أقلام فكرية

أقلام فكرية

من بين الأشياء التي يعرفها معظم الناس عن الزمن هو انه لا يوجد له فهم كافي، وان المشكلة تزداد سوءاً. الشاعر الانجليزي اوستن دوبسن Austin Dobson قال "الساعات الآن تهرب بسرعة كبيرة"، كان يشكو في عام 1882 من حنينه للايام التي كانت قبل الضوء الكهربائي. هو يستمر بالقول "فسحة ضئيلة لدينا لتأجيل الفنون"، مع انه كان لديه وقتا كافيا لإنتاج عدد لا يستهان به من القصائد والكتب والمقالات، رغم انشغاله لمدة 45 سنة في العمل الوظيفي. بالنسبة لبعض الفلاسفة والفيزيائيين ذوي الميول الفلسفية، يرون ان التفكير حول الزمن هو وظيفتهم اليوم، او على الاقل جزءاً منها.

ومع ان بعض القضايا التي نفكر بها هي جديدة وتقنية، ومرتبطة بالتطورات الاخيرة في الفيزياء، لكن بعضها يسهل فهمها من جانب أي فرد مستعد للتفكير الشاق حول الزمن ووجوهه المتناقضة.

ما الفرق الذي يحدثه اليوم

لنفكر مليا حول ما قمنا به يوم أمس. سنكون قادرين على تخصيص أحداث اليوم وفعالياته الى أوقات، كما لو قمنا بتسجيل كل شيء في كتاب. مقدار ما نضعه في الكتاب ومدى ارتباطه بالزمن يعتمد على قوة ذاكرتنا وعلى العوامل الاخرى المساعدة .

الآن لنفكر في اليوم، انها مسألة مختلفة كليا. انها حدوث حقيقي يحصل الآن، في زمن واقعي، كما وانت تقرأ هذه الكلمات، تيار حي ومتغير من التجربة، ليس سلسلة ثابتة من الاطر.

لغز الزمن الأقدم

المقارنة بين هاتين الرؤيتين للزمن هي جوهر أقدم الألغاز في الفلسفة والفيزياء. احدى الرؤى تنظر للزمن فقط مثلما نعيشه، عملية حية من التدفق والتغيير. (كل شيء يتدفق، حسب تعبير الفيلسوف اليوناني هيرقليطس عام 500 قبل الميلاد).

الرؤية الاخرى ترى الزمن كطريقة لوصفه في التاريخ، كسلسلة ثابتة غير متغيرة من الأحداث انتظمت في ترتيب معين. (هنا الفضل يعود لبارمنديس الفيلسوف اليوناني الذي جادل ان الوجود موحّد وبلازمن، وان التغيير مستحيل).

أي الرؤيتين أصح؟ هذه لازالت قضية للنقاش الساخن في الفلسفة، وهيرقليطس وبارمنديس كلاهما له مؤيدين معاصرين.

الفلاسفة في معسكر بارمنديس يجدون دعما قويا من الفيزياء الحديثة ، حيث يعلن الفيزيائيون انفسهم انهم يفضلون الصورة الثابتة.

الرياضي والفيزيائي الألماني هيرمان وي Hermann wey (1885-1955) أصر على ان بارمنديس كان صائبا.

ونفس الشيء، في رسالة تعزية كتبها اينشتاين الى عائلة صديق قديم ، ميشيل بيشو، هو يقول ان الماضي والحاضر والمستقبل كلها واقعية بنفس المقدار ولكن فقط من منظورنا البشري الذي يبدو فيه الماضي ضائعا. "نحن الفيزيائيون ندرك ان الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط كإصرار عنيد متواصل للوهم". (الفيلسوف كارل بوبر سمى اينشتاين برمنديس الفيزياء الحديثة).

الفيزيائي النمساوي الكبير Ludwig Boltzmann (1844-1906) يحقق في فكرة ان الزمن له اتجاه: "بالنسبة للكون، اتجاها الزمن لايمكن التمييز بينهما، تماما كما في المكان لا وجود فيه لصعود ونزول".

ولكن حتى الفيزيائيين لايوجد بينهم إجماع، والبعض يشعر ان الفيزياء ضاع منها شيء. الفيزيائيون المعاصرون مثل لي سموان Lee smolin، والكوزمولوجي جورج ايلس George Ellis، يجادلان ان هناك جزء ضائع، غائب من الفيزياء ، مطابق لتدفق هيرقليطس. والفيزيائي الفلكي سر ارثر ادنكتون Sir Arthur Eddington (1882-1944)، الذي هو اول من صاغ عبارة (سهم الزمن)، ايضا اعتقد ان تجربة الانسان بالزمن توفر رؤية لخاصية الواقع التي ضاعت من رؤية اينشتاين البرمنديسية.

طريق ثالث

كلا الجانبين في هذا الجدال القديم يؤكدان وبشكل بديهي ان كلا الرؤيتين غير منسجمتين – اي ان احدى الرؤيتين فقط يمكن ان تكون صحيحة عن طبيعة الزمن. ولكن هل الامر حقا كذلك؟ هناك خيار ثالث يرى ان الرؤتين هما فقط طريقتان مختلفتان يصفان نفس الشيء. واحدة، رؤية هيرقليطس "اليوم"، هي وصف من رؤية للحظة معينة ضمن الزمن. الاخرى، رؤية برمنديس "امس"، هي وصف ليس من وجهة نظر معينة من "خارج" الزمن . لكنهما كلتاهما صحيحتان، هما مختلفتان فقط. هنا مقارنة شائعة. لو سألنا طفلا منْ هم الناس الذين يراهم في صورة عائلته المباشرة، هو سيعطينا أجوبة من وجهة نظره هو: "تلك امه، عمه، اخته الصغيرة".

الآن لنسأل شخصا لا صلة له بالعائلة، سنحصل على جواب مختلف : "ذلك زيد، اخوه علي، اخته جنان، ابنته بلقيس". هذه الاجوبة مختلفة لكن اي منها ليس خاطئا. هما ببساطة يصفان نفس الشيء من وجهة نظر مختلفة. احدهما هو وصف من داخل العائلة – في الحقيقة، من منظور معين للطفل. الآخر هو وصف من خارج العائلة. لكنهما كلاهما صحيحان. المكان هو مشابه جدا. انظر في الفرق بين رؤيتك عن جيرانك حين تقف في زاوية شارع معين، ورؤية خارطة لنفس المنطقة.

واحدة تعطي رؤية من نقطة ضمن منطقة جغرافية، الاخرى تعطي رؤية من خارج تلك المنطقة. مرة اخرى، كلا الوصفين لنفس الواقع هما مختلفان لكنهما كلاهما صحيحان.

لماذا يبدو الزمن مختلفا؟

في حالة العائلة والجيران، هم كانوا قادرين في الحركة الى الامام والى الخلف بين الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج – بين تمثيلات منظورية وغير منظورية، كما يقول الفلاسفة. لا احد يرغب القول ان هناك تصورات مختلفة جدا للعوائل او للمكان متجسدة بهاتين الطريقتين من تمثيل هذه الاشياء. لماذا اذاً في حالة الزمن، الاختلاف جعل الناس مقيدين جدا كما لو انهم مشدودين في عقدة؟

ان الاختلاف له علاقة بالتغيير. بالنسبة للعوائل والجيران من السهل الاستفادة من رؤية ثابتة من الداخل: العلاقات الثابتة هي موقع طفل معين بالنسبة لكل شخص آخر في العائلة، او وجهة النظر الثابتة من زاوية شارع معين.

ولكن في الزمن، لايوجد مثل هذا الثبات. لو حاولت فقط عدم الحركة، انت سوف تُحمل من "الآن" الى آن آخر. او ربما انت لا تتحرك، و"الآنات" تتبع الماضي واحدا بعد الآخر. في كل الاحوال، انت تعتقد ان هناك شيء منفرد - أنت- الذي يشغل على التوالي مختلف الآنات، مختلف زوايا النظر ضمن الزمن.

هل الزمن يسير ام نحن؟

عندما نكون في قبضة هذا الوهم، اسئلة قوية تبدو ممكنة. هل حقا الزمن يتحرك ام نحن؟

الشاعر اوستن دوبسن Austin Dobson اعتقد انه عرف الجواب. أضاف قوة للفكرة، هو حوّلها الى تذكير ممتع براهنيتنا المؤقتة:

نحن خداع عيون

الناس الذين تطير أقدامهم

نحن نمر ونعتقد اننا نرى

سطح الارض الثابت يتحرك

للأسف الزمن يبقى، نحن نذهب

لاشيء يتحرك، لا الزمن ولا نحن. هاد فاوست أخذ الفكرة بجدية اكبر،

ما أعلنه هو ان لحظته التامة، مثل كل اللحظات، لها نوع من الخلود مهما حدث.

انها دائما هناك في التاريخ، صحيحة أينما تكون – لا يمكن لشاعر او فيلسوف او فيزيائي او أي قوة سحرية ان تجعلها غير ذلك.

***

حاتم حميد محسن

هيجل والجدل

يصنف دارسي فلسفة هيجل انها قامت على ثلاثة ركائز هي المنطق، والطبيعة، والروح، معتبرا الطبيعة هي (تخارج) العقل بالمكان، والروح أوالتاريخ هو تخارج العقل في الزمان.

السؤال لماذا استخدم هيجل لفظة (تخارج) بدلا من لفظة (جدل)؟

تخارج العقل مع الطبيعة هو تخارج تكامل (معرفي) وليس تضادا جدليا، فعلى قدر اعطاء العقل موجودات الطبيعة من ادراك معرفي، تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير العقل معرفيا ايضا. التخارج المعرفي لا يقوم على مجانسة نوعية بين العقل والطبيعة بدلا من جدل غير حاصل على صعيد علاقة العقل بالطبيعة كبنية ادراكية شاملة او كموضوعات وجودية منفصلة بصفات وماهيات مختلفة. التخارج الجدلي بين العقل في ادراك تجريد التعبير اللغوي الصادر عنه هو من نوع وعي قصدي معرفي.

اما ان العقل يدرك علاقته بالاشياء جدليا فهذا يلزم العقل بتفكيره التجريدي الدخول في جدلية تجمع الفكر بالمادة المدركة في تضاد يجمع نقيضين في مجانسة نوعية واحدة لانتاج مركب ثالث. لا اعتقد جدل الفكر مع الواقع يقوم على تضاد يجمع نقيضين متجانسين بالماهية والصفات، بل يدخلان بعلاقة تخارج معرفي كما سبق وذكرنا.

هيجل علاقة الجدل بين المنطق والعقل

يصنف بعض الفلاسفة وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم مظاهر الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع.

صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس. الجدل ليس ناتج تناقض مادي مصدره عقل الانسان وانما مصدره واقع مسيرة الحياة.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خاصية تفكيرية بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها من المحيط. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

ليس من المعقول منطقيا فلسفيا وحتى عضويا بيولوجيا ان نحصر خاصية العقل الاساسية انها خاصية جدلية فطرية وليست مكتسبة من الواقع. السيرورة الطبيعية في تقدم الحياة هي التي تملي على التفكير العقلي صفته المادية الجدلية او صفته المثالية المجردة.

جوهر فلسفة هيجل هو(المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوّغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له بمعيارية الاختلاف مع موضوعها.عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل. انما هو – هيجل – يعمد الى تصنيع مقولات العقل المنطقية في اسبقيتها على الواقع. المنطق نسق مهمته تفسير وفهم الحياة ولا يهتم المنطق ان يجعل موضوع تفكيره العقل.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق الجدلي.

بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. وكلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته في ان الجدل حاصل سواء بالفكر او بالواقع.

كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه؟

الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها. الجدل كقانون تفسيري وضعي يختلف عن القوانين الطبيعية الثابتة التي لا يستطيع الانسان باردته المحدودة التداخل معها.

فقانون الجدل يحكم حياة الانسان العملية واقعيا ولا يحكم الجدل الطبيعة بما هي طبيعة طابعة التي هي حسب تعبير اسبينوزا هي مايكون متصورا بذاته ومحصورا بذاته.. مثلما يعجز العقل عن تغيير مباديء الرياضيات والفيزياء والكيمياء كقوانين ثابتة قابلة للتطوير لكنه اي العقل يعجز ان يفهم كل ظاهرة بالحياة والطبيعة جدليا.

الحقيقة والمنطق

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.

ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة. وهو منطق فلسفي صحيح جدا.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية.

الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها وعيا لغويا، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء.

لذا تكون مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كنسق مفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي :

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي. ولا يعني هذا الانسياق بالخطأ ان جميع المحسوسات التي مصدرها الحواس لاقيمة لها. لاننا بهذا الفهم الاعتباطي الساذج نلغي وجود منظومة عقلية ماهيتها التفكير وتزويدنا بالمعرفة عن عالمنا وعن موجودات الطبيعة والحياة من حولنا كافة.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

المثالية بالتفكير ليست خاطئة تماما

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا.

بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة.

فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية،كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

منطق الحكم

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصورلا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

- في لغة المناطقة الذي ينكرالاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

برادلي ومطلق المثالية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر.1

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته. معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان : الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله : المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة. 2

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر(الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش:

1. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص54

2. نفسه ص 255

يعني امتلاك هوية أن يكون لديك ارتباط متكامل بمجموعة ثابته ذات صلة بمعتقدات ورغبات وأفعال. ونظرًا لأن هذه المعتقدات والرغبات والأفعال تٌبنى وتستدام اجتماعيًا، فإن الحصول على هوية مرتبط بشكل متكامل أيضًا بجميع أولئك الذين يشاركون الإطار المفاهيمي الذي يولد هذه المعتقدات والرغبات والأفعال. أن يكون لديك هوية ليس فقط أن تكون لديك لغة ولكن أيضًا مجتمع يمكن ان تندمج معه. وهو أن نعيش في عالم مشترك، عالم محدد بمفردات لغة مشتركة، يولد مجموعة معينة من التوجهات التي تدفعنا إلى التصرف بطريقة ما بدلاً من طرق أخرى. أزعم أن هذه تشكل شروطً الحد الأدنى لهوية الإنسان.

الهويات الدينية

إن ادنى إطلاع على الأديان دليل كاف على أن مفهومنا الغالب للهوية الدينية يضعها بقوة ضمن ثقافة المثل العليا. إن الحصول على هوية دينية هو امتلاك إطار أو نطاق يمكّننا من التمييز النوعي بين ما هو هام وما هو زهيد، وما هو ذو قيمة قوية أومجرد مرغوب فيه، ومتفوق وأدنى، ومقدس ومدنس، وخير أعلى وشر مطلق، ومثير للإعجاب ومزري، وماهو رائع وماهو خسيس. باختصار، مُثُلنا النهائية وعكسها، بما في ذلك ما هو مجرد شيء ممتع، أو مفيد ولكن ليس ذا أهمية دائمة وغالبة.

تبني الأديان صورتها الخاصة عن الوجود، الجحيم والنعيم، الأضطراب والتشوش، والرغبات التي تتلاشى والفوضى التي لا قيمة لها وغيرها. إن أكبر مخاوف جميع الأديان هو أن يسقط العالم في حالة من حرب الجميع ضد الجميع، وتنتهك فيها  القيم السامية. وأن فقدان الهوية الدينية هو السقوط من ثقافة المثل العليا إلى ثقافة الرغبة المطلقة.

هل هذا هو الشكل الوحيد المتاح للهوية الدينية، هوية تشكلت من مُثُل عليا في معارضة مباشرة لهوية ضعيفة وغير مستقرة مكونة من الرغبات؟ يقدم غيرتز، في كتاب صغير لامع، أختلافا مهمًا بين   المتدين الورع  واللاهوتي، وبوصف الأخير حصيلة لإدلجة الدين.[1] وكذلك، يفرق ناندي، في مقال شديد التأثير، التعصب الديني عن شكلين آخرين من الدين، الدين كإيمان والدين كإيديولوجيا.[2] ووبناء عليه، من المفترض أن هناك ثلاثة أنواع من الهويات الدينية، هوية المتعصب، والمؤمن، وأخيرًا، الأيديولوجي الديني. فيما يلي، سأحاول أولاً استكشاف هذه الأنواع الثلاثة المختلفة من الهويات الدينية. وسأضيف إلى هؤلاء ثلاثة أنواع أخرى: الدين كروحانية حية (الروحانية الدينية) ، والتدين بلا روح، وما أسميه، الدين باعتباره تقليد.

ما هي هوية المؤمن؟ ليس من المستغرب أن الإيمان مصطلح مراوغ. اعتبر فلاسفة الدين الإيمان إما أحد أشكال الأعتقاد أو الثقة أو كليهما. أو أنه مجرد شكل من الاعتقاد النظري، ومجموعة من العبارات المتعلقة بوجود الله والتي تعتبر صحيحة أو صادقة.[3] فالإيمان هو الأعتقاد بوجود الله. وهو شكل من أشكال الثقة. ولايعني أن الشخص الذي يؤمن لديه نظرية عن الله بقدر ما يثق به. إذن ليس الإيمان مسألة قناعات بل هو بالأحرى مسألة موقف وتوجه.أما بالنسبة للبراغماتيين مثل باسكال وجيمس، فإن الإيمان هو مسألة ثقة بالكامل وتقوم على التفكير الاحتمالي والعملي وليس الاستنتاجي والنظري. يبدو من الواضح  هنا أن الشخص المؤمن هو متدين ويعيش حياته يثق بالله.

لا يعني الإيمان، وفقًا لويلفريد كانتويل سميث، أن نقول عبارات عما نؤمن به يمكن أن تكون صحيحًة أو خاطئًة، وليس للتعبير عن رأي ولكن أن يكريس المرء نفسه لكل ما يؤمن به.[4] يتعلق قلبه فيه ويحبه، وينجذب إليه بقوة. المؤمن هو الذي يحب ما يؤمن به، ويكون مخلص له تمامًا، وليس ذاك الذي لديه معتقدات نظرية. أذن، تتكون شروط الحد الأدنى للهوية من معتقدات ورغبات وأفعال ذات صلة بالشخص. فتتشكل هوية الشخص المؤمن من إيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بوجود الله أو بإمكانية وجود عالم تحكمه مُثُل عليا. علاوة على ذلك، فهو يحب الله ويكرس نفسه للأمر الألهي أو لمثله العليًا. يعزز الإيمان الراسخ بالمثل العليًا وحبها كل منهما الآخر. وكذلك، يكون الحب والتفاني أو التقوى من المشاعر القوية التي لها سيطرة قوية على الشخص الذي يجربها أويواجهها.[5] ويكون الشخص المتدين في قبضة هذه المشاعر العارمة التي تدوم طويلاً وتؤثر عليه بعمق. هذه المشاعر هي التي تعطي سببًا ومبررا للعيش، ومعنى واتجاهًا لحياة الرجل أو المرأة المؤمنة. يختلف عالم الإيمان والحب والإخلاص هذا ويتفوق، ضمنيًا أو صريحًا عند المؤمن على العالم الدنيوي اليومي الذي تحكمه الرغبات العادية.

هل يستغرق هذا الذي اسلفنا ما يطرحه ناندي؟[6] يبدو لا، لأن الإيمان، حسب رايه، هو أسلوب حياة  وليس مسألة معتقدات وتفاني فقط. لا يقول ناندي عن هذا الأ القليل ومع ذلك يمكن تخمين رأيه  ضمنيًا. لقد قلت أعلاه أن شخصًا مؤمنًا يعني لديه معتقدات راسخة. لكن يمكن أن تعني صلابة المعتقدات شيئًا مختلفًا تمامًا عن الشحنة العاطفية المذكورة في الفقرة السابقة أيضًا. وكما أشار فيتجنشتاين، فإن صلابة المعتقدات ليست مسألة شدًة الشعور الذي يتمسك به الشخص.[7] فليس التمسك بالمعتقد هو الشعور به بقوة ولكن عندما يوجه حياة الفرد بأكملها. أن يكون لديك معتقدات راسخة هو ممارستها في الأفعال بحيث تكون هذه المعتقدات جزء طبيعي من الأفعال؛ وتتجلى في اسلوب حياتك. يقول كولاكوفسكي ما مفاده أن غاية الدين غالبًا ما تُفقد عند ما يٌعبر عنه بمصطلحات عقائدية، فليس الدين "مجموعة من الافتراضات أو القضايا ولكنه أسلوب حياة يظهر فيه الفهم والإيمان والالتزام معًا في فعل واحد".[8] إن يكون لديك إيمان، إذن، هو أن تتشكل هويتك من خلال تلك الممارسات التي ينشأ فيها الفهم والأعتقاد والالتزام معًا.

ومع ذلك، فإن ناندي يعني شيئًا أكثر من ذلك. فالدين، بالنسبة له كإيمان "ليس كتلة واحدة متجانسة ولكن متعدد عمليًا''.[9] تبدو لي هذه عبارات غامضة إلى حد ما، لكنها توضح أنه قد جعل الإيمان ليس مجرد أسلوب حياة ولكنه يتضمن عدة طرق مختلفة للحياة. وقد مضى يقول، ما لم يكن الدين محصورًا جغرافيًا وثقافيًا في منطقة صغيرة، فلديه أسلوب حياة يتحول، في الواقع، إلى اتحاد لعدد من أساليب الحياة التي ترتبط بعقيدة مشتركة لديها مساحة للتنوع في الحياة اليومية.[10]

يبدو لي أن هناك شئ من الحقيقة في قوله هذا ولكن على المرء أن يتوخى الحذر في قبوله. وذلك لأن الأديان  التوحيدية عندما ظهرت في مناطقصغيرة، فإنها تتضمن في داخلها ميلًا للانتشار. ويتوقف كل هذا على السياق والفرصة. يشير غيرتز إلى النقطة نفسها التي ذكرها ناندي ويدرك التناقضات الدائمة للإيمان الديني وهي بالنسبة له:

مهما كانت الشمولية والعالمية التي تنجح هذه التقاليد الدينية في تحقيقها، فإنها تنشأ من قدرتها على إشراك مجموعة واسعة من المفاهيم الفردية، والخصوصية، للحياة ودعم تفاصيلها والحفاظ عليها بطريقة ما. قد تكون النتيجة عندما تنجح في ذلك تشويه هذه الرؤى الشخصية في كثير من الأحيان كما قد تكون إثراء لها، ولكن على أيً حال، سواء كان تشويه للمعتقدات الخاصة أو تحسينها، فإن هذه التقاليد الدينية عادة ما تزدهر. ولكن، عندما تفشل في التعامل معها أو السيطرة عليها  فإنها إما تتحول إلى حالة من التمسك الشديد بتعاليمها، أو تتبخر إلى مثالية أو تتضائل إلى انتقائية.[11]

إن التقارب بين العديد من الأديان بقدر ما هو إثراء هو عملية تشويه. فلا ينتج عن تعميم الأديان، مهما كانت أسبابه خارجيًة أو داخليًة بالكامل، تعددية سعيدة، بل ينتج وحدة خطرة أيضًا مع كل ما يصاحبها من تشوهات للهوية. ولكن رغم هذا الحذر، علينا أن نعترف ايضًا بأن الدين يمكن أن يجسد تعددية في أساليب الحياة المحلية، وأنه بوصفه تعدديًا يحتوي على بذور التسامح. لا يمكن تشكيل مثل هذا الدين من خلال ثقافة مُبسطة ذات مُثُل عليا مع رؤية آحادية متناقضة مع الآخر، وثقافة الرغبة غير المقيدة، ولكن أنْ يشبه العالم الثقافي للقيم المتعددة. في المقابل، أنْ تعكس الهوية الدينية  هذه التعددية والتسامح التي أنتجتها، وأن توفق و تستوعب عددًا من القيم التي تبدو غير متوافقة أو متضاربة.

الدين كإيمان، إذن، هو شكل من أشكال الحب أو الثقة أو الأعتقاد أو أسلوب حياة. يمكن أن يكون متجانس أو تعددي، عام أو خاص، ومسبب للأنقسام أو التكامل. وغالبًا ما يتم وضعه بقوة داخل ثقافة ذات مُثُل عالية، ولكنه قد يشبه أيضًا إلى حد كبير شكلاً من أشكال الحياة الموجودة داخل ثقافة ذات قيم متعددة. وبالتالي، فإن الهويات التي يولدها أو يحافظ عليها متنوعة كتنوع ممثليها.

كيف يختلف الدين كإيمان عن الدين كأيديولوجيا؟ كيف تختلف هوية الأيديولوجي الديني عن هوية المؤمن؟ يقدم غيرتز لنا دليلًا ، قائلًا: بينما يخضع الشخص المتدين لدينه، فإن الأيديولوجي الديني يُخضع الدين له.[12] تبدأ ادلجة الدين عندما يبدأ اليقين في الإيمان بالتداعي أو الترنح. وعندما تضعف وترخي المشاعر القوية المؤمنة بعالم يقوم على القيم المطلقة قبضتها. وتبدأ الهوة بالظهور بين عمليات الفهم والإيمان، بين الإيمان والالتزام. وعلى حد تعبير غيرتز،"يجد الناس صعوبة في جعل الطقوس والرموز الدينية تعمل وتحق نتيجة معبرة عن ذلك الإيمان، ويصعب عليهم أكثر استخلاص المعنى والإحساس منها للتحرك  بإتجاه الحقائق العميقة التي تحدد طبيعة العقل الديني ونطاقه".[13] يبدأ الحب، والإخلاص، والثقة، وخاصيًة الرموز الدينية في إفساح المجال للشك، ولكن ليس الشك تمامًا في أن الدين مستودع للباطل والزيف والخداع والتضليل، ولكن الشك في الأسلوب أو الطريقة التي يُفترض بها  أو يصطنع حتى الآن. فما أن يصبح الدين مسألة اعتقاد نظري مثل أي معتقد آخر، حتى يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يقع في نطاق الأدلة واثباتاتها والحجج ومنطقها. وبمجرد أن يصبح مجموعة من القضايا والافتراضات، فقد يحتمل أن يكون، مثل أي تعبير آخر، زائفًا، وبالتالي، يصبح في مواجهة التهديد في أن يكون عقائديًا ودوغمائيا بشكل متزايد. وتكون له صفات أو سمات مشتركة مع اي معتقد آخرأولاً ثم يكتسب صفة الأيديولوجية.

وبهذه الحالة المعروضة أعلاه يفقد الأيديولوجي الديني هويته الدينية المؤمنة بالفعل. فظهور الأيديولوجيات الدينية هو أحد أعراض أزمة الإيمان الديني. لم تعد هوية الأيديولوجي الديني راسخة بقوة في المثل العليًا. فالعلاقة بين هذه المثل العليًا وممارستها قد قُطعت بالفعل. وتتجه أفعاله وتُقاد أكثر فأكثر بالرغبات والمصالح الاقتصادية أو السياسية. قد يقدم سببًا دينيًا لكل ما يفعله ولكن يعود هذا السبب في حقيقته الى الرغبات والمصالح. فحتى في حالات أدعاء أرتباط السبب الديني والمصلحي معا ويُنظر إلى المعتقدات والقيم الدينية على أنها السبب الرئيس للفعل، فغالبًا ما لا يكون هذا الارتباط من النوع الصحيح. تحوم المثل العليا فوق الأفعال البشرية التي تحددها المعتقدات والرغبات العادية. فتتشكل هوية الأيديولوجي الديني بشكل أقل في إطار المثل العليًا ولكن أكثر في الرغبة غير المقيدة. وعلى الرغم من أنها تحمل ظل هذه المٌثل إلا أنها في الواقع لا تتشكل من المثال الديني. فتعاني الهوية الدينية لمثل هذا الشخص من الأزمات.

وماذا عن المتعصب الديني؟ المتعصب هو من يقبل أن أهمية الإيمان، وربما حتى الأيديلوجية الدينية، قد تم تجاوزها وانتهت. ومن المحتمل أنه يدرك أن كلاهما قد مات ودُفن، وفي أحسن الأحوال، يمكن إحياءهما في شكل مختلف تمامًا. إنه يعيش في ظل ثقافة الرغبة غير المقيدة ويعتبر استعادة أو إنشاء نظام ديني مشروعه الأساس. ويتحدث عادة عن العودة إلى حالة الكمال الأصلية أو إلى زمن أتخذ فيه مجتمعه منعطفًا خاطئًا. إنه يختار الأسس الخالدة لدينه التي يريدها أن تحكم حياته وحياة الآخرين في المستقبل. ويحدد هويته طبقا لهذا المشروع  الذي يراه غير منجز يعد. إنه متأثر برغبة دنيوية في السلطة وإحساس مؤلم بالأذى الحقيقي أو المتخيل، وبالموقف الخاص للضحية، وبأولئك الذين تم إهمالهم، والذين لا ينتمون إلى أي نظام قائم. فبينما يعتقد الأيديولوجي بشكل جزمي أن المثل العليًا هي التي توجه عمله، نجد المتعصب متشائم من أن الدافع وراء سلوك الناس هو المصلحة الذاتية؛ ولا يثق في صدقهم أو نزاهتهم. إنه ذرائعي، وواقعي سياسيًا، وغير مقيّد في استخدامه لأي وسيلة لتحقيق هدفه المزعوم، ومتمرس في دهاء وخداع الألعاب السياسية. يبرر كل شيء باسم هدفه السياسي الأكبر المتمثل في إحياء الدين. إن التعصب والأيديولوجيا شكلان متميزان يتخذان بواسطة الدين داخل ثقافة الرغبة المطلقة.

كما وعدت أعلاه أنني سأتحدث عن ثلاثة أنواع أخرى من الهويات الدينية. أولا ما يمكن تسميته بالدين اللا روحاني وهو معروف جيدًا. فيكفي أن نقول إنه مجموعة من الممارسات الدينية التي انتزع منها الدافع الحي الأصلي. لقد أطلع الكثير منا على الظروف التي ولدت فيها البروتستانتية، والظروف السيئة التي دفعت إلى محاولة إجراء إصلاحات محدودة أومعتدلة في الإسلام مع من قبل الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر.

يبقى في التدين اللا روحاني، سواء في تنوعه الديني أو الطقسي، الجسد ولكن الروح الأصلية قد تلاشت.  ضاعت في مما أسميه بالدين كتقليد كل من البنية الأصلية والقصد والهدف، ويسكن تقليد ضعيف جدا و سيئ للغاية للدافع الأصلي في مجموعة جديدة تمامًا من الممارسات. وكما يقول جيمسون، فإن التقليد للدين أو الهوية اللاروحانية في عملها عبارة عن محاكاة ساخرة فارغة.[14]  فالتقليد في الدين هو نسخة عن الأصل لكن فارغة، تحمل علامات الأصطناع والزيف. وعندما يزدهر التقليد ينسى الناس ما يعنيه أن تكون لديهم تجربة دينية أو حتى ذكرى لها. لم يعد لديهم أي فكرة عما يسعون إلى تقليده. إذن، هو تقليد للدين في شكل ثقيل ومجهد للسمة المتخيلة للأصل. أنه جزء من الحنين العام للأشياء الماضية، الحنين الذي يحاول إعادة الذاكرة لما فعله أجدادنا. المتعصب لديه منظور غائي (أيً، منظور ينطوي على تفسير الظواهر من حيث الغرض الذي تخدمه بدلاً من السبب الذي نشأت من خلاله). إنه يريد أن يأتي بشيء ما بأستخدام أكثر الوسائل المتاحة له فعاليًة. ان أولئك الذين لديهم ميل للدين المٌقلد أو تدين مٌقلد لديهم منظور للتعبير عن الذات؛ فهم أشخاص يبحثون عن هوية دينية تكتفي  بالتقليد الفارغ.

يقودني هذا إلى تناول الدين باعتباره روحانية حية. يختلف الدين هنا عن كل من الميتافيزيقيا والأخلاق، عن التخمين (أيً، تشكيل نظرية بدون دليل قاطع) والتطبيق العملي. إن المقصد الأسنى في الميتافيزيقيا والأخلاق له موضوع الدين نفسه، أي الكون وعلاقته بالإنسان، لكن بينما التطبيق العملي لهما هو فن وعلم، فإن "الدين هو الإحساس وتذوق اللانهائي".[15] ليس جوهر الدين- الروحاني هنا- " التفكير ولا التصرف بل الحدس والشعور".[16] فيأتي إفساد الدين – من وجهة النظر الروحانية-  من إغراقه بالفلسفة ووضعه قسرًا في نظام فكري. ويتشتت الدين عندما يفترض كوقائع أو يوضع كوقائع أو كاساس  لححج الجدال والبرهان التي تحدد طبيعة الأشياء، ويفقد نفسه اذا وضعَ في مصفوفات لانهائية من الأسباب والاستنتاجات، أو البحث عن الأسباب النهائية، أو التعبير  بهذه الطريقة عن الحقائق الأبدية.[17] كما أنه ينحرف عندما يحدد أنظمة الواجبات والأوامر ويمنع التصرف بأوامرسلطة مطلقة.[18] إن التحول الطائش للدين إلى ميتافيزيقيا وأخلاق مسؤول، طبقًا لهذا المنظور، عن الحقد والاضطهاد، وعن تدمير المجتمع، وجعل الدم يسيل كالأنهار.[19]

الدين هو الحدس القائل بأن اللانهائي يرافق الشعور المحدود والقوي، المباشر والفوري بأن العالم البشري ليس منفصلاً عن بقية الكون. إن التركيز على الشعور بالفورية وعلى المرافقة أمر بالغ الأهمية، من هذا المنظور. تفصل الفورية الدين عن المنطق، وعن العقلانية، وتفصله المرافقة عن السببية. يجب أن يصاحب هذا الشعور الغامر والمثير للقلق، على راي شلايرماخر، كل عمل بشري. وأن نفعل كل شيء مع الدين، لا شيء بسببه أو من أجله.[20] يجب أن تمنع المشاعر الدينية، بحكم طبيعتها ، قوة أفعالنا وتدعونا إلى الهدوء والتمتع المتفاني بالولاء والنزاهة.

إن الدافع إلى السلطة أو التوحيد المنتظم هو الذي يولد التعصب ، لكن الشخص الذي يتمتع بـ: الإحساس الحي بالروحانية يرى دينه كجزء من الكل فقط ويعرف أنه " فيما يتعلق بالأشياء نفسها التي تؤثر عليه دينياً، هناك آراء بنفس القدر من التقوى ومع ذلك، تختلف تمامًا عن آراءه، وتتدفق منها عناصر أخرى من الحدوس والمشاعر الدينية، التي قد يفتقر اليها تمامًا".[21] يعلم الدين التواضع والحياء والتسامح الودود، مثل " روما القديمة، تقية ومتدينة بأسلوب نبيل؛ كانت مضيافًة لكل إله ولذا أصبح مليئة بالآلهة".[22]

الشخص الذي يحمل مثل هذه الهوية الدينية هو شخص متسامح. لديه علاقة واقعية بمثله الأعلى ويعيش حياته بإحساس دائم بحضوره. يتشكل الشخص مع هذا المفهوم للدين من خلال ثقافة التعددية المشبعة بالاحساس بالمثل الأعلى؛ وبالحد الأدنى من المثالية العالية المصاحبة لعالم متعدد القيم.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1]  Clifford Geertz, Islam Observed, Chicago: University of Chicago Press,1971, pp. 18, 61.

[2] Ashis Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Veena Das(ed.), Mirrors of Violence, New Delhi: Oxford University Press, 1990, pp. 69- 93.

[3] أنظر:

Richard Swinburne, Faith and Reason, Oxford: Clarendon Press, 1981, chapter 4.

[4] أنظر:

Terence Penelhum (ed.), Faith, New York: Macmillan, and London: Collier, 1989, p. 11 ('Introduction').

[5] راجع القسم القصير ولكن الممتاز عن المشاعر في:

Jon Eister, Nuts and Bolts in the Social Sciences, Cambridge: Cambridge University Press, 1989,

pp. 61-70.

[6] Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence

[7] مقتبس من:

J.L. Mackie, The Miracle of Theism, Oxford: Clarendon Press,1982, p. 218.

[8]  Kolakowski, Religion, London: Fontana, 1982, p. 218.

[9] التسامح في:

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence, p. 70.

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', p. 70.

[10]Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance',102.

[11] Geertz, Islam Observed, pp. 14, 48

[12]   Geertz, Islam Observed, p. 61.

[13]  Geertz, Islam Observed, p. 102.

[14]    Jameson, 'Post Modernism and Consumer Society', in H. Foster (ed.), The Anti-Aesthetic, Washington: Bay Press, 1983, p. 114.

[15]  Schleiermacher, Friedrich, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, translated by Richard Crouter, Cambridge: Cambridge University Press, 1998, p. 103.

[16] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 102.

[17] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 98.

[18]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.102.

[19]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[20] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.110.

[21]  Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[22]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

1. لغة العقل: العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة في التعبير عنه. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا  تعبّير اللغة عنه. تعبير اللغة عن الاشياء هو الوعي بها. .

كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكير وعي قصدي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدرك العقل معناه لغويا..لا يوجد وعي عقلي بشيء لا يدركه العقل.

هل ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة؟  الحقيقة هي كلا التفكيرين  ابجدية تعبيرية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى.. اللغة صوت ذو معنى.

كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتويه(تحتوه) اللغة الصورية لا يدركه العقل ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات حسيّة تعيها اللغة ماديا. كل موجود ادراكه العقلي لغة.

 قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارزفيلسوف اللغة والعقل الامريكي قوله (الوجود لغة) اروع إختزال فلسفي تعبيري.

 واضيف انا العقل وجود لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي او سواء اكانت مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته. في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معناها هوية الله..هنا هيجل يتناول مذهب وحدة الوجود والاقرار به ميتافيزيقا يرغبها اسبينوزا ولا يؤمن بها هيجل رغم تعبيره عنها.

واجد ان هذه التعبيرات الثلاث واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل. وثلاثتها تعبيرات صحيحة عن حقيقة فلسفية واحدة هي كل تفكير عقلي هو لغة.

 العقل هو لغة لمعنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء لا تعبّر عنه اللغة. حتى في حالات الصمت والاستذكار والخيالات جميعها تعبيرات تتوّسل اللغة.

2. اللغة بين الذات العملية والدين:

 صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا, عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج. . لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين او تحت وصاية تسلط راس المال ووسائل الانتاج. وعي الذات هو وعي قصدي ضمن نوع مجتمعي يجانسها الاستيعاب والاحتواء المنتج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع.

الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين في كتابة الاجناس الادبية. اما الانعزال بمعنى الاغتراب المرضي فيكون غير منتج محبط نفسيا وادراكيا ولا يعيش مجتمعه باغتراب ذاته..

3. الذات بين الطبيعة والدين:

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة تشابه المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم موجودات الحياة وتكويناتها وعلاقاتها البينية مع بعضها.

ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان. فناء الانسان الارضي مدرك عقليا ميتافيزيقيا بخلاف ازلية الزمان فهي حقيقة غير مدركة عقليا بل تصورا ميتافيزيقيا فقط.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

بعد النمو الانفجاري في التفكير البيئي، اصبحت فكرة الاعتمادية المتبادلة شائعة في كل مكان من العالم. اساس الفكرة هو اننا بطريقة ما "مترابطون بشكل دائم"مع بعضنا البعض، ومع الكائنات الحية الاخرى والبيئة بشكليها المادي والرقمي. ما يشار اليه ضمنا هنا ان فكرة الترابط هي شيء جيد وجميل. كوننا في ارتباط يجعلنا أقوى وأكثر صحة وأشد تفاعلا. لكن هناك تحت هذه الفكرة الايجابية تختبئ رؤية مظلمة – وهي ان كوننا مترابطين بشكل وثيق يمثل رعبا وجوديا. كونك مرتبط بالمعنى القوي للارتباط بالآخر،يهدد ما يجب ان تكون عليه الذات وما يعني ان يكون عليه الفرد. هذا الجانب المظلم من الترابط المتبادل ينكشف عندما نرى ان ذلك الترابط يعني أكثر من مجرد ارتباط.

الشكل الأول: الرؤية المتفائلة

العديد من النظريات الايكولوجية والاجتماعية ترى ان التفكير العلائقي له تأثير على فهم طبيعة وقيمة الذات الفردية. فمثلا، لو نظرنا للافراد مترابطين، عندئذ سيصبح تقييم الآخرين شرطا ضروريا لتقييم الفرد بالذات. هذا التفكير هو في لب المشاريع النسوية التي تسعى للتوفيق بين ما كان يُرى كمشاريع "ذكورية" للاستقلالية والهوية والفردية من جهة والمشاريع النسوية الأكثر علائقية وترابطا.التفكير حول الفرد يأخذ على الأقل ثلاثة أشكال رئيسية.

 الشكل الاول هو الفردية القوية.

 هذه الرؤية تؤمن ان الافراد يشبهون كرات البليارد: منعزلين، منفصلين وكيانات قائمة بذاتها،يقف بعضها مقابل البعض الآخر. هذه الرؤية كانت سائدة خصيصا في التيار الرئيسي للفلسفة الغربية، الذي مال لتمجيد القدرة على اتخاذ القرارات العقلانية المستقلة فوق كل القدرات الانسانية الاخرى. هذه الفردانية تسللت الى فهمنا للكائنات الاخرى ايضا. انها مكنّتنا للاعتقاد اننا نستطيع فهم أي كائن حي فقط عبر عزله وفحص وظائفه الداخلية.الفردانية القوية جرى تحدّيها بانتظام وعلى نطاق واسع.

الشكل الثاني: العلاقات التأسيسية

 هذه الرؤية للفرد حسب الابستيمولوجيين النسويين امثال انيت باير،اني دونشن،جون كرستمن، تدافع عن الدور التأسيسي الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية في تأطير ما نحن عليه وما نعرفه حول العالم. طبقا لهذه الرؤية، نحن كافراد نعتمد بطريقة ما على علاقاتنا الاجتماعية. واذا كانت العلاقات الاجتماعية تأسيسية لطبيعة الكائن الحي، عندئذ فان أي كائن يدخل في علاقة اجتماعية ينطبع بتلك العلاقات. لا توجد حيوانات مثل البشر تتكون وتتحدد بعلاقاتها الاجتماعية.

 الشكل الثالث: الرؤية البيئية

هذا الشكل من التفكير حول الفرد ينظر وراء الترابطات الاجتماعية وبعمومية اكثر الى الترابطات البيئية. واذا كانت الاعتمادية المتبادلة كانت يُنظر اليها في الأصل كعلاقات اجتماعية، فان التفكير العلائقي البيئي كان له وجود طويل ومستمر.

مثالان، احدهما خارجي والثاني داخلي، سيكون لهما دور توضيحي هنا. الايكولوجي والموسيقي بيرني كراش Bernie Krause ينقل قصة عن مجموعة من الفيلة في الملاوي،في مكان يسمى سنغاباي. الخصائص الجيولوجية في منطقة باي مكنت المجموعة من تطوير لهجة خاصة بها عبر دمج أصداء من جدران الجرف الصخري ضمن اتصالاتها. طبقا لكراش، فرادة بيئة المجموعة تعني انه لا جماعة اخرى من الفيلة على الارض تشترك بهذه اللهجة. اذا كانت العلاقات الاجتماعية والبيئية خارجية، فان العلاقات الميكروبية داخلية. الاجساد الانسانية مصنوعة من خلايا وأجزاء ميكروبية بكميات متساوية تقريبا. العلاقات الوثيقة بين كل فرد وميكروباته تجعل هناك امكانية للقدرات الفسيلوجية التي ليست نتاجا لتطور كائن انساني،ان تؤثر على نحافة او بدانة الاشخاص.

الايكولوجيون الميكروبيون حتى عندما يعترفون بعلاقات الاعتمادية، فان لغتهم تؤيد الفردية في التمييز بين جسم الانسان والميكروبات التي تعيش فيه او فوقه. هنا رؤية لكينونتين متميزتين، "لفردين" اثنين  يعملان مجتمعان نحو غاية مشتركة وهي الصحة .

في ضوء كل ما تقدم نستطيع القول ان الفرد الانساني يتشكل بالعلاقات بين ميكروباته وبنائه الخلوي، بالاضافة الى علاقاته الخارجية الاجتماعية و البيئية. نحن معتمدون على ارتباطاتنا. هناك جمال في هذه الرؤية الايجابية للاعتمادية الايكولوجية. انها تتحدى الفردية الانعزالية للحداثة الغربية بينما تحافظ على الهوية والفرادة. انها تعكس ارتباط عميق بالعالم الحي حولنا،تحدد وتحافظ على منْ نحن. بفضل هذه الرؤية، نستطيع امتلاك علاقاتنا وإنهائها ايضا.

الترابط ليس اعتمادية متبادلة

رغم اننا نرتاح في كوننا مترابطين interconnected بقوة في هذه الطريقة، لكن الاعتمادية المتبادلة interdependence تعني اننا بطريقة او باخرى معتمدون . ومع استمرار الثقافة الايكولوجية في التطور من خلال التحقيق العلمي والتقدم التكنلوجي، فهي بشكل متزايد تقبل ليس فقط علاقات الاعتمادية التي نحن مرتاحون بها سلفا، وانما ايضا علاقاتنا الاعتمادية المتبادلة. وكلما اعترفنا اكثر بالفرق بين الترابط والاعتمادية ، كلما اصبحنا غير مرتاحين. الاختلافات تتحدى ما تسميه الفيلسوفة لوران كود Lorraine Code بخيالنا الاجتماعي. العلاقات الاعتمادية هي تلك التي تربط فردين متميزين الى بعضهما. عندما تحدّث المفكرون النسويون عن "علاقات اجتماعية تأسيسية"، هم تركوا ضمنا الافتراض بان الفرد يقف وحيدا. نعم الافراد يتفاعلون ويؤثرون على آخرين ، ولكن لايزالون يشبهون كثيرا كرات البليارد في الفردية القوية.

الاعتمادية المتبادلة تعرض منظورا مختلفا جدا، تدعونا للتفكير بان وجودنا ذاته يعتمد على علاقات معينة. هذا هو الخوف الذي تعرب عنه البايولوجية كريتي شارم Kriti Sharma في مقدمة كتابها اللامع (الاعتمادية المتبادلة،2015)، مجادلة بانه رغم ان المصطلح استُعمل في عدد هائل من الطرق، لكنه بالاساس يدور حول هذا السؤال الوجودي  - حول ماذا أكون.

تعتقد شارما ان فهم الاعتمادية المتبادلة يتطلب تحولين اثنين متميزين في خيالنا الاجتماعي. الاول هي تصفه كـ حركة"بسيطة" من النظر الى الاشياء في عزلة الى النظر الى الاشياء في تفاعل. هذا التحول هو محبوب، ربما اول ما اتخذه المفكرون النسويون في تحدي الفردية القوية، والآن يتم تبنّيه تقريبا من جانب كل فرد. من الصعب تصور فيلسوف قادر على تجاهل الدليل الواسع والمقنع في الطرق التي نعمل بها في التفاعل بدلا من العزلة. المثال الرئيسي على هذا هو عمل علم النفس الاخلاقي الذي قلب جذريا الرؤية التقليدية في الاخلاق التي تفضل كثيرا العقل على حساب العواطف.

اذا كان التحول الاول للكاتبة مرغوب، فان الثاني اكثر أهمية. هي تدعو للتحرك من النظر الى الاشياء في تفاعل الى النظر الى الاشياء كمتأسسة بشكل متبادل. بهذا هي تعني ان الاشياء توجد دائما فقط نتيجة لإعتماديتها التبادلية.

الرؤية المظلمة

التحول الأول هو سهل من حيث المقارنة لأنه لا يطلب منا ان نغير رؤيتنا للعالم. لكن التحول الثاني يشير لمشكلة غير مريحة  وهي مشكلة قديمة: كيف يمكن لهوية شيء ما ان تعتمد على علاقات تأسيسية اما في الداخل او في الخارج؟ الفيلسوف اليوناني بلوتارخس plutarch عرض مشكلة كهذه في حكايته عن سفينة ثيسوس. طبقا له، بعد ان رجع ثيسوس بعد ذبح الوحش،احتفظ الاثنيون بسفينته لتنير الأجيال القادمة. هم بانتظام اخذوا منها الالواح القديمة والمسامير الصدئة واستبدلوها باخرى جديدة وقوية حتى لم يتبق أي شيء من السفينة . فهل لازالت السفينة أصلية؟ ان لم تكن كذلك، متى تتوقف عن ان تكون سفينة اصلية؟ بلوراش يصف هذا المثال الذي أورده الفلاسفة ، بعضهم اعتقد ان السفينة بقيت كما هي، آخرون عارضوا ذلك. (يجب الاشارة الى ان جميع المواد الخلوية في أجسامنا هي ايضا تُستبدل كليا في كل سبع سنوات).

الاعتمادية المتبادلة تفتح امكانية التغيير الراديكالي في الأنظمة المترابطة ديناميكيا بطريقة مشابهة، لأن تلك التي نرتبط بها بشكل متبادل هي ذاتها تتغير. التحولات الراديكالية في علاقاتنا – الاجتماعية والبيئية وحتى الميكروبية – تغيّرنا جذريا. لكن هذا يعني ان الذات المستقرة المعزولة ربما ليست اكثر من خيال نافع. هناك حالة ظلام . العلاقات التي نأخذها ابتداءً كأساس لبنائنا،لكي تساعد في خياراتنا الحرة وذات القيمة الاخلاقية، هي بدلا من ذلك تجعلنا مشروطين كليا، معتمدين تماما في هويتنا على العالم المتحول حولنا. لو نقبل اننا معتمدين في علاقاتنا، هذا يُضعف مفاهيم الذات والفرد والهوية التي تأسسنا عليها. واخيرا ماذا تبقى؟ ماذا لو لم يكن هناك أي شيء ابدا كشيء يجب ان يكون فردا مستقلا وحرا ؟ الوجودية قامت على هذا النوع من الرعب: سارتر نظر اليها اولاً في جذور شجرة الكستناء، وشعر بالغثيان في كونه غير مرحب به.

ما نقوله ان التحول المفاهيمي من الارتباط الى الاعتمادية يحوّل الطرق التي نتصور بها ما يجب ان يكون عليه الفرد، و الذات، ونتيجة هذا التحول هو تتابع في التأثيرات العملية التي لا نستطيع نتوقعها جيدا لكن نستطيع فقط نتصورها كرعب.عالم تتآكل فيه فكرة الفرد التي ترسخ احترام الاستقلالية. أي شخص سيرغب بهذا العالم الجديد الشجاع؟

الجانب المظلم للاعتمادية المتبادلة يستلهم كثيرا من البايولوجيا الناشئة. اذا كان البعض يرى العلاقات المتبادلة  والتفاعلية، هناك آخرون يرون انحلال الذات و علم الطفيليات. لو ترافق هذا مع مخاوف الفردية الناجمة من التكنلوجيا الرقمية فان الصورة تبدو اكثر ظلاما. لم تعد الذات بطريقة ما معزولة وداخلية ومستقرة، وانما بدلا من ذلك هي ديناميكية و ومعلنة وخارجية – اُبلغت واصطبغت بتكنلوجيات هائلة تسيطر علينا بشكل متزايد بطرق صريحة وضمنية، ابستمية وأخلاقية. نحن نمدد ذاتنا بطرق لانفهمها تماما، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تخبرنا اننا نحتاج الكثير من الأصدقاء ، ومن خلال البنوك البايولوجية التي تجعلنا نعتقد اننا نحتاج معرفة تاريخنا الوراثي، ومن خلال أسواق الاستهلاك التي تخبرنا عن ماذا نريد ومتى نريد.

هذه التمددات توعد (وفق الرؤية الايجابية) وتهدد (وفق الرؤية السلبية) باعادة صياغتنا وإعادة تكويننا وتأسيسنا. لو نظرنا الى هذه التحديات للذات كتحديات للترابط،عندئذ نحن نحافظ على اساس في الفرد، مركز في شبكة الارتباطات. عندما يُرى الفرد كمعتمد حقا على علاقاته، فان تحوّلا سريعا في طبيعة تلك العلاقات يمكن ان يحوّل راديكاليا ليس فقط الكيفية التي يتم بها تصوّر الفرد، وانما ما هية الفرد. هذه التحولات يمكن ان تكون مرعبة.

***

حاتم حميد محسن

.....................

The Horror of Relations, philosophy Now, Oct/Nov 2022

 

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟

لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.

وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا.فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي، ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضيا بدلالة تحقيب نفسي لازماني لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التام عن النفس. وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للانسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست زمن التاريخ الاستذكاري له ونحن نعيش الحاضر.

في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته. الزمان والطبيعة جوهران متلازمان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه.ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا، ولا يكون ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة.

هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن مايدركه الانسان زمانيا هو ادراك متزامن مع مكان، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراك المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.

حين عبّرت في اسطر سابقة الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه إنما أردت تاكيد حقيقة أنه لا يوجد هناك إدراك زمكاني بدون ادراك العقل. ملازمة إدراك العقل زمكانيا هي خاصيّة عقلية لا يمتلكها الزمان منفردا كما لا يمتلكها المكان منفردا والأهم أنهما لا يمكن إدراكهما المتزامن زمكانيا بينهما إلا تحت سطوة العقل الادراكي فقط في تالقهما المشترك.

أهم خاصية يمتلكها العقل ليس ماهية التفكير المجرد المنعزل ذاتيا كما ذهب له ديكارت، وإنما العقل يمتلك خاصّية الإدراك السابقة على خاصيّة توليد الافكار. لا ألادراك العقلي يتم بلا إدراك أولي شيئي أو موضوعي واقعي أو خيالي، ولا التفكير العقلي بمدركه كموضوع يتم من غير وجود مادة أو موضوع يكون هدفا قصديا للادراك العقلي والتفكير فيه.

النفس والزمن

لكن تبقى المحصلة الزمن هو الزمن بخصائصه والنفس هي النفس بخصائصها النوعية المتضادة كليّا مع الخاصية المطلقة للزمن. لا يمكن تحقيق محدودية الإدراك الشيئي بدلالة مطلق الزمان كخاصية نوعية. بل يمكن ذلك في إدراك ماهو محدود مكانا بدلالة ماهو ملازم له محدود زمانا ايضا. محدودية الزمان بدلالة محدودية مكانية ممكنة في تبادل الادوار من غير ما تداخل ماهوي جوهري بينهما، ولا علاقة جدلية تربطهما بل ارتباطهما هو من نوع التكامل الادراكي للعقل فقط.

متى يكون الزمان استشعارا متحركا كما هي طبيعته في إسقاط حوادثه على النفس بالعكس مما سبق لنا ذكره، وأقرب مثال حين نجد حوادث الزمن الماضي تمر في ذاكرتنا التخييلية  كفيلم سينمائي نشاهده حين نستشعر الزمن تحقيبا وقائعيا وليس تجريدا خياليا لا زمانيا.

المفارقة هنا تكمن في ممانعة فرق إختلاف ثبات الزمن الإستجابة لمتغيرات المزاجات النفسية المتقلبة على الدوام. نحن نعيش الزمن وندركه سلسلة من التعاقبات الحادثة واقعيا ولا ندرك الزمن ثابتا محايدا حين تمر من خلاله الحوادث التي نستقبلها عن طريق الاستذكارات النفسية الخيالية. فحوادث الماضي تمر في الزمن الماضي وتصلنا استذكارا ذاكراتيا لها ومن خلال الزمن كتحقيب وقائعي وليس كزمن تجريدي تعرف تلك الحوادث التاريخية بدلالته. الحقيقة التي لا نتوقف معها طويلا أن الماضي زمن وتاريخ معا يعرف أحدهما بدلالة الاخر.بمعنى اوضح التاريخ يبقى زمانيا في كل الاحوال بينما يمكن للزمان ان يكون تجريدا مطلقا كليّا خارج محدودية التاريخ.

التاريخ لا يحتاج الزمن لإدراكه ومعرفته على مر العصور فهو وجود داخل وخارج الزمن في وقت واحد، في حين يكون حضور ملازمة الزمان لوقائع التاريخ حضورا ملازما ومحايدا لكل حقبة أو مرحلة أو عصر من عصور التاريخ. مطلق الزمان لا يحدّه التاريخ ولا يحدّه الوجود كاملا كما لا يحده زمانا آخر محال إختراعه وجوديا. كي تستطيع أن تحد الزمان عليك استحضار زمانا آخر يمتلك نفس ماهية الزمن الذي ترغب حدّه به. وقد عبّر ارسطو عن هذه الحقيقة مقولته "لايحد الزمان زمان". فمطلق أزلية الزمان لا يمكن تكرارها لأي سبب كان فالزمن واحد مطلق لا يكرر نفسه زمانيا، ولا يمكن الإتيان بزمن غيره نحدّه به.

نحن حين نرغب إستقدام حوادث التاريخ من الماضي لا نحتاج الزمن في ادراكها لكنا نحتاج الزمن في إنتسابه (المحدود) لها كقطوعات ندركها تاريخيا وليس زمنيا. على خلاف من زمن الحاضر الذي لا يمكننا إعتبار الاحداث التي تجري فيه هي تاريخ ندركه في ملازمة الزمن الحاضر له كون ما يحدث في الحاضر من أحداث ووقائع لا تعتبر وقائعا تاريخية ثابتة كون الحاضر زمن متحرك ولا يحتفظ بوقائع أمّا أن تكون من حصة الماضي او تكون من حصة المستقبل غير المحسوس إدراكيا.. هنا تكون أحداث الحاضر زمانية متغيرة وزائلة أكثر منها تاريخية ثابتة كما في الزمن الماضي. كل حدث في الزمن الحاضر لا يصبح تاريخا ماضيا من غير مغادرته التحقيبية الحضورية له.

الزمان في حقيقته بالنسبة لنا هو إدراك متعالق الدلالة بغيره من الموجودات والاشياء. ما يجعل الزمن في حقيقته الثابتة تجريد غير لغوي وغير مدرك حدسيا، فهو مطلق بخصائص ماهوية لا يمكن لمحدودية الإدراك العقلي فك شفراتها لا بالادراك المباشر ولا بالادراك بدلالة تعالق الزمن بالاشياء....ما ندركه مكانا بدلالة ملازمة الزمن له، لا يمنحنا العكس من ذلك أن ندرك تجريد الزمن منفصلا مجردا بدلالة المكان. المكان كما هو الزمان لا يدرك أحدهما منفصلا عن الاخرفي نفس اللحظة.

حين تمر بنا الاحداث المتعاقبة عبر زمانية حاضرة ثابتة نكون في حالة فرز زماني كتحقيب هو أن حوادث ما سبق لها ووقعت في زمن مضى هي غيرها حوادث الحاضر النفسي الذي نرغب إستحضاره زمانيا حاضرا ترغبه النفس ولا يرفضه الزمان. طالما إدراكنا الزمان بدلالة شيئية أو موضوعية خياليا عندها يكون الزمان طوع الإستجابة الراغبة في جعل إستحضار ذكريات الماضي زمانا آنيا حاضرا ممكنا متاحا. الحقيقة الخادعة ان الزمان لا يتغير بتحقيب زماني منقسم الى ماض وحاضر ومستقبل، الزمن جوهر خارج التحقيب الذي يدركه العقل مباشرة بدلالة غيره.

الزمان في حقيقته الجوهرية في تعالقه الادراكي بالاشياء هو خاصية ثابتة لا يتأثر بما تدركه الذات، فالزمان يبقى حضورا محايدا أمام سعي العقل الإدراكي معرفة الاشياء مجردة عن زمانيتها.

أما حينما نريد إدراك مقدار الزمن بدلالة حركة الاجسام داخله عندها ايضا لا يغادر الزمن خاصيته الانفرادية المطلقة المنفصلة عن عدم إمكانية موضعته التجانسية النوعية بما ندركه من اشياء لها خصائص صفاتية وماهوية لا تنسجم مع خصائص الزمن.

أن نفكر في حاوية الزمن لتلك الحوادث التي نستذكرها زمانيا ماضيا فهنا نقع في ازدواجية الزمن الماضي في ضرورة تفريقه الى نوعين من التحقيب الوقائعي الثابت المختلف وليس الزمان المطلق المتغيرحركيا.  فزمن الحوادث الثابتة التي نستذكرها من الماضي هي غيرها استذكاراتنا الزمن الماضي الذي يجعلنا نعيش الماضي زمنا حاضرا نستحضره بغبطة وإنتشاء نفسي بالاستذكار الخيالي، كل ذلك يتم أمام حقيقة الزمن لا يتداخل مع إدراكاتنا بما نرغبه أن يكون ولكن حضوره أمام حقيقة أن الزمن بالنسبة لإدراكاتنا ورغائبنا النفسية هو حضور محايد في إسقاطنا كل ما نفكر فيه عليه..في كل الاحوال نحن لا ندرك الزمن زمانا تجريديا مطلق الماهية بل ندركه محدودا بدلالة إدراكنا المكان.

لماذا لا يمكننا ادراك قطوعات الزمن الا بدلالة غيره من الاشياء؟ كل مدركات العقل هي محددات انطولوجية كاشياء أو خياليا كمواضيع، بمعنى الادراك هو تعيّن موجودي لشيء او لموضوع، وهذا لا ينطبق على الزمن أنه غير محدود وجودا إلا بدلالة غيره من مكان، نحن نعبر عن تقسيمنا الزمن مرحليا الى ماض وحاضر ومستقبل إنما نكون بذلك نقوم في عملية تحقيب واقعي لمدركاتنا من الاشياء والطبيعة والظواهر مجردة عن زمانيتها. لا نمتلك استدلالا واقعيا برهانيا يجعلنا نسلم ان الزمن يقبل التقسيم التحقيبي التجريدي الى ثلاث انواع من الزمان من دون تعالقه بدلالة مادية او خيالية يدركها العقل. كيف ندرك تغيرات الفصول الاربعة زمنيا؟ ندرك ذلك بدلالة التغيرات التي تطرأ في المناخ والبيئة والطبيعة. الماضي والحاضر والمستقبل حينما نقصدها تحقيبات زمانية إنما نحن نستعمل مجازا تحقيب الحوادث والوقائع فيها كتحقيب تاريخي يحكمه الزمان لكنه لا يكون جزءا من تلك الحوادث التاريخية تحقيبا ثابتا. التاريخ ثابت والزمن مطلق متغير. ونعرف واقعية التاريخ بدلالة مطلقية الزمن كماهية غير محدودة.

خاصية الزمن في مطلقيته يجعل منه على الدوام حضورا إستدلاليا وليس حضورا إدراكيا تجريديا له. حتى عندما نقيس مقدار حركة جسم ما داخل الزمن فإننا بذلك نقيس مقدار حركة الجسم فقط وليس مقدار حركة الزمن. لذا لم يكن تعبير ارسطو خاطئا قوله الزمان هو مقدار حركة الاجسام بدلالته لكنه ليس الزمن حركة بذاتها ندركها مجردة عن حركة الاجسام التي تحتويها.

النفس لا زمانية

لماذا يكون الاستذكار الزماني بهيجا منعشا للنفس بعيدا عن ضغوطات الحياة في حاضرها المؤلم.؟ هل الحنين للماضي يجعله يوتوبيا منقذة للنفس من وهدة السقوط المحتوم في الحاضرالمؤلم الزائل المنقاد وراء زمن مستقبلي نهايته الاندثار والفناء. رغم أنه ربما كان الماضي أكثر إيلاما من حاضرنا الذي نعيشه؟

لماذا يتراجع إحساسنا الزماني في حالات البهجة النفسية والانشراح، ويتكثف الزمن ويطول حينما يجثم فوق صدورنا معطلا فينا منطق التعبيرعن مباهج الحياة، وتوق النفس الخلاص من كابوس الزمن الحاضرالمؤلم، علما أن الزمن واحدا في ملازمته حالتي البهجة والكآبة. والمتغير هو الاحساسات النفسية والعواطف والانفعالات فقط.

من المفارقات التي ربما لا نفرزها هي أن الشعور النفسي هو الذي يحدد نوع الزمن الذي تعيشه النفس. ويقل الاحساس بالزمن في علاقة عكسية حينما تكون النفس في حال من السعادة، ويكبر الاحساس بوطأة الزمن الثقيل حينما تكون النفس في حالة من الحزن والاكتئاب. فعلاقة حالة النفس الحزينة يتناسب زمانها الملازم لها طرديا معها.

لذا تكون النفس الانسانية لا زمانية، كون الذي يحدد حال ما تكون عليه رغما عنها ليس هو الزمن بل حوادث الحياة. وكل القطوعات التي نتصور نحدثها في الزمن هي قطوعات زائفة غير حقيقية لأن مصدرها قطوعات النفس المزاجية التي لا علاقة تحكم الزمن  بها.

الزمان مطلق بلا حدود

في تعبير باشلار نجد مقاربة ضمنية من المعنى الذي ذهبنا له قوله " لا يمكن إدراك الزمان إلا في تعقده وتركيبه، فهو مهما كان فقيرا، فهو يطرح نفسه من خلال تعارضه مع الحدود والتخوم "1 ص 54

نفهم فقر الزمان يكون في خاصيته الاطلاقية المتجردة عن مدركاتنا. بمعنى ما لا يمتلكه الزمان بتعالقه بالاشياء القابلة لإدراكنا يبقى خاصّية مطلقة انفرادية للزمان، ويبدو تعبيرنا هنا أن ملازمة الزمان لكل شيء بالوجود أزلية ولا تنفصل عن أي مدرك في الطبيعة والوجود لحظة واحدة، الزمان الذي نتعامل معه هو الزمان الذي يحتوي الوجود كاملا وليس بمقدور الوجود إحتوائه.

الزمان إمتلاء تام بالوجود في قبليتهما المعطاة من دون وقوفنا الكافي على الكيفية التي نشأت عنها مثل هذه العلاقة بين الزمان والوجود. علاقة إمتلاء الزمان بالوجود. موجودات الوجود من طبيعة وانسان ومخلوقات ونبات وجماد هي التي تمنح الزمان غنى وثراء إمتلائي يجعله معقدا في تركيبيته كما يعبر باشلار. غنى الزمان يكون بما يحتويه من وجود إمتلائي لا بما يكون خارجه في عدم إدراكنا له. الحقيقة التي أوقعتنا في مثل هذا الخطا تقوم على حقائق فلسفية هي :

- لا يوجد ما ندركه موجودا متعيّنا وما لا ندركه هو خارج محدودية ومطلق الزمان.

- كل ما لا يدركه العقل لا يقع خارج الادراك الزماني له وهو محال زمانيا ومحال ادراكه عقليا. فملازمة الزمن للوجود ملازمة ازلية مطلقة لانهائية ولا يمكن حدّها.

- ما يدركه العقل هو الموجودات المكانية التي يحتويها الزمن الادراكي شرطا مسبقا، كما أن ما لا يدركه العقل لا وجود له لا داخل ولا خارج الزمن ليست صحيحة.

- الاشياء والموجودات في الطبيعة وعالمنا الذي نعيشه سواء كانت مدركة لنا بدلالة زمنها أو غير مدركة بدلالة (غياب) زمنها، فهي في كل الاحوال لا تخلص من سطوة الزمن وهيمنته عليها.

ماذا يقصد باشلار أن فقر الزمان لا يسلم من تعارضه مع الحدود والتخوم.  فهمنا تعبيره الزمان لا يحد بتخوم هي مدركات شيئية مادية وغير مادية لا تمتلك المجانسة النوعية مع ماهية الزمن المطلقة. والزمان حسب باشلار يتعارض مع كل الحدود، فهي صحيحة من حيث أن التفكيرالوجودي بوضع حدود غير زمانية لا تتفق مع المجانسة الخصائصية للزمن هي مضيعة وقت بلا نتيجة. لا يحد الزمان حدودا تحد الوحدة الكلية الشاملة اللانهائية المطلقة له التي تحتوي الوجود ولا يستطيع الوجود حد الزمان بها لا قطوعات ولا مطلق زماني مغاير..

الزمن النفس الروح

من أكثر المفردات المفاهيمية الفلسفية ارتباطا وثيقا بالزمن هي النفس والروح رغم التفاوت الكبير جدا بينهما الذي لا يؤخذ به أغلب الاحيان في عشوائية تعبير الدلالة اللفظية للمفردتين عن معنى دال واحد. ولا نأتي بجديد قدر أهمية التذكير أن النفس هي وعي ذاتي إدراكي يعيش الحياة في إفصاحه السلوكي عنها إنفراديا أو ضمن مجتمع. النفس وعي وسلوك متكامل مدرك في تجليّاته الإفصاحية التعبير عن دواخله.

بخلاف الروح التي هو مفهوم ميتافيزيقي غامض، وليس مصطلحا متفقا عليه أكثر من تكرارمقولة الروح تلازم حياة الانسان وتفترق عنه بالممات. ما يهمنا هو التنبيه بهذا التفريق السريع أن النفس هي ليست الروح ومن الخطورة إستعمال المفردتين في التعبير المتكافيء عن دلالة معنى واحد فلسفيا على الاقل.

في معرض إقتباس إستعاره باشلار عن بيار جانيه قوله " لا يوجد عند الاقوام البدائية حركات مايسمى البدء – بمعنى حركات التعبير الجسدي الراقص المصحوب بصيحات هستيرية نفسية في التمهيد لممارسة طقس معين لا فرق أن يكون تعبيرا عن عبادة دينية أو عن ممارسة أسطورية خرافية قد تكون سحرية أو غيرها.- ولا حركات ختامية والكلام لباشلار تنهي ذلك الطقس "2، "فالاقوام البدائية كانوا يكتفون بالاعمال الانفجارية حسب تعبير بيار جانيه، أي الاعمال التي لا تتواصل حقا بالمعنى النفساني للكلمة لأن عواقبها في أفضل الاحيان هي من النوع الفيزيائي" 3 ص 58

بضوء الإقتباس المار ذكره نضع التوضيحات التالية:

- الطقس الوثني البدائي على مر العصور الطويلة والاجيال هو فعالية حركية متفق عليها بوعي جمعي تفهمه تلك التجمعات البدائية تواصلا بينيا يجمعها في تعبير حركات الجسم بعيدا عن إفصاح اللغة تعبيرا عنها.. والطقس الوثني بما يصاحبه من رقصات وحركات هستيرية تعبيرية لم تكن تلك الاقوام ترغب التواصل من خلالها بغيرها من التجمعات التي ربما لا تعرف وجودها من عدمه، بل كانت تلك الطقوس علاقة تنشد الخلاص النفسي مما تعانيه بالحياة،. وهي تعبيرات نفسية عميقة في العجز عن التعبير عنها بوسائل أخرى غير الطقس الوثني الراقص .

- النفس تكوين خبراتي تراكمي مستمد من الحياة، يغلب عليه الطابع الديني أكثر مما يتوخى قصدا آخر يرغبون تحققه. فما تمارسه تلك الاقوام البدائية من  طقس راقص صاخب إنفجاري ترافقه صيحات هستيرية إنما هي في حقيقتها بناء نفسي تراكمي دونما الشعور القصدي الماثل لبلوغ مراتب من البناءات النفسية المتوالية صعودا. ولا تفهم تلك الاقوام حاجتها الطقسية التواصلية بغيرها غير التواصل مع ما كانوا يتصورونه إلها أو معبودا بإمكانه درء الأخطار عنهم وحمايتهم.

- اتصور من غير المعقول مطالبة اقوام بدائية لا يتعدى تفكيرها صنع تمثال بحجم اصبع اليد أن تفهم أهمية الطقس الراقص في التعبير الواضح عن قصدية دينية ولا عن قصدية تواصلية مع الاخرين. الطقس الراقص خاصية بعيدة عن التعميم غير المتحقق اصلا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..................

الهوامش:

1. جاستون باشلار /جدلية الزمن/ ترجمة خليل احمد خليل/ ص 54

2. نفسه ص 58/ 3. نفسه ص 58

هناك كتابات فلسفية مصدرية لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يتخطاها مثل: كتاب الحروف للفارابي، وكتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد، وكتاب الأورجانون الجديد لفرنسيس بيكون، وكتاب المقال في المنهج لديكارت، وكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت أيضاً، ناهيك عن مصادر آراء ابن رشد الفلسفية، ومحاولة في الفهم الإنساني لجون لوك، وكتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لابن رشد، وبرجسون وكتابه التطور الخالق، ومقالات الإسلاميين للأشعري، وغيرها الكثير والكثير.

تتضمّن موضوعات ومباحث في المصادر الفلسفية، وتحتوي على فصول تجمع بين طياتها أهم الأصول الفلسفية التي لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يستغنى عنها بوجه من الوجوه؛ فهى تعرّفنا أولاً مصادر تفكير الفيلسوف في الإسلام بوجه عام، ثم مصادر تفكيره إذا كان من غير المسلمين .. من أين أخذ أفكاره الفلسفية ومن أين استقاها؟ ثم كيف وظفها؟ وكيف تعامل مع الأفكار الغريبة عن الثقافة الإسلامية فيما لو كان الفيلسوف يدين بالإسلام؟ وكيف نشأت لديه الفكرة التي إذا ما قرأناها عنده قلنا على الفور إنها فكرة فلسفية من شأنها أن تؤثر في غيره من الفلاسفة والمفكرين جيلاً وراء جيل؟ وهل بمستطاع الفيلسوف أن ينشئ الفكرة إنشاءً من تلقاء ذاته دون أن يعتمد على أفكار من سبقوه أم أنه يأخذها ويتأمل فيها، ثم ينقدها، ويضيف عليها، من ثمّ، جديداً لم يكن موجوداً من قبل؟ كيف تمثل العالم بالنسبة للفيلسوف؟ وما هي المعرفة بالنسبة له؟ ما جذورها وجذوعها وفروعها وأغصانها إذا ما كانت الفلسفة شجرة كما شبهها ديكارت، وما مكانة العالم الطبيعي والعلوي منها، وما مكانة الأخلاق؟

أي النهجين أقرب إلى عمل الفيلسوف؟ وإلى أي مدى بإمكانه التعامل مع الأنساق الفلسفية القديمة؟ وما هى درجة تأثره بها، وتأثيرها عليه، وتأثيرها فيمن بعده؟ وكيف يبدع الفيلسوف جديداً وهو مأخوذ ـ بادئ ذي بدء ـ بما سبقه إليه غيره من تفكير فلسفي، ومن إنتاج علمي، ومن تراث حضاري على وجه العموم؟

البحث في المصادر بحث فلسفي بامتياز؛ لا يتقرّر إلا وتتقرر معه خصائص التفكير الفلسفي من حيث النقد، ومن جهة العلم، ومن واقع التنوير والتفكير، ومن امتثال الأخلاق، ومن استخلاص النتائج من مقدمات مفروضةٍ يستنها العقل وفق قواعد وشروط مقبولة بادئ ذي بدء. والبحث في المصادر ضرورة منهجية لمعرفة قضية التأثير والتأثر بين الأفكار المتنوعة، والآراء الفلسفية المتشابكة؛ وللفصل بين النظائر والأشباه عبر تاريخ الذهن البشري ومحاولات العقل تجاه النظر في المعقول.

ما من باحث في مجال الفلسفة على وجه الخصوص إلا ويذكر كتاب "الحروف" للفارابي، فيلسوف المشرق العربي، فهو مصدر فلسفي بامتياز، ، بل هو أكبر مصنفات أبي نصر الفارابي وأعظمها غناء للمهتمين بدراسة الفكر العربي عامة، والفلسفة الإسلامية خاصة، كتبه إمام المنطقيين في عصر بلغ فيه الفكر العربي أوجه في تفهم أمور العلم واللغة وضرورة التعبير الصحيح عن ما ينظر الإنسان فيه ويعقله، فلا يستغني عن قراءته من يشتغل في تأريخ الفلسفة واللغة، وهو يجمع إلى جانب النظرات الفلسفية الثاقبة جوانب من اللغة، وخصائصها ومقرراتها، وأثرها على التفكير، وأثر التفكير الفلسفي عليها.

ومن جانب آخر؛ يجب أن يمعن النظر فيه، كما يقول ناشره لأول مره الدكتور محسن مهدي، "من يقصد فهم الصلة بين نموِّ العلوم واللغة التي بها يعبر عن العلوم، والمجتمع الذي تنمو فيه". 

من أجل ذلك؛ يلزم للدارس عناية الاطلاع على هذا الكتاب تفصيلاً؛ ليتعرّف باحث الفلسفة على أثر هذا الكتاب في عقول فلاسفة المشرق العربي وفلاسفة المغرب العربي بوجه خاص كيما يدرك أثره البالغ الممتد في الفكر الفلسفي على وجه العموم.

ولا يزال يبقى أثره خالداً على مرّ الأزمان، وبخاصة فيما اشتمل البحث فيه على الجوانب المنطقية واللغوية بالإضافة إلى المشكلات الفلسفية والقضايا الفكريّة.

غير أننا في هذا المقال نركز على نموذج فعال مؤثر من فلاسفة المغرب العربي وهو ابن رشد؛ خلال معالجته كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، وهو كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، ذلك الكتاب الذي قام ابن رشد بشرحه وتفسير مشكلاته. وقد تمكن ابن رشد الفيلسوف العربي المسلم من إضافة آراء خلال شروحه وتفاسيره لم يكن أرسطو يتحدث فيها بالكيفية التي استطاع ابن رشد الحديث عنها خلال الشرح الضافي الدقيق والتحليل المنطقي الصائب المقنع، وخلال تفسيره الذي ضمنه رأيه الخاص.

أضاف ابن رشد من خلال الشروح بعداً ذاتياً على تفسير ما بعد الطبيعة، أي الميتافيزيقا لأرسطو، فهو لم يقتصر على الشرح وكفى؛ بل تصرف في النص ليستخرج منه رأياً جديداً يعبر به عن رؤيته الفلسفية. فكانت هذه اللفتة سمة منهجية في شروح وتفاسير وتلاخيص ابن رشد على آثار العقلية اليونانية، وأرسطو خاصّة.

إذا تصفح القارئ بالتحليل كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، والمقالات الإحدى عشر التي تضمّنها هذا الكتاب، وألمّ بمنتخبات من هذا التفسير الذي قدّمه ابن رشد؛ بقصد بيان طريقته في التفسير، تبين له تلك الطريقة التي تجمع بين تفسير اللفظ، وتفسير المعنى، وتفسير الفكرة الفلسفية التي ينطوي عليها المعنى.

وظهر له القصد المباشر من وراء ذلك؛ وهو محاولة المقارنة بين طريقته في التفسير وطريقته في التأليف، أو بين نهجه في الشرح والتفسير ونهجه في التصنيف والتأليف؛ لأن المقارنة توضح للقارئ آراءً جديدة يقولها ابن رشد في الشروح والتفسيرات، ولم يقل بها في المصنفات التي قام بتأليفها، حتى إذا تمت المقارنة على الوجه الأكمل، أستطاع الباحث استخلاص مذهبه الفلسفي مكتملاً من خلال البحث في هذين الجانبين : جانب الشروح وجانب التآليف.

ولم يكتمل مذهب ابن رشد وافياً على الحقيقة إلا بالإطلاع على هذين الجانبين اطلاعاً يتيح المقارنة، ويستوجب المُفاضلة، ويقر في النهاية بالإنصاف.

إنّه قد تبيّن لنا خلال الاطلاع على عمل ابن رشد أننا بإزاء فلسفة عقلية وضعت جذور الاستنارة في الحضارة العربية والإسلامية ممثلة في عقل ابن رشد، فيلسوف المغرب العربي، وأحد حملة مشاعل الحضارة الإسلامية. وقد أظهرنا خلال قيام ابن رشد بتفسير كتاب ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا لأرسطو، أظهر صدارة هذا الفيلسوف ومصدريته في مجال الفكر العربي الإسلامي، وأن تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، إنما هو في الأصل يعد مصدراً فلسفياً عظيماً لا من حيث اعتباره أثراً من آثار فلسفة أرسطو فقط، ولكن من حيث إنه درّة فلسفية من درر ابن رشد، إذْ ذَاَكَ نقرأ أرسطو بعقل ابن رشد، ونرى فلسفة أرسطو بارزة من بين سطور فيلسوفنا العربي.

وخلال شروح ابن رشد على فلسفة أرسطو وتفاسيره لكتبه الفلسفية المعتبرة، تبيّنت معالم فلسفته كونها علامة فكرية ظاهرة برزت في كل مقالة من المقالات التي اشتمل عليها كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، فظهر الرأي الذي يوضح باليقين موقف ابن رشد في المسائل التي طرحها؛ فلم يكن إذْ ذَاَكَ بالشارح الذي يكتفي بمجرد الشرح التقليدي، ولكنه كان مضيفاً خلال الشرح آراءً جديدة ربما كان أرسطو لم يتطرق لها، ولم يكن يلتفت إليها. ومن أجل ذلك كان من الأهمية بمكان للتعرف على فلسفة ابن رشد، ضم الشروح والتفاسير إلى المؤلفات والتصانيف في وحدة واحدة ليس فيها انفصال ولا تجزء، بغية استخلاص هذا المذهب الفلسفي الأصيل.

فليس لباحث أن يقف محيطاً على وجه الدقة بتراث ابن رشد الفلسفي وهو لا يجمع وجاهة الرأي لديه بين الشرح والتفسير من جهة والتصنيف والتأليف من جهة أخرى؛ ليحيط بمذهب الفيلسوف العربي المسلم على وجه الدقة والأصالة.

ثم إننا إذا نحن رحنا نقتبس من ابن رشد منتخبات من نصوصه وأقواله سواء من تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة أو من كتاباته ومؤلفاته المصنفة؛ تبين لنا أيضاً أن الأولى؛ فلإظهار طريقته في الشرح والتفسير. وأمّا الثانية؛ فللتعرُّف على آرائه بالقياس إلى الشروح والتفاسير. ثم رأينا أن ما اقتبسناه من مقتطفات أقواله يُضاف إلى المباحث الميتافيزيقية التي نوّه إليها في تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، ولا يمكن أن تعزل عنها بحال :

فكلامه عن الحركة، والأسباب، وحدود التأويل، والأدلة على وجود الله من طريق البرهان العقلي، وحديثه عن التصوف، وحديثه عن المعجزات، إنما هى كلها موضوعات ميتافيزيقية يحكمها التناول المنهجي الذي ارتضاه الفيلسوف. وتتصل شديد الصلة بالمسائل التي سبق طرحها بطريق أو بآخر في تفسير ما بعد الطبيعة.

ولم يكن من المتاح لدارس الفلسفة أن يغض النظر عن رأي ابن رشد من خلال أقواله نصّاً وحرفاً، في مباحثه لهذه المسألة أو تلك؛ لأن التأمل في النصوص القديمة مُلهم للعقل الحديث والمعاصر أن يستفيض ويتأسس على ركائز المعرفة ثم يجود بالإبداع والابتكار. ولولا ما كان استنّه ابن رشد من عكوف على مؤلفات أرسطو وشروحه لتراث اليونان، ما وُجدت لديه هذ النزعة العقلية قوية مبدعة صادقة ملهمة، وما كان تسنى له أن يكون جامعاً لوجاهة الرأي والرؤية، وهو سليل العلم ربيب الفقه، معطاء.

ولم يكن ميسوراً للباحث على وجه العموم أن يدرس آراء الفيلسوف القرطبي وهو لم يطلع على نصوصه الأصلية التي تشكل رؤيته الفلسفية ويُستخلص منها مذهبه؛ فتجيء أقواله نصوصاً لازمة لا بدّ منها في سياق التعرّف على رأيه ورؤيته في آن.

سيبقى معنا ابن رشد خالداً في رحلة البحث عن المصادر الفلسفية، ذلك الفيلسوف العبقري الذي شغل الدنيا وملأ عقول الناس علماً وفلسفة واستنارة، وهو مع ذلك نُكِبَ من جرّاء عمله العقلي نكبة سجلها تاريخ الجهاد الفكري والحضاري للحافظ على قيمة المعرفة العقليّة في مقابل ظلمات القهر والتسلط على العقول والضمائر في دنيا الجهالة والتخلف، لكن ابن رشد دام موصولاً بجهاد العقل والرأي، ومات ناكبوه في ظلمات التخبط والجهالة والضلال.

***

د. مجدي إبراهيم                            

  

فلسفةُ الظواهرِ الثقافية تُمثِّل مشروعًا اجتماعيًّا لتحريرِ الفِكْر مِن أوهام الواقع، وتخليصِ الواقع مِن أدْلَجَة الفِكْر. وإذا كانَ الفِكْرُ يُؤَسِّس أنساقَه الحياتيَّة لإعادة ترتيب فَوضى الواقع، فإنَّ الواقع يُؤَسِّس مرجعياته الفِكرية لتوليد التَّصَوُّر النَّقْدِي في فلسفة التُّرَاث وتُراثِ الفلسفة. وتمركزُ الفلسفةِ في الظواهر الثقافية والسِّيَاقات التُّراثيَّة، يُحدِّد أبعادَ صُورة المُجتمع عن ذاته، ويَكشف كَيْفِيَّةَ تَوظيفِ التاريخ في عمليَّة الاندماج الاجتماعي، وإنشاءِ الروابط الوجودية بين الفرد والمُجتمع، وترسيخِ الوَعْي في مصادر المعرفة، بِوَصْفِها جُزْءًا أساسيًّا مِن البناء الاجتماعي، ولَيْسَتْ نظريات هُلاميَّة عاجزة عن بناء التواصل بين الفِعل الاجتماعي والفِعل اللغوي. وكُلُّ فِعْلٍ سواءٌ كانَ اجتماعيًّا أَمْ لُغَوِيًّا يُعْتَبَر تَحَوُّلًا جذريًّا في العلاقة التي تربط الفِكْرَ والواقعَ، وهذا التَّحَوُّلُ يُعَزِّز تَصَوُّرَ الفردِ لفلسفة الظواهر الثقافية، باعتبارها الحاضنةَ الشرعية للأفعال الاجتماعية، التي تَعْمَل على تَوحيدِ الاتجاهات في البُنية الوظيفية للمجتمع، وإزالةِ التناقضات الجَوهرية في منهج التأويل الرمزي الذي يُحدِّد معالمَ الصراع على اللغة، ويُوضِّح ملامحَ الصِّدَام في اللغة، ويُبيِّن دورَ الفردِ والمُجتمع في التعامل معَ اللغة، لَيس بِوَصْفِهَا أداةً للاتِّصال والتَّوصيل والتواصل فَحَسْب، بَلْ أيضًا بِوَصْفِهَا آلِيَّةً معرفيةً وجوديةً لإعادة فَهْمِ الفرد لأعماق النَّفْس الإنسانية، وفَهْمِ المُجتمع لأبعادِ العقل الجَمْعِي.

2

تَستمد الظواهرُ الثقافية مَعْنَاها وشرعيتها مِن الأحداث اليومية ذهنيًّا وواقعيًّا، ومِن الوقائع التاريخية معنويًّا وماديًّا، لكنَّ فلسفة الظواهر الثقافية تَنبع مِن الطاقة الرمزية في اللغة، التي تستطيع توليدَ الفِعل الاجتماعي، وتأسيسه على قاعدة الوَعْي الحقيقي لا الزائف، مِن أجل تحويل المُجتمع إلى كِيَانٍ إنساني مَفتوح أمام الأفكار الإبداعية، وماهيَّةٍ أخلاقية مُنفتحة على مُكَوِّنَات الثقافة، مِمَّا يَضمن تحقيقَ التواصل العقلاني بين العلاقات الاجتماعية ضِمن سِيَاق المعرفة الفرديَّة والجماعيَّة، وعيًا تاريخيًّا، ومُمَارَسَةً ذهنيةً، وتجريدًا فلسفيًّا، وتطبيقًا عمليًّا، والتزامًا أخلاقيًّا. وهذا الأُفُقُ المعرفي الخالي من الأنظمة الاستهلاكية الضاغطة على وجود الإنسان وهُوية المُجتمع، هو الحاملُ لإنسانيَّةِ الثقافة، ورمزيةِ اللغة، ونِسْبِيَّةِ الزمن. وهذه المنظومةُ الثلاثية تَرْمِي إلى نقل مصادر المعرفة مِن الموضوع (المعنى في تاريخ الإنسان) إلى الذات (معنى الإنسان شخصيًّا). وهذا مِن شأنه نقل مناهج التحليل الاجتماعي مِن تفسيرِ المأزق الوجودي للإنسان إلى تغييره، ومِن وَصْفِ الأنساق الحياتيَّة إلى تَشكيلها. مِمَّا يَدفع فلسفةَ الظواهر الثقافية باتِّجاه إعادة بناء المفاهيم المركزية في التَّصَوُّر النَّقْدِي المُرتبط بالتفاعل الرمزي بين هُوية المُجتمع ومَاهِيَّته. وبما أنَّ الأفكار الإبداعية لا تُوجَد بِمَعْزِل عَن النَّقْد والنَّقْض، كانَ لِزَامًا تكوين نظام اجتماعي خاص بالوَعْي الإنساني يَعمل على تفكيك تاريخ الإنسان وتركيبه بشكل مُستمر، مِن أجل كشف نقاط القُوَّة والضَّعْف في المسارات الحياتيَّة المُتذبذبة بين القطيعة المعرفية والتواصل العقلاني، والتعامل مع هذه المسارات كرموزٍ لُغوية تُشير إلى مُستوى الوَعْي في الوقائع التاريخية، وكأفعالٍ اجتماعية تُشير إلى التسلسل المنطقي للأحداث اليوميَّة. والمُشكلةُ الأساسيةُ في تاريخ الإنسان تَكْمُن في عدم قُدرة الإنسان على تكوين صُورة واضحة عن ذاته خارج أنساق المجتمع وإفرازاته الفكرية، كما أنَّ هُوِيَّة الإنسان ظَلَّتْ سجينةَ الفِعل الاجتماعي المُنعكس عن سُلطة المُجتمع،والمُتماهي معَ العلاقات الاجتماعية المَفروضة وَفْق سِيَاسة الأمر الواقع. والإنسانُ لا يَختار نَفْسَه، ولا جِنْسَه، ولا نَسَبَه، ولا مُجْتَمَعَه. ولا يَمْلِك الإنسانُ إلا أن يُطَوِّر رمزيةَ اللغة مِن أجل التأقلمِ معَ العناصرِ الماديَّة المَفروضة على حياته، والتفاعلِ مع التراكيب المعنوية المُتَغَيِّرَة في أفكاره وَمَشَاعره. واللغةُ عابرةٌ للحُدودِ الزمنيَّة والحواجزِ المكانيَّة، وهذا يَعْني أنَّ تطويرَ رمزيةِ اللغةِ هو استعادةٌ لأحلام الماضي وطُموحات الحاضر مِن أجل بناء المُستقبل كَجَوهرٍ للوُجود، وحقيقةٍ للبناء الاجتماعي، ولَيس كَمَرحلةٍ زمنيَّة عابرة، أوْ خُطَّةِ هُروب مِن صِراعات الماضي وأزمات الحاضر.

3

وُجودُ الإنسانِ مُؤقَّتٌ في الزمان والمكان، لكنَّ هُوِيَّة الإنسان دائمة في رمزية اللغة ومصادرِ المعرفة. والثقافةُ لا تُوجَد بلا لُغَة، والمعرفةُ لا تُوجَد بلا تاريخ. وهاتان الحقيقتان تَفرضان على الإنسان أن يَعيش كَيْنُونَتَهُ حتى أقْصَى مَدَاها، وأن يُعيد تشكيلَ الثقافةَ اللغوية والمعرفةَ التاريخية في سِيَاق الأفكار الإبداعية، لنقل شخصيته وسُلطته مِن مفهوم الكائن الزائل جسديًّا إلى مَفهوم الكِيَان الباقي فكريًّا. وهذه المُهِمَّةُ الشَّاقَّة تتطلَّب غَوْصَ الإنسان في أعماقه السحيقة لاكتشاف حياته الحقيقية (السِّرِّية)، وتحليلَ التاريخ مِن الداخل (التنقيب في العُمْق لا الضَّرْب على السَّطْح)، وتفسيرَ الثقافة اعتمادًا على نُقطة التوازن (نُقطة الارتكاز) بين بُنية اللغة وبُنية المُجتمع. والإنسانُ لا يُمكن إخراجُه مِن جِلْدِه، والتاريخُ لا يُمكن إخراجُه مِن جَسَده، والثقافةُ لا يُمكِن إخراجُها مِن كِيَانها، وهذه المُسَلَّمَاتُ مُجْتَمِعَةً تَدفع الإنسانَ (الذات الفاعلة داخل الوَعْي والمُجتمعِ والتاريخِ) إلى اكتشاف هُوِيَّته الوُجودية في واقعه المُعَاش، ولَيس استيرادها، أوْ نَسْخها، أوْ تقليدها، أو التَّنَكُّر لها، أو ارتداء الأقنعة خَجَلًا مِنها، أوْ هُروبًا مِن حقيقتها.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

يُعَرّفٌ المفكر الراحل ” محمد أركون” السلطة الأرثوذوكسيّة، بأنها: (السلطة المعتمدة على السلطة الحاكمة في فرض مفاهيمها وآرائها وقوانينها المعرفيّة على الآخر.). أو بتعبير آخر برأيي بأنها مجموعة الرؤى والأفكار التي تشكل في سياقها العام (أيديولوجيا) تتبناها قوى سياسيّة داخل السلطة أو خارجها، يعتقد الحامل الاجتماعيّ لها بأنها وحدها من يمتلك الحقيقة الصائبة، وما عداها من نظريات أو أيديولوجيات تحيط بها، هي خطأ يجب أن يقصى أو يهمش بأي شكل من الأشكال.

إن العقليّة الأرثوذوكسيّة بسلطتها الاقصائية، هي تعمل بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك، على الغاء حريّة البحث والتفكير والتقصي من أجل حل قضايا الفرد والمجتمع والدولة حلاً منطقيّاً، والحل المنطقي هو الذي يقوم بالضرورة على تقبل الرأي الآخر والحوار معه، وبالتالي المشاركة في البحث عن حلول للقضايا المشتركة.

إن العقل الأرثوذكسيّ، هو الذي يؤدي أيضاً إلى حجب الحقيقة، وعدم  الاقتراب من المسكوت عنه أو اللامفكر فيه، لأن السلطة الأرثوذوكسيّة تمنعه وتقمعه وتحول دون الاقتراب منه، وذلك من خلال حجرها على العقل وحريّةّ الإرادة للمختلف، بحيث يصبح هذا العقل عاجزاً عن التساؤل. وفي مثل هذه الحجز على العقل المختلف، أو قمعه، سيسود نمط آخر من التفكير الذي ترضى عنه السلطة الأرثوذوكسيّة وتشجعه وتفتح له في المجال واسعا، وهو التفكر الخياليّ والأسطوريّ والغيبيّ ولامتثاليّ والاستسلاميّ والماضويّ وحتى العبثيّ، الذي يبتعد عن التأمل  المنطقيّ في الظواهر، وعدم استخدام الاستقراء والاستنتاج والقياس والبرهان، أو العقل النقديّ في النظر إلى الأشياء التي تهم مصالح الفرد والمجتمع.

إن السلطة المعرفيّة الأرثوذوكسيّة إذا ما مُورِستْ من قبل قوى سياسيّة ذات مصالح انانيّة ضيقة داخل السلطة، ستدفع بالضرورة أفراد المجتمع ليفكروا بقضايا خارج نطاق قضايا واقهم التاريخيّ المعيوش ، وسيدخلون في صراعات ثانويّة ربما تعود جذورها إلى مئات من السنين الماضية، كأن يدخلوا في عوالم معرفيّة وسلوكيّة تتعلق بعقليّة العشيرة والقبيلة والحزب  والطائفة والمذهب والفرقة الناجية، وبالتالي الوطني ومنه هو الخائن، أو من هو الكافر أو المؤمن، وغالباً ما يدفع الناس للتفكير والبحت عن فقه الحيض والنغاس، أو هل عمل المرأة حلال أم حرام، أو هل أن صوتها عورة أم غير عورة، وهل يحق للمرأة أن تخلط البندورة مع الخيار.. وغير ذلك. إضافة لدخولهم في دهاليز المجتمع الاستهلاكيّ والبحث عن اللذة وشهوة الموديل والقضايا القشريّة التافهة في حياتهم، بدل القضايا الجوهريّة المتعلقة بتعليمهم وتربيتهم التربية العلميّة التي تنمي عقولهم ومهاراتهم الإدراكيّة وامتلاكهم روح البحث عن الحقيقة في الظواهر التي يتعاملون معها، من أجل تطوير شخصياتهم من النواحي اَلجسديّة والروحيّة. ففي مثل هذه الوضعيّة الاجتماعيّة والفكريّة المتهافته التي تساهم السلطة الأرثوذوكسيّة في تسويقها وتجذيرها داخل بنية المجتمع وعقول افراده. لا بد أن تكوّن أفرداً هم أقرب للبهائم منهم للبشر، وعلى هذا الأساس ستجد هذه البهائم السيف مسلطاً على رقابها دائماً عندما تشعر بذاتها الإنسانيّة وتريد العودة لإنسانيتها، كونها لا تجيد استخدام عقلها في التعامل مع مَنْ حَيْوَنَهَا، والحيوانات البشريّة غالباً ما تثور ضد من يسوسها، فتكون النتيجة العقاب، وفي أقصى حالاته القتل.

ملاحظة: غالباً ما تظهر السلطة الأرثدوكسيّة في العرف والعادة والتقليد، وهي تمارس قمعها الفكريّ والعمليّ للفرد والمجتمع وحتى الدولة. وهذا ما يساهم أيضاً في تعميق حالات التخلف بكل مستوياته داخل المجتمع والدولة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

العقلُ الفلسفيُّ عقلٌ كونيُّ، عابرٌ للجغرافية الإثنيّة والأيديولوجيَّة والدينية. قراءةُ الفلسفة بعيون أيديولوجية تنتجُ أيديولوجيا، قراءةُ الفلسفة بعيون لاهوتية تنتجُ لاهوتًا، قراءةُ الفلسفة بعيون كلاميّة تنتجُ علمَ كلام. لا ينتج الفلسفةَ إلّا التفكيرُ الفلسفي، والقراءةُ الفلسفيّةُ للفلسفة.

إيقاعُ التقدم المتسارع للذكاء الصناعي والروبوتات، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، وتكنولوجيات متعدّدة تتحدث لغةَ الذكاء الصناعي وبرمجياته، يخلقُ طورًا وجوديًا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدمُ المتسارع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقدات، والثقافات، والاقتصادات، والنظم السياسية، والسياسات المحلية والإقليمية، والعلاقات الدولية، والعلاقات الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى وأزماتُ العقل والروح ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.

‏‏لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلاتٍ ومشاكلَ وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية وعقلية، سواء أكانت هذه المشاكلُ والأزمات فرديةً أو مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغنى عن الفلسفة، مهما بلغ تقدّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه.كانت الفلسفةُ وستبقى تستجيبُ لما يستجدُّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء وغيرهما من العلوم، فقد كان لعلم الفلك الحديث الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده. وهكذا تأثّر هذا التفكير بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثَّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، ونظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955).

 علاقةُ الفلسفة باللاهوت عضوية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوت بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات. إنه سؤالٌ مفتوح،كلُّ سؤال مفتوح منجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعدَ اللاهوتُ عن الفلسفة وقعَ فريسةً للامعقول. لا يضعُ اللاهوت في حدوده ويمنع تغوّله إلا الفلسفة، ولا يتجدّدُ اللاهوت إلا عندما يعيدُ النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملُها بعين فلسفية.

إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عناوينَ فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها تتحدثُ لغةَ الفلسفة. صارت الفلسفةُ لافتةً يختفي وراءها جماعةٌ من المولعين بالشهرة، يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، ويكتبون موضوعاتٍ عويصةً وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية، تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّطُ في دلالتها ولا تفصحُ عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّفُ على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجدُ أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّرُه لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعليم الفلسفة، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشدُ لنفسها إيقاظَ العقل.

***

د. عبدالجبار الرفاعي

............................

* بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة،17.11.2022

 

ما برحت أناملي ومداد قلمي وسطور الأرواق، تستوقفني عن المضيّ في السرد والحكي عن تلك الأطوار التي مرت بها المعارف الفلسفية، لتسألني عن تلك الرحلة، ومن أين نبدأها للوصول إلى المقصد هل ما نرجوه في الذهاب أم الإياب؟ ويشكو صرير قلمي من ذلك التيه الذي مشينا إليه مُرغمين رغم وضوح السبيل وهو على النقيض ممّا نحن فيه. 

فأجبتهم جميعاً أن طالب الوصال لا يُعييه طول السير ولا يضنيه كثرة الترحال؛ فالعشق وحده يُهديه، ودفء اللقاء يُرضيه.

ونعود للسرد للوقوف على ما كنا فيه.

لم تكن فترة الستينات من القرن العشرين تمثل مرحلة بؤس الفلسفة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية؛ لهشاشة بنيتها المعرفية التي كانت تقدّم في الكتاب المقرر فحسب؛ بل كان هناك عوامل أخرى أعتقد أنه من الواجب الإشارة إليها، والتحري عن مدى تأثيرها في العقل الجمعي الناشئ، أي في شبيبة المستقبل.

فتحدثنا الوقائع التاريخية أن المعارف الفلسفية قد أُدرجت في المقررات الدراسية للمرحلة الثانوية منذ عام 1925م، وكانت مقتصرة على تدريس مادة الأخلاق والمنطق، وانضم إليهما علم النفس وذلك بصورة هامشية، ولم تُخصص لهذه المعارف سوى حصّة واحدة أسبوعياً. وكانت فلسفة الأخلاق تلقى للطلاب في صورة نصائح وحكم وعظات، وهي أقرب في بنيتها السردية إلى التربية الدينية. أمّا مادة المنطق فقد صيغ مضمونها هى الأخرى بأسلوب يتوائم مع مادة علم النفس.

وفي عام 1933م أجتهد المعنيون المستنيرون بدراسة الفلسفة النظريّة في المرحلة الثانوية؛ فخصصّوا لها كتاباً دراسياً؛ لتوضيح أهمية الفلسفة لتبرأة معارفها من تهمة الإلحاد التي صدت الرأي العام التابع عن دراستها، كما عُنيا مؤلفا الكتاب بتوضيح أن الدين الإسلامي ليس ضد دراسة الفلسفة، وأن المنتسبين للدين هم الذين أشاعوا ذلك بين العوام في مقدمة الكتاب المقرر المعنون بـ (تاريخ الفلسفة) لـ محمد على مصطفى، وأحمد عبده خيرالدين. وذلك بقولهما (مضى على المناهج الدراسة العالية في مصر زمن، كانت فيه ناقصة، لخلوها من الفلسفة، ويخيل إلينا أن هذا النقص يرجع إلى عدة أسباب:

- منها أن التعليم كان في يد نفر من رجال الدين، الذين يمقتون الفلسفة، ويحرمون على الناس دراستها، لما بينها وبين العقائد الدينية من ظاهر الخلاف ... على أن الدين الإسلامي لا يعادي الفلسفة في شيء؛ فقد خاطب العقل وحض على النظر في ملكوت السموات والأرض، وأنتهج القرآن منهجاً لم تألفه الكُتب قبله ولا بعده، فاستنهض الأفكار، وطالب أولى البصر من بني الإنسان بالإمعان في البحث والجري وراء الحقيقة حتى ينكشف لهم بعض الأسرار التي أودعها الخالق في خلقه. وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس على لسان نبي مُرسل بتصريح لا يقبل التأويل، واستقر بين المسلمين كافة إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه ... نعم أعتمد الإسلام على العقل ورفع بذلك من شأن الإنسان، وعلمه أن يهتدى بنور العلم ويسترشد بدلائل الكون، ويعتبر بما فيه من أحداث، وطالب الناس بأن يتدبروا في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار... ومنها: أن العقول كانت لم تصل إلى مستوى تشعر فيه بضرورة الفلسفة، وبأنها من وسائل الثقافة العامة، ورقي المدارك وشحذ المواهب، وتوسيع الأفق العقلي، وأساس النهوض، يضاف إلى هذا، أن كلمة الفلسفة من الكلمات التي أُسيء استعمالها في الوقت الحاضر؛ فإنّ نفراً من الناس لا يستعملها إلا في المناقشات الخالية، التي لا تجدي نفعاً، ويزعمون أن الفيلسوف هو الرجل المُغرم بضروب من الخيال، الذي أعمته الأوهام والأحلام عن إدراك الحقائق ... والحق أن الفلسفة والحياة أمران متلازمان ... فالفلسفة هي الشمس تنبعث منها الحرارة والنور والحياة إلى سائر العلوم ... وتاريخ الفلسفة جديرٌ بالدراسة إذْ يرينا صورة واضحة عن نشوء العقل، ونضوج الفكر، ويعرض علينا النظريات المختلفة التي أجهد الفلاسفة عقولهم في الوصول إليها، ويبيّن مبلغ تأثير هذه النظريات في حياة الأفراد والجماعات، ويكشف لنا الحُجب عن كثير من أسرار الكون وما فيه من إبداع في الصنعة، وانسجام في التأليف، ويرشدنا إلى طريق السعادة، ويبعث في نفوسنا رغبة صادقة في إتّباع سنن أولئك العلماء، الذين وقفوا حياتهم للعلم، ونصبوا أنفسهم لنشر المبادئ وتعليم الناس، مهما لقوا في ذلك من محنة وأذى، وهو الذي يهذب من نفوسنا، ويوسّع نطاق عقولنا، وينمي فينا كثيراً من العواطف الطيبة، ومنها محبة الخير للناس عامة، ويقدرنا على إدراك الخدمات الجليلة، التي يؤديها إلينا العلماء في البلاد المختلفة، وإنْ تباينت مذاهبهم وتعددت نحلهم).

ويصرح إبراهيم مدكور ويوسف كرم في مقدّمة كتابهما (دورس في تاريخ الفلسفة) عام 1940م، بأن معارفنا الفلسفية لا تتوائم مع واقعنا والأحداث التي طرأت على مجتمعنا؛ الأمر الذي يستجوب معه تطوير دروسنا الفلسفية التي يدرسها شبيبتنا صناع المستقبل (فإنّا لا نستطيع أن نشيد بناء استقلالنا الفكري إلا إن دعمناه على أساس متين في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي. وبديهي أن هاتين المرحلتين هما وسيلة التكوين الشعبي والثقافة العامة ... ولقد كان حظ الفلسفة في هذا التغيير الأخير أن بُعثت من مرقدها، ورد إليها بعض من حقها، ومُنحت قسطاً من الأهمية، فعُدّل منهج ما كان يُدرس من موادها، وأضيفت إليه مادة جديدة هي تاريخ الفلسفة. وفي رأينا أن هذه المادة أسهل على البادئين وإلى عقولهم أقرب؛ وكثيراً ما يُستعان بالتاريخ والقصة على توضيح ما غمض من الأفكار، وتذليل ما صعب من الآراء والنظريات. هذا إلى أن تاريخ الفلسفة عرضٌ لمشكلاتها وبيانٌ للأدوار التي مرّت بها، ففي دراسته ما يسمح لنا بالإلمام بالمسائل الفلسفية المختلفة - منطقية كانت أو أخلاقية، سيكولوجية كانت أو ميتافيزيقية - ومتابعتها في لحظات نهوضها وتقدّمها أو ضعفها أو انحطاطها. وكم تكسبنا هذه الدراسة دقة في الحكم، ومهارة في النقد، وسعة في النظر، تمكننا من الإحاطة بأطراف الأشياء المختلفة والموازنة بين الآراء المتعارضة، وكل تلك أسلحة ضرورية للسير في حياتنا الملآى بمتنوع الميول والنزعات، ومتباين الأفكار والاتجاهات).

وجاء في مقدمة كتاب (مشكلات فلسفية) المقرّر على السنة النهائية في التعليم الثانوي عام 1954م لـ إبراهيم عبدالمجيد اللبان، وتوفيق الطويل، ومحمد حسن ظاظا، وعبده فراج: (أن غاية هذا الكتاب إزالة الغموض الذي يلابس مفهوم الفلسفة في أذهان من يجهلونها. ألقينا في مدخله بعض الضوء الذي ينير الطريق إلى فروع الفلسفة ومجالاتها وتخيرنا في أبوابه نماذج لمشكلات فلسفية تتصل بحياة الإنسان في كل زمان ومكان، وتوخينا الأمانة في عرضها وبيان الحلول التي قُدِمت لها، راجين أن تثير في الذهن معاني تساعد على تكوين المواطن الصالح، وبهذا نساهم - ولو بقدر ضئيل- في تحقيق الهدف الذي تتوخّاه السياسية التعليمية المصرية في عهدنا الجديد).

وحسبي أن أوضح علة إيراد هذه النقول بنصّها من مصادرها الأولى التي كُتبت فيها للوقوف على عدّة مسائل تبرر دعوتي إلى ضرورة الرجوع إليها إذا ما أردنا تطوير مقرراتنا الدراسية في المرحلة الثانويّة.

تلك هي إجابتي عن الأسئلة المطروحة. ثم جاء دوري لأتساءل: ألم تبرر هذه النقول الغاية الحقيقة للفلسفة ووظيفتها؟ ألم تكشف الواقعات عن مواطن بؤس الفلسفة المتمثلة في طورها التلقيني في نهاية العشرينات من القرن الماضي؟ وهل هناك شك في أن فترة الستينيات تمثل طور جنوح الفلسفة عن مقصدها وعزوفها عن رسالتها؟ وكيف لا وقد استحالت المعارف الفلسفية إلى معارف هشّة إذا ما قُرنت بزخم التوجيه السياسي، وتراجع العديد من الأقلام عن البوح بخطورة هجر المعارف الفلسفية وتربية الطلاب على النقد والمراجعة والتحرر من قيد التلقين الذي أصاب المُقررات الفلسفية الدراسية في مقتل؟ ونتسأل من جديد: ألسنا في حاجة للرجوع إلى الفترة الممتدة من (1935م إلى 1955م) لإحياء الدراسات الفلسفية في مقرراتنا الدراسية؛ لتتواصل مع الدراسات الجامعية المرجوة؟ ألسنا في حاجة لإعادة دراسة مبحث فلسفة القيم لنقوّم أخلاقنا التي هوت إلى دَرك العُريّ وانعدام الحياء والكذب والحقد والعنف والتطرف بأوسع معانيه، وانحطت أذواقنا بداية من لغة الحوار، ومروراً بأغانينا وما نشاهده من أفلام ومهرجانات، وانتهاءً بما نُبيحه على شبكات التواصل؟ ألسنا في حاجة لإيقاظ وعينا القومي والتمسك بهويتنا المصريّة وانتمائنا وولائنا بالأصيل من ثقافتنا؟ ألسنا في عوز لرأي عام قائد يستأنس الربط بين ما أنقطع بين خطاباتنا ومشروعنا الحضاري الذي أُتهم بالعجز والقصور عن بلوغ مقصدنا من التقدم والرقي؟ ألسنا في حاجة إلى إحياء رسالة الفلسفة في منابرنا الثقافية وكل معاهدنا التعليمية؛ فالتفسير والتبرير هو ضالتنا التي افتقدناها لمخاطبة الجمهور وتوعيته وتبصيره وتوجيهه؟ ألسنا في حاجة أيضاً للثورات الفكرية الهادئة التي تنشد التغيير لإصلاح ما فسد، وشحذ الهمم والبناء وهدم كل أوكار التخلف والتطرف والفساد والإرهاب؟

وللحديث بقيّة لإكمال ما بدأناه عن سرد واقعات رحلتنا النقدية لأطوار معارفنا الفلسفية في الثمانينات من القرن الماضي.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

تُعتبر الاخلاق Ethics وبشكل متزايد جزءاً من المناهج الدراسية، وكذلك بالنسبة للاخلاق التطبيقية في الصفوف التمهيدية هي جزء من التدريب الذي يمارسه الممرضون والممرضات والعلماء والجنود. التعليم الأخلاقي يسود في كل مكان، ومع انه لايتطلب دائما نقاشات نظرية معقدة، لكنه يجب ان يتضمن مقدارا من الفلسفة. هناك أسباب قوية للنظر الى الفلسفة الاخلاقية لكي نتعلم فيما يخص الافعال الاخلاقية الواقعية الحاصلة في العالم – وهناك بالطبع مخاطر ايضا.

لماذا لا نستطيع العمل بدون فلسفة أخلاقية؟

يعتمد التعليم الاخلاقي على طريقة فلسفية. هذه الطريقة تتطلب ادراك المفاهيم والاختلافات، ومعرفة ما يجعل الجدال صالحا عند التعامل مع الحجج المضادة. تلك المهارات هي حيوية في عمل الحجج الاخلاقية  التي تستلزم النظر في المبادئ الاخلاقية واللجوء للمنطق والمقارنة بين الحالات. ولأن العقائد الاخلاقية ليست محسوسة او مختبرة علميا، سنحتاج الى وضوح مفاهيمي لتجنب سوء فهم الطرف الآخر. ايضا،كوننا منسجمين فلسفيا،يمكن ان يمنعنا من وضع استثناءات لأنفسنا (الشكل الشائع للنفاق).

ولكن لماذا تُعتبرالحجة الاخلاقية ذاتها شيء جيد؟ الحجة الاخلاقية تسمح لنا بالاستمرار في الانخراط مع الآخرين حتى عندما لانتفق معهم حول القيم. القيم ليست شيئا ثابتا او معطى، بل يمكن ان تكون قابلة للنقاش العقلي.

الفلسفة الاخلاقية ايضا تساعدنا في مسائلة الافتراضات غير النافعة وتبلغنا حول الطرق التي ترتبط بها قيمنا بمعتقداتنا الوصفية، مثل الفرضيات العلمية حول سايكولوجية الانسان. مع ذلك جميع النقاشات اللامتناهية  والتي بعضها كانت تجري منذ ألف سنة – قد حدث فيها تقدم بالفعل. نظريات الحقوق الطبيعية كانت عبارة عن أنظمة فلسفية سادت قبل وقت طويل من حماية قوانين حقوق الانسان . العديد يقبل بان حقوق الانسان تشكل تقدما أخلاقيا حقيقيا. الفلسفة الاخلاقية تمثل سجلا مستمرا لما تعلمناه حتى الان. الفلسفة الاخلاقية تشجعنا من خلال طريقتها ومضمونها الفكري وحديثها عن التحديات الاخلاقية. دراسة الاخلاق يمكنها ان تحفزنا للقيام بسفرة شخصية نتعلم فيها حول انفسنا والطريقة التي نفكر بها، نتعلم ان الآخرين يفكرون بطرق مختلفة.

المخاطر

تميل الفلسفة الاخلاقية للتركيز على مجالات عدم الاتفاق. غرف تدريس الاخلاق التطبيقية تستكشف قضايا خلافية مثل الاجهاض والقتل الرحيم، بدلا من مناقشة العديد من القضايا التي نتفق عليها. كذلك، الفلسفة الاخلاقية تستكشف ما لدينا من أسباب في كوننا أخلاقيين. ولكن عادة نحن نستطيع الاتفاق على الفعل الصحيح حتى عندما لا نتفق على المبادئ الاساسية. الفيلسوف الفرنسي جاكوس مارتن Jacques Maritain التقط هذه الفكرة اثناء كتابة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، عندما لخص افكار فلسفة اليونسكو بالقول : "نعم، نحن نتفق حول الحقوق، ولكن بشرط ان لا أحد يسألنا لماذا". حالما ننطلق من الحجة الاخلاقية الاساسية الى نظرية أعلى، تصبح الفلسفة صعبة – مجال النخبة من ذوي الموهبة والاستعداد الذهني والوقت للتمكن من المعرفة المكثفة المطلوبة. عندما يصبح الانشغال الفلسفي مرهقا ،فان اولئك الذين يفتقرون لهذه الخبرة المكتسبة سيشعرون انهم في موقف يصعب التعامل معه . بالنسبة لهم، ربما تبدو الحجة الفلسفية سلاح ردع يُستعمل كوسيلة للاستكشاف المتبادل. الكثير من الفلسفة الاخلاقية يستلزم دراسة نظريات أخلاقية عامة، مثل تلك التي وضعها ارسطو (نظرية الفضيلة)، وكانط (علم الاخلاق) ومل (مذهب المنفعة). الفلاسفة لديهم اسباب جيدة لتطوير هذه الأنظمة المعقدة. نظريات توفر طرقا منهجية للتوضيح، والوصف وتبرير الفعل الأخلاقي.

لا يمكن عمل فلسفة أخلاقية بدون نظريات أخلاقية

غير ان التنظير الفلسفي التام قد ينطوي على سلبيات. قبول نظرية معينة يعني رفض كل النظريات الاخرى وما تقدمه من رؤى متفردة. كذلك، بما ان الداعين للنظرية يتطلب ان يكون لديهم سبب للاعتقاد بنظريتهم، هم يمكن ان يصبحوا غير متسامحين. ربما يرون ان حججهم يجب ان يُجاب عليها (واذا لم يتضح زيفها) ستُقبل. هم يميلون للاستنتاج ان غير المؤمنين جميعهم دوغمائيين غير مقبولين. وما هو اسوأ ان الكورسات التعليمية احيانا تعرض للطلاب فقط نوعا واحدا من النظرية الاخلاقية بدون التطرق للبدائل الاخرى. وبدلا من توسيع الآفاق الاخلاقية لاولئك الطلاب،فان التعرض لنظرية عليا يضيّق للطلاب آفاقهم.

أي اتجاه

اذا كان التعليم الاخلاقي يحتاج فلسفة اخلاقية، والفلسفة الاخلاقية تحتاج نظرية عالية،كيف سنعمل؟ هناك اقتراح،وهو ان معظم النظريات الاخلاقية تركز على رؤى مركزية. المذهب النفعي يخبرنا ان ما يهم هو النتائج المتمثلة برفاهية الآخرين. فلسفة الاخلاق Deontology تؤكد ان الاخلاق تتطلب من كل الافراد قبول انهم ملزمون بواجب التصرف بطرق معينة تجاه الناس الآخرين. نظرية الفضيلة تذكّرنا ان الشخصية تقود الفعل وان الحياة الاخلاقية تحمل مكافئتها الخاصة. هذه الرؤى جميعها تعطي منظورات قيّمة عن الموزائيك الاكبر لحياة الانسان الاخلاقية. التعليم الاخلاقي يكون في أفضل حالاته عندما يعرّف الطلاب على مختلف المنظورات ورؤاها المتفردة.

بالنسبة للناس العاديين الذين يحاولون التفكير من خلال اسئلة أخلاقية عملية،فان الرؤى هي التي تهمّهم وليس النظريات.

***

حاتم حميد محسن

 

 

(الانسان هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الأله) ماكس شيلر

تعريف

ماكس شيلر (1874 – 1928) أحد فلاسفة الحياة (1900- 1950) في بداية نشأته، وفي مرحلة لاحقة أشتغل على فلسفة فينومينالوجيا هوسرل محاولا تطويرها بمفهومه الفلسفي الخاص به.وفي سنوات شبابه وقع شيلر تحت تأثير أستاذه (أيكن) أحد فلاسفة الحياة الذي كان أهتمامه منصّبا حول حياة العقل، بأختلاف عن فلاسفة الحياة مؤكدا على مركزية العقل ومحوريته في الفهم المعرفي والوجود الذي ينكرونه عليه فلاسفة الحياة. من المهم التنبيه الى ان ماكس شيلر لا يؤمن بوحدة الوجود التي هي نزعة صوفية كما هي عند اسبينوزا. كما ان ماكس شيلر لا يلتقي مادية فيورباخ في صوفيته التاملية. والسبب ان شيلر احد فلاسفة الحياة في القرن الثامن عشر حيث يفسرون علاقة العقل بالطبيعة بمنظار اهمية العقل في ادراكه تعالق الطبيعة بالانسان.

كما تأثر شيلر لاحقا بكل من نيتشة ودلتاي وبرجسون، ما جعل (ترولتش) ينعته ب (نيتشة الكاثوليكي) حيث كان شيلر أحد المتأثرين بالقديس أوغسطين أيضا. وبحسب المعنيين بتاريخ الفلسفة الاوربية الحديثة في القرن العشرين، فهم يرونه يستحق الاهتمام الخاص به لأنه أهتم بقوة وحماسة على كينونة الشخص والعودة الى الانسان والاهتمام بقضاياه.(1)

وما يهمنا في هذه المداخلة السريعة هو التعريف بمفهوم شيلر عن العقل والمعرفة بمسح أجتزائي مقتضب غير مخّل، من حيث أن شيلر لديه أهتمامات فلسفية عديدة ،يحتاج كل مبحث منها الى دراسات مستفيضة معمّقة، فمثلا هو أهتم بعلم الرياضيات وله كتاب فيه، وأهتم بالمنطق ايضا، وبمثالية كانط وكتب فيها ، وكتب في الاخلاق، والفينامينالوجيا، وكذا في موضوعة الحب ، وفي المعرفة ، والبنية الماهوية لكل ماهو موجود منتقدا كانط فهمه الادراك العقلي للوجود، في وجوب معرفة (ما) الاشياء قبل تساؤلنا كيف نعرف الاشياء كما ذهب له كانط وفلاسفة الحياة.

شيلر والعقل

قبل دخولنا معترك بعض أفكار شيلر لا بد لنا من عرض تحقير بعض فلاسفة الحياة للعقل فقد ورد على لسان كلاوجز: (أن العقل خصم للنفس وخصم للطبيعة وخصم للاخلاص ولكل ماله قيمة، لذا علينا رفض العقل وأن نعود الى تصور العالم على ما كان عليه عند البلاجيين، أي الى الحياة المتحررة من العقل تماما التي تتمتع بالروح البدائية بغير وعي منها)(2)

ينتقد ماكس شيلر كانط في منهجه الاستقرائي في المعرفة قوله :(أن ميدان القبليات- البديهية لا علاقة لها على أي نحو مع ما هو صوري،كما كان يرى كانط. فهناك – والقول لشيلر- ما هو مادي، وهي مضمونات مستقلة عن الخبرة وعن الاستقراء، ويرفض شيلر بشدة مكافئة كلا من الاتجاهين التصوري، والاتجاه الاسمي الوصفي)(3)، هذا التوصيف لايمّثل سوى أتجاه مثالي واحد هو قابلية العقل التجريدية في التعبير عن الوجود بالفكر واللغة، ولا يمثل أية آلية جديدة غيرها في تعبير العقل عن مدركاته وعن المعرفة أيضا.

وأن مثالية شيلر هنا هي نسخة متقدمة عن مثالية كانط، والاثنتان تدوران في حلقة مثالية دائرية واحدة في فهم الوجود والمعرفة. كونهما يفترضان وجود مدركات قبلية فطرية بديهية معطاة للعقل.

وهذا مايرفضه جون لوك صاحب الوضعية المنطقية التجريبية الجديدة وفلاسفة آخرين تماما معتبرا أن الخبرات القبلية العقلية أن وجدت فهي تكون مكتسبة بالتجربة العملية والخبرة المتراكمة، وليس بالمعطى الفطري الجيني الوراثي لها، والخبرات العقلية لا يكون مصدرها سوى التجارب الحياتية و العملية، وبغير ذلك فلا وجود حقيقي لها. بوجيز العبارة فأن كل معرفة نعتبرها فطرية انما تكون بدايتها الفطرية مكتسبة من  الواقع وهي حقيقية صحيحة من وجهة نظري.

فهي أي الخبرات القبلية الفطرية المخزّنة بالذاكرة انما هي مكتسبة وليست خبرات جينية بيولوجية موروثة تولد مع الانسان مزوّدا بها. وفي عبارة جون لوك الشهيرة أن الانسان يولد طفلا وعقله صفحة بيضاء ، هو رد مباشر شبه يقيني في دحض الخبرات القبلية عند الانسان ان تكون فطرية غير مكتسبة في البدء.

ومن الجدير ذكره أن من بين المنادين بالخبرات القبلية ديكارت وهيوم وجون ديوي وغيرهم من فلاسفة الخبرات القبلية الموجودة في عقل الانسان بالفطرة كمعطى تتشارك به بيولوجيا الجينات الوراثية مع هبة الخالق لها للانسان عند ديكارت فقط بأعتباره المتدين الوحيد من بين كلا من ديفيد هيوم وجون ديوي وجون لوك..

كما أن التفريق بين ما هو مدرك تصوري مثالي وما هو أسمي وضعي وعلاقة العقل بهما مسألة محسومة تماما في صالح العقل وليس في صالح التجزيء لادراكات لا تحصى فهي تكون جميعا مصدرها الادراك العقلي الواحد، وليس معنى هذا أن العقل يدرك المعطيات المادية والمعرفية والانطباعلت النفسية، والحب، والعواطف والاخلاق والجمال والقيم وغيرها بآلية أدراكية واحدة يقوم بها العقل حسيا... وأنما تقوم بهذا التنوع الكثير جدا من المدركات الواردة بشكل حزم لا نهائية ترد العقل وتستقبلها وتعالجها مليارات الخلايا العصبية الموزعة في القشرة الدماغية، وفي تخصصات غاية في التعقيد والتنظيم والاعجاز التنفيذي لمخرجات العقل في جدلها التخليقي مع العالم الخارجي ومع موضوعات الذاكرة أيضا.أي الموضوعات التي تستحدثها الذاكرة التخييلية وتضعها أمام العقل للنظر بها وأعطائه ردود الافعال عنها.

ثم أن حصيلة أدراك الواقع المادي، هي ذاتها حصيلة العقل الذي يخلق التصورات العملية المادية لها ، والتصورات المثالية التجريدية الصورية عنها. فكلتا الفعاليتين هما أدراك عقلي واحد في تخليقه وتعبيره عن المدركات والوجود كوحدة واحدة يقوم العقل بالبت في أمر أصدار الايعازات الانعكاسية الجوابية الارادية عنها وغير الارادية المتنوعة العديدة بشأنها...ولا مجال في الفرز والتفريق لوظائف العقل الادراكية من خلال تجزئتها الى مادية أو مثالية تجريدية أو غيرهما في أكتساب المعرفة.

لأن مثل هذا التجزيء في وظائف العقل يقودنا الى ما لا يمكن حصره من أنواع الادراكات التي يستلمها دماغ الانسان من الطبيعة والمحيط والاجابة عنها خلال لحظات في بعضها ودقائق فكيف يكون الحال مع ردود الفعال العقل الانعكاسية في الايام والاسابيع والشهور والسنين الخ.؟؟

ويرى شيلر: (أن الذي يمّيز العقل الانساني تمييزا قاطعا هو نشاط الافكار التصورية، أي ملكة فصل الماهية عن الوجود، وبالتالي فأن العقل موضوعي، وأمكانية يحددها شكل أو هيئة الاشياء ذاتها) (4)

أن عبارة شيلر هذه التي مررنا عليها،هي أن العقل يتميز تمييزا قاطعا في نشاط الافكار التصورية صحيحة لكنها لا تقوم على فصل الماهية عن الوجود بل لأن قدرة العقل تقف عند حدود معرفته ظواهر الوجود الذي يمكن التعبير عنها تصوريا باللغة،أي في تعبير العقل عن مدركات الظواهر بالفكر التجريدي واللغة، وما لا يمكن التعبير عنه بالفكر واللغة الصورية غير موجود، بمعنى غير مدرك عقليا لأن العقل عاجز عن أدراك ماهيات الاشياء ولا متاح للعقل التعبير عنها بنشاط صوري كما في التعبير عن الاشياء في ظواهرها وصفاتها الخارجية. لذا يكون العقل في حّل من أمر فصل الماهية عن الوجود للاشياء.وليس كل الاشياء في العالم الخارجي تمتلك ماهيات هي غيرها المدركة في صفاتها وظواهرها الخارجية المدركة.

أذ ربما تكون معرفة ظواهر وصفات الاشياء كاف لادراكها المادي وليس من حاجة بعدها البحث فيما وراء الصفات البائنة عن ماهيات لا تكون موجودة خارج او بمعزل عن الصفات المدركة وهو ما تذهب له المادية الماركسية.

وهي مسألة غاية في الدقة وصواب التعبيرفي توصيف ظواهر الاشياء التي يتعذر على العقل التعبير عن ماهياتها، من حيث أن وسيلة العقل في أدراك الاشياء في الطبيعة وعالم الموضوعات الخارجية المستقلة منها في وجودها الطبيعي، أو الموضوعات التي تبتدعها الذاكرة المخيلة العقلية في الذهن والتفكير العقلي الصامت ومعالجتها، أنما تكون غاية العقل من ذلك ليس الاقتصار على فهم الظواهر وتفسيرها أو تحليلها فقط، بل أن فاعلية ونشاط الافكار الصورية أي التعبير بالفكر واللغة عن مواضيع الادراك العقلي، أنما هي في حقيقتها تخليق العقل للاشياء المدركة ومحاولة تغييرها نحو الافضل، وبما يخدم حياة الانسان وليس الاكتفاء بمعرفتها تجريدا سلبيا.

ولو نحن أقتصرنا على أدراك العقل للاشياء من أجل معرفتها وتفسيرها فقط وليس من أجل تغييرها ووضعها في خدمة حياة الانسان نحو الافضل لكنا الى يومنا هذا نعيش في عصور الكهوف البدائية.

أن أدراك الاشياء في الطبيعة هو قوة مادية يمتلكها الانسان من أجل سد حاجاته وليس من أجل التعبير المجرد عنها كمدركات لا أهمية لها في حياته. كما أن الافكار التصورية للعقل، أنما هي أنعكاس جدلي حيوي غير ميكانيكي في تعالق المادة والفكر على مستوى الادراك العقلي للاشياء وأدامة حيوية تطورها.

والافكار التصورية في التعبير عن الوجود، أنما هي تمثل مرحلة ثانية تلي مرحلة الادراك العقلي للاشياء من حيث أهمية أجراء عملية تحليلها وتخليقها في الذهن أولا.. فالعقل يدرك مواضيع الوجود المادي والخيالي معا في كل تنوعاتهما واختلافاتهما كحزم لا تحصى من الادراكات التي ترد العقل عن طريق الحواس والذاكرة، بعدها يقوم العقل  بتخليق دينامي حيوي لها قبل التعبير عن مواضيع الادراك بالفكر واللغة التجريدية الصورية داخل وخارج العقل في مجمل موضوعات الادراك وتنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية في وصولها كمعطيات ادراكية للعقل... وبهذا يكون العقل (موضوعيا) كما يصفه شيلر وليس ذاتيا فقط، بمعنى أنه مادي فاعل ومؤثر بالوجود وليس مدركا هامشيا محايدا ذاتيا في تدبيره حياة الانسان...كما أن من المهم معرفة ادراك الاشياء عقليا لا يعني معرفتها.

والعقل في الوقت الذي يعي نفسه أو ذاته، هو عقل موضوعي في مهمته أدراك عالم الاشياء الخارجي أيضا. والعقل يدرك وجود الاشياء ومحاولة أعطائه الفهم التحليلي والتفسيري لها بالفكرالجدلي ،قبل أهتمام العقل التعبير عنها صوريا تجريديا باللغة. أما الشيء الذي نجده يستحق فعلا الاهتمام الجاد والكبير به ومناقشته هو أعتبار شيلر أن العقل يمتلك (ملكة) فطرية يستطيع تمييزه بها نوعية الشيء المدرك من حيث امكانية العقل فصل ماهيته عن مظاهره وظواهره الخارجية.وبذلك يسبغ شيلر على العقل أمكانية لا يمارسها العقل وعاجز عنها ولا هي من اختصاصه القيام بها ونعني بها قيام العقل فصل الماهية عن الوجود كما يرغب شيلر.

كما نجد أن تخطئة شيلر لكانط في أصرار هذا الاخير عدم امكانية العقل فصل ماهيات الاشياء عن ظواهرها الخارجية المدركة،أن تكون مصادرة رأيه بهذا المعنى والتعبير الفلسفي الاجتهادي المقبول، هو في مصادرته دونما أعطائنا شيلر بديلا فلسفيا مقنعا في كيفية أمكانية العقل فصل الماهية عن الوجود وكيف؟

بالحقيقة أن وجود الاشياء والمواضيع المستقلة في الطبيعة، وتمايز ماهياتها عن ظواهرها أو ظاهرياتها ، هو في تعبير الوجود عن ذاتيته المستقلة بالطبيعة (ذاتها) كماهية غير مدركة وظواهر متعالقة بها قابلة هي وحدها لادراك العقل لها... والعقل في أدراكه الشيء يدركه كوحدة واحدة من المكونات الظاهرية والماهيات المغلقة غير البائنة ادراكيا، ولا يستطيع العقل فصل معرفة ماهية الشيء عن ظواهره الخارجية لا في أدراكه ولا في أعادة تخليقه له. ،فماهية الاشياء وعدم أدراكها حدسا عقليا أو تجريبيا أنما هي من خصائص الطبيعة غير العاقلة وليس من مهامها البيولوجية وظائفيا، التي هي الاخرى كما العقل لا تستطيع فرز ظواهر الاشياء عن ماهياتها بالادراك المباشرلها.

فالطبيعة هي موضوعات أدراكية للعقل لكنها لا تمتلك أدراكا ذاتيا ولا موضوعيا جدليا متخارجا كما هو عند الانسان.. وليس من مهمة العقل المدرك للطبيعة والاشياء في ظواهرها البادية للمعطيات الادراكية الحسّية فقط التعبير عما يعجز عن أدراكه وهو ماهيات الاشياء وكيفياتها.. الماهيات ألعصيّة على ألادراك العقلي وليست ظواهر الاشياء...

فالعقل يعجز فصل الماهية عن الوجود مثلما تعجز الطبيعة فعل ذلك أيضا، لكن بفارق جوهري كبير هو أن العقل يدرك عجزه كونه يعي ذاته والموضوع، بينما الطبيعة لا تدرك هذا العجز لعدم توافر الادراكين الذاتي والموضوعي عندها ناهيك عن أنعدام امتلاك الطبيعة خاصيتي الفكر واللغة اللتين يتمايز بهما الانسان عن الطبيعة في التعبير عن ادراك الاشياء ذاتيا وموضوعيا معا..

والحقيقة أن الادراك العقلي المادي للاشياء لا يدرك ماهياتها منعزلة كما لا يدرك ظواهراها ألبادية منعزلة عن أرتباطها الوثيق بجواهرها الكامنة فيها، ولا ينفصل العقل عن أدراكه الاشياء في ظواهرها من حيث أن المدرك الظاهري للشيء هوغير مدرك في ماهيته، ليس بالمعنى النوعي للادراك،بل بالقياس الكمّي الذي لا تنفصل فيه ملازمة ظواهر الاشياء المدركة عقليا بكيفياتها غير المنكشفة لادراك العقل، كما هو الحال مع الظواهرالمتعالقة مع كيفياتها الماهوية في غالبية الموجودات.بتعبير آخر فان الماهيات تتعالق في تبعيتها أدراك العقل لظواهرها، أي أن ظواهر الشيء المدرك تبقى في ملازمتها ماهيتها غير المدركة وترافقها معها، العقل وأن كان يدرك ظواهر الاشياء فهذا لا يعني مكنة وقدرة العقل التمييز الادراكي بين الظواهر والماهية في أدراك الوجود.

لكن تبقى محدودية ألادراك العقلي في عدم معرفة ألماهيات، وفي قدرته تفسير ظواهر الاشياء فقط ليست حيادية عقلية بل في تداخل وتفاعل تخليقي متجانس ومنظّم للظواهر وليس الماهيات، العقل لا يعرف ماهية الشيء المدرك في ظواهره، كي يتمكن فصل الماهية عن ظواهرها كما يرغب شيلر.

وليس في قدرة العقل الادراكي القيام بمهمة الفصل تلك، لذا عمدت الفلسفتان المادية والمثالية في أعتبارهما أدراك الاشياء في ظواهرها المادية الوجودية المستقلة ، هو أدراك كاف للعقل في معرفة الاشياء من حيث هي موجودات الطبيعة... وأن مجموع الصفات والظواهر للشيء هي ماهيته غير المنظورة للحواس ولا المدركة للعقل، وكل تغيير في الظواهر والصفات الخارجية المدركة للاشياء، أنما يستتبعها تغيرات جوهرية في حقيقة الاشياء كيفيا ماهويا رغم ألزعم القائل أن الماهيات جواهر ثابتة لا يمكن تغييرها.فالتغيير في صفات الشيء يقود حتما الى تغيير بعض ماهياته الثابتة التي في حقيقتها غير ثابتة وانما تعيش حركة تضاد حركي بداخلها ،وتعيش جدل متخارج مع صفاتها.أضافة الى أن ماهية الشيء هي في مجموع صفاته وظواهره المدركة حسيا وعقليا ومعرفتها في خواصه هذه يعني معرفة ماهيته.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.......................

هوامش:

1- 4 ا. م. بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني صفحات 281 - 287

ما الطبيعة السيكولوجية للعلاقة بين السلطة والمثقف؟. وما الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف؟. وعلى افتراض انهما خصمان او مختلفان في الفكر والمزاج والضمير والقيم، فهل سيأتي حين من الدهر يكونان فيه منسجمين، ام انهما يبقيان الى الازل.. جبلان لن يلتقيا؟.

السلطة والمثقف.. ما يجمع وما يفرّق

المقصود بالسلطة هنا.. نظام الحكم السياسي الممثل بحكومة مسؤولة عن ادارة شؤون الناس، ونقصد بالمثقف، الذي يكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل انواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني ان السلطة والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في امرين:المنظور الفكري (المعرفي) الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، واساليب التعامل معها. فالسلطة تحمل منظورا فكريا واقعيا، فيما هو عند المثقف مثالي.. بمعنى انها تنظر للامور وتزنها على اساس ابعادها الواقعية فيما ينظر لها المثقف على اساس ابعادها الانسانية.

والقضية عند السلطة تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، (والفرق كبير بين تكون وينبغي). والاختلاف في المنظور الفكري يؤدي الى الاختلاف في التعامل حتى مع القضية الواحدة، تماما مثل المصاب بالبرانويا الذي يفسّر همس اثنين بأنه تآمر عليه فيما يفسّره آخر بأنه مسألة خاصة بينهما.

صورة السلطة عند المثقف

ان الصورة التي يحملها المثقف العراقي (والعربي ايضا) عن السلطة انها (عدوة) له. فمفهوم السلطة في لغتنا وواقعنا ظل، كما اشرنا سابقا، مشحونا لقرون بطابع العنف والقوة ودلالات التسلط التي تتجلى في غائيات الطاعة والخضوع والامتثال، فيما هي (السلطة) في اللغة الفرنسية مثلا تعني الحق في توجية الاخرين والقدرة على اتخاذ القرارات وشرعية استخدام القوة. وبما ان الحرية للمثقف كالهواء.. لا يمكن ان يمارس دوره من دونها، وان السلطة تخشى الحرية، فأن المثقف عاش حالة اغتراب نفسي عنها أفضت بحتمية سيكولوجية الى علاقة خصومة او عداوة.

صورة المثقف عند السلطة

تشكلت لدى السلطة صورة نمطية عن المثقف بأنه خيالي.. يتعامل مع الامور بحس انفعالي، ويريد ان يكون التعامل مع الناس بشاعرية.. بانسانية، فيما السلطة تتعامل مع القضايا من منطلق مصلحتها الشخصية اولا ومصلحة الناس ثانيا، ولا مكان للمشاعر والعواطف.. فقلبها غليظ وطبعها خشن وليس رومانسيا كقلب المثقف ورقيقا كطبعه.

قناعات السلطة وقناعات المثقف

تشكلت عبر تاريخنا السياسي طباع سيكولوجية متناقضة بين السلطة والمثقف. فالسلطة اعتادت دائما ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس ان يقوموا بدور المنصت لها، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق.. فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.

والسلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، في رأيها، عن (طبخة)ناضجة وعملية جمعت كل مكونات القضية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة في رأيها، ولهذا فانها لن تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبختها) طعما طيبا.. الا اذا كان حلوا في فمها.

والسلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا. والمثقف ناقد بطبيعته لا سيما للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. والسلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: الشعور بالنقص والاستعلاء.. فضلا عن أن المثقف العراقي مصاب بعقدة (تضخم الأنا) لاسيما الكبار منهم أو الذين يعدون انفسهم كبارا!.

مفارقات فكرية

اغرب مفارقة حدثت في عراق ما بعد التغيير.. هي تراجع مكانة المبدعين مع ان النظام صار ديمقراطيا!، بعكس ما كان متوقعا حيث كان النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع على خدمته، فيستجيب دفعا للشر، أو يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار، أو يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر ابداعه. ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول عربية (الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر..)، وأسهمت في تطوير دول أوربية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب ابداعا.. بل أن الأطباء العراقيين الموجودين في بريطانيا لو عادوا الى العراق لاختلت او تعطلت الخدمات في المستشفيات البريطانية!

ومفارقة أخرى، هي فشل النظام الديمقراطي في اعادتهم كما فشل النظام الدكتاتوري من قبله، مع أن الدكتاتورية شرّعت لهم قانونا بأسم (الكفاءات)كان مجزيا ماديا.. فعادوا للعراق فعلا لكنهم اختنقوا.. فتركوا ما منح لهم من مكافئات (قطع أراض، سيارات..) ورجعوا لبلدان الغربة التي رحبت بهم ثانية!

والمؤسف ان ديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين من أخمد صوته كاتم صوت، او من اختار ان يجاهر بالحقيقة حاملا كفنه على يديه، او من سار على خطى المهاجرين من قبله.

والمؤلم أن الباقين منهم تراجعت مكانتهم الوظيفية. فمعظم المراكز الوظيفية الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي، فعلّة الاسلام السياسي انه يفضل حامل بكلوريوس من اهل الثقة على خبير دولي حامل دكتوراه في الاقتصاد، وجعل المبدعين المستقلين لا دور فاعل لهم على صعيد السلطة التنفيذية.. ولا يدرك ان الابداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول.. فالدولة الأكثر احتراما لمبدعيها وتوفيرا لفرص توظيف ابداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطورا وتحقيقا لحياة كريمة لمواطنيها، ولهذا تخلف العراق بعد 2003 عشرين سنة.. قد تمتد نصف قرن!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

إنَّ الانطلاقة المعرفية في هذا المضمون تأتي من أهمية المصطلحات التي شكلت عملية من البحث المستمر بين طرفي المعادلة في الفكر الانساني، إذ أثر تطور الحركة المعرفية في العلوم والفنون والآداب، وقبلها في الفكر الفلسفي، الذي أثار هذه الجدلية المعرفية والصراع الدراماتيكي بين (الوجود والماهية)، أو (المادة والفكرة)، أو بين المرجعين الرئيسيين في هذا الموضوع وهما الحركة (الافلاطونية الاشراقية) والحركة (الارسطوطالية المشائية) في الفلسفة . إذ نتج عن هذا الحراك الفكري جدلية مستمرة حاول بعض الفلاسفة والمفكرين أن يجد لها:

1. مساحة التقاء في نقطة وسط بين مفهومين لحل هذه المعضلة.

2. أو العمل على كليهما لأن كل اتجاه يتميز بقيمة معنوية ومعرفية في تكوين الفكر الإنساني من دون أن يكون له السبق على الآخر في هذا المجال.

3. أو أن الأصالة تقاسم بين الطرفيين في ايجاد الحلول المعرفية التي كاد بعضهم أن يجعلها حكراً وإلزاماً على نفسه، وعلى من يجادل في هذا المجال.

لذا عملت بعض التيارات المعرفية في عصور مختلفة على رأب هذا الصدع، ومن دون التحزب إلى جهة ما من المعادلة، فقد عملت فلسفة (الحكمة المتعالية) في الشرق الإسلامي وقبلها محاولات للفيلسوف الإسلامي (الفارابي) الذي حــاول الجمع بين آراء الطرفين، وفي العصر الحديث أنبرى لهذه المهمة الصعبة والعسيرة علـى الجمـع بيـن التيــارين الفيلسوف الالمــاني (أدموند هوسرل) في فلسفته (الفينومينولوجيا)، مستنداً بذلك إلى أفكار اسلافه (ديكارت، وكانط) للوصول إلى حلقة جديدة في الفكر الجامع بين الاتجاهين، المتباعدين تارة والمتقاربين تارة أخرى، حسب آليات الفهم لعمل كل منهما، وحتى في هذا المجال بقيت الاولوية في الانطلاق وتأسيس الفكر الفلسفي في هذا الاتجاه التقريبي أو ذاك، لأحدهما على الآخر، أي أن يكون التأثير أولًا للفكرة وآلياتها، أو للوجود ومرجعياته الواقعية وآثاره، فمثلاً أن يكون التأكيد على الوعي في إيجاد المعاني والماهيات وذلك من خلال الاعتماد الكلي عما يتحقق من صور ذهنية في داخله، والذي عدّ الجانب المتعالي في الفهم المعرفي على الرغم من اعتماد الوعي بصورة مباشرة ومتقصدة للأشياء، أو يكون للوجود والموجود الواقعي الأثر المهم في تأكيد الأسبقية والأصالة في الرفد المعرفي، ومن دونه لا يكون للماهيات والصور الذهنية أي وجود في تأسيس الفكر والمعرفة الإنسانية، بوصف المسألة أنطولوجية، حتى أن اشترك الوعي في تأكيدها. وعلى الرغم من عمل عدد من الاطراف لإيجاد صيغ مشتركة، أو جانب من التودد للآخر في أن يجعل له نصيب في تأكيد الاصالة ومرحلة من مراحلها، فقد بقيت العملية خارج التأصيل المشترك للطرفين معاً في آن واحد .

إنَّ هذه الجدلية المستمرة يراها بعضهم بأنها عبارة عن افتراضات لا تتحقق في عالم متسارع الخطوات نحو تأسيس افتراض كلي للأشياء وذواتها، وما ينتج عنها من ماهويات قد ينتهي تأثيرها بزوال من يوجدها في ظل التسارع الذي يشهده العصر الحالي، الذي أصبح من أولوياته الاعتماد على جعل العالم شديد الاتصال بعضه ببعض، وأصبحت المعلومات المتناقلة ترفض كل الحواجز والعوارض التي تبعد المتلقي عن دائرة التطور، فهذا العصر عصر الجنون في كل شيء، ابتداءً من العلوم التي أصبحت في أغلب الاحيان تبحث في اللامألوف لدى الانسان البسيط، وإنتاج مفاهيم جديدة تأخذنا يميناً وشمالاً؛ بل أصبحت هذه العلوم ومن يقف خلفها تبحث في إيجادنا وإعادة انتاجنا مرات عدة؛ بل إلى ما لانهاية وخصوصاً في استنساخ اشكالنا، وعقولنا، ومفاهيمنا، التي أعتقدها بعضهم بأنها ثابتة ولا تتغير؛ لكنها تغيرت لكون هذه المعتقدات لا تستطيع المنافسة بشكل جدي مع الاطروحات الفكرية والثقافية الجديدة المستمرة، والتي تستمد اسسها من الافتراضات الجديدة التي حولت حياة الانسان من كائن له وجوده الفاعل في الاوساط كافة، إلى كائن معزول ومنفرد، وإن الأدوات الجديدة والآلات حلت مكانه في العديد من المواقع التي كان يشغلها، واختفت العديد من القيم الاخلاقية، وأخلاقيات العمل التي كانت مرتبطة بوجوده .

إنَّ هذا العالم الجديد الذي أبعد الانسان بوصفه قيمة اخلاقية وإنسانية، وأبدله بآلات يتحكم به بعضهم بحسب النوايا؛ أخرج الانسان من أبعاده المهمة في هذا الوسط الحسي والعقلي، وأصبح الاستنساخ حتى في إعادة إنتاج السلع التي تقوم بمجمل العمليات المعرفية للكائن البشري في تطور مذهل، مما يجعل العقل البشري يعيش في حالة تراجع فكري، والحواس في حالة تراجع أداتي وعملياتي في عملها، بالنتيجة فأن الجانب الوجداني له نصيب أيضاً في هذا التراجع في الوضعيات الانسانية.

ويتبادر إلى الذهن تساؤلات مهمة حول أهمية الموضوع وطرحه في الوقت الحالي ومنها:

1. ما أهمية طرح الأصالة للوجود أو الماهية ؟، وهذه الجدليات المطروحة في هذا النص والتي عفا عنها الزمن ونحن نعيش في ظل انطلاقات جديدة غيرت من ملامح وجودنا وأصبحنا نبحث في عوالم أخرى وكواكب بعيدة.

2. وكذلك يتبادر سؤال آخر مكملا لما سبق: أين الموجود (الإنسان) ووجوده بين ما يطرح بعد أن أخذ المفهوم الإنساني شكلاً جديداً؟ .

3. وما هي الفرضيات التي بإمكانها أن تعيد لهذه الجدلية وجودها الفعلي في ظل الاشكاليات التي تعدت هذه المفاهيم بشكلها التقليدي؟ .

نعم وأنا وانتم نتساءل أيضاً في مقابل هذه التساؤلات المهمة والمبررة في ظل الحركة المادية والاقتصاديات التي بدأت تتحكم في كل شيء في حياتنا بما فيها تشكيل الاوطان وأنظمتها السياسية وأجهزتها وقوانينها وحتى اخلاقياتها الاجتماعية والتأثيرات التي تمارس عليها في ظل التطور التقني الهائل، بل أصبحت الصياغات الجديدة لا تشمل شعب بعينه، أو قارة بعينها، بل أصبحت تشمل البشرية كافة على وجه الارض إلا ما ندر من الاستثناءات البسيطة وبدأت تصبغ الواقع المعاش في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها؛ وعوالمها المتقدمة والمتأخرة؛ والأولى والثانية والثالثة؛ ونحن نتساءل في ضوء هذه المتغيرات:

1. ماذا حلَّ في الحضارة الانسانية؟ .

2. وكيف سيعود الانسان الى انسانيته؟ .

3. وهل سنتحول الى كائنات جديدة في ظل هذه التغيرات المختلفة التي اصبحت واقع حال في حياتنا؟.

إنَّ هذا التساؤلات وغيرها تنطلق من النظرة المتفحصة لطريقة إنتاج العالم الجديد في ضوء تسارع الأحداث وما يسايرها من أنتاج موازي لهذه الحركة الكونية من حروب وويلات وقتل وتشريد أخذت هذه الحروب عدة مسميات وعدة مبررات، والعديد من الطرائق الجديدة بالقتل بأسم الإرهاب تارّة، والتطرف الديني تارّة اخرى، وبأسم فرض الديمقراطية والربيعيات التي لا تنتج ورداً، بل دماً تحول اللون الاحمر في أزهار الربيع الى دماء مستمرة عبرت حتى على الفصول الاخرى. وهذه الديمقراطيات التي أصبحت سلعة تساق الى الآخر تصاحبها هجرات وقتل وتشريد للإنسان الذي أصبح لا يؤمن بهذه المسميات بعد أن ذهبت بكرامته واستبيحت فيها الأوطان، وكل هذه الاجندات الجديدة التي تم صياغتها مرة اخرى وإعادتها واستنساخها ولكن بشكل مشوه في قوالب منمقة ومزوقة وكل هذه المسميات جاءت بالويلات للآخر بأسم الأفكار التي عملت على صياغة العالم من جديد، أي أن العملية أصبحت وتكونت من خلال الماهيات المتشكلة في العقول المهيمنة والمتسلطة على حياة الشعوب، وهي من عملت على إنتاج عالم جديد غير هذا العالم الموجود الذي أصبح في سياقات الماضي، أو من ضمن الإرث الانساني والحضارات الغابرة.

إنَّ المعادلة الجديدة التي يركز عليها البعض المتعالي والمتمادي في أفكاره وماهياته ونظرياته الجديدة أصبح يبحث على وفق نظرياته في تغيير المعادلة القائمة على إن لهذا العالم صورة بالية قديمة ونمطية لا تؤدي الغرض المطلوب منها، لذا يجب أن تبدل بأفكار وشعارات أخرى تسير اليها أفكارنا وعقولنا حتى يتحقق السلام والطمأنينة للإنسان في الأرض حسب زعمهم وأصبحت هذه النظريات المؤسسة على وفق ماهيات كونية متشائمة تقوم على الفكرة الخطيرة أن تبقى لهم زمام المبادرة والانتاج، وللآخر (موت ثم موت ثم موت) وبعدها نبدأ من جديد . فعندما يموت الصانع لهذا الكون في فكر (نيتشه) ويتكرر الصدى بموت المؤلف عند (رولان بارت)، وأخيراً موت الناقد عند (رونان ماكدونالد) ومهما كانت مسمياته، اي بالموت الثلاثي اصبحت الاشياء سائبة دون ان يقومّها أحد، أو أن يعدل من مسيرتها بحجة أن الحرية التي يمتلكها الانسان قادرة على أن تجعل من هذا الإنسان يبحث عن مصير جديد في هذا العالم العبثي كما هو في (ذباب ـ سارتر)، وأصبح هذا الموت علامة دالة على بعث العالم من جديد والتخلي عن كل القيم التي أوجدها الإنسان بعد بحث مضن في المعارف المختلفة، بل أصبحنا اليوم أمام (كوجيتو) جديد قائم على تغيير السابق من الافكار الإنسانية التي ترتكز على الوجود الإنساني في ضوء ما هو صالح من الافكار، أصبحنا اليوم امام (كوجيتو) يقول: (أنا أُبعثر ما هو موجود، إذن أنا موجود) تحت غطاء متشرعن جديد قائم على غاية (مكيافيللي) في تبرير وسيلته، وعلى البقاء للأقوى في (دارونيته) وأصبحت (هذه الافكار هي من تشكل العالم)، وأنا لا اقصد كل الافكار والنتاجات المعرفية والفكرية، بل اقصد واتقصد وأسجل الإعتراض على ماهية الأفكار التي اوصلت العالم الجديد الى حروب وحروب مستمرة لا تنقطع، وأصبحت العزلة لا تشمل الفرد الذي كان يأتلف مع الجماعة في إيجاد مجتمع صالح يتغنى سابقاً مع (حمورابي) في مسلته و(كلكامش) في نهاية ملحمته واحتفالات الحب والنماء في الحضارات القديمة بطقوسها، و(افلاطون) في جمهوريته وغيرها من الإنجازات التي شكلت ذهنية ووعي الإنسان الأول صاحب الإنجازات التي خدمت الإنسانية في الطب والفلك والهندسة والعلوم الاخرى، أصبحت اليوم هذه الجماعات تبحث عن العزلة الافتراضية في داخل المجتمعات التي كانت في السابق مندمجة في حياة مشتركة يربطها ويحصنها القول (إما اخوٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، أصبح الإنسان اليوم من خلال الأفكار وماهيتها المشوهة ذات النوايا المتشككة بالآخر يبحث في عزلته الجديدة من خلال تجزأت المجزأ وتقسيم المقسم.

إذن فما الصورة الجديدة في للكوجيتو الجديد الذي يتكون من مقولة (أنا أقوى أذن أنا موجود)، أصبحت أسبقية للأفكار فيها والماهيات التي بنيت عليها هي من تؤسس العالم الجديد دون الرجوع الى (الواقع المعاش) الذي كان نداً للماهيات المشوهة ويمدنا بالأفكار والذي يجعل من الانسان متعقلن في تصرفاته ونتاجاته الجديدة على أساس العامل المشترك مع الآخر، وتقديم حياة طبيعية ليس فيها تجاوز على الآخرين في هذا المجال، أو ذاك على حساب المصالح، بل يجعل من الإنسانية والعيش المشترك في هذا العالم الواقعي هي الأساس كون أن الجدلية تنطلق من إقناع الآخر وليس تدميره، أو فرض شروط عليه تحت مبدأ القوة والبقاء للأقوى من خلال غايات ووسائل مشوهة أصلاً لكنها مغلفة بأغلفة تبدو صالحة للوهلة الأولى وهي لا تدوم طويلاً حسب المسار التاريخي والحتمية التاريخية التي لم تسجل الاستمرارية لأحد مها كانت قوته، لأن المعادلة في هذا القول تأخذ قولاً مجيداً (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا القول الإلهي هو من يطبق دائماً فلا أحد لديه الغلبة على الآخر في مسارات التاريخ، ولو نظرنا جيداً الى التاريخ لوجدنا أن أمريكا كانت قارة مجهولة وكانت قبلها أوربا تعيش في صراعات همجية وكان العالم الأول آنذاك هو العالم الشرقي وحضاراته القديمة وأوج قوته في العصور الإسلامية، وأصبحت أغلب دول العالم الشرقي اليوم تمثل العالم الثالث، وأمريكا وأوربا هما العالم الأول وقد تتغير المعادلات قياساً بالسنن التاريخية في قابل الأيام وتشير الحياة على وفق البقاء للأصلح وليس للأقوى.

إنَّ الماهيات المتشكلة من الأفكار التي لا ترجع الى الواقع المعاش والوجود الواقعي للإنسان، وهي ليست حكراً في تطبيقها على أحد دون آخر، والتي تخلت عن أن تضع نصب أعين منتجيها قاعدة العيش المشترك والوجود الواقعي الذي تستمد منه الأثر والأعراض . وإذا اعطينا بعض الامثلة في استثمار الماهيات التي تعمل على الواقع المشترك وتأخذ في توظيف هذه الافكار في المجالات الأتية:

1. في السياسة: فهذه الماهيات لو افترضناها في العمل السياسي مثلاً وحاولنا أن نبعد هذا العمل عن الماهيات التي لا ترجع الى الواقع المشترك والمبنية على الأفكار في اطارها السابق من التشويه لكان الوئام اليوم موجود في الحياة الانسانية جمعاء، كون أن العامل المشترك بين الشعوب والدول يأخذ في الحسبان الموجودات القائمة على أن الإنسان هو الذي من أجله تبنى الأوطان وتبنى الحضارات، فالإنسان بواقعه الكلي هو المخلوق الاسمى الذي من خلاله تتطور الحياة، وليس البحث في سياسة تفضل فرد على فرد، أو جماعة على جماعة، أو شعب على شعب وتشرعن الدمار والقتل بحجة البقاء للأقوى، فهذه السياسة سياسة رعناء لا تجعل للعيش المشترك على وفق الواقع المشترك وجود حقيقي، بل للأفكار المزعومة التي من خلالها استبيحت افريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وحتى شعب الهنود الحمر في أمريكا .

2. في البناء النفسي: لو افترضنا أن الأفكار التي يحملها البعض ضد الآخر في قضية بث الخوف والفوبيا والدفاع عن النفس وما صاحب هذه الافكار من إنتاج الاسلحة الفتاكة والدمار الشامل بحجة الحماية المصاحبة لتأمين الحياة، لو كان بدل ذلك التركيز على الوجود الواقعي والعيش المشترك الحقيقي لما احتاج الإنسان الى مثل هكذا اسلحة مدمرة، بل العمل على المقومات التي يشترك بها الإنسان مع أخيه الإنسان في بناء عالم آمن.

3. في التعايش الديني: لو حاولنا إبعاد الفرضيات القائمة على ماهيات وأفكار متشنجة ومتشددة في كون أن للبعض من الناس حسب اعتقاده في الدين هو الوحيد الممثل للخالق في الأرض، وبدلناها بقاعدة (الاكراه في الدين) و(جادلهم بالتي هي أحسن) من خلال التركيز على المشتركات بين الأديان والمذاهب لما وصلنا الى ما هو عليه اليوم من تكفير للشعوب والقوميات والمذاهب والأديان، وظهور حركات وتيارات تكفيرية في كل الديانات السماوية والوضعية.

فمن خلال هذه الامثلة وغيرها في المجالات الأجتماعية والاخلاقية والعلمية والاقتصادية نقول أن المسألة مرتبطة بالعودة الى الواقع المعاش والوجود الواقعي وقرأته بشكل جيد من خلال البحث في هذا الوجود الإنساني وما يخص هذا الوجود في ذاته وليس على وفق أفكار تشكلت في صور ذهنية وماهيات ولدت في العقل البشري آليات البحث في المصالح الذاتية الضيقة .

إنَّ هذه التطلعات الأنطولوجية لا تنفي الأفكار ولكن الأفكار يجب أن تبنى على وجود واقعي ومعاش وعلى اساسه تبنى الأفكار السليمة وليس على اساس صور ذهنية مفترضة، فالفرضية في هذا الكتاب تنطلق من تغير النظرة وأبعادها عن المقولة التي تحرك الأفكار لعالم مجهول (أنا الاقوى اذن انا موجود)، أي الموجود الاقوى موجود متسلط وموجود طاغي جعل هذا العالم عبارة عن قنبلة موقوتة نتيجة سباق التسلح والخزين الهائل للقنابل النووية وغيرها، ونحول المقولة السابقة الى مقولة أخرى: (أنا افكر فيما هو موجود) وهي مقولة تسبق من حيث الايجاد والأسبقية (للكوجيتو الديكارتي) اي يجب أن تصبح هاتين المقولتين في سياق واحد وهو (أنا أفكر فيما هو موجود أذن أنا موجود) حتى يصبح سياق التفكير اساسه الواقع المعاش والوجود الواقعي الذي غُيب قسراً عن الحياة .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

يتناول الناس عادة الأدوية والجرعات المهدئة لكل شيء بدءاً من آلام الظهر وحتى الكآبة. فهل يمكن استعمال الادوية ايضا في علاج الحب وما يسببه من مآسي؟ الاخلاقي في جامعة اكسفورد بريان ارب Brian Earp يقترح اننا يجب علينا القيام بذلك. هل الادمان على الادوية هو الطريقة الامثل للحفاظ على علاقة الحب مع المحبوب لفترة طويلة؟ هل من الصحيح ان نحافظ بشكل مفتعل على عواطف الموجة الاولى للحب؟هل يجب علينا ايضا استخدام الدواء في محاولة إنهاء الحب لكي ننهي علاقة سيئة؟

بالاضافة لهذه الأجوبة الحديثة للاسئلة القديمة، هناك ايضا بعض الاجوبة القديمة المفيدة. الميثولوجيا اليونانية تزخر بقصص عن عواطف قوية تسببت بمشاكل للألهة وللبشر على حد سواء.

فلاسفة اليونان القدماء لديهم الكثير من القول عن الطريقة الملائمة للحب. هم عموما يتفقون على اننا يجب ان نحاول السيطرة على العواطف، تلك العواطف العنيفة التي تعكر هدوء الروح. القدماء يتحدثون عن عواطف الحب كنوع من الظروف التعيسة، حالة من المعاناة لا يرغب بها اصحاب العقل السليم. هذه العواطف الجياشة هي خطيرة لأنها تصرف الناس عن الهدف الحقيقي للحياة الذي هو البحث عن الحكمة طبقا لإفلاطون . ونفس الشيء بالنسبة للرواقيين الذين يشيرون الى الحكيم الهادئ الذي لايشعر بالأذى والذي يجد بين ثناياه السعادة. وكما هو شائع في العديد من التقاليد الشرقية مثل البوذية، يرى الرواقيون ان الحب الرومانسي يستلزم حكما زائفا حول قيمة الحبيب، حكم زائف يقود فقط الى خيبة الأمل والاحباط.

قد يبدو هذا وصفة لعالم كئيب بلا حب. انه يذكّرنا فقط بخطورة الاعتقاد ان الناس الآخرين هم المكمل العاطفي لنا. نحن لانزال نحب، لكن دون افراط.

هذه الافكار قد تكون غريبة لثقافة تمجد فضائل الحب الرومانسي المخدر(كما يبدو في مسرحيات الرومكوم الكوميدية). لكن هذه الثقافة فيها حوالي اربع من بين عشر حالات زواج، معظمها تبدأ بحب رومانسي مفرط، لكنها تنتهي بالطلاق. هنا نجد ان القليل من الرواقية سيكون ملائما .

نصيحة لمرضى الحب

الشاعر الروماني اوفد Ovid (43 ق.م-17م) يقدم اتجاها علاجيا لعلاج الحب. قصيدته (علاجات للحب) تقول ان علاج الحب يقود مرة اخرى الى السعادة لكن عليك ان تسعى حقا للتغيير، او كما يقول:

ابتعد عن المشاعر المأساوية الشريرة.

برنامج اوفد العلاجي يتضح في قوله:

هدفي هو عملي: لكي اطفئ النيران الملتهبة وأغلال الحب يجب ان أحرر القلب الأسير.

يميّز اوفد بين الحب الصحي وغير الصحي. الاول هو طبيعي ومعقول، الآخر هو هوس مرضي مثالي غير واقعي ومدمر في لاعقلانيته. النوع الثاني هو الأكثر اثارة للانتباه، لذا، الشعراء عموما لديهم الكثير ما يقولونه حوله. الحب المفرط هو نهم لا يشبع . انه لا يقود ابدا للقناعة والرضا. الإرضاء الجنسي هو مؤقت ولايشبع رغبة الحب ذاتها.

من هنا نصل الى فكرة ان الحب هو أعمى. انه ليس الخير الذي نبحث عنه حقا. نحن فقط نعتقد انه جيد، لكنه نسخة ناقصة من شكل الحكمة الجيدة ذاتها. نصيحة اوفد لمرضى الحب تتضمن وقف العلاقة في مرحلة مبكرة، لأنه لو ان شخصا ما يصبح مدمنا جدا بجنون الحب الدايونيسي، هو سوف لن يستمع لصوت العقل. في هذه الحالة يجب ان تنتظر حتى يتم استنزافه بالكامل.

العلاج الآخر ايضا يبدو حديث جدا. اوفد يقترح ان تشغل ذهنك بافكار اخرى، تعمل وتجد شيئا آخر للعمل. لاتفكر في الحبيب او تنغمس فيه. اذا كان هذا غير مفيد، اذهب بعيدا، سافر، رغم القيود التي تشد ظهرك، هو يقول:

اذهب في سفرة طويلة ... اجبر قدميك المرتجفين للعدو.

لاتجلس فقط وتبكي في عزلة. أوجد صحبة جيدة و تجنب دائما النميمة والتشهير. اخيرا، ابق بعيدا عن الناس المرضى بالحب او القصص الرومانسية التي تثير فقط المشاعر المؤذية .

كيف تساعد الفلسفة؟

الفلسفة الجيدة هي وصفة علاجية. فلاسفة اليونان القدماء مثل افلاطون والرواقيون يدّعون ان السعي لسد النقص بمواد كيميائية هو مجرد وهم. اولا، لأننا سوف نحتاج دائما الى المزيد منها، ثانيا، هذا النوع من النقص لايمكن اشباعه ابدا بوسائل مادية وكيميائية.

هم يقترحون ان الذهن هو الذي يتمكن من التغلب على هذا السعي اليائس من خلال العثورعلى انجاز بطريقة عقلانية وبرجماتية للعلاقات، او من خلال شكل اكثر عالمية للحب.

***

حاتم حميد محسن

حريُّ بنا ما دمنا في عصر أضحى فيه (التفكير الناقد) فرض عين، وبات فيه التحليل والمراجعة ضربين من الثوابت التي لا غنى عنها لمن ينشر الحقيقة وليس الأوهام، أن نتسهل حديثنا بذكر إحدى نفحات (فلسفة نقد النقد) فنحاور قلمنا ونبادره بالاستفهام، هل هناك حقاً فلسفة للسؤال؟ ثم كيف الرجوع إلى الأمام؟ وهل العودة محمودة أم جمود وشرود عن سبيل التطوير والتحديث والارتقاء؟

فيجيب القلم أنني قد أسهبت في الحديث عن تلك الفلسفة، تلك التي فُطرت على طرح الأسئلة؛ بل إن شئت قُل إنّ الفلسفة قد ولدت من رحم الحكمة العقلية المستفهمة دوماً ساعية تلتمس المعرفة والعلم والعلل والنهوج وغير ذلك من المشارب والطعون التي تنميها وهي تُعين مُحبيها على السعي في دروب الوجود بكل ما فيه من واقعات وتصورات يلفظها العقل، فتقودني الذاكرة إلى ذلك المقال الذي نشرته على صفحات روز اليوسف فناقشت في المقال الأول المعنون بـ (من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال) ونُشر عام 2013م عن علة وغاية فلسفة السؤال وعبقرية أدوات الاستفهام، وانتهيت منه إلى طرح هذه التساؤلات:

- لماذا اتحد الأغيار وتآلفوا، وتفككنا؟

- لماذا تقدّموا وتطوروا، ونُكبنا وأخفقنا وتخلفنا؟

- لمَ نتجرع مرارة التآمر رغم معرفتنا بأن السم لا يأتي لنا إلا في العسل؟

- ثم من المسؤول عما كان وما هو كائن وما سوف يكون؟

- وماذا لو مات البطل أو اكتشفنا أنه مثل من سقطت أقنعتهم وانكشفت عوراتهم ؟

- وإلى متى سوف نتبادل التهم ؟

- وإلى أين تنزع مقاصدنا ؟

- وهل نحن أيقاظ في طرح هاتيك التساؤلات أم مازلنا في طور العبث؟

أما في المقال الثاني المعنون بـ (عودة إلى فلسفة السؤال) الذي نُشر في عام 2017م، فقد انصب حول السؤال باعتباره حواراً نقدياً مع الأنا، وخطاباً استنكارياً مع القلم المتمرد على واقع الأغيار، وانتهيت فيه إلى التساؤل من جديد : "هل في مقدورنا تفعيل وتطبيق فلسفة السؤال في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ لننتقل من طور الإجابات المحفوظة، والمعارف المغلوطة، والمعلومات المزيفة، والحقائق المبتورة، إلى آفاق فلسفة الإبداع؟ علماً بأن السؤال الفلسفي يراوغ ولا يكذب، لذا سوف يظل أهم من مئات الإجابات التي لا تخلو من الغش والكذب".

واليوم أُمسك بجرس التنبيه محذراً إلى الخطأ المتربص بنا لإهمالنا التدريب على فن صياغة السؤال وإدراك الحكمة من طرحه للوصول إلى الإبداع في انتقاء أدواته، وانصرفت جهودنا في معاهدنا الدراسية ومنابرنا التنويرية إلى حفظ إجابات المتلاعبين بالعقول، وعصبة من المشككين، وجماعة من المتعالمين، وحفنة من المتقعرين. حتى أنتهى الأمر بنا إلى بنية السؤال في الكُتب الدراسية في المرحلة الثانوية والجامعية؛ بل في أبحاث المتقدمين للترقية من المتخصصين في الفلسفة الذي راق لهم عنونة أبحاثهم (بإشكالية إحدى القضايا الفلسفية!).

ويُزَيّل قلمي ذو السن المشيب بأن هذا الحال يدفعه إلى الحديث عن رحلة الرجوع إلى الأمام؛ مُبيناً أن وقائع تاريخ الدرس الفلسفي في مصر يحثنا على فحص متنه لاستلهام العبر، والوقوف على إصلاح ما فسد وأنحدر. ومن المثير للتنكيت والتبكيت أن نجد جُل محافلنا الفلسفية في مطلع هذا العام تتأهب للاحتفال بذكرى اليوم العالمي للفلسفة الذي حدّدته اليونسكو بيوم الخميس الثالث من شهر نوفمبر من كل عام، وقد تمّ الاحتفال به لأول مرة في يوم 21 نوفمبر 2002م. أمّا عيدنا القومي ليوم الفلسفة في مصر- الذي نجهله - فهو ذلك اليوم الذي دعى فيه سعد زغلول أثناء توليه وزارة المعارف بضرورة إدراج مقرر الفلسفة في برامجنا التعليمية ولا سيما في مدارسنا الثانوية. وذلك في 24 سبتمبر 1907م حيث جاء في القرار الوزاري (تمت المواقفة على تدريس مادة الفلسفة في القسم الأدبي الثانوي، غير أن التنفيذ قد أرجئ لأول مرة عام 1909م حتى يتوفر من يقوم بالتدريس والمقرر المناسب لذلك). بيد أن ذلك لم يتحقق بصورته النهائية أي تدريس المعارف الفلسفية بمباحثها الرئيسة إلا في نظارة محمد حلمي عيسى الذي تولى نظارة المعارف في الفترة الممتدة من (1931- 1934م) وجاء في القرار (تمّت المواقفة على إدراج تاريخ الفلسفة النظريّة لطلبة القسم الأدبي للمرحلة الثانوية) وجاء في مقدّمة الكتاب الدراسي المقرّر أنذاك (أن الهدف من أدرجها في مقرر السنة النهائية هو إثارة تفكير الطالب، وفتح باب التفلسف أمامه، وتنمية قدراته العقليّة).

وقد تبارى أعلام قادة الرأي في الإشراف ومراجعة المحتوى المعرفي لبنية الكتاب المقرّر والأسئلة التي تذيل المذكرات التربوية للتدريب على الامتحانات، تلك التي تعبر بحق عن غاية السؤال الفلسفي، وتسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق الغاية المرجوّة من دراسة المعارف الفلسفية التي تعمل بدورها على تثقيف الرأي العام، وشحذ العقول، وتنمية الملكات، وتهذيب القيم الأخلاقية، وترقية الأذواق.

وسوف نتحدّث بشيء من التفصيل عن تلك المحاولة الرائدة لصياغة السؤال الفلسفي لطلاب المرحلة الثانوية تلك التي ظهرت على صفحات مجلة الرسالة في الفترة الممتدة من (1948- 1950م) وذلك في الأعداد (760 -870) بعنوان (مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية) بقلم كمال دسوقي.

وحسبنا أن نشير في عجالة إلى تطور المعارف الفلسفيّة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية، تلك الفترة التي شهدت مرحلة تواصل الأجيال المعاصرة بين الجيل الأول الذي يمثله أحمد لطفي السيد ومصطفى عبدالرازق، ثم الجيل الثاني الذي يمثله عثمان أمين وأحمد فؤاد الأهواني، ذلك الجيل الذي حمل الخطاب الفلسفي في الثقافة العربية باعتباره الآلية الرئيسة للتجديد والتواصل مع الأغيار، والنهج التربوي الذي يدفع الشبيبة للقيام بدورهم لمواصلة المشروع الحضاري.

وقد أنصب السؤال الفلسفي في الفترة الممتدة (1955-1965م) حول المفاهيم المصاحبة للتغيّر الاجتماعي والسياسي والثقافي (الوعي، الهُويّة، الوطنية القومية، الاشتراكية، الليبرالية، الشيوعية، موقف الفلسفة من القوة الرجعية، والاستبداد والعدالة، والاستعمار والحرية، وعبادة البطل، والثورة على الاستبداد والفاشية) وغير ذلك من عشرات المصطلحات التي أجتهد حملة الخطاب الفلسفي من التنويرين الذين قاموا بتدريس المعارف الفلسفية في الجامعة أو في المدارس النظاميّة، أو انصرفت جهودهم للكتابة في المجلات والجرائد والأحاديث الإذاعية. وأستمر الحال على هذا النحو وأمسى الخطاب الفلسفي أقوى الأليات للتفسير والتبرير وإعداد الرأي العام لمواكبة حركة التغيير. ولم تتوقف هذه الرسالة إلا عقب نكسة 67 : الفاجعة التي زلزلة بنية الجيل الثالث من قادة الرأي وتوقف على أثرها المشروع الفلسفي والمدارس التي كان يقودها رواد الاتجاه المحافظ المستنير، وإصابة المعارف الفلسفية بالوهن والضعف ليس في التعليم الثانوي فحسب؛ بل في شتى منابر التثقيف والاستنارة ولا سيما بعد كفر الأبناء بما كان يؤمن به الآباء، فظهرت خطابات التبعية وجماعات التغريب وعصابات التطرف. وراح أصحاب الأقلام يزعمون بأنهم أحرار الفكر الجُدد وحملة لواء التحديث والعلم والثورة على القيم الموروثة التي هوت بهم إلى آتون التيه والتشرذم وأوهام الفهم التي عجزت عن بلوغ اليقين، ويبدو ذلك بوضوح في كتابات دعاة الوضعية والفلسفة المادية والنزعات الوجوديّة، والفلسفات الإلحادية المناهضة للفكر السائد في العالم العربي، وعلى الجانب الآخر العصبات الظلامية المروجة للفكر الوهابي المعادي للنظر العقلي والدرس الفلسفي.

وإذا نظرنا في الكُتب الدراسية عقب ثورة يوليو 1952م فسوف نجد تحولاً في المحتوى المعرفي للكُتب الفلسفية في المرحلة الثانوية، وذلك لظهور كتاب "مشكلات فلسفية" (1954-1955م). وذلك للمقابلة بين نهج الفلاسفة وأسلوب علماء النفس في معالجة المشكلات الإنسانية (الأخلاق، التفكير، النفس)، ثم أستبدل عنوان الكتاب بـ "مسائل فلسفية" (1955-1956م)، ولم يضف هذا التغيير شيئاً يذكر عن وجهة متن الكتاب السابق إلا بعض المعلومات عن تاريخ القضايا الفلسفية ومشكلاتها، ومبحث المعرفة ومبادئ المنطق. وفي الفترة (من 1958إلى 1964م) أضحت مادة الفلسفة مقرراً أساسياً في المنهج الدراسي للتعليم الثانوي بشعبتيه العلمي والأدبي، وقد وضع كتاب "الثقافة الاجتماعية" للصف الثاني الثانوي الشعبة العلميّة، وأنصب متنها حول معالجة ثلاثة موضوعات (التفكير العلمي، قواعد الأخلاق، وقضية الحرية والنضال ضد الاستعمار والاستبداد). ويؤخذ على هذا المحتوى أنه أقرب لأسلوب التلقين والفكر الموجه منه إلى الوعي الحر وبناء العقل المستنير.

وفي عام (1959-1960م) حدثت الانتكاسة الأولى للفلسفة، وذلك عندما جُعلت المعارف الفلسفية مقرّراً اختيارياً تنافسياً مع مادة الاقتصاد. وقد غضب معظم أساتذة الجامعة لهذا التغيير، وعبروا عن ذلك في كتاباتهم الصحافيّة وخطاباتهم للحكومة حتى تراجعت عن ذلك الإجراء. وأضحت الفلسفة تدرّس في القسم الأدبي للصف الثالث الثانوي فقط. وأنصب المنهج على دراسة التفكير المنطقي وقضايا علم النفس والقيم الأخلاقية والمبادئ الروحية، وذلك في كتاب مبادئ الفلسفة.

وفي الفترة الممتدة (من1965إلى 1970م) أنصبت قضايا الفلسفة في الكتاب المقرّر على قضايا الاشتراكية، ومحاربة الفساد، والإيمان بمبادئ الثورة، والولاء والانتماء القومي. ويبدو ذلك في كتاب (الأصول الفلسفية للتربية) للتربوي المخضرم سعيد إسماعيل علي. وفي هذا الطور لم تتحرّر الفلسفة من قيد التوجيه في الكتب الدراسية في المرحلة الثانويّة. وذلك في كتاب "الفلسفة" الذي صدر عام 1965م. الذي أضحى مُقرراً على الصف الثالث الثانوي من القسم الأدبي. وأشتمل الكتاب على معالجة ثلاث موضوعات هي (التفكير الفلسفي والعلمي، خصائص التفكير الفلسفي، بعض المشكلات الفلسفية الكبرى) وذلك كله بمنهج تلقيني مُوجّه. وقد أعترض أكابر المعنيين بالدراسات الفلسفية في مصر والعالم العربي على المحتوى المعرفي والأسلوب التلقيني التي اصطبغت به فصول الكتاب. ذلك فضلاً عن تعرض بعضها لفلسفات واتجاهات مناهضة للفكر السائد الذي سعى الكاتب لترسيخه في أذهان الدارسين؛ الأمر الذي تسبّب في بلبلة أفكار الطلاب وتشتت آرائهم. وأضحى هذا الكتاب مسار تساجُل الكُتاب المحافظين والتغريبين الحداثيين على صفحات الجرائد عام 1970م.

وأنتهى المتناظرون إلى أن هذا الكتاب سوف يحث الطلاب على كراهية الفلسفة والابتعاد عن مسائلها المعقدة. ورغم ذلك ظل هذا الكتاب يُدرس حتى عام 1976م؛ الأمر الذي أسهم في ذيوع الادعاء الكاذب والاتهام الجاهل في أذهان العوام والعديد من المثقفين بأن الفلسفة ولدت في برج عاجي، وأن الفلاسفة أصحاب تصورات خيالية وقضايا معقدة اصطنعوها للفت الأنظار إليهم من جهة، وتبرير استعلائهم على الجمهور من جهة أخرى.

ومن المؤسف أن نجد هذا الزعم قد لاقى رواجاً في الرأي العام، فأستحسنه الراديكاليون والرجعيون والجامدون في المعاهد الدينية، وبات كذلك مسار سخرية من المتفكهين الساخرين والمتحذلقين. وأصبحت الفلسفة مرادفة للسفسطة في عيون الراغبين للالتحاق بكلية الآداب ودار العلوم والتربية، أمّا أرباب الخطاب الفلسفي الجدد؛ فكانوا مشغولين بترميم مشروعاتهم المزعومة وأفكارهم المشوهة وآرائهم المستوردة من محافل الحداثيين، والماسونيين، والمنظمات الإلحادية، والكتابات الوجودية الغربية المعاصرة. وقليل منهم ألتزم الصمت ليتمكن من الانسحاب الهادئ من تلك المهزلة التي دفعته أحياناً للسير خلف نعش المشروع الفلسفي المصري.

وفي وزارة مصطفى كمال حلمي للتربية والتعليم في الفترة الممتدة (من 1974إلى 1977م) صدر قرار وزاري في 2/2/1975م بتشكيل لجنة لمراجعة مناهج الفلسفة. وفي عام 1976م، تم تعديل برنامج تدريس المعارف الفلسفية على هذا النحو (منهج مسائل فلسفية للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام، ومنهج فلسفة القيم للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى خاص، ومنهج المنطق ومناهج البحث (مبادئ التفكير العلمي) للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام. وقد أشتمل المنهج الفلسفي المُعدل على تاريخ المذاهب والاتجاهات، والمدارس الفلسفية الكبرى على مر العصور.

ويمكننا أن نلاحظ أن الفترة من 1965م إلى 1976م تُعد أكثر السنين إظلاماً وأفولاً للمعارف الفلسفية وهي نفس الفترة التي غاب فيها الرواد الإوُّل الممثلين للمشروع الفلسفي في النصف الثاني من القرن العشرين؛ الأمر الذي ساهم في عودة الفكر الرجعي الراديكالي الإظلامي المتطرف لمغازلة الرأي العام وإقناعه بأنه يمتلك الحل والنجاة ممّا أصاب مصر عقب عام 1967م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم : د. عصمت نصّار

 

ما يتعلمه الإنسان كل يوم في حياته قليل جدًا إن لم يرغب هو في إدراك ما يريد تعلمه، وتفسير ما يمر به من خبرات لكي تضيف لمعرفته معرفة جديدة في ما يصدر عن داخله، لكي يواجه ما هو موجود في الخارج من مثيرات وأشكال متعددة مما يحمله الخارج له، هو الإنسان في بحثه عن الإتزان والإستقرار لينعم ولو بشيء من الهناء والراحة النفسية. ونحن نتناول هذه العبارات ليس أعتباطًا أو رفاهية، إنما نبحث لنحاول أن نجد ما يريحنا في عالم صاخب، لا يهدأ ولا يستكين، عالم الداخل "ما في أنفسنا" ومتطلباته التي لا تنتهي من تلبية الرغبات المعلنة، وغير المعلنة، ومن الخارج الذي هو يفرض علينا لكي يجعلنا أن نتكيف مع الواقع لكي لا نرتد إلى أعماقنا فنعيش عالم الجنون إن صح التعبير، مسرح دواخلنا الذي لا نهاية له ولا حدود، له لغة خاصة، وطريقة تفكير مختلفة، ويقول "جاك لاكان" أن ما هو لاشعوري ليس كله مكبوتًا، بمعنى أنه قد تم تجاهله من طرف الذات بعد أن حصل النطق به، لذا يجب التسليم بوجود عملية قبول أولية، قبول بالمعنى الرمزي، كامن خلف صيرورة الكلام والذي من الممكن أن ينعدم وقوعه"لاكان، ص 20"

أن الإنسان تحكمه رغبات، تقوده إلى أفعال ترغمه على تنفيذها وتحقيقها حتى وإن تعارضت مع ما يعيشه من قيم وتقاليد وأعراف، لا يمكن أن يَسكن أو يهدأ حتى وإن أستطاع قمعها وهو واعٍ بها، أو يتركها تنغرس في لاشعوره"لا وعيه" في الوقت الحاضر، على الأقل لكي يعيد توازنه أمام العالم الخارجي" أمام الواقع المعاش" ولكنها لا تهدأ ولا تموت ولو مضى على طمرها بفعله هو، أو بفعل القوة الداخلية التي استطاعت ان تعينه على الهدوء ولو لحين!! أقصد آليات الدفاع.. الكبت أنموذجًا.

أن حتمية السلوك تدفعه دينامية عجيبة غريبة، تجدد له الرغبات حتى وإن كانت متوحشه، وإن كانت غير مقبولة للعالم الخارجي، هذه الرغبة تفرض نفسها عليه وفي أوقات ولحظات ربما تدفعه لأن يتحول من السوية المتشبثه بأطراف الواقع عنوة، إلى اللاسوية الصارخة بهدوء، الرغبات التي قمعها أو خزنت تظل في حالة دينامية تدفعه لأن يلجأ إلى هذا الذي يريده، ولو استعنا بموسوعة علم النفس والتحليل النفسي لمعرفة الدينامية وما هو كنهها لوجدنا أنها مفهوم يعني الطاقة الفاعلة والتدافع والحركة والتغير المستمر، التفاعل المستمر بين الفرد والدوافع، سواء أكان داخليًا أم خارجيًا، كما أورده مصطفى كامل، وتضيف الموسوعة بأن الديناميات النفسية هي تدافع وتنازع وتصارع القوى والنزعات النفسية المختلفة داخل نفس الشخص، فالشخص توجد لديه نزعات ودوافع مختلفة متباينة، وغالبًا متصارعة كل منها يريد أن يقهر الآخر وينتصر عليه" والكلام للدكتور فرج طه " ونقول أن دينامية السلوك الإنساني لا تنتهي في عمر محدد، أو زمن محدد، تحكمها قواعد محددة، أو قانون محدد، أو ضوابط محددة، إنها عائمة وهائمة ونجدها في مختلف الأوقات والازمان والأمكنة، تنبثق من عقالها لتفرض نفسها وربما تقود صاحبها إلى مآسي وخروج عن القانون أو السواء، وأزاء ذلك يقول المحلل النفسي المصري "محمد درويش" توجد دينامية مختلفة متغيرة، لا يوجد شيء ثابت " في محاضرة له في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بعنوان "التحليل النفسي والتوحد.. منظور تاريخي" بتاريخ 10.11.2022، وهي محاضرة غير منشورة خاصة بأعضاء الرابطة والدارسين للتحليل النفسي. لذا بناء على طرح محمد درويش طفل التوحد كما هو السوي منا تقوده دينامية متجددة وإن أختلف بها عن الأخرين، ونحن نقول ترغمه على فعل السلوك الذي يرغب، السلوك الذي يصر على تنفيذه، بوعيه الحالي، أو يرغمه على الأصرار والتمسك لحد العناد، هو نفسه الإنسان ما يقوده في طفولته يتجسم في مراهقته وبلوغه، أعني فترة الرشد.

يرى "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي في كتابه الذهانات ص 16 قوله: أما الرمزي فلقد أبصر تموه عندما أشرت وبطريقتين مختلفتين إلى ما هو أبعد من كل فهم، فبداخل الرمزي يتم إدراج وتأطير كل فهم، وهو يقوم بتأثير يترك أختلالًا ملحوظًا في علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخرين، ويضيف "لاكان" فقيمة كل عنصر تحصل بكونه مضادًا لآخر. وما زلنا بصدد معرفة الكثير عن ما يجري في دواخلنا وما نريد معرفته عن ظاهرتي الدينامية والحتمية التي تحرك سلوك كل البشر، وهي التي تحدد مستوى إتزانه "أعني بلغة الكم عال أو منخفض، معتدل أو متطرف، في وقت وزمن معين من أوقات يومه، ليله ونهاره، في وعيه، أو حلمه، لا سيما أن الاحلام لها نفس الدرجة في الحياة اليومية، والسبب أن الإنسان هو نفسه الذي يصدر عنه فعل السلوك، والحلم كسلوك غير مسيطر عليه، فهو محتوم أيضًا، ودينامي متجدد، ومختلف كما يرى "محمد درويش" فما يراه الإنسان في حلمه ربما يكون هو واقع في حالته وهو غير نائم، أقصد في حياته اليومية وتعامله، حقًا أن الإنسان جدلٌ غير منتهِ، جدل تحركه الرغبات، وإن منعت "هذه الرغبات" ظهر في الأحلام. أن أنساننا المعاصر أزاء متطلبات الحياة يعيش في صراع متجدد تحكمه رغبات دينامية متسارعة مع متطلبات الواقع، وننقل من فرويد كما ذكره جاك لاكان في كتابه الذهانات ص 21 أن كل ما يختفي تحت قبضة الكبت يتم إنجلاؤه، ذلك لأن الكبت ورجوع المكبوت هما وجهان لشيء واحد، إن المكبوت حاضر دائمًا ويعبر عن نفسه بطريقة جدً مركبة في الأعراض وفي ظواهر عدة. ويعزز كلام "جاك لاكان" الذي رأه فرويد برؤيته هو "أعني لاكان" قوله: في مرحلة جدً متأخره فقد يحدث لشخص أن يرفض إدماج شيء ما في عالمه الرمزي رغم أنه قد تم اختياره، وما هذا الشيء بهذه المناسبة إن هو إلا خطر الإخصاء. وكل التطور المتلاحق يبين أن الذات لا تريد أن تعرف عنه شيئًا بصفته مكبوتًا كما يقول فرويد بالحرف.

تؤكد لنا أدبيات علم النفس بشكل قاطع أن أعمال الإنسان وأفعاله ليست دائمًا ذات قيمة واحدة، فأنت تستطيع أن تتكيف بسهولة مع الظروف التي تتوافق مع نفسك، وما اعتدت عليه من خبرات سابقة، وإن بعضنا من الأسوياء لا يشعر بأي صعوبة في التكيف مع حياة أقل ما نقول عنها سوية إلى حد ما، وقولنا كل شيء يتبدل إذا كانت المتطلبات غير متناسبة مع قدراتنا على تقبلها، أو بالأحرى على تحملها، كأن يكون العمل مرهق، والادارة سيئة، والمواصلات متعبة، وسلوك الناس المحيطين بنا في العمل مثير لكل حركة، إيماءة، فكرة لا تفسر بحسن النية، أو شارع مشوش بالمثيرات، فيزداد تشتت الجهود، ويبدو عندئذ سيطرة الإنفعال على السلوك بشكل واضح، فيكون الفاقد من الطاقة أكثر من المنجز في الحياة العملية اليومية، فتظهر علامات التردد وربما الشك، والاجترار النفسي، والسخط من داخل النفس على النفس، وترى الدراسات النفسية أيضًا أن كل شيء منوط بالاستعدادات المسبقة لكل فرد، وتهيأه لما سيحدث سلبًا أو إيجابًا، وليس ببعيد أن يكون الضغط العالي مولدًا لنوع من العصاب"الاضطراب النفسي" ويظهر ذلك بالأخص في الأشخاص المنهكين، أو ممن تعايشوا مع ضغوط الحياة لفترات طويلة، ويساعد ذلك عودة المبكوت، أو بزوغه بطرق أخرى مُحوره تناسب الموقف في زيادة تدهوره، أنها دينامية المخزون وعودته. وحتمية السلوك وما صدر عن الإنسان.

***

د. أسعد شريف الامارة - استاذ جامعي في علم النفس

باحث في التحليل النفسي 

 

التَّنَوُّعُ الثقافي في بُنية العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر امتدادًا للوَعْي بالدَّور المركزي للإنسان في المُجتمع والتاريخ، وهذا الوَعْيُ يُمثِّل الشرعيةَ الوجودية للفِعل الاجتماعي الذي يُحدِّد خصائصَ سُلطةِ المعرفة، وملامحَ هُوِيَّةِ التاريخ، وشُروطَ التأويلِ اللغوي، ومعاييرَ البناءِ الأخلاقي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس نظريةً مُجرَّدةً، أوْ تَيَّارًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الأحداث اليومية والوقائع التاريخية، وإنَّما هو نظامٌ مُتكامل قادر على بعث الحيوية في التَّنَوُّع الثقافي، وتحويلِ ماهيَّة الواقع المُعاش إلى هُوِيَّة فكرية مُتَجَذِّرَة، ونَقْلِ فلسفة التُّراث مِن الحَيِّز الذهني الزمني إلى المُمَارَسَة السُّلوكيَّة الحَيَّة، وتكريسِ كَينونة الحضارة كَتُرَاث مُشْتَرَك للإنسانية، بِوَصْفِهَا مَعْنًى رُوحيًّا للحياة، وقِيمةً ماديَّة للوُجود، ولَيس بِوَصْفِهَا نظامًا لتجذير سِيَادة الغالب على المغلوب، أوْ سِياسةً لتأطير العلاقة بين السالب والمسلوب. وهذا مِن شأنه إعادة إنتاج المعرفة كَمنظومة مُتفاعلة مع البيئة والطبيعة، لإعادة تشكيل التاريخ وَعْيًا حضاريًّا، ومُمَارَسَةً حياتيَّةً، وإدراكًا لُغويًّا، ورُؤيةً كَوْنِيَّةً، ودَمْجِ الماهيَّة الواقعيَّة معَ الهُوِيَّة الفكرية في صَيرورة التاريخ، الذي يُعاد تفكيكُه وتركيبُه باستمرار، مِن أجل تحقيق التواصل بين العلاقات الاجتماعية وسُلطةِ المعرفة مِن جِهَة، وبين كَينونة الحضارة وفلسفة التاريخ مِن جِهة أُخْرَى.

2

الأُسُسُ العمليَّةُ لِمُمَارَسَة الوَعْي في المُجتمع والتاريخ والحضارة، تَرتبط بالتَّنَوُّع الثقافي في سِيَاقه الإنساني القادر على تجسيدِ أبعاد اللغة في العلاقات الاجتماعية، وتخليصِ المُجتمع مِن تناقضاته العميقة التي تَمنع التواصلَ بين هُوِيَّة الإبداع وماهيَّة السُّلوك، وتفعيلِ المُشَارَكَة الفرديَّة والجماعيَّة في صِيَاغة الأنساق المعرفية التي لا تَتَقَوْقَع في المصلحة الشخصية الضَّيقة، ولا تتمركز حَول الذات، لأنَّ المعرفة عابرة للحُدود والتجنيس، وهي مشروع كَوني لِخَلاص الإنسان مِن مأزقه الوجودي، ولَيْسَتْ نَزْوَةً عابرةً في حياة الإنسان المَحصورة في عَالَمِه الخاص الداخلي، وهذا مِن شأنه حِمايةُ بُنية الواقع الاجتماعي مِن الانهيار، وتطهيرُ رُوح المُجتمع مِن التَّشَظِّي والفَوضى، وإنقاذُ أحلام الإنسان مِن النظام الاستهلاكي المَحصور بين اللذة والألم.

3

مُهِمَّةُ التَّنَوُّع الثقافي في المجتمع الإنساني تتَّضح في إخضاع الفِعل الاجتماعي للأفكار الإبداعية، ضِمن المنظومة العقلانية القادرة على تجاوز مبدأ التمركز حَول الذات، والغرقِ في اللحظة الآنِيَّة. والفِكْرُ يَسْبِق الفِعْلَ، ويُسيطر عليه، ويُوجِّهه نَحْوَ تخليص العقل الجَمْعي مِن الانغلاق بِحُجَّة الخَوف على الهُوِيَّة. والإشكاليةُ في هذا السِّيَاق هي أنَّ العَقْل الجَمْعِي في المُجتمعات الضائعةِ على الخريطة، والتائهةِ بلا بُوصلة، يَختبئ في ذاته، ويَنكمش في المَاهِيَّة للحفاظ على الهُوِيَّة، وهذا يُؤَدِّي إلى تمزيقِ سُلطة المعرفة، وتشتيتِ زوايا الرؤية للتاريخ، وتفتيتِ عناصر الذاكرة الوجودية التي تَنظر إلى طبيعة المُجتمع كزمن مُتَّصَل بلا فواصل معنويَّة ولا قطيعة ماديَّة. وإذا عَجَزَ المُجتمعُ عَن بَلْوَرَة علاقات اجتماعية حُرَّة وعقلانية، فإنَّ الإنسان سَيَفقد ثِقَتَه بِنَفْسِه، ويَسقط في الاغتراب الرُّوحي، ويَنسحب مِن الواقع القاسي، لاعتقاده بعدم وجود مكان له، أوْ أنَّ غَيْرَه اسْتَولى على المكان اللائق به، أوْ أنَّ المكان لا يتَّسع لذكرياته وأحلامه وطُموحاته. وغيابُ المكانِ يُؤَدِّي إلى الهُروبِ مِن الزمن، والخَوْفِ مِن التاريخ. لذلك يَتَّخِذ البعضُ موقفًا سلبيًّا مِن تاريخه الخاص والعام، ويَعتبره نهرًا مِن دَم يَجْرِي خَلْفَه، أوْ كَوْمَ رمادٍ يَكاد يقع على رأسه، أوْ كابوسًا لا يَعرِف متى سَيَفِيق مِنه. وإذا قضى الإنسانُ حياته هاربًا مِن نَفْسِه، فَلَن يُؤَسِّس سُلطةً معرفية لغياب الزمن والمكان، ولَن يَصنع أفكارًا إبداعيَّةً لغياب المَاهِيَّة والهُوِيَّة.

4

بُنيةُ العلاقاتِ الاجتماعية تقوم على القواعد الأخلاقيَّة، وهذه القواعدُ مُرتبطة بِقُدرة اللغة على تَكوين الآلِيَّات الفكرية التي تستطيع تحليلَ انعكاسات التَّنَوُّع الثقافي عَلى مَسَار الإنسان ومصيره. وكما أنَّ الإنسان ابن بيئته، فهو أيضًا ابنُ ثقافته. والثقافةُ المُتَجَذِّرَة في أعماق الإنسان لَيْسَتْ تعليمات تلقينيَّة أوْ مُحاضرات في الوَعْظ والإرشاد، وإنَّما هي نظام مِن الرُّمُوز المُعقَّدة له خصائصه المُتَفَرِّدَة، ودَلالاته النابعة مِن الذكريات، وسيطرة الإنسان عليها، والوَعْي بها. وحياةُ الإنسان الحقيقية هي قُدرته على تحويل اللاوَعْي والأحلامِ المكبوتة والذكرياتِ الغامضة إلى واقع يُمكن التَّحَكُّمُ به، والاستفادةُ مِنه كَقُوَّة توليديَّة للفِعل الاجتماعي، بِوَصْفِه مَجموع الأفكار العميقة لا الأحداث السطحية. والمُجتمعُ الحقيقي عبارة عن أحلام إنسانيَّة لا وقائع تاريخيَّة. وإذا أدركَ الإنسانُ أبعادَ ذَاتِه، واستعادَ أحلامَه لتحقيقها، ولَيس للبُكاء على أطلالها، فإنَّه سَيُصبح كِيَانًا واعيًا يَختار مسارَه، ويُقَرِّر مصيرَه، ويَستوعب تحوُّلات المعرفة في تاريخ الأفكار وفلسفة التَّنَوُّع الثقافي. والكِيَانُ الواعي قادر على إنتاجِ كَينونة حضارية تُوازن بَين الوَعْي والمُمَارَسَة ضِمن شبكة العلاقات الاجتماعية، وتحليلِ الأفكار الإبداعيَّة في لَحْظِة عَوْدتها إلى أنويتها الداخليَّة وجُذورها الأساسيَّة. واكتشافُ الداخلِ هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى الخارج، وتحديدُ طبيعةِ الجُذور المعرفية هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى مَعنى الوجود.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

تسود المجتمعاتِ العالقة في تاريخها، ومنها مجتمعنا، حالةٌ من الشغف بالكلام، تصل لدى البعض حد الهذيان. يتكلمُ الكلُّ في كلِّ شيء، بعض الزعماء السياسيين يتحدث في: الفلسفة واللاهوت والفقه والتفسير والأدب والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد... وغيرها. يولع بتكرار أسماء فلاسفة ومفكرين وأدباء وفنانين، لا يعرف عنهم في الغالب شيئًا يتجاوز الاسم، وربما يتلفظ الاسم خطأ. وحين يشير إلى معلومة تتصل بهم، غالبًا ما يخطئ فيها،كما سمعت ذلك عدة مرات.كأن السلطة السياسية تفوّض صاحبها التحدث بكلِّ شيء عن كل شيء، وكأن ما تراكم من معارف بشرية في تاريخ العلم المتواصل آلاف السنين، يمنح فجأة سلةَ العلوم والمعارف والفنون والآداب لمن أضحى متسيّدًا على كرسي السلطة، بوصفه "الرجل الضرورة"، حسبما كان يُصطلَح على صدام حسين، الذي يحلم بعض رجالنا بمحاكاته.

لم ينتفع سياسيونا، الذين عاش معظمهم في الغرب، ويفترض أنهم تشبعوا بمناخات الديمقراطيات الحديثة في تلك البلدان، واكتشفوا شيئًا من قيمة التخصص وأهميته في تطور البشرية، وامتدادها عموديًا، واتساعها أفقيًا. لم ينتفعوا من خبرة العصر في ضرورة احترام التخصص، والحذر من التعالُم والحذلقة الفارغة بمقام أهل العلم، ومن المعلوم أن المتحدثين في الفضائيات اليوم تتجه أحاديثهم لمختلف الناس، بمعنى أنهم يتحدثون دائمًا في مقام أهل العلم والخبراء.

لم يتعلم هؤلاء أن المجتمعات المتقدمة تفكّر أكثر مما تتكلم، وتعمل أكثر مما تتحدث، وتصمت أكثر مما تهذر، وعادة ما يقتصر المتحدث السياسي في تلك المجتمعات على اختصاصه، وعادة ما يعود الى الخبراء فيما لا خبرة له فيه، ويقتصد بما هو مطلوب من كلام، بلا ضوضاء وضجيج.

نحن ننهمك بتعويض الفعل بالثرثرة، واستبدال التفكير بالهذيان، حتى لو شئنا أن نفكّر فإنا نغرق في بحر الألفاظ، ولا نذهب للتفكير بـعمق في المفاهيم. مؤسساتنا التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، تنهمك في بناء كياناتها بالشعارات والألفاظ، وتقيِّم مكاسبها وتختبر نجاحاتها في سياق ما تحقّقه من مهرجانات واحتفالات ومارثونات وشعارات، وما تراكمه من عبارات وكلمات، من دون أن تنظر فيما تقدّمه من منجزات حقيقية على الأرض.كثرة الكلام في السياسة، بلا مواقف وطنية صادقة، يزيّف الحياة السياسية، ويهدم الدول، ويضيّع الأوطان.كثرة الكلام في الدين، بلا حياة روحية وضمير أخلاقي يقظ، يستفز الناس ويقودهم إلى النفور من الدين.

 إننا مدعوون جميعا الى حماية الأجيال الجديدة من داء الثرثرة المتفشية في مجتمعنا، وإعادة الاعتبار للصمت والتأمل والتفكير، وكلّ ما تتوغل معه الذات في عالمها الجواني، وتسبر أغوارَها العميقة، وتستكشف آفاقها البالغة الخصوبة والثراء. هناك حاجة ملحة لتنمية ثقافة ما يمكن تسميته بـ "اقتصاديات الكلام"، التي تعالج ما يتصل بكمية الكلام وكيفيته، وشكله ومضمونه، وكل ما له علاقة بذلك، مثل: أنماط إنتاجه، ورأسماله، وادخاره، وقيمته، وريعه، وتداوله، وسوقه، وتسويقه، وغير ذلك من اقتصادياته. وكل ما يُمكّننا من إتقان ما ينبغي وما لا ينبغي قوله وتداوله من ألفاظ، وما يمنحنا القدرةَ على الكفِّ عن الشقشقات اللغوية والرطانات اللفظية والكلمات المفرَغة من أي مضمون، فيما هو شفاهي، أو ما هو مكتوب.

من الضروري أن تستوعب خططُ وبرامج التربية والتعليم في مجتمعاتنا تدريس "اقتصاديات الكلام"،  و "فن الإصغاء"، وأن تهتم بالتدريب عليهما في برامجها التربوية والتعليمية، وفي مراحل التعليم الأساسي خاصة، منذ مرحلة رياض الأطفال الى نهاية التعليم الثانوي، ذلك أن "اقتصاديات الكلام"،  و"فن الإصغاء" ضرورة تربوية تعليمية وذوقية وروحية وأخلاقية وعقلية، تفرضها حالة انهيار القلب والروح والذوق والعقل، في فضاء ضجيج هذيان وهذر: معظم السياسيين، وبعض رجال الدين، والكثير من الإعلاميين، وجماعة ممن يسمون أنفسهم بالشعراء والأدباء والمثقفين.

إن فنَ الإصغاء يعني إرادةَ التعلّم، وعدمَ الاستخفاف بعقل وشخصية المتحدّث، وإرادة التنوع الديني والثقافي، وإرادة الصواب، والخلاص من تكرار الأخطاء. فن الإصغاء يعني تذوق لذة الصمت، الصمت معلم من لا معلم له، الصمت نافذة الضوء لاستكشاف مديات الأنا الباطنية العميقة وإثرائها بالمعنى.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

هايدجر الذي هو من أبرز الفلاسفة المؤثرين في القرن العشرين، كانت التكنلوجيا عنصرا هاما في عمله، فهو يرى التكنلوجيا عاملا مهما في فهم زماننا الحالي. كتابه بالذات (السؤال المتعلق في التكنلوجيا،1954"الطبعة الانجليزية 1977" كان هاما جدا في فلسفة التكنلوجيا.

ثلاثة ادّعاءات

تحليل هايدجر للتكنلوجيا يتألف من ثلاثة ادّعاءات:

1- التكنلوجيا ليست أداة، انها طريقة لفهم العالم

2- التكنلوجيا ليست نشاط انساني، وانما هي تتطور الى ماوراء سيطرة الانسان

3- التكنلوجيا هي ذروة الخطر، خطورتها هي اننا يجب ان نرى العالم فقط من خلال التفكير التكنلوجي.

لماذا التكنلوجيا غير محايدة؟

يعارض هايدجر بقوة الرؤية بان التكنلوجيا "وسيلة لغاية" او هي "نشاط انساني". هذان الاتجاهان، اللذان يسميهما هايدجر على التوالي بالتعريف "الأداتي" و "الانثروبولوجي" هما في الحقيقة صائبان، لكنهما لايذهبان عميقا بما يكفي،حين يقول، هما لايزالان لم تتأكد حقيقتهما بعد.

يشير هايدجر جازما الى ان الاشياء التكنلوجية هي وسائل لغايات، وهي بُنيت واديرت بواسطة الكائن البشري، لكن جوهر التكنلوجيا هو شيء آخر مختلف تماما. مثلما ان جوهر الشجرة هو ذاته ليس الشجرة،  كذلك جوهر التكنلوجيا ليس أي شيء تكنلوجي. ماذا لو كانت التكنلوجيا لا وسيلة لغاية ولا نشاط انساني؟ التكنلوجيا طبقا لهايدجر يجب ان تُفهم كـ "طريقة للكشف" a way of revealing(هايدجر 1977،12). "الكشف" هو احد المصطلحات التي طورها هايدجر لكي يجعل بالامكان الاعتقاد بما لم يُعتقد به بعد. انه ترجمة للكلمة اليونانية aletheuein التي تعني "يكتشف"- تكشف ما كان مستتراً. هايدجر يرى الترجمة الأكثر دقة للمصطلح هي "عدم الإخفاء".

كيف يمكن ان تكون التكنلوجيا "طريقة للكشف"؟

ما علاقة هذا بالتكنلوجيا؟ وماذا يعني هايدجر عندما يقول ان التكنلوجيا"طريقة للكشف"؟ الجواب على هذه الاسئلة يتطلب التفاتة قصيرة لكنها هامة. مانسميه "حقيقة" reality طبقا لهايدجر هو ليس معطى بنفس الطريقة في كل الاوقات وفي كل الثقافات (seubold 1986,35-6).

"الحقيقة" ليست شيئا مطلقا يمكن للانسان معرفته تماما وابدا، انها نسبية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي، انها توجد فقط في علاقات. لهذا،الحقيقة "في ذاتها"، لايمكن الوصول اليها من جانب الانسان.

هذا يعني حسب تعبير هايدجر  ان كل شيء نتصوره او نعتقد به او نتفاعل معه "يخرج" من الكتمان الى الكشف ".عبر الدخول بعلاقة معينة مع الحقيقة، "تُكشف" الحقيقة بطريقة محددة. ومن هنا تأتي التكنلوجيا، طالما هي طريقة تصف زماننا بالكشف . التكنلوجيا تجسد طريقة محددة لكشف العالم،كشف يمارس فيه الانسان السيطرة على الواقع. وبينما اليونانيون القدماء لاحظوا "صنع" الشيء كـ "إعانة للشيء للمجيء للوجود" – كما يوضح هايدجر عبر تحليل النصوص الكلاسيكية والكلمات – لكن التكنلوجيا الحديثة هي بدلا من ذلك "تُجبر على الوجود". التكنلوجيا تكشف العالم كمادة خام، متوفرة للانتاج والاستغلال.

لماذا التكنلوجيا ليست فعالية انسانية؟

طبقا لهايدجر، هناك شيء خاطئ في الثقافة التكنلوجية الحديثة التي نعيش في ظلها اليوم. في "عصرنا التكنلوجي" يمكن ان يُعرض الواقع فقط كمادة خام (كـ"احتياط دائم")(1). هذا الوضع لم يأت بفعل الانسان،حيث ان الطريقة التكنلوجية للكشف لم يتم اختيارها من جانب الانسان، وانما،فهمنا للعالم – وفهمنا لـ "الوجود"، يتطور عبر العصور. في زماننا الحالي يتخذ "الوجود" سمة "اطار " تكنلوجي،  فيه يقترب الانسان للعالم بطريقة مهيمنة.

هذا الفهم التكنلوجي لـ "الوجود"، حسب هايدجر، يُرى كأقصى درجات الخطورة لأن الانسان سيفسر نفسه ايضا كمادة خام. وان الرغبة التكنلوجية بالسيطرة لا تترك لنا مهربا. عندما نتحرك قدما نحو تفسير جديد للوجود، هذا بذاته سوف يكون تدخّلا تكنلوجيا، أي، نحن نستغل استخدامنا،ونمارس سلطة على طريقتنا في ممارسة السيطرة. وهذا سوف يعيد التأكيد على التفسير التكنلوجي للوجود. كل محاولة للهروب من التكنلوجيا ستعيدنا مجددا اليها . الطريقة الوحيدة بالنسبة لهايدجر هي "الرغبة بان لا نرغب". نحن نحتاج ان نفتح امكانيات الوثوق بالتكنلوجيا دون ان نصبح عبيدا لها وان نراها كتجسيد لفهم الوجود.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) عندما يقول هايدجر ان التكنلوجيا تكشف لنا الاشياء كـ "احتياطي دائم"، هو يعني ان كل ما يُفرض علينا او يتحدانا سيكون مصدر منتظم للتطبيقات التكنلوجية، التي بدورها نأخذها كمصدر لإستعمال آخر، وهكذا الى ما لا نهاية.

 

يُقصد بالحتمية المرنة او الناعمة وجود انسجام بين الحتمية والارادة الحرة. وبهذا هي شكل من التوافقية. اول منْ صاغ المصطلح هو الفيلسوف الامريكي وليم جيمس (1842-1910) في مقالته "مأزق الحتمية".

منطلقات الحتمية المرنة

تنطلق الحتمية المرنة من ادّعائين اساسيين اثنين وهما:

1- ان فكرة الحتمية صائبة وصحيحة. كل حدث، وكل فعل انساني هو مقرر سببيا. لو انت اخترت تناول القهوة بدلا من الشاي الليلة الماضية، فانت لم تختر ذلك طبقا لظروفك الدقيقة، حيث لو ان شخصا لديه المعرفة الكافية في ظروفك الخاصة سيكون قادرا من حيث المبدأ على التنبؤ بما ستختار.

2- نحن نتصرف بحرية عندما لا نكون مقيّدين او مكرهين. لو كنتُ مكبّل الساقين، سوف لن أكون حرا في الركض. ولو أعطيت محفظتي الى أحد اللصوص تحت تهديد السلاح، انا لا اتصرف بحرية. نحن نتصرف بحرية فقط عندما نعمل وفق رغباتنا.

تتعارض الحتمية المرنة مع كل من الحتمية الصلبة ومع ما يسمى احيانا الليبرالية الميتافيزيقية. الحتمية الصلبة تزعم بان الحتمية فكرة صائبة وهي تنكر امتلاكنا لإرادة حرة. الليبرالية الميتافيزيقية (تختلف عن الليبرالية السياسية) تؤكد ان الحتمية هي فكرة زائفة لأننا عندما نتصرف بحرية ستؤدي بعض أجزاء العملية في تصرفنا مثل (رغبتنا، قرارنا، او فعل الارادة) الى فعل غير مقرر سلفا.

المشكلة التي يواجهها فريق الحتمية الناعمة هي في توضيح كيف يمكن ان تكون أفعالنا مقررة سلفا وحرة في آن واحد. معظم اولئك المناصرين، يؤكدون هذا عبر الإصرار على ان فكرة الحرية او الارادة الحرة، ستُفهم بطريقة معينة. هم يرفضون فكرة ان الارادة الحرة يجب ان تستلزم بعض القدرة الميتافيزيقية الغامضة التي يمتلكها كل واحد منا – أي، القدرة على بدء الحدث مثل (فعلنا في الرغبة) الذي هو ذاته غير مقرر سببيا. هذا المفهوم التحرري للحرية هو مبهم، كما يرون، وفي تضاد مع الصورة العلمية السائدة. ما يهمنا، حسبما يرون، هو اننا نتمتع بمقدار من السيطرة والمسؤولية على أفعالنا. وهذا المطلب ستتم تلبيته لو كانت أفعالنا تأتي او تتقرر بفعل قراراتنا ومشاوراتنا ورغباتنا وشخصيتنا.

المعارضون للحتمية المرنة

المعارضة الأكثر شيوعا للحتمية المرنة هي في فكرة ان الحرية التي تتمسك بها الحتمية الناعمة لا ترقى الى المستوى الذي يفهمه معظم الناس في الارادة الحرة. لنفرض ان شخصا قام بتنويم مغناطيسي لشخص آخر، وبينما هذا تحت تأثير التنويم المغناطيسي سيقوم الشخص الاول بزراعة رغبات معينة في دماغه، مثل، رغبة في تناول المشروبات عند حلول الساعة العاشرة. عند الساعة العاشرة هو ينهض من النوم ويستحم. فهل هو بعمله هذا تصرف بحرية؟ اذا كان التصرف بحرية يعني ان يعمل ما يريد، وحسب رغباته، عندئذ الجواب يكون نعم، هو تصرف بحرية. لكن معظم الناس سيرون ان أفعال هذا الشخص غير حرة طالما، بالنتيجة هو كان تحت سيطرة شخص آخر.

المثال يكون أكثر وضوحا عندما نتصور خبيراً يزرع قطبا كهربائيا في دماغنا ومن ثم يثير فينا كل انواع الرغبات والقرارات التي تدفعنا لآداء أفعال معينة. في هذه الحالة، نحن ستكون ليس اكثر من دمية في أيدي شخص آخر، ومع ذلك طبقا لحرية الحتمية الناعمة، نحن نتصرف بحرية.

الحتمية الناعمة ربما تجيب بانه في مثل هذه الحالة سنقول انك غير حر لأنك كنت تحت سيطرة شخص آخر. ولكن اذا كانت الرغبات والقرارات التي تحكم أفعالك تعود حقا لك، عندئذ من المعقول القول انك صاحب السيطرة، ومن ثم تتصرف بحرية. النقاد يؤكدون، انه طبقا للحتمية الناعمة، تكون رغباتك وقراراتك – وكامل شخصيتك – هي بالنهاية تتقرر بعوامل اخرى وبنفس المقدار تكون خارج سيطرتك. مثل، تكوينك الوراثي، تربيتك، بيئتك. وبالمحصلة انت لاتزال لا تمتلك بالنهاية أي سيطرة او مسؤولية تجاه أفعالك. هذا الخط من النقد للحتمية الناعمة يُشار اليه أحيانا بـ "حجة النتيجة".

الحتمية المرنه في وقتنا الراهن

العديد من الفلاسفة بمن فيهم توماس هوبز، ديفد هيوم، وفولتير دافعوا عن بعض اشكال الحتمية الناعمة. لاتزال بعض صيغ الحتمية الناعمة هي الأكثر شعبية بين الفلاسفة المهنيين في الرؤية لمشكلة الارادة الحرة . الرواد المعاصرون للحتمية الناعمة ضموا بين صفوفهم P.F.Strawson، دانيال دينيت وهاري فرانكفورت. ورغم ان مواقفهم تندرج ضمن الخطوط العريضة التي وصفناها أعلاه، لكنهم يعرضون مواقف دفاعية وصيغ جديدة معقدة. دينيت، مثلا، في كتابه (حرية الخيار) Elbow Room يرى ان ما نسمية الرغبة الحرة هو قدرة عالية التطور، اكتسبناها في سياق التطور، لكي نتصوّر إمكانات المستقبل ولنتجنب تلك الامكانات التي لا نرغبها. هذا المفهوم للحرية (كونك قادر على تجنب المستقبل غير المرغوب) هو منسجم مع الحتمية، وهو كل ما نحتاج اليه. هو يؤكد ان الافكار الميتافيزيقية التقليدية للرغبة الحرة التي لاتنسجم مع الحتمية، اصبحت منعزلة ولا تواكب العصر.

***

حاتم حميد محسن

نجد هنا أهمية التفريق مابين معرفة ماهية الشيء رياضيا علميا عنها في معرفته البيولوجية الطبيعية عقليا، أن الادراك في كلتا الحالتين واحدا في الاحتكام النهائي لمرجعية العقل، أذ لا يمكن ادراك أو معرفة ماهية شيء بغير العقل. لكن أدراك ماهية الشيء رياضيا، أي معرفة حقيقتة الرياضية أنما تتم باعتماد رموز المعادلات الحسابية المختبرية التجريدية الثابتة وهو ما لا ينطبق على تجريبية المعرفة البيولوجية.

وهو ما لا يتوفر عليه العقل أدراكه ماهيات الاشياء في وجودها البايولوجي الحي في الطبيعة التي تفترض معرفة ماهيتها حدسا أدراكيا مباشرا من العقل القاصر معرفتها حسيّا ، ولا يحتاج العقل مرموزات المعادلات الرياضية الثابتة كتجريد علمي لا يحتاج البرهنة فلسفيا خارج علم الرياضيات والفيزياء والكيمياء.، بل يحتاج أفكار اللغة في التعبير عن معرفة كيفيات الاشياء في حال أمكانية كشفها ومعرفتها.

كما تذهب فينامينالوجيا هوسرل أنها تلتقي بالعلوم الرياضية في معرفة الماهية لكن بطريقة الحدس العقلي، اذ حسب زعمه أن الفينامينالوجيا هي مثل علوم الرياضيت لا تعالج وقائع عابرة، أي لا تعالج موجودات الاشياء في الطبيعة، وانما تهتم بماهياتها فقط، ولكن بأسلوب غير منطق الرياضيات في المعادلات، بل في أسلوب الحدس العقلي للماهيات وهو ما يحتاج الكثير من الاثبات والبراهين.

من الواضح أن خطأ الفينامينالوجيا زعمها أنها تلتقي مع علوم الرياضيات في معرفة ماهيات وحقائق الاشياء غير ممكنة، فالمنهج المنطقي الرياضي الذي يعتمد معادلات تجريدية في الوصول الى حقائق وماهيات المواضيع، لا تتوفرعليها الفلسفة الفينامينالوجية في أعتمادها الاستدلال الحدسي العقلي غير اليقيني الثابت في الوصول الى ماهيات الاشياء في حال أفتراض وجودها الثابت...

ولا يمكن معرفة الماهيات في حدسها عقليا ظاهريا، لأنه في حالة افتراض التسليم بهذه الامكانية الفينامينالوجية في الحدس العقلي، فأن هذا الحدس يستلزم خبرة أدراكية قبلية موجودة في العقل عن الشيء المراد معرفة ماهيته حدسيا.ثم والأهم من هذا أن المواضيع المراد معرفة ماهياتها رياضيا مختلفة جدا عن مواضيع معرفة ماهيات الاشياء فينامينالوجيا.

فلاسفة عديدون يؤمنون بنظرية فطرية المعارف الادراكية القبلية للعقل. بمعنى اوضح ان العقل يحتاج الى معلومات فطرية مخزنة فيه بمساعدتها يستطيع العقل ادراكه الاشياء. هذه النظرية بمقدار ما تمتلكه من اقناع حقيقي ان العقل لا يستطيع بغير امتلاكه المعارف القبلية الفطرية ليدرك الاشياء الا ان مقتلها ان جميع معارف الانسان الفطرية هي في حقيقتها الاولية معارف مكتسبة. وهو مايذهب له ديفيد هيوم وجون لوك وغيرهما. لا يوجد معارف عقلية قبلية فطرية مخزنة في الدماغ ولا في الذاكرة والسبب ان كل شيء يدركه العقل حسيا او خياليا لا يحتاج فطرة غير مكتسبة سابقا. هناك فرق بين الاستعداد الفطري المعرفي لدى الانسان وبين ان تقول العقل يمتلك حقائق فطرية موروثة وقد اهتم نعوم جومسكي بهذا المبدأ في ميدان كيف يعرف الانسان اللغة وكيفية استخداماتها.

أذا ما أخذنا بالاعتبار أن ماهيات الاشياء البايولوجية في الطبيعة هي في حالة من الاحتجاب الكامن خلف ظواهرها الصفاتية، ولا يمكن للعقل أدراكها أو معرفتها بالمباشر الحسي أو الحدسي. نجد ومن هنا نقول أن الشيء الذي يعجز العقل عن أدراكه ماهويا لا يمكن التعبير عن ماهيته بأي نوع من التعبير الذي يمكننا فهمه.

أن عبقرية العقل وأعجازه تتمثل في أن أدراكه الاشياء ليس فقط لفهمها تفسيريا، بل في وجوب قيام العقل بمهمة تفسير الادراكات بهدفية قصدية تغييرية للاشياء في ظواهرها فقط أي في تخليقها وتجديدها وتغييرها وليس في خلقها. تفكير العقل التجريدي لا يخلق موجودات الاشياء.

أما أن يتداخل ما هو ظاهري مدرك عقليا للشيء في تكامل معرفي متخارج مع ماهو ماهوي كيفي غير مدرك لنفس الشيء، فلا يكون هذا من مهمة العقل وأنما من مهمة الطبيعة المحكومة بالجدل التخارجي وبالحركة الدائمية والتغييرالمستمرللظواهر والاشياء في الزمان والمكان....

تغييرات الاشياء في الطبيعة أنما يحكمها قانون الطبيعة في الديالكتيك حسب الفلسفات المادية على راسها المادية التاريخية في الماركسية. الذي يعمل الجدل باستقلالية تامة عن أدراك أو تدّخل عقل الانسان بها ولا يستجيب لرغائب الانسان...

الانسان منذ وجوده في الطبيعة يشكل جزءا متمايزا عنها فهو يقوم فقط بمعرفة ظواهر الاشياء فيها ولا يتدخل بقوانين الطبيعة سوى فقط التي يجري اكتشافها من قبله، أما القوانين الطبيعية التي لم يكتشفها الانسان لحد الآن فلا سيطرة له عليها ولا معرفة له بها ولا تداخل معها لا بالحواس ولا بالعقل...لذا تكون قوانين الانسان المخترعة عقليا تسري على الطبيعة في الظواهر المكتشفة منها فقط ولا تسري على قوانين الطبيعة غير المكتشفة للانسان من ضمنها قانون كيف يدرك العقل الانساني الوجود في كيفيته وجوهر ماهيته.

كانط وشيلر والمعرفة العقلية

أن فصل الادراك الماهوي للشيء عن وجوده الظاهري المادي المستقل في الطبيعة ،كان أشار له كانط في أن العقل عاجز عن معرفة ماهيات الاشياء، في نفس وقت وآنية أدراكه المادي لها في ظواهرها فقط. والعقل لا يمكنه التمييز بين الشيء في ماهيته والشيء في ظاهرياته بل هو يدركه كينونة موجودية انطولوجيا.

وكما ذكرنا سابقا أن العقل يدرك الاشياء في وحدة وجودية ويتعامل مع ظواهرها تخليقيا جدليا، ولا يخلق وجودها المستقل من جديد، فالافكار لا تخلق الوجود بل الوجود هو مصدر خلق الافكار.

ويبقى أدراك الماهويات عقليا مرتهن بمدى تعالقها مع أدراك العقل لظواهرها، والتخليق العقلي لا يمس كيفيات أو ماهويات تلك الاشياء لأنه لا يدركها، لذا نؤكد أن كل تغيير يطال الاشياء في ظواهرها لا يحتّم بالضرورة تغييرا ملازما في كيفياتها وماهياتها الثابتة، بنفس وقت أمكانية حصول تغيير في كيفية ما عند تغيير العقل ظواهر ذلك المدرك أو غيره...أذ ربما يحصل نوع من التبادل الجدلي التغييري في الشيء المدرك ظواهريا مع ماهيته التي تكون في حكم الثبات بالنسبة لأدراك العقل لها في وجودها الطبيعي المستقل،لكن بعد تدّخل العقل معالجة ظواهرها ربما يستتبع هذا تغيير في كيفياتها غير المكشوفة للعقل.

من  جهة أخرى نجد شيلر في معرض أدانته لكانط في منهج الاستقراء المعرفي، وأتهامه له بالخلط ما بين العقلي والقبلي، وهو خلاف ما سعى له كانط أنه أراد تأكيد تداخل العقلي والقبلي بما لا يمكن للعقل الفصل بينهما، فكل ما هو عقلي يصبح قبلي في المراكمة الخبراتية المكتسبة، عليه يكون العقل قسمة مشتركة بين المفهومين في أدراك المعرفة، كما لا يوجد خبرات قبلية ولا ماهيات يختزنها العقل كمعطى ألهي أو هبة طبيعية في العقل. وأنما كل الخبرات تصبح بديهيات وحقائق عقلية بالتراكم المعرفي التجريبي،التي مصدرها الوجود، ويعجز العقل تخليقه الوجود وأن يجعل من الخبرات القبلية غير الموجودة في حقيقتها بديهيات مسّلم الأخذ بها.

قوانين الطبيعة وقوانين العقل

يذهب ماكس شيلر الى أنه (لا يوجد عقل يفرض قوانينه على الطبيعة، واننا لا نستطيع أن نثبت الا ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح، أما القوانين فلا أحد يستطيع فرضها) (1) لم يوضح لنا ماكس شيلر لماذا لا يستطيع العقل فرض قوانينه على الطبيعة التي نحاول في توضيحنا التالي ، على حد فهمنا لعبارات شيلر الغامضة خاصة قوله ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح وما المقصود منهما:

أن العقل الانساني محدود جدا في فهمه لا متناهي قوانين الطبيعة وقدراتها الفائقة التي تحكم الوجود الانساني بما لا يعرفه الانسان عنها الا في القليل منها، والقول بأن الانسان سيد الطبيعة مصطلح غائم غير صحيح اليوم بالنسبة للطبيعة وقوانينها، لكنه ربما يرضي غرور الانسان في محاولته وطموحه السيطرة على الطبيعة في أكتشافه قوانينها الثابتة كاملة...الطبيعة هي مرضعة الانسان والحيوان والنبات وجميع الموجودات في تأمين بقائها وأدامة حياتها في توفير الغذاء لها، وأن كانت لا تعي ذاتها لكنها لا تسّلم قيادها بيد الانسان، لأن ذلك خارج عن أرادتها الصماء الثابتة أيضا...

والطبيعة تعرف بقوانينها التي تحكم الوجود الطبيعي بضمنها الوجود البشري، وليس فقط بالاشياء المادية الظاهرة والبائنة لادراك الحواس والعقل المباشرمن كائنات حية وغير حية تشاركه الطبيعة. 

الانسان بقدر أحساسه الكبير جدا أنّه لا يستطيع الاستغناء عن الطبيعة، ألا أن الطبيعة لا تدرك حاجة الانسان لها ولا تستجيب هي لرغائبه أكثر مما تجود به هي على الانسان والحيوان والنبات من أسباب البقاء والحياة بلا ادراك منها.

أن الطبيعة هي مصدر خلق قوانين العقل وليس العكس. بمعنى عجز العقل أن يكون مصدرا مهيمنا باختراعه قوانين تمكنه من هيمنته على الطبيعة،فالوجود الطبيعي للاشياء هو الذي يخلق قوانين العقل، وبقوانين الطبيعة القبلية الثابتة التي تمتلكها الموجودات والتي يفتقد العقل أمتلاكها أو بعضها هي التي تحكم الوجود.

وقوانين الطبيعة قبلية متعالية على الوجود والانسان في غموضها وعدم قابلية العقل البشري أدراكها أو أكتشافها كاملة الا في بعضها، وليس بمقدور العقل أختراع قوانينه ذاتيا، قوانين يحكم بها الطبيعة ألا في أضيق نطاق ومجال هو ما يخص الطبيعة في ظواهرها وبعض القوانين المكتشفة من قبل الانسان عنها...لذا يتعذّر على الطبيعة أستقبالها قوانين العقل التي تكون هي مصدرها الحقيقي وليس العقل.

القوانين الطبيعية المكتشفة منها وغير المكتشفة، هي التي تحكم الوجود، وقوانين الانسان المخترعة لا تحكم الطبيعة ولا الوجود بقدر تاثيرها الضئيل في تسخيرها الطبيعة لصالح بقاء الانسان وادامة حياته على الارض ومعه جميع الكائنات الحية.

قوانين الطبيعة لا تستمد مشروعية قبولها من وعي الانسان بها أو حاجته لها، ولا تعمل أو تعي تلبية رغائب الانسان منها، ويمكن لموجودات الطبيعة أن تتقبل قوانين العقل التي تتدخل في ظواهر الاشياء فقط وليس بماهياتها التي يعجز العقل ادراكها.كما أن أختراع العقل لبعض قوانينه، فهو لا يمتلك بها أمكانية ابطال فاعلية قوانين الطبيعة الثابتة أو تحكمّه بها..

أن القانون المستمد عقليا من أدراك الطبيعة لا يتعامل بحيادية التعبير عن تلك الادراكات بلغة التصورات المثالية التجريدية في حيادية زائفة تنسب للعقل، بل أن العقل يتداخل بالفكر والتجربة العلمية في تخليق مدركاته المادية والمثالية على السواء ليس من أجل معرفتها وتفسيرها المجرد، بل من أجل تطويعها لخدمة الوجود الانساني...

إن ملكة العقل الادراكية النقدية تتداخل حتما في تعديل واكتشاف العلل السببية السلبية التي تعمل بالضد من تسهيل حياة الانسان وصعوباتها، والا فلا معنى أن يدرك العقل الانساني الطبيعة واكتشاف قوانينها الثابتة الفاعلة من أجل فهمها وليس من أجل تسخيرها في خدمة الحياة والوجود الانساني.

لذا فأن الطبيعة في الوقت الذي تكون أرهاصا أوليا للعقل في أدراكه الموجودات واكتشافه بعض قوانين الطبيعة، فهي عاجزة غير مكترثة عن أستقبال رغبة العقل الانساني فرض قوانينه المخترعة على الطبيعة ذاتها.

وأن ملكة العقل الاعجازية تكمن في أكتشافه قوانين الطبيعة الثابتة التي تعمل بمعزل عن أرادة الانسان، بنفس وقت أن العقل يخلق قوانينه الجدلية الخلاقة التي يتبادلها في التأثير والتأثر بالطبيعة من جانب أحادي فقط هو الانسان.

الطبيعة في الوقت الذي تحكم الوجود الانساني بقوانين ثابتة مستقلة عن وعي وادراك ورغبة الانسان، رغم كل هذا فالطبيعة لا تعي استقبالها القوانين الانسانية المخترعة في تطويعها لرغائب الانسان وحتى العبث بها.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

....................

الهوامش:

1.أ.م.بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة د. عزت قرني ص 192-193

الروابطُ الإنسانيةُ في المُجتمع تشتمل على منهج نَقْدِي في داخلها، وهذا المَنهجُ يُمثِّل تراكمات فكرية قادرة على تنظيم نَفْسِها، واختيار مَسَارها المُستقل عن صراع الفرد معَ ذاته . والنَّقْدُ لَيس تبريرًا لهذا الصِّرَاع، وإنَّما مُحاولة للسَّيطرة عليه اجتماعيًّا، وتفسيره منطقيًّا، وتوظيفه واقعيًّا، مِن أجل اكتشاف عُيوب الفرد وثَغَرَات شخصيته، وإعادة بناء الفرد كقاعدة للبناء الاجتماعي، تحتضن المراحلَ الزمنية في ثقافة الوَعْي، بِوَصْفِها مشروعًا غَير مُكتمل، وإنَّما يَسعَى إلى الاكتمال، وذلك بالاندماج معَ حركة التاريخ العقلانية، وإنسانيةِ الفِعل الاجتماعي . وكُلُّ مَنهج نَقْدِي يَمتلك القُدرةَ الذاتية على تحديد الأجنحة المُتصارعة في الظواهر الثقافية والأنساق الحياتية، لأنَّ المُجتمع لَيس نهرًا جاريًا وَفْقَ خَط مُستقيم مَرسوم مُسْبَقًا، وإنَّما هُوَ روافد مُتشابكة ومُخْتَلِطَة، تَبتكر مَسَاراتها الخاصَّة بها، ولا تُوجَد خُطَّة جاهزة للسَّيطرة على هذه الروافد التي تُغيِّر طبيعتها باستمرار ضِمن صَيرورةِ التاريخ والهُوِيَّةِ المعرفية والفِعلِ الاجتماعي . وإذا كانَ التاريخُ يُغَيِّر جِلْدَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ سياسات التأويل والتوظيف، وتَعَدُّدِ زوايا الرؤية للأحداث، فإنَّ الفرد يُغيِّر حُلْمَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ مُستويات الوَعْي والإدراك، وتَعَدُّدِ أبعاد حُقول المعرفة . وهذا يدلُّ على استحالة أن يظل المُجتمعُ ثابتًا في ظِلِّ التَّغَيُّر المُسيطر على التاريخ والفرد . بَلْ إنَّ الثَّبات الفِكري في عَالَم مُتَغَيِّر يُشكِّل خَطَرًا على ماهيَّة الحقيقة الاجتماعية، ويجب على الفرد أن يُغيِّر أفكارَه إذا تعارضتْ معَ الأدلة. والأفكارُ لَيْسَتْ مَقصودةً لذاتها، ولا تَقُوم بِنَفْسِها، وإنَّما هي وسائل لتحقيقِ الوَعْي المَعرفي،وتَوليدِ التاريخ الجديد الذي يُعبِّر عن المعايير الأخلاقية التي تُجسِّد المبادئَ الحَيَّةَ والحُرَّةَ، صُورةً ومَعنى، ظاهرًا وباطنًا . والمبادئُ ثابتة، والأفكار مُتَغَيِّرَة .

2

الأنساقُ الفكريةُ تُحدِّد تفاصيلَ الواقع المُعاش، باعتبارها شُروطًا مُسْبَقَة لدمج المنهج النَّقْدي في الروابط الإنسانية معَ سُلطةِ العلاقات الاجتماعية . والمَرجعياتُ الثقافيةُ تُحدِّد أبعادَ كَينونة التاريخ، باعتبارها اكتشافًا لحقيقة البناء الاجتماعي الداخليَّة . والتاريخُ الذي يَحتضن الفِعْلَ الاجتماعي كمشروع فلسفي، يُمثِّل تَجَلِّيًا للزمن في العقل الجَمْعِي، الذي يَدفع الفردَ نَحْوَ اكتشافِ نَفْسِه وُجوديًّا، وابتكارِها معرفيًّا، وتَكوينِها أخلاقيًّا، وإعادةِ إنتاج مُستويات الوَعْي والإدراك، مِن أجل تحريرِ الفلسفة الحياتيَّة مِن التمركز حول الذات، وصناعةِ المفاهيم الإبداعية لِتَكُون قُوَّةً دافعةً للتاريخ الذي يُعَاد تشكيلُه في البناء الاجتماعي والبُنية الثقافية، وتأسيسِ علاقة منطقية بين اللغة والوجود، تَدمُج براءةَ الفِطْرَة معَ فلسفة الخِبْرَة،وتَدمُج الماضي معَ الحاضر ضِمن سِياق التَّزَامُن والتَّعَاقُب، لِيَصِيرَ المُستقبلُ تاريخًا حَيًّا في شخصية الفرد بلا فواصل ذهنية ولا قطيعة معرفية، وعابرًا للزمن والمكان، وحاضنًا للجُغرافيا الخيالية والواقعية . والتاريخُ الحقيقي لَيْسَ زمنًا غارقًا في ضباب الماضي، أوْ هُروبًا إلى الوراء، أوْ رُكَامًا مِن الأحداث والوقائع. وإنَّما هو رحلة وُجودية في الذات والعناصر المُحيطة بها، بحثًا عن مَعنى للأشياء والأفكار، مِن أجل تخليص المُجتمعات البدائية مِنَ التَّوَحُّش، وقتلِ الوَحْش في أعماق الإنسان.والتاريخُ الحقيقي لا يَبحث عن إسناد خارجي لِنَيل الشرعية والمشروعية، لأنَّه هو المُخَلِّصُ والخَلاصُ.

3

كُلُّ نَسَق تاريخي يُمثِّل نظامًا لغويًّا يَهدف إلى تنظيمِ إفرازات الفِعْل الاجتماعي، وتجميعِ تأثيرات المنهج النَّقْدي في الروابط الإنسانية، وترتيبِ مصادر المعرفة في تراكيب البيئة وعناصر الطبيعة . وقُوَّةُ النظام اللغوي تتجلَّى في تحويل الشُّعور الإنساني الهُلامي إلى اتِّصَال مادي معَ مُكوِّنات المُجتمع، وتواصُل معنوي معها. وإذا كانت مركزيةُ اللغةِ في الوجود تُمثِّل إعادةَ تشكيل للمنهج النَّقْدِي القائم على فَحْصِ المُسلَّمات الافتراضية، وتنقيةِ العقل الجَمْعي مِن سِياسة الأمر الواقع، فإنَّ مركزية الوَعْي في الإنسان تُمثِّل إعادةَ تكوين للروابط الإنسانية القائمة على تحليلِ انعكاسات البُنية الثقافية على النَّسَق التاريخي، وتعريةِ البناء الاجتماعي مِن ضَغط النظام الاستهلاكي . وهذه الثنائيةُ (التَّنقية / التَّعرية) تُجسِّد فلسفةَ العقل الجَمْعي في البناء الاجتماعي، وتَكشِف الدَّوْرَ المركزي للتاريخ في الحضارة، بِوَصْفِهَا النَّوَاةَ الأساسية في المنهج النَّقْدِي إنسانيًّا، والهُوِيَّةَ الوجودية في الروابط الإنسانية ثقافيًّا.وكما أنَّ النَّقْد لا يَنفصل عن الثقافة،كذلك الثقافة لا تَنفصل عن الإنسان. وهذا الترابط مِن شَأنه أن يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة، لأنَّهَا الحامل للمنهجِ النَّقْدي والبُنيةِ الثقافية والوجودِ الإنساني . والحاملُ لا يُوجَد بِمَعْزِل عَن المَحمول، وإذا كانت اللغةُ هي الحاملَ، فإنَّ الحضارة هي المَحمول، وإذا سَاهَمَت اللغةُ والحضارةُ في تَكوين سِيَادة المعايير الأخلاقية على إفرازات الفِعل الاجتماعي وانعكاساته، وإضفاءِ المَعنى الوجودي المنطقي على الأشياء والأفكار والعناصر، فإنَّ فلسفة التاريخ سَتَتَحَوَّل إلى أداة لكشف آلِيَّات البناء الاجتماعي في الحضارة، فَيُصبح التاريخُ جسدًا للحياة وتجسيدًا للحُرِّية، ولَيس أرشيفًا للضَّحَايا الذين يتقمَّصون جَلَّادَهم، وتُصبح الحضارةُ هُوِيَّةً إبداعيَّةً لا هاويةً أيديولوجيةً، ويُصبح الوُجودُ كِتَابًا مَفتوحًا لا فَخًّا قاتلًا .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

"الاغتراب الميتافيزيقيّ"* كما أصطلحُ عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي والاغتراب السياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي الضيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزق الكينونة الوجودية للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي.

الاغترابُ الميتافيزيقي ضربٌ من الاغتراب لا يرادف تفسيرَ جورج ويلهم فردريك هيغل (1770 - 1831) الذي يرى أنَّ الاغترابَ ينشأ من وعي الإنسان بالهوّة الشاسعة بين وجوده والحقيقة النهائية "الروح المطلقة" أو العالم المثالي، فالإنسانُ يكون مغتربًا عندما لا يجد ذاتَه في العالم المثالي.

ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ لودفيغ فويرباخ (1804 - 1872) الذي يرى أن خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الانسانُ مُستلَبًا، عندما صيّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء.

ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ كارل ماركس (1818 - 1883) الذي جعل سببَ الاغتراب استغلالَ الرأسماليّ للعامل، واستلابَ قيمة عمله، الذي يفضي إلى: اغترابِ العامل عن ناتج عمله، واغترابِه عن عملية الإنتاج، ومن ثم اغترابِه عن وجوده النوعي كإنسان، واغترابِ العمال بعضِهم عن بعضِهم الآخر.

كما لا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ سيغموند فرويد (1856 - 1939)، الذي رأى أن الاغترابَ ناتجٌ عن وجودِ الحضارة واستلابِها لغرائز الإنسان، إثر ما يحدث من تعارُض بين متطلّبات بناء الحضارة وما تفرضه الدوافعُ الغريزية للإنسان من متطلّبات مضادّة.

أعني بـ "الاغتراب الميتافيزيقي" أنَّ الانسانَ هو الكائنُ الوحيدُ في هذا العالم الذي لا يَكتفي بوجودِ ذاته، فيشعر على الدّوام بافتقاره إلى ما يثري وجودَه، لذلك لا يكفّ عن الاتصال بمنبع مطلق للوجود، يتكرّس به وجودُه الشخصي، ويظلّ يعمل كلّ حياته على توسعة وجودِه وإغنائه، من خلال السعي للعثور على ذلك المنبع اللامحدود للوجود، فإنْ عجز عن الاتصال بالمطلق عاش حالةَ ضياعٍ واغترابٍ ميتافيزيقي.

ولمَّا كان كلُّ شخصٍ يحتاجُ لما يتخطَّى وجودَ ذاتِه المحدود، فإنْ لم يصل إلى المُطلق يحاول أن يعوِّض حاجتَه بما يعتقد به من مطلق، بقطع النَّظر عن نوع ما يعتقد به، سواء أكان أيديولوجيًّا، أو ميثولوجيًّا، أو فكرةً، أو أمةً، أو إثنيةً، أو بطلًا، أو وطنًا، أو ملحمةً، أو سرديَّةً، أو غيرها، وكلها تنتمي إلى المتخيَّل الذي ينسجه كلُّ مجتمع لنفسه. كلُّ مجتمع يحتاج أنْ يرسم صورةً متخيلة لهويّته، تصير مرآة يرى ذاتَه فيها مركزَ العالَم، ويرى إنتاجه الماديّ وغير الماديّ أغنى وأثمن إنتاج أنجزه مجتمع يعيش على الأرض، كأنَّ كلَّ المجتمعات خارج حدودِه كانتْ صدىً لما قدَّمه هذا المجتمعُ للبشريّة. هذه الصورة المتخيَّلة لهويته يتحقّق فيها حضورُها، وشكلٌ من أشكال حضورِ كلِّ فرد ينتمي إليها، وشعوره بالاتصال بوجودٍ مطلق يكتفي به دون غيرِه.

عندما يستفيق الإنسانُ متأخِّرًا يجد ذاتَه مقذوفةً في متاهة، كأنه يهرول وراء سراب، لإدراكه بأنّ كلَّ ذلك لا يشعره بأنَّ وجودَه الفرديَّ يتكرّس بمزيدٍ من الوجود. بمعنى أنَّ لدى كلِّ فرد حاجةً إضافيَّةً في ذاته لوجود واسع غنيّ بلا حدود، حاجةً عابرةً لوجوده الشخصيّ الفقير الضيّق المحدود، وهذا الوجودُ لا يفيضه سوى الاتصال الحيوي بالوجود المطلق. إذ يتّسع وجودُ الإنسان بمدى قدرتِه على تحقيق ضربٍ من الاتِّصال الوجوديّ بذلك الوجود اللامحدود.

وجودُنا الفقيرُ يبحثُ عن وجودٍ يتَّسِعُ له ويتحرَّرُ به من كلِّ حدود وقيود الوجود الضيّق. الزمانُ والمكانُ واللغةُ والثقافةُ والأيديولوجيا والهويةُ قيودٌ وحدودٌ تُفقِر الوجودَ، وتغرقه في اللامعنى أحيانًا، لذلك يبحث الإنسانُ عن لغةٍ بديلةٍ للغتِه؛ تتَّسع لاستيعابِ ما يتوالد في مخيَّلته وأحلامه وأوهامه وقلقه وآلامِه، فينتقل للرمزِ الذي يتسعُ لما لا تتسعُ له أيةُ لغةٍ. الرمزُ يتكفَّل بتزويدِ الإنسانِ بمعانٍ تختنقُ بها اللغةُ، الرمزُ لغةُ الأديانِ والفنون، لذلك كانت الأديانُ والفنونُ من أثرى منابعِ المعنى في حياة الإنسان.

كلُّ وجودٍ يقترنُ بالمادة فقيرٌ، لأنَّ الوجودَ الماديَّ للكائنِ البشري يفرضُ عليه أن يقترنَ بزمانٍ ومكانٍ ولغةٍ، أي يفرضُ عليه الافتقارَ والاحتياجَ إلى غيره. الزمانُ والمكانُ واللغةُ قيودٌ تقيِّدُ الوجودَ وحدودٌ تحدّه، وكلُّ قيدٍ وحدٍّ نهايةٌ، والنهايةُ افتقارٌ، وكلُّ افتقارٍ ضربٌ من الظّلامِ. لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ كينونتَه إلا عندما يتحرَّرُ من حدودِ الزَّمانِ والمكانِ واللغةِ. الزمانُ الذي هو غطاءٌ من الظلامِ يحتجبُ به الوجودُ، فيغترب عن ذاته. الصلةُ الوجوديَّةُ بالوجود المطلق وهو الله، هي ما يحرّرُ الوجودَ المحدود من اغترابه، أي من فقرهِ الناتج عن قيوده وحدوده، التي عندما يتخلَّصُ منها يمتلكُ كينونتَه، فيكتمل وجودُه، وتُمحى غربتُه عن ذاته. لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ ذاتَه إلا بصلته الوجودية بالوجود المكتفي بذاته. هذا هو المعنى الذي أفهمه من آية النور: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)، النور، 36. (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)، الزمر، 69. هذا النور هو الوجود الغني المكتفي بذاته، الذي يخرج به الوجودُ المحدودُ للإنسان بعد أن يلتقيَ فيه من فقره، أي من ظلمته واغترابه، ويشرق وجودُه بنورٍ على نور.

  الدينُ هو ما يخلِّص الإنسانَ من الاغتراب الميتافيزيقي من خلال الاتِّصال الوجوديّ بالمطلق، الذي هو الله في الأديان الإبراهيمية، والإله أو الروح الكلّي في أديان أخرى. والمطلقُ يمثّل أغزرَ منبع يستقي منه الكائنُ البشري مزيدًا من الوجود، وهذا الوجودُ هو الذي يحدِّد كيفيةَ حضور الذَّات في العالَم، لأن الإنسانَ يتحقّقُ فيه بمرتبةٍ أكمل من الوجود.

الاغترابُ الميتافيزيقي حالةٌ أنطولوجيّة، تُستلَب فيها كينونةُ الكائنِ البشري، ولا يتخلّص منها الإنسانُ إلّا ببناءِ صلةٍ ديناميكيّةٍ يقظةٍ بالمطلق، تتحقّق فيها أُلفةُ الإنسان مع الوجود الأوسع من المادي، بعد أنْ تحدث عمليةُ توطينٍ له، بنحو يتحوَّل هذا الوجودُ الواسع إلى مَسكَنٍ يقيم فيه، وحيث يسكن الإنسانُ الوجودَ يجدُ ذاتَه، وعندما يجدُ ذاتَه يشعر بالأمان في المأوى الذي يأوي إليه. ويتبدَّل نمطُ علاقتِه بإلهِهِ، فيتحوّل من عَدَاءٍ إلى حُبٍّ، بل قد يتسامى الحُبّ إلى مرتبةٍ يكون فيها الحَبِيبُ هو الأنا.

   على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاصَ من أنواع الاغترابِ هذه لا يعني الخلاصَ من الاغتراب الميتافيزيقي، لأن الاغترابَ الميتافيزيقي اغترابٌ لكينونة الإنسان عن وجودها، وهذه الحالةُ من الاغتراب تنتج القلقَ الميتافيزيقي، إذ بعد أن تنقطعَ صلتُه الوجودية بإلهه، يفتقدُ ذاتَه، وعندما يفتقد الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال التبعثر والتشظِّي، وربما يتردَّى في حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزِّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانيّةَ.

الصلة الوجودية بالله لم أقرأْها في مدوَّنة علم الكلام القديم، الذي أنتجَ غُرْبَةَ المُسْلِم عن ذاتِه وعالَمه. نشأ اغترابُ الإنسان الميتافيزيقي عن إسقاطِ المتكلِّمين لصورة الإنسان على الله. تورّط المتكلّمون بقياس الغائب على الشاهد في دراسة توحيدِ الله وصفاتِه وأفعالهِ، كان نموذجُهم المحسوس علاقةَ السيد بالعبد، فصاغوا في إطارها نمطَ علاقةِ الله بالإنسان. ووُلدتْ الرؤيةُ التوحيديّة الكلاميّة في أفق هذا الفهم، وكُتبت المدونةُ الفقهية في سياق هذه الرؤية، وتبعًا لذلك أنتجت فقهًا يشرعن بعضِ أشكال العنف. بل تغلغلتْ رؤيةُ المتكلّمين في معارفِ الدِّين المختلفة، وظهر أثرُها في كثير مما استلهمه المسلمون من النصوص الدينية.

لم أقرأ ‏مصطلحَ "الاغتراب الميتافيزيقي" في آثار متنوعة طالعتُها لفلاسفة ولاهوتيين ومتصوفة وعرفاء وغيرهم. هذا ‏المصطلحُ اقترحتُه في كتاب: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، ‏وهو أحدُ المحاور المركزية في هذا الكتاب. وعلى أساسِ مفهومَي: الظمأ الأنطولوجي والاغتراب الميتافيزيقي يبتني القولُ بأن: "الدينَ حاجةٌ وجودية للإنسان"، ‏وفي ضوءِ ذلك اقترحتُ تعريفًا للدين بوصفِه: "حياةً في أُفق المعنى، ‏تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". لا ترادفَ بين مصطلحِ الاغتراب الميتافيزيقي ومصطلحِ الظمأ الأنطولوجي، وإن كان كلٌّ منهما يعكس الحاجةَ الأنطولوجية للدين. ‏

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..................

1- إضافة للطبعة الجديدة الثالثة لكتاب: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، يصدر قريبًا عن: دار الرافدين ببيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد.

المقدمة النظرية: لقد أصبحت وجهة نظر العلوم الاجتماعية حول العلاقة بين الحداثة والدين تحضى بشعبية كبيرة وشائعة للغاية في العقود الماضية في ما قدمت من تفسيرلأسباب تهميش التحديث وسياسة العلمانية المؤمن والتشجيع على نمو التعصب. وتبرر الاستياء من الشكل السائد الذي تفرضه الحداثة والعلمانية على مجتمعات عالم الجنوب ما كان يعرف بالعالم الثالث . قد تكون هناك بعض الأسباب الوجيهة لتاييد هذا الراي، لكنني أعتقد أن بعضها ليس جديرا بأن يؤخذ بجدية.

أحاول التركيز على هذه هي الأسباب. لذلك، لست معنيًا بالجزء التفسيري الذي تقدمه وجهة النظر هذه حول هذه  المسألة ولا بجميع المبررات التي تقدمها لأثام وجنح الحداثة ولكن فقط بتلك التي أجدها غير مقنعة. اسمحوا لي قبل أن أتعمق في هذه المسألة أن أشير إلى بعض أسباب عدم ارتياحي بوجهة النظر هذه. أجد من البداية، أنها تعاني من متلازمة هم – نحن المفرطة. إنها تسخر من تقسيمات الحداثة دون أدنى وعي  برؤيتها المتصدعة هي ذاتها. إنها مهووسة بروحانية الدين التقليدي ولكنها تحجب الجذور الروحية للحداثة بلا خجل. إنها شديد الحساسية لعلاقات السلطة والثروة والامتياز بالعلمانية ولكن ليس  عند ممثلي الخطاب الديني. إنها تتتأرجح بين نقاء محفوف بالمخاطر تفقد فيه القيمة كل أهميتها حتى عندما يكون تلوثها بالسلطة قليلًاً ونسبية متوترة تكون فيها القيم العليًا أساسًا عاديًا ورغبات متواضعة. باختصار، اكتشفت في هذا التفكير اندفاع بسيط ومفرط ويسبب عواقب وخيمة.

يجد أولئك الذين لديهم هوية علمانية حديثة أنفسهم معزولين بشكل متزايد، ليس من قبل المتدينين الجدد (كالإسلاميين، ومن يسمون أنفسهم بالمثقف الديني) والمناهضين للعلمانية فقط ولكن من قبل الكثير من العلمانيين الآخرين الذين في السلطة ايضًا. بالكاد يشعر إن أولئك العلمانيين أنهم في وطنهم وسط الطوفان الحالي من الهستيريا الدينية في أغلب البلاد العربية والإسلامية. يجد أولئك الذين لديهم هوية علمانية حديثة انفسهم محبوسين بين العلمانيين في السلطة والمتدينين الذين يرغبون في اغتصاب هذه السلطة منهم. بالإضافة الى ذلك، يبدو لي أنه من بين أولئك الذين يتعرضون للتهديد، هناك أيضًا بعض المؤمنين الذين لا يمكنهم التماهي مع ما يمكن تسميته بعلمانيي السلطة أو الحاكمين في الدولة ولا مع الأيديولوجيين الدينيين الجدد والمتدينين المتشددين التقليديين. لماذا يتعرض بعض العلمانيين والمؤمنين للتهديد بالتساوي بينما بأن جميع العلمانيين والمؤمنين منقسمون أساسًا في عصرنا؟ إن الانقسام بين العلماني والديني في العالم العربي/ الإسلامي كانه مؤسسات ثقافية. فهل حان الوقت لتحدي ذلك؟ هل يمكن أن توجد بعض أنواع العلمانية التي تشترك في الدين أكثر من علماني السلطة؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل الهوية الحديثة العلمانية تعارض دائمًا الهوية الدينية؟

أعتقد أننا لا نستطيع البدء في الإجابة على هذه الأسئلة ما لم يكن لدينا بعض الفهم لما يعنية أمتلاك هوية على الأطلاق. لذلك، اضع بداية السؤال وبنوع من التجريد: ما معنى أن يكون لديك هوية؟ أقدم أولاً إطارًا عامًا للإجابة عن هذا السؤال ثم زعم أنه توجد بداخله أربع طرق لصياغة مفاهيم الهوية على الأقل. ثم اضع هذا الإطار موضع التنفيذ، فأسأل ما هو معنى أن يكون لديك هوية دينية وما إذا كانت مختلفة عن الأشكال الأخرى للهويات الثقافية. هل الهوية الدينية مثل أي هوية ثقافية أخرى أم أنها تمتلك بنية متميزة وخاصة بها؟ هل يمكن تصنيفها ضمن المفهوم العام للهوية الثقافية أم أنها مختلفة بما يكفي عن الهويات الثقافية الأخرى لتتطلب معاملة خاصة؟ أخيرًا، أستكشف العلاقة الموجودة بين الهويات الدينية والحديثة والعلمانية. إن ادعائي الرئيس، هو أن بعض أشكال الهويات العلمانية تشترك مع بعض الأشكال من الهويات الدينية أكثر مما تشترك فيه مع اعضاء جماعتهم، وأن الثقافة المشتركة تتخطى  الفجوة  الأنقسام المألوف بين الديني والعلماني.

ما معنى أن تمتلك هوية؟

إن الشائع في المنطق هو أن مفهوم الهوية له علاقة بالتطابق أوالتماثل: هوية الشيء هي تطابقه مع نفسه. على الرغم من أنه صحيحًا الادعاء بأن أي شيء هو نفسه مع نفسه في أي لحظة، فمن الصواب أيضًا أنه يصبح مختلفًا - في اللحظة التالية تمامًا عما كان عليه- منذ لحظة فقط. إذا كان على كائن ما الاحتفاظ بهويته، والبقاء كما هو مع نفسه، فيجب أن يقاوم الطرق العديدة التي تهدد تغيير صفته أو شخصيته. إذن، يرتبط سؤال الهوية بالسؤال: ما الذي يحافظ على الشيء نفسه على الرغم من التغييرات العديدة التي يتعرض لها بمرور الوقت؟

إنه يرتبط بسؤال آخر أيضًا: مثلما يكون الشيء متطابقًا مع نفسه فقط إذا ظل كما هو مع مرور الوقت، لذلك يمكن تحديده بشيء آخر بشرط أن تكون الميزات التي يمتلكها هي نفسها الموجودة عند الآخرين. يمكن تمييز شيئين متطابقين إذا كان لهما السمات نفسها. ولكن إذا كانت قابلة للأدراك والتمييز، فما الذي يجمعها تحت الوصف نفسه؟ ما الذي يوحد الشيء مع الأشياء الأخرى على الرغم من اختلافه الظاهري والجلي معهم؟ إذن، ترتبط مشكلة الهوية بمشكلة الثبات في مواجهة التحولات والوحدة داخل التنوع.

ومع ذلك، من المستحيل أن يظل أيً شيء أو كائن كما هو نفسه من جميع النواحي طوال الوقت. المطالبة بذلك هو فرض لشرط صارم بحيث لا يمكن لأي كائن أن يفي به. إنه يجعل أي كائن غير قادر على الاحتفاظ بهويته طوال الوقت. فيمكن أن يظل متطابقًا مع نفسه لبعض الوقت والنواحي وليس جميعها. وبالمثل، إذا كان التشابه طوال الوقت لأي مجموعة من سمات كائن ما كافياً لهويته، فسيظل كل شيء متطابقًا مع نفسه دائمًا، وإذا لم يفقد أي شيء أو كائن هويته، فلن تظهر مشكلة الهوية في المقام الأول. إن القول بأن الشيء ظل كما هو مع نفسه طوال الوقت يكون  تعبيرا مختزلًا أومقتضبًا دائمًا: لقد ظل الشيء كما هو مع نفسه طوال الوقت في بعض النواحي التي تتصل به. فيتم بناء معيار الصلة في تعبير الهوية.

ينطبق هذا بالقدر نفسه على هوية الشيء مع الأشياء الأخرى. هناك في لحظة معينة  هناك عدد من النواحي التي يكون فيها الشيء هو نفسه مع أشياء أخرى وعدد من النواحي الأخرى يختلف فيها. إن الحديث عن مطابقة شيء ما مع شيء آخر أمر له معنى ضمن مجال مختار مسبقًا فقط؛ وترتبط الهوية بشكل حاسم ببعض المبادئ التي تتصل في هذا المجال. باختصار، يتطابق الشيء نفسه مع نفسه طوال الوقت، أو الشيء نفسه مع أشياء أخرى في أي وقت، فقط فيما يتعلق ببعض الميزات المختارة وفقًا لبعض المعايير التي تتصل به في هذا السياق.

إن تشابه السمات التي تتصل بالشئ طوال الوقت جزء لا يتجزأ من أي مفهوم للهوية. فللحصول على هوية، يجب أن يكون للشيء سمات تتصل به بشكل اساس ودائم.[1] إذا كان هذا ينطبق على هوية جميع الأشياء، فيجب أن يكون صحيحًا بالنسبة لهوية هذا الكيان الخاص، أيً الشخص البشري أو الذات ايضًا. يجب أن يكون الشخص من اجل امتلاك هوية البقاء كما هو نفسه طوال الوقت ومتطابقًا مع بعض سماته الدائمة التي يعتبرها خاصة به.

يتوافق هذا مع الحد الأدنى من الإحساس بالهوية الذي نعرفه جميعًا اي بفينومينولوجيا (ظواهرية) الهوية البسيطة. أن يكون لديك هوية هو ادراك وجود شيء ثابت في خضم التغيير والتنوع. وأن تكون موجودًا في مكان ما، لامتلاك إحساس ملموس بأنك في العالم. والأهم من ذلك أن يتم الحصول على هذا الشعور بالارتباط من خلال التعرف على شيء يبدو في ظاهره مختلفًا. يجب أن أكون قادرًا على تسميته بالأسم نفسه الذي أطلقه على نفسي، أو على الأقل أطلق عليه اسمي. التأكيد على أن الوحدة تستوعب وتجمع وتؤسس روابط بين أشياء متنوعة تتعمق إلى درجة أن النقطة الصغيرة تبقى تسمى باسم مختلف. وعلى العكس من ذلك، فإن فقدان هوية المرء يعني تجريد المرء من اتجاهاته والقدرة على رؤية مكانه، وأن يكون مفككًا، ومنفصلًا، ويشعر بعدم الأمان. إنه الفشل في اختيار أو اكتشاف شيء خاص به، وعدم القدرة على العثور على التشابه المناسب مع أي شيء.

ينشأ هذا مما قلته للتو، لا يمكن أن تكون الهوية الجسدية شرطًا كافيًا لهوية الشخص. فيجب أن تدوم بعض السمات الجسدية للشخص حتى يكون له هوية. لكن لا يمكن تحديد أي شخص بشكل شامل بجسده فقط. لا يمكن اختزال هوية الشخص في الهوية الجسدية. هذا لأن الشخص هو شخص بقدر ما يتمتع بصفات عقلية فقط. من المؤكد أن ستراوسون محق في النظر إلى الشخص ككيان يمكن أن تنسب إليه كل من الخصائص الجسدية وحالات الوعي.[2] تعتمد هوية الشخص ولو في حده الأدنى على هوية حالات وعيه - وهو شرط لإمكانية فينومينولوجيا الهوية الموصوفة في الفقرة السابقة.

لكن ماذا يمكن أن تعني هوية حالات الوعي؟ أن حالات الوعي نوعان. بادئ ذي بدء، توجد حالات مثل الأحاسيس، ويُقصد بها عمومًا المشاعر الجسدية مثل الألم والوخز والتي لا يمكن أن تحدث بدون حد أدنى من الوعي بالشئ. فالأسباب نفسها التي تجعل الجسد هو المعيار الوحيد للهوية الشخصية تنطبق على الأحاسيس تقريبا. لكن توجد معتقدات ورغبات أيضًا، أي تلك الحالات التي تتميز بما يسميه برينتانو `` القصدية ''. لا يمكن لأي شخص أن يمتلك كل معتقداته ورغباته دون حد أدنى من الوعي. فلكي تكون شخصًا لابد أن تكون مدركًا لبعض معتقداتك ورغباتك. لذلك، لكي يكون للشخص هوية من الضروري أن يكون قادرًا بوعي على التماهي مع بعض معتقداته ورغباته وأفعاله.

يمكن تصور المعتقدات والرغبات بطريقتين مختلفتين اختلافًا جوهريًا. يكفل قصدهم أنه يمتلك  محتوى بالضرورة. ولكن، قد يكون هذا المحتوى فرديًا بشكل مستقل تمامًا عن أي شيء خارجي للعقل الفردي أو قد يُنظر إليه على أنه يعتمد على البيئة الطبيعية والسياق الاجتماعي، ولا سيما الممارسات اللغوية للمجتمع. أجد أن النظرة الذرية والنفسية الأولى للمحتوى المتعمد غير مقنعة تمامًا. لا يمكنني هنا أن أخوض في أسباب رفضي للرأي االذري والنفسي، ولكن إذا كنت محقًا في ذلك، فيمكن القول، أن هوية الشخص تتشكل بواسطة اللغة التي يستعملها، ومن خلال مفرداته إلى حد بعيد، وذلك على افتراض مركزية المعتقدات والرغبات والأفعال بالنسبة لقضية الهوية الشخصية برمتها. وعليه يمكن القول أن هوية الشخص تحددها لغته.[3]

عندئذ يكون لدى الشخص المعتقدات والرغبات التي يمارسها بواسطة الكلمات التي يستعملها الى حد كبير. لا يستطيع التماهي مع معتقداته ورغباته دون التماهي مع الإطار المفاهيمي المتجسد في المفردات التي توفرها لغته. إن التماهي مع المعتقدات والرغبات مستحيل بدون اللغة لأنه لا يعرف ما تعنيه هذه المعتقدات والرغبات وبالتالي ما هيً إلاً إذا كانت لديه لغة. نظرًا لأن الدخول إلى عالم المعنى أمر حاسم لتكوين المعتقدات والرغبات فإن الهوية الشخصية مرتبطة بعالم المعاني.

علاوة على ذلك، لا يمكن عقد عالم المعاني هذا إلا مع الآخرين. إن التماهي مع المعتقدات والرغبات هو التماهي مع شيء اجتماعي، ومشاركته بالضرورة مع الآخرين. يتعرف الفرد البشري على هويته بمصطلحات محددة اجتماعيًا.[4] ونظرًا لأن هذه الرغبات والمعتقدات تظهر من خلال التفاعل مع الآخرين، فيمكننا القول أن هوية الشخص هي مسألة بناء اجتماعي إلى حد بعيد. تتطور الهويات  وتكتمل في المشاركة مع الآخرين. باختصار، أنا أعرّف نفسي بلغتي ومع أعضاء مجتمعي اللغوي. هذا هو السبب في أن يعرف المرء نفسه، كما يعرفه الآخرون، من خلال كونه موجودًا في عالم مشترك.[5]

يمكن توضيح هذا العالم المشترك للمعنى بشكل أكبر في إطار مرجعي مشترك مع الآخرين وشبكة مقاصد مشتركة. إن مشاركة مفردات مشتركة يعني أولاً وقبل كل شيء المشاركة في عالم مرجعي مشترك، أي أن المصطلحات المستعملة من قبلنا يجب أن تشير إلى نفس الكيانات. نحن لا نخترع أسماء للأشياء بمعزل عن بعضها البعض؛ بل إننا  ننجز أو نحقق هذا التصنيف معًا. فعندما أتعرف على عالم مشترك من المعنى، فأنني أنتمي إلى تقليد معين لرسم الفروق. هناك حد أدنى يمكنني من خلاله التعرف على نفسي ليس فقط بهذه الطريقة في تصنيف العالم ولكن مع كل أولئك الذين يشاركوني هذا التصنيف. علاوة على ذلك، نحن نمتلك شبكة مقاصد مشتركة ضرورية بنفس القدر لهويتنا أيضًا.

أعني أن المجتمع اللغوي من خلال امتلاك شبكة مقاصد مشتركة يشارك في المعنى بالمصطلحات التي يستعملها. بالطبع، لا يعني هذا أن كل كلمة في اللغة لها معنى واحد لجميع أعضاء المجتمع اللغوي. ولكن يشير الى أن معنى كل كلمة متاح من حيث المبدأ للجميع، وأنه حتى لو لم يتفقوا على معناها، لديهم الحد الأدنى من فهمها. وبسبب هذه الشبكة المشتركة نفهم بعضنا البعض أو نفهم أنفسنا بالفعل. هذا الفهم مهم لهويتي، ولإحساس التشابه مع نفسي ومع الآخرين. إن هويتي مرتبطة بهذا الفهم، بمخزون التفسيرات الذاتية المتاحة لي. هذا هو الفهم الذي يوفر الأرضية التي تقوم عليها أي وحدة وتضامن محددين، وهو أمر حاسم لتحديد وبناء هويتي مع الآخرين. قد لا يكون كل هذا واضحًا جدًا بالنسبة لي دائمًا، ولكن تواجه هذه المشكلة بشكل واضح عندما أكون وسط أولئك الذين لا أفهمهم. من المهم بالنسبة لهويتي أن أستمر في البقاء مع أولئك الذين أفهمهم، أو احتفظ بشبكة تكثيف مشتركة وإلا سأفقد الإحساس بهويتي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..........................

[1] يقول روبرت بيلاه أن الهوية هي بيان لماهية الفرد أو المجموعة بشكل جوهري ودائم. ويقول إريكسون إن مصطلح "الهوية" يشير إلى التشابه المستمر مع الذات (التماثل الذاتي) والمشاركة المستمرة لبعض الخصائص الأساسية مع الآخرين. انظر كتابه :

The Problem of Ego Identity', in Maurice Stern, Arthur J. Vidlich, and D. Manning White (eds), Identity and Anxiety, Glencoe, Illinois: Free Press, 1960.

[2] Peter Strawson, Individuals, London and New York: Methuen, 1964, p.104.

[3] أتحدث هنا عن اللغة كتعبيرات تعتمد على الكلمات مع معاني ، لكنني أقصد توسيع هذه النقطة لتشمل أشكال التعبير المستقلة عن الكلمات أيضًا.

[4] P. Berger, The Social Construction of Reality, London: Penguin Books, 1967, p. 108.

[5] الهوية ، مع ارتباطاتها المناسبة بالواقع النفسي ، هي دائمًا هوية داخل عالم محدد مبني اجتماعياً.

 

يُعتبر كانط (1724-1804) أحد أعمق وأكثر الفلاسفة أصالة حتى الآن. هو عُرف ايضا بميتافيزيقيته – في موضوع "نقد العقل الخالص"- وبفلسفته الاخلاقية التي عرضها في "تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق" و "نقد العقل العملي" رغم ان "تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق" هو أسهل للفهم من الأخير.

مشكلة التنوير

لكي نفهم فلسفة كانط الاخلاقية، من المهم جدا ان نكون على اطّلاع على القضايا التي كان هو وغيره من المفكرين في زمانه يتعاملون معها. منذ بداية التاريخ المدون كانت العقائد الاخلاقية للناس وممارساتهم تتأسس على الدين. كتب مقدسة مثل الانجيل والقرآن طرحت قواعد اخلاقية اعتقد المؤمنون بها انها نزلت من الله، مثل لا تقتل، لا تسرق، لاترتكب الزنا، وغيرها. الاعتقاد بان هذه القواعد لها مصدر ديني للحكمة أعطاها السلطة. انها لم تكن فكرة اعتباطية لشخص ما، انها كانت افكار الله، وبهذا قدّمت للبشرية دليلا موضوعيا صالحا للسلوك. كذلك، ان كل شخص لديه الحافز لإطاعة ذلك الدليل الاخلاقي. لو انت "سرت في طريق الله"، انت سوف تُكافأ، اما في هذه الحياة او في الحياة القادمة. وعندما تنتهك الأوامر، فانك سوف تُعاقب. وبالتالي،أي فرد عاقل تربّى على هذا الايمان سوف يلتزم بالقواعد الأخلاقية التي شرعها دينه.

ومع الثورة العلمية للقرنين السادس عشر والسابع عشر التي قادت الى حركة ثقافية كبرى عُرفت بالتنوير، واجهت تلك العقائد الدينية المقبولة سابقا تحديا متزايدا لأن الايمان بالله وبالكتب المقدسة والدين المنظّم بدأ يتداعى بين النخب المتعلمة. نيتشة وصف هذا التحول البعيد عن الاديان المنظمة بـ "موت الاله".

هذه الطريقة الجديدة في التفكير خلقت مشكلة لفلاسفة الأخلاق. اذا لم يكن الدين هو الاساس الذي أعطى الصلاحية للعقائد الاخلاقية، فما هو الاساس الآخر لتلك العقائد؟ اذا لم يكن هناك اله ومن ثم لا ضمان في العدالة الكونية في ان الناس الجيدين سوف يكافئون والاشرار يعاقبون، لماذا يجب على كل شخص ان يتعب نفسه في محاولة ان يكون جيدا؟ الفيلسوف الاخلاقي الاسكتلندي أليستر ماكنتاير سمى هذه "مشكلة التنوير". الحل الذي احتاجه فلاسفة الاخلاق للخروج من المشكلة كان قراراً علمانيا غير ديني لماهية الاخلاق ولسبب كفاحنا لنكون أخلاقيين.

ثلاث استجابات لمشكلة التنوير

1- نظرية العقد الاجتماعي

أحد الأجوبة لمشكلة التنوير أبدعه الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679) الذي جادل بان الاخلاق بالضرورة كانت مجموعة من القواعد اتفق عليها الناس فيما بينهم لكي يجعلوا العيش مع بعضهم ممكنا. لو لم تكن لدينا تلك القواعد – العديد منها يأخذ شكل قوانين تُفرض من جانب الحكومة – لكانت الحياة مروعة لجميع الناس.

2- مذهب المنفعة Utilitarianism

وهو محاولة اخرى لإعطاء الأخلاق اساسا غير ديني، أبدعها مفكرون مثل ديفد هيوم (1711-1776) وجيرمي بنثام (1748- 1842). مذهب المنفعة يؤمن بان المتعة والسعادة لهما قيمة جوهرية. هما ما نريده جميعنا وهما الهدف النهائي الذي تسعى جميع افعالنا نحوه. شيء ما هو جيد اذا كان يعزز السعادة، وسيئا اذا كان ينتج المعاناة. واجبنا الاساسي هو محاولة فعل الاشياء التي تزيد كمية السعادة او تقلل مقدار التعاسة في العالم.

الأخلاق الكانتية

لم يتفق كانط مع النفعية. هو اعتقد ان التركيز على السعادة هو سوء فهم كامل للطبيعة الحقيقية للاخلاق. في رأيه، ان الاساس لإحساسنا بما هو جيد او سيء، صحيح ام خطأ هو وعينا بان الكائن البشري حر ورشيد و يجب ان يُعطى الاحترام الملائم له – ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟

مشكلة النفعية

وفق رؤية كانط، المشكلة الاساسية مع النفعية هي انها تحكم على الافعال وفق نتائجها. اذا كان فعلك يجعل الناس سعداء، فهو جيد، واذا فعل العكس فهو سيء. ولكن اليس هذا يتعارض مع ما نسميه الفطرة الاخلاقية؟ انظر في السؤال: منْ افضل شخص، المليونير الذي يعطي الف دولار لجمعية خيرية لكي يجمع أعلى نقاط في تويتر ام العامل الذي يعمل بأقل أجر ويتبرع باجور يوم عمل كامل للجمعية الخيرية لأنه يعتقد من واجبه مساعدة المحتاجين؟

اذا كانت النتائج هي التي تهم عندئذ فان عمل المليونير هو الأفضل تقنيا. ولكن هذا الموقف لا تؤمن به الاغلبية من الناس. معظمنا يحكم على الافعال طبقا لدوافعها اكثر من نتائجها. السبب هو واضح: نتيجة افعالنا هي عادة خارجة عن سيطرتنا، تماما مثلما الكرة تخرج عن سيطرة الرامي حالما تغادر يده. انا يمكنني إنقاذ حياة شخص من الخطر، والفرد الذي انقذه قد يتبيّن انه قاتل خطير. او بامكاني صدفة اقتل شخصا ما اثناء عملية سرقة، وبعمل كهذا اكون عن غير قصد أنقذت العالم من مجرم فضيع.

الارادة الحرة

كتاب كانط "تأسيس" Groundwork يبدأ بالسطر التالي: "الشيء الوحيد الذي هو جيد بلاشروط هو الارادة الحرة". حجة كانط في هذه العقيدة مقبولة تماما. انظر في اي شيء انت تعتقد جيد مثل الصحة او الثروة او الجمال او الذكاء. في كل واحد من هذه الاشياء، انت يمكنك ايضا ان تتصور الموقف الذي فيه هذه الاشياء الجيدة هي ليست جيدة ابدا. الصحة الجيدة للمتنمر تجعل من السهل عليه ايذاء ضحاياه. جمال البنت قد يقودها لتصبح تافهة وتفشل في تطوير نضجا عاطفيا. حتى السعادة ليست جيدة اذا كان السادي يشعر بالسعادة اثناء تعذيب ضحاياه.

بالمقابل، الارادة الحرة، كما يذكر كانط – هي دائما جيدة في جميع الظروف. ماذا يعني كانط بالضبط بالرغبة الحرة؟ الجواب بسيط نوعا ما. الفرد يتصرف من منطلق الرغبة الحرة عندما يتصرف وهو يعتقد انه واجبه – عندما يتصرف من إحساس بالالتزام الاخلاقي.

الواجب مقابل الميول

من الواضح، نحن لانقوم بكل عمل صغير انطلاقا من الاحساس بالالتزام. في معظم الاوقات، نحن نتبع ميولنا – او نتصرف انطلاقا من المصلحة الذاتية. لا شيء في هذا خاطئ في الجوهر، ولكن لا احد يستحق التقدير لمتابعة مصلحته الذاتية. انه يأتي بشكل طبيعي لنا تماما كما هو طبيعي للحيوان.

الشيء الملاحظ حول الكائن البشري هو اننا نستطيع، واحيانا نتصرف انطلاقا من دوافع اخلاقية خالصة – على سبيل المثال، عندما يلقي الجندي نفسه على قنبلة يدوية، مضحيا بنفسه لانقاذ حياة الاخرين. او عندما أقوم بتسديد قرض كما وعدت حتى عندما يسبب لي هذا صعوبة مالية مؤقتة.

وفق رؤية كانط، عندما يختار الشخص بحريته عمل الشيء الصحيح فقط لأنه الشيء الصحيح للفعل، فان هذا العمل يضفي قيمة للعالم ويضيئه بوهج الخير الأخلاقي.

معرفة الواجب

من السهل القول ان الناس يجب ان يقوموا بالواجب انطلاقا من الاحساس بالواجب ولكن كيف نعرف ما هو واجبنا؟ احيانا قد نجد انفسنا نواجه مأزقا اخلاقيا فيه يكون من غير الواضح اي نوع من الفعل صحيح اخلاقيا. طبقا لكانط، في معظم المواقف الواجب يكون واضحا. اذا كنا غير متأكدين، نحن نستطيع معرفة الجواب عبر التفكير بالمبدأ العام الذي يسميه كانط "الاخلاق المطلقة". هو يدّعي انه المبدأ الاساسي للاخلاق وان كل القواعد والتعاليم الاخرى يمكن استنتاجها منه. يقدم كانط مختلف الصيغ للاخلاق المطلقة. احدها يسير كالشكل التالي: "تصرّف فقط وفق الحكمة التي انت ترغبها كقانون عالمي". ماذا يعني هذا؟ اساسا، اننا يجب ان نسأل انفسنا ماذا سيكون لو كل شخص تصرّف بنفس الطريقة التي أتصرف بها انا؟ هل انا ارغب بصدق وباستمرار بعالم فيه كل شخص يتصرف بهذه الطريقة؟ طبقا لكانط،اذا كان فعلك خاطئ أخلاقيا، الأجوبة على تلك الأسئلة ستكون بالنفي. على سبيل المثال، افرض انا افكر في عدم الايفاء بالوعد. هل انا ارغب بعالم فيه كل شخص يخالف وعده عندما يكون الالتزام به غير مريح؟ يرى كانط انا لا اريد هذا لأنه في مثل هذا العالم لا احد سيعطي موعدا طالما كل شخص يعرف ان الوعد لا يعني شيئا.

مبدأ الغايات

صيغة اخرى للاخلاق المطلقة التي يعرضها كانط تقول ان المرء يجب "دائما ان يعامل الناس كغايات بذاتهم وليس كوسيلة لغاياته الخاصة". هذا يُشار اليه عموما بـ "مبدأ الغايات". وبينما يشبه بطريقة ما القاعدة الذهبية "اعمل للاخرين ما تحب ان يعملوه لك "لكنه يضع المسؤولية في اتباع القاعدة على البشرية بدلا من قبول قيود التأثير الديني.

العنصر الاساسي في عقيدة كانط حول ما الذي يجعل الانسان كائنا اخلاقيا هو حقيقة اننا جميعنا مخلوقات حرة ورشيدة. حين تعامل الناس كوسيلة لغاياتك الخاصة، فانت لا تحترم هذه الحقيقة بشأنهم. فمثلا، حين أجعلك توافق على عمل شيء ما عبر إطلاق وعد زائف، معنى هذا انا استغلك. قرارك بمساعدتي يرتكز على معلومات زائفة (فكرة اني سوف أحفظ وعدي). في هذه الطريقة، انا تجاهلت عقلانيتك. هذا سيكون اكثر وضوحا عندما أسرق منك او أخطفك لكي اطالب بفدية.

بالمقابل، معاملة احد ما كغاية، يستلزم دائما احترام حقيقة انه قادر على اتخاذ خيارات عقلانية حرة ربما تختلف عن الخيارات التي انت تريده اتخاذها. لذا اذا اردتك ان تعمل شيئا فان الطريق الاخلاقي الوحيد للفعل هو توضيح الموقف، توضيح ما أريد، وتركك تعمل قرارك الخاص.

مفهوم كانط للتنوير

في رسالته الشهيرة "ماهو التنوير؟" يعرّف كانط التنوير كـ "انعتاق للانسان من عدم نضجه المفروض ذاتيا". ماذا يعني هذا وما علاقته بأخلاقه؟ الجواب يعود الى مشكلة الدين الذي لم يعد يوفر اساسا مقنعا للاخلاق. ما يسميه كانط "عدم نضج الانسانية" هي الفترة التي لايفكر فيها الناس حقا بأنفسهم، وبدلا من ذلك، قبلوا بقواعد أخلاقية اُنزلت لهم بواسطة الدين، التقاليد، او بواسطة السلطات مثل الكنيسة، السيد الأعلى او الملك. فقدان الايمان في السلطات المعترف بها سابقا نُظر اليه من جانب العديد كأزمة روحية للحضارة الغربية. اذا كان "الله مات كيف نعرف ماهو الصحيح وما هو الحقيقي"؟

جواب كانط هو ان الناس ببساطة كان عليهم ان يعرفوا تلك الاشياء بأنفسهم. انه لم يكن شيئا نأسف عليه، وانما بالنهاية هو شيء نحتفل به. كانط يرى ان الاخلاق ليست مسألة نزوة ذاتية عُرضت باسم الله او الدين او القانون بالارتكاز على مبادئ شُرعت من جانب المتحدث الأرضي للالهة. اعتقد كانط ان "القانون الاخلاقي"- الاخلاق المطلقة وكل ما يتضمنه – كان شيئا يُكتشف فقط من خلال العقل. هو ليس شيئا مفروضا علينا من الخارج. بدلا من ذلك، انه قانون نحن كعقلانيين يجب ان نفرضه على أنفسنا. هذا يفسر لماذا بعض مشاعرنا العميقة تنعكس في تقديسنا للقانون الاخلاقي، ولماذا، عندما نتصرف من خلال احترامنا لذلك القانون، بكلمة اخرى،من الإحساس بالواجب – انما نحقق ذواتنا ككائنات رشيدة. 

***

حاتم حميد محسن

من الخطأ إلحاق اليسار الجديد بالتبعية السياسية والإيديولوجية المذيّلة بالشيوعية والماركسية، فاليسار الجديد ليس حزباً أو حركة أو طبقة اجتماعية، فـاليسار عمل مفتوح، والماركسية مذهب أو نظام مغلق. دخل اليسار الجديد ــ الفضاء التداولي، بعد انتفاضة الطلاب في مايو / أيار 1968 في فرنسا، وقد قادت هذه الانتفاضة مجموعات يسارية غير شيوعية، تنتمي الى طبقات اجتماعية ميسورة نسبياً ومرفهة في حياتها اليومية (1).

أطلقت كلمة اليسار الجديد New Left على الحركة الشبابية التي ظهرت في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في أواخر خمسينيات القرن العشرين المنصرم لتمييزها عن الاتجاهات اليسارية التقليدية السابقة عليها. حيث وصلت ذروة تطورها واشتهار نفوذها في أواخر الستينيات وتدنت أحوالها في السبعينيات، ويجزم زعماؤها أن الطبقة العاملة قد أذعنت لعملية التحول إلى البرجوازية، ولم تعد قوة ثورية هامة، وإن على المفكرين الراديكاليين أن يوفروا القوة الثورية الجديدة الدافعة لتغيير الواقع الاجتماعي(2). وعلى الرغم من اختلاف الرؤية الإيديولوجية لليسار الجديد عن اليسار القديم كلياً، إلا أنهما يشتركان في روحهما العامة التي تستهدف تغيير المجتمع القائم(3).

يرى معظم المفكرين السياسيين والاجتماعيين أن اليسار الجديد ليس تنظيماً واحداً، بل هو عبارة عن جماعات متنوعة بعضها محلي وبعضها قومي وبعضها الآخر مؤقت تماماً، والآخر دائم. وأنصاره في غالب الأمر من الشباب الراديكالي الجامعي والغير جامعي، يتصف بأنه ديمقراطي تحرري، ومعارض يعاني كثيراً من القلق إلى جانب أنه ليس معادياً للشيوعية، ويهتم هذا الشباب بإحداث تغيرات متنوعة في النظام السياسي والاجتماعي من خلال السلوك المباشر الذي يعتمد على الاحتجاجات والمظاهرات والمقاطعة، والعصيان المدني، كما أنه يتبنى في أشد صوره تطرفاً وسيلة العنف الفيزيقي(4). ويسعى أيضاً نحو تغيير القيم الثقافية، من خلال محاولته لإيجاد قيم أخرى بديلة تمثلت في اهتمامه بأدوار الفنانين وعملهم، باعتقاده أن عملهم يتضمن نقداً حاداً للقيم التقليدية السائدة. وينبثق أيضاً اهتمامه بالفن والجوانب الجمالية بصورة عامة في إيمانه بأن ما يحتاج إليه المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت قدراً كبيراً من التغيير الثقافي أكثر من التغيير المادي(5). بهذا نجد أن شباب اليسار الجديد يعبّر عن جماعة مجال تنحصر جل مسلماتها الأساسية في نحو التطلع إلى بناء جديد من العواطف والواقع الشخصي الذي يتضمن الحرية ورفض الحروب، والتأكيد على التلقائية والكرامة والابتكار والمساواة. بعكس ما هو سائد في المجتمعات الغربية وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية"(6)، تاريخياً يرتبط اليسار الجديد بالحركات الاجتماعية*، تماماً كما يرتبط بحركة النقد الاجتماعي الواسعة النطاق للنظام الرأسمالي. فقد ربط اليسار الجديد نفسه بحركات الاحتجاج الاجتماعي: حركة الزنوج، وحركة الطلبة، وحركة السلام. حيث أصبحت حركة النقد التي قادها زعماء اليسار الجديد ومعاصروه بمثابة المحرك والمساند لهذه الحركات الاجتماعية(7). بالإضافة إلى توجيه اهتماماته نحو العديد من القضايا الاجتماعية، التي تعدت حدود كونها قضية دفاع عن فئة معينة، عبر النشاط الملحوظ الذي أبداه العديد من اليساريين الجدد في مجال حقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحماية البيئة وحرية الرأي والتعبير، فمثلت تلك الاهتمامات والتوجهات بمجملها تحدياً ورفضاً واضحاً للبناء الاجتماعي القائم، وللنظرية الاجتماعية التي تدعم وتساند هذا البناء المزيف. مما أدى إلى انبثاق قوى الصراع الكامنة في قلب هذا البناء، التي تسعى النظرية جاهدةً من خلال ارتباطها بمشكلة النظام نحو محاصرتها وتضييق الخناق عليها.

أما فكرياً " فقد تطورت الأفكار الاجتماعية النقدية لليسار الجديد في العالم الغربية وبالأخص أمريكا في ستينيات القرن الماضي بتأثير من الماركسية الجديدة التي تبنت كتابات ماركس المبكرة ذات الطابع الإنساني"(8)، حيث صاحب ظهوره ظهور حركة فكرية ذات طابع نقدي تهدف إلى نقد البناء الاجتماعي الغربي وما يعانيه من مشاكل، بالإضافة إلى نقد البناء النظري السوسيولوجي، تعبيراً منها عن رفضها لكل ممارسات المجتمع الرأسمالي وما يرتبط به من إيديولوجيات ونظريات.

بمعنى آخر يمكن لنا القول إن مهام النقاد في تلك الحركة هو التنظير النقدي للكشف عن المشكلات التي يعاني منها البناء الاجتماعي تمهيداً لربطها بالإطار العام والشامل لهذا البناء، وللكشف عن القوى الفاعلة التي تتحكم فيه، بالإضافة إلى تقديم " أساليب عملية لتغيير المجتمع إلى الصورة المثلى التي توصل إليها من خلال تحليل الأوضاع القائمة"(9). بينما نجد أن من مهام الحركات الاجتماعية هو محاولة تغيير البناء الاجتماعي بالاستناد إلى التنظير النقدي عن طريق ممارسة كافة أشكال الضغوط في سبيل تغييره. بهذا نجد أن وحدة الفكر والممارسة قد تحققت تحت مظلة اليسار الجديد الذي يعبّر عن مظاهر الصراع الفكري والبنائي في المجتمعات الرأسمالية الغربية.

يعتبر كلاً من رايت ميلز Wright Mills وهربرت ماركيوز Herbert Marcuse من أهم منظري اليسار الجديد في منتصف ستينيات القرن الماضي. اللذان يعتبران بمثابة الأب الروحي لحركات اليسار الجديد، وبالأخص حركة الطلبة عام 1968 التي " استقت جزءً كبيراً من قوامها وممارستها الراديكالية من فكرهما باعتبارهم الأعضاء البارزين من المستويات العليا للرئاسة الأكاديمية "(10). فقد وضح لنا الفكر السوسيولوجي لميلز كيفية التعامل مع النظريات السياسية الليبرالية، والديمقراطية بالمنظور النقدي الذي لا يكتفي بالاقتصار على الفكر السياسي باعتباره نظرية بل يتعدى ذلك إلى الفحص السوسيولوجي لكيفية عمل النظرية السياسية في الواقع، والشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تمارس في إطارها الديمقراطية الحديثة(11). وذلك من خلال نتاجه الفكري الذي تجسد بأهم كتبه منها: صفوة القوة The Power Elite عام 1956، والخيال السوسيولوجي The sociological Imagination عام 1959، " حيث قدم ميلز فيهما تحليلات نظرية نقدية لفتت أنظار الكثير من الباحثين آنذاك نحو الإيديولوجية الامبريالية السائدة في المجتمع الأمريكي، وسعيها نحو الحفاظ على الوضع الراهن، كما حاول ميلز أيضاً الكشف عن مظاهر الوعي الزائف بين أفراد المجتمع الناجم عن تسلط الصفوة السياسية في ممارسة السلطة واتخاذ القرارات " (12).

أما ماركيوز فقد عكست آراؤه قدرة فائقة على استيعاب أحداث العصر، حيث استطاع من خلالها تأمل الأبنية الفكرية بهدف محاولة تغييرها، وبالتالي تغيير المجتمع ذاته. حيث صاغ في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد " عام 1960 فلسفة اليسار الجديد، فأنتج أفكار نقدية بالغة الأهمية سعى من خلالها إلى كشف ممارسات ومفرزات العقل الأداتي (العقلانية التقنية)* في المجتمع الصناعي المتقدم وانعكاساتها السلبية على الإنسان داخل ذلك المجتمع، كما انتقد العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل شيء حتى الإنسان، لذلك يعتبر مفهوم الإنسان ذو البعد الواحد من أهم المفاهيم التي حللها وناقشها ماركيوز، ويعني " الإنسان البسيط غير المركب "، فالإنسان ذو البعـد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، بحيث تهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبّق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج " كمية – رياضية " وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وترشّده وتنمطه وتشيؤه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها(13).

أما عن اتجاهه النظري والمنهجي فقد تمثل في رفضه السلبي للمجتمع القمعي القائم، من خلال الثورة عليه للتأكيد على الدور الثوري والحاسم للعقل، في حياة الإنسان الاجتماعية، ولتجنب النظر إلى المجتمع الإنساني نظرة ذات بعد واحد. وتتلخص وجهة نظره في آلية تغيير الواقع والثورة عليه، بضرورة التأكيد على الانفصال عن النظام القائم وتبني قيم مضادة له، من خلال العنف الذي تقوم به جماعات تُدعى بالجماعات الخارجة على النظام، والتي تضم الطلبة، والزنوج، والفقراء، والفئات الهامشية في المجتمع. لأنه رفض الفعل الثوري والنضالي الذي ستقوده البروليتاريا في عملية التحول إلى ما بعد الرأسمالية المتسلطة، لعدم إيمانه بقدرتها على القيام بهذه العملية، لأنها لم تعد القوة الاجتماعية الصالحة للقيام بدورها التاريخي في الإطاحة بالنظام الرأسمالي(14).

وفي النهاية يمكننا بأن اليسار الجديد " هو حركة نفي للعالم، إنه يمثل قوة بناءة ترفض العالم من أجل تغييره. ويرتبط رفض العالم من أجل تغييره إلى الأفضل بتصور فكري أو يوتوبيا معينة يعملون على تخطيها وتحويلها إلى واقع. كما أن اليسار يرغب دائماً في التقدم، ويتوق إلى أن يسيطر الإنسان على مصيره، وهو ينظر إلى نفسه على أنه منتصر في النهاية وينظر إلى البرنامج الذي يطرحه على أنه نفس الشيء الذي تأمل في تحقيقه الإنسانية على مر الزمن "(15). إذن اليسار الجديد، يُعنى بـالحرية، والمدنية، والتخيّل، والاختلاف، والثورة، من دون اعتقاد دوغمائي (الجمود الفكري) بالشيوعية والماركسية، وبذلك فهو نفي لعالم قائم بإثبات عالم ممكن جديد يكمن اعتباره مجموعة من الشباب الرافض للواقع الاجتماعي والحالم بالتغيير مع غياب قدرة الفاعل التاريخ على تنفيذ عملية التغيير الاجتماعي بذلك يمكن لنا توصيفه بأنه اتجاه طوباوي حالماً بواقع أفضل في ظل رأسمالية شرسة استطاعت استيعاب كل حركة مقاومة لها يمكن أن تهدد طموحها اللا محدود في السيطرة والتحكم تحقيقاً لأهدافها وغاياتها في البقاء والاستمرار وجني الأرباح.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.....................

(1) عباس عبد جاسم: هكذا أفهم اليسار الجديد، مجلة القدس العربي، لندن، 24 - مايو – 2020.

(2) عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء:7، 1994، ص)412).

(3) أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، دار المعارف، القاهرة، 1984، ص( 210).

(4) أحمد سليمان أبو زيد: نظرية علم الاجتماع والنقد الراديكالي، جامعة الإسكندرية، الإسكندرية، 1994، ص( 140-141) .

(5) ألفن جولدنر: الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة وتقديم: علي ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، العدد:667، ط1، 2004، ص(595).

(6) عبد الرازق جلبي وآخرون: نظرية علم الاجتماع ( الاتجاهات الحديثة والمعاصرة )، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2006، ص(328).

* إن ظهور اليسار الجديد تزامن مع ظهور وتفجر قوى الحركات الاجتماعية Social Movements الرافضة لسياسات وإيديولوجيات الغرب، الساعية إلى تحليل هياكل السلطة الرأسمالية الحديثة، في مختلف المجالات لتوضيح التناقضات بغية تحديد المهمة الرئيسية لهذه الحركات، فعلى سبيل المثال ترى هذه القوى أن الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الساعية إلى الإصلاح والرفاه الاجتماعي في معالجة، مشاكل وقضايا المرأة فقد فشلت في تحقيق هذه المهمة، ناهيك عن إخفاقها أيضاً في الحد من مشاكل الفقر والتفاوت الاجتماعي، فعلى العكس تماماً هناك ازدياد مطرد للنزعة الاستهلاكية الثقافية الجديدة، وأيضاً هناك ازدياد واسع لأشكال السيطرة والاغتراب. فالدولة نفسها قد أصبحت هي التكنوقراطية وشرعيتها تبقى على نحو متزايد عرضة للتساؤل، لذا نجد أن اليسار الجديد حاول أن يتبنى أغلب هذه الحركات. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر:

- Geoff Andrews, Richard Cockett: New Left, New Wright and Beyond - Taking the Sixties Seriously, Macmillan Press LTD, London, 1999, p.(74).

(7) أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، مرجع سبق ذكره، ص(211).

(8) Doyle Paul Johnson: Contemporary Sociological Theory - An Integrated Multi-Level Approach, Texas Tech University, 2008, p. (577).

(9) سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع ( دراسة نقدية )، دار هاني للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص(271).

(10) توم بوتومور: علم الاجتماع من منظور اجتماعي نقدي، ترجمة: عادل الهواري، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985، ص(260).

(11) أشرف منصور: النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي، تقديم: مهدي بندق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الكتاب الأول، 2003، ص(61-62 ).

(12) عبد الرازق جلبي وآخرون: نظرية علم الاجتماع ( الاتجاهات الحديثة والمعاصرة )، مرجع سبق ذكره، ص (334-335).

* نوع من التفكير في المجتمع الصناعي الحديث يصفه ماركيوز بالتفكير ذي البعد الواحد، يتضح ذلك من خلال التفكير العلمي والتقني المعبر عنه في الوضعية والبراغماتية، وعليه فإن العقل الأداتي هو منطق في التفكير وأسلوب في رؤية العالم. ويرى لوكاش أن المستوى الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي منظم بطريقة تجعل العلاقات بين البشر تبدو كما لو أنها علاقات بين أشياء، وأن نظرة البشر لأنفسهم ولغيرهم تغدو كنظرتهم للأشياء المادية، وأن العالم الاجتماعي أصبح يبدو كما لو أنه (طبيعة ثانية) إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح كالطبيعة نفسها غير قابل للتغيير ومستقلاً عن أفعالنا.

(13) لمزيد من الاطلاع انظر: حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(47-52).

(14) المرجع السابق، ص(123-124).

(15) أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، مرجع سبق ذكره، ص(209-210).

يُقصد بالانانية الاخلاقية هي ان يتّبع الناس مصلحتهم الذاتية، وان لا يلزموا انفسهم بمراعاة مصالح الآخرين. فلا ضرورة للاهتمام بالاخرين. انها نظرية معيارية وأمرية تهتم بالكيفية التي يجب ان يتصرف بها الناس. وبهذا تختلف الانانية الاخلاقية Ethical Egoism كثيرا عن الانانية السايكولوجية، التي تؤكد بان جميع أفعالنا هي بالنهاية تصب في المصلحة الذاتية. الانانية السايكولوجية هي نظرية وصفية خالصة تتبنّى وصف حقيقة أساسية حول طبيعة الانسان.

الحجج الداعمة للانانية الاخلاقية

"سعي كل شخص وراء مصلحته الشخصية هي أحسن طريقة لتعزيز الصالح العام". هذه الحجة اشتهر بها برنارد مانديفيل (1670 -1733) في قصيدته "حكاية النحل" وكذلك آدم سمث (1723-1790) في كتابه الشهير في الاقتصاد بعنوان "ثروة الامم".

كتب سمث، عندما يتابع الافراد بذهنية انفرادية "إشباع حاجاتهم ونهمهم في ما يرغبون" هم وبلا وعي، "ينقادون وراء يد لامرئية"، يفيدون المجتمع ككل. هذه النتيجة السارة تأتي لأن الناس عموما هم أفضل حاكم لمصلحتهم الشخصية، وهم يتحفزون للعمل الشاق لينفعوا انفسهم اكثر من تحقيق أي هدف آخر.

أحد المواقف المعارضة لهذه الحجة هي انها حقا لاتدعم الانانية الاخلاقية. انها تفترض ان ما يهم حقا هو رفاهية المجتمع ككل والصالح العام. انها تدّعي ان أحسن طريقة لإنجاز هذه الغاية هي ان ينظر كل فرد لنفسه. ولكن اذا تبيّن ان مثل هذا الموقف لا يعزز المصلحة العامة، عندئذ، فان اولئك الداعمين لهذه الحجة سيتوقفون عن الدعوة للانانية.

مأزق السجناء

موقف معارض آخر هو ان ما تقوله الحجة ليس دائما صحيحا. لننظر في مأزق السجناء مثلا. هذا موقف افتراضي وُصف في نظرية المباراة. انت ومعك زميل لنسميه (X) اُلقي بكما في السجن. كلاكما طُلب اليكما الإعتراف بالذنب. شروط العرض كالتالي:

1- اذا انت تعترف وX لم يعترف، انت تنال عقوبة ستة اشهر بينما هو يُعاقب بعشر سنين.

2- اذا X يعترف وانت لا تعترف، هو ينال عقوبة ستة اشهر بينما انت تُعاقب عشر سنين.

3- اذا كلاكما تعترفان، كلاكما تُعاقبان بخمس سنوات.

بصرف النظر عما يفعل X، احسن شيء ان تعمله انت هو ان تعترف. لأنك اذا هو لم يعترف، انت سوف تحصل على عقوبة خفيفة، واذا هو يعترف، انت على الأقل ستتجنب زمن سجن اضافي. لكن نفس المنطق يحصل بالنسبة X ايضا. طبقا للأنانية الأخلاقية، انتما يجب كلاكما تسعيان وراء مصلحتكما الذاتية الرشيدة. لكن عندئذ ستكون المحصلة ليست هي الأفضل. انتما كلاكما تنالان عقوبة 5 سنوات، بينما لو ان كليكما اعتمد مصلحته الذاتية، سيحصل كل واحد منكما على عقوبة أقل. المسألة هنا بسيطة. ليس دائما من مصلحتك السعي وراء مصلحتك الذاتية دون الاهتمام بالاخرين. كذلك التضحية بمصلحتك الخاصة لأجل الصالح العام ينكر القيمة الاساسية الخاصة بحياتك.

موضوعية آين راند Ayn Rand

هذه الحجة طرحتها آين راند، الرائدة الرئيسية "للموضوعية" ومؤلفة كتاب "المنبع" و"اطلس هازاً كتفيه". شكواها هي ان التقاليد الاخلاقية لليهودية - المسيحية، التي أثّرت بالليبرالية الحديثة والاشتراكية، تدفع نحو أخلاق الإيثار. الايثار يعني وضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك. في هذا الموقف يتم عادة احترام الناس الذين يتبنّون هذا السلوك، وفي بعض الظروف يكون السلوك مطلوباً . مثلما عندما تدفع الضرائب لمساعدة المحتاجين. طبقا لراند، لا أحد له الحق ليتوقع او يطلب مني عمل أي تضحيات لأجل أي شخص آخر عدى نفسي.

المشكلة في هذه الحجة هي انها تبدو تفترض ان هناك صراع بين متابعة مصالحك الخاصة ومساعدة الآخرين. في الحقيقة، معظم الناس سيقولون ان هذين الهدفين ليس بالضرورة متضادين. في كثير من الاحيان هما يكمّل احدهما الآخر. فمثلا، احد الطلاب قد يساعد زميل له في السكن في اداء واجبه البيتي، والذي هو الايثار. ولكن ذلك التلميذ ايضا لديه اهتمام في التمتع بعلاقات جيدة مع زملاء السكن. هو قد لا يساعد أي شخص في كل الظروف، لكنه سيساعد لو كانت التضحية الحاصلة ليست كبيرة جدا. معظم الناس يتصرفون بهذا الاسلوب، يبحثون عن التوازن بين الانانية والايثار.

مزيد من المعارضة للانانية الأخلاقية

الانانية الاخلاقية ليست فلسفة اخلاقية مرغوبة. هذا لأنها تذهب بالضد من افتراضات اساسية معينة لدى معظم الناس بخصوص ما تتطلبه الاخلاق. معارضتان تبدوان لهما تأثير خاص.

1- الانانية الاخلاقية ليس لديها حل تقدمه عندما تكون المشكلة الناشئة تستلزم صراعا في المصالح. العديد من القضايا الاخلاقية هي من هذا النوع. فمثلا، لو ان شركة تريد إلقاء النفايات في النهر، الناس القريبون من النهر سيعارضون. الانانية الاخلاقية تنصح بان كلا الطرفين يتابعان بقوة ما يريدان. راند لا تقترح اي نوع من الحل الوسط او تسوية.

2- الانانية الاخلاقية تسير بالضد من مبدأ النزاهة. ان الافتراض الاساسي الذي طرحه العديد من فلاسفة الاخلاق – والعديد من الناس الاخرين – هو اننا يجب ان لا ننحاز ضد الناس على اساس عشوائي مثل العرق او الدين او الجنس او الاثنية. لكن الانانية الاخلاقية تؤمن باننا يجب ان لا نحاول ان نكون نزيهين. وانما يجب ان نميّز بين انفسنا وكل شخص آخر، ونعطي انفسنا تعاملا تفضيليا.

بالنسبة للعديد من الناس، هذا يُنظر اليه كمناقض لجوهر الاخلاق. القاعدة الذهبية للصيغ التي تظهر في الكونفوشوسية والبوذية واليهودية والمسيحية والاسلام تقول نحن يجب ان نعامل الاخرين كما نحب ان يعاملوننا. احد أعظم فلاسفة الاخلاق في العصر الحديث عمانوئيل كانط (1724-1804) جادل ان المبدأ الأخلاقي الاساسي "الاخلاق المطلقة"، هو اننا يجب ان لا نضع استثناءات لأنفسنا. طبقا لكانط، نحن يجب ان لا نؤدي أي فعل اذا لم نرغب بصدق ان كل فرد يتصرف بنفس الطريقة وبنفس الظروف.

***

حاتم حميد محسن

الجماعات والأفراد: الأهداف والضّحايا

إنّ مفاهيم الذّنب الجماعيّ، العقاب الجماعيّ والعنف الجماعيّ سؤال يثير القلق لدى الجماعات والأفراد لما تنطوي عليه من مقولات خاطئة لا تساعد على تفسير العلاقة داخل المجتمع بين العناصر التي تؤلّف تشكيلاته[1]، إذ يسود الاعتقاد أنّ الفرد إنّما هو جزء من الكلّ وهو بطبيعته اعتقاد لا يفسّر شيئا. كما قد تفسّر العلاقة بين الفرد والجماعة بأنّها عضويّة أو علاقة تمثيل، فيصبح السّؤال متمحورا حول ماهية تلك العضويّة وذلك التّمثيل، وتصير هذه القضايا الشّائكة من ضمن مفاتيح فهم العنف الجماعيّ. تختلف الأيديولوجيّات المرتبطة بالعنف الجماعيّ في الإجابة عن هذه الأسئلة، ومن الواضح أنّ لكيفيّة الرّدّ عليها عواقب على الضّحايا وبالتّالي على تحديد المسؤول عن العنف عندما تقدّم إجابات غارقة في الأيديولوجيا لا تميّز بين هدف العنف وضحاياه. مثلا قد يكون هدف الهجوم بالقنابل على قرية هو تدمير قيادة منظّمة إرهابيّة أو تحطيم قدرة الإرهابيّين الذين يتمترسون بها على القتال، أو على شنّ غارات وتدبير عمليّات مباغتة، لكنّ أغلب الضّحايا هم من غير الإرهابيّين. فالدّفع بالمبرّر المنطقيّ لتفسير حادث عنيف يحظى فيه تحديد الأهداف بالأولويّة على تحديد الضّحايا، ليجعل المستهدفين به هم المجموعة بأكملها من الرّجال والنّساء والأطفال يثير حوله الشّكوك ويجعله غائما وغير واضح بشكل كاف، غير مبرّر بمسوغات مقنعة لما يترتّب عنه من "إشعال خاطئ" وينتهي إليه من إضرار بالأبرياء والعزّل، وأحيانا بأطراف أخرى لا صلة لها بالفعل العنيف. وعلى هذا الأساس يقع فهم العنف الجماعيّ موقعا بالغ الأهمّيّة في رسم خطّة الرّدّ والتّصدّي لخطر الإرهاب. وعلى هذا الأساس أيضا تُبْرِز عمليّة تحديد الأهداف واختيار الضّحايا الدّور الهامّ للإطار الأيديولوجيّ في تشكيل أعمال العنف الجماعيّ، من حيث هي خطوة تسعى إلى توفير الغطاء المنطقيّ والمبرّر الأخلاقيّ لذلك العنف، وجزء يقوم على ركنيّة الأيديولوجيا والوعي الأيديولوجيّ في سلوك جماعة تستهدف بالعنف غيرها.

إنّ التّعريف التّقليديّ للعنف على العموم يأخذ نموذج العنف الفرديّ معيارا في الفهم والتّفسير، وهو ما يشوّش تصوّر العنف بعامّة، ويعيق وضع تعريف خاصّ ومنضبط للعنف الجماعيّ. أمّا النّظريّات التي تتبنّى التّفسير الذّرائعيّ أو تأخذ بوجهة النّظر "الإجرائيّة" في تعريف العنف فإنّها تعتبر بعض العنف مبرّرا وبعضه الآخر غير مبرّر حين تستعمل مفهوم الحرب أساسا للتّفسير، مع أنّ هذا المفهوم لا يفي بوصف وتعليل السّمات الغريبة للعنف الجماعيّ.

يتفق الجميع تقريبا على أنّ العنف عموما ينطوي بطبيعته على تصرّفات متطرّفة تؤدّي إلى التّدمير المفرط للمقدّرات المادّيّة والرّمزيّة، وإلى إصابات بالغة في العتاد ومن ثمّة في الأرواح والأجساد. إذ أنّ الهدف المقصود من وراء إعمال العنف هو التّدمير وما ينتج عنه من آثار جانبيّة، لاسيما منها تلك التي تكون غير محدودة وغير قابلة للاستدراك مثل القتل والتّشويه وتحطيم الممتلكات وانتهاك الأعراض والمقدّسات. إنّها القصد المتوخّى من إعمال العنف ونتيجته الفعليّة التي لا يمكن للعنف أن يظهر أو يتحقّق وجوده في ظلّ غيابها وانتفاء آثارها الملموسة. إذ لا يمكن من النّاحية النّظريّة عدّ أيّ سلوك على العنف، أو توصيفه بأنّه سلوك بغيض يعادي المجتمع طالما أنّه لا ينطوي على تدمير مادّيّ أو رمزيّ ملموس ولا يخلّف أيّ آثار تؤدي المستهدف به، إذ لا يكون هناك عنف إذا لم يحدث أيّ ضرر مادّيّ أو معنويّ لشخص ما بطريقة ما حتى وإن كانت بدائيّة.

لا يقلّ الجانب النّفسيّ للعنف أهمّيّة عن الجانب الماديّ، فقد يدمّر أشياء ذات قيمة رمزيّة كالمراقد والمزارات، أو يستهدف قيما معنويّة كالشّرف، أو ينال من هوّيّة الأشخاص وممتلكاتهم من الأشياء غير الهامّة القابلة للاستبدال أو الأشياء القيّمة التي لا يمكن الاستغناء عنها. بالإضافة إلى أرواح الأشخاص وأعضائهم، أو حياتهم ونمط معيشتهم. وبالمعنى النّموذجيّ فإنّ العنف يهدف إلى تدمير كاملٍ لحياة الأشخاص وقيمهم وشخصيّاتهم. إنّ هذه الجوانب هي أساسيّة لفهم العنف حيث إنّ أي نظريّة لا تنصّ على تدميريّته المطلقة تعتبر قاصرة عن أن تفي ببيان معناه والكشف عن دوافعه وعواقبه في سياق أيّة مناقشة، وسأحاول فيما يلي أن أبيّن كيف يعتبر التّدمير بهذا المعنى المطلق عنصرا رئيسا في العنف الجماعي.

الأساس الأيديولوجيّ للعنف الجماعيّ

قد يغيب الغضب الذّاتيّ في حالات عنف جماعيّ من غير المحتمل أن يكون انطلاقه عفويّا، لأنّ العنف الجماعيّ كما أوضحت أرندت[2] وويلمان ودوبكوسكي،[3] لا يمكن أن يكون إلاّ مخطّطا ومنظّما ينجزه محرّضون يعرفون كيف يقتربون من أهدافهم المروعة بطريقة "احترافيّة" يتعلّقون بها كمهمّة يتعيّن القيام بها بثقة بعيدا عن الميل العاطفيّ.

لذلك لا يمكن فهم العنف الجماعيّ دون فهم الرّموز وتفكيك دلالاتها، وبشكل عامّ ينبغي أن يكون واضحا أنّ سلسلة من أفعال رمزيّة ومن علاقات يستند تحديدها وتأطيرها إلى الجهاز المفاهيميّ الأيديولوجيّ تنشأ بموازاة مع انطلاق العنف الجماعيّ.

تستعمل "الأيديولوجيا" غطاء ذرائعيّا في الحجاج دفاعا عن هوّيّة الجماعة، عقيدتها، قيمها العامّة وعن مصالحها الفئويّة التي يشترك فيها الأعضاء. وتستعمل قاعدة للأعمال والمشاريع، وأساسا للأعراف والمؤسّسات والسّياسات.[4] فيقترب معنى الأيديولوجيا المقصود هنا ممّا يسمّيه دوركهايم "العقل الجماعيّ".[5] وتميل الأيديولوجيات بهذا المعنى أيضا إلى تحديد مجموعات تعلن عن نفسها من خلالها. وبحسب بارسونز فإنّ "تشكيل أيديولوجيّة ما يوجد ميزة إضافية تنشئ مستوى من الالتزام القيميّ ومن الإيمان بالانتماء للجماعة".[6]

وكما تمّت مناقشته أعلاه، فإنّ وجود جماعة أساس ذلك العنف الذي يمكن أن تمارسته لحماية قيمها، ولما يعنيه في حالات محدّدة تنفيذ تلك القيم والدّفاع عنها بوصفها دالّة رمزيّة في أيديولوجيّتها. لأنّ العنف الجماعيّ سلوك موجّه ضدّ الغيريّة يناهض مشروعا يقع خارج حدود الهوّيّة الخاصّة ينظر إليه الفاعل الفرديّ بوصفه عضوا في جماعة وليس باعتباره ذاتا مفردة أو شخصيّة مستقلّة. ولأنّ أهداف العنف الجماعيّ ودوافعه تتميّز عن أهداف ودوافع الأفراد التي قد تكون شخصية وغير مشتركة مع الآخرين. ويمكن الفصل بين الأمرين بملاحظة الاختلاف الواضح عند المقارنة بين دوافع تفجير إرهابي قام به مجرمون متطرّفون وبين سرقة قام بها أحد الجناة.

*** 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] May, L, The Morality of Groups. Notre Dame, Ind, University of Notre Dame, 1987.

[2] Arendt, H., Eichmann in Jeusalm, New York,Viking Press, 1963.

[3] Walliman and Dobkowski, Genocide and The Modern Age,: Etiology and Case Studies of Mass Death, New York, Greenwood Press. 1987.

[4]  لتعريف مماثل انظر:

Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP. 348-51.

 ولوصف عام لنظريات الايديولوجيا انظر:

Mclellan, D., Ideology, Minneapolis, Minn, University of Minnesota Press, 1986,

[5]  يعرّفه دوركهايم "كوعي جماعي" يتشكل من "مجموعة المعتقدات والمشاعر المشتركة بين الأفراد العاديين في مجتمع واحد والذي يشكل ويحدد  نظام حياتهم الخاصة". مقتبس من:

Lukes, S., Emile Durkheim: His Life and Work, Stanford, Calif, University of California Press, 1985.P. 4.

[6] Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP.349.

الظواهرُ الثقافية في المجتمع الإنساني لَيْسَتْ آثَارًا عابرةً في جسد الحضارة، أوْ علاماتٍ سطحية في فلسفة التاريخ، إنَّها ظواهر مركزية تُعيد صِناعةَ الأفكار، وتوظيفها في مصادر المعرفة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحويل الفِعل الاجتماعي إلى مَيدان فِكري ذهنيًّا وماديًّا، يَستطيع إنتاجَ لُغة مُشتركة بين التاريخ والحضارة ضِمن مَنظومة الحُقوق والواجبات، بعيدًا عَن منطق القُوَّة الذي يَفرِض على أنساق الحياة فكرةَ أنَّ المُنتصِر هو الذي يَكتب التاريخَ ويَصنع الحضارةَ، وبالتالي يَبتكر آلِيَّات الهَيمنة على العَقْل الجَمْعي، ويَخترع أدوات السَّيطرة على المَعنى اللغوي، ويُكرِّس وِصَايَتَه على النظام الأخلاقي، إنَّ التاريخ لَيْسَ مشروعًا تجاريًّا خاضعًا لسياسة العَرْض والطَّلَب، والحضارة لَيْسَتْ سُلالةً عائليَّةً خاضعةً لرابطة الدَّم والولاء للقبيلة. وهاتان الحقيقتان تَفتحان العلاقات الاجتماعية على كافَّة الاحتمالات، وكُلُّ احتمال يُمثِّل تغييرًا جذريًّا في طريقة تفكير الفرد، وثَورةً منهجيةً في بُنية التأويل اللغوي. لذلك لا يُمكن احتكار التاريخ والحضارة وتَدجينهما مَهما كان المُنتصِر قويًّا وذكيًّا،

2

العلاقةُ بين رمزيةِ اللغة وماهيَّةِ الفرد وكَينونةِ الواقع، لَيْسَت انعكاسًا ميكانيكيًّا للحقيقة الاجتماعية، وإنَّما هي حقيقة جديدة تُساهم في إنتاجِ الظواهر الثقافية، ورسمِ خريطة الطريق في الذهن والواقع معًا، واكتشافِ البراءة الأصليَّة والخِبرة العمليَّة في المُجتمع، من أجل توظيفهما لتحقيق حُرِّية الفرد واستقلاله، ولَيس تَسليعه وإخضاعه وتفريغه مِن مُحتواه الشُّعوري والفكري، والهُوِيَّةُ الإنسانية المُتَجَسِّدَة في وَعْي الفرد وشخصيته تُمثِّل شبكةً مِنَ التجارب الحياتيَّة والمعارف الوجوديَّة، وهذا يُساهم في تدعيم قُدرة العقل الجَمْعي على مُمَارَسَة السُّلطة الفكرية بشكل يَضمَن التواصلَ معَ مراحل التاريخ بلا انقطاع، وهذا يَستلزم تَطهير التاريخ مِن الزوايا المُظلِمة والمناطق الغامضة، ولا يُمكن بناء الحقيقة الاجتماعية إلا بوضع التاريخ كاملًا تَحت ضَوء الفَهْم الصحيح والتشخيص الدقيق، وإذا تَمَّ اعتبارُ التاريخِ جمعيَّةً سِرِّية، أوْ كِتَابًا مُغْلَقًا أمامَ قواعد المنهج العِلْمِي في البحث والتحليل، أوْ صِرَاعًا بين المُدنَّس والمُقدَّس، أوْ صِدَامًا بَين الفِطْرَة والغريزة، أوْ حربًا بَين الأقَلِّيَات لِتَقَمُّص الأكثرية، فَسَوْفَ تنهارُ رمزيةُ التاريخ في سِيَاق الحضارة، وتَسقُط مَكَانته في شخصية الفرد الإنسانية.

3

التاريخُ منهجيةٌ فكرية لا سُلطة قمعية، وهذا يعني أن التاريخ مُحاولة لفهم الوجود مِن خِلال العقل واللغة والزمن، والإشكاليةُ الفلسفية التي تُهدِّد بُنيةَ التفكير المنطقي في حياة الفرد والمجتمع، تَكمُن في النظر إلى التاريخ باعتباره كَومةً مِن الوقائع المُنقطعة عن سِياقها المعرفي، وأرشيفًا مِن الأحداث المُنفصلة عن الشُّعور الإنساني، وهذه النظرةُ القاصرة مَرجعها إلى التعامل معَ الزمن باعتباره حَركةً ميكانيكيَّة خاضعةً لقوانين الفيزياء. إنَّ الزمن كائن حَي يتكاثر في شرعية الفرد لُغويًّا وإنسانيًّا، وهُوِيَّةُ الزمن المعرفية قائمةٌ على ثلاثة أركان: التَّوليد والتَّأسيس والتَّوظيف، توليدُ المعنى اللغوي بِوَصْفِه عمليَّة تَخليص للفرد مِن مَأزقه الوُجودي، واللغة هِيَ رُوح الوُجود التي تَحتضن التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية، وتأسيسُ الوَعْي بالذات والطبيعة بِوَصْفِه خَلاصًا مِن تَضَارُب المصالح بين الفرد والمُجتمع، والوَعْيُ هُوَ مِحْوَر التوازن بين الإبداع والعمل، وتوظيفُ الفِعل الاجتماعي بِوَصْفِه دَلالةً على الحَيَاة، ودَليلًا إلى فلسفتها، والفِعْلُ هُوَ مَركز الثِّقَل لنظام الحضارة الإنسانية الذي يقوم على التعاون لا الاستغلال، وهكذا، سَوْفَ تَندمج هُوِيَّةُ الزمن المعرفية (التوليد والتأسيس والتوظيف) معَ منهجية التاريخ الفكرية (اللغة والوَعْي والفِعل).

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

ينطلق الجابري من قاعدة منهجية وإبستمولوجية لمعالجة التأخر التاريخي الذي يعيشه العرب على جميع المستويات، وهي أنه لا يمكن قيام نهضة بعقل غير ناهض. عقل لم يراجع مفاهيمه وآلياته وتصوراته ولم يخضعها للنقد ونقد النقد ووصل إلينا في الحاضر بنفس البنية التي تشكل بها في الماضي. وسواء سلمنا للجابري بأطروحته حول العقل العربي وتفريقه بين الفكر كمحتوى (النظريات والأفكار) والفكر كأداة "جملة مبادئ ومفاهيم وآليات تنتظم وتترسخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتحه على الحياة لتشكل فيما بعد (العقل) الذي به يفكر، أي الجهاز الذي به يفهم ويؤول ويحاكم ويعترض"(1) فإن السؤال المطروح هو: كيف نتصور نهضتنا التي لم تتحقق بعد في علاقتها بالماضي، أي بالتراث،هل بالرجوع إليه من جديد والإستناد عليه وكيف يكون ذلك، أم بالإنفصال عنه تماما وطي الصفحة نهائيا والإنطلاق من الحاضر، الحاضر الأوربي الذي يمثل آخر المنجزات المعرفية والمنهجية والعلمية منذ عصر الأنوار؟

يرى الجابري أن تحقيق النهضة أو بعثها من جديد لا يكون بالقطيعة المطلقة مع التراث كما يرى بعض الباحثين، ولكن يكون بالعودة إلى هذا التراث والإنتظام فيه بطريقة واعية من أجل مراجعة أسسه ومبادئه في إطار وعي جديد وتوظيف عناصره الإيجابية في نهضتنا الجديدة،لأنه وفق منطق النهضات لا يمكن قيام نهضة دون الإنتظام في التراث. وقبل عرض أطروحة الجابري حول هذه الإشكالية وتسليط الضوء عليها في مختلف الجوانب، فإننا سوف نتطرق إلى مواقف بعض الباحثين المجايلين للجابري وهما: عبد الله العروي ومحمد أركون.

يرى المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي أن معالجة التأخر التاريخي العربي لا تكون إلا بالقطيعة المعرفية مع التراث، والقطيعة تعني عند العروي القطع مع العقل التراثي الأصولي وتبني نموذج العقل الحداثي التنويري، لأن النقد الجزئي لا يفيد شيئا أمام تراكم المعلومات التقليدية، بل يجب طي الصفحة نهائيا وتحقيق القطيعة المنهجية. ويعبر العروي بكل صراحة ووضوح عن هذا الموقف في كتابه "العرب والفكر التاريخي " انطلاقا من نزعته الماركسية التاريخانية التي يؤكد فيها على احترام قوانين التطور التاريخي وعدم الرجوع إلى المراحل السابقة التي تجاوزها التاريخ من منظور حتمية المراحل ووحدة اتجاه الزمن والتاريخ ووحدة الجنس البشري. يقول عبد الله العروي: "رغم هذا الواقع المر، مازال أغلب المثقفين عندنا يميلون إلى السلفية أو الإنتقائية والغريب أن هذين الإتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية الذاتية، يظن أنه يملك حرية الاختيار، وأنه قادر على أن ينتخب من إنتاج الغير أحسنه، هذه حرية شبيهة بحرية الرواقيين، الذين كانوا يظنون أنهم إن حرروا القلب والذهن من تأثير الإنسان والكون جاز لهم أن يهملوا الأغلال التي تشد الأيدي وتقيد الأرجل (2)

إن الرجوع إلى التراث في إطار نظرة كلية سلفية أو نظرة جزئية انتقائية عملية اعتباطية غير واعية بالنسبة للعروي، لأن قوانين التاريخ والتطور لا تسمح بهذه الإمكانيات المستحيلة واللاتاريخية، لذلك فإنه يرى أن الحل الممكن والمتاح لمعالجة التأخر التاريخي العربي هو الإنخراط الواعي في الفكر التاريخي كما تقدمه النظرية الماركسية في تأويلها للتاريخ. يقول العروي:" لقد قلنا إن الطريق الوحيد للتخلص من الإتجاهين معا هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته، وإن أربعة من هذه المقومات تحدد مفهوم الفكر التاريخي وهي:

- صيرورة الحقيقة

- إيجابية الحدث التاريخي

- مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ)

و أربعة تحدد معنى التاريخانية وهي:

_ ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)

- وحدة الإتجاه (الماضي والمستقبل)

- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)

- إيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمان)

هذه نقاط حللناها في المقالات السابقة، باختصار أو بإطناب، وقلنا إن أحسن مدخل وأحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم في الماركسية في تأويلها التاريخي " (3)

وهكذا نلاحظ، أن نظرية العروي في التعامل مع التراث والتاريخ لا تختلف في جوهرها عن النظرية الوضعية للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (Auguste contre 1789_ 1857) والذي يرى من خلال هذه النظرية أن الفكر البشري قد مر بثلاثة مراحل (قانون الأحوال الثلاث) وأن كل مرحلة جديدة تلغي المرحلة السابقة على صعيد التطور الفكري ونمو العقل البشري والتحول من المرحلة الدينية والميتافزيقية إلى المرحلة العلمية.

والخلاصة أن التراث في نظر العروي مرحلة سابقة قد تجاوزها الزمن والتاريخ، ولا بد أن ننطلق من الحاضر في بناء نهضتنا الجديدة وليس من الماضي، الحاضر كما جسدته فلسفة الأنوار والتقدم الهائل الذي عرفته أوربا منذ هذه المرحلة التاريخية التي تمثل مرجعية الإنسان ومعيارا للتقدم والحداثة. وإذا كان هذا موقف عبد الله العروي من إشكالية الحاضر وعلاقته بالماضي،فكيف ينظر زميله محمد أركون إلى هذه الإشكالية، كيف يمكن للتراث أن يحضر في حاضرنا، وهل هناك جدوى عملية أو قيمة علمية من استحضار التراث في حياتنا اليوم؟

لا يختلف محمد أركون كثيرا عن زميله عبد الله العروي في تبني موقف مناهض من التراث، فرغم أن محمد أركون يشيد بالنزعة الإنسانية عند مسكويه والتوحيدي والنزعة العقلية عند ابن رشد، إلا أن القيمة الفكرية لهؤلاء القدماء بالنسبة إليه تبقى ذات قيمة تاريخية فقط. والدرس الوحيد الذي يجب أن نتعلمه منهم هو فضولهم المعرفي وجرأتهم العقلية في طرح تساؤلات عقلانية ذات طابع إنساني في فضاء ثقافي عام تسيطر عليه الرؤية الدينية، ذلك أن محمد أركون يميز بين لحظتين في تاريخ الفكر والحياة وهما: لحظة المعقولية القروسطية ولحظة المعقولية التاريخية. يقول محمد أركون: " ولذا لم أزل منذ ما يزيد على ثلاثين سنة أدعو إلى إحياء الموقف الفكري الدينامي المنفتح لهؤلاء المفكرين القدماء، وألح في الوقت نفسه على ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم وإشكالياتهم

و نظرتهم إلى العالم والتاريخ والمجتمع والإنسان، لأن ذلك كله داخل في الفضاء المعرفي الخاص بالقرون الوسطى عند المسلمين كما عند المسيحيين واليهود وسائر الثقافات المعروفة في العالم(4). وحسب محمد أركون، فلا يمكننا أن نعود اليوم إلى قيم وأفكار ما قبل الحداثة لمعالجة إشكالية تخلف العرب في الحاضر، وبالتالي، فإن التراث مقارنة بالحداثة وعندما نخضعه اليوم لمعيار الصلاحية أو عدم الصلاحية، فإنه ينتمي إلى مرحلة زمنية ومعقولية قروسطية قديمة قد تجاوزها التاريخ، لأن الحداثة كتيار فكري ورؤية جديدة للعالم والإنسان لا تسمح لنا بالالتفات إلى الوراء أو بالتوفيق بين معقوليتين متناقضتين، معقولية تنتمي إلى الماضي وتقوم وعلى أساس ديني ومعقولية تنتمي إلى الحاضر وتقوم على أساس عقلي وعلمي.

يقول محمد أركون موضحا وشارحا: " بقيت ملاحظة أخرى أو أخيرة فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده: إن الحداثة تعريفا هي عبارة عن إستراتيجية شمولية يتبعها العقل من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود المعرفة والممارسة عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدم الصلاحية. ومن المعلوم أن هذه المعايير تتزايد صرامتها ودقتها ومرونتها أكثر فأكثر من أجل فهم الواقع بشكل أكثر مطابقة وصحة ودقة. وبالتالي فلا يمكن أن نأخذ جزءا من الحداثة أو نثرة متفرقة ونترك الباقي. لا يمكننا أن نقتطع منها موقفا خاصا أو نختار موضوعا واحدا أو نعطي الأولوية لبعض التساؤلات التي دشنتها الحداثة ونترك الباقي(5). فالتراث في نظر محمد أركون لا قيمة علمية له في عصرنا من حيث معايير الصلاحية أو عدم الصلاحية، فلم تعد نظريات القدامى لها قيمة علمية ومعرفية اليوم إلا القيمة التاريخية وهذا مما دفع بأحد الباحثين المختصين في فكر محمد أركون إلى القول: " فأركون يسعى إلى تفكير نفس الموضوعات التي فكر فيها القدامى ولكن بطريقة غير طريقتهم، وبمفاهيم ومناهج غير مناهجهم، ومن ثم نقول أن الفكر الإسلامي لا يشكل مرجعية معرفية مهمة في مشروع أركون الفكري، فهو يرجع إلى الفكر الإسلامي لكنه لا يرجع إليه ليستعير منه نظريات ومفاهيم، عدا بعض القيم التي امتاز بها بعض المفكرين المسلمين والتي تعبر عن روحهم العلمية وفضولهم المعرفي التواق إلى بلوغ اليقين في مجال العلم كما في مجال الإيمان "(6). وإذا كان هذا هو موقف العروي وأركون من التراث، فما هو موقف الجابري وكيف تتوافق أو تختلف رؤيته عنهم؟

يرى الجابري أن معالجة إشكالية التأخر التاريخي العربي والتأسيس لنهضة عربية جديدة لا تكون بوضع التراث في المتحف والتعامل معه كشيء مضى ولا جدوى من استحضاره أو الرجوع إليه لأن ذلك غير ممكن، لأن كل شعب وكل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها. ويستند الجابري في ذلك إلى التاريخ ومنطق النهضات الكبرى رغم اختلاف الميكانيزمات التي تميز كل نهضة عن الأخرى، فكل النهضات التي شهدها التاريخ قد عبرت عن نفسها إيديولوجيا ومعرفيا بالعودة إلى الأصول والإنتظام في التراث. يقول الجابري: " لنبادر إلى القول أولا، أنه ليس هناك قانون عام واحد يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور والأوطان، ولكن مع ذلك يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت، إيديولوجيا،عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الإنتظام في تراث، وبالضبط إلى العودة إلى الأصول، ولكن لا بوصفها أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت، بل من أجل الإرتكاز عليها في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب، الملتصق به المنتج له المسؤول عنه، والقفز إلى المستقبل"(7). ويرى الجابري أن نهضة الإسلام كدين جديد كانت بالرجوع والإنتظام في التراث الديني الإبراهيمي القائم على فكرة التوحيد ضد الوثنية (دين المجتمع السائد) التي كانت سائدة في مكة وفي شبه الجزيرة العربية، ولقد كانت فكرة التوحيد الإبراهيمية ممثلة في هذا العصر (العصر الجاهلي) بجماعة الحنفاء التي كانت تدعو إلى توحيد الله المتعال والموجود في كل زمان ومكان والتبشير بالنبي الخاتم والذي سيبعث دين إبراهيم من جديد ويصحح المعتقدات الفاسدة المتوارثة عن الآباء والأجداد. ولقد كان القرآن الكريم صريحا في آياته وهو يخاطب المسلمين" ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" (*). فلقد كانت العودة الدينية إلى عقيدة التوحيد وملة إبراهيم تمثل الإسلام ذاته كدين جديد في التراث الديني السابق عليه قبل الإنحراف وهو التراث الإبراهيمي. هذا عن نهضة الإسلام الأولى، أما إذا أتينا إلى أوربا، فسوف نشهد ونلاحظ نفس المبدأ تقريبا مع بداية القرن الثاني عشر عندما بدأت أوربا بالانتظام في تراثها الروماني والإغريقي. يقول الجابري: " وإذا نحن انتقلنا الآن إلى النهضة الأوربية الحديثة وجدناها تتخذ الآلية ذاتها، آلية العودة إلى الأصول بداية بها ومنطلقا. وهي العملية التي بدأت كما هو معروف مع القرن الثاني عشر الميلادي في صورة إحياء الآداب الرومانية والإغريقية وما أعقب ذلك من قيام النزعة الإنسانية (humanisme) والثورة على الأخلاق المسيحية السائدة

يومئذ المكرسة للخضوع والتسليم، فكانت النتيجة من الثورة على كنيسة القرون الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني المناهضة للرهبانية الداعية إلى العودة إلى المسيحية في صفائها الأول واعتماد التوراة مرجعا أعلى مع ما رافق ذلك من حركة النهضة، كانت النتيجة أن تفككت بنية نظام القرون الوسطى الذي كان يشكل وحدة عضوية متكاملة فانفتح الباب أمام انبثاق فكر جديد، فلسفة وعلوما، وعاد مركز السلطة الفكرية إلى تجربة الفرد وعقله "(8) إن الانتظام في التراث بالنسبة للجابري ليس من أجل إحيائه وبعثه كما كان في السابق وبنفس البضاعة المعرفية والمنهجية والشحنة الإيديولوجية، ولكن الإنتظام في التراث معناه الإتصال به من أجل الإنفصال عنه، معناه البحث في التراث عن القيم العقلانية والإنسانية التي يمكن توظيفها في إغناء حاضرنا ونقده وبناء مستقبلنا واستشراف آفاقه، معناه تمثل التراث تمثلا نقديا وإعطائه إمكانية الحياة في الحاضر وإمكانية الحافز كقوة دافعة وحركة مستمرة واعية بذاتها تجعل الذات ممتلئة من الداخل أمام الآخر بدون استلاب أو شعور بالنقص، والانتظام في التراث لا يكون إلا عبر عملية النقد المستمر والتجديد المنهجي وبروز قيم جديدة تجعل الواقع الاجتماعي بعد ذلك يفرز عناصر تغييره من أجل تغيير المشهد السابق. يقول الجابري: " وإذا نحن نظرنا إلى تاريخ الفكر الأوربي الحديث، وبكيفية خاصة منذ بيكون وديكارت (القرن السابع عشر) وجدناه عبارة عن سلسلة من المراجعات ل "التراث " مفهوما على أنه فكر الماضي وفكر الحاضر معا، فمنذ أن دعا بيكون إلى التحرر من جميع الأوهام (أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح) واعتماد التجربة منطلقا ومعيارا، ومنذ أن تبنى ديكارت الشك منهجا وأعلن عن ضرورة " مسح الطاولة" والتحرر من جميع السلطات المعرفية والإعتماد على سلطة العقل وحده، سلطة البداهة والوضوح.. منذ بيكون وديكارت والفكر الأوربي يعيد قراءة تاريخه على أساس من الإنفصال والإتصال، من النظر وإعادة النظر، من النقد ونقد النقد، إن الإنفصال عن التراث كان من أجل تجديد الإتصال به، والإتصال به كان من أجل تجديد الإنفصال عنه "(9). إن هذه اللحظة التاريخية الأوربية كمرجعية للنظر والتحليل، تجعلنا نستوعب منطق التاريخ في بناء النهضة الجديدة، والنهضة هي مسار متموج (كر وفر، فعل ورد الفعل) وهذا على جميع المستويات، فالجديد دائما يلقى معارضة شديدة وراديكالية من القديم، من البنى الثقافية والإجتماعية والسياسية السائدة،ولكن مع الزمن ومع تراكم الأحداث وانبثاق أفكار جديدة ورؤية جديدة وممارسات جديدة يتحول الجديد إلى واقع سائد وهذا عندما ينتقل على مستوى الفكر والرؤية من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية، ومن فكر المفكر والفيلسوف إلى فكر وثقافة المجتمع ككل، فيتحول إلى تيار متحرك باستمرار ويرسم أهدافا وأفاقا مستقبلية وهذا هو الفرق بين النهضة العربية الحديثة والنهضة الأوربية، ففي حين أن النهضة العربية الحديثة لا تزال على مستوى الخطاب تحمل مشروعا إيديولوجيا غير مطابق للواقع وحقائق التاريخ، ولم تدخل بعد ميدان النقد ونقد النقد (التحليل الإبستمولوجي والعلمي) لأن الإيدولوجيا وهذه هي معضلة العقل العربي الحديث تقول الحقيقة كاملة دفعة واحدة فتتحول المفاهيم إلى شعارات والنظريات إلى عقائد أرثوذكسية بتعبير محمد أركون، أما في جهة المقابلة " كان الفكر الأوربي ولا يزال يتجدد من داخل تراثه وفي الوقت ذاته يعمل على تجديد هذا التراث: تجديده بإعادة بناء مواده القديمة وإغنائه بمواد جديدة " (10). فرؤية الجابري للتراث وإعادة ترتيب علاقتنا به، هي رؤية عقلانية نقدية مطابقة لمنطق التاريخ والواقع في نفس الوقت، كما أن علاقتنا بالتراث يجب أن تكون محكومة ومرتبطة بجدلية الإتصال والإنفصال، نتصل به من أجل الإنفصال عنه وننفصل عنه من أجل الإتصال به وهذا من خلال عملية تجديده من الداخل وترتيب العلاقة بين عناصره من جديد وتفكيك وتغيير بنيته المغلة وتكون هذه العملية مستمرة ومتواصلة واعتماد منهجية النقد ونقد النقد وإخضاع كل جديد للتساؤل لأنه كلما حاولنا الإجابة على الأسئلة المطروحة، فإن هذه الإجابة ستبقى ظرفية لأن الأسئلة تتغير وكل سؤال يستنبت سؤالا آخر... الخ.

فالقطيعة مع التراث في نظر الجابري هي قطيعة على مستوى الفهم وليس الموضوع في حد ذاته، فالقطيعة تكون من خلال تمثله بمنهج جديد ورؤية جديدة، بل متجددة، ولا يجب وضع التراث في المتحف للتفرج عليه بحجة عدم الصلاحية آو المعقولية الحديثة كما يرى محمد أركون ولا بحجة المدرسة التاريخانية كما يرى عبد الله العروي، لأنه التراث في نظر الجابري مرتبط بمسألة أساسية على مستوى الشخصية الفردية والتاريخية هي الهوية، فلا يمكن بناء نهضة جديدة بدون هوية واعية بذاتها، بدون هوية ممتلئة بالعناصر الإيجابية التي تحفزها وتدفعها إلى القفز نحو المستقبل، لأن كل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها عندما تتهيأ لبناء نهضة جديدة والدخول في عصر جديد. يقول الجابري: " إنه لا بد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الإسلامي عند الخوض في الحداثة الأوربية الحديثة وقضاياها وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها. فالإمتلاء بالثقافة العربية الإسلامية وهي ثقافتنا القومية هو امتلاء الهوية وبدون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الإنفتاح على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها مدعاة للإنزلاق نحو الوقوع فريسة للإستلاب والإختراق "(11). وتبقى هناك مسألة جوهرية وعملية ملحة بالنسبة للجابري و

هي ضرورة التأسيس لمنطلق نهضوي جديد على المستوى المنهجي والمعرفي والوعي التاريخي. يقول الجابري: " إن الحاجة تدعو العرب إلى تدشين " عصر تدوين " جديد، إلى تدشين منطلق نهضوي جديد يبدأ هذه المرة لا من الدعوة إلى تبني نموذج معين أو الاحتماء به، بل من نقد كل النماذج، لا بل من نقد السلاح، سلاح العقل العربي ذاته (12).

إن التحرر من النماذج السائدة وتبني النقد المزدوج، نقد الذات ونقد الآخر ونقد السلاح ذاته (العقل العربي كبنية ومفاهيم) هو الشرط الحضاري لتحقيق الإستقلال التاريخي للذات العربية وشرط منهجي وإبستمولوجي من أجل تفكيك بنية العقل العربي وإعادة تأسيس وترتيب عناصر الثقافة العربية الإسلامية وإعادة بنائها وتركيبها في وعينا وتفكيرنا وسلوكنا من أجل القبض على الحاضر الهارب منا باستمرار والمستقبل الذي يبدو لنا غيبا مطلقا وقدرا محتوما نساق إليه رغما عنا وليس شيئا معلوما أو متوقعا أو بعدا من أبعاد الحاضر، إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد.

***

الدكتور قادة جليد – قسم الفلسفة جامعة وهران - الجزائر

...............

(1) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5، 2005، ص: 51.

(2) عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، ط5، 2006، ص: 206

(3) عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، نفس المرجع، ص: 206 - 207.

(4) محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، تر: هاشم صالح، دار الساقي ط 2، 1995، ص: 13.

(5) محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، نفس المرجع، ص: 182.

(6) د. فارح مسرحي: المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي، الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، ط 1، 2015، ص: 79.

(7) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 21

(*) القرآن الكريم: سورة الحج، الآية: 78.

(8) د. محمد عابد الجابري: إشكالية الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 23

(9) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35

(10) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35

(11) د. محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2000، ص: 177

(12) د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 48

 

أفضّل أن أسمي ما يمكن أن يُدفَع به من حجج لتبرير العنف الجماعيّ "إطارا للأدلجة". وذلك من أجل التّأكيد على طابعه الشّكليّ الذي تتمّ بلورته عبر ركوب الأيديولوجيا لبناء هيكل نظريّ يوفّر السّوغ بديلاً عن التّفسير العلميّ الواقعيّ والمحدّد. وتهدف الأمثلة التي أعرضها إلى توضيح جملة من النّقاط الرّئيسة. ويمكن تقسيم الإطار الأيديولوجيّ للمفاهيم المستخدمة للتّبرير إلى خمسة "مبان" هي:

أوّلا: عقيدة التّشعّب: وتفترض جماعتين تعارضان بعضهما، فتستخدم كلّ واحدة منهما العنف ضدّ الأخرى، إنّهما منفصلتان بشكل حادّ ونهائيّ، ومنقسمتان بشكل يحجب خطّ الرّجعة والمراجعة فلا يلتقيان أبداً. ما يجعل النّظر إليهما بوصفهما ذوي طبيعتين لا تقبل الانسجام بسبب الانتماء لفئات مختلفة اختلافا جذريّا من النّواحي الثّقافيّة والأخلاقيّة؛ ومثاله الجماعات العنصريّة المنقسمة عرقيّا، والجماعات الطّائفيّة المنقسمة ملّيّا أو مذهبيّا. لغرض المناقشة سأشير إلى المجموعتين على التّوالي باسم: "المجموعة المختارة" وهي المسيطرة سياسيّا، أو هي الأغلبيّة، أو هي المجموعة في السّلطة، أو هي الدّولة، ثمّ "المجموعة الأخرى". بطبيعة الحال هناك تشعّبات اجتماعيّة وسياسيّة أخرى قد تشكّل جماعتين ضدّ بعضهما.[1]

ثانيا: الاعتقاد بعدم أهليّة الآخرين أخلاقيّا: وهو اعتقاد يُسنِد مبدأ التّقسيم على تصوّر الجماعة المختارة للمجموعة الأخرى باعتبارها منبوذة للاعتقاد السّائد بأنّ أعضاء تلك المجموعة غير مؤهّلين أخلاقيّاً ما يصنّفهم في خانة تنزع عنهم صفات البشر فيجعلهم لا يتوفّرون على الحدّ الأدنى من السّمات الضّروريّة للمشاركة أو لقيادة المجتمع باعتبارهم ناقصين بالفطرة يفتقرون للضّروريّ مثل الذّكاء، التّعليم، الشّخصيّة الأخلاقيّة، المزاج، العقيدة الدّينيّة أو الانتخاب الإلهيّ. ويُنظَر إليهم بالتّالي كما يوضّح تاكاكي[2] وفريدريكسون[3] بمرتبة الحيوانات، الوحوش، الهنود، البربر، السّود، الكفّار وخدم الشّيطان. ومن المهمّ أن نلاحظ هنا أنّ الجماعة التي تعتبر نفسها مختارة فتمارس العنف ضدّ غيرها تحدّد بنفسها المواصفات الخاصّة بها، وتعتبر أنّ المجموعة المستهدفة  بعنفها لا تمتلكها.[4]

ثالثا: عقيدة المعيار المزدوج: وهي نتيجة طبيعيّة لما سبق بعد وسم الآخرين بعدم الكفاءة ووضعهم من قبل "المختارين" موضع الحيوانات خارج مجتمع الكائنات الأخلاقيّة. فالجماعة المختارة تُعمِل معيارا مزدوجا؛ لنظم العلاقات البينيّة في صوف أعضائها الذين تعتبرهم ممثّلين للمجتمع الأخلاقيّ، ثمّ لتحديد العلاقة بأولئك الذين هم خارجها ممّن لا تعتبرهم بشرًا. وتستبيح بإعمال ذلك المعيار المزدوج وغير المنصف في التّعامل مع الآخرين الذين تتصوّرهم مخلوقات غير بشريّة بدون حقوق لا يستحقّون المساواة أو الحرّيّة أو العدالة أو المسؤوليّة أفعالا جرميّة مثل القتل، التّشويه، سلب الحرّيّة، والاقتلاع والإبعاد، ثمّ الإبادة الجماعيّة .. غير أنّ الانتقال إلى هذا المعيار الثالث المتعلّق بالأفعال الجرميّة والهمجيّة يصير غير أخلاقيّ عندما يتعلّق الأمر بأعضائها ممّن تعتبر "مختارين" وأعضاء في المجتمع الأخلاقيّ.[5]

ويبني توجّس "الجماعة المختارة" من الآخرين الذين تسمهم بالعجز عن قبول الأخلاق والتّصرّف وفقاً لمبادئها جدارا سميكا يحول دون القبول بالحوار معهم بوصفهم بشرا يستحقّون المعاملة بالمثل، ويمنع من إقامة علاقات متوازنة ومنصفة معهم تتخطّى واقع الاختلاف والمغايرة فتحكم عليهم بالتّوحّش والعداوة المطلقة. فتقيم على أساسه الفاصل نظريّة لاهوتيّة ميتافيزيقيّة، معرفيّة أو بيولوجيّة، نفسيّة أو سلوكيّة، سياسيّة واقتصاديّة تكون ذات مضمون أسطوريّ متعالٍ يسعى لتبرير ما تقيم من حواجز وتبني من معايير مزدوجة، وهو ما أفضّل أن أسمّيه إطارا أيديولوجيّا.

رابعا: عقيدة الجماعة ورسالتها: وتستند في الغالب إلى صياغة تنطلق من تأويل النّصّ المقدّس تأويلا قد يكون في أحيان كثيرة متعسّفا يلوي عنق "الأمر الإلهيّ" ليمنح الأعضاء مهمّة تدخل ضمن مقتضيات الواجب المقدّس. فيصبح لازما على أولئك الأفراد في المجموعة المختارة القيام بأي نوع من أنواع العنف ضدّ الآخرين تحت شعار "الحرب المقدّسة"، أو "الدّفاع عن الحرّيّة". وتحيط الأفراد الذين يضحّون بحياتهم في القيام بهذا "الواجب" بالتّكريم فتعتبرهم أبطالا ستتمّ مكافأتهم في الحياة الأبديّة بالنّعيم المقيم.

خامسا: الوضع في صراع مقفل لايقبل التّنازل أو المصالحة كما لا يقبل التّعايش: فقد تكون الأمور الدّينيّة في بعض الأحيان بما فيها وضع الأراضي المقدّسة، أو أماكن العبادة، أو الطّقوس هي القضيّة مصدر الصّراع. يمكن أن تعتبر المجموعة المختارة مصدر النّزاع تهديدًا مميتًا فتصوغ عرضه بطريقة استبداديّة بعبارات مقفلة: "إما/أو"؛ "يجب تصفية واحدة من الاثنين سواء لنا أو لهم"! بالطّبع لا توجد هناك صراعات تستعصي على الحلّ بشكل نهائيّ ومطلق إذا كانت السّلطة السّياسيّة في المستوى التّاريخيّ والمكانة الاجتماعيّة والثّقافيّة المعتبرة. [6] لأنّ الأطراف الثّالثة لا تفسّر القضايا بمثل هذه الشّروط المطلقة ولا تتّفق على العموم مع المطالب المتطرّفة لأيّ من الطّرفين. وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ أطرافا محايدة هي من خارج الجماعتين غالبا ما تفشل في فهم  القضايا الأساس التي تعتمد على التّصوّرات وتستند إلى الأيديولوجيا إن لم تكن مهتمّة بعقائد الجماعات المتطرّفة مطّلعة على مذاهبها. ونتيجة لذلك، فإنّها تميل إلى التّقليل من حدّة الشّغف والعاطفة (العنيفة) التي تميّز مواقف الأطراف المتخاصمة تُجاه بعضها، وتهوّن من قوّة إيمان كلّ منها بالأيديولوجيّة الخاصّة. إنّ الفشل في إيلاء الاهتمام الكافي بالخلفيّة الأيديولوجيّة لصراعات تثير العنف يفسّر رواج تلك التّفسيرات الاختزاليّة التي لا ترى فيها سوى مستوى من مستويات الصراع على المصالح، أو وجها من أوجه الصّراع غير الأيديولوجيّ ممّا يشكّل موضوعا للدّراسات الاجتماعيّة.[7] ومتى ما فحصنا ما تمّ تصويره للتّوّ من مقدّمات للإطار الأيديولوجيّ، يتّضح أنّ الطّريق المسدود لا مفرّ منه لأنّه عبارة عن حتميّة تمّ تصميمها أيديولوجيّا لكي لا يُسمح منطقيّاً بالتقاء العقول، وحتى لا تُتاحَ الفرص للحوار والتّعايش، للسّلم والاحترام المتبادل.

ترسم كلّ مجموعة مختارة خطّا فاصلا بشكل حادّ ومطلق بينها وبين غيرها؛ وإن كانت المجموعات الأخرى تعتبر نفسها مختارة أيضا فسيكون هذا الموقف متبادلا بينها. ونتيجة لذلك، فإنّ الاختلاف والعنف بين المجموعتين سيكون مستعصيا على الحلّ أقلّه على المستوى الأيديولوجيّ. وفي التّحليل النّهائيّ، فإنّ الاستعصاء يأتي من حقيقة أنّ كلّ جماعة مختارة تبني لنفسها نظاما قيميّا محكم الإغلاق يستثني تلقائيّاً عن قصد ولأسباب منطقيّة لكنّها غير مشروعة أعضاء المجموعات الأخرى من حقوق وجوديّة كحقّ المشاركة وحقّ الحرّيّة وحقّ المساواة. وإلى جانب مبانٍ أخرى، فإنّ منطق الحجّة هنا يجعل الآخرين أهدافاً طبيعيّة و "مشروعة" للعنف الجماعيّ. وبالنّظر إلى ذلك، فإنّ هذه النّتيجة لا يمكن اجتنابها لأنّ القضيّة منهجيّة في الأساس. تستحق المناقشة بما تلقي من ضوء على الجانب المنطقيّ في إثبات الفارق المميّز للعنف الجماعيّ عن غيره من أنواع العنف والإكراه.

من وجهة نظر منهجيّة عند النّظر في الإطار الأيديولوجيّ تغدو العودة إلى عقيدة عدم الأهليّة الأخلاقيّة مهمّة لما لها من عواقب أخلاقيّة وسياسيّة واجتماعيّة وخيمة حينما تفترض وجود انقسام حادّ بين من تصف بالكفاءة الأخلاقيّة ومن تنفي عنهم ذلك الوصف. فتضيّق بهذا التّقسيم الافتراضيّ معايير "المعرفة الأخلاقية".[8] لتحدّدها بشكل تعسّفيّ وحصريّ يجعل المسؤوليّة والفضيلة مشروطة بقدرة الشّخص على السّلوك الأخلاقيّ وبقدراته "الفكريّة" على "المعرفة" الأخلاقيّة. كما يجعل طريقة إنشاء هذه القدرة والتّحقّق منها قضيّة حاسمة من وجهة نظر الأخلاق. فالمهمّ هنا هو الإجابة عن السّؤال المتعلّق بمعايير تحديد الكفاءة وعدمها، وبطبيعة ومصدر "المعرفة" الأخلاقيّة. حيث إنّه إن غلب الاعتقاد بأن هذه المعرفة تأتي من الله، فإنّ الكفاءة تعتمد حينئذ على المؤهّلات الماورائيّة مثل الاختيار الإلهيّ، أو الإيمان، أو العضويّة في جماعة ملّيّة أو مذهبيّة. وإن غلب الاعتقاد بأنّها تتأتّى من الاعتماد على الحدس الذاتيّ وعلى الحقائق الواضحة، فإنّ الحصول على الأهليّة يصبح في الواقع حكرا على الطّبقة المتوسّطة والفئات المتعلّمة فيكون أولئك الذين ليست لديهم هذه البديهيّات في حكم غير المؤهّلين أخلاقيّا!. نعم، هناك أمثلة أخرى لكنّي أقتصر على هذين المثالين لأنّهما كافيين لتوضيح هذه النّقطة. [9]

من النّاحية الفلسفيّة، يمكن تسمية المقولة المنهجيّة التّأسيسيّة التي تتضمّن التّمييز بين الكفء وغير الكفء بـ "المطلق" الذي يستند عموماً بأشكاله العديدة إلى افتراض منطقيّ يجعل الأخلاق نظامًا مغلقًا بإحكام (ومستقلاّ)، تُعرَف مبادئه الأولى بأنّها ليست مفتوحة للنّزاع أو التّحدّي من الخارج، ولا للمناقشة من قبل أشخاص من تقاليد أخرى، أو من قبل أشخاص غير متعلّمين يجهلون أسسه مبادئه وغاياته. لأنّ النّظام الأخلاقيّ المطلق يستند إلى المقدّس والمتعالي، وغير قابل للمناقشة والدّحض.[10] والملاحظ هنا أنّ أشكال الإطلاق المنهجيّ الذي يستلزم عدم المناقشة والدّحض عنصر أساس في الإطار الأيديولوجيّ للعنف الجماعيّ، لأنّ مبادئه الأولى بالإضافة إلى "الحقائق" و"التّفسيرات" والأساطير والتّأويلات لا تحتمل الطّعن، وهو ما يفسّر استعصاء العنف الجماعيّ وتعنّت الجماعات المتورّطة فيه.

باختصار شديد، هناك نوع معيّن من المبادئ المؤسّسة لأنماط التّفكير الكامنة وراء العنف الجماعيّ التي تشكّل بنية تجعل ادعاء الأنصار منيعا وغير قابل للمناقشة والطّعن، أو الرّدّ إمّا بحجج مضادّة، أو بالمناشدة والدّعوة إلى التّعقّل ومراعاة المصالح المشتركة، أو بالتّهديد، أو بأيّ من "الاعتبارات الواقعيّة".

وأودّ أن أضيف بعض الملاحظات حول أهمّيّة هذا النّوع من التّحليل يتعلّق بافتراض أساس لهذه الدراسة مفاده أنّ الأفكار مهمّة ليس فقطّ أفكارنا الخاصّة التي نعتقد أنّها معقولة وصادقة. ولكن أيضًا أفكار الآخرين، تلك الأفكار التي نميل إلى استبعادها باعتبارها سخيفة أو خرافيّة أو خطيرة. إنّ أنظمة القيم التي تشتمل على أفكار سواء كانت صحيحة أو كاذبة، وسواء دفعت النّاس إلى مساعدة الآخرين أو إلى إلحاق الأذى بهم، تعتبر مجالًا مهمًّا للتّحقيق، ليس فقطّ لأسباب عمليّة وسياسيّة واجتماعيّة، ولكن أيضًا لأسباب علميّة أكاديميّة فلسفيّة وأخلاقية.

ينبغي أن ندرك أنّنا حين نتجاهل أفكار الآخرين فإنّنا نتجاهلها على مسؤوليّتنا، وهذا يعني أنّ التجاهل لا يطال القول فقطّ، ولكنّه يطالنا أيضًا ـ وهذا هو الخطير ـ الإطار المنطقيّ والاتّساق المتأصّل في التّفكير. إنّ الموقف المتعجرف تُجاه أفكار الآخرين ليس فقطّ غير واقعيّ وخطير، بل لأنّه أيضًا غير أخلاقيّ.

فالمؤكّد يقينا أنّ المنهجيّة الدّقيقة التي يتعيّن اتّباعها عند التّحقيق في هذا النوع من المسائل معقّدة تتطلّب نزاهة فكريّة، مسؤوليّة أخلاقيّة، وتجرّدا وحرصا على طلب الحقيقة. لا يفعل النّاس في كثير من الأحيان ما يصرّحون بأنّه من المتعيّن عليهم فعله؛ فهناك نوع من الانزلاق والنّفاق الذي يجب أخذه بعين الاعتبار، إذ لا يتطابق السّلوك دائمًا مع النّظريّة هذه حقيقة. وبصفة عامّة، ينبغي أن تُترَك تلك المسافة الضّروريّة للتّحليل، حتى لا تؤثّر الآراء والمواقف الشّخصيّة في البحث فينعكس السّلوك السّياسيّ والاجتماعيّ سلبا على التّعامل مع الحقائق الميدانيّة والتّجريبيّة. فهناك أسئلة تنطوي على التّمييز بين أفكار النّاس الواعية والمعترف بها صراحة، وبين تلك التي تنطوي عليها ضمنا أنماط حياتهم، وعاداتهم، ومؤسّساتهم. فالحاجة تدعو طبقا لاقتراح  لاد[11] إلى منهجيّة تعيد بناء الاعتقادات المؤسّسة والمعتقدات غير المعلنة لخلق الرّوابط المتّسقة، المنطقيّة والضّروريّة بينها.

أرغب في أن تلامس خاتمة هذه المقالة بجدّ تلك العلاقة الأخلاقيّة الأكثر صرامة التي تدور حول هذه الصّورة، مع أنّه قد ينظر البعض إلى الموقف المعتمد هنا على أنّه نسبيّ، ليكن ذلك، فهو ليس نسبيًا بالمعنى الشرير، بل هو بالأحرى أمر حيويّ سيكون من الأفضل أن نطلق عليه غير مطلق، أو أنّه يكافح المطلق.[12] فمن الاعتبارات الهامّة حول منهجيّة الأخلاق ما هو وثيق الصّلة بهذا السّؤال في أيّ حجاج  أخلاقيّ أعتبره مكوّنًا رئيسا لحياة أخلاقية. حيث إنّ هناك طريقتين لنقاش الأفكار الخاطئة أو الشّريرة: طريقة تعتبرها حقّا أو واجبا، وأخرى تعارضها بتوسّل حجج أخلاقية مضادّة وهي على نوعين.

أوّلاً، نوع يستلهم الحجّة المضادّة المناقضة التي ترى أنّ أيّ فكرة خاطئة وغير مقبولة  تتناقض بالضّرورة العقليّة والمنطقيّة مع الفكرة الأخلاقيّة التي تؤخذ على أنّها حقيقة. عن سبيل المثال تكون حجّة أنّ العنف ليس صحيحا لأنّه خطأ ينتهك حقوق النّاس، فيسمّى هذا النّوع من  الحجّة المضادّة "دحضا".

ثانيا، وفي مقابل "الدّحض" هناك نوع آخر من الحجّة المضادّة يطلق عليه "التّفنيد"، ويقوم على الاستدلال بأنّ الفكرة الأخلاقيّة التي تتعرّض للهجوم تكون خاطئة وغير مقبولة باعتبار أنّ الافتراضات، والمعتقدات، وأسس المنطق الذي تستند إليه تلك الفكرة هي نفسها كاذبة لا أساس لها، ليست ثابتة وغير مجرّبة.

فحجّة الدّحض ترى أنّ الأفكار الشّرّيرة خاطئة لأنّها تناقض الأفكار الأخلاقيّة الحقّة. بينما ترى حجّة التّفنيد أنّها خاطئة لأنّ أساسها كاذب وقياسها فاسد واستنتاجها غير مجرّب. فحجّة الدّحض دوغمائيّة لأنّها تفترض امتلاك الأخلاق الصّحيحة، بينما غرض حجّة التّفنيد هو التّشكيك بقصد تقويض مصداقيّة موقف زائف.

إنّ المباني المستعملة في الدّفاع عن العنف الجماعيّ عادة ما تكون معيبة بشكل دائم، وهذا يوفّر أساسا للتّفنيد لا نحتاج معه إلى الاستفادة من المباني المأخوذة من الأخلاق أو من نظام القيم الخاصّ بنا لدحض أخلاقيّاته. ومع ذلك، فإنّه لدحض وتفنيد أخلاقيات معيّنة تلزم المعرفة كما يلزم الفهم للوصول إلى تحليل مفصّل للموقف الأيديولوجيّ الذي تقوم عليه لاسيما وأنّ النّجاح في دحض أخلاقيات العنف الجماعيّ يتطلّب الكثير من العمل الشّاق!

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................

[1] Horowitz,D., Ethnic Groups in Conflict, Berkeley, Calif, University of California Press. 1985.

[2] Takaki, , Ronald T., Iron, Cages, Race and Culture in Nineteenth Century America, Seattle, Wash, University of Washington Press. 1979.

[3] Frederickson, G,M,The Black Image in the White Mind, Middletown, Conn, Wesleyan University Press, 1987.

[4] Walliman and Dobkowski, Genocide and The Modern Age, Ethology and Case Studies of Mass Death, New York, Greenwood Press. 1987, Pp.14-15.

ويقدم   Horowitz   وصفا  تجريبيا مثيرا للاهتمام حول كيفية تحديد الأفراد كأعضاء في مجموعة.

Horowitz, 1985. PP.66-48.

[5] Frederickson, 1987.

[6] Laqueur,W., and Alexander,Y., eds, The Terrorism Reader, New York, NAL Penguin, 1987, P.149.

[7] Horowitz, 1985,P.131.

[8]  أنا على دراية بمخاطر استعمال تعبير "المعرفة الأخلاقية". "أنا لا أنوي التوسل  بأي أسئلة تحليلية هنا. غرضي الوحيد في استعمال المصطلح في هذا السياق هو التعبير عن الإحساس القوي بالإدانة واليقين. التي تميز التزامات الشخص الأخلاقية على النقيض من على سبيل المثال معتقدات هذا الشخص وآرءه  وأفكاره. كما أستعمل المصطلح هنا، بمعنى نسبي  فـالمعرفة لدى الأفراد والجماعات قد تتناقض مع بعضها البعض.

[9] Ladd, J., ‘The Poverty of Absolutism.’ In Timothy’s., ed, Edward Westermarck: Essay on His Life and Work, Philosophia Fennica, Helsinki, Societas Philosophica Fennica, 1982.

[10] Ladd, J, ‘ Politics and Religion in America, The Enigma of Plurilism.’ In Roland, P., and Champman,J., eds, Religion , Morality and the Law, Namos 30, New York, New York University Press, 1988.

[11]Ladd., Structure of Moral Code, Cambridge, Mass, Harvard University Press,1957.

[12] Ladd, J., 1982.

 

السؤال عن حقيقة الزمن يبدو كأنه نكتة لكل من يراقب الساعة عند آداء الامتحان، او منْ يحث الخطى لكي يمسك بالطائرة قبل مغادرتها ارض المطار. لكن في الحقيقة ان الانسان كان يفكر في هذا السؤال منذ اكثر من 2500 سنة، وحتى الآن لا أحد وجد جوابا مقنعا للسؤال. الأشياء تصبح اكثر تعقيدا عندما يحاول الفيزيائيون الوصول وبكثير من التباهي الى "نظرية لكل شيء" يمكنها دمج جزيئات ما دون الذرة مع الأشياء الكبيرة. ما يحدث عادة هو، ان العلماء منذ ان وضعوا معادلاتهم، لم يكن الزمن موجوداً في أي مكان. واذا لم يكن الزمن جزءاً من نسيج الكون، كيف نعرف انه لم يكن شيئا اخترعناه لتوضيح ما لم نفهمه؟

حوالي سنة 500 قبل الميلاد، لاحظ هيرقليطس انه، لو نزلنا مرتين في نفس النهر،لا نحن ولا النهر نبقى على حالنا، طبقا لمفهوم نُسب له من جانب افلاطون "كل شيء يتدفق". فلسفة هيرقليطس ترتكز على مرور الزمن. لكن في نفس الوقت، آمن برمنديس بفكرة كانت تقليديا تمثل الضد من هرقليطس: لاشيء يتغير، كل شيء يبقى على حاله. كلا العقيدتين حفزت مختلف الرؤى عن الزمن في الفكر الغربي في القرون اللاحقة. اسحق نيوتن اعتبر الكون كساعة هائلة لا تتوقف جسدت مرور الزمن كحجم مطلق، شيء ما يوجد بشكل مستقل عن أي شيء آخر.

ولكن في القرن التاسع عشر، كتب الفيزيائي Ludwig Boltzmann: "بالنسبة للكون، كلا الاتجاهين للزمن لايمكن التمييز بينهما، مثلما الفضاء الذي ليس فيه صعود ونزول". رؤية بولتزمان ابتعدت عن الزمن كمطلق في ذاته، كثابت للنظام الطبيعي للكون. هو كان يعني ان لا وجود هناك لاتجاه موضوعي للزمن، بل اننا نخترعه طبقا لفهمنا، مثلما نسمي الاتجاه نحو مركز الارض "نزول".

الزمن كوهم

بدأت الثورة الكبرى في فكرتنا عن الزمن مع البرت اينشتاين، في نسبيته العامة هو أدخل الزمن كبُعد آخر في نسيج الكون المنحني والذي يوضح الجاذبية، وفي النسبية الخاصة ايضا اصبح الزمن مرنا، يعتمد على مكان وسرعة تغيير مكان المراقب ، وبذلك اصبح مفهوم "الآن" بلامعنى. وبعد عقود، وفي رسالة تعزية لعائلة صديقه Michele Besso الذي مات قبل وقت قصير، كتب اينشتاين بانه بالنسبة للفيزيائيين "التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط وهم مستمر وبإصرار". هذه العبارات عادة كانت موضوعا للنقاش بين اولئك الذين يفسرونها كمجرد محاولة لجلب الراحة والعزاء واولئك الذين يرونها تصريحا علميا حقيقيا حول الزمن كوهم، حتى لو كان السياق رسالة شخصية بسيطة. ومهما يكن ،قادت رؤية اينشتاين الفيلسوف كارل بوبر لمقارنته مع بارمنديس آخر حديث.

في عام 1908، بينما كان اينشتاين يفكر بعمق حول الزمن المنحني، أثار الفيلسوف John Mc Taggart EII نقاشا استمر لأكثر من قرن، عندما جادل بعدم واقعية الزمن. ان قدوم ميكانيكا الكوانتم أضاف حجة جديدة وهي انه في عالم الأشياء الكبيرة نحن نستطيع تصور عدم تناسق او ، "سهم للزمن" arrow of time، وهو تعبير صاغه الفلكي الفيزيائي آرثر ادنغتون عام 1927، الذي اثبت صحة جاذبية اينشتاين من خلال الملاحظات أثناء الكسوف. سهم الزمن هذا يُفهم كقياس لنظام الطاقة الحرارية لكل وحدة  – قياس الاضطراب – يزداد في الاتجاه الذي نفهمه كتقدم في الساعة . ولكن في عالم الذرات، انفصلت قوانين ميكانيكا الكوانتم عن الزمن: هي تعمل اما للامام او للخلف، باتجاه او عكس اتجاه عقرب الساعة، ليس لها اتجاه مفضل. ومثلما يتم تكوين المادة والطاقة من العناصر الدقيقة التي هي موضوع الدراسة الكمومية، فأين هي جسيمات الزمن؟ التجربة تخبرنا ان الزمن ينشأ عندما نتحرك بعيدا عن عالم الذرات الى عالم الأشياء الكبيرة، لكن كيف  ينشأ اذا هو لم يتكون من وحدات أصغر؟

ارتباط الزمكان

في البحث عن نظرية توحّد النظريتين (للصغير والكبير) المنفصلتين حتى الان، فان الموقف عادة هو ان الزمن غير حاضر. مثال شوهد في نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية LQG ،خلافا لأشهر منافسيها – نظرية الأوتار – التي تستبدل الجزيئات بخيوط صغيرة في زمكان متكون سلفا، فان نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية تبني نسيجا للكون من حلقات صغيرة جدا للزمكان، مثل الوحدات الرقمية الصغيرة التي تُعرض على الشاشة.

في عام 2018، نشر الفيزيائي المنظّر والعلمي الايطالي الشهير كارلو روفيلي carlo Rovelli، احد مؤسسي وداعمي الكمومية الحلقية، كتاب (نظام الزمن) الصادر عن بنجوين راندوم هاوس، الكتاب الشهير الذي أوضح فيه ان الفيزياء اللازمنية وُلدت من هذه النظرية. طبقا لروفيلي، الزمن ينشأ في سياق من الديناميكا الحرارية، لكنه وهم يولد من معرفتنا غير التامة، انه ليس شيء موجود موضوعيا. "الزمن هو مفهوم مشتق، انه ليس شيئا اساسيا"، هو يلخص للمجلة الرقمية (open mind)، "ان سهم الزمن ليس اكثر من زيادة في الانتروبيا او القصور الحراري". "نحن بالتأكيد لدينا حدس عام حول الزمن يتناقض مع التجارب الفيزيائية الواضحة". " لذا، فانه في ضوء كل ما قيل لنا حتى الان، يتبين ان لا وجود هناك للزمن"، حسبما تدّعي السيدة كرستي ميلر الفيلسوفة المؤلف المشارك في كتاب (خارج الزمن). ولكن اذا كان روفيلي وفيزيائيون آخرون يجادلون بان فهمنا للزمن هو وهم، فان مؤلفين آخرين يذهيون أبعد  من ذلك في تركهم الاحتمال مفتوح بان  لا وجود للزمن على الاطلاق. هذا ما يجادل به الفلاسفة كرستي ميلر و سام بارون و وناثن تالانت في كتابهم الجديد (خارج الزمن: دراسة فلسفية لـ  اللازمنية، الصادر عن مطبعة جامعة اكسفورد 2022).

إنكار وجود الزمن: العلم ام الروحانية

تقول المؤلف المشارك كرستي ميلر مديرة مركز الزمن في جامعة سيدني، في حديث لها مع مجلة (الذهن المفتوح) "نحن نقول ان الزمن قد لا يوجد" . "لكن الادّعاء اللاحق هو انه من الواضح  ان مختلف اتجاهات الجاذبية الكمومية لا تبيّن ان هناك زمن ينشأ"، وتضيف. "لذا فانه  رغم كل ما قيل لنا حتى الان، فقد يتبيّن ان لا وجود للزمن". لكن ميلر وزملائها يعرضون طريقة للخروج من هذا المأزق: اذا كان الزمن غير موجود، لانزال لدينا سببية، وهي الفكرة بأن شيء ما يسبب ظهور شيئا آخر يأتي بعده. وطبقا للمؤلفين، هذا الذي ليس زمنا، ربما يكون خاصية أساسية للكون. "فكرة ان السببية ربما تلعب بعض الادوار التي نحن عادة نأخذ وقتا لنلعبها" ،تقول ميلر. "انه سؤال جيد ما اذا كنا سننتهي بالزمن ولكن باسم آخر، انا أميل جدا لفكرة اننا لو اخذنا أي شيء يشبه الزمن بما يكفي، ويمكنه ان يعمل كل انواع الاشياء التي يفعلها الزمن، هذا سيكون فقط اكتشاف بان الشيء هو الزمن". الحقيقة هي ان وجود الزمن لايمكن تكذيبه او إثبات عدم وجوده. لكن روفيل غير مقتنع بهذا الجدال: "السببية لم تُعرّف كثيرا بالزمن،" كما يذكر. في الحقيقة، لا يوجد هناك ايضا اجماع واسع بين الفيزيائيين حول الزمن، والذي يعني حسب روفيل،"ان اشياءً مختلفة في سياقات مختلفة". يرى بعض الفيزيائيين، اذا كان ممكنا قياس الزمن، وتعريفه رياضيا،واذا كانت هناك متغيرات اخرى تعتمد عليه، ذلك يكفي للقبول بوجوده. ميلر من جهتها، تجادل ان هذا لا يكفي: "الى ان يكون هناك توضيح يجعلنا نفهم كيف ينشأ الزمن من واقع أساسي لازمني، سنظل بحاجة الى مزيد من العمل، والكتاب يحاول اقتراح ان هذا ربما اكثر صعوبة مما يُعتقد سابقا".

بعض الفيزيائيين ذهبوا بعيدا للإعلان عن ان انكار وجود الزمن او تعريفه فقط  كوهم، هو في خط مع تيارات علمية زائفة pseudo-scientific او تيارات صوفية تعرض نفسها كتحريف لكلمات اينشتاين. بالنهاية، الحقيقة هي ان وجود الزمن لا يمكن ابطاله او اثبات عدم وجوده. تعترف ميلر ان هناك علمية زائفة تنكر الزمن، لكنها تبعد نفسها عن هذه التصريحات: "نحن لا نتخذ موقفا من هذا " كما تقول.

هل السفر عبر الزمن ممكن؟

كل ما تقدم يفتح بابا مثيرا آخرا لمساحة مفضلة من الخيال العلمي : اذا كان الزمن وهما،اوغير موجود، فماذا يحصل لإمكانية السفر عبر الزمن؟ يعتقد روفيل ان الجاذبية الكمومية الحلقية لا تمنع وجود ما يسمى (مسارات الزمكان المغلقة في الكون)(1)، لكنه يعتقد ان من غير المحتمل جدا ان شخصا ما يمكنه الوصول الى هنا متذكرا اشياءً حدثت في مستقبلنا. تلاحظ ميلر ان شيئا ما يشبه ما نعني بالسفر عبر الزمن سيكون ممكنا كنوع من السببية المنحرفة لو ان" بعض الأسهم السببية تشير الى اتجاهات تختلف عما تفعله معظم تلك الاسهم". هي تضيف، في الحقيقة، هناك نظريات حول اتجاه الزمن  لا تتطلب كل هذه الأسهم السببية لتشير في نفس الاتجاه، يكفي ان معظمها تعمل. واذا كانت هناك مثل هذه الأسهم المراوغة عندئذ ستكون لدينا طريقتنا للسفر عبر الزمن.

***

حاتم حميد محسن

...................

* Does Time Really Exist? Ventana al conocimiento (knowledge window), Scientific Journalism, 27May 2022.

الهوامش

(1) closed time-like trajectories او مسارات الزمن المغلقة هي حل نظري لمعادلات المجال العام لنظرية النسبية العامة. في منحنى الزمكان المغلق، الخط العالمي للشيء ضمن الزمكان يتبع مسارا غريبا حيث يعود بالنهاية بالضبط الى نفس الاحداثيات في الزمان والمكان التي كان بها في السابق. بكلمة اخرى، منحنى الزمن المغلق هو النتيجة الرياضية للمعادلات الفيزيائية التي تسمح بالسفر عبر الزمن.

تُعتَبر اللّغة وسيلة لا مثيل لها للتّفاعل في المقاربة المعرفيّة للهوّيّة الاجتماعيّة وتحليل المواقف والتّصوّرات السّائدة زمن الصّراع لأنّها تمتلك وظيفة أدائيّة تندرج في بناء الحياة الاجتماعيّة. فتعبيرات الهوّيّة تربط بالتّشكيلات الخطابيّة والتّمثّلات التّمييزيّة بما فيها الإقصائيّة، ثمّ بعمليّة تحويل الهوّيّات التي قد تقع في زمان ومكان معيّن، وبالمواجهات في الحياة اليوميّة التي تبدو استثنائيّة أثناء الصّراع.

إنّ تصوّر صراع ما كخطاب قائم يجسّد هذا الصّراع ضمن استمراريّة خطابيّة ومؤسّسيّة أوسع نطاقا، فالبنية اللّغويّة المستعملة في توصيفه مستمدّة من أساليب خطابيّة موجودة سلفا تشترك في إطلاق أيّ صراع وإدارته وليست بنية لغويّة خاصّة بذلك الصّراع وحده. وإنّ ما يتنتج عن تلك الأساليب اللّغويّة المحيطة بصراع معيّن من عواقب قويّة ومؤثّرة على أوسع نطاق زمانيّا ومكانيّا من خطابات ومؤسّسات يؤدّي حتما إلى استمرار الصّراع العنيف في نظم اجتماعيّة مشابهة.

إنّ العنصر الأوّل في تصوّر الصّراع كتشكيل خطابيّ وفقًا للتّحليل البنيويّ لا يفترض فصلًا أنطولوجيًّا بين الفرد والبنية، بل يقبل أن يشكّل كلّ منهما الآخر. فالفكرة التي طوّرها غيدنز حول قدرة الأفراد من ذوي المعرفة على توظيف خبراتهم والاستفادة من مهاراتهم المعرفيّة في تفسير التّفاعلات الاجتماعيّة، صارت مقبولة لدى المهتمّين بأبحاث الصّراع بعد أن أصبح في حكم المؤكّد عندهم أنّ تعبيرات الهوّيّة تتحدّد تاريخيّا من خلال عمليّة التّفاعل الاجتماعيّ حيث الأوضاع تحدّد سياق الفعل، وتضفي على سلوك الفرد ما يتمّ إنتاجه من المعنى والشّرعيّة. لذلك، يكون الوعي بالظّروف وبالسّياقات التّاريخيّة هو ما يشكّل خلفيّة الصّراع ومفاهيم الهوّيّة التي يعبّر عنها إمّا "عمليّا" أو "خطابيّا".

إنّ الصّراع بوصفه تشكيلا خطابيّا هو سلوك استثنائيّ تستحثّه تفاعلات الحياة الاجتماعيّة في سياق التّعبير عن مواقف أو "حالات حرجة"،[1] فالرّوتين يوفّر للأفراد الشّعور بالأمن الأنطولوجيّ الذي يمّكن أنشطتهم اليوميّة من "الاستمرار"، وهو بتعبير غيدنز "صورة لاستمراريّة الشّخصيّة في الأنشطة اليوميّة، وفي مؤسّسات المجتمع التي وجدت للحفاظ على تلك الاستمرارية".[2] تعتمد التّفاعلات اليّوميّة الرّوتينيّة وتصوّرات الذّات على المدّة الطّويلة لترسيخ الاستمراريّة من خلال الوعي العمليّ، ولأجل مأسستها في الحياة الاجتماعيّة كي تتكاثر أنشطتها المتنوّعة. لقد أظهرت الأبحاث العرقيّة التي تعنى بالعمليّات الاجتماعيّة أنّ الرّوتين وتيرة تعيد برتابة إنتاج أساليب الحياة اليوميّة،[3] ويشير لورانس ويدر (Lawrence Wieder) في دراسة مقارنة للحياة اليوميّة عند المرضى والنّاس العاديّين إلى طبيعة تعدّد أشكال وأوجه الكلام، حيث لا يمثّل الكلام الرّوتينيّ مجرّد وصف لأحداث أو قواعد السّلوك، وإنّما يُشكّل جانبًا رئيسا لقواعد الحياة داخل إطار محدود. لذلك، يمتلك الحديث طابعا انعكاسيّا يعيد إنتاج الأوضاع أو الظّروف التي تعطيه معنًى[4] وهو ما يجعل النّشاطات اليوميّة لا تحفّز السّلوك بشكل مباشر دائما ولكن التّحفيز يحدث بمراقبة للفعل يقوم بها أهل الخبرة والمعرفة في مواقف مشابهة".[5] أي أنّ الاستمراريّة المؤسّسيّة والخطابيّة للحياة الاجتماعيّة لا تندرج في النّشاطات اليوميّة فقطّ، ولكن يعاد إنتاجها عبر هذه النّشاطات أيضاً.

للرّوتين أهمّيّة في فهم الصّراع كخطاب رائج تقوم الهوّيّة الاجتماعيّة فيه بدور حاسم وإن لم تظهر بوضوح، ففي الشّدائد تُشكّل الذّكريات والأساطير والأوامر الرّمزيّة والصّور الذّاتيّة جزءًا مهمّا من الوعي العمليّ للأفراد الذين لا يُشار إليهم باستمرار في التّفاعل الاجتماعيّ مع أنّهم يُضْفُونَ المعنى على النّشاطات اليوميّة ليصبح العامل البشريّ أساسا لتراكم معرفة تقدّم مبانيها معاني تعيد التّأكيد على الذّات، على هوّيّتها وطابعها الشّخصيّ باستمرار بالإضافة إلى بيان نوع علاقتها بالمحيط البيئيّ والوسط الاجتماعيّ.

لا يتمّ التّعبير عن هوّيّة الأفراد من خلال الوعي الخطابيّ فقطّ حتى وإن شكّل هذا الأخير الخلفيّة الاجتماعيّة التي يختزنها وعيهم العمليّ، فهم يواجهون كلّ ما يتعلّق بتاريخ محدّد من ذكريات وأيديولوجيّات، من أنظمة رمزيّة ولغات ومواقع جغرافيّة. وتستند تعبيرات هذه الهوّيّة المنفتحة بحسب غيدنز إلى مجموعة من السّمات المشتركة مع أعضاء آخرين في مجتمع "يتموضع" فيه جميع الأفراد في شكل ترتيبات رمزيّة، وتوقّعات معياريّة، وعلاقات قوّة، ومواقع محدّدة تبعًا لاستمراريّة بنية النّظام الاجتماعيّ.

تتشكّل المواقف الاجتماعيّة بنيويًّا كتقاطعات تحدّد المضمونَ أو المعنى، تسوّغ الهيمنة أو تضفي على عوامل فرضها شرعيّة. فينطوي الموقف الاجتماعيّ إذن على تحديد "هوّيّة" بعينها في إطار شبكة من العلاقات الاجتماعيّة، إلا أنّ أصحاب هذه الهوّيّة هم "الفئة" المعنيّة بنطاق معين من الجزاءات المعياريّة.[6]

تحدّد الهوّيّة المواقع الاجتماعيّة، الرّموز والمفردات فضلًا عن التّوقّعات الاجتماعيّة حيث يحمل الفرد هوّيّة معيّنة وينشط في مواقع محدّدة على امتداد حياته، غير أنّه من المهمّ إدراك وقوع الهوّيّات ضمن خانة مؤسّسات "المدّة الطّويلة" أو ضمن استمراريّة توفّر "أطرا" هي حاويات للقواعد الاجتماعيّة تستديم النّشاطات أو التّفاعلات وتعطيها مغزًى على حدٍّ سواء.[7]

تستند مفردات الهوّيّة في ظروف الصّراع إلى استمراريّة تتغيّى تعبئتُها بناءَ جماعاتٍ سياسيّةً مترابطةً، والعنف المستمدّ من تصوّر الصّراع كخطابٍ قائمٍ ومتشكّلٍ يشكّل "خطابَ الإقصاءِ" الذي يقوم بوضع القيودِ والحدودِ الصّارمةِ من خلال تمثّلاتٍ عن المؤهّلِ والمذنبِ، عن الصّالحِ والشّيطانيِّ وهكذا... فتكوّن هذه التمثّلاتُ بُنًى اجتماعيّةً مثلَ الدّولةِ القوميّةِ، أو العرقيّةِ القوميّةِ، أو التّطهيرِ العرقيِّ، أو السّيادةِ الوطنيّةِ وجميعُها في الحقيقة ليست سوى تعبيراتٍ عن خطاب الإقصاء المتورّطِ في إضفاء الشّرعيّة على العنف. إنّها صورٌ ونصوصٌ تقسّم هوّيّة المجتمع  بخطابٍ تشكّلت أسُسُه العميقةُ من خلال أنشطةِ الحياةِ اليوميّةِ على نحو لا يَظهرُ نَفَسُهُ الإقصائيُّ على الأقلّ في حالاتٍ محدّدةٍ من الصّراع، بل يترسّخ في الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة التي يتمّ الاعتماد عليها ويعاد تشكيلها بممارسة الإقصاء.

يقوم خطاب الإقصاء المتورّط في تحريض العنف السّياسيّ وإشعال فتيل الحرب بوصفه استمراريّة اجتماعيّة على هوّيّات إقصائيّة بُنِيَتْ على تمثّلات واهمة عن الذّات في علاقتها بالآخر، لذلك فإنّ فكرة تشكيل الهوّيّة تجد تفسيرها في السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ وليس في الأسس الحيويّة والنّفسيّة من حيث إنّ أشكال التّعبير عن الهوّيّة تُبْنَى على مجموعة متنوّعة من التّجارب يحيل إليها السّلوك العمليّ والخطابيّ. فيدلّ تشكيل الهوّيّة على اختيار نشيطٍ لصيغة خاصّة من التّمثّل وإن لم يدلَّ على حرّيّة اختيار الموقع الاجتماعيّ، لأنّ هذا الموقع تحدّده القواعد الاجتماعيّة المهيمنة، والتّرتيبات الرّمزيّة، والبُنى السّائدة التي تشوّه اختيار الفرد لهوّيّة تمثّله فثؤثّر في اختيار الوكيل الأمثل لهذه الهوّيّة. وبالتّالي تتشكّل الهوّيّة من صيغ تأويليّة ومعاني معقّدة تستخلص بدلالة الهوّية المهيمنة أو النّظام الحاكم من عمليّات الوصف والرّبط والتّعبير، وبالاعتماد على مدى تمكّن الجماعات من مختلف الممارسات الخطابيّة والمؤسّسيّة.

وتعتبر بُنى الهيمنة الموجودة داخل إدارة النّظم الاجتماعيّة المسؤل الأوّل عن نشوء الهوّيّات المهيمنة في المجتمع، وإحدى العناصر الموثوقة في ساسية إصلاح السّلطة وتنظيم الأفراد ضمن رابطة مشتركة، وإلى ذلك يشير غيدنز حينما يعتبر أنّ "تنسيق أعداد من النّاس معًا في المجتمع لتكثير سوادهم مع مرور الوقت هو مورد موثوق به للحلّ الأساس".[8] فالقدرة على توطيد السّلطة ودعم الوثوق بها بتكثير الفئة المستفيدة منها والمساندة لها يعتمد القدرة على التّلاعب بالذاكرة الاجتماعيّة، والسّيطرة على جمع المعلومات والتّحكّم في نشرها، وهو الأمر الذي يولّد وينتج الاستمراريّة الخطابيّة والمؤسّسية التي تشكّل الرّوابط في المجتمعات. والملاحظ أنّ النّظم الخاضعة للإدارة تعتمد التّصنيف والمراقبة في عمليّات التّوحيد وتقويّة السّيطرة وتعزيز السّلطة التّأديبيّة، وهو ما يتطلّبه شنّ الحرب من السّيطرة على الأفراد في الأوضاع الاجتماعيّة، ومن التّحكّم في الجسم السّياسيّ في البيئات الأوسع. من ناحية أخرى، يوضح فوكو عند تحليل المؤسّسات أساليب الرّقابة الإداريّة التي تحقّقت بتقسيم الأفراد زمانيًّا ومكانيًّا، والتي سهّلت تصنيفهم وفقًا لعملية مسح ولمبادئ محدّدة تضمن بفعّاليّة الامتثال لقواعد المؤسّسة. "فالتّقسيم يحدّد لكلّ فرد موقعا خاصّا؛ كما يحدّد لكلّ موقع فرده الخاصّ" لأنّ "السّلطة الإداريّة تقتضي النّظام والانتظام مع القدرة على التّنّبؤ لإزالة آثار التّوزيع غير الدّقيق للأفراد، ودرء عواقب عدم الاكتراث بانتشارهم، ثمّ لتفادي سوء تقدير تداولهم لما هو خطير أو غير قابل للاستعمال".[9] لقد طبّق فوكو هذا النّموذج باعتباره نظام تحكّم يقوم على الامتثال والانتظام في وسط اجتماعيّ صغير كالسّجون والمستشفيات والجيوش فتوصّل إلى خلاصة مفادها أنّ الحرب هي التّعبير الأقصى عن السّيطرة، وأنّ لها ما يوازيها في بنية المجتمع: "قد تكون الحرب كاستراتيجيّة استمرارا للسّياسة، لكن يجب أن لا ننسى تصوّر "السّياسة" كاستمراريّة أيضًا وإن لم تكن للحرب بالضّبط وبشكل مباشر إلاّ أنّها على الأقلّ هي استمراريّة للنّموذج العسكريّ كوسيلة أساسٍ لمنع الاضطرابات المدنيّة. لقد سعت السّياسة باعتبارها أسلوبًا للسلّم والنّظام الدّاخليين إلى تنفيذ آليّة الجيش المثاليّ، والجمهور المنضبط، والقوّات المذعنة للواجب، والأفواج التي تخدم عسكريًّا وميدانيًّا في المناورات والتّدريبات".[10]

فمن مقتضيات الرّقابة أن يتمّ جمع كلّ تلك العناصر معًا لمنع المعارضة ومعاقبتها، لذلك تغدو تعبئة الهوّيّة المهيمنة مرغوبة، وفي سياق الصّراع يصبح تعزيز الشّعور بتلك الهوّيّة بين الجماهير التي دُعِيَتْ لدعمها وقت التّعبئة احتفالا استعراضيّا، وتمثّلا رمزيّا يستلهم أمجاد الماضي في الإشادة بالإنجازات الحالية. ويَعْمِدُ التّحكّمُ إلى التّلاعب بالخطابات العامّة في إدارة الصّراع لضرورة استراتيجيّة و"تنظيما لسلوك القوى الجماعيّة والفرديّة".[11]

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................

[1] Giddens, A.,The Constitution of Society (Polity Press, Cambridge, 1994), p. 60

[2] Ibid p. 60

[3]  Garfinkel, H., Studies in Ethnomethodology (Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1967);

J. Heritage, Garfinkel and Ethnomethodology (Polity Press, Cambridge, 1984).

[4] Wieder, L., “Telling the Code”, in R. Turner (ed.), Ethnomethodology (Penguin, Harmondsworth, 1974).

[5] إنظر الفصل الثالث.

[6] Giddens, op. cit., p. 83

[7] Goffman, E., Frame Anaysis (Harper, New York, 1974).

[8] Giddens, op. cit., p. 260

[9]. Foucault, M., Discipline and Punish: The Birth of the Prison (Penguin, London, 1991), p. 143

[10] Ibid., 168

[11] Foucault, M., The History of Sexuality, Vol. 1, quoted in P. Rabinov (ed.), The Foucault Reader: An Introduction to Foucault’s Thought (Penguin, London, 1984), p. 307

طبق فوكو هذا التصريح  على تنظيم الجنس من خلال الخطابات التحليلية. إن عملية تنظيم الهوية من خلال الخطابات المهيمنة هي اساسية بالنسبة لفهمي للعنف.

 

الدماغ هو الجهاز المركزي ومحور التحكم في الجسد الحيواني والإنساني فإذا ترك بفطرته الغريزية بدون تأهيل وتنمية وتربية يظل واقفا عند اللحظة البيولوجية؛ لحظة إشباع الحاجات الحيوية في قاعدة هرم إبراهام ماسلو (الهواء والماء والغذاء والتزاوج) في الغابات والبراري كما كانت الحياة في أولها وربما استمرت ملايين السنين حتى أدرك الكائن الإنساني الحاجة الحيوية إلى الأمن والسلام وتلك حاجة للاستقرار الاجتماعي تستدعي وجود بعض القيم والأعراف لتنظيم العيش المشترك للكائنات الاجتماعية وأول الحضارة هو الخوف من عاقبة اعتداء الإنسان على إنسان أخرى أو اعتداء جماعة على جماعة أخرى وما يولده ذلك الاعتداء من ردة فعل وانتقام وعدوان مضاد. إذ لا فرق بين البشر والحيوانات إلا بقدرة البشر على ضبط غرائزها الحيوانية وتقنينها بالقيم والأعراف والقانون والنظام. وقد احتاجت الإنسانية ملايين السنين للانتقال من الحالة البدائية للعيش في كنف الطبيعة ومواردها المتاحة والانتقال من الصيد والرعي والبداوة إلى الزراعة والتمدن والحضارة. فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون ومع الحضارة تطور الثقافة والمدنية وتطورت وظيفة الدماغ عند الكائن الإنساني إذ لم تعد تقتصر على رؤية وادراك الفرائس واقتناصها أو الحذر منها بل تطورت إلى الخيال والتخييل والشك والتفكير المجرد وهذا هو أرفع عمليات العقل البشري ولكنه لا يتم هكذا من تلقاء ذاتية بل عبر اللغة والكلام والمران والتعليم والتدريب والتأهيل والتنوير ومن هنا جاءت الحاجة إلى الفلسفة والعلوم بوصفها معنية بتأهيل وتنمية العقول وجعلها مثقفة أي صالحة للزراعة والعقل مثل الأرض مهما كانت تربتها خصيبة لا تنتج الثمار بدون حراثة وتهيئة بالماء والاسمدة وكذلك هو العقل مهما كان ذكيا لا ينجب الأفكار والمعرفة بدون تعليم وتربية وتنمية وتهيئة. ونقصد بتهيئة العقل التهيئة الكلية لكل البنية الدماغية المتعددة الوظائف كما هو الحال بالتربية البدنية للجسم الإنساني التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة. والفلسفة بوصفها الوسيلة الممكنة لتنمية وتأهيل العقل تنمية عقلانية مستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) هذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة والكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع هذا أولا. وثانيا الاستيعاب؛ بمعنى القدرة على استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.

ثالثا: الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.

رابعا، الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) وهو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار. والفلسفة هي ربيبة عصرها وبنت زمانها وبهذه تختلف عن كل إشكال المعرفة والفكر الأخرى. فكل نظرة فلسفية محددة بعصر الفيلسوف وتصوراته الخاصة واسلوبه الفريد المتميز في النظر الى مشكلات عصره والتصدي لأسئلته الكبرى وصياغتها في رؤية عقلية كلية مجردة. فالفيلسوف لا يأتي المعجزات, فأقصى ما يقوم به, أن يشيد صورة مفهومية عن العالم في العصر الذي يعيش فيه. وفهم الفلسفة لا يكون الا بفهم اسئلتها المتعينة في سياقاتها التاريخية والثقافية في عالم الممارسة الفورية المباشرة والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي الحي الذي يحيط بالنص الفلسفي من جميع الجهات ولا توجد إجابات فلسفية جاهزة ومكتملة منقولة من الماضي كما هو الشأن في الاسطورة واللاهوت. ففي كل عصر من العصور يختار الانسان نفسه من جديد. فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة أبستمولوجيا مع الأجوبة التي قدمتها الاسطورة للمعنى الكلي للعالم إذ حلت النظرة العقلانية لتأمل الوجود وظواهره المختلفة بدلا عن النظرة السحرية المتلحفة بالأسطورة فكانت اسئلتها عن أصل الكون وحقيقة الوجود والفكر والمعرفة والقيم. وحينما هيمنت النظرة اللاهوتية في فضاء العصور الوسيطة ازدهرت الفلسفة اللاهوتية المسيحية والإسلامية في تأمل العلاقة بين الله والعالم ومنذ عصر النهضة الأوربية حدثت القطيعة الأبستمولوجيا مع نظريات الفيض الأفلاطونية والمنطق الصوري الارسطي. وحينما استعاد الإنسان ثقته بنفسه وعقله وقدراته على المعرفة والتقدم وصناعة التاريخ ازهرت فلسفة التاريخ والإنسان وهكذا ارتبط تجديد الفلسفة مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة ونعني بالتجديد هنا تجديد في الأسلوب والمعنى والمبنى. والمفاهيم هي نظارات العقل بمعنى من المعاني إذ لا يتحقق التأمل والتفكير في العالم إلا عبرها ومن خلالها وهي مفاهيم مكتسبة من اللغة والثقافة والتعليم والتربية ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. وإذاكان العقل يولد صفحة بيضاء بحسب جون لوك فهو لا يظل كذلك بعد المهد بل تنقش الثقافة واللغة والتربية والتعليم الكلمات والمفاهيم. لكن تلك المفاهيم ممكن أن تتحول بعد الاستخدام الطويل إلى أوثان واوهام تكبل الفكر وتعيق نشاطه الدائم في تعقل العالم وعندما يتنكر الناس للفلسفة بوصفها مطهرا للعقل  فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والضلالات والأخطاء. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. والعقل والتفكير والكلام هو القاسم المشترك بين الناس أما العواطف والمشاعر والانفعالات والمعتقدات والايديولوجيات فهي خاصة بالإفراد وبالجماعات.

***

ا. د. قاسم المحبشي

حاتم حميد محسنقبل آلاف السنين بدأ السعي لفهم العالم الذي حولنا، الانسان والطبيعة والكون والعلاقات بينهم. كان واضحا وجود نوعين من الأشياء، المادة الجامدة والكينونات الواعية الحية المندفعة بقوة الحياة والتي تسمى الروح. كان هناك وعي حدسي لليد اللامرئية لذلك الذكاء الهائل الذي أفرز مفهوم "الاله" القدير الكلي وما تفرّع عنه مما سمي بمؤسسة الدين. اشتبك ذهن الانسان مع هذا اللغز وحاول فهمه. في البداية كان هناك فقط تحقيق متكامل منفرد – وهو السعي لمعرفة الكون واشير اليه في اليونان القديمة بالفلسفة الطبيعية، والناس الذين انخرطوا في هذا التحقيق كانوا محترمين كونهم متعلمين وحكماء في المجتمع. هذا السعي ضم مختلف الاتجاهات التي نسميها الآن دين، فلسفة، ميتافيزيقا، علوم.

في هذا السياق يُعتبر الاتجاه العلمي كما نعرفه اليوم جديدا نسبيا، كونه برز فقط قبل أربعة او خمسة قرون. ما يعرف الآن بـ "العلم الحديث او الغربي" بدأ مع اناس مثل غاليلو وكبلر وكوبرنيكوس وباكون تبعهم نيوتن وبويل وغيرهم. تاريخيا بدأ في هذا الوقت ممارسو العلوم والدين والفلسفة/الميتافيزيقا الانفصال وتأسيس مدارس متخصصة منفصلة للتحقيق في كل من هذه الحقول. (من اللافت انه الى اليوم تشير الدكتوراه في العلوم او الرياضيات او الهندسة او الانسانيات فقط الى "دكتور في الفلسفة" او PhD). هناك فرق كبير في المنهجية المتبناة من جانب العلوم وتلك المتّبعة في الحقول الاخرى للتحقيق. ان الطريقة العلمية تتميز بكونها "موضوعية" و "تجريبية"، مرتكزة على التحليلات المنطقية والعقلانية للملاحظات، بينما التحقيق الروحاني هو بالمقام الأول "ذاتي" الى حد كبير. الفرق الأساسي يبدو ليس بين العلوم والروحانيات بذاتها طالما كلاهما يدّعي السعي لفهم "الحقيقة"، وانما هو بين الطريقة العلمية في التحقيق والطبيعة الحدسية للتحقيق الروحاني.

غير انه من الواضح لأي شخص ذو ذهن حساس ومنفتح في متابعة "الحقيقة"،ان العلوم والطريقة العلمية لهما محدودياتهما. هناك سنصل الى نقطة في عملية التحقيق العلمي في طبيعة الأشياء والانسان ومكانه وهدفه في الكون، فيها تكون التحليلات المنطقية والعقلية غير قادرة على توفير كل الأجوبة، ستبقى هناك عدة أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالإرتكاز على البيانات الحسية وحدها. العديد من العلماء الكبار توصلوا الى نفس هذا الاستنتاج.

ان "الحكمة التقليدية" او "الفلسفة الدائمة" التي تجسدت في الأدب الثيوصوفي أظهرت بوضوح العملية الحدسية والتأملية والإستبطانية التي نحتاج تبنّيها لتحملنا قدما الى ما وراء النقطة التي تصل بها العلوم الى طريق مسدود. هذا الاتجاه حتما يقودنا الى مسار وُصف بـ "التحقيق الروحاني". لسوء الحظ ان النجاح الساحر والمذهل للعلوم وربيبتها "التكنلوجيا" في الأوقات الأخيرة، أعطى انطباعا زائفا (خاصة لجيل الشباب) بان العلم "يعرف كل شيء" وانه تمكّن من كل الطبيعة، وان الكون بأكمله يمكن توضيحه وفهمه من خلال العلم وحده. بعض المتحمسين بافراط ومن العقلانيين ايضا عززوا هذا الانطباع. في هذا المقال سنطرح بعض المحاولات لكيفية ردم الفجوة بين العلم والروحانيات وكيفية التوفيق بين الاتجاهات الاستنتاجية/الاختزالية و البديهية/التأملية. سيتم التركيز على اهتمام العقلانيين الصادقين والمنفتحين بان هناك حقا عنصر هام للحقيقة يفتقده العلم؟

هذه المقالة لاتتحدث لا عن انموذج تيار العلوم السائد ولا عن الخصائص الاساسية للتحقيق الروحاني، وانما تفحص مختلف الجهود التحقيقية الحالية التي تكمن في منطقة التفاعل والإلتقاء بين العلم والروحانيات.

فيزياء القرن التاسع عشر،"الكالفينيون والمادية

يمكن تحديد ثلاث حقب زمنية في تقدم العلوم:

1- ما قبل القرن السادس عشر او "العلم القديم" والذي جرى اتّباعه كجزء من دراسة الفلسفة الطبيعية.

2- فترة ما بعد القرن السادس عشر او فترة فيزياء نيوتن.

3- ما بعد اينشتاين/النسبية/فيزياء الكوانتم او فيزياء القرن العشرين.

في نهاية القرن التاسع عشر،سيطرت فيزياء نيوتن او الفيزياء الكلاسيكية او الميكانيكية على التفكير العلمي فاتحة الباب لعصر "المادية". العلماء ادّعوا انهم فهموا كل ما في الطبيعة بمساعدة لغة الرياضيات. عندما عبّر الشاب ماكس بلانك عن رغبته للعمل بحقل الفيزياء تلقّى نصيحة بالعمل في التجارة كونها أفضل له من العمل بالفيزياء لأن الأخيرة لم يعد فيها شيء لم يُكتشف بعد. الفلكيون يمكنهم ان يصفوا بدقة حركة الكواكب حول الشمس والتنبؤ بالخسوف، المهندسون يمكنهم تصميم جسور عملاقة وناطحات سحاب وبناء سفن ضخمة مصنوعة من الستيل، يمكنهم إنشاء محركات بخارية قوية لسحب قطارات الشحن الطويلة وصنع بنادق مميتة وقنابل. ساعات مصممة بشكل معقد يمكنها قياس الوقت بدقة. الكهرباء جرى توليدها من السدود ومحطات إحراق الفحم لسحب عجلات الصناعة، بينما اختراع اديسون للمصباح الضوئي أضاء كامل المدن. النفط الخام كان قد اكتُشف توا وتم وضع الأساس لصناعة كيميائية مزدهرة. ظن العلم بان الكون كان في الأساس ساعة عملاقة يمكن قياس تقدمها بدقة والتنبؤ باستعمال قانون نيوتن في الحركة، وقوانين الديناميكا الحرارية ومختلف قوانين الكيمياء ومعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية التي توضح كل شيء. المؤسسة العلمية كانت مقتنعة بان البشرية سيطرت على كل الطبيعة. أحد أكبر المؤيدين لهذا النوع من التفكير كان اللورد كالفن الفيزيائي اللامع الذي بفضله نقيس الحرارة المطلقة للجسم بوحدات من درجات كالفن يوميا. لكن هذا النوع من "التفكير المتغطرس" يوصف الآن "كالفيني" لأننا الان نعرف ان الفيزياء لايزال امامها طريق طويل في التحقيق لحل أسرار الطبيعة. كانت هناك حاجة لولادة فيزياء نواة الذرة ومفهوم المساواة بين الكتلة والطاقة الذي يُفترض ان يرسل موجات صادمة حول العالم .

ثورة الكوانتم في القرن العشرين

شهد القرن العشرون ظهور كل من النسبية وفيزياء الكوانتم. بدءاً من تجارب ماكس بلانك في الإشعاع عام 1900، والنظرية النسبية الخاصة لاينشتاين التي أسست الزمن كبعد رابع، ثم تطور نظرية الكوانتم لتوضيح نموذج بوهر الذري المتّبع وفق مفهوم ثنائية الجسيم-الموجة، ومبدأ اللايقين لهيزنبيرغ وغيرها، حتى بلوغ الذروة في الملاحظات التجريبية المدهشة لـ "الجسيمات المتشابكة"، اصبحت الفيزياء الآن تقبل بـ اللامكانية (non locality) كحقيقة للطبيعة. هذا غيّر كليا موقف الفيزيائيين تجاه الروحانيات. النسبية وفيزياء الكوانتم كانا مؤثران جدا في جعل العلم أقل مادية رغم حقيقة ان مناصري النسبية (اينشتاين) وفيزياء الكوانتم (خاصة نيلز بوهر) كانا في تخاصم مع بعضهما حتى وفاة اينشتاين. في هذا السياق قد يتذكر القرّاء عبارة اينشتاين الشهيرة "الله لا يلعب النرد ". وبعد مجيء فيزياء الكوانتم، كان هناك قليل من الحافز لدى علماء بارزين، خاصة الفيزيائيين، في متابعة الدراسات المتصلة بالروحانيات كتلك الذي ذاع صيتها بفعل أعمال شرودينجر و فريتجاف و كابي و روجر بنروز و بول ديفس و ديفد بوهيم. ونفس الشيء كانت هناك ايضا ثورة في البايولوجي وعلوم الحياة (DNA، الشفرة الوراثية)، خلقت اهتماما متجددا في الأسئلة الروحانية.

يُقال ان "الموضوعية" هي حجر الزاوية في المنهجية العلمية خاصة الفيزياء الكلاسيكية التي تؤكد على قابلية الفصل بين المراقِب والمراقب. هناك افتراض ضمني أساسي متأصل بان توجد هناك "حقيقة مستقلة عن المشاهد" وان فعل الملاحظة لايشوش الشيء الذي تجري ملاحظته. هذه الخصائص المفترضة للاتجاه العلمي كانت العقيدة الأساسية لفيزياء نيوتن لكنها لم تعد صالحة لعصر ما بعد الكوانتم. خاصة في المسائل المتعلقة بعالم الذرات المجهرية والجسيمات الأساسية.

من غير الواضح ان كان لايزال من الملائم القول ان هدف العلم هو فهم الواقع. من الملائم القول ان فهم الواقع كان الهدف الأصلي للعلم عندما بدأ المشروع العلمي أول مرة. ولكن ربما من الملائم اكثر القول الآن ان العلم اليوم هو اكثر اهتماما باشتقاق نماذج رياضية تصف وتتنبأ بسلوك الانظمة الفيزيائية اكثر مما تسعى لإعطاء وصف مفاهيمي للواقع. يبدو ان الطبيعة تتبع شكلا غريبا من المنطق(او اللغة) تطور بفعل الانسان نشير له بـ "رياضيات". الفيزيائي بول ديفس في كتابه (ذهن الاله) وآخرون ركزوا على سبيل المثال على "الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية". غير ان النماذج الرياضية والنظريات ليست مقدسة وانما عرضة للمراجعة المرتكزة على ملاحظات جديدة. العلوم اليوم هي راضية تماما بالنماذج النظرية القائمة التي توضح الملاحظات التجريبية وتتنبأ بالسلوك المستقبلي للأنظمة الفيزيائية في ظل مجموعة جديدة من الظروف، وهي أقل اهتماما بالأسئلة حول ما اذا كانت النماذج الرياضية لها أي علاقة بالواقع .

الظواهر الخارقة والعلم الهامشي

كانت الملاحظات أكّدت مبكرا بان "تيار العلم السائد" يبدو تجاوز كليا مظاهر معينة من الواقع. الظاهرة بان العلم غير قادر على الفهم والتوضيح سميت بالخوارق او فوق الطبيعة او الظاهرة النفسية. التحقيق العلمي بمثل هذه الظواهر يقع تحت فرع من العلوم يسمى "التخاطر" parapsychology. هناك مؤسسة للتخاطر مرتبطة بالمؤسسة الامريكية لتقدم العلوم. يبدو ان المؤسسة العلمية السائدة كانت متسامحة علنا مع البحوث في هذه العوالم الغامضة ولكن في التطبيق نجد غالبية علماء التيار السائد يصفون البحث بمثل هكذا مواضيع بـ"العلم الزائف" او "العلم الهامشي" fringe science. من بين العديد من الكتب الحديثة التي لخصت المكانة الحالية للتحقيقات العلمية للظواهر الخارقة، كان كتاب دين رادنس (الكون الواعي – الحقيقة العلمية للظواهر النفسية،1997)، و كلود سوانسن في كتابه (الكون المتزامن – العلم الجديد للخوارق،2003) و جون بوكري في كتابه (مواجهة بين الفيزياء والظواهر الخارقة،2005) وجميعها كانت كتابات مقنعة جدا. بعض الظواهر الخارقة التي جرى التحقيق فيها باستعمال المنهجية العلمية هي:

1- الظواهر الذهنية الشاذة و"الطاقات الخفية" وهي صفات استثنائية للذهن الانساني ( على الأقل ذهن بعض الاشخاص) مثل التخاطر والتصورات بما هو خارج الحواس، وظاهرة التفاعل بين الذهن والمادة او تحريك الشيء بجهد ذهني فقط (psychokinesis) وغيرها.

في هذا السياق يتجه اهتمام الشكاك والعقلانيين الى ثلاثة مجالات مهمة جدا من البحث. الاول هو التحقيق العلمي (وتطبيقاته اللاحقة لأغراض عسكرية) في قدرة الذهن الانساني (عُرف منذ العصور القديمة في الهند بـ ديفيا درشتي Divya-Drishti)، في الرؤية المباشرة للأشياء والاحداث والمناظر الواقعة في مكان جغرافي بعيد (وربما منفصل مؤقتا). كان هناك برنامج صُنف بالسرّي للغاية موّلته وكالة الاستخبارات العسكرية الامريكية اثناء الحرب الباردة (1972-1995)،والذي سُمي رسميا برنامج "الرؤية من بعد" Remote Viewing". ولكن اشير اليه كما معروف بـ "التجسس النفسي". استنتاجات برنامج البحث هذا الذي شارك فيه فيزيائيون في معهد البحوث العلمية SRI الدولي، كاليفورنيا، بالاضافة الى الامثلة عن "مهمات التجسس" الحقيقية المنفذة تحت الاشراف المباشر للبنتاغون (مشروع ستارغيت) متوفرة كلها على الانترنيت (الرؤية عن بُعد) في غوغل.

بالنسبة للثيوصوفيين كل هذا شيء قديم الطراز. لكن من المهم ملاحظة التماهي القوي بين الاستنتاجات العلمية المنبثقة من برنامج الرؤية من بعد  وملاحظات ليدبيتر في كتابه الصادر عام 1899 بعنوان (استبصار).clairvoyance.

الدراسة العلمية الثانية هي برنامج بحث تجريبي مستمر بعنوان "مشروع الوعي العالمي"(GCP) ويعتمد على سلسلة من 60 كومبيوتر شخصي، كل واحد فيه سوفتوير خاص صغير(مولّد لرقم عشوائي) تفحص "نطاق وعي جمعي" لكل العالم على مدار الساعة. تفاصيل هذا المشروع واستنتاجاته الهامة متوفرة على الموقع الألكتروني لـ (Gcp) على http://noosphere.princeton.edu..

الاستجابة الهامة والمذهلة لشبكة Gcp حدثت في 11 سبتمبر 2001 عندما ضرب الارهابيون مركز التجارة العالمي في نيويورك. في ورقة راجعت البيانات الملتقطة في ذلك اليوم فقط نُشرت في  منشورات اسس الفيزياء عام 2003 افترضت بان رد فعل متزامن لبلايين الناس الذين يشاهدون برنامج تلفزيوني عن الاحداث المتكشفة في زمن واقعي خلقت تماسكا في نطاق وعي الجماعة العالمي والذي بدوره أثّر على خصائص مولدات الرقم العشوائي.

التحقيق العلمي الهام الثالث هو العمل التجريبي الاخير للبروفيسور تيلر الذي اعتُبر أب فيزياء الطاقة الخفية. تيلر كفيزيائي متميز وبروفيسور فخري في جامعة ستانفورد، يبدو قد عثر صدفة على آلية فيزيائية اساسية بواسطتها يتفاعل وعي الانسان وربما حتى الحيوان  مع كل من المادة الحية وغير الحية. هو وصل الى نموذج نظري جديد لكنه تأملي مرتكز على تجاربه وفق "فكرة مغروسة بوسيلة الكترونية" حيث  يدّعي انه نجح في زرع "افكار ونوايا خاصة" في وسيلة الكترونية. هذه التجارب لو صمدت في اختبارات متكررة وبتوثيق مستقل فهي ستكون رائدة حقا ونذيرا لثورة علمية ثالثة. دراسات تيلر واسعة جدا ولدرجة لا تسمح بالتعامل معها كموضوع لهذه المقالة. لكن اولئك المهتمين قد يرغبون بالاطلاع على كتابه "بعض مغامرات العلم مع لغز حقيقي،2005". كانت الآلية التي يتفاعل بها ذهن ما مع آخر او يتاثر به  او بشيء آخر(تفاعل شبحي من بُعد) كما سماه اينشتاين لغزا مستمرا للمجموعة العلمية. هناك جمعية دولية للدراسة العلمية للطاقة الخفية وطب الطاقة مع مطبوعاتها،مجلة الطاقة الخفية التي اهدافها هي "تحقيق علمي في كل اشكال التفاعلات المعلوماتية والطاقية في الانظمة البايولوجية". تجارب تيلر تقترح ان الطاقات الخفية هي ايضا نوع من التفاعلات الالكترومغناطيسية، هو ادخل مفهوم  التفاعلات "المغناطيسية الكهربائية" لتوضيح ظاهرة الطاقة الخفية.

2- السؤال عن وجود محتمل للروح لا تفنى بعد الموت، ودراسة السؤال المتصل بالتناسخ الذي صُنف في التخاطر بـ "بحث البقاء". جمعية البحث النفسي في المملكة المتحدة ونظيرتها في الولايات المتحدة كانتا تحققان علميا في بقاء الروح بعد الموت منذ قرن، زعمتا الاتصال من وجودات لاجسمية عبر وسائط.

هل هناك أي صلاحية علمية للادّعاء باتصالات ما بعد الموت من "الجانب الاخر"؟. في عام 2003 في اجتماع جمعية الاستطلاع العلمي، عرض سكرتير لجنة بحوث البقاء في المملكة المتحدة تفاصيل لحالة جريمة ملفتة حُلّت في اغسطس من عام 2001 بعد 18 سنة،بعد استلام 125 قطعة من المعلومات الدقيقة المتصلة بالجريمة، يُزعم انها من ضحية ميتة. التحقيقات اللاحقة المرتكزة على تقرير وسيط قادت بالنهاية لإتهام المشكوك فيه. كذلك التقرير الرسمي لـ SPR(جمعية البحث النفسي) حول تحقيقات (سكوا) في المملكة المتحدة المنشور في ديسمبر 1999 أكّد حقيقة "وجود نطاق واسع للظواهر النفسية مثل الظواهر المرئية والسمعية واللمسية من فريق من "ارواح متصلة" عبر جماعة وسيطة. هناك مجموعة كبيرة من الاوراق البحثية والكتب تتعامل مع تجارب الاقتراب من الموت و تحقيق الادّعاءات المتعلقة بتناسخ الاطفال.

هل يمكن رفض كل هذا واعتباره غير علمي فقط لأنه من غير الممكن اكتشاف او قياس الروح الميتة باستعمال وسائل علمية او كتابة معادلة تصف تجارب الاقتراب من الموت؟. القضية المثيرة للاهتمام والتي تحتاج للتحقيق هي الوجود المحتمل للكينونات الوهمية التي اشير اليها في جميع الثقافات القديمة كالجن او الملائكة او اشياء سماوية. هنا مرة اخرى بالنسبة للثيوصوفيين ترتكز حقيقة هذا الموضوع على دراسات الاستبصار لـ  ليدبيتر و جيفري هودسن والتي اُخذ بها كمسلمات. العقلاني سيطرح سؤالا حول ما اذا كان هناك أي دليل علمي لكل هذا ام انه كله تلفيق تام من عمل الخيال؟ مع ان هذا السؤال يتجاوز نطاق هذه المقالة، لكن يجدر القول ان هذه الاسئلة جرى التعامل معها في العديد من الكتب الجديدة المنشورة في السنوات الاخيرة في هذا الموضوع.

أحد هذه الكتب ذات الفائدة للثيوصوفيين هو كتاب "الحياة السرية للطبيعة،1997" للكاتب بيتر تومبكنس، صاحب الكتاب الشهير "الحياة السرية للنباتات". مقدمة الكتاب الاول تبدأ بالاشارة لعمل بيسانت و ليدبيتر حول الكيمياء الغامضة ويستمر ليقترح ان بيسانت و ليدبيتر صحيحان جدا في وصف البناء المفصل للذرة.

استنتاج

هناك دائما عنصر من الحقيقة يمكن تحسسه مباشرة بمقدار اقل او اكثر وبمقدار من العمق عبر مستويات عليا من الوعي الانساني. هذا العنصر العالي للحقيقة يُشار اليه بالحقيقة الباطنية "inner reality". وبمقدار ما يتعلق الامر بالحقيقة الخارجية، يجب الاعتراف بانه بجانب الطريقة العلمية المعروفة،فان طريقة "العلم الغامض" في التصور الحدسي المباشر توفر فعلا طريقة بديلة ومكملة للحصول على المعرفة، رغم ان كل من هاتين الطريقتين لهما عيوبهما ومحدودياتهما. وهكذا حتى العقلانيين المشككين الذين يعتقدون ان لاشيء هناك يمكن معرفته اكثر مما يقدم العلم، اُجبروا على الإعتراف بان مختلف حقول التحقيق، أي العلم الغربي الحديث و العلم الغامض يسيران جنبا الى جنب مع الروحانية، ويكملان بعضهما البعض وكلاهما يكافحان لإعطاء صورة متكاملة للعالمين الخارجي والداخلي. وبهذا فان الحدود بين كلا المجالين من التحقيق "العلم" و "الروحانيات" تصبح تدريجيا أقل وضوحا.

 

حاتم حميد محسن

.......................

Bridging the gap between science and spirituality, Electronic Journal of sociology, ISSN: 1198 3655

للخبير سرينيفاسان (الرئيس السابق لقسم الطاقة الذرية الهندي).

 

 

 

علي محمد اليوسفتصدير: اللغة تجريد التعبير اللفظي عن المعنى الادراكي في مرجعية بيولوجيا العقل. فهل اللغة استعداد فطري موروث؟ ام هي نزوع انساني غريزي مكتسب بالتجربة الحياتية ومؤثرات البيئة والمحيط وقبلهما العائلة لغرض ادامة التواصل الدائم بين النوع الواحد البشرالذين يربطهم العيش المشترك؟

اللغة البيولوجيا والفطرة

نرى الامر واقعا انثروبولوجيا طبيعيا حينما نعتبر فهمنا اللغة البشرية على انها (موضوع بيولوجي)، رغم خاصية اللغة التجريدية الغالبة على البيولوجيا. على الاقل بما تذهب له النظريات العلمية في دراسة وظائف مكونات الدماغ. وليس مباحث الفلسفة على السواء التي ترى موضوع اللغة بالتفسير البيولوجي مصدره الرؤية الذاتية لاختراع تصنيع كل فرد لغته الخاصة به كسلوك مجتمعي في محكومية اشتراطات عديدة منها فطرية واخرى بيئية مكتسبة في تكوين ما يطلق عليه عالم اللغات جومسكي (النحو الكلي) الذي يجمع قواعد اكثر من لغة واحدة.

اللغة تولد استعدادا فطريا بيولوجيا عضويا ناتج تطور حنجرة الطفل الوليد الانسان باختلافها عن حنجرة الحيوان على مدى احقاب زمنية سحيقة في التطور الانثروبولوجي. فاللغة اخترعها الانسان تواصليا في تقليده اصوات الحيوانات والتي اختلفت عنها لدى الانسان على انها اصوات ذات معنى تواصلي محدد مع عدد من الاختلافات التي سنمر بها سريعا لاحقا في فرادة لغة الانسان.

ربما يذهب تفكير البعض ان صيحات انواع الحيوانات هي ايضا ذات معنى تواصلي يجمعها في درء الخطر عن نوع تلك الحيوانات وفي نداءات صيحات الحيوان من اجل اشباع غريزته الجنسية التي تكون عادة موسمية بخلاف عملية الجنس لدى الانسان التي تكون حاضرة على الدوام. وهو تساؤل وجيه والاجابة عليه ان تطور حنجرة الانسان الصوتية جعلته يهتدي الى اختراع نوع من الابجدية الصورية اللغوية بينما بقيت حنجرة الحيوان لا تمتلك الخاصية التعبيرية اللغوية في الوصول الى شكل صوري معين يحمل دلالة صوتية يفهمها النوع والسبب وراء ذلك ليس في انثروبولوجيا تطورات الطبيعة وانما السبب يكمن في ذكاء الانسان النوعي بما لا يمتلكه الحيوان..

الفرق بين لغة الانسان ولغة الحيوان

في مطالعتي مقالة الباحث مصطفى بن الزهرة على موقع كوكل نت خرجت بالتالي بتصرف مني: اللغة سواء عند الانسان او عند الحيوان انما تكون لاشباع رغبات وحاجات مختلفة يحتاجها الجسم. كما ان الرمزية الدلالية اللغوية اي الابجدية الصوتية تختلف بين الانسان كما هي تختلف عند الحيوان. فلغة العربي هي غير لغة الفرنسي، كذلك صيحات القرود هي لغة تختلف عن صيحات الاسود او النمور.اما عن الاختلافات بين لغة الانسان عنها عند الحيوان فيمكن اختصارها بالتالي:

- لغة الانسان مكتسبة من البيئة والمحيط بخلاف لغة الحيوان الفطرية الطبيعية غير المكتسبة. (طبعا هذا ينسجم مع وجهة نظري في متن هذه المقالة، ويقاطع تماما منحى التوليد الفطري الذي يربط الفعالية اللغوية بالسلوك النفسي اللفظي وملكة التوليد اللغوي التي يحوزها الانسان كخاصية بيولوجية عقلية.).

- لغة الانسان واعية بينما لغة الحيوان طبيعية عفوية. (الحقيقة الثابتة التي مررنا عليها تقول كما هي لغة الانسان قصدية لتحقيق هدف او اشباع حاجة غريزية كذلك هي عند الحيوان، والفرق لا يكون باللغة بل بالوعي الذكي. ولا يعني هذا ان الحيوان لا يمتلك وعيا بل يمتلكه بحد ادنى من خصائص ما يمتلكه وعي الانسان من خصائص متعالية تقوم على ذكاء العقل البشري).

- لغة الانسان ابداعية تتسم بالتنسيق الجمالي المفتوح على أطر وفضاءات وعي الحياة بينما هي عند الحيوان عفوية ساذجة. (لانعدام خاصية الذكاء والوعي بالزمن وفقدان الحيوان ملكة توليدية افكار لغوية تعمل على تطوير لغته).

- لغة الانسان متطورة بالتقادم الزمني بينما تكون لغة الحيوان لا تتقبل التطور لانها لا تدرك حاجاتها المستقبلية له . طالما انها تحقق هدفي التواصل النوعي في مجموعاتها وهدف التكاثر النوعي معا.

اصل اللغة انثروبولوجيا

اللغة في تطورها وصلت قبل 300 عام ق. م الى ابجدية مقطعية صورية وليست ابجدية حرفية (من الحرف) اخذت شكل تدوين صوري تفهمه مجموعة من الاقوام ولا تولد اللغة فطرية يمتلكها الطفل بالولادة كما هو الحال في امتلاكه الموروثات الجينية الاخرى التي توصل معرفتها علم اللغة واللسانيات وعلم النفس السلوكي..الا ان هناك فلاسفة وعلماء نفس يعتبرون اللغة استعداد فطري لتعلم اللغة وهو صحيح اذا ما كان مرادفا لا يعني الفطرة الموروثة خالصة كما في امتلاك ملكة العقل.

يعتبر التدوين الابجدي الصوري الصوتي في لغة السومريين والفراعنة والصين والهند يمثل بداية تاريخ دخول الانسان في مرحلة صنعه الحضارة الانسانية التي يرجعها علماء الانثروبولوجيا الى نهايات العصر الزراعي الذي بدأ 7500 ق.م وشهد بروز الاديان الوثنية. كما ويطلقون على تاريخ ما قبل التدوين هو تاريخ اللاتاريخ للاقوام البدائية (الاثنولوجيا) التي نعرف لاتاريخها غير المدون اليوم في اركيولوجيا الحفريات الاثارية وليس بالكتابة التي لم تمكن معروفة تدوينيا.

اعتقد اوضحنا التفريق بين اثنولوجيا الاقوام البدائية التي لا تمتلك بقايا كتابات بسيطة لذا تكون الحفريات الاركيولوجية هي الاساس الذي يعتمده المؤرخين في دراستهم لتلك الاقوام البدائية، بينما انثروبولوجيا العصر الزراعي امتازت بمعرفة ظهور الكتابة المسمارية في العصر النحاسي الاول يرافقها بروز الطقوس الوثنية الدينية.

نظرية جومسكي في النحو اللغوي الكلي

 اللغات التي اخترعها الانسان عبر العصور تجاوز المئات وربما تصل عشرات الالوف اليوم واكثر اذا اضفنا لها اللهجات العامية الخاصة بكل مجموعة بشرية حتى لو كانت صغيرة تعيش في كنف لغة شعب اشمل من لهجات الاقليات التي تتعايش معها. ولكل حرف في لهجة عامية او لغة شعب اكتسبت بمرور الاستخدام التداولي مجتمعيا قواعد نحويه ثابتة مستقرة لدى بعض الشعوب هو ابجدية صوتية مختلفة عن غيرها من لغات شعوب وامم العالم.

لذا اللغة وليد استعداد فطري يكتسب كامل تمام بنيته الابجدية وقواعده النحوية من العائلة والمجتمع ومراحل التعليم الدراسي وفي قراءة الكتب ليتوقف على نحو لغوي من القواعد والاحكام الصرفية والبلاغية ورسم دلالة الحرف الصائت وغيرها لا يشابه غيره في لغات اخرى.. ولا يمكن تداخل لغة مع اخرى بالاندماج في احتواء الاشمل للمحدود من اللهجات اللغوية. وهذا لا يشبه تداخل مفردات لغوية مع مفردات اخرى قد تقترب في الابجدية وتختلف بالمعنى، وربما العكس واردا.

واللغة ليست حوارا تواصليا سيسيولوجيا فقط عند اصحاب السعي نحو ايجاد نحو كلي جامع لاكثر من لغة واحدة في محاولتهم تسهيل قواعد بعض اللغات. ولا هي فعالية ادراكية تبدا بالحواس وتنتهي بالنفس كما تذهب له المدرسة السلوكية اللفظية الامريكية في علم النفس والتي يعتمدها جومسكي بتفرد نقدي خاص له عليها اطلق عليه القابلية الفطرية التوليدية في تعلم اللغة. بينما يرى الاخرون اللغة موضوعا بيولوجيا عقليا يرتبط بوظائف المخ وتخليقه الفكرالادراكي والوعي بالموجودات في صور تجريد اللغة التعبيرعن تلك المدركات.

إنكار بعض فلاسفة اللسانيات ان اللغة ليست تخليقا ادراكيا استبطانيا على صعيدي التعبير عن موضوعات الخيال ومخزون الذاكرة ولا في التعبير عن موجودات العالم الخارجي المادية وظواهره لكن هذا لا يلغي حقيقة العلم في تاصيل السمة العضوية البيولوجية لانتاج العقل للغة انثروبولوجيا. ولا يمكن فصل اللغة عن تفكير العقل. اللغة ليست ماهية فكرية مغلقة للعقل، بل هي خاصية انفرادية منفتحة للعقل. بمعنى اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي إحدى خصائص العقل الانفرادية من مجموع خواص عقلية لا يمكن حصرها.

من المهم التنويه ان تفكير العقل استبطانيا جوانيا في مواضيع خيالية لا يختلف عن التفكير في تعبير اللغة عن المدركات الخارجية في العالم الخارجي. فالتفكير العقلي في كل احواله الادراكية المادية والخيالية هو تجريد لغوي يقوم على ابجدية الاصوات في شكلها الصوري الذي يتمثّل الاشياء والمدركات المادية في نفس آلية التعبير التجريدي الصوري لمواضيع الخيال والمادة على السواء.

بمعنى اللغة من حيث ايصالها المعنى في كتابة قصة بالادب هي نفسها اللغة المعبّرة عن وجود ازهار في حديقة. ففي الحالتين تكون اللغة تفكير عقلي تجسده اللغة من حيث الآلية التي تقوم على ثنائية الادراك الحسي والخيالي في التعبير اللغوي عن تلك المدركات..فمثلا حين يريد شخص وصف الحالة الجوية فهو يستعمل لغة تجريد هي نفسها في ابجدية تجريد كتابة رسالة من حيث آلية رصف الحروف والكلمات والجمل في التعبير عن المعنى. وطبعا من المحال ان تكون ابجدية لغة عربية هي نفسها ابجدية لغة فرنسية او انكليزية.

يرى عالم اللغات الفيلسوف نعوم جومسكي ان اللسانيات يجب ان تخضع كما هو العلم الطبيعي الى منهج التجريبية، وان اللغة ليس منشأها التوليدي البيولوجيا العضوية الناتجة عن تركيبات فسلجة وظائف اعضاء محتويات وتكوينات المخ في منظومة الخلايا العصبية التي هي فعل تخليق بيولوجي صادر عن بعض مناطق تكوينات المخ المرتبطة بخاصية كهربائية عصبونية تصدرها الخلايا العصبية كردود افعال استقبالية للمخ او ردود افعال انعكاسية صادرة عنه تجاه مدركاته.، وانما القول اللغة فعالية ادراكية تقوم على البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها وليس في امتثالها لقيود الفلسفة كما يرغب جومسكي ذلك. فهي مسالة تنسف الطريق المسدود الذي قطعته فلسفة اللغة ونظرية المعنى. طريق فلسفة اللغة المسدود هو في اعتبارهم النسق اللغوي هو نظام محايد يوازي واقع الحياة ولا يقاطعه.

ديكارت وماهية اللغة

كما يرفض علماء اللسانيات ومنهم جومسكي بيولوجيا اللغة التي تبدأ بوعي المدركات الحسية ومواضيع المخيلة الذاكراتية وتنتهي بعضوية بايولوجيا علاقة العقل بالجسد التي يجدونها علاقة معقدة ممثلة في تداخل السلوك النفسي للغة مع الخاصية التجريدية لتعبير اللغة عن العالم المادي والعالم الخيالي على السواء..

أي اللغة هي ليست محدودية ماهوية في تجريدها تفكير العقل وفي التعبيرلغويا عنه الذي وصفه ديكارت العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته التفكير الادراكي في معرفة العالم الخارجي ولا تربطه علاقة تخارجية بالجسد. ديكارت عزل تفكير العقل اللغوي عن بيولوجيا الجسد الفاني. بمعنى موت الجسد لا يلغي خلود العقل غير الفيزيائي المجرد. هنا اعتبر ديكارت لغة العقل هي ماهية العقل في خاصية التفكير الخالد الذي لا يموت بموت الجسد.

هذا العقل التجريدي والذي تطلق عليه فلسفة اللغة الخطاب او اللوغوس. هو حسب توصيفات ديكارت العقل القائم جوهره على تجريد جوهر اللغة وليس على جوهر بيولوجيا العقل ذاته. وليس هناك من علاقة عضوية بيولوجية تربط تجريد اللغة بالمخ والاعصاب والحواس. اي اللغة ليست موضوعا بيولوجيا كما يقول به اليوم جومسكي وعلماء اللسانيات اللفظية السلوكية. هذا يقودنا الى أن اللغة آلية تقوم بها الحنجرة واللسان من دون مرجعية بيولوجيا العقل.

من المعلوم جيدا أن ديكارت يعتبر العقل هو الجوهر غير الفيزيائي الذي يلازم النفس بعدم الفناء وخلودهما (العقل والنفس) بعد فناء الجسم عضويا. ديكارت عندما يقول خلود (النفس) انما كان يقصد او لا يقصد مرادفها (الروح). والا لم يكن سقط في تعبيره النفس جوهر خالد. النفس رغم استدلالية التعبير عنها بالسلوك النفسي القصدي لاشباع حاجات بيولوجية بتجريد لغوي الا أن النفس موضوع بيولوجي يختلف عن الروح التي هي مفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا التحقق منه.

النفس في علم النفس التجريبي ظاهرة استبطانية وجدانية تحكمها الرغبة في اشباع حاجات الجسم النفسية وترتبط عضويا تجريديا بالعقل وترجمة السلوك لها يمكن ادراكها ولا يعاملها علم النفس على انها روح خالدة كما يصورها لنا اللاهوت الديني. مصطلح الروح لا معنى له خارج التصورات الميتافيزيقية الغامضة التي تستوعبها بالحديث عنها وحسب وتعجز تفسير ماهيتها.

 ديكارت تغاضى عن معاملة النفس سلوكا فرديا ضمن مجتمع كما هو دارج في ابسط ادبيات علم النفس. والنفس ممكن اخضاعها لتجارب علم النفس كما تفعل العلوم الطبيعية بتجاربها وقال ديكارت بخلود النفس والعقل. كونهما جوهرين من التجريد الذي يفارق فناء الجسد العضوي.

الصوفية في الاديان الوثنية البوذية والهندوسية والزرادشتية لا يؤمنون بالخلود لذا نجد الحلول النفسي الصوفي في موجودات الطبيعة عندهم هو تجسيد النفس – الروح ولا فرق بينهما. مذهب وحدة الوجود يعتبر الحلول النفسي في موجودات الطبيعة هي تجسيد عظمة نظام الكون لا فرق ان يكون خالقا او مخلوقا. غالبا ما يستخدم صوفيي الاديان الوثنية تعبير الروح عوضا عن النفس رغم التعالق الازدواجي الذي يجمعهما.

تجزيء العقل بما يلغي ماهيته التجريدية اللغوية يلغي بيولوجيا العقل – الجسد، ويلغي بيولوجيا اللغة - السلوك. كما يلغي بيولوجيا العقل التوليدي للغة المكتسبة عن المحيط والاسرة ومراحل التعليم، والغاء العلاقة التوليدية اللغوية ان لا تكون لها رابطة بالفلسفة بل رابطتها الحقيقية بالبصيرة التفسيرية كما يذهب له جومسكي. وهي نظرية نراها تحتاج العديد من الاسانيد. (تنظر مقالتنا المنشورة على صحيفة اوروك بعنوان: نظرية السلوك اللفظي اللغوي ومواقع عربية عديدة).

اللغة جزء أو مبحث من مباحث علوم اللسانيات، والفلسفة كمنهج معرفي رغم احتشادها بمختلف شؤون المعرفة والطبيعة واللغة والحياة والانسان، مثل علم النفس، البيولوجيا، الانثروبولوجيا، والابستمولوجيا، والتاريخ، والوعي الفطري والوعي المكتسب والسلوك وغيرها من مباحث فلسفية يجعل من تواصل وشيجة اللسانيات بفلسفة اللغة اقوى من تلك التداخلات التي مررنا بها. بمحكومية جميع تلك التداخلات وغيرها هي مباحث متعالقة بالفلسفة في اوثق الاواصر منها فلسفة اللغة.

بعيدا عن اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن الفلسفة على حد تعبير جومسكي. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو نحو الفردانية في الفهم الا اننا من المهم ان لا نجعل البصيرة النافذة تغلب على الوصاية العقلية في تفسير معنى اللغة وتعالقاتها بغيرها من حلقات منظومة العقل الادراكية.

البصيرة الحدسية التفسيرية لا يمكنها اختزال العقل في الادراك التجريدي الذي وسيلته الوحيدة هو تعبير اللغة. كما ان العقل يعامل اللغة على انها اصوات تعبيرية عن معاني الاشياء المادية وموضوعات الخيال التي يدركها.

صحيح الفلسفة ليست المنهج التقليدي الوحيد في تفسيره قضايا اللغة ومباحث علوم اللسانيات الا انها الارجح والاقرب اكثر من غيرها مثل اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن مباحث الفلسفة في فلسفة اللغة. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو منحى الفردانية كما ذكرنا الا انها لا يمكنها اختزال ادراكات العقل في تجريد تعبير اللغة عما نريده. البصيرة التفسيرية حشد استقبالي لمعاني مدركات تعبير اللغة، بينما العقل هو تخليق عضوي بيولوجي للغة. ونحصل بالاخير على نتيجة موضوع اللغة بيولوجيا وليس موروثا فطريا.

فريدريك سكينر ومباديء السلوك اللفظي

 سكينر فيلسوف وعالم نفس امريكي 1904 - 1990 حاول دراسة ترابط علم اللغة بعلم النفس. وعمل استاذا في جامعة كامبريدج الامريكية. عضو الجمعية الامريكية للفلسفة. برز سكينر رائدا لهذا الاتجاه حين أصدر كتابه "السلوك اللفظي" وكان الكتاب يعتمد تداخل صوت اللغة مع السلوك اللغوي في مرجعية علم النفس في السعي الوصول الى اثبات عدة فرضيات نظرية فلسفية لغوية هي:

- تركيز الاهتمام بالظاهر الخارجي من اللغة (الصوت - الكلام) فقط ومعاملتها حالها حال أية ظاهرة سلوكية أخرى ترتبط بعلم النفس . 1

- اهمال دراسة المعنى اللغوي على إعتبار ان المعنى ليس مظهرا خارجيا يمكن النظر فيه والتحقق منه كموضوع مستقل بالمنهج العلمي التجريبي كما يجري في دراسة موضوعات ونظريات العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة. 2

هنا لا بد من التنويه أن علماء السلوك اللفظي اللغوي حين أهملوا جانب المعنى في اللغة، فهم جردوها من أهم مقوماتها وأهم اهدافها الحياتية المتفرعة عنها وهي عديدة لا حصر لها. في مقدمتها يأتي مهمة التواصل وتعطيل تبادل إكتساب المعرفة العلمية بانواعها وكذلك تعرية اللغة من قواعد النحو والصرف والاشتقاق وغيرها الخاصة بكل لغة مكتوبة تمثل خاصية انفرادية لشعب من الشعوب او امة من الامم.. في السعي نحو الوصول لما اطلق عليه جومسكي (النحو الكلي) الجامع لخصائص نحوية لاكثر من لغة واحدة.

ركز اللغويون السلوكيون على اللغة المنطوقة (الصوت – الكلام) واهملوا المعنى في اللغة المكتوبة إهمالا كبيرا، وصّبوا جلّ إهتمامهم على نظام اللغة الصوتي وإعتبروه المظهر الاساس باللغة. 3

كما إهتموا بالصوت كمظهر خارجي وحيد يمكن إعتماده بدراسة اللغة في مقارنتها بظواهر صوتية في لغات أخرى محاولين الوصول الى قواسم مشتركة تجمع بين لغات مختلفة في نحو توليدي خاص يجمع اختلافاتها النحوية ويعمل على تيسير سهولتها التداولية وهو ما يطعن الهوية الوطنية للشعوب التي تجد لغتها القومية الخاصة قد انصهرت وذابت في معترك ما يسمى النحو الكلي الجامع لاكثر من لغة.. لم يول(ي) علماء لسانيات السلوك اللفظي وفلاسفة الفطرة التوليدية في اكتساب اللغة كثير اهتمام أن اللغة كائن انثروبولوجي حاله حال الانسان بمجموعته الكينونية الموحدة يتطور ويتغير باستمرار.

جومسكي ومبحث النحو التوليدي

تلقى كتابات جومسكي في اللسانيات والسياسة ومختلف مباحث الفلسفة رواجا غربيا كبيرا في الجامعات الامريكية والعالمية، والشيء المهم انه انبرى العديد من علماء اللسانيات وفلاسفة العقل واللغة الدفاع عن سقطة جومسكي اعتباره اللغة فطرية بالكامل ويرجع له الفضل في اكتشافه النحو الكلي. ويفهم من هذا ان النحو التوليدي الجامع لأبجدية اصوات اللغات المختلفة كانت موجودة واكتشفها جومسكي ولم يخترعها من عنده وهي مغالطة اقبح من ذنب. ويعزو جومسكي سبب ايمانه بالنحو الكلي يعود الى استعداد فطري لدى الطفل في تعلمه اللغة. وتدارك بعض علماء اللسانيات الانجليز قولهم ان هذا المفهوم سبق لهم ان قالوا هم به.

لا اعتقد جرى في مباحث فلسفة اللغة التفريق بين الاستعداد الفطري لدى الطفل تعلم اللغة هل يعود لموروث عضوي تكويني في تمايز حنجرة الانسان وتوافقها الوظيفي مع اللسان في نطق ابجدية اصوات اللغة باختلاف عن الحيوان.؟

أم الاستعداد الفطري في تعلم اللغة الذي يؤيدونه جومسكي واتباعه انه لا علاقة عضوية بيولوجية تربط التعلم بالوعي العضوي العقلي، وانما يرثه الانسان كما يرث الخصائص الجينية الموروثة التي اكتشفها العلم؟ وعلى البصيرة التفسيرية حسب جومسكي تحقيق البرهنة في اكتشاف التفسير التجريبي حاله حال اجراء التجارب على اية قضية علمية.

إرجاع الاستعداد الفطري لتعلم اللغة الى ملكة تجريد صوتية غير عضوية خطأ سبق وان قال به ديكارت حين اعتبر ماهية وخاصية التفكير العقلي تجريد غير فيزيائي لا علاقة له بالعقل العضوي (المخ). وبنى على هذا الخطأ تصوره الخاطيء الآخر أن لا علاقة تربط بين ازلية جوهر العقل التفكيري وخلوده مع النفس ولم يقل الروح بعد مغادرتهما الجسم الفاني المتفسخ عضويا بعد الممات.

تعامل ديكارت قوله العقل والنفس جوهرين خالدين لا يفنيان بعد موت الجسم خطأ جسيم لا يفرق بين تجريدية الادراك العقلي الذي مرجعيته لا فيزيائية ولا عضوية – وهو محال – وبين ماهية العقل التجريدية لغويا في مرجعية تكوينه عضو بيولوجي يستقر في جمجمة الانسان ويفنى بفناء الجسم.

الحصيلة التي لم يتقبلها ديكارت تحت سطوة التماهي مع سلطة ونفوذ رجال الدين وقتذاك القرن السابع عشر أنه لا بد من التسليم بوجود خلود بعد الموت وفناء الجسد. فاختار ديكارت اهون الشرين امام اللاهوت الذي يرى الروح خالدة ولم يقل النفس. ولما كانت الروح مصطلحا لاهوتيا تقاطع نزعته العلمية التجريبية قال بالنفس الخالدة.

لا يوجد ما يثبت لنا ان العقل والنفس جوهران لا يفنيان بفناء الجسم. اللغة في جميع تحولاتها الاستبطانية في تعبيرها عن موضوعات الخيال وفي ادراكاتها عالم المادة الخارجي هي اولا واخيرا تجسيد لعلاقة عضوية تربط اللغة بتفكير العقل ولا حتى ترتبط بتفكير الذهن خارج تعالق الذهن بوصاية العقل عليه. البعض ينسب للذهن خاصية تفكيرية مستقلة ايضا لا علاقة عضوية تربطها بالعقل. وغالبا ما يعبّر عن الذهن هو العقل.

اكرر نفس العبارة التي سبق لي ذكرها ان اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي خاصية عقلية واحدة من جملة ما لا يحصى من خصائص عقلية تربط علاقة الجسد بالعقل بيولوجيا.

فهم اللغة بدلالة علاقة العقل بالجسد

يصر جومسكي اعتباره اللغة ليست موضوعا بيولوجيا ويتغاضى عن حقيقة " ان الرؤية الذاتية للغة تدخله في حقل علم النفس – كما اشرنا له سابقا – وفي نهاية المطاف يدخل حقل علم الاحياء (البيولوجيا) ما يرتب على ذلك وجوب تحليل اللغة عن طريق منهجية العلوم الطبيعية التجريبية وهو ما لا يقبل به جومسكي "4

هذه الاشكالية التي ينكر طبيعتها المنهجية جومسكي يقودنا الدخول في معضلة علاقة العقل بالجسد "وكيف يستطيع ما هو تعريف – مجازي خيالي تجريدي للعقل لا مادي ممثلا بتفكير العقل اللغوي – تحريك ما هو مادي الجسد في تكويناته البيولوجية؟

امام هذه الاشكالية التي زامنت الفلسفة يعترف جومسكي بتشائمه من حل هذه المعضلة التعالقية بين العقل والجسد في توسيط اللغة. ويعزو الحل الى وجوب توفر امكانية التوصل لحل علمي متى ما يتحقق لنا التفريق بين استعمالنا اللغة كمقابل معرفتنا ماهية اللغة.

اود تثبيت الملاحظات التالية:

1- ارى ان تجريد اللغة من انثروبولوجيتها وجيناليوجيتها في التاصيل البيولوجي من تاريخ اختراع ونشأة اللغة، يقود الى العلاقة الاشكالية بين العقل والجسد. وعلاقة اللغة بالسلوك، وعلاقة النفس بالعقل، وجميع هذه التجليات الاشكالية تدور بالمحصلة حول المشكلة وليس الدخول في حل واف يستطيع البرهنة على ان اللغة استعداد فطري موروث وليس موضوعا بيولوجيا.

2- بنفس هذه الآلية في تاصيل اللغة بيولوجيا، بما يعزز مباحث علوم الانثروبولوجيا والتطور التاريخي للانسان، تحيلنا حل معضلة هيمنة العقل اللامادي على الجسد المادي وتجسيد ذلك انما يكون من خلال التعالقات الوظائفية بينهما ابرزها ان اللغة سلوك انساني وفهم ادراكي للعالم.

3- الفقرة الاخيرة التي تثير تشاؤم جومسكي في استغلاقها العصي على الحل هو ما لم يتم التفريق بين استعمالنا اللغة – اي بيولوجيا اللغة السلوكي – وبين اعتبار ذلك مرادفا لمعرفتنا ماهية اللغة، نجدها لا تمثل اشكالية فالاستعمال الوظائفي للغة هو الذي يمنحنا معنى اللغة بالحياة .

 

علي محمد اليوسف /الموصل

...................................

الهوامش:

 نعوم جومسكي: افاق جديدة في دراسة اللغة والعقل ترجمة عدنان حسين .

هوامش 1،2،3،4 الصفحات 19 - 21

 

علي رسول الربيعيتمثل الديمقراطية قمة للفلسفة السياسية، يرتبط فهمها ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الاجتماعي. لذلك من المنطقي أن نسأل عن الديمقراطية في إطار الفلسفة الاجتماعية. لا يتعلق الأمر هنا بمسألة إلقاء الضوء فلسفيا على أسئلة محددة ومفصلة عن تصميم النظام الديمقراطي، بل بالأحرى بالأسس الاجتماعية الفلسفية للديمقراطية. وذلك من اجل فهم  ماتعبر عنه هذه الأسس للتواصل السياسي (الإجماع مقابل الخلاف)، ومعالجتها للتطورات العالمية الحالية (الدولة مقابل المجتمع العالمي) واستجابتهم للرقمنة (الرقمية مقابل التناظرية).

لقد أصبحت هذه المسائل أكثر أنتشاراليوم على خلفية القضايا السياسية الأكثر أهمية وراهنية. يبدو نموذج الديمقراطية غالبا في هذا السياق حتى يومنا هذا بوصفه أفضل شكل ممكن للحكم السياسي. ومع ذلك، فإن الظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية الحالية تتحدى الديمقراطية كمفهوم نظري وكشكل من أشكال التنظيم السياسي. تتنوع هذه التحديات مثل: تعقيد التطورات الاجتماعية في مجال الرعاية الصحية سواء في دول العالم الراسمالي او الدول الاخرى القل تطورا، ظاهرة "المواطنين الغاضبين" الذين يعبرون عن خيبة أملهم من خلال في مظاهرات غاضبة؛ أو الجهود الكبيرة التي تبذلها أغلبية دول العالم لمحاربة الأزمة المالية واثرها على حياة الناس، حيث يبدو تأثير الدولة الديمقراطية خاضعًا للقيود الاقتصادية؛ وأخيرًا الاختلاف المتزايد بين المخولين باتخاذ القرارات والمتأثرين بالقرارات في ضوء المشكلات العالمية.

أدت كل هذه الظواهر إلى فتح  نقاش حول أزمة الديمقراطية. لكن لا ينبغي المبالغة في هذه المناقشات حول الأزمة، لأن تصور الأزمة قد رافق الديمقراطية لأكثر من 2000 عام، فهي  ربما جزء من مسار الديمقراطية نفسها الى حد ما. يميز ميركل[1] بين نموذجين قويين يمثلان، إلى حد ما ، أقطاب النقاش: نموذج الحد  الأدنى ويركز على الانتخابات الحرة والمتساوية، ونموذج  الحد الأقصى الذي يدمج سرديات العدالة الاجتماعية أو المواطنة النشطة أو المؤسسات في مفهوم الديمقراطية. ففي رأيه تكون نتائج الأزمة أكبر كلما زاد فهم الديمقراطية. واستنادًا إلى كلا النموذجين، لم يكن هناك عدد من الديمقراطيات المستقرة كما هو الحال اليوم. ومع ذلك، تكمن المشكلة في أن السكان عادة ما يكون لديهم مستوى عالٍ من الثقة في الإدارة والشرطة والقضاء فقط، في حين تتعرض المؤسسات الأساسية للديمقراطية التمثيلية (مثل الأحزاب السياسية) لانتقادات شديدة. تعمل الشعوبية بشكل خاص في أشكالها المختلفة حاليًا على تكثيف هذا النقد للديمقراطية. هذه خلفيات مهمة للنقاش الذي اثيره هنا.

إجماع أم نزاع

يتعلق أول تمييز مهم للفلسفة الاجتماعية بمسألة أي شكل من أشكال التواصل السياسي له أهمية خاصة في الديمقراطية. يلعب راولز وهابرماس من ناحية، ومن ناحية أخرى، الديموقراطيون الراديكاليون مثل شانتال موف أو بتلر دورًا مهمًا في هذا. حيث يمكن لأفكارهم (على سبيل المثال المصممة أيديولوجيًا) عن الحياة الخيرة أن تكون جزءًا من العملية السياسية. كان راولز قد حدد بالفعل حقيقة التعددية كنقطة انطلاق لفلسفته، لكنه طالب بعد ذلك بأولوية الحق والعدالة على الخير، وبالتالي لم يأخذ في الحسبان الأفكار التعددية للخير أو الحياة الناجحة. إن السمات المركزية للاستخدام العمومي للعقل بالنسبة لراولز،على هذه الخلفية، هي المعاملة بالمثل والفهم العام للقناعات المقدمة.

إن المذاهب الشاملة أو وجهات النظر العالمية، بالنسبة لراولز، هي تعليمات للحياة الخيرة، لا يمكن استخدامها علنًا  أو في المجال العام إلا إذا اجتازت مرشح العقل العملي وقبلت أولوية الحق على الخير.[2] لا يمكن للمذاهب الشاملة أن تساهم بشيء ما في الخطاب السياسي إلا إذا كانت قد مرت بعمليات ترجمة مناسبة. إن رؤى العالم التي لا تريد الالتزام بحد الاستخدام العام للعقل "أو غير قادرة على التعامل معه، لا تستطيع أن تلعب دورًا نشطًا داخل مجتمع منظم جيدًا".[3]

يرى راولز أنه يمكن أيضًا أن ندع المفاهيم الاجتماعية للعدالة تتأثر بالعقائد الشاملة، لكن ينبغي تجريدها من ذلك في الخطاب العمومي ، ايً الخطاب في المجال العام. لذلك يطالب راولز بالطبيعة الملزمة لعقد افتراضي من وجهة نظر غير حزبية ويطالب بالاحترام المتبادل في الخطاب العمومي، حيث يدين جميع المواطنين لبعضهم البعض بأسباب لتفهم لمعتقداتهم بشكل عام. فالمداولات الديموقراطية، بالنسبة له، تهدف إلى إعطاء وأخذ الأسباب التي من المحتمل أن يفهمها جميع الناس وتمثل الإجماع المتداخل أو توافق الآراء المتداخلة بين هذه المواقف.

هناك أمورًا مركزية مشتركة بين راولز وهابرماس في هذا السياق حتى لو اختلفت مقارباتهما في العديد من النواحي. يدعو هابرماس على أساس أخلاقيات الخطاب التي تم تحديدها بالفعل ، إلى تبادل معقول للحجج في المجال السياسي أيضًا ، والتي تنشأ من مفهوم العقل التواصلي. أظهر هابرماس في العديد من الكتابات كيف يمكن تطبيق هذه الرؤية الفلسفية سياسيًا. إن الديمقراطية التداولية هي الشعار الذي يقف فوق هذه الاعتبارات. يريد عند القيام بذلك ، أن يميز نفسه عن المواقف الليبرالية التي تؤكد على البعد الاجتماعي بشكل ضئيل للغاية والتي من الواضح أن السياسة فيها لا تضع في الاعتبار سوى حماية أو إنفاذ المصالح الخاصة.

تسعى الديمقراطية التداولية، في المقابل، إلى إضفاء الطابع المؤسسي على عمليات الرأي وصنع القرار، والتي يشارك من خلالها أكبر عدد ممكن من الناس في المجتمع في المناقشات حول المسائل الحاسمة للعيش المشترك. يضمن المجال العام الطبيعي و العفوي واللامركزي تعددية الآراء. يتبنى هابرماس عند القيام بذلك، أيضًا، أفكارًا براغماتية من حيث اهتمامه بتنوع الممارسات الاجتماعية التي تشكل أساس العمومي، وبالتالي للحوار والتفاوض السياسي.[4]

إن الهدف من مثل هذه الإجراءات هو إجماع معقول ومتولد بشكل تواصلي. إن هذه هي الطريقة الوحيدة، بالنسبة له،لإضفاء الشرعية على القرارات السياسية من أجل تعايشنا وحث الناس على دعمها في بيئتهم المعيشية. يغير هذا شرعية الإجراءات الديمقراطية في نهاية المطاف أيضًا. لا تعني الديموقراطية - حسب هابرماس - فقط أن السياسيين المنتخبين يالذين تحكمون في العمليات الاجتماعية ، بل تعني اعتبارًا خاصًا للمجتمع المدني أيضًا.

"فلم تعد قدرت العملية الديمقراطية على إضفاء الشرعية وحدها، ولا حتى في المقام الأول، من المشاركة والتعبير عن الإرادة، ولكن من الوصول العام لعملية تداولية" التي تسمح بتوقع نتائج مقبولة عقلانيًا. يغير هذا الفهم النظري لخطاب الديمقراطية المتطلبات النظرية لشروط شرعية السياسة الديمقراطية.[5]

إن مثل هذا الفهم للسياسة القائمة على أخلاقيات الخطاب هو ماينكره الديمقراطيون الراديكاليون. ترتبط في هذه النظرية، التي تتبع بالمعنى الأوسع فلسفة هيجل الاجتماعية، خطوط مختلفة من التقاليد مثل  عناصر من ماركس أو أنطونيو جرامشي أو دريدا. تمثل النظرية الراديكالية للديمقراطية، في المناقشة الحالية، نقيضًا مهمًا للنظرية الليبرالية للديمقراطية، وسنبين  من خلال النظر في اقتراحات موف كمثال.

تتميز الديمقراطية، في تفسير موف، بطبيعة متناقضة لا يلتقطها التيار الليبرالي السائد. المفارقة هي أن الديمقراطية تجمع بين وجهين متعارضين ظاهريًا، وهما الحرية الفردية ومبدأ المساواة. وتعتبر أن التوتر بين الجانبين لا يمكن التغلب عليه حيث يمثل  وفي الوقت نفسه قوة دافعة مركزية للديمقراطية.

طورت موف جنبا إلى جنب مع إرنستو لاكلو أساسًا اجتماعيًا فلسفيًا لاعتباراتهم الديمقراطية النظرية في وقت مبكر من الثمانينيات.[6] يظهرالمجتمع فيها كشكل معقد من الخطاب،ويبدو هنا تاثرهم بمنهج  فوكو التحليلي للخطاب. لا ينشأ المعنى، بالنسبة لموف، من خلال الإشارة إلى العالم الخارجي، ولكن في الخطابات الاجتماعية والسياسية فقط. فالخطاب هو مجموع اجتماعي يتغير ديناميكيًا باستمرار. إنهم يعتقدون بسبب هذه الديناميكية وعدم القدرة على تثبيت المجتمع على معنى واحد، أن المجتمع دائمًا غير مستقر وهش. لهذا السبب توجد دائمًا حجج جديدة حول ترسيخ أو تثبيت الخطابات؛ وهذه هي السمة المركزية للسياسة.

تشرح موف هذه الاعتبارات من خلال اللجوء إلى الفلسفة السياسية ونظرية كارل شميت تحديدا، أحد أكثر الفلاسفة الاجتماعيين إثارة للجدل في القرن العشرين. فالسمة المركزية للسياسة بالنسبة لشميت، هي التمييز بين الصديق والعدو. فيتشكل المجتمع من خلال الهويات الجماعية التي تستبعد بعضها البعض بالضرورة وبالتالي تتقاتل. ينتقد شميت الليبرالية لأنها: أولاً، تركز كثيرًا على الفرد وتتجاهل تلك الهويات الجماعية، وثانيًا، تبالغ في تقدير إمكانات الاتحادات الاجتماعية.[7]

تتعاطف موف مع فهم الديمقراطية بوصفها تعددية فيما يتعلق بالنضالات السياسية، لكنها أنتقدت شميت ايضا لأن تميل أعتباراته نحو شكل شمولي للمجتمع. هذا هو السبب في أنها تدعو إلى التحول من العداء إلى نوع من الخصام بوصفها نظرية سياسة تؤكد على الجوانب الإيجابية المحتملة لأشكال معينة من الصراع، وتسعى لإظهار كيف يمكن للأفراد قبول هذا الصراع وتوجيهه بشكل إيجابي.  فترى أنه في الديمقراطيات يمكن محاربة المواقف بديلا عن مفهوم العداء؛ حيث "لكل فرد الحق في تمثيل مواقفه بشكل قوي وعاطفي. فيكون الخصم هنا عدو شرعي، يقبله المرء على الأقل موجودًا و إنه جزء مبررمن النضال السياسي.

تنتقد موف، مع هذا المفهوم للديمقراطية الراديكالية،الفهم الليبرالي للديمقراطية. فمن وجهة نظرها ، يرى مفكرون مثل هابرماس أن القليل جدًا من السياسة هو ساحة للنضال العام. إنها لا تفهم هذا الصراع على أنه صراع بين الأفراد، ولكنه صراع داخل حقائق خطابية، أيً بين علاقات القوة/ السلطة المنظمة بشكل  خطابي.

وتوجه موف نقطة ثانية من النقد إلى المفكريين الليبراليين: أذ تتجاهل النظريات الليبرالية للديمقراطية، في رأيها، الروابط داخل المجتمع. إنها تؤكد على غرار فالزر،[8] على لحظة العاطفة، التي تفسرها بوصفها محرك للعمليات الديمقراطية. "تتمتع السياسة دائمًا  ببُعد من الحزبية العاطفية وهذا بالضبط ما هو مفقود في تمجيد للديمقراطية غير المتحمسة وغير المتحيزة اليوم ".[9] تدور نظريات الديمقراطية الراديكالية حول نقد أساسي للفهم الليبرالي للعقل. فيشير المفكرون ذوو الطابع الليبرالي، وفقًا لتقدير موف، إلى مفهوم شكلي ولكنه قوي للعقل الذي يريد ربط التعددية الاجتماعية بالوحدة. وضرب هابرماس مثلا على ذلك أيضًا من مفكرين ما بعد الحداثة مثل Wolfgang Welsch ، الذي "يريد أن يربط التعددية بالوحدة، على الرغم من أنه لم يعد قادرًا على كشف كيف  أنه مازال من الممكن تصور هذه الوحدة".[10] وهكذا يتم دفع تعددية الآراء الاجتماعية (على أنها غير معقولة) إلى المجال الخاص. يمكن تمثيل ذلك من خلال اعتبارات هابرماس حول المجتمع ما بعد العلماني، حيث يعتبر المعتقدات الدينية مبهمة وبالتالي يتم تفسيرها جزئيًا في البيئة الأخلاقية الخاصة.[11] تسير تأملات راولز حول التعاليم الشاملة في اتجاه مشابه جدًا. تعكس هذه الاعتبارات مرة أخرى من منظور الديمقراطية الراديكالية ،انخفاضًا في قيمة التعددية، والذي يرتبط أيضًا بالتمييز الليبرالي (الذي يجب انتقاده) بين الخاص والعام.

إن هذا له تأثير أيضا على مسألة البُنى الديمقراطية العالمية. بينما يؤمن المفكرون التداوليون بالحجة العقلانية لبناء مؤسسات عالمية مشتركة، يركز آخرون مثل موف على أهمية  الأخذ في الحسبان  الخلافات والنزاعات بين مختلف الجهات الفاعلة على المستوى العالمي وفي مناطق محليًة.[12] ومن الأمثلة على ذلك تركيزهم على تعددية النماذج الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم.

تشير العديد من مناهج الديمقراطية الراديكالية، من الناحية الفلسفية، إلى دريدا. حيث يفسر الديمقراطية التوافق مع تفسيره للقانون كشيء قادم، فيصفها بأنها "ديمقراطية قادمة".أيً  يشير " إلى إمكانية جذرية لانتقاد وإعادة صياغة العلاقات السياسية القائمة. فالديمقراطية وعد يجب خلقه وتجديده مرارًا وتكرارًا في الخطاب الاجتماعي. فتعني قادمة أن الديموقراطية رؤية تتغير أو تتجدد من قبل الناس كل يوم. شيء يجب العمل من أجلها. هناك ضرورة ملحة لأن العمل على الديمقراطية القادمة لا يمكن تأجيله.[13]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................... 

[1] Merkel, W .: Is the crisis of democracy an invention? In: Reder, M./Cojocaru, M.D. (Ed.), Future of Democracy: End of an Illusion or Departure to New Forms? Stuttgart 2014, 25-46

[2] Rawls, J.:Political Liberalism, ‎ Columbia University Press; 2005,133-135.

[3] Wallner, J .: Rawls and Religion. On the legal conception of religion in the work of John Rawls. In: Austrian Archives for Law and Religion (50 / 3-4), 2003, 554-587.

[4] Nida-Rümelin, J .: On the philosophy of cosmopolitanism. ln: Journal for International Relations (13/2), 2006, 227-234.

[5] Habermas, J.:The Theory of Communicative Action, Volume 2: Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason.

[6] إرنستو لاكلو ، شانتال موف: الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية،ترجمة، هيثم الناهي، المنظمة العربية للترجمة، 2016.

[7] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 

[8] Walzer.M.: Spheres Of Justice: A Defense Of Pluralism And Equality,Basic Books, 1984.

[9] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 40-41.

[10] Welsch, W .: reason. The contemporary critique of reason and the concept of transversal reason. Frankfurt / M. 1995.139.

https://ecommons.cornell.edu/handle/1813/54

https://ecommons.cornell.edu/bitstream/handle/1813/56/Welsch_Reason_traditional_and_contemporary.htm?sequence=1

[11] https://socialtheoryapplied.com/2015/05/14/awareness-missing/

[12]https://philpapers.org/go.pl?id=MOUWWO&proxyId=&u=http%3A%2F%2Fwestminsterresearch.wmin.ac.uk%2F6633%2F1%2FMouffe_2008_header.pdf

[13] https://ces260jh.files.wordpress.com/2013/01/derrida-rogues-two-essays-on-reason.pdf

 

مجدي ابراهيملم يكن "ديكارت" ببعيد عن الصواب حينما أراد أن يمثل لمبدأ العقل بمجاز الشمس؛ لتشبيه مبدأ العقل كمبدأ أولي لكل العلوم؛ كالشمس في إشراقها وإشعاع نورها على الأشياء لتضيئيها؛ فكما تطل الشمس على العالم لتنيره فكذلك نور العقل يطل بإشراق المعارف ويقول "ديكارت" في كتابه قواعد لهداية الذهن، أو قواعد لتوجيه الفكر: "إذا أراد أحد أن يبحث عن الحقيقة؛ فيجب عليه ألا يدرس فكراً خاصَّاً؛ لأن العلوم جميعها متحدة فيما بينها، ويرتبط بعضها ببعض. واختلاف الموضوعات أمرٌ عرضي والضامن لمعرفتها واحد وهو وحدة العقل والحقيقة". فهذه الوحدة العقلية إنما هى نور العقل الذي هو كالشمس في إشراقها تطل على العالم لتنيره، وكذلك يطل العقل بنوره بالعلوم والمعارف فيكشف وحدتها وينير غسقها ويجمع شتات ما تفرّق منها ويلم جزئياتها وتفاصيلها تحت مبدأ كلي معرفي عام. 

ــ المراجعة منهجُ فلسفي:

وربما جهل كثيرون أهميّة المراجعات الفلسفية من طريق جهلهم بتطبيق القاعدة الرابعة والأخيرة من قواعد المنهج الديكارتي؛ الأمر الذي لفت انتباه المفكرين المعاصرين إلى خلوّ الساحة القلمية الفكرية من أمثال هذه الدراسات، وكشف كتاب المفكر البارز الدكتور عصمت نصّار، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي بآداب القاهرة : "مراجعات فلسفية في الفكر العربي الحديث" (الصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع في طبعته الأولى بالعام 2018م)، عن هذه اللفتة الغائبة، فصدّر مقدّمة كتابه بتصدير وافٍ عن مصطلح المراجعات، إذْ قال: لم يشغل مصطلح المراجعات الفلسفية (Revisions Philosophy) موقعه الذي يستحقه على مائدة البحث الفلسفي، ولم تدرجه معظم المعاجم المتخصصة ضمن موادها. وذلك على الرغم من عنايتها بالمصطلحات التي انبثقت منه أو احتواها في جوفه، مثل الشرح والتفسير والتأويل والتأكد من سلامة أسس المناهج والرؤى النقدية للقراءات المعاصرة؛ فجميع تلك المصطلحات لا تعدو أن تكون ماصدقات لمفهوم المراجعة" (ص 11).

وراح يشرح منزع النهضويين والمجددين من الفلاسفة بداية من "هيرقليطس" إلى "جاك دريدا"، وتوكيدهم على أن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته على المراجعة الحرة؛ ولأن العقلية الناقدة هى وحدها العقلية القادرة على المراجعة حتى إذا وجد العقل كان النقد ضرورة لازمة له، يأتي بمنأى على أية سلطة سابقة حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجهت القراءات.

يعمل النقد بمعزل عن السلطات، وهو لا يعمل إلا بمراجعة فاحصة متأملة.

وتعرّضت المقدّمة التي تصدّرت كتاب "مراجعات فلسفية" إلى قواعد فرنسيس بيكون وديكارت؛ وهما ينشدان العلماء بضرورة تطبيق آلية المراجعة، لاختبار معارفهم ومشاهداتهم. فمن الواجب مراجعة ما علق في الذهن من معارف وأخبار ومعتقدات قبل الشروع في تأسيس المعرفة العلمية على أسس حقيقية مستمدة من الواقع؛ فالعقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلاً تاماً حتى تزول عنها الأوساخ ثم توجيهها التوجيه المناسب نحو الضوء؛ الأمر الذي يمكنها من ظهور الشيء المراد رؤيته ظهوراً كاملاً على سطحها.

وهذا ينطبق على العقل؛ إذ يجب أولاً أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله ممّا علق به من أوهام (كأوهام الكهف، والجنس، والمسرح، والسوق) التي حدّثنا عنها "بيكون"، والتي من شأنها أن تعوق تفكير العقل السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة اليقينية؛ ثم يمُكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل. وتكمن المراجعة في عمليتي تنظيف المرآة حتى لا ينعكس على سطحها أشياء غير موجودة في الواقع بفعل ما حاق بها من فساد، ثم مراجعة المعارف الذهنية المتوهمة التي أختزلها العقل دون تدقيق أو نقد أو شك.

للمراجعة ممّا لا شك فيه دور فاعل مُؤثر، وبالغ التأثير، في مجال كشف الحقيقة. وهى عند "بيكون" المدخل الرئيس الذي لا غنى عنه للوصول للحقيقة العلمية، والآلية الأقوم لتنقية الذهن من أوهامه.

وكما حدثتنا مقدمة كتاب "مراجعات فلسفية" لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، عن "بيكون"، تحدثنا كذلك عن "ديكارت" بفحص ثلاث كتب منهجية (مقال في هداية الذهن، والتأملات، ومقال في المنهج) يتبيّن من خلالها وجوب مُراجعة المعارف الذهنية التي اختزلها العقل من الموروث الثقافي أو المعارف الحسية أو المقولات الذهنية غير المتسقة؛ وذلك عن طريق الشك في مصداقيتها ثم نقد سياقاتها من طريق خطوات أربعة: 

ــ أولها: عدم قبول الغامض والملتبس والمعتم من المصطلحات والأفكار والمعتقدات، وقبول ما هو واضح ومتميز بذاته، أي بديهي. ومعنى كلمة بديهي هنا أنها موصولة بالحدس؛ فكل ما هو بديهي إنما هو نتيجة حدس.

والحدس ـ كما علمنا فيما تقدّم ـ مرحلة أولية يأتي بعدها الاستنباط العقلي، ثم تحليل مضمون ما سلمنا بصحته من الأفكار، ثم إعادة ترتيبه.

ــ وأخيراً : مراجعة ما استقر العقل على صحته من حيث الشكل والمضمون، ثم إحصاء الأفكار الصحيحة وإدخالها ثانية في الذهن باعتبارها معارف معقولة وأقرب إلى اليقين منها إلى الشك. يقول "ديكارت" : لا أستطيع عندما يكون لديّ سلسلة من الروابط أن أحدّد بدقة إذا كنت أتذكرها كلها، لذلك يجب عليّ أن أعيد النظر فيها مرات عدّة بحركة ذهنية متصلة من حركات الفكر حتى إذا تصورت إحداها بالحدس والبديهة انتقلت منها إلى غيرها ... وهكذا إلى أن أتبين كيف يمكنني الانتقال من رابطة إلى رابطة بسرعة لا تدع مجالاً للذاكرة فأحصل بمثل هذا على حدس للكل في وقت واحد" (ص12من الكتاب المذكور).

ويقول في كتابه "مقال في المنهج" عن القاعدة الرابعة التي ذكرناها فيما تقدّم : أن أعمل في جميع الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الوافية ممّا يجعلني على ثقةٍ من أنني لم أغفل شيئاً يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث" (ص 12).

ويحدّثنا في كتابه "التأملات" عن المراجعة باعتبارها ملكة ناقدة قادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى الحقائق متسقة الأجزاء، وتكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقع فيها بفعل السلطات السائدة أو المعارف الزائفة. ويضيف "ديكارت" أن عملية الإثبات أو النفي والحكم على الأفكار التي يحتويها الذهن لا يمكن وقوعها إلا بإرادة حرَّة؛ فيقول :" لكي نثبت أو ننفي الأشياء التي يفرضها الذهن، ولكي نقْدِم عليها أو نحجم عنها، علينا أن نتصرّف بمحض اختيارنا دون أن نحسّ ضغطاً من الخارج يُملي علينا ذلك التصرّف". فحرية الإرادة من أجل هذا ركيزة أساسية من ركائز حركة الذهن في البحث عن الحقائق.

وصفوة القول : إنّ "ديكارت" لم ينظر لقاعدة المراجعة على أنها آلية للتأكد من صحة خطوات منهجه؛ بل كان أشمل وأوسع؛ إذْ جعل المراجعة الركن الرئيس لإثبات صحة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللبس والغموض من مفاهيمنا وأذهاننا؛ لكأنه يريد يقول إن في المراجعة رؤية يجب التنبه إليها، وذلك إذا ما توافر فيها خصائص هى : الأناة والرويّة، والشمول والإحاطة، والنظام والترتيب (ص :13).

ــ تكوين الرؤية الخاصّة:

يلزم للباحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية؛ إذا هو طبق قواعد المنهج الفلسفي، أن يستخلص من وراء هذا التطبيق رؤية خاصّة. فقد سبقت الإشارة إلى أن جوهر البحث العلمي يكمن في إضافة الجديد واقتحام المجهول، وما دون ذلك ركود يتنافى مع المنهجية العلمية. وماذا عساه يكون الحال فيما لو كان البحث بحثاً فلسفياً، له شروطه وخصائصه في فحص المقروء والمكتوب؟

ولا جرم في أن منهج العلم يواجه الذات (ذات الباحث) ويعلو عليها، ويفرض قيوده صارمةً في خطواته المنهجية على البحث العلمي في سبيل الموضوع إذا كان يريد كشف الحقيقة وتكوين رؤية خاصّة بصاحبها؛ يتبيّن من خلالها تطبيق قواعد المنهج العلمي. وعلى هذا الأساس؛ لا يعرقل مسيرة البحث العلمي لدى الباحث المنهجي بما فيه من بعد أكاديمي غير كونه يركل الموضوعية منذ بداية طريق سيره في المنهج، ويظل يعبد مُقدِّساً ما يسمى بالبعد الذاتي، مع أن هذا الأخير ضرورياً في اختيار موضوع البحث والرجوع إلى ما يقرّره النص من مضمون يتفاعل مع الذات الباحثة؛ ليكوّن ـ من ثم ـ رؤية خاصّة بذات الباحث.

لكنه غير ضروري في بداية الطريق وغير ضروري أيضاً في إضفاء البعد الذاتي قبل موضوعية العلم؛ فيما لو أردنا تطبيق قواعد المنهج الفلسفي كما تبينت لنا فيما سبق؛ لأن العلم الذي يتعارف عليه مجموع الباحثين، لم يعد يعترف بأبعاد الذات بقدر ما يُخلي تماماً بينه وبين كل نزعة ذاتية أولية كشرط من شرائط الكشف عن الحقيقة في أول الطريق. وليس هنالك ما يشفي غُلة باحث سوى التسليم بضوابط البحث العلمي والفلسفي المتعارف عليها.

ولأجل هذا؛ كان من البديهي لكل بحث علمي جيد من أمرين : ترتيب المقدمات ترتيباً منطقياً خالياً من الخطأ والتشويش يسهل عليك وعلى كل ناظر بعدك إلى موضوع كموضوعك أن يستنتج النتائج من تلك المقدمات في صورتها الأخيرة.

ثم التنزه التام عن الأغراض والأهواء بدفع الشبهات؛ لأن الانقياد إلى الغرض مرض، وتحكيم الهوى في البحث العلمي باطل لا محالة، يخفي حقيقة ما عساه يتوصل إليه الباحث من نتائج أسفرت عنها مقدمات. وهو عينه المراد بالتخلي عن النزعة الذاتية وشوائب التعصب قبل الأخذ بالموضوعية الأمينة لمعالجة القضية التي يكون الباحث بصدد البحث فيها.

ولعلّ أهم السمات الخاصة ـ ولو فيما نراه نحن ـ بالباحث الأصيل، ذلك الذي ينفرد بين فئة الباحثين بقدرة الرد والتمحيص وقدرة الإقناع الشافي فيما يتصل بالمسائل التي يكثر فيها الخلاف، وتنشب حولها اضطرابات الأخذ والرد، والقيل والقال؛ هى أن تكون له مقدرة بالغة على خوض غمار البحث ومشكلاته، ولا يكون ممن يبحثون ولا يعيشون أبحاثهم وموضوعاتهم بأعصابهم ودمائهم، فتأتي أبحاثهم من غير باحثين رؤية وتحليلاً. فليس يكفي أن أحشد كماً هائلاً من الفقرات والنصوص في موضوع اخترته للبحث فيما هو أمامي من ركام الآراء والمذاهب لأستخرج منها جديداً صالحاً للقبول، وأرفض ما قد تجاوز بحكم الزمن صلاحية القبول. وهذه ظاهرة غريبة تشيع في الدراسات الفلسفية على التعميم، وفي الفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص : تكرارٌ مع اجترار سافر، وقلة هضم تدل على ضعف العقل من أول وهلة؛ ناهيك عن التقليد والمحاكاة وعدم القدرة على مجاوزة ألفاظ النصوص وحرفيتها.

ومن المؤكد أن النصوص بالنسبة لمجال الدراسات الفلسفية والإنسانية كالمواد الأولية الخام بالنسبة لمجال العلوم الطبيعية، لا يمكن لباحث أن يتخطاها. ولكنها مع ذلك هى جامدة صماء لا تنطق بذاتها إلا إذا استنطقها الباحث بمنهجيته وترتيب فكرة في الذهن عنها واضحة. هذا الاستنطاق للنصوص ومحاولة الحفر الدائم في أغوارها هو الذي يشكل رؤيته الباحث الخاصة لها. فليس من رؤية بدون تأمل وتفكر واستبصار. 

وإنك لتجد أكداساً من الكتب والدراسات لا تقدِّم جديداً فيما يُراد منه من مفهوم "الرؤية الخاصة" عن طريق منهج الحفر في النصوص، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية وأجزائها البسيطة كما نبهنا عليه "ديكارت" من كتابه مقال في المنهج، في قاعدته الثانية (قاعدة التحليل العقلي). ثم استخراج الرؤية الخاصة بذات الباحث بعد التحليل ثم التركيب ثم المراجعة والتنقيح. ولكن كل ما تراه هنالك مجموعة من النصوص والنقولات رُصت رصاً غير مضبوط بمنهج ـ أياً كان هذا المنهج ـ يُراعى فيه كشف حقيقة النقطة البحثية أولاً؛ والرؤية الخاصّة ثانياً، وافتقرت من ثم إلى طريقة التحليل والتقسيم والتنظيم والتركيب والمراجعة، ثم الوقوف أمام النصوص والفقرات بدايةً وقفة الناقد الممحص (لا وقفة الناقل المقلد) يقبل ما يراه صالحاً للقبول وفق مبادئ بديهية، ويرفض ما يتجاوز بحكم الزمن أو بحكم التقليد كل السلطات التي تقيّده وتفقده صلاحية القبول.

ولأجل هذا، لا يكون مصير تلك الأكداس المتراكمة والأبحاث التي ليس منها جدوى، غير الركون المهمل على رفوف المكتبات.

إنما الباحث الحق هو الذي ينفرد بين فئة الباحثين بالرؤية التحليلية ولا ينفرد بجمع المادة العلمية أو نقل النصوص من أصولها، أو من غير أصولها، (أعني نقلها من باحثين سابقين عليهم نقلوا بدورهم مثل هذه النصوص وتركوها مهجورة بغير نقد ولا تمحيص لم يستنطقوها، ولم يعرفوها ما هو مكنون خفيٌّ فيها) ثم رصها رصاً مشوهاً يكون من غير الجدير قرائتها في طبعات جديدة من غير إضافة وفي غير تحليل.

وعلى الباحث في مجال البحث النظري الفلسفي، إنْ أراد أن يكون باحثاً بحق، أن يعيش المادة ويهضمها ويضيف عليها من نفسه ما شاءت له الإضافة دون الإخلال بالمنهجية المتبعة، وهو من بعدُ إزاء كل اضطراب في الآراء والأفكار لا يرضى بديلاً عن الوضوح والبساطة. يبدأ بأضعف الآراء وأبسط الأدلة تدعيماً لما يقول، فإذا أراد تقوية آرائه حول قضية بعينها أو مشكلة من المشكلات، فلا يجري قلمه أولاً إلا على أضعف الأدلة سنداً لرأيه، ثم يتدرج من الرأي الضعيف إلى الدليل القوي. ولو كان هنالك عدة أدلة لهذا الرأي لوجب أن يتدرج من الضعف ثم إلى القوة ثم إلى الأكثر قوة، فإذا أستوفى سائر دلائل الرأي واضعاً في اعتباره هذا التدرج المنطقي من ضعف الأدلة إلى أقواها كان برهانه واضحاً مقبولاً في العقل والمنطق وبداهة الرأي السديد.

هنالك تصبح الرؤية الخاصة للباحث محققة بالفعل. ثم لا تزال هنالك مرحلة أخيرة لا تخفى على الباحث الأصيل وهى أن يلقى في روع القارئ أدلته إلقاء ذكياً يمرّنه بالانتقال بالفكرة من الجزء البسيط إلى الكل المركب؛ يلقيها بصورة كلية بعد أن استوفى أجزاءها التفصيلية، ولا ينقصها سوى الدليل الوجيه بحيث ينقله من جانب المعارضة إلى جانب الموافقة، وهو لا يزال يبعث في ذهن القارئ حيرة التشكك ويظل محتفظاً بأقوى أدلته لا يبوح له بها على الإطلاق إلا إذا اشتدت حيرة الشكوك في ذهن القارئ، فإذا أطمن إلى ذلك غاية الاطمئنان، ألقى بأقوى أدلته؛ لتصادف عقلاً متردداً فتجذبه جذباً إلى رأي الباحث فلا يعتقد غيره في هذه النقطة أو تلك من آراء.

لكن هذا لا يتأتى بحال إلا بعد هضم المادة وتكوين الرؤية واستخدام المنهج التحليل النقدي ـ بالدُّربة والتمرين ـ إزاء كل مقروء ومكتوب استخداماً حسناً. وليكن في معلومنا جميعاً : أنه كلما هضمنا من الحقائق أكبر قدر ممكن، استطعنا ترويض عقولنا على إفراز وتكوين الرؤية الخاصة بنا؛ وبمنهج معقول مقبول. وإني لأذكر عبارة لــ "بيرك" يقول فيها :"الحقائق للعقل كالطعام للجسم. وعلى هضم الحقائق هضماً لائقاً تتوقف قدرة الإنسان العقلية وحجاه، كما تتوقف العافية والصحة على الطعام. وإن الرجل الذي يهضم عقله أكبر عدد من الحقائق لهو أعقل الرفاق في المجالس، وأقدرهم على المناظرات، وأرقهم في الحياة معاملة ومعاشرة".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم