام الحرية.

أما ما يمكن أن ندعوه بالفضول المعرفي، المؤسس للحراك للثقافي، فقد جاء كنتيجة لتوسع رقعة الفتوحات الإسلامية والتلاقح الثقافي الذي أفرزه احتكاك العرب بأقوام البلاد التي فتحوها، ولم يأت كنتيجة تطورية لنضوج (مملكة العقل العربي).

وكما يقول الجزائري، محمد أراكون، (فإن العقل لا يمارس دوره بشكل مستقل، بل يمارس دوره وفعله على علاقة بالخيال والمتخيل)، وهذا يعني أن البنى الثقافية العربية ظلت حبيسة أفق المتخيل السياسي حتى عام 142 هجرية، أي حتى تأسيس الدولة العباسية وبداية عهد التدوين والترجمة من الثقافات الأخرى.

وتاريخ عهد التدوين والترجمة هذا لا يعني تحرر العقل العربي من المتخيل السياسي، لأن عملية الانفتاح هذه سرعان ما قوبلت بردات فعل متطرفة من الفقهاء الذين انبرى أغلبهم لتحريم الفلسفة والفنون، كالغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه المعروف (تهافت الفلاسفة)،  وكذلك فعل ابن خلدون من بعده في مقدمته الشهيرة التي تحتوي على فصل بعنوان: (في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها)، وفيه يقول بالحرف الواحد: وضررها في الدين كثير، فوجب أن يُصدع الحق بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق فيها.

وهكذا استمر الحال، حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول ووصولاً إلى عقد الخمسينات من القرن الماضي، عقد التحرر من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وعقد سيطرة الأنظمة التي أطلقت على نفسها تسمية ثورية، التي فرضت أحزابها المؤدلجة متخيلاً سياسياً أكثر فظاظة وأعمق رقابة على مفاعيل العمليات الثقافية، تحت فكرة شديدة الشبه بفكرة اللاهوت القائلة بوجوب الإيمان الذي يجب أن يسبق التفكير لينتج التفكير السليم والمتعقل. وطبعاً الايمان الذي طالبت به تلك الأنظمة هو الايمان بايديولوجيات أحزابها ورؤاها السياسية لا غير، مع شرط التخلي عن التحليل والتشريح الفكريين.

وآثار هذه المرحلة الانفعالية مازالت مستمرة وفاعلة إلى يومنا هذا (في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا على الأقل)، وهي كانت بمثابة عملية قطع جائرة لطريق السيرورة التاريخية لبناء أي مشروع ثقافي، لأنها حاربت كل ما سبقها من مرتكزات ثقافية ناشئة، بحجة محاربة الاقطاع (الرجعية الفكرية)، الذي خلطت تحت يافطته البورجوازية الاجتماعية (وهي كانت تجارية – ثقافية وليست رأسمالية كحالها في اوربا)، تلك الطبقة المتعلمة التي كانت بالفعل قد بدأت بإرساء بنى مشروع ثقافي مدني مستقل.

مشكلة المتخيل السياسي متأتية من معاداته وصدامه مع المعرفة. فالطبقات السياسية العربية جميعها، وبغض النظر عن خلفياتها وتوجهاتها الأيديولوجية، تخاف المعرفة أكثر من خوفها رصاص البنادق، لأنها تعرف أن المعارف المفتوحة تقود إلى إرساء البنى الثقافية المتنورة والمتمردة على كل أشكال الجمود والتقليد. ولأن الطبقات السياسية العربية مصرة على التمسك بثقافتها السياسية الضحلة وداومت على سحق أي (بورجوازية ثقافية) ومنعتها من النمو والتمظهر، ظلت البنى الثقافية (أغلبها نتاج فردي ولا يحتويه التنظيم المؤسساتي/الجمعي المستقل) تدور في الحقل المفاهيمي العسير على التطبيق، لعدم تبنيها من قبل مؤسسات الدولة، بل ولتسفيه مؤسسات الدولة لطروحاتها، بحجج الطوباوية وغربتها عن (ثقافة المجتمع).

مشكلة المتخيل السياسي العربي هي إنه يجعل مقولاته والعقل الذي ينتجها هي المعيار. وطبعاً تخلع على الحاكم الذي أنتجه نوعاً من القدسية (بل هي في أغلب الأحيان قداسة أشد ضراوة من قداسة اللاهوتي)، وعليه فإنه يرتقي – المتخيل - إلى مرتبة المقدس الذي لا يجب أن يمس، وأن يكافح من يجرؤ على الاقتراب منه أو مسه بالسجن أو القتل.

ومن نافلة القول أن نذكر هنا، أن قداسة الحاكم ومقولته هي موجهة ضد (اجتماعية) المعرفة، لأن إيمان مجتمع ما بسلطة معرفية ما إنما يعني تحويلها إلى رؤية ونسق ثقافيين. والمتخيل السياسي الثابت يقول أن أي رؤية أو مشروع ثقافي ينتج من خارج قصر السلطة (الدولة) إنما هو يستهدف سلطة الحاكم ويهدف إلى سحب كرسي الحكم من تحته، في عقل الحاكم وحاشيته، وتخريب بناء ووحدة المجتمع وعقائده وتراثه، في وسائل الاعلام.

والمتخيل السياسي العربي لا يكتفي بتسويق رؤيته هذه، كمشروع ثقافي، بل يعادي أي طرح مغاير ومختلف معها، وخاصة إذا ما كان الطرح المختلف حداثوياً ويدعو أو يتمرد على تاريخ التقليد، ويدعو إلى الخروج إلى تاريخ العقل والحداثة المستقلين، بحجة معارضته وتشويهه للوحدة والثقافة المجتمعية. وهو بهذا لا يدفع باتجاه التماثل مع رؤيته، بل يسهر على أن تتماهى جميع الأصوات في صوته كي يكسبه درجة اليقين والتقديس والتأبد في السلطة طبعاً، وهذه هي الغاية الكبرى التي ولد من أجلها المتخيل السياسي.

وهذا الفهم القائم على الخوف هو الذي وقف خلف فكرة رفض التجاور الفكري والثقافي بين الرؤى والطروحات، (ومنذ العقود الأولى لتأسيس شكل الدولة العربية)، مع أغلب مشاريع التنوير والتحديث التي تنتجها العقول المستقلة، من خارج دائرة المتخيل السياسي.

ومن هذا نخلص إلى أن المشروع الثقافي العربي قد خضع، ومنذ بداياته، لشواغل المتخيل السياسي والايديولوجي الظرفي، وهذا ما جعله، على مستوى الإنتاج، رهن لعملية اجترار وإعادة إنتاج لذات القوالب والمحددات ودون إرساء لقواعد ثابتة (محركات الفعل الثقافي) تؤسس لمشروع يبلور وجه (تمظهر) ثقافي محدد، يعكس بنى وعي المجتمعات العربية وتوجهاتها الحقيقية.

***

د. سامي البدري

في المثقف اليوم