أقلام فكرية

أقلام فكرية

قديما ذكر سقراط ان الحياة الخالية من التفكير والاختبار لا تستحق ان تُعاش، فالحياة في نظره لابد ان تُختبر، ولكن ماذا يمكن ان يفعل الانسان في هذا الاختبار؟ سقراط ادرك ان الانسان هو اكثر من هذه الحياة القصيرة على الارض. فهو لديه روح أبدية، فيها يقرر مصيره الأبدي من خلال الخيارات التي يقوم بها في هذه الحياة. ولكي تصبح افكارنا افعالا فلابد لهذه الافعال ان تشكل عاداتنا، وهذه العادات تصنع شخصيتنا الثابتة التي تذهب معنا للخلود. بدون الحكم على حياة الفرد وبدون المعرفة التي نكتسبها عبر الاختيار للافعال التي نقوم بها فما الغاية من حياتنا اذاً؟ انها بذلك سوف لن تختلف عن حياة الكائن الحيواني وستنتهي الى اللاجدوى. تساؤلات سقراط يمكن اعتبارها ركيزة وحلقة اساسية في التفكير النقدي المعاصر. اذ يمكن استخدام تلك التساؤلات المحكمة disciplined questioning في متابعة الفكر في عدة اتجاهات ولعدة أغراض، بما في ذلك استكشاف افكارا معقدة للوصول الى حقيقة الاشياء، وفي افتتاح القضايا والمشاكل، وإماطة اللثام عن الافتراضات وتحليل المفاهيم لغرض التمييز بين ما نعرف وما لا نعرف، واتّباع المضامين المنطقية للتفكير.

المرحلة الاولى: مرحلة اللاتفكير

جميعنا وُلدنا دون ان نفكر، غير واعين اساسا بالدور الذي يلعبه التفكير في حياتنا. معظمنا يموت وهو على هذه الطريقة. في هذه المرحلة من اللاتفكير، لا يوجد لدينا تصور عما يعنيه التفكير، فمثلا، باعتبارنا غير مفكرين نحن لا نلاحظ اننا باستمرار نضع افتراضات، نكوّن مفاهيم، نطرح استنتاجات، ونفكر ضمن وجهات نظر. في هذه المرحلة، نحن لا نعرف كيف نحلل ونقيّم تفكيرنا، لا نعرف كيف نقرر ما اذا كانت أهدافنا قد صيغت بوضوح، وان افتراضاتنا مبررة، واستنتاجاتنا طُرحت بطريقة منطقية. نحن غير واعين بالخصائص الفكرية ولذلك لا نكافح لتجسيدها.

في هذه المرحلة، يقود التفكير السيء الى العديد من المشاكل في حياتنا، لكننا غير واعين بهذا. نحن نظن ان عقائدنا حقيقية، وقراراتنا صائبة. نفتقر للمعاير الفكرية وليست لدينا فكرة عن ماهية هذه المعايير. نحن نفتقر للسمات الفكرية ولا ندرك اننا نفتقر لها. نحن وبلا وعي نخدع أنفسنا بعدة طرق، نخلق أوهاما سارة ونحافظ عليها. عقائدنا تبدو معقولة لنا، ولذا نحن نؤمن بها بثقة تامة. نتحدث عن العالم ونحن واثقون ان الاشياء هي حقا ما يبدو لنا. نحكم على بعض الناس كـ (جيدين) وعلى آخرين بـ (السيئين).  نوافق على بعض الافعال ولا نوافق على افعال اخرى. نتخذ قرارات، نقوم برد فعل تجاه الناس، نسلك طريقتنا في الحياة، ولا نتسائل بجد عن التفكير الذي نقوم به ولا عن انعكاساته.

في هذه المرحلة، تلعب الميول لمصالحنا الذاتية الدور الرئيسي في تفكيرنا، لكننا لا نقر بهذا. نحن نفتقر الى المهارات والتحفيز الذي يمكّننا من ملاحظة كم نحن منحازين ومنقادين نحو مصالحنا الذاتية، وكم نحن نستنسخ الآخرين وكم نتجاهل الافكار دون عقلانية لأننا لا نريد تغيير سلوكنا وطريقتنا المفضلة في النظر الى الأشياء.

المرحلة الثانية: مرحلة التحدي الفكري

هل نحن مستعدون لقبول التحدي؟ نحن لا نستطيع حل المشكلة التي لا وجود لها. لا نستطيع التعامل مع الظروف التي ننكرها. بدون معرفة جهلنا، لا نستطيع البحث عن المعرفة التي نفتقدها. بدون معرفة المهارات التي نحتاج تطويرها سوف لن نطور تلك المهارات. عندما نصبح على وعي بان المفكرين "العاديين" عادة يفكرون بطريقة ناقصة وغير جيدة، سننتقل الى المرحلة الثانية من تطوير التفكير النقدي، سنبدأ بملاحظة اننا عادة نستعمل افتراضات مشكوك فيها، نستعمل معلومات زائفة وناقصة ومضللة، نعمل استدلالات لم تأت من الدليل الذي بحوزتنا، نفشل في التسليم بوجود مضامين هامة في أفكارنا، نفشل في الاعتراف بالمشاكل التي بحوزتنا، نكوّن مفاهيم خاطئة، نفكر وفق وجهة نظر منحازة، وبطريقة أنانية لاعقلانية.

اننا ننتقل الى مرحلة "التحدي" حينما نصبح على وعي بالطريقة التي يرسم بها التفكير حياتنا، بما في ذلك الاعتراف ان سوء تفكيرنا يسبب مشاكل في حياتنا. نحن نبدأ بالإقرار ان التفكير السيء قد يكون مهددا للحياة، ربما يقود الى الموت او الى عجز دائم، فنؤذي بذلك الاخرين بالاضافة الى انفسنا. فمثلا، نحن ربما نتأمل التفكير في الفرد الذي يماطل دائما ويؤجل الاشياء باستمرار، او المدير اللاعقلاني الذي لايستطيع ادراك سبب عدم تصفيق العاملين له، الفرد الغاضب عموما على العالم، المراهق الذي يعتقد ان التدخين هو حالة من اتزان الشخصية، المرأة التي تعتقد ان فحص الرحم غير هام، صاحب الدراجة النارية الذي يظن ان ارتداء الخوذة يعيق الرؤية، ولذا من الأمان نبذ الخوذة عند السياقة، او الشخص الذي يعتقد بامكانية السياقة مع تناول الخمر، او الشخص الذي يقرر الزواج من امرأة حمقاء اعتقادا منه انها ستتغير بعد الزواج.

نحن نقر ايضا بالصعوبة التي يتطلبها "تحسين" تفكيرنا. فلو كنا في هذه المرحلة من التفكير، لابد من الإقرار بان مشكلة تغيير عاداتنا في التفكير هو تحدي هام يتطلب تغييرات مكثفة وصعبة في روتين حياتنا اليومية. بعض الاشارات تنبئ ببروز الحالة التفكيرية reflectiveness هي:

اننا نجد انفسنا نعمل بتركيبات ذهنية تخلق التفكير، او تجعل هناك امكانية للتفكير مثل: المفاهيم، الافتراضات، الاستدلالات، المضامين، وجهات النظر. اننا نجد انفسنا مهتمين بدور الخداع الذاتي في التفكيررغم ان فهمنا"مجرد" واننا ربما غير قادرين على اعطاء عدة امثلة من حياتنا الخاصة. في هذه المرحلة من التطور، هناك خطر معين وهو خداع الذات، العديد من الناس يرفضون قبول الطبيعة الحقيقية للتحدي، التحدي المتمثل بان تفكيرنا الخاص يمثل مشكلة حقيقية وهامة في حياتنا. لو كان احدنا يفعل كما يفعل العديد من الناس، فان عاداته الاعتيادية في التفكير ستبقى كما هي في مرحلة اللاتفكير. على سبيل المثال، ربما يجد نفسه يتأمل وفق الطريقة التالية:

تفكيري ليس سيئا. في الحقيقة، انا كنت افكر جيدا لفترة ما. انا اتساءل عن كثير من الاشياء، انا غير منحاز او متعصب. الى جانب ذلك، انا انتقادي جدا، غير منخدع ذاتيا كما هو الحال في معظم الناس الذين اعرفهم. اذا كان احدنا يفكر بهذه الطريقة، فهو سوف لن يكون وحيدا. انه سوف يرتبط بالاغلبية. "اذا كان كل شخص يفكر كتفكيري فان العالم سيكون رائعا"هي النظرة المسيطرة. اولئك الذين يشتركون بهذه الرؤية يتراوحون من ذوي التعليم الضعيف الى ذوي التعليم العالي. لا يوجد دليل للقول ان التعليم المدرسي يرتبط بالتفكير الانساني. في الحقيقة، العديد من الخريجين هم مغرورون فكريا نتيجة لتعليمهم المدرسي. هناك اناس غير مفكرين لم يتجاوزوا التعليم الابتدائي، ولكن هناك ايضا من اكملوا دراستهم العليا. الناس اللامفكرون موجودون في الطبقة العليا والوسطى والسفلى من المجتمع. ذلك يتضمن السايكولوجيين وعلماء الاجتماع والفلاسفة والرياضيين والاطباء والقضاة والمحامين وأعضاء مجالس النواب والناس من مختلف المهن. باختصار، غياب التواضع الفكري هو شائع في كل الطبقات في جميع مناحي الحياة وفي كل الاعمال. يتبع ذلك ان المقاومة السلبية او النشطة لتحدي التفكير النقدي هي الشائعة وليست حالة نادرة. وسواء كانت بشكل استهجان او عداء صريح فان معظم الناس يرفضون تحدي التفكير النقدي، وهذا هو السب في ان يكون البحث عن الذات امرا هاما في هذه المرحلة من العملية.

المرحلة الثالثة: التفكير الابتدائي

هل نرغب في ان نبدأ؟

عندما يقرر الفرد بحماس قبول التحدي في النمو والتطور كمفكر، فانه سيدخل مرحلة نسميها "المفكر المبتدئ". هذه المرحلة من التفكير يبدأ فيها التفكير الجدي. هي مرحلة استعداد قبل ان يحصل الفرد على قيادة وسيطرة واضحة في التفكير. انها مرحلة بدء الادراك، هي تطوير قوة الارادة، انها ليست مرحلة من اللوم الذاتي وانما هي بروز الوعي. هي مشابهة للمرحلة التي يعترف فيها الفرد المدمن على الخمر ويقبل تماما حقيقة انه مدمن. لو تصورنا المدمن حين يقول "انا مدمن وانا فقط المسؤول عن ادماني"، الآن ليتصور احدنا القول "انا مفكر ضعيف ومشاكس وانا فقط المسؤول عن نفسي". حالما يعترف الناس انهم "مدمنون" على التفكير الضعيف، فهم يجب ان يبدأوا الاعتراف بعمق وبطبيعة المشكلة. نحن كمفكرين مبتدئين يجب الاعتراف بان تفكيرنا هو احيانا اناني. فمثلا، نحن نلاحظ ضآلة اهتمامنا بحاجات الاخرين وحجم تركيزنا على ما نريده شخصيا. نحن نلاحظ ضآلة اعترافنا بوجهة نظر الاخرين وحجم التأييد الذي نمنحه لصوابية افكارنا. نحن ربما نضع انفسنا في موقف نحاول فيه السيطرة على الاخرين لنحصل على ما نريد او نقوم بدور الخضوع للاخرين (لأجل الحصول على المكاسب التي يجلبها السلوك المذعن).

نحن كمفكرين مبتدئين في التفكير نبدأ بـ

- تحليل منطق المواقف والمشاكل

- التعبير عن الاسئلة بوضوح ودقة

- فحص المعلومات من حيث الدقة والملائمة

- التمييز بين المعلومات الخام وبين تفسير الاخرين لها

- الاعتراف بالافتراضات المرشدة للاستدلالات

- تحديد العقائد المتعصبة والمتحيزة، والاستنتاجات غير المبررة، والكلمات ذات الاستخدام السيء، وغياب المضامين، وملاحظة الحالات التي تؤثر فيها مصالحنا الأنانية على وجهات نظرنا.

وهكذا، نحن كمفكرين مبتدئين سنصبح مطلعين على كيفية التعامل مع تراكيب او اشكال التفكير (الاهداف، الاسئلة، المعلومات، التفسيرات ..). نحن نبدأ بتقدير قيمة التفكير في تفكيرنا من حيث وضوحه ودقته وملائمته ومنطقه واتساع عمقه. لكننا لانزال في مستوى قليل من المهارة في هذه الفعاليات. انها تبدو صعبة المراس لنا. علينا ان نجبر أنفسنا للتفكير بطرق محكمة. نحن كالمبتدئ في الباليه، نشعر بالسذاجة، لا نشعر بالأناقة، نتعثر ونرتكب أخطاء، لا احد يدفع نقودا من أجل مشاهدة ادائنا. نحن ذاتنا لا نحب ما نراه في المرآة عن عقولنا. لكي نصل الى هذه المرحلة الابتدائية في التفكير يجب ان تبدأ قيمنا بالتحول، يجب ان نبدأ باستكشاف اساس تفكيرنا ونكتشف الكيفية التي نفكر ونعتقد بها حينما نعمل. ولكي نقف الان على تفاصيل اكثر حول هذا الهدف. سنفكر في بعض المؤثرات الكبيرة التي شكلت تفكيرنا.

نحن وُلدنا في ثقافة (اوربية، امريكية، افريقية، اسيوية)

نحن ولدنا في زمن معين (في قرن، في سنة)

انت ولدت في مكان ما (في بلد، مدينة، شمال او جنوب، شرق ام غرب)

انت نشأت بين ابوين وضمن عقيدة معينة

انت كوّنت مختلف الارتباطات من الناس ذوي القيم والعقائد والمحرمات.

اذا اردنا تغيير أي من هذه المؤثرات فان نظامنا العقائدي سيكون مختلفا. لو نفترض ان العديد من هذه المؤثرات خلقت عقائد زائفة لدينا، معنى ذلك انه توجد في عقولنا حتى الان عقائد زائفة ونحن نعمل بموجبها. ولكن يجب ملاحظة ان العقل لا توجد فيه آلية لتنقية العقائد الزائفة. نحن جميعنا نحمل في عقولنا تعصبات وميول لثقافتنا، لاصدقائنا وزملائنا. ان عملية ايجاد طرق لتشخيص تلك العقائد المعيبة واستبدالها باخرى اكثر عقلانية هي جزء من برنامج التفكير النقدي.

ان عقولنا هي عوالم غير مستكشفة، عوالم داخلية تطبع كل حياتنا. هذا العالم الداخلي هو الحقيقة الاعظم اهمية بالنسبة لنا لأنه معنا حيثما نعيش. انه يقرر المتعة والاحباط، يضع حدود ما نرى ونتصور، يُبرز بوضوح ما نرى، يدفعنا للجنون، يزودنا بالعزاء والسلام والهدوء.

لو استطعنا الإقرار بهذه الحقائق الخاصة بنا، سوف نجد الحافز لتبنّي مسؤولية التفكير، ولنكون اكثر من مجرد إلعوبة في ايدي الاخرين، ونصبح القوة الحاكمة في حياتنا.

المرحلة الرابعة: ممارسة التفكير

ان التفكير الجيد يمكن ممارسته كلعبة التنس او الباليه او كرة السلة. هل نحن ملتزمون بالممارسة المنتظمة؟ عندما يعترف الناس صراحة ان التحسن في التفكير يتطلب ممارسة منتظمة، ويتبنّون نمطا من الممارسة، عندئذ يصبحون مفكرين ممارسين. لا توجد هناك طريقة في عملية تصميم نمط الممارسة. هناك عدة طرق، بعضها جيد والآخر سيء، فمثلا انت ربما تتصفح كتابا يقدم اقتراحات لتحسين التفكير، هذه الاقتراحات يمكن استخدامها كنقطة بداية. ربما يراجع البعض فعاليات (اختيار الفكرة) او يدرس عناصر التفكير او مستويات التفكير وخصائص الذهن، وقد يركز اخرون على كيفية عمل قرارات ذكية، او على التفكير الاستراتيجي. كل واحدة من تلك المواد تمثل وسيلة هامة في وضع خطة منهجية لتحسين التفكير. ان مشكلة معظم الناس في ممارسة التفكير انهم لا يستمرون في ذلك بطريقة منتظمة، هم لا يؤسسون عادات للممارسة المنتظمة، فيُحبطون بسبب الارتباك والصعوبات التي يلاقونها اثناء المحاولات الاولى للاداء الجيد.

ان النجاح يأتي عادة لمن لديهم التصميم والقدرة على الاستمرار، يجب وضع الخطط لمواجهة اي احباط او فشل. يمكن تجنب التثبيط والاحباط عبر الاعتراف منذ البداية اننا منخرطون بخطط لإختبار الافكار. يجب إعداد الذات للفشل المؤقت، انها عملية تشبه ارتداء الملابس الجديدة التي قد لا تناسب الجسم جيدا. لكن في النهاية سنعثر على القياس الملائم.

المرحلة الخامسة: التفكير المتقدم

ما الشيء الذي يمكن اعتباره تفكيرا متقدما؟ حينما نصل الى المرحلة الرابعة ونمارس المهارات سنكون قادرين على الاجابة على هذا السؤال، كل ما نحتاج هو ان نضع خطة ونقرأ المصادر الانفة الذكر.

***

حاتم حميد محسن

.......................

* من كتاب (التفكير النقدي critical thinking)، تأليف Richard Paul و Linda Elder الصادر عن مؤسسة التفكير النقدي،عام 2002، الطبعة الثانية عام 2013 في 459 صفحة.

(نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر ممّا هو ميّت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافيّ).. محمّد عابد الجابري

شهد علم الاجتماع التربويّ ولادته في مطلع القرن العشرين على أيدي مفكّرين عمالقة مبدعين في مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، كأوغست كونت، وإميل دوركهايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وجون ديوي. وشهد هذا الفرع العلميّ نهضته في أواسط القرن العشرين. ويسجّل هذا العلم اليوم حضوراً معرفيّاً عالميّاً مميّزاً، إذ أصبح بحقّ، كما تنبأ له دوركهايم، أحد أهمّ العلوم الاجتماعيّة الّتي تأخذ بأطراف العلاقة بين المجتمع والتربية على نحو شامل، وتعمل على تقصّي أبعاد هذه العلاقة وحدودها في ضوء المنهجيّات السوسيولوجيّة المتّقدمة ونظريّاتها المتجدّدة.

وإذا كان علم الاجتماع التربوي قد انبثق من صلب الحوادث والتطورات الاجتماعية الحضارية، فإنّ تطوره الهائل عائد لا محالة إلى تأثير هذه التغيرات الاجتماعية الحضارية، وقد تعيّن عليه - تحت تأثير هذا التفاعل الوجودي مع معطيات الحضارة الإنسانية وصدماتها - أن ينمو ويزدهر في خضمّ الأمواج المتلاطمة والمتتابعة للتطورات الحضارية في المجتمع الإنساني. ونظرا إلى تعقد الظروف الحضارية والتاريخية للمجتمعات الإنسانية في عالم اليوم، يواجه علم الاجتماع تحدّيات جديدة راهنة ومختلفة نوعيّاً عن تلك الّتي عرفها خلال القرن العشرين، ومن الواضح تماماً أنّ هذا النمط من التحدّيات يتجاوز إمكانيّات السوسيولوجيّة التربويّة الكلاسيكيّة ومناهجها، فهذه السّوسيولوجيّة كانت تتحرّك في فلك مشكلات القرن الماضي وتحدّياته. والمجتمعات الإنسانيّة المعاصرة، ونحن نقترب من العقد الرابع من الألفيّة الجديدة، في أتّون مواجهة جديدة مع أخطر تحدّيات الوجود والمصير، تحت مطارق الثورة الصناعيّة الرابعة الّتي بدأت تضرب البنية الوجوديّة لهذه المجتمعات، وتهدّد مصيرها، وتملؤها بالقلق والهواجس، وتضعها في مواجهة طفرات هائلة من التغيّر الاجتماعيّ تفوق كلّ الاحتمالات الّتي يمكن للخيال البشريّ أن يبدعها، وللعقل الإنسانيّ أن يأخذها بالحسبان.

 وقد أدى التّقدّم الكبير في مجال التكنولوجيا الصناعيّة والإنتاج الصناعيّ الرأسماليّ الضخم إلى حدوث مشكلات كبيرة تتمثّل في التلوّث الرهيب للبيئة، وفي الاحتباس الحراريّ، وفي انتشار الأمراض والأوبئة والحروب والكوارث الطبيعيّة. ويزداد الأمر هولا عندما نأخذ بعين الاعتبار الانهيارات الثقافيّة الأخلاقيّة المتمثّلة في مختلف مظاهر الفساد والجموح الأخلاقيّ، الّتي بدأت تأخذ تجلّيات مرعبة معادية للقيم الإنسانيّة، وأقلّها انتشار المثليّة الجنسيّة الّتي يُروّج لها بقوّة المؤسّسات العالميّة الكبرى لتدمير الأخلاق والقيم الإنسانيّة، وربما لا نبالغ في القول: إنّ الإنسانيّة قد تشهد غداً ظهورَ تشريعات تبيح زواج المحارم وتشجّع عليه، بعد أن تجرّأت بلدان - كفرنسا - على تقنين الزّواج بين ذوي الجنس الواحد. وفي ضوء هذا التقدّم الوحشيّ للحضارة المادّيّة يجد الإنسان نفسه في وضعيّة مأساويّة من الاغتراب الأخلاقيّ، وقد بدأ يفقد هويّته الإنسانيّة وكيانه الذاتيّ، ويهتزّ بنيانه الأخلاقيّ.

ومن ثوابت هذا العصر النمو الهائل في حجم المشكلات والتحدّيات الّتي تواجه الإنسانيّة التي بلغت حدّاً يفوق احتمالات الوصف والتقدير، ومنها: الفقر والفاقة والجوع، ودمار البيئة، وفقدان الهويّة، وانتشار وضعيّات الاغتراب والاستلاب، والحروب الأهليّة، والتعصّب، والصراع على الثروة، والفساد، وتفسّخ الأخلاق. وقد شاعت هذه الظواهر وما يماثلها على نحو يستفزّ  ويصدم ويبعث على الفزع. وهي قضايا ومشكلات مستجدّة تختلف نوعيّاً عن القضايا الّتي شكّلت محور السوسيولوجيا الكلاسيكيّة في القرن الماضي. وفي دائرة هذه المواجهة الجديدة لقضايا العصر تستمرّ السوسيولوجيا التربويّة في تطوير أدواتها ومناهجها ونظريّاتها بصورة مختلفة كلّيّاً عمّا كنّا قد عرفناه طوال المراحل التّاريخيّة السّابقة.

ومن اللافت اليوم أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة لم تستطع، حتّى اللحظة، مواكبة التحدّيات والمستجدّات في مجال النظريّة كما في مجال البحث السوسيولوجيّ، وما زالت هذه السوسيولوجيا تدور في فلك النظريّات الكبرى الّتي عرفناها مع دوركهايم وماركس وماكس فيبر. وهي أنماط سوسيولوجيّة نشأت في مطلع القرن العشرين، واختفت تماماً في نهاياته. واللافت أيضا أنّ مناهج علم الاجتماع التربويّ في العالم العربيّ مستمرّة في الدّوران محوريّاً حول كلاسيكيّات علم الاجتماع التقليديّ، وأنّ معظم الإنتاج الفكريّ الأكاديميّ يتحرّك في الفضاء التقليديّ الكلاسيكيّ للسوسيولوجيا الدوركهايميّة والفيبريّة والماركسيّة، دون أن يهتدي بالنظريّات الجديدة والمتجدّدة. وهكذا يظلّ الفكر السّوسيولوجيّ التّربويّ العربيّ وإنتاجه بعيدين وغريبين عن مشكلات العصر الّذي نعيش فيه، وعن التحدّيات الكبرى الّتي تعتمل في باطنه.

 كما يثير الانتباهَ أنّ كتب علم الاجتماع التربويّ- الّتي غالباً ما تقرّر في الجامعات ما زالت تسير على إيقاع كلاسيكيّ واحد لا يتغيّر كثيراً بين كتاب أو آخر، أو بين مؤلّف وآخر، وكأنّنا إزاء وصفة سوسيولوجيّة واحدة لا تتغيّر في مسمّياتها أو طروحاتها التقليديّة الّتي يكرّر بعضها بعضاً بطريقة اجتراريّة خارج سياقها التاريخيّ.

ومن المهمّ في هذا السياق أن نثمّن عالياً جهود السوسيولوجيّين العرب الأوائل الّذين قدّموا لنا السوسيولوجيا التربويّة كما يجب أن تقدّم، وبما يتناسب مع زمنهم وقضايا عصرهم بطريقة إبداعيّة خلّاقة. ولكن يُؤْخَذُ كثيراً على الأكاديميّين الشباب الّذين اتّخذوا منهج الاجترار والنسخ والتقليد السوسيولوجيّ، دون تغيير أو تبديل يذكر في الطرائق والمناهج والنظريّات، ودون أن يأخذوا بعين الاعتبار مستجدّات هذا العلم وتطوّراته الإبداعيّة، وهم بذلك أبعد ما يكون عن قضاياه ومناهجه ونظريّاته المتجدّدة.

ومن يتأمّل في المؤلّفات السوسيولوجيّة العربيّة اليوم، ولا سيّما في مجال سوسيولوجيا التربية، سيجد أنّ هذه المؤلّفات لا تعدو أن تكون ركاماً من التكرار والاجترار لأعمال السوسيولوجيّين الروّاد العرب الّذي اجتهدوا في التعريف بالسوسيولوجيا التربويّة كما يليق بها في النصف الأوّل من القرن العشرين. ومع أنّ السوسيولوجيا التربويّة العالميّة تطوّرت تطوّرا عظيما في العقود الخمسة الماضية، لتستوعب مختلف الظواهر الاجتماعيّة والقضايا المتجدّدة بأدوات منهجيّة وتصوّرات نظريّة جديدة، فإنّ معظم السوسيولوجيّين الشباب العرب ظلّوا واقفين على أطلال العطاء الفكريّ لأساتذتهم، يراوحون في المكان الّذي وصلوا إليه، دون أن يتقدّموا كثيراً في مجال الإبداع السوسيولوجيّ، أو حتّى في التعبير عن السوسيولوجيا التربويّة المتجدّدة بنظريّاتها ومناهجها وقضاياها المعاصرة.

ومن أهمّ ما يُذكر في باب نقد السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أنّ سدنتها غالباً ما يقدّمونها مقطوعة الجذور عن أصولها السوسيولوجيّة المحضة، دون أن يردّوا فروعها إلى الأصول، علماً بأنّ السوسيولوجيا التربويّة ما تزال وثيقة الصلة بأرومتها النظريّة في علم الاجتماع، وهذا يعني أنّ أيّ فهم لقضايا السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة لا يمكن أن يتمّ إلّا في ضوء النظريّات السوسيولوجيّة النظريّة الكبرى الّتي تولدّت فيها. ومن المهمّ في هذا الخصوص التأكيد على أنّ الصلة تظلّ وثيقة جدّاً بين علم الاجتماع التربويّ والنظريّات العامّة في علم الاجتماع، ولا يمكن فهم نظريّات علم الاجتماع التربويّ إلاّ في إطار النّظريّات السوسيولوجيّة الشاملة الّتي ما زالت تجدّد نفسها، وتنطلق دائماً نحو آفاق جديدة. ومن الجدير بالأهمّيّة أنّ علم الاجتماع التربويّ نشأ في صلب علم الاجتماع، وارتبط به على أيدي مؤسّسيه ومنظريه الأوائل، الّذين أولَوه اهتمامهم كما هو الحال عند ابن خلدون ودوركهايم وفيبر وماركس وجون ديوي وغيرهم من الروّاد المبكّرين.

وقد وجدنا أنّه يصعب جدّاً على الطلبة والقرّاء أن يدركوا الفكر السوسيولوجيّ التّربويّ بصورة صحيحة ما لم ينطلقوا من فهم عميق لحركة السوسيولوجيا العامّة، ومن توغّل بعيد في مضامينها ومستجدّاتها النظريّة الأساسيّة. ومن المهمّ في هذا الجانب أن نشير إلى أنّ السوسيولوجيا التربويّة ما زالت تقدّم أكاديميّاً في الجامعات العربيّة بصورة منفصلة عن أصولها النظريّة العامّة، وغالباً ما تهمل النظريّات الأساسيّة الّتي تشكّل الحاضن الفكريّ والسوسيولوجيّ لأيّ فهم عميق لقضايا علم الاجتماع التربويّ وإشكاليّاته المعاصرة.

ومن الأمور الّتي تستحقّ الاهتمام أيضاً أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة غالباً ما تقدّم بطريقة نظريّة تستعرض ما جاء عند الروّاد والمنظّرين، إذ قلّما تقدّم في سياق التحدّيات والقضايا والمشكلات الّتي تعالجها، وتبحث فيها، وتخوض في غمارها، وهو الجانب الّذي يجب أن يحظى بدرجة أكبر من الاهتمام والتركيز. ولا ريب فإنّ القضايا والمشكلات الّتي تتناولها السوسيولوجيا تمثّل جوهر هذا العلم، وترسم حدوده، وتؤصّله في وعي الدارسين والباحثين. وثمّة اليوم تحدّيات هامّة وخطيرة جدّاً ما زالت خارج السياق العلميّ والمنهجيّ لما يدرس، ويقدّم في الجامعات العربيّة، وفي الفضاء السوسيولوجيّ العامّ لعلم الاجتماع التربويّ.

ونحن في هذا السياق، ندرك تماما بأنّ علم الاجتماع التربويّ الغربيّ استطاع أن يقدّم خدمات جليلة لمجتمعاته ولسياسات بلدانه. كما نلاحظ أنّه يسجّل، اليوم، في الوطن العربيّ، انطلاقته الجادّة لمجابهة مشكلات العصر ذات الطابع التربويّ الاجتماعيّ، ولمحاولة الإجابة عن التساؤلات الّتي تطرحها المسألة الاجتماعيّة للتربية، الّتي تتمثّل في جملة من المظاهر، كالانفجار المدرسيّ، والبطالة المدرسيّة، وحاجة مجتمعاتنا الملحّة إلى الكفاءات والخبرات واليد العاملة المؤهّلة الّتي يقتضيها عصر لا يعرف إلّا منطق التطوّر والحركة.

وإذا كانت المجتمعات الغربيّة تعاني اليوم كثيراً من المشكلات التربويّة والتحدّيات البيداغوجيّة الناجمة عن تطوّر الحياة، فإنّ الشرق العربيّ يواجه اليوم تحدّيات تربويّة واجتماعيّة لا مثيل لها في السّابق من حيث الحجم والعدد والنوعيّة، وهي تشكّل ركاماً من تحدّيات الوجود الّتي تمتدّ على مساحة زمنيّة هائلة في الماضي والحاضر والمستقبل. ولا ريب أنّ هذه المشكلات تمتدّ في العمق والجذور. وإذا كانت رهانات المجتمعات الغربيّة تتمحور حول الحاضر والمستقبل، فإنّ المجتمعات العربيّة تعاني مشكلات الحداثة والتقليد ومشكلات التخلّف والتقدّم، وهذا كلّه يفرض على التّربية العربيّة تحدّيا مصيريّا، ويُلقي على عاتق علماء الاجتماع مسؤوليّات جسيمة لا قبل لهم بها لكنّهم مدعوّون إلى تحمّلها.

فالتربية العربيّة تعاني اليوم خللاً وجودياً قوامه الفساد الّذي انتشر في مختلف مفاصل الحياة التربويّة في كلّ المستويات. وقد أصبحت المؤسّسات المختلفة تعمل على نشر الفساد وترسيخ الإفساد في المجتمع، ويمثّل هذا الأمر ظاهرة وجوديّة خطرة جدّاً، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بتربية أفسدها زمانها؟

ولا يُستغرب القول بناء على ما تقدّم: إنّ التربية العربيّة اليوم تعيش أسوأ لحظاتها التّاريخيّة، إذ أصبحت مجالا مغايراً للقيم الأخلاقيّة الخلّاقة الّتي عرفناها من قبل، فصار الغشّ في الامتحانات، والتلقين في الدروس، والانتحال العلميّ، والتمييز الاجتماعيّ، والوساطة والمحسوبيّة، وغياب التكافؤ، وانتشار التعصّب الاجتماعيّ بين جدران المدرسة، وهيمنة العنف والتنمّر المدرسيّين، واستفحال الأمّيّة الثقافيّة بين صفوف الأساتذة والمعلّمين والمتعلّمين، سمات جوهريّة في مدارس اليوم، وفي الأنظمة العربيّة التعليميّة السائدة. وهكذا لم تعد المدرسة - على النحو الّذي عهدناه والّذي يجب أن تكون عليه - مؤسّسة لبناء الأخلاق، وتكريس التسامح، وبناء العقول، واحتضان القدرات، وتحقيق العدالة، وترسيخ الجدّ والجهد والاجتهاد في طلب العلم. ولم يعد العلم والثقافة غاية في ذاتيهما، بل صارت المدرسة أنقاض مؤسّسة فاقدة للحسّ الإنسانيّ بتحوّلها إلى مؤسّسات لمنح الشهادات، وصارت الشهادات ذاتها وسائل نفعيّة للحصول على وظيفة أو عمل في سوق متوهّم للعمل. وحتّى الأهالي والأولياء لم يعد همّهم -كما كان في سابقات الأيّام - أن ينهل أطفالهم من المعرفة، وأن يُصقلوا بالثقافة والعلم، وأن تتأصّل فيهم مكارم الأخلاق، بل أصبح هاجسُهم الأكبر يتمثّل في أن يحظى أبناؤهم بالنجاح المدرسيّ وأن ينافسوا في الحصول على الشهادات كرخصة لسوق العمل بأيّ وسيلة أو معيار دون أيّ وازع أخلاقيّ أو رادع قيّميّ.

لقد تحوّلت مدارسنا ومؤسّساتنا التربويّة اليوم إلى منصّات تعمل على إيقاعات الأيديولوجيّات الاغترابيّة المضادّة للإنسانيّة والإنسان، وأصبحت مجرّد سجون مغلقة تمارس فيها طقوس الفساد والإفساد، فغدت في جوهرها مدارس تعمل على مقاييس الأسياد الّذين حوّلوها إلى قوّة هائلة لتدجين العقول، وتشكيل الوعي النمطيّ المستلب، والتدمير الممنهج للقدرات النقديّة والقدرات الإبداعيّة في نفوس الطلبة والناشئة والأطفال، لتبقى الأجيال خاضعة ضعيفة لا تملك أدوات التمرّد وأدوات الثورة على الواقع المأساويّ الّذي يهدّد وجودنا.

 وإنّه لممّا يدعو إلى الحسرة والأسى أنّ الأنظمة التربويّة العربيّة لم تسلم من فوضى الفساد والإفساد، وحين أصبحت مرتعاً للفساد أصبحت بذاتها منتجة للفساد وراعية له، بعد أن كانت أملا ورجاء لمجتمع توسّم فيها قدرتها على إصلاح ما أحدثه الفساد الاجتماعيّ، وأصبح حالنا حال الشاعر الّذي أنشد يقول:

بالملح نصلح ما نخشى تغيّره

فكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟

 إنّ ظاهرة الفساد والإفساد الّتي تشكو منها التربية العربيّة اليوم جعلت المشكلات الّتي تعانيها صورة مضخّمة للمشكلات الاجتماعيّة الّتي تعتور المجتمع، وتهزّ استقراره. وهي مشكلات صميميّة كان من نتائجها أنّ المنظومة التّربويّة تنتج، وتعيد إنتاج الآفات والبلاء في المجتمع. وهذا من شأنه أن يطرح على المجتمع تحدّيات خطيرة تفوق إمكاناته وقدراته على المواجهة، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بنظام تربويّ داخَلَهُ الفساد وتسرّب إليه الخلل؟

ولا تختلف وضعيّة الجامعات كثيراً، وقد غدت مجرّد ثكنات مدجّنة لإنتاج أجيال اغترابيّة عاجزة كلّيّاً، وغير قادرة على ممارسة الفعل التربويّ الحضاريّ إنتاجاً وإبداعاً. إنّ المؤسّسات الجامعيّة هي الآن آلة مدمّرة تعمل على تحويل طلبتها ومريديها إلى قوّة استلابيّة في عالم استلابيّ اغترابيّ مدجّن بقيم الطاعة والرضوخ والقبول بالواقع الراهن على عواهنه وسلبيّاته المخيفة. وقد تبدو هذه المؤسّسات التعليميّة مشرقة في مظاهرها السطحيّة - وذلك لمن لا يستطيع الخوض في الأعماق - إذ تأخذ صورة ممارسة تربويّة خلّاقة تعمل على بناء الأجيال المتعلّمة وتطوير قدراتها وإمكاناتها في عالم الثقافة والمعرفة، ولكنّ هذه الصورة الّتي تبدو على السطح تغاير تلك الّتي تتحرّك في الأعماق. ويمكن لمن يمتلك القدرة على النّفاذ إلى باطن الأمور - أي في خفايا البنية الوظيفيّة لهذه المؤسّسات والمدارس - أن يرى أنّها في جوهرها ليست أكثر من مؤسّسات تمارس أكثر أدوات القمع تدميراً لقدرات الأطفال والنّاشئين الإبداعيّة العقليّة والروحيّة، وذلك لإنتاج أجيال مروّضة هامدة خامدة ضعيفة مغيّبة. وعلى هذه الصورة تفعل المدرسة فعلها السّلبيّ في ترسيخ قيم الخضوع والهزيمة والانكسار؛ إذ تقتل في النفس كلّ قدرة على النقد، وكلّ نزوع إلى الثورة والتمرّد على الواقع الاستلابيّ المخيف الّذي يقضي على إنسانيّة الإنسان.

ومع ذلك، لا بدّ من القول: إنّ بوارق الأمل ما زالت تومض في العقول والقلوب، هو أمل في أنّ مجتمعاتنا ستجد سبيلها يوماً إلى إنتاج تربية حيّة خلّاقة تثور ضدّ العفن والفساد، وتبدأ رحلتها الواعدة نحو العدل والسلام والحبّ والعافية والخلاص. وما زال هذا الأمل يحيا قويّاً أصيلا في النفوس نابضا خفّاقا في القلوب مشرقا في العقول. وإذا كان يقال قديما إنّه "بالحبّ يحيا الإنسان"، فإنّنا نقول اليوم إنّ الأمل وحده يحيي في قلوب البشر الإيمان بقدرة المجتمعات الإنسانيّة على مواجهة المصير وتحقيق التقدم الإنساني المنشود.

وهذا يعني أنّ سرد التحدّيات ووصف الوضعيّات الاغترابيّة لا يعني الاستسلام لقدر الهزيمة والعجز عن مواجهة التحدّيات، والخلود إلى الأحلام والأوهام. ومن المؤكّد أيضاً أنّ هذه السرديّات الحزينة القاتمة لا تعني يأساً ولا قنوطاً ولا تشاؤماً مطلقاً، بل خلاف ذلك كلّه قد تكون – إذا أردنا- منطلقاً أساسيّاً للأمل والعمل، والإيمان بقدرة الإنسان على صوغ المصير، واقتحام المستقبل بالقدرة على المواجهة والبناء وتجسيد المصير المنتظر بتحقيق التقدّم الإنسانيّ والأخلاقيّ.

وإزاء هذا الإشكال الحضاريّ الاغترابيّ يجب على الإنسان العربيّ المعاصر أن يطرح أسئلة الكيفيّات الموضوعيّة الّتي تمكّنه من تجاوز هذا القصور الحضاريّ، والتّغلّب على الإحساس بالهزيمة في مواجهة هذه التحدّيات. وهذا الطرح الإشكاليّ يشكل منطلقاً لإيقاظ الوعي التربويّ، وذلك لأنّ السؤال ذاته يمثّل أخطر لحظة في عمليّة بناء الوعي وتشكيله وتطويره. ولا مناص اليوم من الوصول إلى هذا الوعي العميق بأبعاد هذه التحدّيات وطبيعة هذه المشكلات، وذلك لأنّ مثل هذا الوعي النقديّ هو مبتدأ التغيير والمواجهة والبناء والتطوير.

 ومن منطلق التّأمّل في هذا الواقع الاستلابيّ الاغترابيّ للأوضاع التربويّة المتردّية، تطرح السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أسئلة حيويّة ومصيريّة حول مختلف قضايا الوجود والحياة، ولاسيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص التعلمية، والتخلّف الحضاري، والتراجع الثقافيّ والانكفاء الحضاريّ وقضايا الحداثة والاغتراب والتقدم والثورة، وغيرها كثير. وفي مواجهة هذه التحديات والمشكلات يجب على السوسيولوجيا التربوية العمل على تحليل طبيعة هذه المشكلات الاجتماعيّة التربويّة وتقصي أسبابها ومتغيّراتها وديناميّات حركتها.

وعلى هذه الصورة، تطرح السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة أسئلتها المصيريّة حول السبل الّتي يمكن اتّباعها لتطوير أنظمتنا التربويّة وتحرير مجتمعاتنا من كوابيس التحدّيات، وثقل المشكلات، وعنف الأزمات. وتشكّل مثل هذه الأسئلة المنطلق المنهجيّ لعلم الاجتماع التربويّ المعاصر في مواجهة الصّعوبات الماثلة أمام الأنظمة التربويّة والّتي تسبّب لها حالة من العطالة والجمود والقصور. ويقيناً، فإنّ مثل هذه الأسئلة تدفع المفكّرين والمثقّفين، ولا سيّما علماء الاجتماع، إلى ساحة المواجهة الحقيقيّة الّتي تتّصل بالوعي الإنسانيّ بالمصير، وهو الوعي الّذي يُنتظر لزوما أن ينشأ في أعماق الأنظمة التربويّة المعاصرة.

 ويبقى السؤال الأساسيّ الثوريّ الّذي يمكن لعلم الاجتماع التربويّ أن يطرحه، وهو: كيف السبيل لإخراج المجتمع من دائرة الجمود والتخلّف واليأس الحضاريّ؟ وكيف يمكن تشكيل الوعي العامّ، والوعي التربويّ خاصّة، بأهمّيّة البحث عن السبل التاريخيّة الممكنة لمواجهة أعظم التحدّيات وأخطر المشكلات الّتي تعترض مجتمعاتنا الإنسانيّة ومؤسّساتنا المدرسيّة؟ وهنا يتجلّى دور علم الاجتماع التربويّ في تشكيل الوعي التربويّ العميق بمصادر التحدّيات وطبيعتها، وفي التّعريف بالقدرات والإمكانات الإنسانيّة للتّعامل مع الإشكاليّات في زمن الثورة الصناعيّة الرابعة.

فالحقيقة الاجتماعيّة للتربية ما زالت، في إطار خصوصيّتها العربيّة، تشكو الغموض المعرفيّ؛ ويعني هذا أنّنا مطالبون اليوم، أكثر من أيّ وقت آخر، بتطوير الدراسات والأبحاث ودفعها في ميدان علم الاجتماع التربويّ لاستجلاء الحقيقة الاجتماعيّة للتربية وبناء الوعي التربويّ العربيّ المتكامل بحدودها وأبعادها. وبناء على ذلك كلّه يجب على علم الاجتماع التربويّ في الوطن العربيّ أن يسجل ملحمته الجديدة في تقديم إجابات مقنعة حول مشكلاتنا وهمومنا التربويّة الاجتماعيّة، ومن أجل بناء وعي عربيّ متطوّر بالحقيقة الاجتماعيّة للتربية.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – جامعة الكويت

‏ "أكرهك"! ليست المرة الأولى التي أتلقى فيها أمثالَ هذه الكلمة المؤذية في رسائل على الخاص. طالما أتت الرسائلُ من حسابات شبحية، يعمل المرسلُ حضرًا بعد إرسال هذا الكلام الجارح، لئلا أتعرّف عليه. في الحياة من الشرّ أكثر من الخير، ومن الكراهية أكثر من المحبّة. علّمتني جروحُ الحياة أن الإنسانَ يحتاج الكراهيةَ كما يحتاج المحبّة، وربما يحتاج الكراهيةَ أشدّ من المحبّة أحيانًا. الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد، هناك حاجةٌ دفينة للكراهية في النفس كحاجتها للمحبة.

‏مَن يريدُ أن يعرفَ شيئًا عن الحضور المخيف للكراهية والشرّ في الأرض عليه أن يراجعَ أرشيفاتِ الاسترقاق للأفراد والمجتمعات في الماضي والحاضر، ويقرأ تاريخَ الاستبداد والاستعباد الذي مارسه ومازال يمارسه الحكّامُ الطغاة، وانتهاكَهم لكرامة الإنسان وترويعَه في السجون الكئيبة والزنزانات المرعبة، وينظر في جرائم الاستعمار والاحتلال الشنيعة أمس واليوم لمختلف بلدان العالم، ويرى المجازرَ في غزة والأرض المحتلة.

شخصيةُ الإنسان مركبةٌ مكوّنة من طبقات. الإنسان كائنٌ لا يمكن اختزالُ دوافع سلوكه بعاملٍ واحد. رأيتُ شيئًا من تعقيد شخصية الإنسان في مواقفِ الصعاليك وغرابةِ سلوكهم، إذ كنتُ ألتقط الصعاليكَ في مرحلة الشباب من حياتي وأتحمل تطفلَهم وعبثَهم وفوضويتَهم، وأتولى تأمينَ احتياجاتهم المتنوعة والمتواصلة، لم يبادر أحدٌ منهم بالشكر، كانوا يشعرون بأن ما أقدّمه لهم حقُّهم عليّ وعلى غيري، لذلك لا يتطلب منهم الإعرابَ عن الامتنان والتقدير. كنتُ أندهش مما يمتلكون من تهورٍ ووقاحةٍ في التعبير عن كثيرٍ من التناقضات المكبوتة لدى الإنسان. حاولتُ الابتعادَ عنهم منذ ثلاثين عامًا، لحظة صرتُ لا أطيق مَن يعشق دورَ الضحية في الحياة، والصعلوك أبرع مَن يمثّل هذا الدور، ويتفنّن في إخراجه بأساليب ذكية ووسائل مختلفة.

السلطةُ والشغفُ بالتسلّط والتملّك من أعمق الدوافع العدوانية للإنسان، حتى الصعلوكُ ينشدُ بمواقفه وسلوكه التسلّطَ عليك وتطويعَك لخدمته مجانًا، فيستعمل بمهارةٍ فائقة وبطريقته الخاصة كلماتِه، وتعبيراتِ وجهه ولغةَ جسده، ولباسَه، وبؤسَ مأواه، وغير ذلك؛ لتنقاد إليه وتلبي رغباتِه وطلباتَه بحماس، وتصبر على مواقفه الغرائبية مهما تمادتْ في خروجها على الذوق العام والأعراف والتقاليد والقيم والأخلاق. أكثرُ الكراهيات تنشأ من الشغفِ بالتسلّط على الغير وإخضاعِه، والاستئثار بالمال والثروة والسلطة، وهو سلوكٌ يمارسه الإنسانُ بحدود الفضاء الذي يعيشُ فيه ويمارسُ حضورَه وتأثيره. الأبُ يمارسه في العائلة الأبوية، والأمُ تمارسه في العائلة عندما يضعف دورُ الأب أو يختفي بالموت وغيره، المعلّمُ يمارسه مع تلامذته، الرئيسُ في المؤسسات الإدارية ومؤسسات السلطة، حتى الشرطيُ يمارسه في حدود ما تسمح له سلطُته. كلُّ إنسان يفعلُ ذلك بحدود طاقته، وحسبما هو متاح له من وسائل تمكّنه من ذلك، وحين يعجزُ الغيرُ عن المقاومة والدفاع عن النفس. ليس بالضرورة أن يلجأ الإنسانُ المتسلّط لتوظيف وسائل عنيفة أو مثيرة أو مباشرة بغية بلوغ هدفه، المتسلّطُ يستثمرُ القيمَ السائدة في العائلة والقبيلة والمجتمع،كما يستثمرُ العلاقاتِ المختلفة ويوجّهها في سياقٍ يكرّس سلطتَه، ويعملُ على استعمال اللغة وتغذيتها باستمرار بدلالاتٍ تنتج التسلّطَ وتمهّد للاستعباد.

الإنسان غير الروبوت، ليس هناك قواعد ميكانيكية أو معادلات رياضية صارمة تتحكم بالإنسان، الإنسان الذي يكون كالروبوت في كلِّ أقواله وسلوكه ومواقفه ليس طبيعيًا. ‏التناقض في الآراء والمواقف حالةٌ بشرية لا يكاد يسلم منها كليًا إنسان. ‏التناقض البغيض هو أن يقول الإنسان الشيءَ ونفيَه في موضوعٍ واحد ووقتٍ واحد. ‏هذا التناقض ينتجه أحيانا الإشفاقُ والمداراةُ والرفقُ بالآخرين، وأحيانا ينتجه الخوفُ من إعلان المواقف الصريحة، وأحيانا تنتجه مصالحُ عاجلة، وأحيانا عقدٌ نفسية كامنة في اللاشعور منذ الطفولة، وربما يعود ‏التناقضُ إلى النفاق، أو اضطراباتِ الشخصية والمرضِ النفسي.

الإنسانُ أعقدُ من قدرتنا على فهم كلِّ شيءٍ في أعماقه. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاتِه1، وتقلّبِ حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد باستمرار، مالم يفلح  بالتغلّب عليها بمزيدٍ من تكريسِ الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي والجمالي الذي يسمو به في مراتب الكمال.

أحلامُ الإنسان لا تكفُّ عن فرض رغباتٍ وأعباء تفوق طاقتَه، الرغباتُ والأحلام تثير الآخرين وتستفزّهم، لشعورهم بأن صاحبَها يصطاد فرصَهم في الحياة، ويستحوذ على مواقعهم، وذلك ما يصيّر الحياةَ حلبةَ صراع، تراها كأنها سلسلةُ حلولٍ لمشكلات، تبدأ منذ وقتٍ مبكر من عمر الإنسان ولا تقف إلا بالموت. الإنسانُ الحكيم يستطيعُ تفهمَ هذه الحالة وإدارتَها بذكاء. إنه يدرك أن الجمعَ بين الأضداد متعذّر، كما يدرك إمكانيةَ تفسير ذلك التضادّ ومعالجته، بوصفه حالةً ليست طارئةً أو استثنائية. يمكّنه هذا التفسيرُ من العمل بالتدريج، على خفضِ ما يرهقه ويستنزف حياتَه من صراع الأضداد في باطنه، بإيقاظِ صوتِ الله في روحه، والمحبةِ في قلبه، وتغذيتهما وتكريسهما ليصيرا مكونًا ثابتًا لكينونته الوجودية.

الإنسانُ كائنٌ غامضٌ جدًا في الوقت الذي يظهر لنا واضحًا جدًا، ما يجري من قوانين في الطبيعة تنطبق أكثرُها على جسده، لكن لا ينطبق كثيرٌ منها على نفسه وعواطفه وروحه وقلبه وعقله. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلّ أسرار النفس الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التهافت في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله. لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيّ علمٍ ما يزال يواصل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئٌ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصين ويغربلها ويعلن أخطاءَها ويرمّم ثغراتِها، ويواصل بجدية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة2. المواقف المتضادّة لدى إنسانٍ واحد، في أزمنةٍ متوالية وحتى في يومٍ واحد، ليست غريبةً على طبيعة الإنسان. الإنسانُ الذي يمتلك عقلًا يقظًا مسكونًا بالتفكير العميق والأسئلة الوجودية الكبرى، يمكن أن يمتلك قلبًا متقدًا. الإنسانُ كائنٌ لا يشبه إلا ذاتَه. الإنسانُ كائنٌ شديد الغموض، ربما تراه غارقًا في الغربة الوجودية، وغارقًا في المحبة في وقتٍ واحد.

لن يختفي الشرُّ الأخلاقي ما دام الإنسانُ إنسانًا، مادام الإنسانُ يكذبُ ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء. ‏الثقافاتُ والقوانين والعقوبات والأديان تهدفُ إلى خفض وتيرة الشرّ إلى أدنى مستوى ممكن، ولولا ذلك لتحوّل الناسُ إلى أكلة لحوم البشر. الإنسانُ ليس كائنًا بريئًا أو محايدًا، بعضُ الأصدقاء لا ينقل لك من الأخبار العامة وما يخصّك الا ما يؤذيك، إنما يفعل ذلك بدافع التشفي الذي يلبي حاجةً عميقة تفرغ فيها نفسُه ألمَها، وتعيد تقديرَها لذاتها؛ بإشعارِ الغير بأنه غيرُ جدير بالثقة والتقدير.

لا وصفةَ نهائية تتطابق وكلَّ الاحتياجات المتنوعة للبشر في مراحل حياتهم المختلفة، حتى الفرد الواحد تختلف احتياجاتُه في مراحل عمره المتعدّدة، ربما تقوده عواطفُه للتعلّق بشخصٍ أو أيّ شيءٍ آخر في مرحلةٍ من عمره، غير أنه قد ينفر منه في مرحلةٍ أخرى. الإنسانُ كائن يمكن أن يختلف يومُه عن أمسه، الإنسانُ يتغيّر تبعا لتنوّع صلاته الوجودية بما حوله من بشرٍ وأشياء، وتتجدّد بعضُ احتياجاته ومصالحه، وتندثر احتياجاتٌ ومصالحٌ في المراحل المختلفة من عمره، وتضاف أخرى.

يختلف كلُّ شيء باختلاف زاوية النظر إليه، وهذا ما يُصطلح عليه في الفلسفة قديما بـ (الحيثية)، يقال: "لولا الحيثيات لبطلت الفلسفة"، بمعنى أن كلَّ زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدّد وتتنوع المواقفُ الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم، وهكذا يختلف تفسيرُ الحقائق وتختلف طرقُ الوصول إليها وإدراكها. باختلاف زاوية النظر يمكن للإنسان ملاحظةُ صور كثيرة بعضُها متضادّ في إنسان واحد. أحيانا تختلط المحبّةُ بالكراهية فتتناوبان، عندما تتصارع زاويةُ النظر الواعية لإنسانٍ مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه. تراه لحظةً يحُبّ إنسانًا، ولحظةً أخرى يكره هذا الإنسان، وهو لا يدري كيف يحدث ذلك، مثل أن ترى المرأةُ في رجلٍ واحد صورًا متضادّة، أو يرى الرجلُ في امرأةٍ واحدة مثلَ هذه الصور. في بعض حالات حبِّ الرجل للمرأة وحبِّ المرأة للرجل، يحدث تناوبٌ للحبِّ والكراهية باضطرادٍ مُضجِر. أظنه يعود إلى أن المرأةَ تكره صورةَ الرجل الأعمّ من هذا الرجل وغيره؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ جروحٍ كامنةٍ في اللاوعي لحياةٍ زوجية عاشتها أمس مع رجلٍ عنيف، ختمتْ بعد سنواتٍ من الصراع المرير بطلاق، وإن كانت هذه المرأةُ تحب الصورةَ الشخصية لهذا الرجل النبيل الذي تزوجته بعد الطلاق. الرجلُ أحيانًا يكره صورةَ الأنثى الأعمّ من هذه المرأة وغيرها في شخصِ هذه المرأة؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ كامنةٍ في اللاوعي من حياةٍ زوجية مشاكسة مع غيرها أمس، لكنه يحُبّ الصورةَ الشخصية لهذه المرأة المهذّبة التي هي زوجته اليوم. وأحيانًا يكون التناوبُ عكسيًا في الحالتين.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

1- التضاد والتناقض ليس بالمعنى المعروف في المنطق والفلسفة، أعني بالتضاد والتناقض هنا ضرب من المفارقة.

2-  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 70، ط 2، 2022، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار الرافدين، بيروت.

 

في مقولة لكانط اوردها الباحث القدير حاتم حميد محسن في مقالته المنشورة على موقع صحيفة المثقف تاريخ 23/12/  2023 تحت عنوان (صفحات من تاريخ الفيلسوف فريدريك هيجل) ان كانط قال: (العالم الواقعي لا يمكن معرفته ابدا) واضاف كانط (لا يمكننا معرفة العالم الخارجي كما هو (في ذاته) ونحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه).

دقة صواب العبارة هو في تعبير كانط انه لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما تدركه حواسنا في اختلافه التام عما هو يتقرر باذهاننا. لسبب تلاقي ازدواجيتي خداع الحواس وخداع اللغة في عدم التعبير الصحيح عن معرفة عالمنا الخارجي وليس ادراكه فقط. فالاوليات الحسية الواصلة من الاحساسات الى الدماغ تكون حتما مشوشة غير متماسكة وغامضة ولا تسهل للدماغ عملية التعامل معها معرفيا. فيحصل هنا ما يعرف بتضليل العقل الذي عبّر عنه كانط استحالة معرفتنا الحقيقية لعالمنا الخارجي.

هذه العبارة هي صياغة ثانية بنفس المعنى حينما قسّم كانط العالم الخارجي ب(النومين) الشيء الممكن ادراكه بالحواس وليس الشيء الممكن معرفته بالعقل. (والفينومين) هو الذي لا يمكننا لا ادركه ولا حتى معرفته. واعتبر الفلاسفة ان ما لا يمكننا ادراكه ولا معرفته ماعدا صفاته الخارجية انما هو الجوهراو الماهية في الاشياء التي يصعب التعامل في معرفته لانه لا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل بوضوح ولا يعيه وعيا معرفيا.

المسالة الثانية قول كانط لا يمكننا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه. العبارة صحيحة ولكن لماذا وكيف يتعذر علينا معرفة ادراكاتنا الخارجية بصورة صحيحة؟. نوضح باختصار:

1. علينا التمييز ما بين الادراك الحسي والمعرفة العقلية. فادراك الشيء لا يعني معرفته. كما ان ادراك صفاته الخارجية لا يعفي انعدام المعرفة العقلية له.

2. الحواس خاصيتها الادركات التي تكون على شكل انطباعات ذهنية. ومعرفة ذات الشيء هي خاصية الدماغ عقليا.

3. الانطباعات الحسية التي هي الادراكات الاولية للشيء هو وظيفة الحواس. اما معرفة الشيء اي الوعي التام به فهو خاصية العقل المعرفي – التجريبي.

4. من المفارقات الفلسفية الطريفة ان بيركلي وهو فيلسوف مثالي متطرف في القرن الثامن عشر ذهب الى ان ادراك الشيئ بصفاته الخارجية فقط هو سبب كاف لنقول اننا عرفناه باكمله اي كينونة واحدة موحدة وليس مهّما بحثنا عن الجوهر خلف صفاته الخارجية المدركة. وليس من حاجة لا تدعو اعتبار الادراك الاولي للصفات لا يمثل ادراكنا للجوهرخلف الصفات. المفارقة الاكبر ان الماركسية اخذت بمقولة بيركلي هذه لتحذو الوجودية والظاهراتية الاقتناع بما جاء به بيركلي. (باستثناء سارتر الذي له وجهة نظر حول الجوهر تناولتها باكثر من مقال لي منشور).

هيجل والوعي

كما اضاف هيجل على عبارة كانط السابقة قوله عن (الوعي هو الذي ندرك به العالم والتاريخ هو ادراك الوعي لذاته). " لو نحن اقررنا بحقيقة عالمنا الواقعي محدود الوجود الادراكي ولانهائي المعرفة يكون الجزء الاول من عبارة كانط صحيحا اننا امام استحالة معرفتنا العالم الواقعي من حولنا حتى لو اتيحت لنا امكانية ادراكه تماما.

هنا لا بد لنا من القول انه اذا اتيح لنا تفريق مصطلح ادراك الشيء عن مصطلح معرفة ذاك الشيء نفسه. وهو انفصال حقيقي ماثل واقعي يصبح من الصعب جدا فصل الوعي عن العقل خارج علاقة المحايثة التي تربط بينهما..

الوعي ناتج تفكير العقل في استيعابه الاشياء وردود افعاله عنها التي ينقلها الوعي كوسيط. التساؤل هل من الممكن لنا القول الفلسفي المتداول العقل هو الوعي؟ وانه لا وجود للعقل بلا وعي والعكس ايضا صحيح لا وجود للوعي بلا العقل. التساؤل في محله الخادع لادراكنا لانه خطأ نوضحه لاحقا. فالعقل والوعي مطابقة بالتفكير واختلاف منفصل بيولوجيا.

عبارة كانط الثانية اننا بالوعي ندرك العالم عبارة صحيحية ناقصة تكملتها الوعي يدرك العالم بمرجعيته للعقل. لم يضف كانط جديدا على مقولة العقل هو الوعي ولو تناوبا الوظيفة المعرفية للاشياء. وهي مقولة خاطئة. فالوعي لا ينوب عن العقل لا في الادراك الشيئي الاولي ولا بالادراك المعرفي العقلي البعدي.

الوعي هو الجوهر المرادف لماهية للعقل التفكيرية فماهية العقل ليس فقط كما قال ديكارت التفكير. بل ماهيته الجوهرية ان العقل يعي الاشياء بمعنى نقله ما اطلق عليه كانط مقولات العقل الاثنتي عشر حول معرفة الشيء المدرك والوعي به. الوعي محايث لصفته الجوهرية كوسيلة معرفية للاشياء عندما يكون الوعي هو الناقل لمقولات الفهم العقلي تجاه تلك الاشياء. السؤال الجوهري المهم هو ليس كيف يدرك العقل الاشياء بل هو لماذا يدركها؟.

الوعي هو افصاح العقل عن ذاته, وليس فقط الوعي وسيلة افصاح العقل عن ادراك ومعرفة الاشياء عقليا. خاصية العقل المعرفية هي الوعي. اذن الوعي هو الجوهر المحايث لتفكير العقل, والعقل لا يدرك ذاتيته من دون الوعي بذاته. اذن بماذا يكون الاختلاف بين محايثة الفكر للغة ومحايثة الوعي للعقل؟

 الفرق اننا كما ذكرنا سابقا أن بيولوجيا العقل يمكنها الانفصال عن تجريد الوعي من ناحية تعبير وعي العقل معرفته للاشياء. وهذا الانفصال لايحدث بين الفكر واللغة لانهما تجمعهما مجانسة نوعية واحدة هي صفة التعبيرالتجريدي عن الاشياء  . المفارقة في توضيح هذه العبارة ان امكانية فصل (بيولوجيا) العقل المتكوّن فسلجيا من الدماغ وتوابعه المخ والمخيخ والنخاع وشبكة الاعصاب يمكن انفصالها عن الوعي العقلي منردة لكنها تفقد قيمتها (الوعيية) من الوعي كونها مجتمعة تمثل خاصية الوعي التجريدية وليست خاصية الوعي البيولوجية مثل خاصية الدماغ.. بمختصر بكلمتين العقل المادي الفيزيائي هو بيولوجيا والوعي المحايث المرتبط به هو تجريد معرفي مثل تعبير اللغة والفكر عن الاشياء.

رغم امكانية انفصال العقل عن الوعي وظيفيا الا ان الوعي لا يستطيع بناء نسق معرفي وظائفي لا يلازم العقل لكنه منفصل عنه محايث له ولا يقاطعه. وهو لا يمكن تطبيقه على علاقة الفكر باللغة. لانهما كلاهما تجمعهما الخاصية التجانسية الواحدة الا وهي (التجريد).

حين يعّبر ديكارت العقل جوهر خالد ماهيته التفكير انما يكون جرّد العقل من ماديته البيولوجية وقصد ماهية العقل التفكيرية المجردة.. ولهذا حين يقول ديكارت العقل والنفس جوهران خالدان فهو بالتاكيد يهيم في خطأ أن خاصية العقل تجريدية تفكيرية اكثر منها بيولوجية عضوية هي جزء من اجزاء جسم الانسان هو الدماغ داخل جمجمة الانسان. ومن الطرافة الساذجة ان نقتنع بالدماغ البيولوجي خالدا لانه احد مكونات العقل البيولوجية الفاني بموت الجسم الانساني.

وقرن ديكارت بحذاقة خلود العقل مع خلود النفس وكلاهما ماهية تفكيرية تجريدية لاتفنى ولا تموت بموت الانسان وفنائه. ومن هذا المعنى يجوز لنا مع ديكارت اعتبارالعقل ويقصد به العقل التفكيري زائدا جوهر النفس – لاحظ لم يقل الروح بدل النفس كما هو في المتداول بفلسفة اللاهوت -  ولا يوجد فيلسوف يجيز لديكارت استعماله النفس لفظة مرادفة لها نفس معنى الروح. قل الروح هي من علم ربي اي هي مركب لاهوتي - ميتافيزيقي, بينما النفس هي جوهر علوم النفس بكل تفرعاتها واشكالها. والنفس مادية بتجلياتها على خلاف الروح التي هي مفهوم بلا حدود. ومفارقة الروح للجسد بعد موته وكيف لم يتم حسمها الى اليوم.

اللغة (وعدم معرفة العالم الواقعي ابدا).. مقولة كانط

بأية وسيلة ندرك معرفة العالم الواقعي؟ اولا الادراك الحسي الانطباعي المبدئي. ثانيا الادراك العقلي الواصل عبر شبكة الاعصاب في استلام العقل او الدماغ لاحساسات العالم الخارجي عبر شبكة الاعصاب وثالثا مقولات العقل عن تلك الاشياء والمدركات التي ينقلها الوعي عن العقل. واذا ما كانت هناك ضرورة ملزمة لترجمة ما يحمله الوعي في محمولاته من مقولات العقل. فيكون عن طريق تعبير تجريد اللغة.. .

مقولة تعبير اللغة عن الاشياء هي تضليل للعقل احيانا حسب بيرتراند راسل ومجموعة فلاسفة اللغة واللسانيات تعتبر حسب رايي البداية التي ندخل منها لماذا لايمكننا معرفة العالم الخارجي بواقعيته؟

ان ندرك صدقية ادراكاتنا عن زيف تعبيرات اللغة هي مشكلة يحسمها التطبيق التجريبي للفكرة او مجموعة الافكار كما تفعل الفلسفة البراجماتية الامريكية..ما يرتب ان يكون عجز الاحساسات في ابتداعها لغتها التماثلية في المطابقة الصادقة مع المدركات تكون بالمحصلة النهائية خادعة زائفة ايضا لعدم كفاية التحقق التجريبي من هذه المطابقة.

وبمقدار ما يكون خيالنا التفكيري اللغوي اللفظي عن العالم واسعا بلا نهايات بقدر ما يتوجب علينا التسليم ان الافكار لغوية او غير لغوية بالتعبير عن عالمنا هي قطع لامجال مناقشته انه تضليل العقل. هنا اجد عدم تحقق صدقية التجريب للتاكد من المطابقة اللغوية في تعبيرها عن الواقع وعن زيف الاحساسات الخارجية في ابتداع اللغة التماثلية في المطابقة الصادقة بين عالمنا الخارجي ووسائل معرفتنا الحقيقية له. عدم تشاكل الاحساسات مع مطابقتها التمثلي الحقيقي لعالمنا الخارجي يعطي تفويضا مشروعا للعلم وجوب ترك محاولات الفلسفة التقاطع معه ولا حتى مسار التوازي المتعايش معه. كون حقيقة تقاطع الفلسفة مع العلم لا تمتلك مقومات التحقق من الامكانية. وكذا الحال في توازي مسار الفلسفة مع العلم لا يعطي العلم تبعية فلسفية له او وصاية عليه. امام هذا الطريق المسدود عمدت المنطقية الجديدة الى ضرورة ادماج كل العلوم والفلسفة والرياضيات بما اطلقوا عليه(العلم الكلي).

اخيرا بالمقارنة الشكيّة بزيف اللغة تضليلها العقل وانها عاجزة عن التعبير الحقيقي لعالمنا وانها اي اللغة منطق تركيبي تجريدي لا يمتلك تجريبية التحقق من صوابه.

يتاكد لنا ان صدق الادراك لا يلغي زيف تعبير اللغة. فحقيقة الادراك لغة تصورية تسبق لغة التعبير عن الشيء المدرك. وادراكاتنا الاشياء على حقيقتها نتيجة عجز اللغة الالمام والاحاطة بها لا يجعل من الادراكات الصادقة وسيلة مضمونة لفهم العالم ومعرفته.

***

علي محمد اليوسف

 

حاتم حميد محسنقبل آلاف السنين بدأ السعي لفهم العالم الذي حولنا، الانسان والطبيعة والكون والعلاقات بينهم. كان واضحا وجود نوعين من الأشياء، المادة الجامدة والكينونات الواعية الحية المندفعة بقوة الحياة والتي تسمى الروح. كان هناك وعي حدسي لليد اللامرئية لذلك الذكاء الهائل الذي أفرز مفهوم "الاله" القدير الكلي وما تفرّع عنه مما سمي بمؤسسة الدين. اشتبك ذهن الانسان مع هذا اللغز وحاول فهمه. في البداية كان هناك فقط تحقيق متكامل منفرد – وهو السعي لمعرفة الكون واشير اليه في اليونان القديمة بالفلسفة الطبيعية، والناس الذين انخرطوا في هذا التحقيق كانوا محترمين كونهم متعلمين وحكماء في المجتمع. هذا السعي ضم مختلف الاتجاهات التي نسميها الآن دين، فلسفة، ميتافيزيقا، علوم.

في هذا السياق يُعتبر الاتجاه العلمي كما نعرفه اليوم جديدا نسبيا، كونه برز فقط قبل أربعة او خمسة قرون. ما يعرف الآن بـ "العلم الحديث او الغربي" بدأ مع اناس مثل غاليلو وكبلر وكوبرنيكوس وباكون تبعهم نيوتن وبويل وغيرهم. تاريخيا بدأ في هذا الوقت ممارسو العلوم والدين والفلسفة/الميتافيزيقا الانفصال وتأسيس مدارس متخصصة منفصلة للتحقيق في كل من هذه الحقول. (من اللافت انه الى اليوم تشير الدكتوراه في العلوم او الرياضيات او الهندسة او الانسانيات فقط الى "دكتور في الفلسفة" او PhD). هناك فرق كبير في المنهجية المتبناة من جانب العلوم وتلك المتّبعة في الحقول الاخرى للتحقيق. ان الطريقة العلمية تتميز بكونها "موضوعية" و "تجريبية"، مرتكزة على التحليلات المنطقية والعقلانية للملاحظات، بينما التحقيق الروحاني هو بالمقام الأول "ذاتي" الى حد كبير. الفرق الأساسي يبدو ليس بين العلوم والروحانيات بذاتها طالما كلاهما يدّعي السعي لفهم "الحقيقة"، وانما هو بين الطريقة العلمية في التحقيق والطبيعة الحدسية للتحقيق الروحاني.

غير انه من الواضح لأي شخص ذو ذهن حساس ومنفتح في متابعة "الحقيقة"،ان العلوم والطريقة العلمية لهما محدودياتهما. هناك سنصل الى نقطة في عملية التحقيق العلمي في طبيعة الأشياء والانسان ومكانه وهدفه في الكون، فيها تكون التحليلات المنطقية والعقلية غير قادرة على توفير كل الأجوبة، ستبقى هناك عدة أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالإرتكاز على البيانات الحسية وحدها. العديد من العلماء الكبار توصلوا الى نفس هذا الاستنتاج.

ان "الحكمة التقليدية" او "الفلسفة الدائمة" التي تجسدت في الأدب الثيوصوفي أظهرت بوضوح العملية الحدسية والتأملية والإستبطانية التي نحتاج تبنّيها لتحملنا قدما الى ما وراء النقطة التي تصل بها العلوم الى طريق مسدود. هذا الاتجاه حتما يقودنا الى مسار وُصف بـ "التحقيق الروحاني". لسوء الحظ ان النجاح الساحر والمذهل للعلوم وربيبتها "التكنلوجيا" في الأوقات الأخيرة، أعطى انطباعا زائفا (خاصة لجيل الشباب) بان العلم "يعرف كل شيء" وانه تمكّن من كل الطبيعة، وان الكون بأكمله يمكن توضيحه وفهمه من خلال العلم وحده. بعض المتحمسين بافراط ومن العقلانيين ايضا عززوا هذا الانطباع. في هذا المقال سنطرح بعض المحاولات لكيفية ردم الفجوة بين العلم والروحانيات وكيفية التوفيق بين الاتجاهات الاستنتاجية/الاختزالية و البديهية/التأملية. سيتم التركيز على اهتمام العقلانيين الصادقين والمنفتحين بان هناك حقا عنصر هام للحقيقة يفتقده العلم؟

هذه المقالة لاتتحدث لا عن انموذج تيار العلوم السائد ولا عن الخصائص الاساسية للتحقيق الروحاني، وانما تفحص مختلف الجهود التحقيقية الحالية التي تكمن في منطقة التفاعل والإلتقاء بين العلم والروحانيات.

فيزياء القرن التاسع عشر،"الكالفينيون والمادية

يمكن تحديد ثلاث حقب زمنية في تقدم العلوم:

1- ما قبل القرن السادس عشر او "العلم القديم" والذي جرى اتّباعه كجزء من دراسة الفلسفة الطبيعية.

2- فترة ما بعد القرن السادس عشر او فترة فيزياء نيوتن.

3- ما بعد اينشتاين/النسبية/فيزياء الكوانتم او فيزياء القرن العشرين.

في نهاية القرن التاسع عشر،سيطرت فيزياء نيوتن او الفيزياء الكلاسيكية او الميكانيكية على التفكير العلمي فاتحة الباب لعصر "المادية". العلماء ادّعوا انهم فهموا كل ما في الطبيعة بمساعدة لغة الرياضيات. عندما عبّر الشاب ماكس بلانك عن رغبته للعمل بحقل الفيزياء تلقّى نصيحة بالعمل في التجارة كونها أفضل له من العمل بالفيزياء لأن الأخيرة لم يعد فيها شيء لم يُكتشف بعد. الفلكيون يمكنهم ان يصفوا بدقة حركة الكواكب حول الشمس والتنبؤ بالخسوف، المهندسون يمكنهم تصميم جسور عملاقة وناطحات سحاب وبناء سفن ضخمة مصنوعة من الستيل، يمكنهم إنشاء محركات بخارية قوية لسحب قطارات الشحن الطويلة وصنع بنادق مميتة وقنابل. ساعات مصممة بشكل معقد يمكنها قياس الوقت بدقة. الكهرباء جرى توليدها من السدود ومحطات إحراق الفحم لسحب عجلات الصناعة، بينما اختراع اديسون للمصباح الضوئي أضاء كامل المدن. النفط الخام كان قد اكتُشف توا وتم وضع الأساس لصناعة كيميائية مزدهرة. ظن العلم بان الكون كان في الأساس ساعة عملاقة يمكن قياس تقدمها بدقة والتنبؤ باستعمال قانون نيوتن في الحركة، وقوانين الديناميكا الحرارية ومختلف قوانين الكيمياء ومعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية التي توضح كل شيء. المؤسسة العلمية كانت مقتنعة بان البشرية سيطرت على كل الطبيعة. أحد أكبر المؤيدين لهذا النوع من التفكير كان اللورد كالفن الفيزيائي اللامع الذي بفضله نقيس الحرارة المطلقة للجسم بوحدات من درجات كالفن يوميا. لكن هذا النوع من "التفكير المتغطرس" يوصف الآن "كالفيني" لأننا الان نعرف ان الفيزياء لايزال امامها طريق طويل في التحقيق لحل أسرار الطبيعة. كانت هناك حاجة لولادة فيزياء نواة الذرة ومفهوم المساواة بين الكتلة والطاقة الذي يُفترض ان يرسل موجات صادمة حول العالم .

ثورة الكوانتم في القرن العشرين

شهد القرن العشرون ظهور كل من النسبية وفيزياء الكوانتم. بدءاً من تجارب ماكس بلانك في الإشعاع عام 1900، والنظرية النسبية الخاصة لاينشتاين التي أسست الزمن كبعد رابع، ثم تطور نظرية الكوانتم لتوضيح نموذج بوهر الذري المتّبع وفق مفهوم ثنائية الجسيم-الموجة، ومبدأ اللايقين لهيزنبيرغ وغيرها، حتى بلوغ الذروة في الملاحظات التجريبية المدهشة لـ "الجسيمات المتشابكة"، اصبحت الفيزياء الآن تقبل بـ اللامكانية (non locality) كحقيقة للطبيعة. هذا غيّر كليا موقف الفيزيائيين تجاه الروحانيات. النسبية وفيزياء الكوانتم كانا مؤثران جدا في جعل العلم أقل مادية رغم حقيقة ان مناصري النسبية (اينشتاين) وفيزياء الكوانتم (خاصة نيلز بوهر) كانا في تخاصم مع بعضهما حتى وفاة اينشتاين. في هذا السياق قد يتذكر القرّاء عبارة اينشتاين الشهيرة "الله لا يلعب النرد ". وبعد مجيء فيزياء الكوانتم، كان هناك قليل من الحافز لدى علماء بارزين، خاصة الفيزيائيين، في متابعة الدراسات المتصلة بالروحانيات كتلك الذي ذاع صيتها بفعل أعمال شرودينجر و فريتجاف و كابي و روجر بنروز و بول ديفس و ديفد بوهيم. ونفس الشيء كانت هناك ايضا ثورة في البايولوجي وعلوم الحياة (DNA، الشفرة الوراثية)، خلقت اهتماما متجددا في الأسئلة الروحانية.

يُقال ان "الموضوعية" هي حجر الزاوية في المنهجية العلمية خاصة الفيزياء الكلاسيكية التي تؤكد على قابلية الفصل بين المراقِب والمراقب. هناك افتراض ضمني أساسي متأصل بان توجد هناك "حقيقة مستقلة عن المشاهد" وان فعل الملاحظة لايشوش الشيء الذي تجري ملاحظته. هذه الخصائص المفترضة للاتجاه العلمي كانت العقيدة الأساسية لفيزياء نيوتن لكنها لم تعد صالحة لعصر ما بعد الكوانتم. خاصة في المسائل المتعلقة بعالم الذرات المجهرية والجسيمات الأساسية.

من غير الواضح ان كان لايزال من الملائم القول ان هدف العلم هو فهم الواقع. من الملائم القول ان فهم الواقع كان الهدف الأصلي للعلم عندما بدأ المشروع العلمي أول مرة. ولكن ربما من الملائم اكثر القول الآن ان العلم اليوم هو اكثر اهتماما باشتقاق نماذج رياضية تصف وتتنبأ بسلوك الانظمة الفيزيائية اكثر مما تسعى لإعطاء وصف مفاهيمي للواقع. يبدو ان الطبيعة تتبع شكلا غريبا من المنطق(او اللغة) تطور بفعل الانسان نشير له بـ "رياضيات". الفيزيائي بول ديفس في كتابه (ذهن الاله) وآخرون ركزوا على سبيل المثال على "الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية". غير ان النماذج الرياضية والنظريات ليست مقدسة وانما عرضة للمراجعة المرتكزة على ملاحظات جديدة. العلوم اليوم هي راضية تماما بالنماذج النظرية القائمة التي توضح الملاحظات التجريبية وتتنبأ بالسلوك المستقبلي للأنظمة الفيزيائية في ظل مجموعة جديدة من الظروف، وهي أقل اهتماما بالأسئلة حول ما اذا كانت النماذج الرياضية لها أي علاقة بالواقع .

الظواهر الخارقة والعلم الهامشي

كانت الملاحظات أكّدت مبكرا بان "تيار العلم السائد" يبدو تجاوز كليا مظاهر معينة من الواقع. الظاهرة بان العلم غير قادر على الفهم والتوضيح سميت بالخوارق او فوق الطبيعة او الظاهرة النفسية. التحقيق العلمي بمثل هذه الظواهر يقع تحت فرع من العلوم يسمى "التخاطر" parapsychology. هناك مؤسسة للتخاطر مرتبطة بالمؤسسة الامريكية لتقدم العلوم. يبدو ان المؤسسة العلمية السائدة كانت متسامحة علنا مع البحوث في هذه العوالم الغامضة ولكن في التطبيق نجد غالبية علماء التيار السائد يصفون البحث بمثل هكذا مواضيع بـ"العلم الزائف" او "العلم الهامشي" fringe science. من بين العديد من الكتب الحديثة التي لخصت المكانة الحالية للتحقيقات العلمية للظواهر الخارقة، كان كتاب دين رادنس (الكون الواعي – الحقيقة العلمية للظواهر النفسية،1997)، و كلود سوانسن في كتابه (الكون المتزامن – العلم الجديد للخوارق،2003) و جون بوكري في كتابه (مواجهة بين الفيزياء والظواهر الخارقة،2005) وجميعها كانت كتابات مقنعة جدا. بعض الظواهر الخارقة التي جرى التحقيق فيها باستعمال المنهجية العلمية هي:

1- الظواهر الذهنية الشاذة و"الطاقات الخفية" وهي صفات استثنائية للذهن الانساني ( على الأقل ذهن بعض الاشخاص) مثل التخاطر والتصورات بما هو خارج الحواس، وظاهرة التفاعل بين الذهن والمادة او تحريك الشيء بجهد ذهني فقط (psychokinesis) وغيرها.

في هذا السياق يتجه اهتمام الشكاك والعقلانيين الى ثلاثة مجالات مهمة جدا من البحث. الاول هو التحقيق العلمي (وتطبيقاته اللاحقة لأغراض عسكرية) في قدرة الذهن الانساني (عُرف منذ العصور القديمة في الهند بـ ديفيا درشتي Divya-Drishti)، في الرؤية المباشرة للأشياء والاحداث والمناظر الواقعة في مكان جغرافي بعيد (وربما منفصل مؤقتا). كان هناك برنامج صُنف بالسرّي للغاية موّلته وكالة الاستخبارات العسكرية الامريكية اثناء الحرب الباردة (1972-1995)،والذي سُمي رسميا برنامج "الرؤية من بعد" Remote Viewing". ولكن اشير اليه كما معروف بـ "التجسس النفسي". استنتاجات برنامج البحث هذا الذي شارك فيه فيزيائيون في معهد البحوث العلمية SRI الدولي، كاليفورنيا، بالاضافة الى الامثلة عن "مهمات التجسس" الحقيقية المنفذة تحت الاشراف المباشر للبنتاغون (مشروع ستارغيت) متوفرة كلها على الانترنيت (الرؤية عن بُعد) في غوغل.

بالنسبة للثيوصوفيين كل هذا شيء قديم الطراز. لكن من المهم ملاحظة التماهي القوي بين الاستنتاجات العلمية المنبثقة من برنامج الرؤية من بعد  وملاحظات ليدبيتر في كتابه الصادر عام 1899 بعنوان (استبصار).clairvoyance.

الدراسة العلمية الثانية هي برنامج بحث تجريبي مستمر بعنوان "مشروع الوعي العالمي"(GCP) ويعتمد على سلسلة من 60 كومبيوتر شخصي، كل واحد فيه سوفتوير خاص صغير(مولّد لرقم عشوائي) تفحص "نطاق وعي جمعي" لكل العالم على مدار الساعة. تفاصيل هذا المشروع واستنتاجاته الهامة متوفرة على الموقع الألكتروني لـ (Gcp) على http://noosphere.princeton.edu..

الاستجابة الهامة والمذهلة لشبكة Gcp حدثت في 11 سبتمبر 2001 عندما ضرب الارهابيون مركز التجارة العالمي في نيويورك. في ورقة راجعت البيانات الملتقطة في ذلك اليوم فقط نُشرت في  منشورات اسس الفيزياء عام 2003 افترضت بان رد فعل متزامن لبلايين الناس الذين يشاهدون برنامج تلفزيوني عن الاحداث المتكشفة في زمن واقعي خلقت تماسكا في نطاق وعي الجماعة العالمي والذي بدوره أثّر على خصائص مولدات الرقم العشوائي.

التحقيق العلمي الهام الثالث هو العمل التجريبي الاخير للبروفيسور تيلر الذي اعتُبر أب فيزياء الطاقة الخفية. تيلر كفيزيائي متميز وبروفيسور فخري في جامعة ستانفورد، يبدو قد عثر صدفة على آلية فيزيائية اساسية بواسطتها يتفاعل وعي الانسان وربما حتى الحيوان  مع كل من المادة الحية وغير الحية. هو وصل الى نموذج نظري جديد لكنه تأملي مرتكز على تجاربه وفق "فكرة مغروسة بوسيلة الكترونية" حيث  يدّعي انه نجح في زرع "افكار ونوايا خاصة" في وسيلة الكترونية. هذه التجارب لو صمدت في اختبارات متكررة وبتوثيق مستقل فهي ستكون رائدة حقا ونذيرا لثورة علمية ثالثة. دراسات تيلر واسعة جدا ولدرجة لا تسمح بالتعامل معها كموضوع لهذه المقالة. لكن اولئك المهتمين قد يرغبون بالاطلاع على كتابه "بعض مغامرات العلم مع لغز حقيقي،2005". كانت الآلية التي يتفاعل بها ذهن ما مع آخر او يتاثر به  او بشيء آخر(تفاعل شبحي من بُعد) كما سماه اينشتاين لغزا مستمرا للمجموعة العلمية. هناك جمعية دولية للدراسة العلمية للطاقة الخفية وطب الطاقة مع مطبوعاتها،مجلة الطاقة الخفية التي اهدافها هي "تحقيق علمي في كل اشكال التفاعلات المعلوماتية والطاقية في الانظمة البايولوجية". تجارب تيلر تقترح ان الطاقات الخفية هي ايضا نوع من التفاعلات الالكترومغناطيسية، هو ادخل مفهوم  التفاعلات "المغناطيسية الكهربائية" لتوضيح ظاهرة الطاقة الخفية.

2- السؤال عن وجود محتمل للروح لا تفنى بعد الموت، ودراسة السؤال المتصل بالتناسخ الذي صُنف في التخاطر بـ "بحث البقاء". جمعية البحث النفسي في المملكة المتحدة ونظيرتها في الولايات المتحدة كانتا تحققان علميا في بقاء الروح بعد الموت منذ قرن، زعمتا الاتصال من وجودات لاجسمية عبر وسائط.

هل هناك أي صلاحية علمية للادّعاء باتصالات ما بعد الموت من "الجانب الاخر"؟. في عام 2003 في اجتماع جمعية الاستطلاع العلمي، عرض سكرتير لجنة بحوث البقاء في المملكة المتحدة تفاصيل لحالة جريمة ملفتة حُلّت في اغسطس من عام 2001 بعد 18 سنة،بعد استلام 125 قطعة من المعلومات الدقيقة المتصلة بالجريمة، يُزعم انها من ضحية ميتة. التحقيقات اللاحقة المرتكزة على تقرير وسيط قادت بالنهاية لإتهام المشكوك فيه. كذلك التقرير الرسمي لـ SPR(جمعية البحث النفسي) حول تحقيقات (سكوا) في المملكة المتحدة المنشور في ديسمبر 1999 أكّد حقيقة "وجود نطاق واسع للظواهر النفسية مثل الظواهر المرئية والسمعية واللمسية من فريق من "ارواح متصلة" عبر جماعة وسيطة. هناك مجموعة كبيرة من الاوراق البحثية والكتب تتعامل مع تجارب الاقتراب من الموت و تحقيق الادّعاءات المتعلقة بتناسخ الاطفال.

هل يمكن رفض كل هذا واعتباره غير علمي فقط لأنه من غير الممكن اكتشاف او قياس الروح الميتة باستعمال وسائل علمية او كتابة معادلة تصف تجارب الاقتراب من الموت؟. القضية المثيرة للاهتمام والتي تحتاج للتحقيق هي الوجود المحتمل للكينونات الوهمية التي اشير اليها في جميع الثقافات القديمة كالجن او الملائكة او اشياء سماوية. هنا مرة اخرى بالنسبة للثيوصوفيين ترتكز حقيقة هذا الموضوع على دراسات الاستبصار لـ  ليدبيتر و جيفري هودسن والتي اُخذ بها كمسلمات. العقلاني سيطرح سؤالا حول ما اذا كان هناك أي دليل علمي لكل هذا ام انه كله تلفيق تام من عمل الخيال؟ مع ان هذا السؤال يتجاوز نطاق هذه المقالة، لكن يجدر القول ان هذه الاسئلة جرى التعامل معها في العديد من الكتب الجديدة المنشورة في السنوات الاخيرة في هذا الموضوع.

أحد هذه الكتب ذات الفائدة للثيوصوفيين هو كتاب "الحياة السرية للطبيعة،1997" للكاتب بيتر تومبكنس، صاحب الكتاب الشهير "الحياة السرية للنباتات". مقدمة الكتاب الاول تبدأ بالاشارة لعمل بيسانت و ليدبيتر حول الكيمياء الغامضة ويستمر ليقترح ان بيسانت و ليدبيتر صحيحان جدا في وصف البناء المفصل للذرة.

استنتاج

هناك دائما عنصر من الحقيقة يمكن تحسسه مباشرة بمقدار اقل او اكثر وبمقدار من العمق عبر مستويات عليا من الوعي الانساني. هذا العنصر العالي للحقيقة يُشار اليه بالحقيقة الباطنية "inner reality". وبمقدار ما يتعلق الامر بالحقيقة الخارجية، يجب الاعتراف بانه بجانب الطريقة العلمية المعروفة،فان طريقة "العلم الغامض" في التصور الحدسي المباشر توفر فعلا طريقة بديلة ومكملة للحصول على المعرفة، رغم ان كل من هاتين الطريقتين لهما عيوبهما ومحدودياتهما. وهكذا حتى العقلانيين المشككين الذين يعتقدون ان لاشيء هناك يمكن معرفته اكثر مما يقدم العلم، اُجبروا على الإعتراف بان مختلف حقول التحقيق، أي العلم الغربي الحديث و العلم الغامض يسيران جنبا الى جنب مع الروحانية، ويكملان بعضهما البعض وكلاهما يكافحان لإعطاء صورة متكاملة للعالمين الخارجي والداخلي. وبهذا فان الحدود بين كلا المجالين من التحقيق "العلم" و "الروحانيات" تصبح تدريجيا أقل وضوحا.

 

حاتم حميد محسن

.......................

Bridging the gap between science and spirituality, Electronic Journal of sociology, ISSN: 1198 3655

للخبير سرينيفاسان (الرئيس السابق لقسم الطاقة الذرية الهندي).

 

 

 

علي محمد اليوسفتصدير: اللغة تجريد التعبير اللفظي عن المعنى الادراكي في مرجعية بيولوجيا العقل. فهل اللغة استعداد فطري موروث؟ ام هي نزوع انساني غريزي مكتسب بالتجربة الحياتية ومؤثرات البيئة والمحيط وقبلهما العائلة لغرض ادامة التواصل الدائم بين النوع الواحد البشرالذين يربطهم العيش المشترك؟

اللغة البيولوجيا والفطرة

نرى الامر واقعا انثروبولوجيا طبيعيا حينما نعتبر فهمنا اللغة البشرية على انها (موضوع بيولوجي)، رغم خاصية اللغة التجريدية الغالبة على البيولوجيا. على الاقل بما تذهب له النظريات العلمية في دراسة وظائف مكونات الدماغ. وليس مباحث الفلسفة على السواء التي ترى موضوع اللغة بالتفسير البيولوجي مصدره الرؤية الذاتية لاختراع تصنيع كل فرد لغته الخاصة به كسلوك مجتمعي في محكومية اشتراطات عديدة منها فطرية واخرى بيئية مكتسبة في تكوين ما يطلق عليه عالم اللغات جومسكي (النحو الكلي) الذي يجمع قواعد اكثر من لغة واحدة.

اللغة تولد استعدادا فطريا بيولوجيا عضويا ناتج تطور حنجرة الطفل الوليد الانسان باختلافها عن حنجرة الحيوان على مدى احقاب زمنية سحيقة في التطور الانثروبولوجي. فاللغة اخترعها الانسان تواصليا في تقليده اصوات الحيوانات والتي اختلفت عنها لدى الانسان على انها اصوات ذات معنى تواصلي محدد مع عدد من الاختلافات التي سنمر بها سريعا لاحقا في فرادة لغة الانسان.

ربما يذهب تفكير البعض ان صيحات انواع الحيوانات هي ايضا ذات معنى تواصلي يجمعها في درء الخطر عن نوع تلك الحيوانات وفي نداءات صيحات الحيوان من اجل اشباع غريزته الجنسية التي تكون عادة موسمية بخلاف عملية الجنس لدى الانسان التي تكون حاضرة على الدوام. وهو تساؤل وجيه والاجابة عليه ان تطور حنجرة الانسان الصوتية جعلته يهتدي الى اختراع نوع من الابجدية الصورية اللغوية بينما بقيت حنجرة الحيوان لا تمتلك الخاصية التعبيرية اللغوية في الوصول الى شكل صوري معين يحمل دلالة صوتية يفهمها النوع والسبب وراء ذلك ليس في انثروبولوجيا تطورات الطبيعة وانما السبب يكمن في ذكاء الانسان النوعي بما لا يمتلكه الحيوان..

الفرق بين لغة الانسان ولغة الحيوان

في مطالعتي مقالة الباحث مصطفى بن الزهرة على موقع كوكل نت خرجت بالتالي بتصرف مني: اللغة سواء عند الانسان او عند الحيوان انما تكون لاشباع رغبات وحاجات مختلفة يحتاجها الجسم. كما ان الرمزية الدلالية اللغوية اي الابجدية الصوتية تختلف بين الانسان كما هي تختلف عند الحيوان. فلغة العربي هي غير لغة الفرنسي، كذلك صيحات القرود هي لغة تختلف عن صيحات الاسود او النمور.اما عن الاختلافات بين لغة الانسان عنها عند الحيوان فيمكن اختصارها بالتالي:

- لغة الانسان مكتسبة من البيئة والمحيط بخلاف لغة الحيوان الفطرية الطبيعية غير المكتسبة. (طبعا هذا ينسجم مع وجهة نظري في متن هذه المقالة، ويقاطع تماما منحى التوليد الفطري الذي يربط الفعالية اللغوية بالسلوك النفسي اللفظي وملكة التوليد اللغوي التي يحوزها الانسان كخاصية بيولوجية عقلية.).

- لغة الانسان واعية بينما لغة الحيوان طبيعية عفوية. (الحقيقة الثابتة التي مررنا عليها تقول كما هي لغة الانسان قصدية لتحقيق هدف او اشباع حاجة غريزية كذلك هي عند الحيوان، والفرق لا يكون باللغة بل بالوعي الذكي. ولا يعني هذا ان الحيوان لا يمتلك وعيا بل يمتلكه بحد ادنى من خصائص ما يمتلكه وعي الانسان من خصائص متعالية تقوم على ذكاء العقل البشري).

- لغة الانسان ابداعية تتسم بالتنسيق الجمالي المفتوح على أطر وفضاءات وعي الحياة بينما هي عند الحيوان عفوية ساذجة. (لانعدام خاصية الذكاء والوعي بالزمن وفقدان الحيوان ملكة توليدية افكار لغوية تعمل على تطوير لغته).

- لغة الانسان متطورة بالتقادم الزمني بينما تكون لغة الحيوان لا تتقبل التطور لانها لا تدرك حاجاتها المستقبلية له . طالما انها تحقق هدفي التواصل النوعي في مجموعاتها وهدف التكاثر النوعي معا.

اصل اللغة انثروبولوجيا

اللغة في تطورها وصلت قبل 300 عام ق. م الى ابجدية مقطعية صورية وليست ابجدية حرفية (من الحرف) اخذت شكل تدوين صوري تفهمه مجموعة من الاقوام ولا تولد اللغة فطرية يمتلكها الطفل بالولادة كما هو الحال في امتلاكه الموروثات الجينية الاخرى التي توصل معرفتها علم اللغة واللسانيات وعلم النفس السلوكي..الا ان هناك فلاسفة وعلماء نفس يعتبرون اللغة استعداد فطري لتعلم اللغة وهو صحيح اذا ما كان مرادفا لا يعني الفطرة الموروثة خالصة كما في امتلاك ملكة العقل.

يعتبر التدوين الابجدي الصوري الصوتي في لغة السومريين والفراعنة والصين والهند يمثل بداية تاريخ دخول الانسان في مرحلة صنعه الحضارة الانسانية التي يرجعها علماء الانثروبولوجيا الى نهايات العصر الزراعي الذي بدأ 7500 ق.م وشهد بروز الاديان الوثنية. كما ويطلقون على تاريخ ما قبل التدوين هو تاريخ اللاتاريخ للاقوام البدائية (الاثنولوجيا) التي نعرف لاتاريخها غير المدون اليوم في اركيولوجيا الحفريات الاثارية وليس بالكتابة التي لم تمكن معروفة تدوينيا.

اعتقد اوضحنا التفريق بين اثنولوجيا الاقوام البدائية التي لا تمتلك بقايا كتابات بسيطة لذا تكون الحفريات الاركيولوجية هي الاساس الذي يعتمده المؤرخين في دراستهم لتلك الاقوام البدائية، بينما انثروبولوجيا العصر الزراعي امتازت بمعرفة ظهور الكتابة المسمارية في العصر النحاسي الاول يرافقها بروز الطقوس الوثنية الدينية.

نظرية جومسكي في النحو اللغوي الكلي

 اللغات التي اخترعها الانسان عبر العصور تجاوز المئات وربما تصل عشرات الالوف اليوم واكثر اذا اضفنا لها اللهجات العامية الخاصة بكل مجموعة بشرية حتى لو كانت صغيرة تعيش في كنف لغة شعب اشمل من لهجات الاقليات التي تتعايش معها. ولكل حرف في لهجة عامية او لغة شعب اكتسبت بمرور الاستخدام التداولي مجتمعيا قواعد نحويه ثابتة مستقرة لدى بعض الشعوب هو ابجدية صوتية مختلفة عن غيرها من لغات شعوب وامم العالم.

لذا اللغة وليد استعداد فطري يكتسب كامل تمام بنيته الابجدية وقواعده النحوية من العائلة والمجتمع ومراحل التعليم الدراسي وفي قراءة الكتب ليتوقف على نحو لغوي من القواعد والاحكام الصرفية والبلاغية ورسم دلالة الحرف الصائت وغيرها لا يشابه غيره في لغات اخرى.. ولا يمكن تداخل لغة مع اخرى بالاندماج في احتواء الاشمل للمحدود من اللهجات اللغوية. وهذا لا يشبه تداخل مفردات لغوية مع مفردات اخرى قد تقترب في الابجدية وتختلف بالمعنى، وربما العكس واردا.

واللغة ليست حوارا تواصليا سيسيولوجيا فقط عند اصحاب السعي نحو ايجاد نحو كلي جامع لاكثر من لغة واحدة في محاولتهم تسهيل قواعد بعض اللغات. ولا هي فعالية ادراكية تبدا بالحواس وتنتهي بالنفس كما تذهب له المدرسة السلوكية اللفظية الامريكية في علم النفس والتي يعتمدها جومسكي بتفرد نقدي خاص له عليها اطلق عليه القابلية الفطرية التوليدية في تعلم اللغة. بينما يرى الاخرون اللغة موضوعا بيولوجيا عقليا يرتبط بوظائف المخ وتخليقه الفكرالادراكي والوعي بالموجودات في صور تجريد اللغة التعبيرعن تلك المدركات.

إنكار بعض فلاسفة اللسانيات ان اللغة ليست تخليقا ادراكيا استبطانيا على صعيدي التعبير عن موضوعات الخيال ومخزون الذاكرة ولا في التعبير عن موجودات العالم الخارجي المادية وظواهره لكن هذا لا يلغي حقيقة العلم في تاصيل السمة العضوية البيولوجية لانتاج العقل للغة انثروبولوجيا. ولا يمكن فصل اللغة عن تفكير العقل. اللغة ليست ماهية فكرية مغلقة للعقل، بل هي خاصية انفرادية منفتحة للعقل. بمعنى اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي إحدى خصائص العقل الانفرادية من مجموع خواص عقلية لا يمكن حصرها.

من المهم التنويه ان تفكير العقل استبطانيا جوانيا في مواضيع خيالية لا يختلف عن التفكير في تعبير اللغة عن المدركات الخارجية في العالم الخارجي. فالتفكير العقلي في كل احواله الادراكية المادية والخيالية هو تجريد لغوي يقوم على ابجدية الاصوات في شكلها الصوري الذي يتمثّل الاشياء والمدركات المادية في نفس آلية التعبير التجريدي الصوري لمواضيع الخيال والمادة على السواء.

بمعنى اللغة من حيث ايصالها المعنى في كتابة قصة بالادب هي نفسها اللغة المعبّرة عن وجود ازهار في حديقة. ففي الحالتين تكون اللغة تفكير عقلي تجسده اللغة من حيث الآلية التي تقوم على ثنائية الادراك الحسي والخيالي في التعبير اللغوي عن تلك المدركات..فمثلا حين يريد شخص وصف الحالة الجوية فهو يستعمل لغة تجريد هي نفسها في ابجدية تجريد كتابة رسالة من حيث آلية رصف الحروف والكلمات والجمل في التعبير عن المعنى. وطبعا من المحال ان تكون ابجدية لغة عربية هي نفسها ابجدية لغة فرنسية او انكليزية.

يرى عالم اللغات الفيلسوف نعوم جومسكي ان اللسانيات يجب ان تخضع كما هو العلم الطبيعي الى منهج التجريبية، وان اللغة ليس منشأها التوليدي البيولوجيا العضوية الناتجة عن تركيبات فسلجة وظائف اعضاء محتويات وتكوينات المخ في منظومة الخلايا العصبية التي هي فعل تخليق بيولوجي صادر عن بعض مناطق تكوينات المخ المرتبطة بخاصية كهربائية عصبونية تصدرها الخلايا العصبية كردود افعال استقبالية للمخ او ردود افعال انعكاسية صادرة عنه تجاه مدركاته.، وانما القول اللغة فعالية ادراكية تقوم على البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها وليس في امتثالها لقيود الفلسفة كما يرغب جومسكي ذلك. فهي مسالة تنسف الطريق المسدود الذي قطعته فلسفة اللغة ونظرية المعنى. طريق فلسفة اللغة المسدود هو في اعتبارهم النسق اللغوي هو نظام محايد يوازي واقع الحياة ولا يقاطعه.

ديكارت وماهية اللغة

كما يرفض علماء اللسانيات ومنهم جومسكي بيولوجيا اللغة التي تبدأ بوعي المدركات الحسية ومواضيع المخيلة الذاكراتية وتنتهي بعضوية بايولوجيا علاقة العقل بالجسد التي يجدونها علاقة معقدة ممثلة في تداخل السلوك النفسي للغة مع الخاصية التجريدية لتعبير اللغة عن العالم المادي والعالم الخيالي على السواء..

أي اللغة هي ليست محدودية ماهوية في تجريدها تفكير العقل وفي التعبيرلغويا عنه الذي وصفه ديكارت العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته التفكير الادراكي في معرفة العالم الخارجي ولا تربطه علاقة تخارجية بالجسد. ديكارت عزل تفكير العقل اللغوي عن بيولوجيا الجسد الفاني. بمعنى موت الجسد لا يلغي خلود العقل غير الفيزيائي المجرد. هنا اعتبر ديكارت لغة العقل هي ماهية العقل في خاصية التفكير الخالد الذي لا يموت بموت الجسد.

هذا العقل التجريدي والذي تطلق عليه فلسفة اللغة الخطاب او اللوغوس. هو حسب توصيفات ديكارت العقل القائم جوهره على تجريد جوهر اللغة وليس على جوهر بيولوجيا العقل ذاته. وليس هناك من علاقة عضوية بيولوجية تربط تجريد اللغة بالمخ والاعصاب والحواس. اي اللغة ليست موضوعا بيولوجيا كما يقول به اليوم جومسكي وعلماء اللسانيات اللفظية السلوكية. هذا يقودنا الى أن اللغة آلية تقوم بها الحنجرة واللسان من دون مرجعية بيولوجيا العقل.

من المعلوم جيدا أن ديكارت يعتبر العقل هو الجوهر غير الفيزيائي الذي يلازم النفس بعدم الفناء وخلودهما (العقل والنفس) بعد فناء الجسم عضويا. ديكارت عندما يقول خلود (النفس) انما كان يقصد او لا يقصد مرادفها (الروح). والا لم يكن سقط في تعبيره النفس جوهر خالد. النفس رغم استدلالية التعبير عنها بالسلوك النفسي القصدي لاشباع حاجات بيولوجية بتجريد لغوي الا أن النفس موضوع بيولوجي يختلف عن الروح التي هي مفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا التحقق منه.

النفس في علم النفس التجريبي ظاهرة استبطانية وجدانية تحكمها الرغبة في اشباع حاجات الجسم النفسية وترتبط عضويا تجريديا بالعقل وترجمة السلوك لها يمكن ادراكها ولا يعاملها علم النفس على انها روح خالدة كما يصورها لنا اللاهوت الديني. مصطلح الروح لا معنى له خارج التصورات الميتافيزيقية الغامضة التي تستوعبها بالحديث عنها وحسب وتعجز تفسير ماهيتها.

 ديكارت تغاضى عن معاملة النفس سلوكا فرديا ضمن مجتمع كما هو دارج في ابسط ادبيات علم النفس. والنفس ممكن اخضاعها لتجارب علم النفس كما تفعل العلوم الطبيعية بتجاربها وقال ديكارت بخلود النفس والعقل. كونهما جوهرين من التجريد الذي يفارق فناء الجسد العضوي.

الصوفية في الاديان الوثنية البوذية والهندوسية والزرادشتية لا يؤمنون بالخلود لذا نجد الحلول النفسي الصوفي في موجودات الطبيعة عندهم هو تجسيد النفس – الروح ولا فرق بينهما. مذهب وحدة الوجود يعتبر الحلول النفسي في موجودات الطبيعة هي تجسيد عظمة نظام الكون لا فرق ان يكون خالقا او مخلوقا. غالبا ما يستخدم صوفيي الاديان الوثنية تعبير الروح عوضا عن النفس رغم التعالق الازدواجي الذي يجمعهما.

تجزيء العقل بما يلغي ماهيته التجريدية اللغوية يلغي بيولوجيا العقل – الجسد، ويلغي بيولوجيا اللغة - السلوك. كما يلغي بيولوجيا العقل التوليدي للغة المكتسبة عن المحيط والاسرة ومراحل التعليم، والغاء العلاقة التوليدية اللغوية ان لا تكون لها رابطة بالفلسفة بل رابطتها الحقيقية بالبصيرة التفسيرية كما يذهب له جومسكي. وهي نظرية نراها تحتاج العديد من الاسانيد. (تنظر مقالتنا المنشورة على صحيفة اوروك بعنوان: نظرية السلوك اللفظي اللغوي ومواقع عربية عديدة).

اللغة جزء أو مبحث من مباحث علوم اللسانيات، والفلسفة كمنهج معرفي رغم احتشادها بمختلف شؤون المعرفة والطبيعة واللغة والحياة والانسان، مثل علم النفس، البيولوجيا، الانثروبولوجيا، والابستمولوجيا، والتاريخ، والوعي الفطري والوعي المكتسب والسلوك وغيرها من مباحث فلسفية يجعل من تواصل وشيجة اللسانيات بفلسفة اللغة اقوى من تلك التداخلات التي مررنا بها. بمحكومية جميع تلك التداخلات وغيرها هي مباحث متعالقة بالفلسفة في اوثق الاواصر منها فلسفة اللغة.

بعيدا عن اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن الفلسفة على حد تعبير جومسكي. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو نحو الفردانية في الفهم الا اننا من المهم ان لا نجعل البصيرة النافذة تغلب على الوصاية العقلية في تفسير معنى اللغة وتعالقاتها بغيرها من حلقات منظومة العقل الادراكية.

البصيرة الحدسية التفسيرية لا يمكنها اختزال العقل في الادراك التجريدي الذي وسيلته الوحيدة هو تعبير اللغة. كما ان العقل يعامل اللغة على انها اصوات تعبيرية عن معاني الاشياء المادية وموضوعات الخيال التي يدركها.

صحيح الفلسفة ليست المنهج التقليدي الوحيد في تفسيره قضايا اللغة ومباحث علوم اللسانيات الا انها الارجح والاقرب اكثر من غيرها مثل اعتماد البصيرة التفسيرية وقوة نظرياتها بعيدا عن مباحث الفلسفة في فلسفة اللغة. البصيرة التفسيرية اضافة الى انها تنحو منحى الفردانية كما ذكرنا الا انها لا يمكنها اختزال ادراكات العقل في تجريد تعبير اللغة عما نريده. البصيرة التفسيرية حشد استقبالي لمعاني مدركات تعبير اللغة، بينما العقل هو تخليق عضوي بيولوجي للغة. ونحصل بالاخير على نتيجة موضوع اللغة بيولوجيا وليس موروثا فطريا.

فريدريك سكينر ومباديء السلوك اللفظي

 سكينر فيلسوف وعالم نفس امريكي 1904 - 1990 حاول دراسة ترابط علم اللغة بعلم النفس. وعمل استاذا في جامعة كامبريدج الامريكية. عضو الجمعية الامريكية للفلسفة. برز سكينر رائدا لهذا الاتجاه حين أصدر كتابه "السلوك اللفظي" وكان الكتاب يعتمد تداخل صوت اللغة مع السلوك اللغوي في مرجعية علم النفس في السعي الوصول الى اثبات عدة فرضيات نظرية فلسفية لغوية هي:

- تركيز الاهتمام بالظاهر الخارجي من اللغة (الصوت - الكلام) فقط ومعاملتها حالها حال أية ظاهرة سلوكية أخرى ترتبط بعلم النفس . 1

- اهمال دراسة المعنى اللغوي على إعتبار ان المعنى ليس مظهرا خارجيا يمكن النظر فيه والتحقق منه كموضوع مستقل بالمنهج العلمي التجريبي كما يجري في دراسة موضوعات ونظريات العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة. 2

هنا لا بد من التنويه أن علماء السلوك اللفظي اللغوي حين أهملوا جانب المعنى في اللغة، فهم جردوها من أهم مقوماتها وأهم اهدافها الحياتية المتفرعة عنها وهي عديدة لا حصر لها. في مقدمتها يأتي مهمة التواصل وتعطيل تبادل إكتساب المعرفة العلمية بانواعها وكذلك تعرية اللغة من قواعد النحو والصرف والاشتقاق وغيرها الخاصة بكل لغة مكتوبة تمثل خاصية انفرادية لشعب من الشعوب او امة من الامم.. في السعي نحو الوصول لما اطلق عليه جومسكي (النحو الكلي) الجامع لخصائص نحوية لاكثر من لغة واحدة.

ركز اللغويون السلوكيون على اللغة المنطوقة (الصوت – الكلام) واهملوا المعنى في اللغة المكتوبة إهمالا كبيرا، وصّبوا جلّ إهتمامهم على نظام اللغة الصوتي وإعتبروه المظهر الاساس باللغة. 3

كما إهتموا بالصوت كمظهر خارجي وحيد يمكن إعتماده بدراسة اللغة في مقارنتها بظواهر صوتية في لغات أخرى محاولين الوصول الى قواسم مشتركة تجمع بين لغات مختلفة في نحو توليدي خاص يجمع اختلافاتها النحوية ويعمل على تيسير سهولتها التداولية وهو ما يطعن الهوية الوطنية للشعوب التي تجد لغتها القومية الخاصة قد انصهرت وذابت في معترك ما يسمى النحو الكلي الجامع لاكثر من لغة.. لم يول(ي) علماء لسانيات السلوك اللفظي وفلاسفة الفطرة التوليدية في اكتساب اللغة كثير اهتمام أن اللغة كائن انثروبولوجي حاله حال الانسان بمجموعته الكينونية الموحدة يتطور ويتغير باستمرار.

جومسكي ومبحث النحو التوليدي

تلقى كتابات جومسكي في اللسانيات والسياسة ومختلف مباحث الفلسفة رواجا غربيا كبيرا في الجامعات الامريكية والعالمية، والشيء المهم انه انبرى العديد من علماء اللسانيات وفلاسفة العقل واللغة الدفاع عن سقطة جومسكي اعتباره اللغة فطرية بالكامل ويرجع له الفضل في اكتشافه النحو الكلي. ويفهم من هذا ان النحو التوليدي الجامع لأبجدية اصوات اللغات المختلفة كانت موجودة واكتشفها جومسكي ولم يخترعها من عنده وهي مغالطة اقبح من ذنب. ويعزو جومسكي سبب ايمانه بالنحو الكلي يعود الى استعداد فطري لدى الطفل في تعلمه اللغة. وتدارك بعض علماء اللسانيات الانجليز قولهم ان هذا المفهوم سبق لهم ان قالوا هم به.

لا اعتقد جرى في مباحث فلسفة اللغة التفريق بين الاستعداد الفطري لدى الطفل تعلم اللغة هل يعود لموروث عضوي تكويني في تمايز حنجرة الانسان وتوافقها الوظيفي مع اللسان في نطق ابجدية اصوات اللغة باختلاف عن الحيوان.؟

أم الاستعداد الفطري في تعلم اللغة الذي يؤيدونه جومسكي واتباعه انه لا علاقة عضوية بيولوجية تربط التعلم بالوعي العضوي العقلي، وانما يرثه الانسان كما يرث الخصائص الجينية الموروثة التي اكتشفها العلم؟ وعلى البصيرة التفسيرية حسب جومسكي تحقيق البرهنة في اكتشاف التفسير التجريبي حاله حال اجراء التجارب على اية قضية علمية.

إرجاع الاستعداد الفطري لتعلم اللغة الى ملكة تجريد صوتية غير عضوية خطأ سبق وان قال به ديكارت حين اعتبر ماهية وخاصية التفكير العقلي تجريد غير فيزيائي لا علاقة له بالعقل العضوي (المخ). وبنى على هذا الخطأ تصوره الخاطيء الآخر أن لا علاقة تربط بين ازلية جوهر العقل التفكيري وخلوده مع النفس ولم يقل الروح بعد مغادرتهما الجسم الفاني المتفسخ عضويا بعد الممات.

تعامل ديكارت قوله العقل والنفس جوهرين خالدين لا يفنيان بعد موت الجسم خطأ جسيم لا يفرق بين تجريدية الادراك العقلي الذي مرجعيته لا فيزيائية ولا عضوية – وهو محال – وبين ماهية العقل التجريدية لغويا في مرجعية تكوينه عضو بيولوجي يستقر في جمجمة الانسان ويفنى بفناء الجسم.

الحصيلة التي لم يتقبلها ديكارت تحت سطوة التماهي مع سلطة ونفوذ رجال الدين وقتذاك القرن السابع عشر أنه لا بد من التسليم بوجود خلود بعد الموت وفناء الجسد. فاختار ديكارت اهون الشرين امام اللاهوت الذي يرى الروح خالدة ولم يقل النفس. ولما كانت الروح مصطلحا لاهوتيا تقاطع نزعته العلمية التجريبية قال بالنفس الخالدة.

لا يوجد ما يثبت لنا ان العقل والنفس جوهران لا يفنيان بفناء الجسم. اللغة في جميع تحولاتها الاستبطانية في تعبيرها عن موضوعات الخيال وفي ادراكاتها عالم المادة الخارجي هي اولا واخيرا تجسيد لعلاقة عضوية تربط اللغة بتفكير العقل ولا حتى ترتبط بتفكير الذهن خارج تعالق الذهن بوصاية العقل عليه. البعض ينسب للذهن خاصية تفكيرية مستقلة ايضا لا علاقة عضوية تربطها بالعقل. وغالبا ما يعبّر عن الذهن هو العقل.

اكرر نفس العبارة التي سبق لي ذكرها ان اللغة ليست ماهية العقل الوحيدة بل هي خاصية عقلية واحدة من جملة ما لا يحصى من خصائص عقلية تربط علاقة الجسد بالعقل بيولوجيا.

فهم اللغة بدلالة علاقة العقل بالجسد

يصر جومسكي اعتباره اللغة ليست موضوعا بيولوجيا ويتغاضى عن حقيقة " ان الرؤية الذاتية للغة تدخله في حقل علم النفس – كما اشرنا له سابقا – وفي نهاية المطاف يدخل حقل علم الاحياء (البيولوجيا) ما يرتب على ذلك وجوب تحليل اللغة عن طريق منهجية العلوم الطبيعية التجريبية وهو ما لا يقبل به جومسكي "4

هذه الاشكالية التي ينكر طبيعتها المنهجية جومسكي يقودنا الدخول في معضلة علاقة العقل بالجسد "وكيف يستطيع ما هو تعريف – مجازي خيالي تجريدي للعقل لا مادي ممثلا بتفكير العقل اللغوي – تحريك ما هو مادي الجسد في تكويناته البيولوجية؟

امام هذه الاشكالية التي زامنت الفلسفة يعترف جومسكي بتشائمه من حل هذه المعضلة التعالقية بين العقل والجسد في توسيط اللغة. ويعزو الحل الى وجوب توفر امكانية التوصل لحل علمي متى ما يتحقق لنا التفريق بين استعمالنا اللغة كمقابل معرفتنا ماهية اللغة.

اود تثبيت الملاحظات التالية:

1- ارى ان تجريد اللغة من انثروبولوجيتها وجيناليوجيتها في التاصيل البيولوجي من تاريخ اختراع ونشأة اللغة، يقود الى العلاقة الاشكالية بين العقل والجسد. وعلاقة اللغة بالسلوك، وعلاقة النفس بالعقل، وجميع هذه التجليات الاشكالية تدور بالمحصلة حول المشكلة وليس الدخول في حل واف يستطيع البرهنة على ان اللغة استعداد فطري موروث وليس موضوعا بيولوجيا.

2- بنفس هذه الآلية في تاصيل اللغة بيولوجيا، بما يعزز مباحث علوم الانثروبولوجيا والتطور التاريخي للانسان، تحيلنا حل معضلة هيمنة العقل اللامادي على الجسد المادي وتجسيد ذلك انما يكون من خلال التعالقات الوظائفية بينهما ابرزها ان اللغة سلوك انساني وفهم ادراكي للعالم.

3- الفقرة الاخيرة التي تثير تشاؤم جومسكي في استغلاقها العصي على الحل هو ما لم يتم التفريق بين استعمالنا اللغة – اي بيولوجيا اللغة السلوكي – وبين اعتبار ذلك مرادفا لمعرفتنا ماهية اللغة، نجدها لا تمثل اشكالية فالاستعمال الوظائفي للغة هو الذي يمنحنا معنى اللغة بالحياة .

 

علي محمد اليوسف /الموصل

...................................

الهوامش:

 نعوم جومسكي: افاق جديدة في دراسة اللغة والعقل ترجمة عدنان حسين .

هوامش 1،2،3،4 الصفحات 19 - 21

 

علي رسول الربيعيتمثل الديمقراطية قمة للفلسفة السياسية، يرتبط فهمها ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الاجتماعي. لذلك من المنطقي أن نسأل عن الديمقراطية في إطار الفلسفة الاجتماعية. لا يتعلق الأمر هنا بمسألة إلقاء الضوء فلسفيا على أسئلة محددة ومفصلة عن تصميم النظام الديمقراطي، بل بالأحرى بالأسس الاجتماعية الفلسفية للديمقراطية. وذلك من اجل فهم  ماتعبر عنه هذه الأسس للتواصل السياسي (الإجماع مقابل الخلاف)، ومعالجتها للتطورات العالمية الحالية (الدولة مقابل المجتمع العالمي) واستجابتهم للرقمنة (الرقمية مقابل التناظرية).

لقد أصبحت هذه المسائل أكثر أنتشاراليوم على خلفية القضايا السياسية الأكثر أهمية وراهنية. يبدو نموذج الديمقراطية غالبا في هذا السياق حتى يومنا هذا بوصفه أفضل شكل ممكن للحكم السياسي. ومع ذلك، فإن الظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية الحالية تتحدى الديمقراطية كمفهوم نظري وكشكل من أشكال التنظيم السياسي. تتنوع هذه التحديات مثل: تعقيد التطورات الاجتماعية في مجال الرعاية الصحية سواء في دول العالم الراسمالي او الدول الاخرى القل تطورا، ظاهرة "المواطنين الغاضبين" الذين يعبرون عن خيبة أملهم من خلال في مظاهرات غاضبة؛ أو الجهود الكبيرة التي تبذلها أغلبية دول العالم لمحاربة الأزمة المالية واثرها على حياة الناس، حيث يبدو تأثير الدولة الديمقراطية خاضعًا للقيود الاقتصادية؛ وأخيرًا الاختلاف المتزايد بين المخولين باتخاذ القرارات والمتأثرين بالقرارات في ضوء المشكلات العالمية.

أدت كل هذه الظواهر إلى فتح  نقاش حول أزمة الديمقراطية. لكن لا ينبغي المبالغة في هذه المناقشات حول الأزمة، لأن تصور الأزمة قد رافق الديمقراطية لأكثر من 2000 عام، فهي  ربما جزء من مسار الديمقراطية نفسها الى حد ما. يميز ميركل[1] بين نموذجين قويين يمثلان، إلى حد ما ، أقطاب النقاش: نموذج الحد  الأدنى ويركز على الانتخابات الحرة والمتساوية، ونموذج  الحد الأقصى الذي يدمج سرديات العدالة الاجتماعية أو المواطنة النشطة أو المؤسسات في مفهوم الديمقراطية. ففي رأيه تكون نتائج الأزمة أكبر كلما زاد فهم الديمقراطية. واستنادًا إلى كلا النموذجين، لم يكن هناك عدد من الديمقراطيات المستقرة كما هو الحال اليوم. ومع ذلك، تكمن المشكلة في أن السكان عادة ما يكون لديهم مستوى عالٍ من الثقة في الإدارة والشرطة والقضاء فقط، في حين تتعرض المؤسسات الأساسية للديمقراطية التمثيلية (مثل الأحزاب السياسية) لانتقادات شديدة. تعمل الشعوبية بشكل خاص في أشكالها المختلفة حاليًا على تكثيف هذا النقد للديمقراطية. هذه خلفيات مهمة للنقاش الذي اثيره هنا.

إجماع أم نزاع

يتعلق أول تمييز مهم للفلسفة الاجتماعية بمسألة أي شكل من أشكال التواصل السياسي له أهمية خاصة في الديمقراطية. يلعب راولز وهابرماس من ناحية، ومن ناحية أخرى، الديموقراطيون الراديكاليون مثل شانتال موف أو بتلر دورًا مهمًا في هذا. حيث يمكن لأفكارهم (على سبيل المثال المصممة أيديولوجيًا) عن الحياة الخيرة أن تكون جزءًا من العملية السياسية. كان راولز قد حدد بالفعل حقيقة التعددية كنقطة انطلاق لفلسفته، لكنه طالب بعد ذلك بأولوية الحق والعدالة على الخير، وبالتالي لم يأخذ في الحسبان الأفكار التعددية للخير أو الحياة الناجحة. إن السمات المركزية للاستخدام العمومي للعقل بالنسبة لراولز،على هذه الخلفية، هي المعاملة بالمثل والفهم العام للقناعات المقدمة.

إن المذاهب الشاملة أو وجهات النظر العالمية، بالنسبة لراولز، هي تعليمات للحياة الخيرة، لا يمكن استخدامها علنًا  أو في المجال العام إلا إذا اجتازت مرشح العقل العملي وقبلت أولوية الحق على الخير.[2] لا يمكن للمذاهب الشاملة أن تساهم بشيء ما في الخطاب السياسي إلا إذا كانت قد مرت بعمليات ترجمة مناسبة. إن رؤى العالم التي لا تريد الالتزام بحد الاستخدام العام للعقل "أو غير قادرة على التعامل معه، لا تستطيع أن تلعب دورًا نشطًا داخل مجتمع منظم جيدًا".[3]

يرى راولز أنه يمكن أيضًا أن ندع المفاهيم الاجتماعية للعدالة تتأثر بالعقائد الشاملة، لكن ينبغي تجريدها من ذلك في الخطاب العمومي ، ايً الخطاب في المجال العام. لذلك يطالب راولز بالطبيعة الملزمة لعقد افتراضي من وجهة نظر غير حزبية ويطالب بالاحترام المتبادل في الخطاب العمومي، حيث يدين جميع المواطنين لبعضهم البعض بأسباب لتفهم لمعتقداتهم بشكل عام. فالمداولات الديموقراطية، بالنسبة له، تهدف إلى إعطاء وأخذ الأسباب التي من المحتمل أن يفهمها جميع الناس وتمثل الإجماع المتداخل أو توافق الآراء المتداخلة بين هذه المواقف.

هناك أمورًا مركزية مشتركة بين راولز وهابرماس في هذا السياق حتى لو اختلفت مقارباتهما في العديد من النواحي. يدعو هابرماس على أساس أخلاقيات الخطاب التي تم تحديدها بالفعل ، إلى تبادل معقول للحجج في المجال السياسي أيضًا ، والتي تنشأ من مفهوم العقل التواصلي. أظهر هابرماس في العديد من الكتابات كيف يمكن تطبيق هذه الرؤية الفلسفية سياسيًا. إن الديمقراطية التداولية هي الشعار الذي يقف فوق هذه الاعتبارات. يريد عند القيام بذلك ، أن يميز نفسه عن المواقف الليبرالية التي تؤكد على البعد الاجتماعي بشكل ضئيل للغاية والتي من الواضح أن السياسة فيها لا تضع في الاعتبار سوى حماية أو إنفاذ المصالح الخاصة.

تسعى الديمقراطية التداولية، في المقابل، إلى إضفاء الطابع المؤسسي على عمليات الرأي وصنع القرار، والتي يشارك من خلالها أكبر عدد ممكن من الناس في المجتمع في المناقشات حول المسائل الحاسمة للعيش المشترك. يضمن المجال العام الطبيعي و العفوي واللامركزي تعددية الآراء. يتبنى هابرماس عند القيام بذلك، أيضًا، أفكارًا براغماتية من حيث اهتمامه بتنوع الممارسات الاجتماعية التي تشكل أساس العمومي، وبالتالي للحوار والتفاوض السياسي.[4]

إن الهدف من مثل هذه الإجراءات هو إجماع معقول ومتولد بشكل تواصلي. إن هذه هي الطريقة الوحيدة، بالنسبة له،لإضفاء الشرعية على القرارات السياسية من أجل تعايشنا وحث الناس على دعمها في بيئتهم المعيشية. يغير هذا شرعية الإجراءات الديمقراطية في نهاية المطاف أيضًا. لا تعني الديموقراطية - حسب هابرماس - فقط أن السياسيين المنتخبين يالذين تحكمون في العمليات الاجتماعية ، بل تعني اعتبارًا خاصًا للمجتمع المدني أيضًا.

"فلم تعد قدرت العملية الديمقراطية على إضفاء الشرعية وحدها، ولا حتى في المقام الأول، من المشاركة والتعبير عن الإرادة، ولكن من الوصول العام لعملية تداولية" التي تسمح بتوقع نتائج مقبولة عقلانيًا. يغير هذا الفهم النظري لخطاب الديمقراطية المتطلبات النظرية لشروط شرعية السياسة الديمقراطية.[5]

إن مثل هذا الفهم للسياسة القائمة على أخلاقيات الخطاب هو ماينكره الديمقراطيون الراديكاليون. ترتبط في هذه النظرية، التي تتبع بالمعنى الأوسع فلسفة هيجل الاجتماعية، خطوط مختلفة من التقاليد مثل  عناصر من ماركس أو أنطونيو جرامشي أو دريدا. تمثل النظرية الراديكالية للديمقراطية، في المناقشة الحالية، نقيضًا مهمًا للنظرية الليبرالية للديمقراطية، وسنبين  من خلال النظر في اقتراحات موف كمثال.

تتميز الديمقراطية، في تفسير موف، بطبيعة متناقضة لا يلتقطها التيار الليبرالي السائد. المفارقة هي أن الديمقراطية تجمع بين وجهين متعارضين ظاهريًا، وهما الحرية الفردية ومبدأ المساواة. وتعتبر أن التوتر بين الجانبين لا يمكن التغلب عليه حيث يمثل  وفي الوقت نفسه قوة دافعة مركزية للديمقراطية.

طورت موف جنبا إلى جنب مع إرنستو لاكلو أساسًا اجتماعيًا فلسفيًا لاعتباراتهم الديمقراطية النظرية في وقت مبكر من الثمانينيات.[6] يظهرالمجتمع فيها كشكل معقد من الخطاب،ويبدو هنا تاثرهم بمنهج  فوكو التحليلي للخطاب. لا ينشأ المعنى، بالنسبة لموف، من خلال الإشارة إلى العالم الخارجي، ولكن في الخطابات الاجتماعية والسياسية فقط. فالخطاب هو مجموع اجتماعي يتغير ديناميكيًا باستمرار. إنهم يعتقدون بسبب هذه الديناميكية وعدم القدرة على تثبيت المجتمع على معنى واحد، أن المجتمع دائمًا غير مستقر وهش. لهذا السبب توجد دائمًا حجج جديدة حول ترسيخ أو تثبيت الخطابات؛ وهذه هي السمة المركزية للسياسة.

تشرح موف هذه الاعتبارات من خلال اللجوء إلى الفلسفة السياسية ونظرية كارل شميت تحديدا، أحد أكثر الفلاسفة الاجتماعيين إثارة للجدل في القرن العشرين. فالسمة المركزية للسياسة بالنسبة لشميت، هي التمييز بين الصديق والعدو. فيتشكل المجتمع من خلال الهويات الجماعية التي تستبعد بعضها البعض بالضرورة وبالتالي تتقاتل. ينتقد شميت الليبرالية لأنها: أولاً، تركز كثيرًا على الفرد وتتجاهل تلك الهويات الجماعية، وثانيًا، تبالغ في تقدير إمكانات الاتحادات الاجتماعية.[7]

تتعاطف موف مع فهم الديمقراطية بوصفها تعددية فيما يتعلق بالنضالات السياسية، لكنها أنتقدت شميت ايضا لأن تميل أعتباراته نحو شكل شمولي للمجتمع. هذا هو السبب في أنها تدعو إلى التحول من العداء إلى نوع من الخصام بوصفها نظرية سياسة تؤكد على الجوانب الإيجابية المحتملة لأشكال معينة من الصراع، وتسعى لإظهار كيف يمكن للأفراد قبول هذا الصراع وتوجيهه بشكل إيجابي.  فترى أنه في الديمقراطيات يمكن محاربة المواقف بديلا عن مفهوم العداء؛ حيث "لكل فرد الحق في تمثيل مواقفه بشكل قوي وعاطفي. فيكون الخصم هنا عدو شرعي، يقبله المرء على الأقل موجودًا و إنه جزء مبررمن النضال السياسي.

تنتقد موف، مع هذا المفهوم للديمقراطية الراديكالية،الفهم الليبرالي للديمقراطية. فمن وجهة نظرها ، يرى مفكرون مثل هابرماس أن القليل جدًا من السياسة هو ساحة للنضال العام. إنها لا تفهم هذا الصراع على أنه صراع بين الأفراد، ولكنه صراع داخل حقائق خطابية، أيً بين علاقات القوة/ السلطة المنظمة بشكل  خطابي.

وتوجه موف نقطة ثانية من النقد إلى المفكريين الليبراليين: أذ تتجاهل النظريات الليبرالية للديمقراطية، في رأيها، الروابط داخل المجتمع. إنها تؤكد على غرار فالزر،[8] على لحظة العاطفة، التي تفسرها بوصفها محرك للعمليات الديمقراطية. "تتمتع السياسة دائمًا  ببُعد من الحزبية العاطفية وهذا بالضبط ما هو مفقود في تمجيد للديمقراطية غير المتحمسة وغير المتحيزة اليوم ".[9] تدور نظريات الديمقراطية الراديكالية حول نقد أساسي للفهم الليبرالي للعقل. فيشير المفكرون ذوو الطابع الليبرالي، وفقًا لتقدير موف، إلى مفهوم شكلي ولكنه قوي للعقل الذي يريد ربط التعددية الاجتماعية بالوحدة. وضرب هابرماس مثلا على ذلك أيضًا من مفكرين ما بعد الحداثة مثل Wolfgang Welsch ، الذي "يريد أن يربط التعددية بالوحدة، على الرغم من أنه لم يعد قادرًا على كشف كيف  أنه مازال من الممكن تصور هذه الوحدة".[10] وهكذا يتم دفع تعددية الآراء الاجتماعية (على أنها غير معقولة) إلى المجال الخاص. يمكن تمثيل ذلك من خلال اعتبارات هابرماس حول المجتمع ما بعد العلماني، حيث يعتبر المعتقدات الدينية مبهمة وبالتالي يتم تفسيرها جزئيًا في البيئة الأخلاقية الخاصة.[11] تسير تأملات راولز حول التعاليم الشاملة في اتجاه مشابه جدًا. تعكس هذه الاعتبارات مرة أخرى من منظور الديمقراطية الراديكالية ،انخفاضًا في قيمة التعددية، والذي يرتبط أيضًا بالتمييز الليبرالي (الذي يجب انتقاده) بين الخاص والعام.

إن هذا له تأثير أيضا على مسألة البُنى الديمقراطية العالمية. بينما يؤمن المفكرون التداوليون بالحجة العقلانية لبناء مؤسسات عالمية مشتركة، يركز آخرون مثل موف على أهمية  الأخذ في الحسبان  الخلافات والنزاعات بين مختلف الجهات الفاعلة على المستوى العالمي وفي مناطق محليًة.[12] ومن الأمثلة على ذلك تركيزهم على تعددية النماذج الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم.

تشير العديد من مناهج الديمقراطية الراديكالية، من الناحية الفلسفية، إلى دريدا. حيث يفسر الديمقراطية التوافق مع تفسيره للقانون كشيء قادم، فيصفها بأنها "ديمقراطية قادمة".أيً  يشير " إلى إمكانية جذرية لانتقاد وإعادة صياغة العلاقات السياسية القائمة. فالديمقراطية وعد يجب خلقه وتجديده مرارًا وتكرارًا في الخطاب الاجتماعي. فتعني قادمة أن الديموقراطية رؤية تتغير أو تتجدد من قبل الناس كل يوم. شيء يجب العمل من أجلها. هناك ضرورة ملحة لأن العمل على الديمقراطية القادمة لا يمكن تأجيله.[13]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................... 

[1] Merkel, W .: Is the crisis of democracy an invention? In: Reder, M./Cojocaru, M.D. (Ed.), Future of Democracy: End of an Illusion or Departure to New Forms? Stuttgart 2014, 25-46

[2] Rawls, J.:Political Liberalism, ‎ Columbia University Press; 2005,133-135.

[3] Wallner, J .: Rawls and Religion. On the legal conception of religion in the work of John Rawls. In: Austrian Archives for Law and Religion (50 / 3-4), 2003, 554-587.

[4] Nida-Rümelin, J .: On the philosophy of cosmopolitanism. ln: Journal for International Relations (13/2), 2006, 227-234.

[5] Habermas, J.:The Theory of Communicative Action, Volume 2: Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason.

[6] إرنستو لاكلو ، شانتال موف: الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية،ترجمة، هيثم الناهي، المنظمة العربية للترجمة، 2016.

[7] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 

[8] Walzer.M.: Spheres Of Justice: A Defense Of Pluralism And Equality,Basic Books, 1984.

[9] Mouffe, C.:On the Political, ‎ Routledge,2011. 40-41.

[10] Welsch, W .: reason. The contemporary critique of reason and the concept of transversal reason. Frankfurt / M. 1995.139.

https://ecommons.cornell.edu/handle/1813/54

https://ecommons.cornell.edu/bitstream/handle/1813/56/Welsch_Reason_traditional_and_contemporary.htm?sequence=1

[11] https://socialtheoryapplied.com/2015/05/14/awareness-missing/

[12]https://philpapers.org/go.pl?id=MOUWWO&proxyId=&u=http%3A%2F%2Fwestminsterresearch.wmin.ac.uk%2F6633%2F1%2FMouffe_2008_header.pdf

[13] https://ces260jh.files.wordpress.com/2013/01/derrida-rogues-two-essays-on-reason.pdf

 

مجدي ابراهيملم يكن "ديكارت" ببعيد عن الصواب حينما أراد أن يمثل لمبدأ العقل بمجاز الشمس؛ لتشبيه مبدأ العقل كمبدأ أولي لكل العلوم؛ كالشمس في إشراقها وإشعاع نورها على الأشياء لتضيئيها؛ فكما تطل الشمس على العالم لتنيره فكذلك نور العقل يطل بإشراق المعارف ويقول "ديكارت" في كتابه قواعد لهداية الذهن، أو قواعد لتوجيه الفكر: "إذا أراد أحد أن يبحث عن الحقيقة؛ فيجب عليه ألا يدرس فكراً خاصَّاً؛ لأن العلوم جميعها متحدة فيما بينها، ويرتبط بعضها ببعض. واختلاف الموضوعات أمرٌ عرضي والضامن لمعرفتها واحد وهو وحدة العقل والحقيقة". فهذه الوحدة العقلية إنما هى نور العقل الذي هو كالشمس في إشراقها تطل على العالم لتنيره، وكذلك يطل العقل بنوره بالعلوم والمعارف فيكشف وحدتها وينير غسقها ويجمع شتات ما تفرّق منها ويلم جزئياتها وتفاصيلها تحت مبدأ كلي معرفي عام. 

ــ المراجعة منهجُ فلسفي:

وربما جهل كثيرون أهميّة المراجعات الفلسفية من طريق جهلهم بتطبيق القاعدة الرابعة والأخيرة من قواعد المنهج الديكارتي؛ الأمر الذي لفت انتباه المفكرين المعاصرين إلى خلوّ الساحة القلمية الفكرية من أمثال هذه الدراسات، وكشف كتاب المفكر البارز الدكتور عصمت نصّار، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي بآداب القاهرة : "مراجعات فلسفية في الفكر العربي الحديث" (الصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع في طبعته الأولى بالعام 2018م)، عن هذه اللفتة الغائبة، فصدّر مقدّمة كتابه بتصدير وافٍ عن مصطلح المراجعات، إذْ قال: لم يشغل مصطلح المراجعات الفلسفية (Revisions Philosophy) موقعه الذي يستحقه على مائدة البحث الفلسفي، ولم تدرجه معظم المعاجم المتخصصة ضمن موادها. وذلك على الرغم من عنايتها بالمصطلحات التي انبثقت منه أو احتواها في جوفه، مثل الشرح والتفسير والتأويل والتأكد من سلامة أسس المناهج والرؤى النقدية للقراءات المعاصرة؛ فجميع تلك المصطلحات لا تعدو أن تكون ماصدقات لمفهوم المراجعة" (ص 11).

وراح يشرح منزع النهضويين والمجددين من الفلاسفة بداية من "هيرقليطس" إلى "جاك دريدا"، وتوكيدهم على أن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته على المراجعة الحرة؛ ولأن العقلية الناقدة هى وحدها العقلية القادرة على المراجعة حتى إذا وجد العقل كان النقد ضرورة لازمة له، يأتي بمنأى على أية سلطة سابقة حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجهت القراءات.

يعمل النقد بمعزل عن السلطات، وهو لا يعمل إلا بمراجعة فاحصة متأملة.

وتعرّضت المقدّمة التي تصدّرت كتاب "مراجعات فلسفية" إلى قواعد فرنسيس بيكون وديكارت؛ وهما ينشدان العلماء بضرورة تطبيق آلية المراجعة، لاختبار معارفهم ومشاهداتهم. فمن الواجب مراجعة ما علق في الذهن من معارف وأخبار ومعتقدات قبل الشروع في تأسيس المعرفة العلمية على أسس حقيقية مستمدة من الواقع؛ فالعقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلاً تاماً حتى تزول عنها الأوساخ ثم توجيهها التوجيه المناسب نحو الضوء؛ الأمر الذي يمكنها من ظهور الشيء المراد رؤيته ظهوراً كاملاً على سطحها.

وهذا ينطبق على العقل؛ إذ يجب أولاً أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله ممّا علق به من أوهام (كأوهام الكهف، والجنس، والمسرح، والسوق) التي حدّثنا عنها "بيكون"، والتي من شأنها أن تعوق تفكير العقل السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة اليقينية؛ ثم يمُكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل. وتكمن المراجعة في عمليتي تنظيف المرآة حتى لا ينعكس على سطحها أشياء غير موجودة في الواقع بفعل ما حاق بها من فساد، ثم مراجعة المعارف الذهنية المتوهمة التي أختزلها العقل دون تدقيق أو نقد أو شك.

للمراجعة ممّا لا شك فيه دور فاعل مُؤثر، وبالغ التأثير، في مجال كشف الحقيقة. وهى عند "بيكون" المدخل الرئيس الذي لا غنى عنه للوصول للحقيقة العلمية، والآلية الأقوم لتنقية الذهن من أوهامه.

وكما حدثتنا مقدمة كتاب "مراجعات فلسفية" لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، عن "بيكون"، تحدثنا كذلك عن "ديكارت" بفحص ثلاث كتب منهجية (مقال في هداية الذهن، والتأملات، ومقال في المنهج) يتبيّن من خلالها وجوب مُراجعة المعارف الذهنية التي اختزلها العقل من الموروث الثقافي أو المعارف الحسية أو المقولات الذهنية غير المتسقة؛ وذلك عن طريق الشك في مصداقيتها ثم نقد سياقاتها من طريق خطوات أربعة: 

ــ أولها: عدم قبول الغامض والملتبس والمعتم من المصطلحات والأفكار والمعتقدات، وقبول ما هو واضح ومتميز بذاته، أي بديهي. ومعنى كلمة بديهي هنا أنها موصولة بالحدس؛ فكل ما هو بديهي إنما هو نتيجة حدس.

والحدس ـ كما علمنا فيما تقدّم ـ مرحلة أولية يأتي بعدها الاستنباط العقلي، ثم تحليل مضمون ما سلمنا بصحته من الأفكار، ثم إعادة ترتيبه.

ــ وأخيراً : مراجعة ما استقر العقل على صحته من حيث الشكل والمضمون، ثم إحصاء الأفكار الصحيحة وإدخالها ثانية في الذهن باعتبارها معارف معقولة وأقرب إلى اليقين منها إلى الشك. يقول "ديكارت" : لا أستطيع عندما يكون لديّ سلسلة من الروابط أن أحدّد بدقة إذا كنت أتذكرها كلها، لذلك يجب عليّ أن أعيد النظر فيها مرات عدّة بحركة ذهنية متصلة من حركات الفكر حتى إذا تصورت إحداها بالحدس والبديهة انتقلت منها إلى غيرها ... وهكذا إلى أن أتبين كيف يمكنني الانتقال من رابطة إلى رابطة بسرعة لا تدع مجالاً للذاكرة فأحصل بمثل هذا على حدس للكل في وقت واحد" (ص12من الكتاب المذكور).

ويقول في كتابه "مقال في المنهج" عن القاعدة الرابعة التي ذكرناها فيما تقدّم : أن أعمل في جميع الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الوافية ممّا يجعلني على ثقةٍ من أنني لم أغفل شيئاً يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث" (ص 12).

ويحدّثنا في كتابه "التأملات" عن المراجعة باعتبارها ملكة ناقدة قادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى الحقائق متسقة الأجزاء، وتكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقع فيها بفعل السلطات السائدة أو المعارف الزائفة. ويضيف "ديكارت" أن عملية الإثبات أو النفي والحكم على الأفكار التي يحتويها الذهن لا يمكن وقوعها إلا بإرادة حرَّة؛ فيقول :" لكي نثبت أو ننفي الأشياء التي يفرضها الذهن، ولكي نقْدِم عليها أو نحجم عنها، علينا أن نتصرّف بمحض اختيارنا دون أن نحسّ ضغطاً من الخارج يُملي علينا ذلك التصرّف". فحرية الإرادة من أجل هذا ركيزة أساسية من ركائز حركة الذهن في البحث عن الحقائق.

وصفوة القول : إنّ "ديكارت" لم ينظر لقاعدة المراجعة على أنها آلية للتأكد من صحة خطوات منهجه؛ بل كان أشمل وأوسع؛ إذْ جعل المراجعة الركن الرئيس لإثبات صحة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللبس والغموض من مفاهيمنا وأذهاننا؛ لكأنه يريد يقول إن في المراجعة رؤية يجب التنبه إليها، وذلك إذا ما توافر فيها خصائص هى : الأناة والرويّة، والشمول والإحاطة، والنظام والترتيب (ص :13).

ــ تكوين الرؤية الخاصّة:

يلزم للباحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية؛ إذا هو طبق قواعد المنهج الفلسفي، أن يستخلص من وراء هذا التطبيق رؤية خاصّة. فقد سبقت الإشارة إلى أن جوهر البحث العلمي يكمن في إضافة الجديد واقتحام المجهول، وما دون ذلك ركود يتنافى مع المنهجية العلمية. وماذا عساه يكون الحال فيما لو كان البحث بحثاً فلسفياً، له شروطه وخصائصه في فحص المقروء والمكتوب؟

ولا جرم في أن منهج العلم يواجه الذات (ذات الباحث) ويعلو عليها، ويفرض قيوده صارمةً في خطواته المنهجية على البحث العلمي في سبيل الموضوع إذا كان يريد كشف الحقيقة وتكوين رؤية خاصّة بصاحبها؛ يتبيّن من خلالها تطبيق قواعد المنهج العلمي. وعلى هذا الأساس؛ لا يعرقل مسيرة البحث العلمي لدى الباحث المنهجي بما فيه من بعد أكاديمي غير كونه يركل الموضوعية منذ بداية طريق سيره في المنهج، ويظل يعبد مُقدِّساً ما يسمى بالبعد الذاتي، مع أن هذا الأخير ضرورياً في اختيار موضوع البحث والرجوع إلى ما يقرّره النص من مضمون يتفاعل مع الذات الباحثة؛ ليكوّن ـ من ثم ـ رؤية خاصّة بذات الباحث.

لكنه غير ضروري في بداية الطريق وغير ضروري أيضاً في إضفاء البعد الذاتي قبل موضوعية العلم؛ فيما لو أردنا تطبيق قواعد المنهج الفلسفي كما تبينت لنا فيما سبق؛ لأن العلم الذي يتعارف عليه مجموع الباحثين، لم يعد يعترف بأبعاد الذات بقدر ما يُخلي تماماً بينه وبين كل نزعة ذاتية أولية كشرط من شرائط الكشف عن الحقيقة في أول الطريق. وليس هنالك ما يشفي غُلة باحث سوى التسليم بضوابط البحث العلمي والفلسفي المتعارف عليها.

ولأجل هذا؛ كان من البديهي لكل بحث علمي جيد من أمرين : ترتيب المقدمات ترتيباً منطقياً خالياً من الخطأ والتشويش يسهل عليك وعلى كل ناظر بعدك إلى موضوع كموضوعك أن يستنتج النتائج من تلك المقدمات في صورتها الأخيرة.

ثم التنزه التام عن الأغراض والأهواء بدفع الشبهات؛ لأن الانقياد إلى الغرض مرض، وتحكيم الهوى في البحث العلمي باطل لا محالة، يخفي حقيقة ما عساه يتوصل إليه الباحث من نتائج أسفرت عنها مقدمات. وهو عينه المراد بالتخلي عن النزعة الذاتية وشوائب التعصب قبل الأخذ بالموضوعية الأمينة لمعالجة القضية التي يكون الباحث بصدد البحث فيها.

ولعلّ أهم السمات الخاصة ـ ولو فيما نراه نحن ـ بالباحث الأصيل، ذلك الذي ينفرد بين فئة الباحثين بقدرة الرد والتمحيص وقدرة الإقناع الشافي فيما يتصل بالمسائل التي يكثر فيها الخلاف، وتنشب حولها اضطرابات الأخذ والرد، والقيل والقال؛ هى أن تكون له مقدرة بالغة على خوض غمار البحث ومشكلاته، ولا يكون ممن يبحثون ولا يعيشون أبحاثهم وموضوعاتهم بأعصابهم ودمائهم، فتأتي أبحاثهم من غير باحثين رؤية وتحليلاً. فليس يكفي أن أحشد كماً هائلاً من الفقرات والنصوص في موضوع اخترته للبحث فيما هو أمامي من ركام الآراء والمذاهب لأستخرج منها جديداً صالحاً للقبول، وأرفض ما قد تجاوز بحكم الزمن صلاحية القبول. وهذه ظاهرة غريبة تشيع في الدراسات الفلسفية على التعميم، وفي الفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص : تكرارٌ مع اجترار سافر، وقلة هضم تدل على ضعف العقل من أول وهلة؛ ناهيك عن التقليد والمحاكاة وعدم القدرة على مجاوزة ألفاظ النصوص وحرفيتها.

ومن المؤكد أن النصوص بالنسبة لمجال الدراسات الفلسفية والإنسانية كالمواد الأولية الخام بالنسبة لمجال العلوم الطبيعية، لا يمكن لباحث أن يتخطاها. ولكنها مع ذلك هى جامدة صماء لا تنطق بذاتها إلا إذا استنطقها الباحث بمنهجيته وترتيب فكرة في الذهن عنها واضحة. هذا الاستنطاق للنصوص ومحاولة الحفر الدائم في أغوارها هو الذي يشكل رؤيته الباحث الخاصة لها. فليس من رؤية بدون تأمل وتفكر واستبصار. 

وإنك لتجد أكداساً من الكتب والدراسات لا تقدِّم جديداً فيما يُراد منه من مفهوم "الرؤية الخاصة" عن طريق منهج الحفر في النصوص، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية وأجزائها البسيطة كما نبهنا عليه "ديكارت" من كتابه مقال في المنهج، في قاعدته الثانية (قاعدة التحليل العقلي). ثم استخراج الرؤية الخاصة بذات الباحث بعد التحليل ثم التركيب ثم المراجعة والتنقيح. ولكن كل ما تراه هنالك مجموعة من النصوص والنقولات رُصت رصاً غير مضبوط بمنهج ـ أياً كان هذا المنهج ـ يُراعى فيه كشف حقيقة النقطة البحثية أولاً؛ والرؤية الخاصّة ثانياً، وافتقرت من ثم إلى طريقة التحليل والتقسيم والتنظيم والتركيب والمراجعة، ثم الوقوف أمام النصوص والفقرات بدايةً وقفة الناقد الممحص (لا وقفة الناقل المقلد) يقبل ما يراه صالحاً للقبول وفق مبادئ بديهية، ويرفض ما يتجاوز بحكم الزمن أو بحكم التقليد كل السلطات التي تقيّده وتفقده صلاحية القبول.

ولأجل هذا، لا يكون مصير تلك الأكداس المتراكمة والأبحاث التي ليس منها جدوى، غير الركون المهمل على رفوف المكتبات.

إنما الباحث الحق هو الذي ينفرد بين فئة الباحثين بالرؤية التحليلية ولا ينفرد بجمع المادة العلمية أو نقل النصوص من أصولها، أو من غير أصولها، (أعني نقلها من باحثين سابقين عليهم نقلوا بدورهم مثل هذه النصوص وتركوها مهجورة بغير نقد ولا تمحيص لم يستنطقوها، ولم يعرفوها ما هو مكنون خفيٌّ فيها) ثم رصها رصاً مشوهاً يكون من غير الجدير قرائتها في طبعات جديدة من غير إضافة وفي غير تحليل.

وعلى الباحث في مجال البحث النظري الفلسفي، إنْ أراد أن يكون باحثاً بحق، أن يعيش المادة ويهضمها ويضيف عليها من نفسه ما شاءت له الإضافة دون الإخلال بالمنهجية المتبعة، وهو من بعدُ إزاء كل اضطراب في الآراء والأفكار لا يرضى بديلاً عن الوضوح والبساطة. يبدأ بأضعف الآراء وأبسط الأدلة تدعيماً لما يقول، فإذا أراد تقوية آرائه حول قضية بعينها أو مشكلة من المشكلات، فلا يجري قلمه أولاً إلا على أضعف الأدلة سنداً لرأيه، ثم يتدرج من الرأي الضعيف إلى الدليل القوي. ولو كان هنالك عدة أدلة لهذا الرأي لوجب أن يتدرج من الضعف ثم إلى القوة ثم إلى الأكثر قوة، فإذا أستوفى سائر دلائل الرأي واضعاً في اعتباره هذا التدرج المنطقي من ضعف الأدلة إلى أقواها كان برهانه واضحاً مقبولاً في العقل والمنطق وبداهة الرأي السديد.

هنالك تصبح الرؤية الخاصة للباحث محققة بالفعل. ثم لا تزال هنالك مرحلة أخيرة لا تخفى على الباحث الأصيل وهى أن يلقى في روع القارئ أدلته إلقاء ذكياً يمرّنه بالانتقال بالفكرة من الجزء البسيط إلى الكل المركب؛ يلقيها بصورة كلية بعد أن استوفى أجزاءها التفصيلية، ولا ينقصها سوى الدليل الوجيه بحيث ينقله من جانب المعارضة إلى جانب الموافقة، وهو لا يزال يبعث في ذهن القارئ حيرة التشكك ويظل محتفظاً بأقوى أدلته لا يبوح له بها على الإطلاق إلا إذا اشتدت حيرة الشكوك في ذهن القارئ، فإذا أطمن إلى ذلك غاية الاطمئنان، ألقى بأقوى أدلته؛ لتصادف عقلاً متردداً فتجذبه جذباً إلى رأي الباحث فلا يعتقد غيره في هذه النقطة أو تلك من آراء.

لكن هذا لا يتأتى بحال إلا بعد هضم المادة وتكوين الرؤية واستخدام المنهج التحليل النقدي ـ بالدُّربة والتمرين ـ إزاء كل مقروء ومكتوب استخداماً حسناً. وليكن في معلومنا جميعاً : أنه كلما هضمنا من الحقائق أكبر قدر ممكن، استطعنا ترويض عقولنا على إفراز وتكوين الرؤية الخاصة بنا؛ وبمنهج معقول مقبول. وإني لأذكر عبارة لــ "بيرك" يقول فيها :"الحقائق للعقل كالطعام للجسم. وعلى هضم الحقائق هضماً لائقاً تتوقف قدرة الإنسان العقلية وحجاه، كما تتوقف العافية والصحة على الطعام. وإن الرجل الذي يهضم عقله أكبر عدد من الحقائق لهو أعقل الرفاق في المجالس، وأقدرهم على المناظرات، وأرقهم في الحياة معاملة ومعاشرة".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم