أقلام فكرية

أقلام فكرية

هناك افتراضٌ مُؤدّاه: أنَّ (الحقائقَ هي حقائق) ولا تحتاج إلى سلطةٍ، مما قد نتحدث عنه بمزج تلك الحقائق بدلالاتٍ ثقافية أخرى. ومن ثمّ،َ فلا تُوجد مبرراتٌ عمليةٌ لربط السلطة بالحقيقة. ورغم أنَّ قولاً كهذا يتضمن نوعاً من المنطق، إلاَّ أنَّه يَفترض التسليم بالحقائق دون اعتباراتٍ مغايرة. ولاسيما إذا ما وردت مقولة (الحقائق حقائق) كمثالٍّ له تطبيقات متنوعة بوصف الحقيقة عاريةً تلقائياً. وأنّها واضحةٌ بذاتها لدرجة البداهة، ولا تتطلب فهماً مركباً لطبيعتها الخاصة. وعليه، فلتذهب دلالةُ السلطةِ من حيثُ أتت، ولتبْقَ الحقيقةُ متفردةً من غير شوائب!!

ولكن لو كانت المسألةُ هكذا، لما كان هناك إنسانٌ يعرف الحقائقَ ابتداءً، فالحقيقة توجد مؤولةً في المعرفة والتاريخ، فضلاً عن كيفيةِ صياغتها. وحتى إذا سرْنا مع هذا المنطقِ إلى منتهاه، لعرفنا أنَّ للحقيقة قُوى أخرى: (قوة اعتراف، وقوة إقرار، وقوة عدالة وجودٍ، وقوة حُكم، وقوة بقاء، وقوة عودة) في سلةٍ واحدةٍ. وهذا ما ندركه بمجرد القول بأنَّ: (الحقائق حقائق)، وأنَّ أية قوى من هذا القبيل ذات طبيعة دينامية، وليست سلطةً تمارس تأثيراً فوقياً كنسق للفعل والحركة. وسيقف كلُّ ذلك- لو صح الأمر- في منطقة تجليات الحقيقة البينية داخل المجتمعات. فهذه الحقائق، وبخاصة بعض أحداث التاريخ والسياسة والمجتمعات، حقائق نوعية وتمس المناطق الموضوعية من الرؤى والحياة.

على أيّ حالٍ، يجب التفرقة بين أنواع الحقائق لمعرفة: ما إذا كانت كذلك موضوعية أم لا؟ وكيف ترتبط بمسألة سلطة الحقيقة؟!

حقائق طبيعية

وهي حقائق تجسد ظواهر طبيعية نلاحظها مثل شروق وغروب الشمس، مثل الليل والنهار، مثل حقيقة أثار الجاذبية ومثل حقيقة الطفو ومثل الضوء والزمان والحركة والطاقة. وهي الظواهر التي أبانت عنها كشوف علمية طوال السنوات السابقة، ومازالت هناك ظواهر أخرى لم تكتشف بعد. ولا أتصور أنَّ تلك الظواهر محل نقاش سوى في مدى تفسيرها العلمي، وما يترتب عليه من آثارٍ، وما ترتبط به من قوانين طبيعية. وبالفعل لا تخلو الحقائق الطبيعية من قوانين تُسيّر حركة الطبيعة وظواهرها المختلفة.

وعندما أقول إنَّه ليس هناك مجال للشك في ظواهر كهذه، فلأنَّها متميزة بوجودها الطبيعي، وبإمكان الإنسان العادي أنْ يلمسها ويجد مُبرراً لها نتيجة ترديد النظريات العلمية المفسِرة، ناهيك عن كونّها حقائق ذات دلالةٍ واضحةٍ، وأنَّ العلوم الطبيعية قد أثبتت آلياتها وتكرارها. ولكن الاختلاف وارد حول: طبيعة معرفتها، وكيفية صياغتها وجوهر التفسيرات التي تطرح لها. والأهم أنها ظواهر غير مثقلة بدلالات أخرى غير طبيعية، سواء أكانت إنسانية أم دينية أم غيرهما. أي ينتفي معها القول بقوى خفية تحركها أو قوى سحرية تأخذها بهذا الاتجاه أو ذلك. لأنَّ هناك معايير وأسباباً ومتغيرات يمكن سبر أغوارها بعمليات البحث والمعرفة. فالجانب الموضوعي منها يجعل سؤالَ الحقيقة واضحاً، إذْ ينزعُ عن الظواهر أية صفات إنسانية ترتديها، لأنها واضحة التكوين والتداعيات.

ولكن تظهر مشكلة الحقيقة، عندما يحاول الإنسان إلباس الحقائق الطبيعية لباساً انسانياً، فقد تُخلع عليها صفات المعقولية والروحانية والتعاطف والتغيُّر من حين لآخر بحسب ظروف الناس، وذلك عندما يتم ربط الظواهر بتحولات المجتمعات. فقد يسود اعتقاد أنَّ هناك ارتباطاً بين تحولات الطبيعة وأقدار الناس كما في حالتي التنجيم والسحر، وربما يتم الربط على أساس الاعتقاد والإيمان كذلك. ارتباط موروث في الثقافات البشرية من جانب بعض المجتمعات القديمة التي ألّهت النجوم والكواكب وقدّست الجبال والغابات والأشجار والحيوانات. وهذه الممارسات لا تذهب انثروبولوجيا هباءً، لكن الثقافة أجرت لها (إعادة تدوير recycling) من خلال المعتقدات والأفكار المهيمنة.

فبدلاً من تأليه الطبيعة وبعض عناصرها (بخلاف تطورات المعرفة وأوضاع الأديان التوحيدية)، كان التنجيم هو الساحة الخلفية التي تسللت منها نزعات تأليه الطبيعة في أشكال من العِرافة والخرافة وقراءة الطالع والتنبؤ بالمستقبل والأقدار. فإذا كان للحب إلهٌ، وإذا كان للسعادة إلهٌ، وإذا كان للخير إله، وإذا كان للشر إله، فربط الكواكب والنجوم بخريطة ميلاد الإنسان وحياته، اتاح إمكانية للدجالين والكهان الجدد للتحدث عن سؤال الحقيقة وسلطتها. لأنَّ الايهام بحدوث الأشياء والأحداث على خلفية السحر والدجل يراهن على إشعار المتلقي بأن الكون يسير بحسب ما يزعم أصحابهما.

وهنا رأس المشكلة: أن ما ألّه الظواهر الطبيعية قد (أخرج سلطة الحقيقة) من القمقم، فسادت ثقافة الخرافة لدى بعض الجماعات البشرية وغلّبت سلطة الحقائق موقفها من الحياة والطبيعة والإنسان والزمن. ومن يُراجع التصورات الشعبية عن الحسد والدجل والخرافة والأساطير، يدرك أنَّ سؤال الحقيقة هنا بات هو السؤال الأهم. وأنَّ نزع الأساطير عن العالم الطبيعي كان مهمةَ عصر فلسفي كامل اسمُه عصر التنوير والحداثة.

حقائق ميتافيزيقية

إذ تمثل تصورات عقلية مجردة يطرحها بعض الفلاسفة أو منْ يراها حقائق مؤكدة كبعض الأفكار والرؤى حول العالم والحياة. فلو قلنا إنَّ الوجود لامتناه، وإنه ممتد في الزمان والمكان، فهذه الفكرة ميتافيزيقية. وليس هذا فقط، بل وتؤسس لبعض التصورات الجزئية المرتبطة بالأفكار والعلاقات بين الإنسان والعالم والأشياء.

والميتافيزيقا تاريخياً – بصرف النظر عن إلتقائها مع الأديان- هي الوريث الشرعي للأساطير والسرديات اللاهوتية البدائية حول الوجود والكون والطبيعة. لكنها تلجأ إلى وضع مبدأ موحد عقلي بدلاً عن الأسباب الوهمية الأسطورية. أي أنَّ المبدأ الميتافيزيقي مع تطور العقل أخذ وظيفة الأساطير مع المرحلة البدائية. وإنْ كان هناك من يرى أنَّ الأديان تتماس مع الميتافيزيقا في التحدث عن عالم الغيبيات، فليس هذا صحيحاً، لأنَّ الميتافيزيقا مبادئ عقلية، وليست إلهية المصدر (نتيجة الوحي). وهي تنطوى على تلك المبادئ المجردة لتفسير الطبيعة كنوع من المبادئ التي توحد العقول تجاه معنى كلي وشامل.

عندما قال أرسطو إن هناك محركاً أول لا يتحرك وراء تغير الظواهر ووراء كل أصناف الحركة، وهو المسئول عن تفسير حركة الأشياء والطبيعة، فكان يقصد الوصول إلى مبدأ عام مُفسر للظواهر، وكان ذلك تفسيراً عقلياً لظواهر الحركة ليس أكثر. لأننا لا يمكن الرجوع دون نهاية إلى سبب كل حركة صغرت أم كبرت، إذ يجب الوقوف عند محرك أول هو مبدأ كل حركةٍ في الكون، بحيث تجري معرفةُ كلِّ الأشياء داخل نطاقه.

وتنتهي الميتافيزيقا- أو بالأحرى تتحول- إلى رؤى حول العالم والكون، وهي موجوده في كل ثقافات الشعوب تقريباً، لكونها أساسية بقدر ما تعبر عن رغبة الإنسان في إقامة علاقة إدراك مع العالم، ولكن تلك الرغبة تتحول إلى اسقاط الأفكار والأوهام على الواقع. وكأنَّ لسان الحال يقول: إنه طالما استطاع الإنسان إطلاق المبادئ نحو الكون ككل، فلماذا لا ينزل بها إلى أرض الواقع؟

ومن ثمَّ، أخذ يظهر سؤال الحقيقة في ضوء هذا الاسقاط الذي يظن الفلاسفة كونه حاكماً للعالم والأشياء. حتى أن تاريخ الميتافيزيقا كله هو تاريخ الإسقاط لأفكارنا وأخيلتنا باختلاف مصادرها على عالم الأشياء. وهي كذلك تاريخ التصديق التجريدي لهذه الإسقاطات بوصفها حقائق. وكأن الميتافيزيقي يكتشف قانوناً كونياً مثله مثل علماء الطبيعة.

حقائق دينية

حقائق تتحدث عنها الأديان والنصوص المقدسة وأخبار الرسل والأنبياء مثل الوجود إلهي باختلاف العقائد حوله ووجود الملائكة والشياطين ووجود الجنة والنار وعالم الغيب وأخبار الأمم والعصور السالفة بمجملها. وهي تدخل في باب الحقائق من زاوية الايمان والاعتقاد، وليس هناك طريق آخر سوى هذا الأفق الصاعد إلى السماء، بل وهي معتمدة على درجات الايمان وقوته بالمثل.

في هذا الجانب، ليس هناك ما يدعو للإثبات ولا الانكار، لأنها حقائق تقول لنا من أول وهلة أنها خاصة بالإيمان. أي أن تؤمن أنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره وحين تؤمن بهذه المفردات فهذا سببٌ كاف لأنْ تصدق وتتيقن من إيمانك وموضوعاته. وطالما كانت حقائق الدين من هذا القبيل، فلا تماثل الحقائق بمعناها المعروف، لكنها مطلقة وخالدة وليس ثمة طريقة معرفية ولا نقدية ولا فلسفية مؤدية إليها رأساً بشكل حاسم. لأنَّ الإيمان إرادة إعتقاد خاص يمتلئ بها المؤمن مؤكداً ما يتلقّاه، كأنَّه يراه رأي البصر والبصيرة. ولئن تساءلت: كيف ولماذا وبأية وسيلة؟ فهو كمؤمن سيكون أول العاجزين عن إثبات ما يؤمن. وربما أن ما طال تلك الحقائق من جدال ونقاس فكري طوال تاريخ البشرية يدعم هذا المعنى.

يقفز سؤال الحقيقة متى أراد إنسانٌ فرض عقائده على الآخرين، حاملاً إياها دفاعاً عما يؤمن، فالترويج للأديان باختلافها مأزق يجر التساؤل عن الحقائق ويثير فضول البعض لمعرفة الأسباب وخلفيات القضية. وبالنسبة لصاحب العقائد يغمره تصور بكون ديانته هي الحقيقة المطلقة لا غير، بينما ما عداها من أديان لا تستحق تلك الصفة. وقد يسقطها من فوره دونما اهتماتم لما يحدث لأصحابها قرباً أو بعداً عنه.

والأخطر هو ما يفعله البعض الآخر من تحويل عقائد الدين إلى أيديولوجيا، وهو ما يصطدم بالتنوع والاختلاف، ويحيل الأديان إلى خناجر وسيوف ومعاول لإشعال الصراعات الطائفية والتنظيمية والمذهبية دون جدوى. الأمر الذي يطرح الأديان على طاولة البحث عن الحقائق، ويجعل هناك صدوداً لهذا التسلط باسم الإيمان بحقيقة دينية معينة. وسواء أكان الأمر واضحاً أم غير واضح، فالأيديولوجيا تجعل من الحقيقة سلطة على افتراض وجود حقيقة للعقائد الدينية كما يؤمن أصحابها. سلطة الحقيقة عندئذ هي مستوى مؤدلج تبلغه الأفكار الدينية وتحاول حشد الأنصار، واعتبار الخارجين عنها في مرمى السلطة مباشرة. وقد تنتج الأيديولوجيا الدينية على هيئة تنظيم لممارسة الإكراه الديني أو في صورة خطاب زاعق الصوت في محاولة لمحو الأصوات الأخرى.

وفي جميع الأحوال، لو أنك سألت أحد أفراد هذا التنظيم أو ذاك: لماذا تفعل هذ؟!، لكان رده مباشرة أنني أقف على أرض صلبة هي الحقيقة، وما دونها باطل يجب مطاردته. فأنني مؤمن بالدين الحق وأن السعي وراء الحق أولى بالتلبية من سواه. وهنا تكون سلطة الحقيقة بالغة الخطورة وتتحول إلى نزعة تدميرية صوب الأغيار بالمقام الأول.

حقائق منطقية

وهي القضايا المنطقية البدهية والمسلمات التي تفهم صحتها بشكل منطقي. عندما أقول (هؤلاء هم أبناء هذا الرجل)، فسيُفهم تلقائياً من القول أنَّ الرجل متزوج وليس أعزب. لأنَّ منْ له أبناء سيكون قد أنجبهم من خلال الزواج وليس بمفرده. وبالتالي سيقال أنهم أباؤه المرتبطين به كأب. وعندما نقول المثلث، سأعرف ضمناً أنَّه شكل هندسى مُحاط بثلاثة أضلاع وله ثلاث زوايا. ومن ثمَّ، ليس المثلث مربعاً ولا مستطيلاً بحال من الأحوال.

وتدخل في هذا الجانب الحقائق أو المبرهنات والمعادلات الرياضية التي تحمل صدقها في ذاتها وتكون واضحةً وضوحاً تاماً بناء على أطراف المعادلات والنتائج الحاصلة منها. حيث تعد حقائق بدهية رياضياً وقائمة على البرهان والصياغة المنضبطة الدقيقة.

وليس ثمة مشكلة بصدد الحقائق المنطقية والرياضية، طالما تحمل مرجعيتها في ذاتها، وبطريقة أخرى تمثل الحقائق من هذا الصنف صدقاً واضحاً وقادرة على الاتساق مع صيغتها ومقدماتها. ويستطيع العقل البشري أن يقر بصدقها، متى فهم هذه المقدمات وانتقل إلى النتائج.

وربما الحقائق المنطقية من أكثر الحقائق قدرةً على الإقناع، وبالتأكيد تنال اتفاقاً حولها بحكم استنادها إلى التفكير السليم، ولا تسمى بداهتها بسلطة الحقيقة إلاَّ إذا تم اعتبار المنطق أداة لترويج الأيديولوجيات وإعتبار الأيديولوجيا مادةً منطقيةً كمن يُحوّل العقل إلى عاطفة بالضبط. حينئذ سيكون هناك نوع من اللّي لعنق العقل أو بالأحرى الإخلال بالحقائق لممارسة (فعل أيديولوجي فاضح). ونحن نعلم أن المنطق قد استخدم كثيراً في الترويج الإيديولوجي، سواء بالنسبة للمذاهب الفلسفية كالماركسية واستعمال مؤيديها للمنطق الجدلي في تبرير الصراع وتفسير حركة التاريخ أم كالمذاهب الدينية ومحاولة استخراج منطق ديني موازٍ يدافع عن العقائد ويحمي الأفكار المؤدلجة من السقوط. وأحيانا ينظر أتباع تلك المذاهب إلى بعض رمزهم الفكريين على أنهم أصحاب اسهام منطقي، فيذهبون لاستنطاق مؤلفاتهم بما تجود به من حقائق منطقة مفترضة، بينما هي لا تلوي على جوانب منطقية بالضرورة.

حقائق إنسانية (تاريخية، اجتماعية، سياسية..)

حقائق تمثل ظواهر أو أحداثاً أو ممارسات تخصُ المجتمعات في التاريخ أو الحاضر، وقد وقعت بالفعل وتدور حولها التوصيفات وعمليات البحث والمعرفة من جوانب عدة. وربما تختلف حولها الروايات والسرديات بصدد على سبيل المثال: مدى مصداقيتها وحقيقتها، والكيفية التي حدثت بها، وما المقصود الكامن فيها، وإلى أية أهداف كانت ترمي، وما معناها بالنسبة للمجتمعات، وهل تركت آثاراً زمنية أم لا؟

هذا النمط من الحقائق هو الذي تسوّقه السلطة القائمة وتضع نفسها في القلب منه، فالأحداث قد تُقبل أو لا تُقبل بقدر ما يتم تكريس تأويلها على نطاقٍ عام كأنَّ المجتمع هو الفاعل لها، رغم أنه في تاريخ البشرية لم توجد فكرة أن المجتمعات قد قامت جميعها بأحداث معينة. فهذه خرافة لم توجد قط في أي عصر من العصور. هناك بطبيعة الحال فاعلون وهناك هامشيون، وهناك مشاهدون ومتابعون وهناك متأثرون وهناك لا حقون على الأحداث. ولكن الأوضح أن هناك دوماً منْ يرى في بعض الأحداث حقائق راسخة، وهي الأجدر بتعميم نبرتها على المجتمع كل المجتمع.

لا يخفى علينا القول الشهير إن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ. وبالتالي سيظل المهزومون والمنسحقون قابلين بروايته كما كُتب دون حراك أو بالأحرى دون إمكانية تغيير الأوضاع. جميع جوانب التاريخ كتبت بهذا المداد الذي يقطر نصراً وهزيمة، وأن النصر لا يستمر هكذا بسواعد مادية وفي ساحات الحروب، ولكنه ينتقل إلى مرحلة التدوين الذي يستثمر في سلطة الحقائق. وهي سلطة تأويل وصناعة مخيلة جماهيرية عابرة للأحداث. ليس المدهش هو كيف تنتصر، لكن الأكثر إدهاشاً كيف تجعل الأطراف الأخرى أن تدون انتصارك في الذاكرة وأن تقنع الأجيال- بعد الأجيال- أنك مازلت منتصراً، وأن ما قمت به هو الحقيقة. كل ذلك يقع في فضاءات ما بعد الحقيقة، إنه واقع آخر له أفعاله البديلة.

وبطبيعة الحال ليس فرض سلطة الحقيقة أمراً سهلاً، لكنه يتطلب (عمليات غسيل تأويلي interpretative washing) متواصلة، فكما قلت سلفاً إن الأفق الثقافي العام للمجتمعات يعمل بآلية التأويلات، ولا يوجد فراغ تأويلي طوال الوقت. وبالأحرى لا تسمح السلطة في المجتمعات بهذا الفراغ التأويلي. ولذلك سيكون على سلطة الحقيقة في هذا الصدد حسم أمر الحقائق الإنسانية وتقديم تأويل بإمكانه إزاحة التأويلات الموجودة وبإمكانه حسم الصراعات لصالحه في المخيلة الجماهيرية. فلا تُوجد سلطة حقيقة دون (غسيل تأويلي) طويل الأمد وشاق الدروب ووعر التحولات تجاه الذهنيات السائدة. لأنَّ معارك الحقائق أصبحت في عصرنا الراهن حروب معانٍ ورموز بإمتياز.

يبقى سؤال مهم: هل للحقيقة قُوى تحُول دون توظيفات السلطة ؟!

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

إن العلاقة ما بين مفهومي الحداثة والمعاصرة، علاقة ملتبسة برأيي في المبنى والمعنى، فإذا أخذنا المعاصرة في المعنى كما جاءت في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي. نجد: مُعاصَرة: اسم، مصدرها: عاصرَ.

والمُعاصَرة: معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه.

وبناء على ذلك فهي في المبنى قريبة في دلالاتها من مفهوم الحداثة التي تعني: أسلوب حياة، يمارسه الفرد والمجتمع وفقاً لروح العصر الذي يتواجدون فيه، أو يعيشونه. هذا العصر الذي ينتج بالضرورة علاقاتهِ الاقتصاديّةَ والاجتماعيّةَ والسياسيّةَ والثقافيّةَ الجديدةَ التي تتناسب مع وجوده الاجتماعي بما يحمله هذا الوجود من قوى وعلاقات إنتاج وفكر.

فالمعاصرة والحداثة إذن: هما كل جديد في المجالين المادي والروحي اللذين تجليا في حياة مجتمع من المجتمعات، وراح الناس يتعاطون معه كأمر واقع، بغض النظر عن المواقف السلفيّة أو التقليديّة الرافضة له، على اعتباره بنظرهم بدعة أو مخالف للعادة والتقليد وقيم السلف. مع تأكيدنا أن قيم الحداثة والمعاصرة في دلالاتها الفلسفيّة والسياسيّة، غالباً ما تتجسد في الحريّة والعدالة والمساوة واحترام الرأي والرأي الاخر، والدفاع عن حريّة المرأة، والحفاظ على الحقوق الطبيعيّة للإنسان ومنها حق الحياة والحريّة والملكيّة والدفاع عن النفس.

بعيداً عن السياق التاريخيّ لظهور الحداثة وما بعدها، سأقوم هنا بتوصيفهما انطلاقاً من المنظور الفلسفي لكل منها، مع تأكيدنا بأن المواقف الفلسفيّة ليست مجردة، وإنما هي مواقف مشخصة  ترتبط بالواقع، ولكن رؤيتنا إلى هذين المفهومين هنا، تظل أقرب إلى البعد الأبستمولوجي (المعرفي) منها إلى السياقات التاريخيّة لظهورها وتجلياتها.

الحداثة والمعاصرة في سياقهما العام، هما سلسة من الإصلاحات الثقافيّة في تجلياتها الواسعة، التي تشمل الفن والهندسة والموسيقى والآداب والفنون التطبيقيّة وغيرها. والتعريف في عموميته غطى العديد من الحركات أو الاتجاهات السياسيّة والثقافيّة والفنيّة، التي حققت جملة من التغيرات في المجتمع الغربيّ عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .

وهما بتعبير آخر أيضا، ميل من التفكير الذي أكد على دور القوة والإرادة الإنسانيّة في تحسين، أو إعادة تشكيل المحيط الاجتماعيّ المعيوش عبر المعرفة والتكنولوجيا والتجربة الخاصة.

لقد استطاع كل من الحداثة والمعاصرة تشجيع إعادة امتحان كل الوجوه الحياتية بدءاً من التجارة وصولا إلى الفلسفة، بهدف القبض على مقومات الوجود الاجتماعي التي كانت تعرقل  تقدم الإنسان، واستبدالها بمقومات جديدة قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة في التقدم الإنسانيّ .

في جوهر المسألة، استطاعت الحركات الحداثيّة أو المعاصرة عبر كل المستويات أن تناقش الحقائق الجديدة لزمن الصناعة والتكنولوجيا، التي شملت إضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه، حداثة الفيزياء، والفلسفة والسياسة، والرياضيات ...الخ  التي راحت تكتمل، أو هي على وشك الاكتمال، والتي أصبح من المفروض على الناس تكييف صور عالمهم أو حياتهم بما يتناسب وقبول كل ما هو جميل وجيد وحقيقي من منجزات الزمن الجديد، زمن الثورة التكنولوجيّة.

وللتأكيد نستطيع القول هنا: إن مسألة العصرنة والحداثة شملت أيضا الكثير من أعمال المفكرين الذين ثاروا ضد أكاديميي ومؤرخي التقليد في القرن التاسع عشر، معتقدين أن صيغ الفن التقليدي في الهندسة والأدب والتنظيم الاجتماعيّ ومعظم معطيات الحياة اليوميّة المباشرة، أصبحت من العهد القديم. وعليهم مواجهة المعطيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي أفرزها العالم التكنولوجيّ، والتعايش معها.

الحداثة وما بعد الحداثة:

لقد قام بعض المفكرين في القرن العشرين بتقسيم الحداثة إلى قسميين هما: الحداثة، وما بعد الحداثة، في حين لمس بعضهم أن الحداثة وما بعد الحداثة وجهان لعملة واحدة أيضاً. لذلك دعونا أن نتعرف هنا على الحداثة كما ظهرت في الغرب، أو كما فهمها الغرب، وبالتالي أين نحن اليوم منها موقعا وتفاعلاً في الساحة العربيّة.

نقول: إذا كانت الحداثة (في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة) قد فجرتها تلك القوى الاجتماعيّة والفكريّة المعبرة عن التحولات الرأسماليّة الوليدة والتقدميّة آنذاك، والتي كانت وراء إسقاط السلطة الاستبداديّة للملك والكنيسة والنبلاء في صيغها القروسطيّة الأوربيّة .. هذه الحداثة التي قامت كما أشرنا قبل قليل على المطالبة بتسييد العقل والمنطق والنزعة الإنسانيّة والدعوة إلى الانفتاح والتواصل مع كل ما يخدم الإنسان وتقدمه وعدالته وحريته والسمو به، فإن ما بعد الحداثة  في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة أيضا، قد فجرتها في الحقيقة الأجيال اللاحقة للقوى البرجوازيّة ذاتها التي تحولت إلى طبقة رأسماليّة احتكاريّة راحت تفرض هيمنتها الاقتصاديّة ليس على أوربا فحسب، وإنما على الاقتصاد والسياسيّة والثقافة في العالم، حيث دفعتها شهوة الثروة والسلطة إلى التحكم في رقاب الناس، وبالتالي السعي إلى إفراغ معظم الشعارات النبيلة التي مثلها تيار الحداثة المرتبط بالبرجوازيّة التقدميّة آنذاك، والعمل تحت ذريعة شعارات الحريّة والديمقراطيّة والفرديّة وغيرها من الشعارات الشكلانيّة التي بدأ يسوِّق لها  في مضمار عالمها الليبرالي الجديد، على نفي وتدمير وتجاوز كل ما هو إنساني، أو يدعوا إلى الرقي بالإنسان، والتمسك بما يساعد على تجسيد وتعميم ثقافة وأخلاقيات كل ما يعمل على تكريس مفاهيم الموت والدمار وعدم التواصل والتفكيك والتذرير، وغير ذلك من المفاهيم المنتمية إلى العبث و اللامعقول.

لاشك أن الإرهاصات الأوليّة لأفكار ما بعد الحداثة، أخذت تظهر على الساحة الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة مع انتهاء الحرب الكونيّة الأولى، وما خلفته هذه الحرب - إضافة إلى نتائج الحرب الكونية الثانية - من دمار على المستويات كافة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وبخاصة في المجتمعات الأوربيّة كما أشرنا في موقع سابق، هذه الأفكار التي أخذت تشير إلى حالات  الضياع التي وضع فيها الإنسان الأوربي ذاته من قبل القوى المستفيدة من قيام  تلك الحروب، وهي القوى الطبقيّة الرأسماليّة الاحتكاريّة الأوربيّة بشكل عام، التي تعارضت  مصالحها الاقتصاديّة على غنائم العالم الثالث، وهو العالم ذاته الذي حولت هذه القوى ثرواته وأبناءه إلى وقود تؤجج فيه نار هذه الحروب  ضد بعضها بعضاً كما هو معروف تاريخيّا في الحربين العالميتين.

أما أبرز مَن راح  يدعو، أو ينظر إلى تلك الأفكار الـ " ما بعد حداثوية " لليبراليّة الجديدة، ويعمل على إعادة هيكلة الفلسفة المثاليّة الميتافيزيقيّة في صيغها المعاصرة، فهم على سبيل المثال لا الحصر، سارتر، في الوجوديّة، والبيركامو، في العبثية واللامعقول، وجاك ديدرا في التفكيكية وسلفادور دالي، (الداديّة) ممثلة بالمدرسة السرياليّة في الفن والأدب، هذا ونجد تجليات ما بعد الحداثة في الفلسفة وعلم الاجتماع ممثلة في مدارس كثيرة منها، البنيويّة، والوضعيّة الحديثة، والدارونيّة الاجتماعيّة، والفرويديّة، والنيوفرويديّة، والسيكولوجيّة، والدارونية الاجتماعيّة، وغيرها الكثير من النظريات التي لم يعد حتى بمقدور المتابع للحركة الثقافيّة والفكريّة الركض وراءها  والوقوف عند دلالاتها .

إن كل هذه الأفكار والنظريات التي جئنا  عليها أعلاه، وغيرها الكثير، تشير في واقع أمرها إلى حالات الضياع الحقيقي التي وصل إليها الإنسان الأوربي، وكيف راح هذا الإنسان عبر مفكريه وفنانيه يعبر عن هذا الضياع ويرسم حلول خلاصه في رؤى وأفكار لا تنتمي إلى مشاكله ومعاناته وظروف واقعه الموضوعيّ والذاتيّ بصلة، بقدر ماهي حلول تقوم على تهويمات تنتمي إلى اللاشعور والتخيل، أو الغريزة أو إلى البعد النفسي،  أو في المحصلة إلى كل ما هو مقتلَع من قاعه الاجتماعي والتاريخي والعقلاني. أي دفع الفرد للتفكير من داخله وليس من خلال الوجود الاجتماعي الذي يحيط به.

بيد أن هذا الكشف أو التوضيح من قبلنا لتعبيرات ما بعد الحداثة المنتمية واقعيّا وأيديولوجيّا إلى مرحلة الليبراليّة الجديدة، يدعونا إلى موقف الحياد تجاه  هذه (التعبيرات) أو الرؤى والمواقف الفكريّة الفلسفيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة على اعتبار أن قسما  من هذه الرؤى والأفكار عندما طرحت لم يكن  الهدف من طرحها زيادة ضياع الإنسان وتذريره وبالتالي تغريبه واستلابه بشكل مقصود أو مخطط له بشكل مسبق، بقدر ما كانت مواقف ترمي إلى تصوير واقع الإنسان في حالاته ضياعه تلك دون التركيز على البحث في أسباب ظهور هذه الحالات اللاعقلانيّة ودوافعها، في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من سخرته تماماً القوى الرأسماليّة الاحتكاريّة للتنظير في هذا الاتجاه اللاعقلانيّ، وبكل مستوياته السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، والتسويق له، وخاصة على المستوى الإعلاميّ، بغية إبعاد الجمهور أو المواطنين عن معرفة الأسباب الحقيقية لضياعاتهم، لأن ما نشاهده يوميّاً على الساحة الإعلاميّة يؤكد لكل ذي بصيرة ما أشرنا إليه .

فخ الحداثة وما بعدها في الثقافة العربيّة المعاصرة .

إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة، والفنيّة والأدبيّة بشكل عام على الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء في تاريخنا الحديث والمعاصر قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة، محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار، بأساليب ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس ومناهجها الفكريّة، وخاصة الما بعد حداثويّة، أملين في تجاوز أزمة الواقع العربيّ المتردي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهميّة الكبرى لمضمون النص، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فكريّاّ، بعد عزله عن محيطه، وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، على اعتبار أن هذا النص له سلطته وعالمه الخاص به، وحركته وسياقاته التي تتم من داخله فقط، ولا تأثير عليه من المحيط الذي ينوجد فيه، أو ما يساهم في إنتاجه بالأصل.

إن هذا التوجه المنهجي، جاء برأي، عند هؤلاء المتبنين لمناهج ما بعد الحداثة، إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكل من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع منطقيّا وعقلانيّا، وبالتالي إظهار الأسباب الموضوعيّة والذاتيّة الحقيقيّة لأزمته وتخلفه، أو جاء نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم، وسيادة نزعة التقليد والتجريب، أو المحاكاة دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المناهج في أوربا.

نقول: إن معظم محاولات التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها مهما كانت طبيعتها، ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً، والسير بهما نحو التحرر والتقدم وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، التي تتطلب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّا ومترهلاً ومتخلفاً منها، والفسح في المجال لبناء بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر، إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخيّ مهما كانت نيات حواملها الاجتماعيين.

أي هي حداثة دائرة في فراغ، ومفضيه إلى فراغ، وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثي مغترب، لا يلامس الحالة الوطنيّة، ولا يقارب الواقع الموضوعيّ الملموس، أو المعيوش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو بدونه، تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربي والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريس وضعيّة اجتماعيّة معينة تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب.(1).

إذن، من هنا علينا أن نبين عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها... ما بين الحداثة كتوجه عقلاني نقدي تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها، وهي فعل إيجابي يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال، وبين الما بعد حداثة،  كتوجه حداثيّ سلبيّ يقفز فوق الواقع وخصوصياته، بغية تحقيق مصالح معينة تقوم على دوافع ذاتيّة إرادويّة بعلم حاملها الاجتماعيّ أو بدون علمه. لذلك أن الموقف المنهجيّ العقلانيّ النقديّ والأخلاقيّ معاً، يتطلب منا أن نكشف الأبعاد الحقيقة لهذا النمط من الخلط المنهجيّ بين الحداثة (المعاصرة) وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفن والفكر عموماً، إذا لم يعبر عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع، أو ما قيمة أدب وفن وفكر يبحت عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات، أو عالم البنى الثقافيّة التقليديّة الشفويّة او الأصوليّة الوثوقيّة، أو تحت مظلة التخيل والتأمل والحدس السلبي، ملغيّاً الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمن غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا، ووضع الحلول لها، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيىء والاستلاب والضياع والغربة.

إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيوش، هو ليس أكثر من البحث عن حداثة أو ما بعد حداثة الاغتراب المادي والقيمي معاً، وبالتالى هذا ما يجعلنا نعيش فقط في سحر الكلمات وتراكيبها، وصورها الفنيّة وألوانها، وعالم أوهام شعر وأدب خالي من أي مضامين إنسانيّة سوى مضامين لا ترتبط بقضايا الإنسان المصيريّة، بقدر ما ترتبط بشكلانيّة اللغة والحرفة الفنيّة والأدبيّة، التي غالباً ما تحقق  الدهشة للمتلقي، هذه الدهشة التي تنتهي بانتهاء قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلياتها ممثلة في الأعمال الفنيّة والأدبيّة والفكريّة ذات التوجه المعياري بمداسه الفنية والدبية والفلسفية الغربيّة في عمومه . وهذا ما تنطبق عليه نظرية الفن من أجل الفن، وليس من أجل المجتمع.

كاتب وباحث من سوريّة.

***

د. عدنان عويّد

........................

(1) - مجلة النهج- العدد 17/ لعام 1987/ ص  214 و215

ملاحظة: أهم المدارس الفكرية والفنية والأدبيّة لتيارات ما بعد الحداثة راجع:

1-  جماعة أبولو الشعرية في مصر،

2- كتاب مجلة شعر في سورية ولبنان.

3- علي حرب على مستوى الفكر - كاتب لبناني.

لو أردنا وصف شخصا وجوديا، ربما يكون وصفنا له كانسان متبرم يجلس في مقهى باريسي مرتديا قميصا ذو ياقة سوداء، محتسيا الكوكتيل ويدخن السكائر- شخص يأسف على عبثية الحياة، ويحزن على وجوب ان نصنع بطريقة ما حياة لأنفسنا في مجتمعات غريبة لم يُطلب منا ان نولد فيها.

هذه الصورة – المرتكزة على تصور ثقافي خام للوجودية – هي صحيحة تماما. المقهى الباريسي في الثلاثينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي كان مركزا لشخصيات وجودية شهيرة مثل جين بول سارتر وسيمون دي بوفوار وموريس ميرلو بونتي والبرت كامو جميعهم ناقشوا عبثية الحياة ومعظمهم استعان بالكوكتيل والسكائر.

ولكن وراء هذا الولع بالدخان، تذهب الفلسفة الوجودية عميقا. بالنسبة للعديد من الناس، انها طريقة ساحرة للتفكير حول العالم، وحول مكاننا فيه. اذاً ماهي الوجودية بالضبط؟ باختصار، الوجودية تهتم بايجاد طرق لتوضيح تجربة الانسان الفرد، بالتركيز على معنى ان يوجد الكائن البشري الفرد في كون لم نفهمه.

تعريف الوجودية بأكثر من ذلك يتطلب بعض التوضيحات، لأن الوجودية مصطلح غير مقتصر على الفلاسفة، وانما ايضا يُستعمل لوصف أعمال الروائيين وكتّاب المسرح والفنانين – ولاسيما فيودور دوستوفسكي وفرانس كافكا وصاموئيل بيكيت – بما يجعل الوجودية كحركة ثقافية عامة بمقدار ما هي فلسفة معينة. لنأخذ الآن نظرة سريعة على الحركة الثقافية قبل التوغل في المبادئ الفلسفية الثلاثة للوجودية.

الوجودية كحركة ثقافية

الإستعمال الثقافي الواسع لمصطلح "وجودي" يصف اساسا أي مفكر يضع اهتمامه في التجربة الفردية المعاشة – خاصة في التوتر بين حقيقة اننا مسؤولون بالنهاية عن خياراتنا، وافتقارنا لـ اطار واضح لمعرفة ان كانت القرارات التي نتخذها هي صحيحة، او مهمة. هذا التوتر عموما يترافق مع شك بانه، في كل يوم، تكمن هناك حاجة انسانية عميقة لم تكن العلوم الطبيعية والأديان التقليدية قادرة على تلبيتها. على هذا النحو، تتميز الأعمال الوجودية بمواضيع مثل الرهبة، الضجر، القلق، الاغتراب، العبث، الحرية، الالتزام، العدم، وما يعنيه حقا ان تكون كائنا متجسدا في كون لامبال وغير معروف.

في هذا الشأن، دوستوفسكي في (مذكرات من تحت الارض) و(المحاكمة) لكافكا هما مثالان كلاسيكيان للروايات الوجودية، ومسرحيات صاموئيل بيكيت وتماثيل النحات البرتو جياكوميتي تستطلع موضوعات وجودية بطرق ساحرة ومقلقة.

الوجودية كفلسفة

كان الجانب الفلسفي الرسمي والأكثر تجسيدا للوجودية يصارع وبشكل مباشر مع مفاهيمها وموضوعاتها الرئيسية، لذا من الملائم النظر باختصار لتاريخها، الذي يمكن ان يكون مربكا. فمثلا، في القرن التاسع عشر، اعتُبر كيركيجارد اول فيلسوف وجودي، مع انه هو ذاته لم يستعمل ابدا مصطلح وجودي – وربما كان يرفض التسمية . في الحقيقة، فلاسفة القرن العشرين مارتن هايدجر والبرت كامو رفضوا فعلا التسمية اثناء حياتهما رغم انهما كانا شخصيتين اساسيتين للفكر الوجودي.

كلمة "وجودية" استُعملت اول مرة من جانب الفيلسوف الفرنسي غابريل مارسيل عام 1943، ولم يتم تبنّيها بوضوح الاّ من جانب جين بول سارتر وسيمون بوفوار. وجرى اعتبار المفكرين الأوائل مثل كيركيجارد وفردريك نيتشة كأسلاف للحركة الوجودية – هناك عدد من معاصري سارتر وبوفوار ايضا دخلوا ضمن التسمية بصرف النظر عن درجة الوضوح التي عُرّفوا بها.

وفي ضوء الاضطراب في إطلاق التسمية على من هو الوجودي ومن هو غيره، يرى البعض ان عمل سارتر وحده يجب تسميته وجودية خالصة، كونه الأكثر صراحة في قبول المصطلح وتنظيم أعماله حوله. صحيح ان سارتر ربما وفر الدافع الرئيسي للوجودية كحركة، لكن كما سنرى ان عمله تأثر بعمق بأسلافه وبمعاصريه. من هذا العمل، هناك ثلاثة مبادئ رئيسية للفلسفة الوجودية وهي الظواهرية، الحرية، والأصالة. لننظر بهم تباعا.

1- الظواهرية phenomenology

وهي حركة فلسفية طوّرها ادموند هوسرل في بداية القرن العشرين وجرى تبنّيها لاحقا من جانب هايدجر وكارل ياسبر وآخرون. الظواهرية تهتم بفحص الهياكل الأساسية للوعي والخبرة، وتؤكد اساسا على الأهمية الحاسمة لمنظور الشخص الاول (المتحدث بصيغة الضمير انا للمفرد ونحن للجمع) في فهم أنفسنا والعالم الذي حولنا. فمثلا، لو كنا نريد وصف تجربتنا في النظر الى وعاء من الفاكهة، فنحن اساسا نصف وبشكل محايد الأشياء المتميزة التي نراها: الموز، التفاح، البرتقال، والوعاء ذاته.

لكن الظواهريين يدعوننا هنا الى التوقف مؤقتا . ماذا نشعر عندما ننظر حقا الى وعاء الفاكهة؟ هل هي فقط هذه الأشياء المتميزة؟ ام انها عبارة عن عدد كبير من أشكال موحدة، قوام، ألوان، أصوات، روائح، مرور الوقت، مزاجنا، وربما رغبة في البرتقال، تغلّب على نفور من فاكهة لا نحبها؟ المسألة هي، انت عندما تفكر حول شيء، فان تجربتك بالعالم تتصف كليا بالقصدية. مع اننا نصف تجاربنا كما لو كنا فقط اشخاص نتصور الأشياء سلبيا (بحيادية)، لكننا في الحقيقة لا نتعامل حقا مع العالم بهذه الطريقة. بدلا من ذلك، نحن منغمسون في كل ما نمارس، كل ما موجود في العالم من خلال عدسة ذاكرة متغيرة باستمرار، رغبة، مزاج، انتباه، عدم انتباه، نية.

لذا، عند النظر الى وعاء الفاكهة نحن لا نرى فقط اشياءً سلبية وانما وجبة خفيفة محتملة – او حتى رد فعل تحسسي محتمل. نحن نلقي أنفسنا في العالم فنلتصق بكل شيء يتعلق بتجاربنا: تصوراتنا هي مفاهيمنا ونوايانا تنعكس مجددا علينا. وهكذا، لنأخذ مثال من هايدجر، نحن لا نرى فقط قطعة من الخشب ملتصقة ببعض المعدن وانما مطرقة، وسيلة – شيء ما نستطيع استعماله قصدا. يجادل الظواهريون ان منظور الشخص الاول القصدي هذا – الطريقة التي حقا نمارس بها الحياة – هو عادة ما يُنتزع من وصفنا للعالم، عندما نفحص هذا النوع المباشر من الخبرة اللحظية، فلابد من العثور على البصيرة الفلسفية الثرية.

قصديتنا في الشخص الاول ليست فقط خاصية لأذهاننا، يجادل هسرل: انها اطار من خلاله يصبح العالم وأذهاننا قابلان للفهم. ازالة هذا الاطار من اعتباراتنا (كما عندما نحاول العمل في العلوم لخلق منظور شخص ثالث "موضوعي") يترك صورة غير مفهومة للتجربة الانسانية ويسبب مشاكل فلسفية غريبة بين الذهن والجسم قادت الى قرون من الإلتباس الناجم من شك ديكارت وكوجيتاه. لذا، فان استعادة منظور الشخص الاول بكل فوريته وتعقيديته – والاعتراف بمدى تشابك هذا المنظور مع العالم الذي نتصوره – يكمن في قلب الظاهرية، ويصبح طريقة مفيدة للتفكير بالعالم من جانب وجوديين مثل سارتر. وكما يكتب استاذ الفلسفة ستيفن كراول في موجزه عن الفكر الوجودي:

"الاتجاه الظواهري أعطى شكلا فلسفيا للرؤية الوجودية الأساسية بان التفكير حول التجربة الانسانية يتطلب مفاهيما جديدة غير موجودة في المخزون المفاهيمي للفكر القديم او الحديث، الكائن البشري يمكن فهمه لا كجوهر بخصائص ثابتة، ولا كأشخاص يتفاعلون مع عالم الأشياء".

2- الحرية:

اذا كان مبدأ الظواهرية اعطى للوجودية شكلها الأساسي – أي، طريقة للحصول على الكيفية التي تكون عليها الاشياء حقا، والذهاب وراء التصنيفات القديمة للفطرة السليمة والعلوم الطبيعية لوصف الوجود البشري على حقيقته – عندئذ فان مبدأ الحرية أعطى الوجودية قيمتها التأسيسية. وكما يرى الفيلسوف المعاصر جوناثان ويبر في عمله لعام 2018 (إعادة التفكير بالوجودية):

"كما عُرّفت في الأصل من جانب سيمون بوفوار وجين بول سارتر، الوجودية هي نظرية أخلاقية يجب ان نتعامل فيها مع الحرية كجوهر للوجود الانساني وكقيمة باطنية واساس لجميع القيم الاخرى".

لأن العديد من المفكرين الوجوديين هم ملحدون، هم اعتقدوا ان لا وجود لمسارات او أهداف مخصصة سلفا لأي منا، وان الكائن الانساني لا يمتلك أي "طبيعة" متأصلة او "قيمة" أكثر اساسية من حقيقة اننا موجودون. بكلمة اخرى، كوننا واعون بوجودنا هو الشيء الأعظم اساسية حول معنى ان نكون كائنا بشريا. سارتر يرمز لهذه الفكرة بقوله الشهير، الوجود يسبق الجوهر، ويستنتج انه متروك لنا، من لحظة الى اخرى، ان نستعمل وجودنا لصياغة طبيعتنا وقيمنا، وخلق أي "جوهر" نختار ان نصبح فيه مهما كان الانسان . وكما أوضح سارتر عام 1946 في "الوجودية هي انسانوية":

"الانسان يوجد اولاً، يواجه ذاته، يصعد في العالم ويعرّف نفسه فيما بعد".

النتيجة من هذا هي، وفق الرؤية الوجودية، نحن نتحمل مسؤولية كاملة على منْ نحن، وعلى القرارات التي نتخذها (بالطبع هناك العديد من علماء الأعصاب والفلاسفة اليوم يرفضون اننا نمتلك حرية، مجادلين ان الرغبة الحرة ليست الاّ اوهاما).

لكن بالنسبة للوجوديين، كوننا نعيش في كون فارغ من الاتجاه والهدف او المعنى، فان هذه الحرية المشوشة هي سبب المزيد من قلقنا – قادت سارتر للزعم اننا في الحقيقة "محكوم علينا" لنكون احرارا: "الانسان محكوم عليه ليكون حرا لأنه لم يخلق ذاته، فهو حالما قُذف به في هذا العالم، اصبح مسؤولا عن كل شيء يعمله".

كيركيجارد يلخص هذه الفكرة – فكرة ان حريتنا الوجودية تقود الى القلق حول الإمكانات اللامحدودة المتوفرة لنا – في عمله عام 1844، (مفهوم القلق) حيث يذكر

ان القلق ربما يُقارن بدوار(عدم التركيز). حينما ننظر نحو الاسفل باتجاه مشهد عميق، سنُصاب بالدوار. القلق هو دوار الحرية يبرز عندما تريد الروح ان تفترض الحرية فتنظر نزولا نحو إمكانيتها المحدودة، فتتمسك بهذه المحدودية لمساعدة ذاتها.

3- الأصالة:

اخيرا، حالما اعترفنا بأهمية منظور الشخص الاول، واعترفنا بالحرية الحتمية التي نمتلكها في وجودنا المُعاش من لحظة الى اخرى، سنأتي الى مبدأ مركزي آخر للفلسفة الوجودية يتبنّى موقف الأصالة.

لكي نتغلب على القلق والإغتراب الناتجين عن الإعتراف بحريتنا الحتمية ومسؤوليتنا، فلابد ان نواجه منْ نحن – بما في ذلك حقيقة اننا فانون وسنموت يوما ما، كما ينصحنا فلاسفة آخرون مثل الايبيقوريون – ونكون حقيقيين، نرفض الإنحناء لأي شيء يساوم حريتنا الفردية او أصالتنا، سواء كانت ضغوطا خارجية او معتقدات مجتمعية او ملذات للهروب. وكما يذكر ويبر، الوجودية لدى سارتر وبوفوار تبدأ بجدال حول فضيلة الأصالة" وبالنهاية تؤكد "مبدأ الاصالة الأخلاقية".

بروفيسور جامعة يال، نورين خواجا Noreen Khawaja، في عملها (دين الوجودية) تؤكد ان "فكرة الأصالة الشخصية هي في لب الفكرة الوجودية".

أين تتركنا الوجودية؟

باختصار، بينما التصور الشائع للوجودية يدور بشكل ضيق حول الخوف والقلق في كون عبثي، لكن الحركة الفلسفية الرسمية هي أكثر شمولية، وهي عموما تستلزم ثلاثة مبادئ رئيسية.

1- انها تستلزم الإعتراف بالأهمية التأسيسية للظواهرية، منظور الشخص الاول القصدي في فهم ملائم لأنفسنا وللعالم.

2- انها تشير للإعتراف بالحرية والمسؤولية التي نمتلكها في التجربة المعاشة.

3- هي تدافع عن فكرة ان الأصالة الشخصية هي فضيلتنا الرئيسية، لأنها تسمح لنا بمواجهة منْ نحن، كي نعيش بانسجام مع العالم، وبالتالي نقلل الشعور بالقلق والإغتراب.

هذا الصراع الروحي يحدث الى حد ما ضد فكرة الكون اللامبالي والخالي من الإله – كون "اُلقينا" فيه وتُركنا نتعامل مع أنفسنا – بما يعني انه مع ان هناك العديد من الوجوديين الملاحدة، لكن كتاباتهم مثلما تؤكد خواجا، "تبدو دينية لقرّائها" .

***

 حاتم حميد محسن

..............................

* Philosophy Break, May 2021

تاريخُ البِنَاءِ الاجتماعي هو وَعْيٌ مُستمِر بالحَاضِرِ والحَضَارَةِ، وتأسيسٌ عقلاني لأشكال المَعرفة التي تَتَمَاهَى معَ مَناهجِ تحليل الذات، وأنماطِ تفسير البيئة، وطَرائقِ تأويل العَالَم. وأشكالُ المَعرفةِ لَيْسَتْ كِيَانَاتٍ جامدة في حَلْقَةٍ حياتيَّة مُفْرَغَة، وإنَّما هي أشكال وُجودية تُعَاد هَيْكَلَتُهَا لتحريرِ الفِكْر مِن النظام الاستهلاكي، ويُعَاد تَوظيفُها لتحقيقِ التوازن بين الأنساق الثقافية، مِمَّا يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات مُنفتِحة للفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن المَصالحِ الشخصية الضَّيقة، ونَزعةِ التمركز حول الوَعْي الزائف. وأكبرُ تهديدٍ لأشكالِ المعرفة هي العلاقاتُ الاجتماعية القائمة على تَسليعِ شخصية الإنسان، والتعاملِ مَعَهَا كَشَيْءٍ مَحصور بين العَرْضِ والطَّلَبِ. والمَعرفةُ لا تَتَجَذَّر في المُجتمعِ كَهُوِيَّةٍ تاريخية وخِطَابٍ حَضَاري إلا إذا صارت رمزيةُ اللغةِ طبيعةً ذاتيةً للأحداثِ اليومية، وإطارًا مَرجعيًّا للصِّرَاعاتِ داخل النَّفْس الإنسانية، ومَنظورًا فلسفيًّا للزَّمَنِ المَفتوح، باعتباره ماضيًا لا يَمْضِي، وحَاضِرًا لا يَغِيب، ومُسْتَقْبَلًا لا يُخَاف مِنه.

2

البِنَاءُ الاجتماعي لا يُقَدِّم خَلاصًا مَجَّانيًّا للفردِ والجَمَاعَةِ، وحركةُ التاريخِ لا تُقَدِّم مُسْتَقْبَلًا مُشْرِقًا للهاربين مِن الماضي، والتائهين في الحَاضِر. إنَّ البِنَاءَ الاجتماعي وحَرَكَةَ التاريخ كِيَانان مُتكامِلان، وعابران للحُدُودِ، وحاكمان على التجاربِ الشخصية والتَّحَوُّلاتِ الوُجودية، ومَحكومان بالأنساقِ الثقافية وأشكالِ المَعرفة، وهذا يَعْني أنَّ تاريخَ الأفكارِ خارجَ الثقافةِ يُعْتَبَر وَهْمًا، وأنَّ الفِعْلَ الاجتماعي خارج المَعرفةِ يُعْتَبَر زَيْفًا. وإذا كانتْ هُوِيَّةُ الفردِ وسُلطةُ الجَمَاعَةِ تَتَشَكَّلان في نَسَقٍ عَالَمِي مُعَقَّد، فَإنَّ العقلَ الجَمْعي وإدراكَ الواقعِ يَتَشَكَّلان في نسيجٍ لُغَوي مُتشابِك. والعَالَمُ واللغةُ يَحتاجان إلى تأويلٍ مُستمِر ضِمْن تفاصيل الحياة التي تُمَثِّل كُلًّا لا يَتَجَزَّأ، وذاكرةً لا تَتَشَظَّى، واكتشافًا جديدًا لنقاطِ التَّشَابُه بَين الحَرَاكِ الفِكري وحَرَكَةِ التاريخ، اللذَيْن يُكَوِّنَان ماهيَّةَ الجَوْهَرِ الإنساني ضِمْنِ الهُوِيَّةِ والسُّلطةِ. وعمليةُ التأويلِ تُمثِّل مَصْدَرًا مَعرفيًّا يَمنَع الانفصالَ بَين مَركزيةِ اللغة والتجاربِ الشخصية، وهذا الأمرُ في غايةِ الأهمية، لأنَّ الفردَ يَنطلق نَحْوَ اللغةِ لاكتشافِ ذاته، وتكريسِ شرعيته، والذاتُ والشرعيةُ تَنبثقان من التجارب الشخصية، إذْ إنَّها تُجسِّد صَيرورةَ التاريخِ الفردي في الواقعِ، وتَعكِس الحياةَ الفكريةَ والعمليةَ بكلِّ نجاحاتها وإخفاقاتها في الحياة. لذلك، كُلُّ تَجربةٍ شخصية بِمَثَابَة بَصْمَةٍ إنسانية في رُوحِ التاريخ وجسدِ اللغة، وكما أنَّ الفرد لا يَستطيع تغييرَ بَصْمَتِه، كذلك المُجتمعُ لا يَستطيع تَغييرَ تاريخِه. وكما أنَّ اللغةِ لا تَستطيع تَغييرَ حُرُوفِها، كذلك الهُوِيَّة لا تَستطيع تَغييرَ خَصَائصِها.

3

رمزيةُ اللغةِ قادرةٌ على تَوسيعِ أبعاد البِنَاء الاجتماعي، وتجذيرِ الفِكْرِ النَّقْدِي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، وإزالةِ التناقض بين الفردِ كذاتٍ إبداعية، والمُجتمعِ كذاتٍ سُلطوية، وهذا يُسَاهِم في إنشاء تفسير عقلاني مُتَعَدِّد الوُجُوه للظواهر الاجتماعية، التي تتبادل الأدوارَ معَ الأنساقِ الثقافية. ورمزيةُ اللغةِ كائنٌ حَي لَهُ هُوِيَّته الوجودية وسُلطته المعرفية، وهذا يَدُلُّ على استحالةِ تفسير السِّيَاسَاتِ المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية إلا مِن خِلالِ اللغةِ، ولا يُوجَد مُجتمع خارجَ اللغةِ، ولا تُوجَد لُغَة خارجَ الرُّمُوز. وكُلُّ تأويلٍ لُغَوي هُوَ بالضَّرورةِ عَلاقةُ سُلطةٍ تَشتمل على تَحَوُّلاتِ الوَعْي الرامية إلى إدراك السُّلوك الإنساني، وتَحْتَوِي على آلِيَّاتِ إعادة إنتاج الفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن الصِّدَامِ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأدلجةِ المَصْلَحِيَّة، وَتَتَضَمَّن التفاعلاتِ بَين الفِعْل الاجتماعي والعقلِ الجَمْعي. وأبعادُ البِنَاءِ الاجتماعي لَيْسَتْ حواجزَ بُوليسيةً بَين المُقَدَّسِ والمُدَنَّسِ، وإنَّما هي فَضَاءَاتٌ مَعرفية تُفَجِّر الطاقاتِ الإبداعية في الفردِ والمُجتمع، وتَدفَعهما إلى تحرير السُّلوكِ الإنساني مِن الصِّرَاعاتِ، وإنقاذِ العلاقات الاجتماعية مِن الصِّدَامات، وعدمِ الغرق في معارك جانبية عبثية تُمَزِّق النسيجَ الاجتماعي، وتُبَعْثِر الجُهُودَ، وتُهْدِر الطاقاتِ. والوقتُ الذي يَقْضِيه الفردُ في تبرير أخطائه يَكْفِي لإصلاحها، والوقتُ الذي يَقْضِيه المُجتمعُ في البُكَاءِ على الأطلال يَكْفِي لإعادةِ البِنَاءِ، والوقتُ الذي يَقْضِيه الفِكْرُ الإنساني في تفسير العَالَمِ يَكْفِي لِتَغييره، والوقتُ الذي تَقْضِيه الفلسفةُ في تَحليلِ الظلام يَكْفِي لإضاءة الشُّمُوع.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إذا كانت الفلسفة، في ماضيها أو مجد تألقها، قد أفلحت في التأطير والإضاءة لبعض الجوانب، فإنها خسرت معركة تحريرها الأساسية لبقعة الأرض التي نشأت بسببها (الحرب) التي وجدت من أجل خوضها، والتي اختصرها الفيلسوف سورين كيركغارد في السطور التالية من روايته المعنونة مراجعة: (يغرس الواحد منا اصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمّها، وأغرس أنا اصبعي في الوجود فينم عبيره عن اللاشيء، فأين أنا وكيف جئت إلى هنا؟ وما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ كيف وصلت إليه؟ لماذا لم أسأل ولماذا لم أؤهل لأتطبع بطرقه وعاداته؟ قذفت إلى جوعه وكأني اشتريت من خاطف ملعون أو تاجر أرواح.. كيف أصبحت مهتماً به؟ هل هو أمر طوعي؟ وإذا كنت مرغماً على تمثيل دور فيه، فأين هو المخرج؟ أحتاج أن أراه!)، وهذه هي بقعة الأرض موضع النزاع التي لم تحرر، وهي مازالت بيد المجهول الذي يقبض عليها بيد من حديد؛ والأهم هو إننا مازلنا لم نحررها، بل وتتجدد كل يوم وتتضاعف حاجتنا إلى تحريرها! وبسبب عدم تحريرها أو عجز الفلاسفة عن ذلك، اقترح افلاطون انتحار الفلاسفة، ولكن الفلاسفة وبدل انتحارهم – بالمقصد المجازي طبعاً – خنقوا الفلسفة أو حاولوا حرفها عن هدفها، كل منهم حسب رؤيته.

ومقولة كيركغارد السابقة تعني ببساطة أن النظام الذي اقترحه هيجل لم يكن أكثر من محاولة أخرى لخداع النفس، وبالفعل فقد اندحر نظام (فلسفة) هيجل ولم يتبق منه غير الهيكل الذي تحشى به الكتب التي تدرس في أقسام الفلسفة الجامعية، أما على أرض الواقع فبقي (الرعب! الرعب!) بتعبير جوزيف كونراد، وبقيت أحداث (المسابقة غير المثيرة) تجري بنفس الوتيرة من التصميم وعدم توضيح الأهداف (وبكآبة غير مستحبة، ولا شيء حولها أو في قاعدتها، إنها بلا متفرجين، بلا صراخ، بلا روعة.. تجري في جو باهت ومريض من الشك، بلا إيمان في حقك أو حتى في خصمك.. كنت أود التصريح في آخر فرصة، ووجدت أن لا شيء عندي لأقوله)، بتعبير نفس الروائي، وهنا ينهض السؤال في أنصع وجوه جديته: ألا يعتبر الموت محطة وصول؟ وإجابة الإنسان الحديث والوجوديون قبله، تأتي بصيغة سؤال هي الأخرى: وصول إلى أين الذي يؤدي إليه الموت وهو ليس أكثر من مجهول تحللي وماحق للإنسان؟

الموت الذي سيكون محطة وصول مقبولة هو الذي يأتي كنتيجة إيمان في حق الفرد، وإيمان كبير أيضاً، في كل شيء وفي كل ما يعن له أو يراه، مهما كان صغيراً أو لا يجده (الاتفاق البورجوازي) أو النظام الاجتماعي مبرراً بما فيه الكفاية. وأيضاً، وهذا هو الأهم، هو الإيمان الذي يسبقه فرصة التصريح وبأعلى صوت، ولو من أجل قول أف أو لإطلاق سيل من اللعنات غير المعنونة!

لا أحد ينكر على الفلسفة إنها كانت، في جوهرها، دعوة للجنس البشري للتخلي عن أوهامه، وأوهامه الضرورية على وجه الخصوص، إلا أنها لم تطرح بديلاً مقنعاً، وبدل أن تطرح ذلك البديل انقسمت على نفسها إلى مذاهب ومدارس، وانصرفت للعناية برسم خرائط حدود ملكية تلك المذاهب والمدارس وبناء الأسيجة الملونة لها، بدل أن تبني لنا قبة هيكل النجاة ـ بمقصد العبارة المجازي طبعاً ـ وتفتح لنا باب الخروج من مُطهره باتجاه العودة إلى جلودنا الحقيقية، والمغتصبة من قبل جهة ما، أو (الموت كالبشر) على أقل تقدير.

وها نحن الآن وصلنا إلى أكبر أسئلة الفلسفة التي كان من المفروض أن تكرس نفسها للإجابة عليها: هل فعلاً لنا أو كان لنا (جلود حقيقية) واغتصبت أو سرقت؟ وهل كان الأجدى التحقق من هوية (سارقها) وتحديد صفاته وملامحه، من أجل رسم صورة توضيحية له، أم كان الأجدى القبض عليه قبلها أو تحديد مكانه، على أقل تقدير؟

ورغم أن الوجوديين كانوا الأكثر تشاؤماً في محاولة الاقتراب من إجابة هذين السؤالين، إلا أنهم كانوا الأكثر جرأة على نبذ الأوهام وتحديد الحرية الذاتية كبوابة دخول للهيكل، دون أن يدعوا أنه هيكل نجاة.

وإذا كان البعض، من الفلاسفة والنقاد منهم على وجه الخصوص، قد أخذ على الوجودين في قصر تلك الجلود على الذاتية التي نادوا بها، فإن الذاتية أثبتت ومازالت تثبت، إنها ليست مجرد رد فعل على موضوعية العلم وعقلانية الفلسفة التي أحالت الانسان إلى مجرد أداة في نظام وتكوين مادي يثير الاشمئزاز والشفقة على بؤس منتجيه، سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو قادة نظام اجتماعي وسياسي أو نظام اقتصادي نفعي، استهدف بكل جهده قيم الانسان وحريته وصادر فرديته التي هي أهم عناصر شعوره بكينونته وطريق إيمانه بها وبأهميتها وجدواها.

ولعل تجربة موقف الفرد وإيمانه بفرديته ودفاعه عن ذاته، أظهرتها بجلاء ردة فعل المواطن في المعسكر الاشتراكي، بوجهها السياسي على الأقل، عندما استغل مواطنو ذلك المعسكر أول عملية ارتخاء لقبضة السلطة عن خناقهم، وثورتهم في سبيل استرداد حريتهم في بولندا، قبل انتشار نار تلك الثورة في باقي دول ذلك المعسكر، والتي توجها الالمان الشرقيون بتحطيم جدار برلين وعبورهم لأنقاضه إلى جهته الثانية، رغم أن جهته الثانية لم تكن سوى الخطوة الأولى في طريق الحرية الذاتية، أو الخطوة الأولى في تحطيم القشرة الخارجية (للاتفاق البورجوازي، وهي مقولة لهرمان هيسه مقصدها أن الانسان خدعة صنعها البورجوازيون)، الذي كان يسميه قادة المعسكر الشيوعي بسلطة الشعب، والتي لم تكن في حقيقتها، حالها في ذلك حال سلطة الاتفاق البورجوازي الرأسمالي، والتي تسمى في هذا النظام سلطة الديمقراطية وحكم الشعب، وهي في كلا النموذجين ليست أكثر من عملية مصادرة للحرية الفردية... مقابل نظام وحماية المجاميع الاجتماعية واتفاقاتها البورجوازية، المصادرة للحرية الفردية والسعادات البدائية أو الحيوانية، إن شئتوا، التي كان يتمتع بها انسان ما قبل ذلك الاتفاق.

إذن بمقدورنا أن نقول أن لنا جلوداً أولى، وإن تلك الجلود اغتصبت فعلاً، وعلى مراحل التأريخ، اجتماعياً وسياسياً واكليروسياً وطائفياً ومناطقياً وروحياً... وأخيراً فلسفياً وعلمياً. ورغم أن عودتنا إلى تلك الجلود لا تمثل إلا عودتنا للوقوف أمام بوابة الغابة، إلا أن هذه الغابة (غابتنا نحن) وسندخلها بمزاجنا وتوقيتنا نحن، والأهم من أجلنا نحن لا من أجل نظام أو اتفاق مفروض علينا!

هل يعني هذا أن مشكلتنا في أساسها هي مشكلة حرية، وأن إحالة الفلسفة أو ابتسارها في (نظام) أو هيكلية أو صيغة تنظيمية كان سبباً من أسباب المشكلة أو إشاعتها، ذلك الشيوع الذي ترتبت عليه آلاف العقبات (التنظيمية والتقنينية) التي حلت محل الفلسفة واستحوذت على مكانها، بصفتها بديلاً واقعياً... بل وفلسفياً، عند منظريّ (الاتفاق البورجوازي)؟

مثل صيغة الطرح أو الاختصار المتعجل هذه، تمثل ابتساراً آخر للفلسفة، بحد ذاتها، لأن الفلسفة مثلت وتمثل التطلع الصريح لقيمة الانسان في حد ذاته؛ كما إنها تمثل تجاوزاً متعسفاً على الفلسفة، بصفتها الوسيلة والطريقة التي نالت رضا الانسان في تقرير ذاته وإعلائها وتمكينها من الوعي الذي يلزمها.

إذاً الفلسفة كتلة أو جسد يجب أن يكون بحجم الانسان ذاته وتطلعاته وتشوفاته، وأولها الحرية طبعاً، لأنها طريق عودته الوحيد إلى (جلده) المستلب، أو وعيه بهذا الجلد، بعبارة أكثر دقة.

وبهذا المعنى تكون الفلسفة وهدفها، ليس تأسيس الفرضيات، على طريقة الوضعيين المنطقيين والمثاليين، والمفاهيم، وفق رؤية جيل دولوز، وإنما ترسيخ دائرة الخصومات وتأكيدها، على طريقة فريدريك نيتشه، لأن المشكلة الأخطر التي واجهت الفلسفة ومازالت معلقة، هي ليست معاناة الانسان من فقدان النظام الذي شغل هيغل، على سبيل المثال، إنما في مواجهة السؤال الأكثر مضاضة، والذي اختصره المفكر الانكليزي، هربرت جورج ويلز: (نحن نعرف إنك تعمل وتعيل عائلة وتأتي بالنقود وتحب وتكره، ولكن ماذا تعمل)؟

هل الإجابة على هذا السؤال كانت تحتاج كل التعقيد الذي أنتجته الفلسفة، والذي تحول إلى تراث جاثم، على طريقة جثوم أبي الهول، لا ليقدم اجابة مختصرة على سؤال ويلز المختصر وإنما ليدرس في الجامعات لطلبة يدرسونه لطلبة أقل تخصصاً منهم؟.

***

الدكتور سامي البدري

سلطةُ الحقيقةِ.. ملتبسٌ هو هذا المصطلح إلى درجةِ الغموض، لأنَّ الحقيقة قد تُجرد المتلقي مما يعْلق بذهنه تجاهها، طالما عرف أنَّها (حقيقةٌ وكفى). وربما لا يرى المتلقي أيَّ شيء آخر خلفها، فالسعي إلى الحقيقة هو نوعٌ من بلوغ (غايةٍ معينةٍ) يعتبرها الناس جديرةً بالاهتمام، وهو أيضاً (نقطة وضوح) تنخلع عندها كافة التوجهات الأخرى. ولكن الأكثر التباساً أنّ تغدو الحقيقة ذات سلطةٍ تحديداً، إذْ كيف تكون للحقيقة سلطةٌ مع احتمال أنْ تسبقها حقائق مغايرةٌ؟ وبأي معنى تكون للحقيقةِ سلطةٌ؟ مع أنَّ الأخيرةَ (أي السلطة) لهي المعنيّة بإبراز الحقائق ضمن مجالها التأثيري. فهل السلطة حقاً تحدد ماهيةَ الحقائق أم أنَّ الحقائق تنتج سلطةً؟ ولماذا ترتبط السلطة بالحقيقة أصلاً؟!

لنطرح في البداية القول بأننا عادةً ما نتلقى (جميع واقعنا)على أنه حقيقة، ولو تفحصنا الأمر جيداً لرأينا أنَّ ما نتلقاه ناتج عن عمليات ضّخ معلوماتي ومعرفي (مباشر أو غير مباشر) حول شئون الحياة وأحداثها على مدار الساعة. والضّخ مرتبط بالعلاقات والأخبار والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمناسبات والطقوس ... إلى أخر ذلك. لكن ما لا نعرفة: أنَّ ذلك الضّخ المعلوماتي informative pumping مرتبط – إضافةً إلى ذلك - بقوى فاعلة لها تأثيراتها داخل الواقع نفسه. أي أنَّ الواقع صور خارجة لتوها (بشكل طازج) مشبعةً بغايات وممارسات سلطوية شتى، وأنها ممارسات تحقق ذاتها في شكل معلومات وأخيلة وسرديات عن طريق مختلف أنواع التواصل مع العقول. والعقول بدورها تشتبك مع الحالة لتكملة المشاهد ووضعها في السياق الملائم.

ربما بقانون (الدفع الذاتي) سنُعرّف السلطة كفعلٍ وحركةٍ تجاه موضوعاتٍ معينةٍ أو عبر وسطٍ ما تستطيع السيطرة عليه. مع التأكيد أنَّ الفعل والحركة ليسا ماديين على طول المدى، لكهنما رمزيان وتأويليان بالضرورة. والصفتان المذكورتان (الرمزية والتأويل) مهمتان كما سنحتاجهما لاحقاً عند منعطف الحقيقة. إنَّ السلطة مبدئياً هي (بؤرة تجميع) لعناصر التأثير داخل ذاتها حيث تعيد عكسها تجاه الموضوعات والبشر. وتظل بمثابة إمكانية مؤولّة interpreted ability قابلة للإنطلاق ومتاحة لشعور المتأثرين والمعنيين بها طوال الوقت. السلطة تُؤشر تأويلياً إلى واقعٍ موضوعٍ تحت المعرفة، واقع مُقنن تبعاً لمواصفاتٍ محددةٍ ولكن تظل صوره محل تفسير.

بمعنى أنه بحسب تكوينها، تذهب السلطةُ إلى رسم صورة الواقع وتعطيه مساحة الإنكشاف، ويكون بالنسبة إليها وسيطاً نشطاً قيد الرؤى والتفكير. ولذلك لا تكفُ أية سلطة عن كسب أرض جديدةٍ لممارساتها، وتلفت الأنظار إلى أنها مازالت سارية المفعول كما لو كانت هكذا. كلُّ سلطة تشترط على ذاتها لفت الأنظار التأويلية من قبل، فهي تأثير سابق لآوانه، ولكنه وصل متأخراً وبقوة المتابعة والتلقي. دائماً تعجل كل سلطة بالإعلان عن وجودها في أي نطاق تشغله أو تستهدف العمل من خلاله.

أمَّا الحقيقة، فهي التجلي- الظاهر والخفي- لتلك السلطة، تجل من الداخل interior إلى الخارج exterior، فنحن نقول عن أمرٍ معين أنه حقيقي إذا كان معبراً عن (قوة ظهور ما power of appearance)، وإذا كان أيضاً له من السمات التي تؤهله لأنْ يتجلى ويُعلن عن نفسه بين الناس. وأحياناً عندما يفتقد الأمرُ لهذه القوة، فقد تأتي ظروف وتحمله على الظهور كاشفةً إياه أمام هؤلاء الناس. وهذه هي علة انكشاف بعض الحقائق متأخرةً تباعاً من عصرٍ إلى آخر، رغم أنها في عصورها المختلفة قد لا تجد مُناخاً مواتياً لذلك الوضع. نظراً لأن تفاعلات السلطة غير متناغمة مع ظهور الحقيقة. ولذلك هناك قوانين تُسن في دول العالم بأنه لا يتم الإفصاح عن الوثائق والروايات الفعلية التي توثق بعض الأحداث والحروب والمنعطفات السياسية الخطيرة إلاَّ بعد مرور عقود من السنوات. والمغزى أنَّ ظهور الحقائق قد يكون قوي التأثير على متابعي الأحداث بما يمس السلطة القائمة، وأن الأسرار عندما تعلن سيكون لها وقع تأويلي خطير جداً.

ولا يعني ذلك أنَّ هناك انفصالاً بين السلطة والحقيقة، بل هما (شيء واحد)، أي صورة واحدة قيد التأويل. والتأويل يعني أنَّ هناك صوراً أولية مجازية مرسومة لمقولتي السلطة والحقيقة بفضل تفاعل الخيال والرؤى الإنسانية. وليس كل ما يكون حقيقياً هو مادي بالضرورة، لكنه نوع من المجازات التي تحقق مضمونها في العقول بجانب الواقع أو قبله أحياناً. المعادلة بين الطرفين تطرح نفسها على النحو التالي: (السلطة = الحقيقة × الظهور والحضور)، وبصيغةٍ أخرى: (الحقيقة = السلطة × الظهور والتجلي). ولذلك فإنَّ الأحداث التي لا تبدو ظاهرةً ولا منكشفة تفتقد إلى قوة ظهور وراءها. وليست دلالة الحقيقة هنا شفافةً بالنسبة إلى منْ يعرفها، بل ستكون مضروبةً (حسابياً وتأويلياً) في الوسط الذي توجد فيه. بحيث تعتمد على قدراته وجوانبه المتنوعة، وكيفية انتاجها ضمن هذه الآفاق على صعيدٍ عام.

غير أنَّ السلطة- من جهة أخرى- ليست مركزاً خالصاً، وليست مصدراً متعالياً لشيءٍ، إنما تعدُّ نسيجاً مثلها مثل الخلايا الحية القابلة للنمو في أي وقت متى توفرت لها أسباب الحياة. وهي خلايا مركبة تنتشر بجميع صفاتها ضمن أي مكون معرفي وفكري وثقافي. إذا ردنا توضيح الأمر بجلاء، فهناك بعض النباتات التي يمثل الجزءُ منها - ولو كان صغيراً- جميعَ الصفات التكوينية للنبات ككل. وعند تناول هذا الجزء وغرسه في التربة أو في لُحاء ونسيج أي نبات آخر (بطريقة التطعيم) مرة ثانية، فإنه ينمو مؤكداً كافة الصفات الوراثية والتكوينية للنبات. وهكذا بالمثل لو نتخيل قطع عضو من حيوان وإلقائه بعيداً، فإنه سينمو مُستعيداً البنية والشكل والكيان الخاص بالحيوان. إذن أمر السلطة أنّها في حالة فيض وتراكم، ليس بمعنى الزيادة فقط، بل التوالد والاستعادة.

وهذا ما يجعل السلطة تنتج الحقائق من جهةٍ، ومن جهة أخرى تواصل الحقائق تغذيتها الراجعة إليها ومنها feedback في الوقت نفسه. هما جهتان في جهة واحدة (سلطة الحقيقة أو حقيقة السلطة)، بحيث إذا ركز الإنسان على السلطة، فلن يرى الحقائق إنما سيهتم بتأثير السلطة وقدرتها على الحضور، وإذا ركز على الحقائق سيغفل السلطة التي تسكنها طوال الوقت. وهذه هي أرجوحة الأنظمة السياسية التي تمارس تلك اللعبة مع الشعوب بواسطة أدواتها الجماهيرية ووسائطها الإعلامية والإعلانية المؤثرة. لأن ما تؤكده السلطة والحقيقة هو نمط الوعي الغالب والصورة الذهنية واللغة والعلامات التي تشكل آفاق الناس.

لذلك تعد الحقيقة بمثابة تأويل للسلطة، وفي النهاية تلخص سلطة التأويل الذي يأخذ شكل الوعي إزاء العالم والأشياء والوقائع.

إذن في هذا السياق هناك حركتان لأية سلطة:

أولاً: حركة بنائية خاصة بالتكوين (الامتداد والانتشار): فكل سلطة تجمعُ زمامَ أمرها إزاء أي تهديد تستشعره عن كثب. إذ نراها كأنها كتلة غامضة مرنة جداً، ومتلونة بحسب البيئة الموجودة فيها كما نوهت. وحالاً تستحوذ على قدرات هذا الوسط آخذة المبادرة للتعبير عن نفسها بما تتمع به من سماتٍ. لأن جوهر السلطة هو جوهر برجماتي حتى النخاع، تعيش على القوى المتاحة ولو كانت جزئية وممزقة. وأحياناً تشكل فن تجميع المُمزق للإيهام بكونه صلداً وغير قابل للاختراق.

ثانياً: حركة تزيُد (فيض- تراكم)، وهي الحركة التي تخرج بعيداً عن ذاتها: إنها المعنى الاستراتيجي الاستشرافي للسلطة. فلا تكتفي عادةً بالنقطة البنائية وفقاً لطرائق مختلفة، لكنها تسرب إلى متلقيها أنها موجودة بالفعل والقوة معاً حتى ولو كانت هذه في حالة غيابها العيني.

وبعيداً عن التجريد الفلسفي، قد نرى في الشارع العربي رجال السياسة المؤثرين وهم يقفون كما لو كانوا يمثلوا شيئاً سرياً وفي حالة تضخم مستمر. شيءٌ هم يعرفون أهميته وخطورته داخل وعيهم، سوى أنهم لا يقدِّرون تلك الأهمية المعطاة لهم إلا بمقدار رد الفعل الظاهر لدى الآخرين. كأنَّ رجل السياسة يقول سأكون لدى خيالكم وإحساسكم بسريان السلطة حتى داخل هواجسكم. بينما هو نفسه يكتسب حركته من خلايا السلطة التي ليست له تحديداً. حيث تتجمع رمزيتها واضعة إياه وسط دائرةٍ ثقافية أوسع من محيطه البائس. لكن الواضح أنَّ تلك الخلايا السلطوية هي عمل استراتيجي في المقام الأول، لأنَّها تستقر مع طبائع المجتمع، وتعقد الصلة مع أدوار الفاعلية التي يخلعها على أفراده. ومن ثمَّ نشير إلى رجل السياسة بوصفته الرسمية، نقول عنه ضمناً هذا "رجل النظام والسلطة"، لقد حلت فيه روحُ القوة، كما يحل الروح القدُس في الكائنات الضعيفة. فإذا به منتفخ الخيال والأوداج والعبارات!! اختصاراً هذا نموذج لإنتاج الحقيقة وهي بتلك الطريقة تترك أفعالها مع اللغة وخطاب التداول.

ولهذا تظهر السلطةُ -عبر كل أشكالها المختلفة- بآثارها لا بكيانها، بتجلياتها لا بماهيتها الخاصة. من هنا تسكن السلطة جميع الحقائق وتحركها على مساحة كبيرة من التأويلات، وتراها بديلاً عن مصادرها غياباً وحضوراً في صور المعارف والمواقف والأفعال المختلفة. وهذا الموضوع أساس "الاعتقاد والضمان" اللذين يوفرهما الإحساس بوجود السلطة في الحياة العامة. وقد يتقاربان في مستوياتهما حتى أنّنا نظن ضمن مجالات السياسة –على سبيل المثال- وجود السلطة داخل كل شيء تقريباً.

حصيلة ذلك أنَّ الحقائق هي تأويلات لسلطةٍ ما، والتأويلات رغم كونها هشةً لأنها مجرد صور مستعادة لنوايا وأصول السلطة إلاَّ أنها قد تصارع من أجل البقاء. ذلك أنها معتمدة في المقام الأول على قدرات المتلقي بشأن التقاط الإشارات التي ترسلها. وفك شفرة الرسالة التي تقول إن هناك مرجعية قابعة في الخلف. ولذلك تجري التأويلات في إطار جماعات (مجتمعات) تواصلية معينة بمعناها الثقافي. فقد يكون هناك مواطنون يحملون درجة كبيرة من التقديس لسلطة دينيةٍ (مؤسسة أو هيئة معينة)، فهي مؤولة لديهم باعتبارها ممثلةً للدين ومرجعيةً للاعتقاد. ولكن إذا انتقلنا إلى جماعة تواصلية أخرى، فلن تكون هناك هذه الدرجة من التقديس تجاه تلك السلطة الدينية.

ما الجديد الذي حدث عندئذ؟ إن التأويل لم يعد يجدِ لتمرير الحقيقة، لكونه غير قابل للتأثير لدى الناس، وأن هناك تأويلات أخرى ستأخذ مكانه بحسب طبيعة الثقافة واختلافها. ومن ثمَّ، فإن خلخلة سلطة الحقائق لا يتم إلاَّ بواسطة إيجاد دروب جديدة للفهم والتأويل. كلُّ سلطة تخشي على نفسها من التأويل المختلف، فهي إذا كانت تتدثر بتأويل ما وتدَّعي براءتها مما تقول الحقائق، فهي تتحسس من ترك التأويلات في العراء الثقافي. العراء الذي هو مصدر رعب لكل أنظمة المعرفة والسياسىة والمجتمعات، وهذا يفسر كمية السيول الجارفة من المعلومات والأخبار في كافة المجتمعات ومع كافة جوانب الحياة، لأن مفتاح الحقائق مهدد بالضياع في التأويلات التي يمارسها البشر. فكلُّ عقل هو ملكة تأويلية بالضرورة ولا مفر له من ذلك. ولئن لم تؤول عقولنا جوانب ما نفكر فيه، فلن نفعل شيئاً إلا بالتأويل أيضاً، وفي التأويل تكمن الحقائق وتنتشر وتتلاشى بالمثل.

إنَّ أكثر ما يهدد سلطة الحقيقة هو كون تأويلها نسبياً، وليس من وجودٍ لأية سلطة مطلقة طالما تدور مع دوران الأرض حول الشمس. لعلَّ مجرد وجود قصة معينة حول واقعة تاريخية تناقض روايتها المعروفة مسألة بالغة الخطورة. والخطورة بشأن تحرير العقول من سطوة الحقائق التي سُوقت لسنوات وسنوات وبُنيت فوقها مفاهيم وصور أخرى منها. وهذا يستدعي أهمية طرح فكرة الشفافية وفتح روايات التاريخ وأضابير الوثائق، لأن سلطة الحقائق لن تُحصّن ذاتها إزاء أي تأويل. والتأويل مدخل إنساني لمعرفة الأصول وإخراج جديد لسناريوهات أخرى. ومن حيث تنتشر السلطة وتتحرك، تأتيها فيروسات مضادة عبر التأويلات التي تفتح العقول والرؤى على صور من الحقائق الأخرى.

***

د. سامي عبد العال

رغم ازدحام الذاكرة الثقافية العربية بالمهيمنات والكوابح، تبقى مهيمنة الماضوية هي الأنصع أثراً على طول تأريخنا الحديث، عصر ما بعد ثورة التنوير التي بدأت مع بداية انقشاع الاحتلال العثماني عن الأراضي العربية.

ولعل أنصع صور تلك المهيمنات الماضوية، التي كان لها أفدح الأثر في ذاكرتنا وتكويننا الثقافيين، كان الموقف المتصلب، بل والعنيف الرافض للفلسفة، والتصدي لها عبر كافة المنابر المتاحة، وأولها الكتب التي ألفها الفقهاء في نبذها وتهافت أصحابها… بل وحتى تحريمها.

لسنا هنا بصدد استعراض تأريخي لمراحل بناء هذه المهيمنة، بل نحن بصدد استعراض حجم أثرها في بناء وتكوين المدونة والذاكرة الثقافية العربية، بمردوداتها الزجرية والتحجيمية للرؤية والتفاعل وبناء الفعل الثقافي، وبالتالي الفكر والفعل الحضاريين.

وبعيداً عن البنى والتصنيفات المرحلية، وكذلك بعيداً عن البنى المفهومية والاصطلاحية، نقول إن الهجمة ـ هجمة النبذ والتحريم ـ التي وجهت إلى الفلسفة من قبل فقهاء عصر ازدهار الإمبراطورية الإسلامية ومن تلاهم، قد عمل على حصر تأسيس الذاكرة الثقافية العربية ضمن الإطار الفقهي وحرمها ـ ترهيباً ـ من أهم قواعد بنائها، ألا وهي الفلسفة، التي تمثل المنطلق والركيزة الأساسيتين في التأسيس الثقافي، فعلاً ومدونة وذاكرة.

ولا يختلف اثنان اليوم على أن ما نعانيه من تخلف ثقافي مرده عدم وجود القاعدة الفلسفية الراسخة في بنيتنا الثقافية، التي هي أساس توجه ونضوج كل مشروع ثقافي وطريق صيرورته وصيرورة جهده الفكري وصيغة بناء إنسانه ومشروعه الحضاري.

الذاكرة الثقافية العربية، ورغم كل ما يحاول البعض تلميع واجهتها، إلا أنها فعلاً لا تحكمها غير المهيمنات الترهيبية من فعل التفلسف والرؤية الحصرية لمقتضياته وأهدافه؛ ولهذا، وبعد مضي ما يقرب من ثمانية قرون على سقوط بغداد على يد هولاكو، وبعد خمسة قرون من الهيمنة الثقافية العثمانية، نجد أنفسنا بلا مرجعية فلسفية تسندنا ونعود إليها من أجل تأسيس مشروع ثقافي نعيد استنهاض أنفسنا من خلاله، ونعاود وقوفنا، على ساحة الوجود الثقافي والحضاري، ويعبر عن أصالة فكرنا وتجذره الواقعي في خريطة الفكر والتحضر الإنسانيين.

صورة فعل التفلسف مفزعة في الذاكرة الثقافية العربية، وهي، ورغم كل محاولات التشخيص والمداواة لها، خلال القرن العشرين، من قبل نثار كتابات المثقفين والمدونة والدرس الأكاديمي العربي، إلا أنها مازالت تقف أو تنزوي داخل ذلك الإطار العتيق الصلد من كوابح النبذ والهجر، ولهذا ظل فعل التفلسف وعملية تأسيس رؤى ومناهج ومدارس فلسفية عربية خالصة، مطلباً بعيد المنال، إن لم نقل يعجز العقل العربي عن الإتيان به وإنضاجه، كأساس ومرجعية فكرية وثقافية.. وربما لهذا السبب، بالدرجة الأولى، نجدنا أمام حالة نكوص (كي لا أقول فراغ) ثقافي، وبالتالي حالة التخلف الحضاري التي نعيشها الآن، والتي تفصلنا بقرون، علمية وتكنولوجية وحضارية، عن باقي دول العالم، في شماله وجنوبه. ولعل مثال النهضة الأوروبية، بعد تخلف القرون المظلمة التي مرت بها أوروبا، والتي قامت ـ النهضة ـ على جذر الفلسفة اليونانية، خير مثال على ما نقول . ولننظر بالمقابل إلى ما جوبهت به ترجمات مسلميّ عصر ازدهار الدولة الإسلامية لكتب الفلسفة اليونانية من هجمة (أغلب المترجمين كانوا من المسلمين غير العرب، وكذلك من تصدوا لشرح كتب الفلسفة وأول محاولات التفلسف وإرساء قواعدها المعرفية والمنهجية والرؤيوية في الحياة الثقافية للمجتمع المسلم) من قبل بعض الفقهاء، الذين سعوا لتحصين اعتراضاتهم وهجماتهم باجتهادات تحريمية وترهيبية، من أجل قطع الطريق على عملية تأصيل الفلسفة في الفكر والثقافة العربيتين، كقاعدة انطلاق للنظر والمعرفية والثقافية.

ولعلنا لا نغالي إذا ما قلنا إن محدودية نظر العربي، في بداوة ما قبل الإسلام، وبالتالي محدودية واقتصار وسائل تعبيره الذاتية على جنس الشعر، قد كانت من بين أهم أسباب عدم نضوجه الفكري ووصوله إلى عتبة النظر الفلسفي، إلا أن انفتاح ما بعد انتشار الإسلام، وما رافقه من أوجه المثاقفة والتلاقح والانفتاح على ثقافة الآخر (المسلم وغير المسلم)، الذي كان من المفروض أن يهيئ العقل العربي لمخاض فلسفي/تنويري يوازي حجم النمو السياسي والاقتصادي الذي رافق اتساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، لم يكسر وضع الانغلاق المثخن الذي رسبته قرون عزلته البدوية في شبه جزيرة العرب، وتقوقع رؤيته، وانغلاق وعيه على حدود معيشه اليومي شبه البدائي.. وبالتأكيد فإن هذا ما أثخن الوعي العربي، حتى بعد الغنى والنمو التجاري الذي حققته الفتوح الإسلامية، على حالة من الركود والتعصب لكل ما يهز القناعات الراسبة والمتجذرة، التي كان عنصرا الشك والاختبار، اللذان يقوم عليهما النظر الفلسفي، من بين أول أعدائهما المزعجين والمقلقين.

وهذا يعني، بطريقة غير مباشرة، أن الوعي الثقافي العربي (إذا جاز لي التعبير)، كان ينوء تحت أحمال مضادة، بما يمنع التوسع لبناء وعي جديد، له القدرة على تقبل ثقافة جديدة ومغايرة، تخرجه من حالة الركود الارضائي إلى حالة من قلق النظر التي تقوم على الشك وإعادة الاختبار لكل مألوفاته، من القناعات، وهدم كل صروح مسلماته من أجل إعادة بنائها من جديد، وربما تركها معلقة في الهواء، وبالتالي تركه بلا سقف يراه.. وعليه فإن هذا هو ما ترك الذاكرة الثقافية العربية بلا مرجعيات ومدونة فلسفية تنزع وتدفع لتأسيس مشروع ثقافي نتطلع إليه منذ اللحظة الأولى لبدء مشروعنا التنويري، الذي يتراجع كل يوم خطوة إلى الخلف.

***

سامي البدري

(في مجال النظر الفكري الخالص كثير من كبريات القضايا المقامة على مغالطة المعاني أو الثاوية وراء مخاتلة اللغة ومكر الخطاب، لا يفكك تلبيسها إلا السؤال الساذج كتلك السذاجة التي نلج بها خيمة الفلسفة)..عبد السلام المسدي

يجدر النظر الآن بعين واحدة، والذهاب إلى القول، أن الثقافة والعولمة يفترقان. أما ما يجمعهما فأكبر من الفرقة ذاتها. إذ يشكلان عقلا مكتمل الأركان والبنيان. أولا، في تمثلهما لطبيعة الحيز والمضمار الذي يشغل وحدتهما في المعرفة والتداول الفكري والانتماء للعالم. وهو شق يتغافل عنه أصحاب التخصص والاعتبار، مع أن مقاربته من الزاوية المسكوت عنها، هو أصل الجدل والنقاش المنتشر.

وثانيا، في انتقالهما من مجرد واجهة للترميز والاسباغ بالهوية والتحدد بطبيعة الثقافة، إلى تشكل رؤية بالشراكة، تضع العلامات وتصفها وتتحول بها ومعها إلى موطن إنساني وكوني ينثني على مجموعة أنماط وخلفيات سياسية واجتماعية ونفسية وحضارية.

لماذا تتحيز مفهومية الثقافة لكل ما هو شمولي. في قصديتها لقراءة العولمة، وفي تبديلاتها للفروق الشاسعة والمناورة التي تضعها الثقافات المعولمة، على إيقاع "السلطة السياسية " "ومنظومات العولمة الأخرى والموازية" أو ما يطلق عليها أحيانا ب" العولميات الدولية"؟.

إنه كثيرا ما يثار مشكل التعريف السوسيولوجي لـ"العولمة الثقافية"، هل تحدده "عملية توحيد السلع الثقافية المستهلكة في "القرية العالمية"، أم التأسيسات المرجعية الموحدة لتلك السلع المنظورة الخاصة ب "التعبيرات الثقافة ، والتنوع الثقافي ، والخصوصية الثقافية ، والتعددية الثقافية".؟. بالإضافة إلى ما يمكن تعميمه حول ما تولد عن هذه المفاهيم ، مثل الجغرافيا السياسية أو الحكم"" أو "الثقافة المفرطة".

يستبصر الباحثان الفرنسيان جان تارديف وجويل فارشي في كتابهما المشترك "تحديات العولمة الثقافية"، الصادر بباريس عام 2006، أشكال تنظيم التقابلات بين الثقافة والعولمة، من منطلق طرح أسئلة محورية، حول ماهية المساحات الجيوسياسية الجديدة الناتجة عن العولمة، في ضوء الديناميكيات العالمية الراهنة، وكيف تتطور الثقافات المختلفة واستراتيجيات مقاومة الهيمنة الثقافية، مع تسليط الأضواء حول تداعيات تكثيف التبادلات الدولية ومخاطر التجانس الثقافي؟؟.

ويرى الباحثان، أننا بإزاء هذه الأطاريح المتشعبة، لازلنا نتعامل مع العولمة الثقافية من منظور شبه نقدي أو شبه بناء ، مشككين في الآن ذاته، فيما إذا كنا نواجه شكلاً استطراديًا جديدًا ، مثيرين أشكالا من المذهبيات الشائعة، المرتبطة بالأمركة والتسليع والإمبريالية.

وكيفما كان الأمر ، فإن التعامل مع موضوعات "الأمة والهوية الوطنية والسيادة "باعتبارها بنايات رمزية للخيالات الإبداعية أو اليوتوبيا، هو ما يفرض، حسب جان تارديف وجويل فارشي، وضع السياقات المتداولة، ضمن خصوصياتها المرجعية والثقافية، بعد ظهور ما يسميانه ب" الاضطرابات الناجمة عن ظهور تقنيات المعلومات والاتصالات"، ما يفرض بالتالي، إعادة تعريف مفاهيم "المسافة والقرب" ، وفهم خصوصيات الفضاء الإعلامي والثقافي المعولم، داخل حيز رمزي يطلقان عليه "القارة السادسة".

ووفق هذا المجال، يعتبر الكاتبان أن التجانس بين الثقافة والعولمة ، لا يزال سطحيًا بشكل نسبي، بل إنه يمثل خطرًا أقل بكثير من التهميش الخبيث للمساحات الجغرافية الثقافية الأخرى.

ومع أن انفتاح العولمة على عالم الثقافات سيظل عائقا في القابليات الفكرية والثقافية ، وشكلا من أشكال الترويج والاستلاب والبروبجندا المضادة، إلا أن اللامركزية الموصوفة بها ستبقى أمرًا ممكنًا. وهو ما يلتقي مع نظرائهما في التنظيم لهذا التمايز الخفي والظاهر، خصوصا لدى جيرار لوكلير في كتابه (العولمة الثقافية)، وأرماند ماتيلارت في كتابه (التنوع الثقافي)، أو حتى المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في كاتبه (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).

فهل تشيح أشكال فرض عولميات ثقافية مكرسة للهيمنة والتسلط ، عن مطالب التفرد بالخصوصية الثقافية، على الرغم من تغير أنماط الاستهلاك والممارسات الثقافية ، وصمود مناحي التنوع اللغوي والديني في المجتمعات المختلفة؟ أم أن العولمة الزاحفة ستفرز أنساقا وقطائع مهجنة، تسمح بالنفاذ السلس للأشخاص والبضائع والأفكار ، بما يؤمل لإشاعة قاموس "توحيد الثقافات" و"حوار الأديان" وما إلى ذلك؟، وهو المظهر السياسي الثقافي الجديد لخلاصة ما تقيم عليه الحضارة الغربية، مقولاتها المغرية لتبني نظرية التحويل الحداثي والنظام الثقافي الواعد ، وتحرير العقل واستحضار روح العصر. وهو المطمح الذي تتأسس عليه كل نظرات الغرب تجاه المحيط الإقليمي والدولي، ويمكن التمثيل هنا بأطروحات فرانتس فانون وإيمي سيزير وجان فيليب أوموتوند ، الذين يفككون مشكلات ما يسمونه ب"الاغتراب الثقافي للكاميت (السود) l'aliénation culturelle des Kamits (Noirs)؟، وما وراء فرض رؤية الغرب بإزاء ذلك، وبكل الوسائل، خصوصا فيما يخص مفهوم "الأنا الأفريقية".وعن خلفيات وجذور "العدوان عليها وما وراء ذلك؟ .

***

د مصْـطَفَى غَلْمَان

ما الذي يُضير في أنْ يكون العقلُ عقلاً والدينُ ديناً؟! حيث يُوجد خلطٌ واضح بين حدود (العقل) وحدود (الدين)، تلك المشكلة التي دعت بعضَ أقطاب الفكر الإسلامي والمسيحي لإيجاد التبرير والتوفيق بينهما. فأحدُهم قد يحاول ايجاد سببٍ لهذا الوضع أو ذاك، وآخر يقاربُ المسافةَ المشتركة، وغيرهما يقفز من داخل الدين إلى فضاءِ العقل والعكس. مؤكداً على أنَّ الحدود بينهما مرنةٌ، وليس هناك ما يُعكر صفو العقل بسبب الأديان، وليس هناك ما يدعُو لحذر الأديان تجاه العقل!!

مع أنَّ الموضوع برمته يندرج في دائرة "خلق المشكلات" الوهمية. فإذا كان هناك اختلاف- كما يقول لسان الحال- بين طرفين، فينبغي وجود اتفاق من باب الإمساك برأسي الحقيقة. لكن دوماً هناك رؤوساً متعددة للحقيقة رغم أننا نصر في غالب الأحيان على وجود رأس واحد أو رأسين على أكثر تقدير. إنَّ افتعال مشكلة العقل والدين هو المقدمة التي قد تفرز نتائج مقبولة سلفاً. نتائج متعلقة بإثبات ما نعتقد وما نتصور صحته بصرف النظر عن التفكير النقدي في المسألة. هذا الأسلوب المعروف عندما تكون الأفكار غيرَ قابلةٍ للتحقُق وتميلُ إلى الأوهام. وكأننا نحاول جمع طرفين نراهما ضروريين للحياة والمجتمع. ويصبح القولُ العام كالتالي: إنَّه لئن جرت العادةُ على افتراض الجمع بين العقل والدين، فيجب أنْ يجري الفكرُ بالتبعية في الإتجاه نفسه!!

ثمَّ فجأةً ندرك أنَّ صناعة المشكلة (حدود العقل والدين) سحبت خلفها محاولات من الكر والفر، ورسمت ميداناً كلامياً (كما في الفكر الإسلامي) وحقلاً فلسفياً (فلسفات أوروبا الوسطى) لمعالجة قضايا غير دقيقة أصلاً. ولعلنا نلاحظ من حيث المبدأ أنَّ خلطاً كهذا لا يظهر إلاَّ في أجواءٍ ثقافيةٍ شائكة. أجواء تعلو فيها أصوات الجدل والنقاش حول قضايا مُثارة من لا مصدر بعينه، وتسودُ فيها الإتهامات وصراع العقائد، سواء أكانت خلال فترة إزدهار الفكر الإسلامي أم خلال انتعاش الفكر المسيحي وتماسهما مع الثقافات الأخرى. وضمن الجانبين، ظهر حاملوا لواء التوفيق والتلفيق بين العقل والدين، إذ لم تخلُو معالجة القضايا من مماحكات فلسفيةٍ دون واقع فعلي.

وكذلك يفترض خلطُ العقل والدين وجود (مرجعيةٍ ما) هي المسئولة عن ذلك التداخل وتحاول توظيف الخلط عبر خطابٍ سيُقال إنه خطاب عقلاني أو معتدل لرؤية الواقع وممارساته. ولذلك، فإنَّ المفكرين والفلاسفة الذين يأخذون بالتوفيق بين الدين والفلسفة يعتبرونه توفيقاً بالنسبة لكذا. وكذا المقصودة هنا هي الشريعة أو هي ما ستقوله مرجعيةٌ لاهوتيةٌ أو أيديولوجيا ما أو مرجعية عقلية بعينها. والملاحظ أنَّ معادلة التداخل تتم وفقاً لثقل إحدى طرفيها (الدين مثلاً) على حساب الآخر (العقل). ولكن ليس ذلك مهما بالنسبة للمتابعين، إنما الأهم أنَّ خلطاً كالخلط السابق يقلص رقعة الحرية الإنسانية ورقعة العقل ورقعة الشريعة معاً. لأنَّ التوفيق بين الفلسفة والدين يحدث على حاشية أنَّ الدين يفسحُ المجال لإعمال العقول والتفكير، ويطلقُ قدرات البشر... فهل ذلك صحيح؟!

الأمر غير صحيحٍ، لأنَّ القضية لا يجب أنْ تقال هكذا، فالدين ليس عقلاً ولن يكون. هو إيمان وطاقات مفتوحة للتعالي الحُر، وقد يرتبط بالاعتقاد المقيد (بمصادر ما) تبعاً للظرف الثقافي الغالب. وهناك فارق جوهري بين كون الدين عقلاً، وهذا ما لا يُحتمل بالنسبة للإنسان، وكون الدين يسمح بالتعقل. الدين عقل..عبارة متناقضة الحدود والجوهر والدين متعالٍ وفوق مستوى الوعي البشري، بينما حين يسمح الدين باستعمال العقل، فهو مسألة نسبية ومتوقفة على سلطة الدين.

إنَّ الدين بمثابة الدين هكذا فقط موصوفاً بذاته لا بغيره. وهو كإيمان سببٌ كافٍ بنفسه لأنْ يُسمي الدين بالدين دون إضافةٍ ودون علاقةٍ. فهناك أُناس أحرار يقبلون إيماناً على النحو الطلق، وهناك آخرون مقيدون حرفياً بتعاليم ورسوم فرضتها الأديان جمعياً. ولذلك قد يؤمن الناس تلقائياً، وليسوا مطالبين بتبرير ايمانهم، لأنه إيمان غير قابل للتبرير. وربما لو حدث تبريرٌ في هذا السياق، لفقد الدين معناه بالنسبة لصاحبه. بينما العقل هو قدرة الانسان على التفكير، وتدعيم أساسه الممتد نحو الإدراك والمعرفة.

والأساس العقلي عادةً ما يُبرر نفسه بنفسه كذلك لا بشيءٍ سواه، فلا يُوجد عقلٌّ دون أنْ يرجع إلى منطلقاته بلا وصاية. ولو رجع العقلُّ إلى سواه، فهذا يلغي وجوده ويعتبر ذاته عالةً على شيءٍ آخر. إذن الاثنان (الدين والعقل) لا مجال للمقارنة بينهما، هما مستقلان بحكم الطبيعة الذاتية لكل منهما، هما كافيان لممارسة وجودهما المستقل. وبالتأكيد سيتنافران إذا كان أحدهما حاكماً للآخر، لا لكونهما غير قابلين لذلك الصراع، بل لأنهما مجالان مختلفان، حتى أنَّ التوقف إزاء أحدهما يستدعي بالضرورة التوقف إزاء الثاني.

إنَّ التوفيق بين العقل والدين يثير مشكلات أكثر مما يقدمُ من حلول. فلو كان أمرُ التوفيق سهلاً هكذا، فهل يمكن قياس الدين بالعقل؟، بل حتى: هل يمكن قياس بعض الدين ببعض العقل.. ولكن سيظل السؤال لحوحاً: ماذا عن الباقي؟! وهل يعد العقل حجةً على الدين؟ وكيف سيكون المحدود حجة على المطلق؟ وما الجوانب العقلية التي تتوافق مع الدين، وما الجوانب المغايرة التي تختلف؟ وما حدود التوافق بينهما وما حدود الاختلاف؟ وبناء على أي معايير يتم النظر إلى الجانبين؟ وإذا كانا متوافقين، فلماذا يختلفان إبتداء مثلما نفترض ضمناً؟!

غير حقيقي أنَّ العقل يوافق الدين، وليس ضرورياً أنْ يوافقه، بل وليس مطلوباً أنْ يوافقه بأي حالٍّ. قد يكون التلاقي بينهما من زاوية الاعتراف بمصدر كل منهما في الجانبين (إيماناً واعتقاداً). إذ يُقال إنَّ الدين مصدره الله والعقل ملكة الإنسان المخلوق للخالق البارئ، فلا تناقض إذن لكونهما معلولين لعلةٍ واحدةٍ. وهذا- لو نلاحظ- يتم بناء على الإيمان أيضاً.

ولكن على مستوى الممارسة يتضّح أنَّ هناك مسارين مختلفين لكلٍّ منهما، ولن يلتقيان بسهولةٍ ويُفضَّل ألَّا يلتقيان نظراً لاختلاف الوظيفتين. فالعقل يسعى إلى الوضوح والفهم والتدليل والتداول والقدرة على التنوع والتغيُّر والإتساق المنطقي، غير أنَّ الدين يسيرُ وفقاً للتسليم وينتشرُ تبعاً للإعتقاد ويدعو إلى السكينة واليقين ولا يتسق منطقياً. وأبرز ما فيه أن يضاد ما يفعله العقل، والتضاد شيء تلقائي وليس مفاجئاً. ولذلك نشأت ثنائية فلسفية (الإيمان والعقل)، كما يُقال تبادلياً: (أمنْ ثمَّ تعقل أو تعقل ثمَّ أمنْ). في محاولة لإضفاء الإنتظام على تصرفات البشر. ولكن مهما كان الاختيار بين الطريقين أولا أو أخيراً، فالهدف هو ما يقرن الاثنين رغم أنه لا يخفي التباين بينهما، بل قد يشير الاختيارْ إلى استقلالهما منذ البداية أكثر من أي شيءٍ آخر.

يرتبط الدين خارجياً بالوعظ والدعوة في إيصال رسالته للآخرين، معتمداً على ملكتي التصديق والتيقن لدى الإنسان. والوعظ هو قدرة المتكلم لأنْ يقول كلاماً متشبثاً بسلطةٍ أعلى أمام الآخرين، مُزوِداً كلامه بماء الاعتبار لهذه السلطة المتوارية خلفه. بحيث تمتزج هيمنتُها بالكلام، وبحيث تعدُّ جزءاً لا يتجزأ من معناه ومن القبول العام للآراء المطروحة. ويلجأ وعاظ الأديان إلى الخطاب الأخلاقي المتمسح بكم من النصائح والهدهدة العاطفية، والأخيرة لا تلوي على شيءٍ سوى الاستعاضة بجوانب نفسية عما فات الإنسان من تفكير إزاء المواقف والأحداث.

ومن ثمَّ، أخذت تنتشر عبارات خطابية زاعقة مثل: "عليك أنْ تتفهم كذا.. وكذا.." أو أنه.. "يجب الالتزام بهذا المعنى الواضح دون غيره " أو " أنني أكثر معرفةً منك .. وعليك أنْ تكون على مستوى توقعاتي "،... " خذْ هذه الأقوال والكلمات ولا تناقش بعد ذلك" .. " نحن نقف على اليقين الكامل دون شكٍ "... " الحقيقة ناصعة، ولا تحتاج إلى دليل".. " حبذا لو تلجأ إلى قلبك وتطمئن إلى مشاعرك".. " لماذا كل هذا العناء، الحقيقة قريبة منك كأنفاسك بين جنبيك"... وكل هذا هو نموذج " الوعظ والإرشاد " الذي لا يستأذن العقل.

الدين لا يُسمى ديناً إلاَّ إذا أدان كيانَ الإنسانِ من جهةٍ، ودان الإنسانُ به من جهةٍ أخرى. وهذان الجانبان لا ينفصلان ولا يفترقان عند المؤمنين حيث لا يشعرون بأية تناقض في هذا. أدان الدينُ الإنسانَ، لأنه يظل حجةً قائمة على الإيمان ورباطاً مقدساً وثيقَ الصلة بالمصدر الإلهي. ويَدين الإنسانُ به لكونه إلزاماً وواجباً نتيجة الشق الأول. ولكن لو قسنا هذا على العقل، فلا يقر ذلك، لأنه لا يمتلك اليقين نفسه، لكي يمنحه إلى الإنسان وملكاته. كلما قال الدين إنَّ هناك عالم الغيب الذي يجب التسليم به، يريد العقل التطفل والاطلاع عليه، وقد يُرسل حواسه لتعقب الفكرةَ، فيعود حسيراً وخائباً.

ولذلك لا يوجد المعنى الديني للعقل في الفلسفة، أي لا توجد آلية الوعظ وسلطتها، لكون التفلسف قائماً على الحوار والمناقشة والنقد لأفكار الناس والفلاسفة، والقدرة على تقليب المعاني مع وجوهها المتعددة. والعقل الفلسفي عقل تساؤلي بإمتياز. فلماذا لم يكتب كانط كتاباً في نقد العقل الديني، رغم كونّه بصدد اشكالية العقل؟ هل مصطلح (العقل الديني) منطقي إنْ ربطناه بالعقل؟، لقد حلل الفيلسوف الألماني العقل كمفهوم وآلية تفكير في كتابه"نقد العقل الخالص". وكتب في جوانب الأخلاق كواجب يتجاوز اختلاف الإنسان عن غيره" نقد العقل العملي"، وأخرج تفرقته الشهيرة بين الجليل (المقدس) والجميل "نقد ملكة الحكم". بيد أنه لم يطرح تصوراً حول ما يُسمى بالعقل الديني وأساليب تفكيره، لأنه عقل غير ممكن.

لقد وضعَ كانط الدين في حدود العقل كإمكانيةٍ بشريةٍ يجوزُ التفكيرُ فيها وممارسة طقوسها العقلانية إنْ صح التعبير. لكنه لم يبرر ماهيةَ الدين، ولم يتعقل معتقداته على غرار الأفكار والتجارب. وعليه لم يسْلم ما يُطلق عليهم " المفكرين" لدينا من هذا الوعظ والإرشاد، ونزع أخر أوراق (الحياء الفلسفي) أمام الجماهير التائهة التي تنازلت عن عقولها.

***

د. سامي عبد العال

كيف حالك؟ انت تسأل صديقك لم تره منذ شهور. يجيب "بخير، مشغول". "وماذا عنك؟" انت تجيب "مشغول جدا". جميعنا اعتدنا على مثل هذه المحادثات،على مشهد يقف فيه الناس طويلا على أقدامهم، يسرعون من أجل تلبية موعد او انجاز عمل ما. الإنشغال (busyness) يبدو شيئا لا مهرب منه في الثقافة الرأسمالية الحالية، ولكن ما هو الشيء الخطير في الإنشغال؟ لماذا الحرص على جعل الناس واعين بحجم الإنشغال الذي هم فيه؟

لنقف لحظات مع هذا المقطع السريع من القرن التاسع عشر للفيلسوف الدانماركي كير كيجارد(1813-1855)...." من بين كل الأشياء السخيفة، يبدو لي ان ما هو أكثر سخافة، هو ان تكون منشغلا – تكون شخصا ما متلهفا بنشاط للحصول على الطعام اوالعمل. لذلك، متى ما أرى ذبابة تحط في لحظة حاسمة على انف مثل هذا الشخص المنشغل بالتجارة والأعمال، او عندما يكون ملطخا بالوحل بفعل مرور مركبة مسرعة تسير خلفه، او عندما تُفتح بوابة أمامه، او بلاطة تسقط فوق رأسه، عندئذ سأضحك من القلب بكل حرارة ".

كتب كيركيجارد هذه الكلمات ضمن عمل رائع من منظور أحد الشخصيات عام 1843 بعنوان (اما/او: جزء من الحياة). الجزء الاول من العمل كُتب من منظور شاب جميل وقاسي اسمه A بينما الجزء الثاني كُتب من منظور قاضي اخلاقي اسمه vilhelm.

الاقتباس أعلاه جاء من الشخصية الاولى A الذي هاجم الإنشغال واعتبره معيبا واعتقد ان الجواب الملائم له هو الضحك، لأنه أفضل طريقة لتجاهل أهمية الشخص المنشغل. الناس المنشغلون يملأون وقتهم بالغطرسة، دائما يجدون اشياءً للعمل – اعتادوا على القول "انا لدي وقت محدود" – لكن هذا النشاط الذاتي هو ببساطة وسيلة تافهة للهروب .

في اثينا القديمة كان العمل لطبقة العبيد، اما الاقتصادي الامريكي Thorstein Veblen يصف في نظريته عن الطبقة المترفة، ان الطبقة المرفهة والغنية في القرن التاسع عشر تجنبت العمل. هذه الطبقة اعتبرت الكسل كقيمة مثالية. بالمقابل امريكا المعاصرة مجّدت الإنشغال بالعمل واعتبرت الافراد المنشغلين يتمتعون بصفات الكفاءة.

ان تكون مشغولا لا يعني بذاته شيئا جيدا . فمثلا، الانشغال يُنظر اليه كشيء ضار لصحتنا البدنية والعقلية. هناك ايضا مفهوم (فخ الانشغال) الذي يجعلنا غير متأملين بالذات، غير صادقين، ونفتقد للتركيز. ومع وجود وقت محدود و عدد لا محدود من الواجبات والمهام التي تنتظر الإنجاز، وفي ضوء تقدم التكنلوجيا وزيادة مقدرتنا على الانتاجية، يبدو ان الانشغال سيبقى ويستمر معنا. لذا، كيف نتجنب ضياع أنفسنا في دوامة الإنشغال هذه؟

حاليا، أصبح الانشغال وسام تقدير للناس. لكن وفق رؤية A، الناس "المنشغلون" يتجنبون مواجهة الفراغ العام في وجودهم لكي يصرفوا أنفسهم عن الأسئلة الهامة حقا، مثل منْ هم وما الغاية من حياتهم. لديهم كل شيء هام ولكن لا شيء هام ابدا. وهكذا يكون الشخص المنشغل سخيفا.

قد يجادل البعض، انه ليس كل شخص مشغول باختياره. احيانا الظروف تجعل من الوقت شيئا نادرا ومصدرا ثمينا. وعندما نأتي الى نهاية يوم طويل، متأملين منْ نحن وما الغاية من حياتنا من الأفضل التوقف عن العمل والاسترخاء مع التلفزيون. ولكن يجب ان نتذكر وصف كيركيجارد "للشخص غير السعيد"، الذي جاء في الفصل الاخير من (اما/او: جزء من الحياة):

"الشخص غير السعيد هو الذي تكون مُثله، محتوى حياته، امتلاء وعيه، جوهر وجوده، بطريقة ما خارج ذاته. الشخص غير السعيد دائما غائب عن ذاته".

هذا المقطع يقترح ان استثمار كل شيء لدينا في الأحداث الخارجية، وفي الناس والاشياء هو طريقة مؤكدة لعدم السعادة. بدلا من ذلك، من المهم جدا إعطاء الاهتمام لنفسك، لأن فهم ما هو مهم لك هو اول خطوة في معرفة كيف تجعل حياتك أقل انشغالا – حيث ستعرف أي الأشياء تتخلى عنها، وأي منها تعطيها الوقت الملائم والعناية والانتباه. بهذا ستعرف من أنت وما الغاية من حياتك؟

كيركيجارد نظر الى التغيرات السريعة في المجتمع والثقافة: صعود التصنيع، انتشار الاصلاحات الديمقراطية، ظهور الصحافة اليومية، والتزايد في زخم الاتصالات، وتقلّص العالم وولادة عولمة الرأسمالية. هو ايضا وفي ضوء هذه التغيرات الخطيرة كان يتوقع الأشياء قبل حدوثها بشأن الاتجاه الذي يسلكه المجتمع.

احدى المخاوف الخطيرة لدى كيركيجارد هي ما بدا عليه المجتمع من انشغال مشتت للانتباه.

يرى كيركيجارد ان الانشغال يصل ذروته في ضياع الوقت. هو يكرر هذه المشاعر في رسائله عام 1848،حين شجب الثمن الباهض الذي دفعه عصره للإنتاجية والانشغال، كون ذلك يحط من قيمة اولئك الذين لايستطيعون مجاراة سرعة الانشغال، وانه بالنهاية، سيكون الانشغال والأكثر انشغالا الذي يطمح اليه الناس، هو مجرد كونهم منشغلين بضياع الحياة وفقدان الذات. لذا فان الانشغال ضمن هذه الحلقة الدائرية يجعلنا نخسر حياتنا ونفقد ذاتنا .

بهذه الطريقة، بالنسبة لكيركيجارد، الانشغال هو طريقة زائفة للهروب من ذواتنا وحياتنا، وطريقة لتجنب التفكير بخياراتنا وتقرير ماذا نريد ان نعمل،ومنْ نريد ان نكون. هو وصف الانشغال بـ "وسائل تسريب" لتجنب مواجهة الذات، وللحيلولة دون ان نصبح ما نريد. الشخص المشغول وُصف كحامل لـ "مرآة " كرمز للتأمل بالذات، لكن الناس في انشغالهم هم نادرا ما يكون لديهم وقت للنظر في هذه المرآة، واذا فعلوا، هم ينسون الصورة التي يرونها في عجلتهم. اثناء انشغالهم تكون هذه الصورة شديدة الضبابية، وان الذات الأصلية التي يمكن ان يكونوا فيها تظل مجرد احتمال.

اذاً كيف نتجنب الانشغال؟ في (أعمال للحب،1847) يضع كيركيجارد تمييزا ملائما للكيفية التي يجب ان ننظر بها الى انشغالنا اليوم. يسأل كيركيجارد:

"ماذا نعني بـ مشغول؟ الشيء المألوف ان الاسلوب الذي ينهمك به الفرد هو الذي يقرر ما اذا كان يسمى مشغولا. لكن هذا ليس هو الحال" . بدلا من ذلك، كير كيجارد يشخص الانشغال باعتباره معتمد على الهدف من انشغال المرء. أي ان الانشغال لا يُعرّف بالطريقة التي تنجز بها المهمة (بخصائص اللااستقرار والتسرّع) وانما بنوع المهمة وعلاقتها بالفرد. هو يرى:

"ان تكون منشغلا هو ان تشغل نفسك، وتنقسم وتتشت مع كل التعدد الذي به يستحيل للفرد ان يكون كاملا .. ان تنشغل بما يجعلك منقسما ومشتتا". يرى كيركيجارد كون الفرد منشغلا يعني كونه منقسما ومشتتا، منخرطا بعدد هائل من مختلف الاشياء ومندفعا خلالها بسرعة . التشظي بالانتباه يؤدي الى نوع من تشتت الذهن او الذهول، وفقدان التركيز، وان افتقار الاتجاه لدى الفرد يؤدي الى ضياع حياة المرء وخسران ذاته. اذا اردنا تجنب هذا، يرى كيركيجارد ان الانشغال المشتت للذهن يتطلب استجابة دينية. المرء يجب ان يتوقف لكي يجد الطمأنينة والهدوء اللذان يسمحان بالتأمل بالذات.

فقط عبر التوقف بسكون وصمت يمكن للمرء ان يرى بشكل صحيح الصورة المنعكسة في المرآة: يرى ما يمكن ان يعمله،ومنْ سيصبح. ولهذا يمكن للفرد ان يتجنب الانشغال من خلال التركيز على شيء واحد بدلا من إلهاء متعدد الأشكال تقدمه لنا الحداثة.

***

حاتم حميد محسن

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا أم مكتوبا غير مرسوم.

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية، فالصوت في كلا التوظيفين هو بلا صوت لا منطوق ولا صامت.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما، والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا، والثالث والاخير ان الصوت المدّخرالذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود. صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان.

شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره عمل فني. في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب، او نرسمه باسلوب فني كما هو  في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.3381 خاصية اللغة العربية

بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا يفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مداليل استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق، رغبة الجماع الجنسي، قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة، وجود اكل يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشترك لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادرمجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى.3382 خاصية اللغة العربية

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف ، صوته الدال عليه، معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم بممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ، الثلث، الرقعة، الكوفي، الديواني، الجلي الديواني، الفارسي "التعليق"،خط الطغراء، خط الاجازة، والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي (نحوية) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.3383 خاصية اللغة العربية

حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت، فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

***

علي محمد اليوسف

التَّحَوُّلاتُ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية لَيْسَتْ انعكاسًا سَاذَجًا لحركة الأفراد في تفاصيل الحياة اليومية، وإنَّما هي تَحَوُّلات ناتجة عن التَّحليل النَّقْدِي لِجُذُور المُجتمع في أعماقِ الوَعْي التاريخي، وتعقيداتِ النَّسَق الحضاري. والتحليلُ النَّقْدِي هو الضَّمَانةُ الأكيدة لحفظِ كِيَان المُجتمع مِن الفَوْضَى، وحمايةِ كَينونة التاريخ مِن التَّشَظِّي، لأنَّ مَفهومَ التحليل قائمٌ على تفكيكِ الفِكْر إلى عوامل أوَّلِيَّة، وإعادتِه إلى أنويته الداخلية، ومفهوم النَّقْد قائمٌ على كَشْف الثَّغَرَات في جُذورِ المُجتمع المَخْفِيَّة، وكِيَانِه الظاهري. والارتباطُ العُضْوِي بَين التحليلِ النَّقْدِي والتَّحَوُّلاتِ الفِكرية يُمثِّل مَنظورًا وُجوديًّا لشخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع، وكيفيةِ رَبْطِهما معًا في مركزيةِ الذات، والانطلاقِ مِنها نَحْوَ سُلطة المعرفة المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية. وإذا كانت سُلطةُ المعرفة تُولِّد آلِيَّاتٍ لُغَوية لمساعدة العَقْل الجَمْعي على التَّحَكُّم بعناصر الواقع المُعَاش، فإنَّ العلاقات الاجتماعية تُطوِّر أدواتٍ فِكرية لتحقيق المصالح الذاتيَّة والجَمَاعِيَّة كَمًّا وكَيْفًا، مِمَّا يُساهِم في إعادةِ صِياغة طبيعة الفرد في مَسَارِه الحياتي معنويًّا وماديًّا، وإعادةِ تشكيل البناء الاجتماعي في الواقع المُتَغَيِّر ثقافيًّا ورمزيًّا.

2

لا يُمكِن اختزالُ التَّحَوُّلات الفِكرية في قوالب جاهزة، وأنماطٍ مُعَدَّة مُسْبَقًا، ولا يُمكِن السَّيطرة عليها بِدِقَّة، أو التَّنَبُّؤ بِمَدَاها وتأثيرِها، لأن هذه التَّحَوُّلات مِثْل الانفجاراتِ اللغوية في الوَعْيِ التاريخي للحضارة، والمَنظورِ الثقافي للمُجتمع. وإذا كانَ الفِكْرُ يَستمد شرعيته مِن قُدرته على تَوليد المفاهيم مِن الواقع المُعَاش، فإنَّ اللغةَ تَستمد مَاهِيَّتَهَا مِن قُدرتها على تَفجير الطاقة الرمزية الحاملةِ للألفاظ والمَعَاني. وهُوِيَّةُ الفِكْرِ وكَينونةُ اللغةِ تُعيدان تأويلَ تفاصيلِ الحياة اليومية التي يُهيمِن عليها الاغترابُ، بِحيث تُصبح هذه التفاصيلُ قُوَّةً دافعةً للتجاربِ الشخصية التي تُشير إلى أحلامِ الفَرْدِ المَكبوتة وذِكرياته الكامنة، ورافعةً للوُجودِ الثقافي في الهياكل الاجتماعية المَنْسِيَّة. وَبِدُون تحليلِ العناصرِ المَكبوتةِ والكامنةِ والمَنْسِيَّةِ في أعماقِ الفردِ والمُجتمعِ، لَن يَكُون هُناك تأويل لُغَوي حقيقي لإفرازات سُلطةِ المعرفة في القِيَمِ الاستهلاكية والمَعَاييرِ الأخلاقية، لأنَّ التأويلَ قائمٌ على الرُّمُوز، والرُّمُوز لا تُوجَد على السَّطْحِ، فهي حاملةٌ للهُوِيَّاتِ المركزية والمَاهِيَّاتِ الأساسيَّة، لذلك تَستقر الرُّمُوزُ في أعماق الوجود الإنساني الفَرْدي والجَمَاعي، وهي بِحَاجَة إلى تنقيبٍ مُستمر، وتَوظيفٍ دائم في النَّزعة الإنسانية المُتَحَكِّمَة بأبعاد البناء الاجتماعي باطنيًّا وظاهريًّا.

3

التَّحَوُّلاتُ الفِكريةُ هي سِلْسِلَةٌ مِن التأويلات الرمزية اللغوية لِبُنيةِ الواقع، والفاعليَّةِ اللغوية، والسُّلوكِ اليَومي، ومَسَارَاتٌ حياتيةٌ تَجْمَع بَين الفِعْلِ الاجتماعي والعَقْلِ الجَمْعي، اللذَيْن يُسيطِران على شخصية الفرد الإنسانية، ويَتَحَكَّمَان بتأثيراتِ سُلطةِ المُجتمع على مَصادرِ المعرفة. وإذا كانَ الهدفُ مِن الفِعْلِ الاجتماعي هو إعادةَ صِناعة الذات، وتحليلَ الوَعْي التاريخي المُتمركز حَوْلَهَا، فإنَّ مُهِمَّةَ العَقْلِ الجَمْعي هي إعادةُ الفردِ مِن الغِيَابِ في الأنظمة الاستهلاكية الماديَّة، إلى الحُضُورِ في الأنساق الإنسانيَّة المُبدِعة، وإعادةُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن الاغترابِ في الإدراكِ الوَهْمِي القائم على المَشَاعِر المِيكانيكية، إلى الطاقةِ الرمزية اللغوية القائمة على العقلانية، التي تَنقُل التَّكوينَ الثقافي للفردِ مِن البُنى المُجَرَّدة الهُلامية إلى الواقع، مِن أجل تغييره إلى الأفضل.

4

الواقعُ المُؤلِمُ أفضلُ مِن الوَهْمِ اللذيذ، لأنَّ الألمَ يَكشِف مواطنَ الخَلَلِ، ويُجبِر الفردَ على البحث عَن علاج مِن أجل التَّخَلُّصِ مِن المُعَاناة، والشُّعُورِ بالرَّاحَة. وكذلك مُواجَهة الأحداث اليومية الصادمة أفضل مِن الهُرُوبِ مِنها، لأنَّه مُواجهتها تَكشِف التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية، وتُظهِر أهميةَ الغَوْصِ في أعماق الوَعْي التاريخي مِن أجل تجذيرِ شخصية الفرد في الظواهر الثقافية كِيَانًا وكَينونةً، وترسيخِ هُوِيَّة المُجتمع في مَنطِق اللغة الرمزي تَصَوُّرًا وتَحَقُّقًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَعَدُّدِ زوايا الرُّؤية للواقعِ اليَومي والوقائعِ التاريخية، والوُصولِ إلى مَنظور لُغَوي جديد، يَعتمد على تأويل أحلام الفرد المَكبوتة ضِمْن الانقطاعات المعرفية في التاريخ، بِوَصْفِه فلسفةً لمركزية الذاتِ في الوُجود، ومركزيةِ الزمن في الحضارة. وهذه الفلسفةُ لَيْسَتْ نِظَامًا آلِيًّا جامدًا، وإنَّما هي مَنظومةٌ حاضنةٌ للصِّرَاعات والتناقضات، ومَفتوحةٌ على كافَّة الاحتمالات والتأويلات. والتاريخُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً مَضَتْ وانقَضَتْ، أوْ أرشيفًا مُغْلَقًا في مِلَفَّاتِ الغُبار، إنَّ التاريخ يُولَد باستمرار، وتُعاد كتابته دائمًا، ويَتِم تأويلُه بشكل مُتواصل في اللغةِ القادرة على مَنْحِ الحَيَاةِ والحُرِّيةِ للأنساق الثقافية. والتاريخُ هو نظامُ النَّقْدِ الاجتماعيِّ العابرُ للزمانِ والمكانِ، والعَصِيُّ على التَّجنيس. ووظيفةُ التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية تتجلَّى في رَبْطِ شخصية الفرد الإنسانية بِسُلطةِ التاريخ الوُجودية، بحيث تُصبح إنسانيَّةُ الفردِ فلسفةً للتاريخ،ويُصبح وُجُودُ التاريخِ وُجُودًا للإنسانية، يُوجَدان معًا،ويَغيبان معًا، ولا يُمكِن الفصلُ بَينهما.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

(الفيلسوف يحدد الأمور ببراعة، ومن دون تردد، يطارد بملقطه العقلي عصب الحب المرتعش).. José Ortega y Gasset

في البدء كان الحب

الفلسفة انثى مفعمة بالجمال والحكمة، هي لا شرقية ولا غربية متمردة على كل سلطة أنثى قلبها ينبض بالحياة والحب، لا تقبل الا رجلا مكافحا صلبا عاشقا وسقراط كان كذلك حكيما وقويا سكنت بداخل روحه كل النساء الجميلات - أوليس بداخل كل رجل حكيم امرأة تهوى اللعب بالكلمات- هكذا كانت قصة سقراط مع النساء قصة بدأت بصرخة فيناريتي وامتزجت بنبوءة كاهنة معبد دلفي " ان سقراط هو أحكم الناس" هذا الطفل المبتسم رغم قسوة الحياة المحدق كثيرا في السماء كان يطلب من الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسًا جميلة وقلبا محبا وروحا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع جوهره » اجعليني جميلًا في داخلي «

قصة سقراط مع النساء ومع الحب تمتد من لحظة الولادة الى مرحلة الطفولة والشباب ولحظة تجرعه الكاس المسمومة وتستمر خالدة الى الابد رغم فناء الجسد، حب سقراط ولد في حضن امه فيناريتي التي تعلم منها فن التوليد ودهشة السؤال ففي كل لحظة ميلاد حياة جديدة ونقطة انطلاق و تجدد هذا الحب لحظة لقائه بالفاتنة أسباسيا ميليتس واستمر في الوجود رغم عتاب وسخرية زوجته زانثيبي الجميلة الشقراء المتسلطة والتي احتضنت سقراط بحب ولطف ومودة والهمته حكمة الصمت، سقراط لم يكن كارها للنساء بل عاشق لكل امرأة جميلة منذ ان تزوج ميرتو، وهي الزوجة الأولى المفترضة لسقراط ولاعجب في ذلك فقل لي من تحب اقل لك من انت .

عشق العرافة ديوتيما وتعلم على يديها الحب، ديوتيما الكاهنة الجميلة العرافة الحكيمة والتي تغنى بها الشاعر فردريش هولدرلين في قصيدته إلى ديوتيما:" أيتها المخلوقة البهية!إنك تَحيين,مثلما تَحيا في الشتاء الأزهار الغضة:في عالم مُتهَالِكٍ تُزهِرين,بصمتٍ و في عزلة.و بِحُبٍ, نحو الأعلى تتطلعين,لِتَتَدَفَّئِي بشعاع الشمس الربيعية,و في دفئه عن صَبَاءِ العالم تبحثين. لكن شمسكِ, الأمدُ الأبهى, قد دَلَكَت بغير رجعة.فالآن الحَاصِبَات يُعربدن,في لَيلةٍ هوجاء باردة."

التفكير بالآيروس أو الحب العاطفي أو الرغبة. أوقع سقراط الشاب في حب أسباسيا ميليتس ولذلك كان السؤال الذي اشتغلت عليه أرماند دأنغور هو "ما الذي حوّل الشاب الأثيني، الذي يُزعم أنه من خلفية متواضعة وبوسائل متواضعة، إلى مبتكر طريقة تفكير وطريقة فلسفية كانت أصلية بالكامل في عصره ومؤثرة بشكل كبير بعد ذلك"؟ وجاءت الإجابة “انه حب واحدة من أكثر النساء إثارة وذكاء في عصره، أسباسيا ميليتس".

سقراط الحكيم نبي الحكمة وشهيد الفلسفة علم الحب للأخرين فتعلمت منه الفيلسوفة أريتا معنى الحب والوفاء: "إن أرستيبس القورنائي وإبنته الفيلسوفة أريتا كانا أوفياء للفيلسوف سقراط. ففي رسالة أرستبس إلى إبنته أريتا عهـد وفـاء مـن التلميذ ارستبس إلى إستاذه سقراط، ومن الفيلسوفة أريتا إلى أبيها الفيلسوف أرستبس ومن خلاله إلى أستاذه الفيلسوف سقراط، وذلك بتوفير الحياة اللائقة والمحترمة لعائلة الفيلسوف سقراط بعيد إعدامه على يد الديمقراطيين".

فيناريتي ودهشة السؤال

ولد سقراط حوالي عام 470 ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تُدْعَى فيناريتي وأبوه يُدْعَى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي — كما يذكر ابنها فيما بعد — سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان — على الأرجح — صانعًا، لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة سقراط كان يعرف كيف يتعلَّم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كلِّ إنسان يقابله، كان يوجِّه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت، نصحه والده وهو منهمكم في نحت تمثال على صورة أسد قائلا عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنًا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكَّره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة إنني في الواقع لا أفعل شيئًا، وإنما أكتفي بأن أعُين»: الطفل على الانطلاق«.

الجنس والحب في حياة سقراط

ما الذي حوّل الشاب سقراط إلى فيلسوف؟ كيف كان يفكر عندما كان شابا؟ كيف أصبح الرجل الأكثر حكمة في أثينا ؟ ما الذي دفعه إلى السعي بمثل هذا الإصرار اإلى طريقة جديدة تمامًا للتفكير؟ والى تبني منهجا جديدا في التفكير والنظر الى الوجود؟ ما الذي دفع سقراط الى الاعتقاد أن الكلمة المكتوبة كانت شيئًا سيئًا للفلسفة والحياة؟ هل كان الارتباك الجنسي والتواء شخصيته بسبب تربيته غير المحببة الدافع الى تبني منهج التوليد والتهكم ؟ هذه الأسئلة طرحها العديد من الباحثين ونعيد طرحها في محاولة للاقتراب من شخصية سقراط وحبه للفلسفة لاسيما علاقته بالمرأة وهناك قول مأثور لسقراط حول المرأة والزواج:" في كلتا الحالتين، تزوج: إذا صادفت زوجة صالحة، فستكون سعيدًا ؛ وإذا صادفت شخصًا سيئًا، فستصبح فيلسوفًا، وهو أمر جيد للإنسان"

يجب ان نعترف منذ البداية ان حياة سقراط العاطفية، كانت ولازالت محل جدال تماما مثل شخصيته الفلسفية ورغم اننا نعود في الغالب الى ما كتبه أفلاطون وزينوفون عن سقراط -رغم انهما كانا أصغر من سقراط ولم يعرفوه إلا في الخمسينيات من عمره- الا ان هناك صورة أخرى كشف عنها كتاب سقراط في الحب  D'Angour Diotima صورة سقراط الشاب: الذي أصيب بصدمة من قبل والده المتشدد (لدرجة أنه يسمع أصواتًا في رأسه)، وجنس أكثر من اللازم، محارب بطولي، ومصارع وراقص رياضي - وعاشق شغوف. وكان بارعا في المصارعة والرقص ولعب القيثارة لعدة سنوات، كان سقراط جنديًا، من جنود الهوبليت، وميز نفسه بشجاعته في إنقاذ حياة الكبياديس. أنقذ حياته في معركة بوتيديا عام 432 قبل الميلاد .كان سقراط ثنائي الميول الجنسية، وربما كان على علاقة بمدرس الفلسفة الأكبر له أرخيلوس هذا الشاب تحول إلى الفلسفة عندما وجد نفسه متحمسًا من قبل Aspasia of Miletus عشيقة بريكليس، ورغم انه تزوج من امرأة تدعى ميرتو قبل أن يتزوج زانثيبي الا انه اعترف بانه تعلم "حقيقة الحب" من امرأة ذكية. اسمها "ديوتيما" .

زانثيبي الزوجة المشاكسة

Xantipa أو Janantipa زوجة سقراط، المشهورة بشخصيتها السيئة المفترضة، اسمها كان معروفًا أيضًا باسم Jantipa والذي يعني الحصان الأشقر ؛ استخدم سقراط مصطلح الحصان للإشارة إلى زوجته، وعندما سئل عن شخصيتها، ذكر: الرجال الذين يريدون أن يكونوا فرسانًا جيدين لا يشترون خيولًا سهلة الانقياد، بل أكثر الخيول غضبًا

المعلومات حول الزوجة الشابة لسقراط نادرة، ويعتقد أنها كانت من سلالة عائلة نبيلة ومتعلمة جيدًا، وهي خاصية جذبت الفيلسوف، لأنها كانت الشخص الوحيد الذي تمكن من التغلب على الفيلسوف في المناظرة. تزوج سقراط وزانتيبي بين 418 قبل الميلاد و 420 قبل الميلاد، وبحلول ذلك الوقت كان سقراط أكبر بحوالي أربعين عامًا من المرأة الشابة، جنبًا إلى جنب مع سقراط، أنجب ابنه لامبروكليس، والذي، وفقًا لما ذكره زينوفون في نصه التذكاري، اعتاد الشكوى بشأنه . شخصية والدته القوية، وهو موقف عار من قبل والده، الذي حثه على احترامها ومراعاة حبها وتفانيها له.

في مناسبات معينة تم انتقاد العلاقة من قبل تلاميذ الفيلسوف، الذين رأوا في Jantipa، امرأة سريعة الغضب وسوء المزاج وغير محترمة تجاه الرجل الحكيم. تم استجواب سقراط في مناسبات عديدة من قبل هؤلاء، لكنه دائمًا ما أنقذ حبه لـ Jantipa ومدى أهميتها في حياته، كما ذكر أنه بمرور الوقت اعتاد على علاجها. كان Xantippe مع سقراط حتى نهاية حياته، عندما حُكم عليه بشرب الشوكران في عام 399 قبل الميلاد.في نهاية العام المليء بالمرح، دعت جانانتيبا الجيران إلى تناول عشاء متواضع معها، كما كان معتادًا في ذلك الوقت. وتحدثت في العشاء عن اللحظات الأخيرة للفيلسوف الشهير، وتجاربها طوال حياتهم الزوجية، وغيرها. التفاصيل التي أراد مشاركتها، كما عبر عن ألمه والحب الذي شعر به تجاهه.

ديوتيما وسلم الحب

اسم ديوتيما يعني "إكرام الله" وأحد أكبر التأثيرات على موقف سقراط الفلسفي جاء من لقاءه مع هذه المرأة. في حوار أفلاطون الندوة، والتي تتكون من محادثة حول طبيعة الحب، يقول سقراط إن ديوتيما علمته أن يفكر في الرغبة بطريقة جديدة: ليس كشهوة للأجساد المادية، بل سعياً وراء حقيقة أسمى. تعتقد D'Angour أن هي Aspasia مقنعة. ويعتقد أن سقراط ربما وقع في حبها.، مما دفعه إلى التحول من الجنس إلى الفلسفة. وقد ظهرت ديوتيما لأول مرة في ندوة النص الفلسفي لأفلاطون، المكتوبة في ج. 385-370 ق. تحتوي القطعة على خطب ألقاها فلاسفة مثل سقراط تتحدث لصالح إله الحب إيروس . وجودها كشخصية تاريخية فعلية أمر قابل للنقاش. من المستحيل أن نختتم على وجه اليقين إذا كانت مجرد شخصية خيالية أم لا. بغض النظر، من المفترض أنها عاشت حوالي عام 440 قبل الميلاد وساعدت في صياغة فكرة "الحب الأفلاطوني" من خلال منصبها في الندوة . تشير أصول اسمها إلى ولائها للإله زيوس وقدراتها النبوية.

يقول مؤرخ الفلسفة تايلور: "لا يمكننى الاتفاق مع مجموعة الباحثين المحدثين الذين يعتبرون ديوتيما المانتينية شخصية وهمية: ولا أتفق معهم في البحث عن الأسباب الوهمية لما فعله أفلاطون كما يزعمون من تعيين لاسم العرافة وتحديد لمكان ميلادها. إذ يبدو في اعتقادي أن إدخال شخصيات خرافية وأسماء وهمية في الأحاديث حيلة أدبية كانت مجهولة تماماً لأفلاطون أننى لا أعتقد أن أفلاطون لو كان قد ابتدع شخصية ديوتيما كان من شأنه أن يستمر في الكلام ليصبح على لسان سقراط عبارة دقيقة كتلك التي قال فيها أن ديوتيما نجحت فى تأجيل وباء الطاعون الذى كان سوف يحل في السنوات الأول من الحرب الأبخدامية" و في مقالين بعنوان "ديوتيما" و "ديوتيما المانتينية" يتناول عالم اللغويات ولتركرانتس مشكلة وجود ديوتيما التاريخي وينتهى فيها إلى الإيمان بوجود شخصية تاريخية باسم ديوتيما. ونجده يجرى فى مقاله "ديوتيما" مناظرة بين شخصية "ديوتيما" لدى هلدرلين Holderlin من مجموعة أعماله "هايبريون" والمستوحاة من الشخصية الحقيقية وبين شخصية ديوتيما لدى أفلاطون - ومناظرة بينهما في أسلوب حياتهما الحقيقي. ويورد كرانتس العديد مـن البراهين للتدليل على رأيه بوجود مثل هذه الشخصية.

تحدث سقراط عن طبيعة الحب من خلال ديوتيما:" أننا ننتقل في الحب من شخص جذاب معين، إلى حب الأشخاص الجميلين بشكل عام، إلى حب الجمال والخير نفسه في التجريد. سلم الحب هذا ينقلنا من الانجذاب الجنسي الخاص للغاية إلى الحب الأفلاطوني للخير

في خطاب لسقراط، قام بتفصيل إيمان ديوتيما بالحب، والذي يتم تعريفه من خلال فكرة أن الحب ليس جميلًا أو جيدًا تمامًا. تقدم سلسلة نسب الحب (إيروس)، والتي تبدأ بالبحث عن الجمال في الطبيعة وفي الجسد المادي. مع اكتساب الحكمة، يتم البحث عن الجمال على المستوى الروحي، من خلال الروح البشرية. تعتقد ديوتيما أن أقوى استخدام للحب هو حب العقل للحكمة والفلسفة. تبدأ رحلة الحب الخطية بالاعتراف بجمال إنسان آخر، والاستمتاع بالجمال الخارجي للفرد، وتقدير الجمال الإلهي حيث ينشأ الحب، وحب الألوهية نفسها. يُطلق على هذا الخط من التفكير أحيانًا اسم سلم الحب لديوتيما.

أسباسيا ميلتس المرأة الفيلسوفة

عاشت أسباسيا (حوالي 470 - 428 قبل الميلاد) وهي تنحدر من عائلة أثينية عريقة، مرتبطة بعائلة بريكليس، وقد استقرت في مدينة ميليتس اليونانية في إيونيا (آسيا الصغرى) قبل عدة عقود. عندما هاجرت أسباسيا إلى أثينا حوالي 450 قبل الميلاد كانت تبلغ من العمر 20 عامًا تقريبًا. في ذلك التاريخ كان سقراط أيضًا عمره حوالي 20 عامًا. أصبحت أسباسيا مرتبطة ببيريكليس، التي كانت آنذاك سياسية بارزة في أثينا - وكانت بالفعل ضعف عمرها. لكن تلميذ أرسطو، كليرشوس، يسجل أنه "قبل أن تصبح أسباسيا رفيقة بريكليس، كانت مع سقراط" أسست مدرسة للبنات وأدارت صالونًا شهيرًا، وصفه بعض النقاد بأنه بيت دعارة أو مكان تدريب للمحظيات. كانت محاطة باستمرار بشخصيات مهمة من السياسيين إلى الفلاسفة في أعلى الدوائر الأرستقراطية كشريك لبريكليس. سيصف الرجال المؤثرون مثل أفلاطون أسباسيا ساخرًا في أعمالهم، وكان بلوتارخ يعبد بريكليس بينما يشوه سمعتها. ومع ذلك، كان هناك بعض الرجال الذين أشادوا بذكائها، مثل الفيلسوف إيشينز، الذي أعجب بقدراتها في التحدث أمام الجمهور.

التقى سقراط بأسباسيا الذي رفضت بلطف تقدمه الجنسي، وقدمت له بدل ذلك "سلم الحب"، من مجرد المتعة الجسدية في أدنى الدرجات إلى "الحب الأفلاطوني" الإلهي في القمة. حيث تربية الروح، وليس إرضاء الجسد، هو الواجب الأسمى للحب ؛ وأن الخاص يجب أن يخضع للعام، عابر إلى الدائم، والدنيوي للمثل الأعلى.وبالتالي. هل كان من الممكن أن يقع سقراط وأسباسيا في الحب عندما التقيا وتحدثا لأول مرة في العشرينات من العمر؟

كانت زوجة بريكليس، وهو سياسي أثيني شهير. ومع ذلك، وبعيدًا عن هذه الرابطة، فقد تم تذكرها أيضًا بسبب معتقداتها النسوية وكفاحها من أجل حقوق المرأة. بصفتها شخصًا هاجر من بلد أجنبي - لم يُسمح لها بالزواج من أثيني وأجبرت على دفع الضرائب. ومع ذلك، فإن وضعها الأجنبي ساعدها على الهروب من قيود السياسات الصارمة المتعلقة بحقوق المرأة. أنجبت ولداً مع بريكليس خارج إطار الزواج، وكانت معلمة لكل من الرجال والنساء، وعاشت حياتها بشروطها الخاصة. يُعتقد أن أسباسيا كان اسمها الأول على أنها هيتايرا، أو مجاملة من الدرجة العالية لأنها تُترجم إلى "المرغوبة".

أشارت أسباسيا إلى تعليمها العالي، لذلك يُعتقد أن ميليتس كانت مسقط رأسها، حيث كانت واحدة من الأماكن النادرة التي يمكن للنساء الالتحاق بها في الجامعة. يشير هذا أيضًا إلى المكانة العالية والثروة المحتملة لعائلتها. من المستحيل تأكيد سبب وصولها إلى أثينا، على الرغم من أن أحد الاقتراحات يتعلق بعلاقتها مع Alcibiades، جد الجنرال الشهير Alcibiades. بعد نفيه في ميليتس، تزوج من أخت أسباسيا وعاد إلى أثينا مع المرأتين. التقى أسباسيا بريكليس حول ج. 450 قبل الميلاد وعلى الفور كان على علاقة معه، مما أدى إلى الطلاق من زوجته في ذلك الوقت.

في العديد من النصوص اليونانية القديمة، وصفت بأنها تحكم قوي في الرجال، وتعتبر حتى يومنا هذا أنها قاومت المجتمع الأبوي في تحدٍ لإدراك النساء على أنهن أضعف وغير ذكاء. لا توجد أعمال مكتوبة أو معرفة عن تعاليمها المحددة، ومع ذلك فمن المعروف أن إنجازاتها كامرأة كانت جديرة بالملاحظة. الخطبة الجنائزية هي خطاب مشهور يُنسب إليه بريكليس ؛ ومع ذلك، يُزعم أن Aspasia كان حقًا الشخص الذي يقف وراء هذا الخطاب المهم فيما يتعلق بمن سقطوا في الحرب البيلوبونيسية. لسوء الحظ، لا يمكن إثبات هذا والتأكيدات الأخرى مثل تأثيرها المحتمل على سقراط.

Xanthippe في السجن

وقفت امام زوجها البالغ من العمر 70 عامًا. تحمل بين ذراعيها أصغر الأبناء الثلاثة. Xanthippe يائس ويبكي. ترفع صوتها وترثي. ويروي احد تلامذته:" ألفينا سقراط على فراشه وسلاسله مفكوكة، وزانثب تجلس إلى جواره تحمل رضيعها، وقد لازمته طوال الليل، ولكنها بدأت الآن تبكي لما ذكرت أن ذلك اليوم كان آخر أيامه، لكن سقراط بحكمته خاطب تلامذته: "دع أحدًا يأخذها إلى المنزل". بينما يقود الرجال Xanthippe والطفل إلى الخارج، تبكي بصوت أعلى وتضرب صدرها وقد أعلنت الحداد كما هو شائع في اليونان القديمة.

ذهب سقراط إلى المحكمة عام 399 قبل الميلاد وقد كتب ثلاثة أشخاص لوائح اتهام لسقراط واقتادوه إلى المحكمة.واحد منهم هو ميليتوس الشاعر، وآخر يدعى Nvtvs وهو سياسي و Lvkvn كان هو ممثل المثقفين.اتهم سقراط:بانه ينكر آلهة المدينة و إنه يفسد الشباب.

كانت المحاكمة في أثينا تأخذ شكلين . فقد كان يتعين على هيئة القضاة أن تقترع على أمر إدانته أو عدم إدانته في البداية ومن ثم يصوتون على العقوبة. وفي إجراءات المحاكمة في أثينا كان الحكم يرمي إلى عقوبة والدفاع إلى أخرى . ولم تستطع هيئة القضاة أن تجد الفرق بين الاثنين. كان يجب أن تختار العقوبة الأولى أو الثانية وقد اختارت في ذلك الوقت عقوبة الموت . أفلاطون كان حاضرًا في المحاكمة. في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر 28 عامًا وكان من أشد المعجبين بسقراط في عام 404 قبل الميلاد، قبل خمس سنوات فقط، هُزمت أثينا على يد الدولة المنافسة لها سبارتا بعد صراع طويل ومدمّر عرف منذ ذلك الحين باسم الحرب البيلوبونيسية. على الرغم من أنه قاتل بشجاعة من أجل أثينا أثناء الحرب، حكم عليه بالإعدام لإفساد شباب أثينا واتباع آلهة باطلة. كان متزوجًا من Xanthippe، الذي كان أصغر منه بكثير، وكان جدليًا. اعتذار سقراط أو دفاعه هو أحد روائع أفلاطون عن سقراط، ليس من الواضح تمامًا ما إذا كان هذا هو نص كلمات سقراط في المحكمة الأثينية، ولكن نظرًا لأنه كتب مباشرة بعد الحكم، فقد أخذ أفلاطون نص كلمات سقراط في الاعتبار عند كتابته.

في هذا الكتاب ينكر سقراط أولاً المزاعم الواردة في لائحة اتهام المدعين: "سقراط خطيب ماهر ويخدع الناس. "يستكشف الدنيوي والسماوي ويبرر الظالمين". يبدأ سقراط دفاعه على النحو التالي: "أهل أثينا! لا أعرف ما هي ادعاءاتي وما هو التأثير الذي أحدثته. كانت أقوالهم خادعة وآسرة لدرجة أنني كنت على وشك أن أتأثر وننسى من أكون.

هل كان سقراط شاذا جنسيا؟

في رأي فرانسيسكو دي لا مازا، "إن الإثارة الجنسية لسقراط الشخصية غير مؤكدة فقط بالنسبة للسذج أو المتشددون، لأن مثليته الجنسية واضحة، على الرغم من أنها تحولت وارتقت إلى مستوى روحي عالٍ منعه من وضعها موضع التنفيذ ولكنه يستدرك ويوضح انه لم تكن له علاقات جنسية سوى مع زوجتيه.... اما لورين روخاس بارما من جامعة أندريس بيلو الكاثوليكية من فنزويلا نجده يقول: " أما بالنسبة للزهد والانفصال عن الملذات الجسدية، فيجب اتخاذ بعض الاحتياطات عند الحديث عن سقراط: ربما لم يتم إكمال علاقته مع السيبياديس، كما رأينا، لأسباب أعمق، مرتبطة بالجمال الحقيقي ؛ لكن لا ينبغي أن ننسى Xantippe وأبنائها الثلاثة. أو كيف يمكن أن ينجبهم دون مقايضة بالجسد؟ أم أن هذه اللقاءات الجنسية لا تهم الفيلسوف؟ وميرتو، الزوجة الثانية المفترضة لسقراط؟ وهنا نصادف النسخة غير المشهورة جدًا لسقراط . لا يعتبر سقراط بأي حال من الأحوال مصابًا بالتوحد المثير، كما أنه لا يتناسب مع هذا الملف الشخصي لفيلسوف منعزل وحتى كاره للنساء"

سقراط كان رجلا فاضلا محبا للخير والعدالة فلقد عرض اقريطون على سقراط الهروب من السجن لكنه رفض ولم تكن المسالة تتعلق بالمخاطرة اذا كان يكفي رشوة الحراس وحسن التخطيط لعملية الهروب المسالة في نظر سقراط اعمق من ذلك انها تتعلق بالقيم والمبادئ الأخلاقية فلايمكن للكثرة او الراي العام ان يتحول الى مشرع للقيمة الخلقية وديمقراطية الكثرة هي ديمقراطية الرعاع ثم ان الأهم هو الحياة الطيبة الخيرة ولذلك كان فناء الجسد ضروريا لخلود الروح ولايمكن الفصل بين الخير والجمال والعدل ومن هنا كان ارتكاب الظلم شرا وعارا حتى وان تمت الإساءة لنا يقول سقراط:" انني طيلة حياتي كلها، وليس اليوم فقط،لا اطيع شيئا اخر غير الحجة التي تبدو لي الأفضل بعد التأمل "

قص سقراط على اقريطون الحلم الذي رآه في تلك الليلة رؤية امرأة جميلة حسنة الهيئة مرتدية ملابس بيضاء تناديه ياسقراط ثلاثة أيام والى فيثيا الخصبة تأتي . وقد فسر ذلك بأنه سيموت بعد غده ولن يموت في غده، ثم تنحَّى عن الجدل وجعل قوانين مدينتنا تتحدث — وعندئذٍ عرفت أني قد هزمت، ذكر لي ما تنص عليه القوانين لو لاذ بالفرار — قال: إنها قد عنيت به منذ ولادته، ولما شب وأدركها خضع لها كذلك، ولم يحاول قط أن يفرَّ منها إلى مدائن أخرى أحسن قانونًا، كيف يستطيع أن يهدمها الآن؟! ولو هدمها فكيف يستطيع أن يتكلم عن الخير بعد ذلك؟

***

عمرون علي أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

في البداية نشير بأن النقد ليس مظهر عرض ومكاشفة بلا ردود أفعال في القراءة أو المستوى البصري، والنقد قيمة إبداعية يؤطرها منهج ملائم للوعي النقدي، فالمنهج البنيوي للنقد اعتمد على مفهوم متأصل وفاعل، وكذلك المنهج التفكيكي للنقد استخدم ذات الصيغ، وإذا كانت صيرورة النقد قد تلاشى أثرها، فهذا لا يعني عدم رجاحة السيرورة وانعدام تماسكها، فالنقد الكلاسيكي الذي كان يوجه منظوره إلى الذات الكاتبة، والتي يعتبر بها أن المؤلف هو الجهة المسؤولة عن عملية الكتابة بمجملها، لذا يقع عليه عاتق ويتحمل ردود الأفعال على ما كتب، وفي التفسير الموضوعي لا بد من أن توازي مسؤولية النقد ذات المسؤولية التي يتصف بها المؤلف، والذي إذا كان جهة الخطاب، وهي جهة توثيق التعاقد مع جهة التلقي، لكن تمنح التلقي الحرية الكاملة، ولا تمنع عنها أي صيغة من صيغ التأويل، وقد منح النقد الكلاسيكي نفسه مسؤولية تجاوزت الحدود والأعراف، فقد أزاح عن زاوية المنظور رأس المؤلف وحل محله، وتلك أحد الوجوه الإشكالية في النقد الكلاسيكي، والتي في مواقف عدة شخص المؤلف في حرج كبير.

مسار النقد المؤطر بالمنهج استمرت سيرورته بشكل مستقيم، وذلك يعني من جهة عضوية بأن ذلك المنهج يهدف إلى الاقتران بمنهج الرياضيات، حيث توجد صيغ البراهين ملموسة وبلوغ النتائج أيضا مرتبط بها، والنقد داخل هذا المعنى لا يكون بذلك الامتياز المرجو له من جهة الكتابة الأدبية والفنية، والنقد قيمة وليس كشف حساب، وقد لعبت المعرفة النقدية الدور الأهم في النشاط الفكر والفلسفي للنقد، وهذا التطور يفسر ليس كسياق عابر، بل هو سياق السياقات كما يرى هانز غادمير، فالمنعرج بتلك الديناميكية يمنح طاقة النقد طاقة مضافة، ويؤهل النقد إلى كشف ما لم يكشف في المادة المكتوبة، والنزوع إلى معالجة النص من الظاهر وبنفس المستوى تكون المعالجة النقدية من الجوهر النصي، والنص سيكون في التلقي النقدي أمام معرفة مؤهلة لكشف المضامين ومعالجة جميع المستويات الدلالية، وهنا يرجح الوعي النقدي خارج أي تفسير أيديولوجي، ولا يكون كرد فعل للنص فقط، فتلك آلية تمرر دون قصد أو غاية، والنقد يكون هو الذئب الذي اتهم بقتل يوسف إذا جاز التوصيف، فهو لا بد من أن  يكون ببراءة تامة.

من أهم الأسس التي يقف المنهج النقدي ويرتكز على ثوابتها التاريخية، في أن يكون جهة تلقى ليست كرد فعل، كي لا يحدد في التفسير الفيزيائي كفعل ورد فعل، والنقد لا يدخل في صيغة العرض والطلب، بل النقد في حقيقته اختيار، وقد ينجم ذلك الاختيار من تأثير متعة جمالية وليست بنفسية، وإذا كان للحداثة من دور في تحديد المنهج النقدي، فقد أتاحت ما بعد الحداثة للنقد مساحة أوسع بكثير، وقد لعبت الفلسفة الدور المشترك، فالفلسفة التي أعادت للميتافيزيقا هيبتها، دعمت آليا ما بعد الحداثة لتستغل تلك الميتافيزيقا في أطر موضوعية، وهذا أتاح للنقد من استثمار حتى الخيال النقدي، ولا نقول قد تحول النقد في ظروف ما بعد الحداثة إلى أركان اصطلاحية عديدة، ليواكب ما طرأ على الكتابة من تحولات نوعية، ولعب مفهوم تداخل الأجناس دوره في تأهيل النص إلى حد كبير، وعلى وجه الخصوص في الكتابة المرئية، أو نص ألفيس بوك، والذي نجده إشكاليا، إذ هناك نصوص لا تضع إطار الجنس كمبدأ كتابة أول وتنطلق منه.

إذا قلنا لقد تجاوز النقد محنة هيمنة نظام الحداثة وتطلعت المناهج النقدية إلى آفاق ما بعد الحداثة الرحبة لتستمد منها بلوغ المناطق التي تطلع إليها الأدب وقد بلغها، وبما أن النقد عليه بلوغ تلك المناطق ليواكب التطورات الأدبية، وعدم مواكبتها لا تعني فقط وجود حالة قصور في البنية النقدية، بل يدل على انقطاع المسار النقدي وتلك ظاهرة ليست مقبولة وتضع النقد في موضع لا يليق به، وصراحة ما بعد الحداثة حررت المعرفة النقدية وفتحت لها السبل في جميع الاتجاهات، فنشطت المعرفة كجهة نقد في طبيعتها المرنة وازدادت تطلعا إلى الاهتمام بالأفكار الجديدة الأدبية التي تجاوزت المنطق العام، واتجهت إلى منطق خاص يلائمها أكثر من سابقه، وصراحة المعرفة النقدية أنقذت النقد من الترهل أو الجمود، فالنقد أصبح أكثر قيمة ولقي اهتماما به بعدما لم يضع أمام الأدب أية شروط صارمة عدا التفريق بين جنس أدبي وآخر، بل تصاعد نسق المعرفة النقدية إلى حدود قصوى، فمسألة القيمة الجمالية لم يعد الأدب يفكر ببلوغ أقصى المراحل لبلوغ القمة الجمالية لها، بل اتخذ مسارا آخر لتجاوز ذلك، وقدم لنا تصور حساس، لكن وجدنا له آثارا بائنة، حيث فكر الأدب بفكرة حرجة طرحها فيكتور هوغو في رواية – أحدب نوتر دام – إذ أصبح القبح بمضمون جمالي، أي لا بد ألا نفكر بالشكل، بل بالمضمون، وكما قدم جماعة كل تل تفسران جديدا للرواية، يتجاوز كثيرا التفسير السالف، فلم تعد الرواية ذلك البحث الاجتماعي الشيق، بل تلك اللعبة الجديرة فنيا، واليس يوسا في رواية – مديح زوجة الأب قد وضع النقد المحدد السمات في محنة، بعدما اقترح شكلا جديدا إلى أقصى الحدود، وكسر به كل منطق قديم للرواية والمجتمع على حد سواء، وإذا بلغ النص تلك الحدود وبقي النقد يفكر بقداسة المقاسات وربوبية الأدوات فلا جدوى منه، لكن صراحة صيغ النقد التقليدية هناك من لم شملها وحدثها بوصفها منهجا ما بعد حداثيا تكامليا في صيغة ثقافية هي توازي التطلعات المعرفية للنقد، وتتواصل مع السيرورة الأدبية النشطة بشكل غير اعتيادي ومواكبة ذلك النشاط الحثيث.

لقد نشط بشكل واسع مفهوم النقد الثقافي، وترجيح مثال مركب من وعي سياسي ووعي ثقافي كما مؤشر في خطاب الناقد الأمريكي فريدريك جيمسون، وفي تفسيرنا الموضوعي والفلسفي نجد ذلك النقد نتاج تلك الظاهرة وليس بمنهج متفق عليه، فالثقافة ظاهرة واسعة ومترامية ومتحركة، وهي حقيقة إن لم تكن واقعية فهي جوهرية، وهنا تكون أوسع في مجال الصدق، وأما ركن السياسة فيضع النقد الموجه إليه في زاوية الخيانة، والثقافة عالم أفكار أدبية وفنية، ولا مرجعيات شخصية يحال لها الأمر، فالثقافة في التفسير الفلسفي نجدها بنية من نوع مختلف، حيث تشكل تلك البنية بنى متفقة بنيويا، فيشكل كل من الآداب والفنون ركني تلك البنية أو الظاهرة التاريخية، والثقافة بحد ذاتها ليست مستوى دلاليا، إلا في الخطابات الشخصية، وإزاء بنية النقد الثقافي (يطرح فنسنت ليت مصطلح النقد الثقافي مسم مشروعه النقدي بهذا الاسم تحديدا، ويجعله رديفا لمصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية) 1، وتحتاج تلك المسألة تفصيلات واسعة، لكن إشارة مصطلح مناسبة تماما، وهنا تكون في باب الماهية وليست في باب الكينونة.

يتعارض تماما النقد الثقافي مع المنهج الأخلاقي للنقد، وذلك التعارض أكثر ما عمل في عبد الله الغذامي، وصراحة نتوجه إلى فلسفة تبناها رولان بارت ترى بأن النص السيئ هو من يولد رد فعل شيء، ونحن لسنا إزاء الإساءة بل إزاء موقف النقد الثقافي خصوصا عند عبد الله الغذامي، وذلك المصطلح المستحدث يعيد المفهوم النقدي إلى مرحلة سابقة من مراحل الحداثة، فتناول ذات المؤلف وأبعادها التاريخية هي جانب شخصي، والنقد من أساس مهمته دراسة بنية النص بكل تركيباتها وأبعادها، وفارق كبير ما بين سلوك النص وسلوك المؤلف، فالنص عضويا هو مادة أدبية أو فنية مكتوبة أو مرسومة، وربما يبلغ إلى حد فكرة بيكاسو حين سأله الجند عن من رسم لوحة الجرونيكا فقال لهم: أنتم من رسمها، ومن جهة أخرى دوستوفسكي يرى بأن الفنان يصنع شخوصه، ومن ثم يتعلم منهم كيف سيعيش، وإذا كان النقد الثقافي يبحث عن الحقيقة، فهو غير ملزم أبدا، والحقيقة التي امامه لا تهمه، وتشكل حقيقة النص الاهمية الكبرى التي عليه بالبحث عنها.

إذا كنا نعيش نظرية النص، فعلينا استبعاد كل ما لا يرتبط بالنص، وعلى وجه الخصوص بعد طرح نظرية تداخل الأجناس، وعلى النقد المعاصر أن يعي دوره وموقعه، وأن يستبعد ما تشبث به النقد الماركسي أو المنهج السياقية، وهناك (تأكيد للمعتقد المألوف للنقد الجديد عن استقلال العمل الأدبي أو اكتفائه بنفسه عن مهاده التاريخي وعن حياة صاحبه، فلقد آمن النقاد الجدد أن وحدة النص لا تكمن في مقصد المؤلف بل في بنية النص) 2، وتشكل الذات الشخصية في عملية الكتابة ليس هناك ذلك القالب، بل هناك أسلوب مرتبط بوعي وتجربة، وإذا كانت عملية الكتابة توصف في ظروف الحداثة بأنها انعكاسا للذات الشخصية للمؤلف وتقف عندها ولا تتعداها، ومن زمن طويل فصلت فريجينا وولف ما بين القارئ الاجتماعي والقارئ الضمني كما أسماه ولفاقتك ليزر، وقد تطورت الفكرة إلى وجود القارئ الجمعي المفترض، بعد ما تحول النص الورقي إلى نص ضوئي، وصار متاح للجميع، لكن يبقى التلقي الضمني هو الأقرب مساحة للنص، وهذا النوع من التلقي ليس فيما بعد المنهج اتجه إلى ذلك المصطلح المسمى بالنقد الثقافي، بل جرى العكس في تبني البعض لذلك المصطلح النقد الثقافي.

***

محمد يونس محمد

......................

1- مدخل الى نظرية النقد الثقافي المقارن، أ. د . حفناوي بعلي، منشورات الاختلاف، ص 43

2- النظرية الادبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 121

 

(انا افكر اذن انا موجود)... رينيه ديكارت

(انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)... جاك لاكان

(انا افكر في شيء ما اذن انا موجود)... ادموند هوسرل

(انا اتألم اذن انا موجود)... ميلان كونديرا

***

سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكيجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الالكترونية الغراء بعنوان (هوسرل / علاقة الذات بالموضوع) ونشرها موقع كوّة الفلسفي تلاها غيره من مواقع عدة، لقد أخذ هوسرل ان التفكير المنتج هو وعي قصدي عن استاذه برينتانو. وانتشرت المقولة انتشار النار في الهشيم على صعيد الفلسفة خاصة الامريكية منها واستحدث عنها كتابات فلسفية امريكية بالخصوص لا حصر لها حول علاقة فلسفة اللغة بفلسفة العقل وكذا بفلسفة الوعي. لذا سأكتفي هنا بمناقشة عبارة جاك لاكان بضوء مقتطفات من كتاب نقد الحقيقة للمفكر علي حرب وتداخلهما مع تفكيكية دريدا. تاركا تفنيد كوجيتو ديكارت التي اضحت جثة ميتة في كلاسيكيات تاريخ الفلسفة.

لا أرغب مصادرة عبارة جاك لاكان بأن الوجود عنده أمنية الفيلسوف أن يوجد الانسان في وجود انساني أصيل غير ما هو فيه من وجود مجتمعي زائف، وأنّ وجوده العياني الماثل هو وجود مجتمعي لا قيمة ولا نفع من التفكير من خلاله. اولا عبارة جاك لاكان سبقه بها عشرات من الفلاسفة ربما اشهرهم نيتشة، هيدجر، فوكو، هوسرل، سارتر، وفلاسفة اخرين بينهم امريكان. ورغم بهرجة وزهو العبارة الا انها لا قيمة حقيقية فلسفية لها.

فهمي التأويلي التفسيري لعبارة جان لاكان (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر) ولا يشترط ذلك أن غيري لا يقرأها بفهم وتأويل مغاير بتعدد وتنوع واختلاف القراءات. لكني اجد في تلك القراءات انها تماهي استعراضي فلسفي غير مشروط بالفهم الخاص الذي اراده جان لاكان بعبارته الغامضة العصيّة التي تتقبل التناقض التفسيري كما نجد مثاله الصارخ مارتن هيدجر. الذي كان اوضح هذا التناقض بجدارة اكثر فلاسفة سبقوه.

امّا لو اننا اخذنا عبارة علي حرب مثالا في تفسيره لعبارة (جاك لا كان) فهو يذهب الى تفسير نوع من العدمية التفكيكية المباشرة في الغاء أن يكون الانسان ذاتا مفكّرة في جوهرها، لأن كل ماهو في حجب الغيب ويمتنع الافصاح عن حقيقته يكون ذاتا غير مفكّر بها فتوجد حيث لا وجود وهذا دليل تفسيره في العبارة وفق استراتيجية ميتافيزيقية لا تنطبق في معناها الا على الذات الالهية فقط. وخارج هذا الحيّز لا قيمة لها ولا يمكنها التحقق منها وجودا من عدمه.

استعمالنا مفردات (منهجية تفكيكية عدمية) خطأ اصطلاحي فلسفي ومفهومي لا اعمل به ولا صحة منطقية فلسفية تحتويه. فتفكيكية دريدا، وهورمنطيقا بول ريكور، وحتى طروحات بعض فلاسفة البنيوية حول فلسفة اللغة وحتى خارجها، وعدمية فانتيمنو ليست فلسفات تقوم على منطق عقلي تعترف بالانسان كموجود محوري في مباحث الفلسفة ولا بالحياة. وتطرح هذه الاطروحات الفلسفية مثلا فلسفة اللغة نسقا يوازي الحياة والواقع ولا يتقاطعان معها ولا يتكافلان معها من اجل تغيير حياة الانسان.

فالتفكيكية على لسان جاك دريدا لا منهج لها كما وليست نظرية ولا فلسفة بل هي استراتيجية هدم وتقويض ولا تثق بالعقل ولا تؤمن بالانسان محور مرتكز التفكير الفلسفي - (الانسان ما يريده او يعيه او يفكّر به، انه ذلك الشيء الذي يجهله ولا يفكر به بكلمة اخرى / انا اوجد حيث لا افكر، او افكر حيث لا اكون) عبارة جان لاكان ص137 عن كتاب نقد الحقيقة . عبارة تلتقي ما يعتمده علي حرب بكتابه نقد الحقيقة بتفكيكية دريدا واطروحة جاك لاكان على حد سواء..

يشرح علي حرب في كتابه نقد الحقيقة، أنّ هناك فجوة بين الوجود والفكر بضوء كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ودحض جاك لاكان فيلسوف البنيوية وعالم النفس لها في عبارته التي مررنا عليها اعلاه. واهمل علي حرب ذكره كذا فيلسوف ماركسي ووجودي قام قبله ابطال منطقية عبارة ديكارت وتهافتها الفلسفي لعل هوسرل احدهم في ان وعي الذات هو الوجود وليس التفكير وحده يقرر الوجود.

يقول علي حرب (الهوّة التي تقوم في الاصل بين الوجود والموجود، أي الى نسيان الموجود للوجود، نعني نسيان الانسان لوجوده على مايذهب اليه هيدجر، وهذه الهوّة تجعل اللامفكر فيه سلطة على الفكر، اي هي الأصل في قيام مسافة بين ما يقوله القول وما لا يقوله) كتاب نقد الحقيقة ص26.كما يقول ايضا (ان الفكر الذي يتأمل موضوعه فهو يحمل صفة تأمل ذاته) ص118 من الكتاب.

صحيح ان الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه باكثر من ادراكاتنا موجوداته المحتواة داخله التي بغيرها لا يبقى لدينا وجودا يمكننا ادراكه حتى حدسا من غير تعالقه بمحتويات موجوداته داخله.

بعد ان نقّر بوجود فجوة او مسافة بين الوجود البايولوجي العاقل للانسان والفكرالواعي المجرد، لكنما ليست بالضرورة بين الموجود والوجود على صعيد انتاجية وقراءة النص في مجال اللغة، قراءة بنيوية منهجية حديثة كما في حفريات المعرفة،أو قراءة تفكيكية متطرفة، وانما في المجال الانطولوجي الذي تتداخل فيه حقيقة الوجود العاقل واللغة بما يعرف بالقراءة الجديدة كما في طروحات شتراوس وفوكو والتوسيروغيرهم.

وما يفصل الوجود عن غير الوجود الاصيل، هو حالة وعي الذات لوجودها الحقيقي والعالم الخارجي (وهذا ما ناقشته الماركسية والوجودية باسهاب صائب).، وغياب الوجود يكون في الموجود المجتمعي الذي لا يعي فيه الفرد ذاته كجزء فاعل منه، عندها يكون متعيّنا موجودا وليس متعيّنا وجودا، وفقدان وعي الذات لمجتمعيتها تغييب للوجود الاصيل، والوجود الحقيقي الحر والمسؤول هو في وعي الذات وعيا ادراكيا عقليا مسؤولا بحرية المجتمع، يعمل في دائرة المفكّر به وهو ما يمليه العقل ويضطلع به مقصيّا تأثير اللغة الهامشي في توظيف تحديدات الوجود العاقل.هنا للفكر أسبقية على اللغة في ادراك الوجود،والعقل أسبق على الاثنين في وعي الوجود.

الوجود الظل ليس وهما فلسفيا

للحقيقة ان اول من اشار للوجود الثاني الحقيقي للانسان هو افلاطون ومثله فعل نيتشة.هذا الوجود الذي يقصي الموجود او الوجود العياني الزائف الذي لا يعي ذاته الحقيقية ولا حريته المسؤولة عن ذاته ومجتمعه، فهو يعيش نسيان الوجود ويكون وجودا هامشيا مجتمعيا طارئا .. وهنا يمكننا القول لكن بحذر شديد ان نسيان الوجود هو وجود ثان يدركه الفرد بفهم عميق وذكاء لا يجاريه فيه المجتمع واول فيلسوف اوضح هذا الالتباس في اطلاقه صفة اللامنتمي خارق الوعي الذكي الذي يعي وجوده والحياة والوجود من حوله بجديّة وذكاء اكثر مما ينبغي ومطلوب منه هو الفيلسوف الانكليزي كولن ولسون قبل ان ينهي كتاباته بروايات ونقودات لا ترقى لمستوى كتاباته الفلسفية المهمة الاولى بداية ستينات القرن العشرين.. وجود اللامنتمي (كموجود وليس وجود كمفهوم فلسفي) بغض النظر أن يكون وجودا حقيقيا أم وجودا زائفا فهو يعتبر حسب كتابات كولن ولسون الارستقراطية النخبوية في اختياره شخصيات اعماله يعتبر توضيحا لما كان اشار له مارتن هيدجر في كتابه الزمان والكينونة ولم يستطع توضيحه كما فعل كولن ولسون في اكثر من اربع مؤلفات له تدور في هذا المنحى. ولم يكن تاثير مفهوم الوجود الظل الثاني مرتكز الروائي الفيلسوف التشيكي فرانز كافكا في رواياته الخالدة. مثل القلعة والمسخ وغيرهما غائبة عن تاريخ فلسفة الادب. ثمة روايات وكتابات فلسفية تناولت هذا الموضوع لا تحضرني اسماءهم.

من الجدير الاشارة له سريعا هنا ان كولن ولسون عالج بطل موجود اللامنتمي في رواياته وكتاباته من منطلق اغترابي كما ورد عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وعند اقطاب الصوفية الدينية عالميا كما بالهند والصين واليابان وكوريا وهكذا.اي ان العزلة المجتمعية واعدام اللغة الصوفية من قبل صاحب التجربة الصوفية مطلوبان لذاتهما وليسا مفروضان مجتمعيا.

هيدجر ونسيان الوجود

لكن نحن نميل الى أن نسيان الوجود او (الوجود الثاني الغائب الحاضر) يكون وجودا زائفا كما يذهب له هيدجر، فالوجود المتحقق ذاتيا كوجود أصيل لا يحتاج مفارقة وجوده في نسيان الوجود أي الاندماج في الكليّة المجتمعية الذي هو شرط تحقق الذات وجودها الاصيل حسب مذهب الوجودية والظاهراتية.

فالذات الحقيقية لدى هيدجر هي وجود – في – عالم وهو ما جعله يتخبط في كتابه باكثر من خمسين صفحة من مؤلفه الزمان والكينونة دونما قدرته اثبات صحة ما طرحه في عبارته التي استقى جذورها من استاذه هوسرل صاحب الظاهريات الذي اخذها عن برينتانو في مقولة (الوعي القصدي) التي دفنت كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود الى غير رجعة حياة.

هيدجر رغم انحيازه لمقولة برينتانو واستاذه هوسرل الوعي القصدي هو الذي يجعل الفرد يعيش امتلائه النفسي والوجودي في وجوده – في – عالم . الا انه عجز اثبات ايا من الوجودين تحقق الذات الانسانية امتلائها الوجودي الاصيل هل عندما تكون داخل مجتمع جزءا منه متفاعلة معه ام عندما تكون خارج المجتمع منفصلة عنه تعيش وجودا بذاته فقط..

علي حرب والتماهي التفكيكي

اذا اردنا ان نناقش بعض المنطلقات الفلسفية لكتاب علي حرب نقد الحقيقة، نكون ملزمين في توخّي الدقّة والحذر ان لا ننزلق بين قراءة النص قراءة بنيوية نسقية على صعيد التشكيل اللغوي واللساني المحض، وتناصّه المتداخل مع الفلسفة، وهما النص الادبي والنص الفلسفي وان هما يلتقيان منهجيا كما في الفلسفة البنيوية الا أنهما في حقيقة الامر يمتلكان استقلاليتهما وخصوصية أحدهما عن الثاني على صعيدي التجنيس الادبي والتجنيس الفلسفي وعلاقتيهما المختلفة باللغة والفكر،عليه ستكون مناقشتنا على صعيد قراءة النص الفلسفي وتعالقه مع لغة النص الادبي والشعري منه تحديدا، يقوم على الأخذ بنظر المناقشة أنهما يختلفان اختلافا كبيرا حتى وأن جمعتهما اللغة كوسيلة تعبيرية واستنطاق لفظي لكليهما.

ولتوضيح اكثر فأن النص الفلسفي هو غيره النص الديني او التصوفي وهما غيرهما في النص الادبي،فلكل واحد منهم مجال اشتغاله وميزاته بخصائص تفرّده الفني والجمالي والتركيبي.

(في الشعر كما في الفلسفة تستنطق الاشياء من جديد، ويعاد خلق العالم بالاسماء والكلمات، او بالفكر والمفهوم، فالشاعر والفيلسوف كلاهما يسعى الى الاستنطاق واعادة الخلق والانتاج،كل على طريقته) كتاب نقد الحقيقة/ علي حرب. ص119

ان الفجوة التي تفصل او تتوسط (الفراغ)الافتراضي بين الوجود الحسّي والفكرالتجريدي،وهو افتراض قائم ادراكيا عقليا قبل ان يفهم او يحدس فكريا او لغويا، هي فجوة لا تتوسط وجودين ماديين أثنين، بل ان الوجود والفكر هما وجود حقيقي مادي واحد هو كينونة الانسان بعلاقته الذاتية مع جوهره المثالي الأصيل الذي يرغب بلوغه.

علاقة الذات بجوهروجودها، بأغترابها وأنعزالها عن الناسيّة المجتمعية في الوجود على حد تعبير هيدجر،أي الاندماج فيما يطلق عليه هيدجر مفارقة الانسان لوجوده الحقيقي الاصيل من خلال اندماجه المتكيّف والتام بالمجتمع او اندماجه بالكلية حسب تعبير هيجل.(يلاحظ تناقض هيدجر فيما سبق لنا الاشارة له قوله ان الوجود الاصيل لا يكون الا ضمن الاندماج بالكية المجتمعية وما اطلق عليه نصا ( الوجود – في- عالم ) متماشيا مع هوسرل وسارتر.

أما في حال نشدان أوالتطلع لتحقيق الكمال المثالي في نزوع الذات تحقيق وجودها الفاعل الأسمى بالحياة او على الاقل في السعي نحو بلوغ مراتب تصاعدية في محاولة تحقيق مثل تلك الاهداف فهو نزوع نوعي وجودي لفرد او مجموعة افراد مستقلين عن الاندماج في مجتمع نسيان الوجود.

الناسّية في الوجود كما عّبر عنها هيدجر هي بتعبير مباشرعن وجود الفرد كينونة انسانية هامشية زائفة لا تملك الحد الادنى من الخصائص النوعية المجتمعية التي يحتازها الوجود الاصيل للفرد. بل هي تشترك بجميع المواصفات المجتمعية السطحية التي تبعد الانسان وتقصيه من الحصول على الوجود الاصيل بالحياة. والكليّة المجتمعية ما هي الا صهر الكيانات المتجانسة بالنوع مجتمعيا في معترك الحياة الرتيبة التي يتوزعها اشباع غرائز البقاء وغرائز اللذة فقط. عن هذه الحالة في نسيان الوجود الاصيل في معايشة الوجود الزائف يطلق عليها هيدجر توصيف قاسي جدا اذ يعتبرها الانحطاطية في الوجود.اي المجتمع هو ام الرذائل بحسب فهم هيدجر لتحقق الوجود الاصيل.

المجتمع او الموجود الجمعي لنسيان الوجود الحقيقي هو دائرة مقفلة تتقاذفها بلا انقطاع هواجس الحياة اليومية، ويملأها اشباع غرائز الحاجة البيولوجية الى الطعام والجنس والعمل والنوم، وجميعها عوامل تغييب الوجود الاصيل، في استبعاد الوجودات النوعية وليس الوجودات الهامشية المجتمعية المتكيّفة مع الكلية العامة. الوجود النوعي معناه وعي الذات جيدا، ووعي الذات يقود لا محالة نحو الانفراد عن مجتمع الناسيّة، مجتمع نسيان الوجود، الوجود الاصيل الذي يتجسّد فيه وعي الذات، باغترابه عن مجتمعه في محاولته الوصول الى تراتبية أعلى في سلّم الحصول على صفات التمّيز والتفرّد النوعي في محاولة الوصول الى (مثل) الانا العليا.،وهي نزوع مثالي في محاولة بلوغ مراتب الكمال، تشبه من حيث الغاية النزعة التصوّفية الاغترابية باختلاف الوسيلة والهدف، وكلاهما نزعتين لا يمكنهما التحقق.

لمناقشة علاقة الفكر بكل من اللغة والعقل،تكون المسافة التي تفصل بين الوجود والفكر هي علاقة الانسان بذاته لا غير، أي علاقة وعي الذات المحكوم بالتفكير والادراك العقلي. وان العقل وليس الفكر هو السلطة المتنفّذة في وصايتها وحمايتها للوجود الانساني الفاعل، وفي تغييبنا لهذة الأولوية للعقل من أجل فرض سلطة الفكر على الوجود نقع في مفارقة تراتيبية في الوظائف العقلية التي يرفضها العقل قبل رفض النسق المنطقي التجريدي لها، هذه المفارقة في تراتيبية النسق الوظيفي للعقل، يدفعنا الى التساؤل أيهما أسبق تاثيرا على الوجود العقل ام اللغة؟ طبعا يكون الجواب هو العقل منتج الفعالية اللغوية التي هي ملكة يعبّر بها الوجود عن حقيقته وواقعيته كوجود عاقل.أذ لا وجود اصيل بدون عقل، ولا وجود لغة او فكر من دونه ايضا.وعبارة جاك دريدا عبثية في محاولة انكار دور العقل وعلاقته بالفكر عندما يقول (العقل هو العدو اللدود للفكر).

أن تعابير مثل المسكوت عنه واللامفكّر فيه والغائب في ماوراء النص كلها تعبيرات لا معنى لها من دون فاعلية العقل كمرجعية ثابتة في كشفها وعلاقته بهما (الوجود واللغة). اما في جعل اللامفّكر به بأنه يمتلك سلطة على الوجود في تغييب العقل نرى لا حاجة لمحاججته ودحضه كونه اخلالا وظيفيا في قدرات العقل الفسلجية وتراتيبية علاقته بكل من الوجود والفكر، مقارنة بفضاء اشتغالات واستعمالات اللغة.وتأثيرها في تحديد الوجود الزائف والوجود الاصيل.ومن حيث اللامفّكر به احتمال او تأويل يتعدد ويتجاذب ويتضاد، وقياسا به بسلطة (اللامفكّر فيه) في قراءة النص ومن ثم تأثير ذلك على الوجود هومحض قصدية في تجاوز والغاء دور العقل في الاستجابة الادراكية للوجود او تعطيله قبل تعطيل النص واللغة المتعالقتان معه.

يقول علي حرب (يبنى النص على الغياب والنسيان، لا على الحضور والتذكّر، والغياب هو غياب الجسد والدال، وهما الحقيقتان اللتان لا ينفك عنهما وجود الانسان) ص27

هنا نود تسجيل الملاحظات التالية:

ليس الجسد واللغة حقيقتا الوجود فقط، بل العقل واللغة، فقد يكون الجسد مفارقا وجوده العقلي والفكري معا كما في جسد الميت او المجنون او المريض بمرض نفسي عصابي او عقلي انفصامي،أن في تعطيل العقل لا يبقى لوجود الجسد ولا اللغة أي معنى او قيمة،و تنتفي في عطالة العقل فاعلية وحضورالفكر و اللغة.

على سبيل الفرض، فالجسد لا يمثّل الوجود، كما لا يتحدد الوجود بتلازم الجسد والفكر او في تلازم الجسد والروح فهما غير كافيان في اثبات الوجود بدون العقل.

وقريب من هذا المعنى متداخل معه يعبر ناعوم جومسكي فيلسوف وعالم اللغات في اتجاهه اللغوي بالتحويلية التوليدية معارضا الفهم البنيوي والتفكيكي قائلا: ان الانسان المتكلم هو المولّد للكلمات والعبارات، وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي، وبهذا فهو يقاطع البنيوية حسب دكتور صلاح فضل والتفكيكية اكثر أيضا.

يتوجب علينا الحذر كما اشرنا له سريعا سابقا من الانزلاق في الخلط بين قراءة النص الادبي او السردي وفق منهجية القراءة البنيوية او التفكيكية التحليلية في علوم اللغة واللسانيات الحديثة من جهة ونص الفلسفة من جهة اخرى، فقراءة النص الادبي تكون وظيفة اللغة فيه تداولية تعبيرية تنحصر في ثنائية (نص ومتلقي) وهنا يكون مجال اشتغال اللغة الثري في تأثيث علاقة النص بالتناص، بالظاهر والمخفي، بالمعلن والمسكوت عنه وهكذا من ثنائيات متعددة تخرج النص ان يكون نصّا فلسفيا في علاقته بالوجود الانساني من حيث هو وجود أصيل أم وجود زائف. النص المكتوب او المرئي او المسموع لا يحدد وجود الشيء بدون مرجعية العقل، بل يمكنه تحديد الفكر من خلال النص.وكل وصاية على اللغة او الفكر او الوجود الاصيل مردّه ومرجعيته وصاية العقل اولا واخيرا ولا وصاية قبلها تسبقه.

ليس باللغة يتحدد الوجود الانساني ولا بالفكر، بل باللغة يتحدد الموجود، الذي هو نسيان الوجود الحقيقي، وبحسب الاستاذ حرب،فقد وضعنا هو امام مفترق طريقين لا نعرف أيهما نختار، هل نأخذ بالغياب والمنسي والمسكوت عنه في النص، ام نأخذ حضور النص كما هو نص استقبالي مدرك واقعيا وكل مدرك واقعي يكون عقليا، تتعدد قراءاته و تتعدد وظائفه في تحديد الوجود، وفي نقد النص او تأويله لغويا فقط لا نكتسب وجودنا، وبأي المعنيين اللذين ذكرناهما يكون تعاملنا مع النص سليما لغويا كوسيط تداولي او تأويلي فلسفي ملازم؟ من المعلوم المتداول ان اللغة ليس متعينا ثابتا بل هي فعالية ألسنية متغيرة ومتطورة باستمرار يمكن التعبير بها فقط. اللغة صيرورة معنى متغير على الدوام في تبعيته وملازمته حركة الواقع.

ورد ص24 من كتاب علي حرب(لقد تبدّلت حقّا النظرة الى النص الفلسفي تبدّلا كليّا، فلم يعد يقرأ بوصفه خطاب الحقيقة المطلقة،والماهيّات الازلية، والهويّات الصافية، واليقينيات الثابتة، ولم يعد ينظر اليه فقط من جهة صدقه العقلي، او صحته المنطقية، او تماسكه النظري، او تواطئه الدلالي، وانما ينظر اليه من جهة اختلافه او كبته، او سياسته وهيمنته، او ضلاله وتلاعبه.. الخ).

تعقيبنا أن خطاب الفلسفة منذ عصر الاغريق والرومان والى يومنا هذا لم يكن خطاب الحقيقة المطلقة وليس جديدا ان لا يكون كذلك بالامس واليوم ولا في المستقبل، ومن المؤكد ان الفلسفة على امتداد التاريخ لم تكن الحقيقة شيئا مسلمّا به لتعدد معانيها واختلافات دلالاتها ومحدداتها الهلامية للمعنى كمصطلح او كمفهوم.

فالخطاب الفلسفي شأنه شأن أي خطاب مبني اي (بنية نسقية ) فكرية لغوية تداولية ذات منشأ بنيوي نسقي، خطاب يحمل كل تناقضاته الداخلية، وكل نقائصه وعوامل انحلاله الذاتية والموضوعية داخله، ولم يأت عصر عومل به النص الفلسفي كيقينيات غير مشكّك بها الى حد أن كلود بيرنار قال(أكاد اجزم أن العالم ينام على وسادة من الشك). وهي عبارة قيلت بعد ان كتب ديكارت (مقالة في المنهج) قبل قرن حول الشك.حتى القراءات البنيوية والتفكيكية الحديثة الفلسفية وحفريات المعرفة والتنّاص اللغوي، تعامل اليوم وتتعرض الى نقد لا ذع يستهدفها بالصميم، وسيطالها تجاوز لاحق، وتعامل كما هي اليوم لا يقينيات معرفية ولا يقينيات منهجية في الافصاح الفلسفي والتعبير الفكري وعلى صعيد اشتغالات اللغة وحفريات المعرفة السائدة اليوم أيضا، نحن اليوم نعيش في عالم يتغير بالدقائق على صعيد كل محمولات الحياة وليس النص الفلسفي استثناءا من هذا التغيير الحتمي.

أن في خروج النص عن وصاية المؤلف يقع تحت وصاية المتلقي وتعدد القراءات الاختلافية التأويلية له، لذا لا يمكن لنص يتداوله اثنان قرائيا لا يختلفان عليه مهما كانت نوعية تلك القراءة حرفية او منهجية او فلسفية او موضوعية او غيرها. وكل ما يمكننا قوله سبقنا غيرنا بقوله ربما بافضل منا، ولنا عليه شروحات وتفاسير واضافات جديدة ولا اكثر، وما نقرأه ونقوله اليوم سيأخذ السلسلة التراتيبية في التداول حاضرا وفي المستقبل بنفس مناهجية التداول المعرفي في التجاوز او الإلغاء في سنة الحياة التي يحكمها التبدل والتغيير الدائمين.

***

علي محمد اليوسف

...................

المصدر: كتاب المفكر علي حرب (نقد الحقيقة).

 

هل يمكن للفيزياء ان تساعدنا في فهم الاخلاق؟ بصرف النظر عن الإختراقات المذهلة في علوم البصريات والرياضيات والميكانيك، وتوضيحات الجاذبية، واختراع التفاضل والتكامل، والتنبؤ بحركة الكواكب، لكن ماذا حقق لنا اسحق نيوتن؟

لقد حوّلت أعمال نيوتن العلوم، ومن ثم المجتمع. لكن إرث نيوتن ترافق مع جانب قبيح: هو شجع على ظاهرة "حسد الفيزياء"، التي بدورها قادت الانسانية الى أماكن مظلمة.(1) "حسد الفيزياء" هو الرغبة بايجاد صياغة رياضية من النوع النيوتني او قوانين من الجبر في حقول اخرى. أحيانا المحاولة كانت سخيفة، مثلما حصل مع الاقتصاديين عندما حاولوا توضيح أفكارهم الاقتصادية في معادلات جبرية. عندما يتم تطبيق حسد الفيزياء على علم النفس، التاريخ،صراع الطبقات، او التطور،فان المفكرين الحاسدين للفيزياء عادة ينتهون بوصف الانسان بعبارات مبسطة وخطيرة.

نظرياتهم ستعمل فقط لنموذج من الناس الذين جُرّدوا من الدقة والتعقيد. وكما في العديد من مآسي القرن العشرين،عندما أصبح الناس مجرد عناصر في معادلة، هم يتم التعامل معهم كما لو كانوا بلا قيمة ابدا.

حسد الفيزياء اثّر في الفلسفة ايضا،وبالذات،الأخلاق. الفيلسوف الاسكتلندي فرانسيس هتشسون Francis Hutcheson متأثراً بقانون نيوتن الثاني بان القوة تساوي التعجيل مضروب بالكتلة (F-ma)،اقترح بان الخير يساوي أعظم سعادة لأعظم عدد من الناس (G=gHgN). جيرمي بينثام كيّف فكرة فرانسيس الى ما أسماه "حسابات المتعة" – وهي العبارة التي تعتمد على رياضيات نيوتن. الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط دعم نوعا مختلفا من الصيغة تحدّد ما يجب ان نعمل: نحن يجب ان "نتصرف فقط طبقا للمبدأ الذي من خلاله انت تستطيع في نفس الوقت ترغب ان يصبح قانونا عالميا". لذا فان كانط كان يستعمل فكرة نيوتنية للقانون العالمي ليخبر الناس ما يجب ان يقوموا به. كل من كانط وبينثام اعتقدا انهما أماطا اللثام عن ألغاز الفلسفة الأخلاقية بنفس القدر الذي حاول به بروفيسور كامبردج إزالة الغموض عن الكون.

لكن هل ان قوانين الأخلاق تشبه حقا هذا – شيء واقعي مثل حركة الكواكب،تنتظر ان تُكتشف وتُعرّف؟

بالتأكيد سيكون مفيدا لو كانت كذلك، لو تم بناء اسس للاخلاق فان جميع تلك المآزق الأخلاقية ستختفي. القرارات الصعبة يمكن حلها بسهولة بالضغط على علامة (=) في الحاسبة. الناس يحتاجون فقط الى تطبيق الصيغة الصحيحة لكي يكون الجواب واضحا. بالتأكيد ان بعض المواقف الأخلاقية فعلا تبدو كأنها مطلقة. التطهير العرقي هو مروّع، وكل من يقول انه ليس شرا هو خارج المألوف. عبارة "التطهير العرقي خاطئ" هي واضحة لنا مثل الجاذبية. لكن العديد من المعضلات الأخلاقية تبدو كثيرا كأنها مسألة رأي. هل يجوز ارتداء قميص أصفر اللون في مراسم عزاء؟ او سحق حشرة عند الإسراع نحو الباص؟ هذا النوع من الأسئلة يعتمد على الذوق والسياق. هي لاتزال اسئلة أخلاقية، لكن لكل سؤال يبقى التوازن بين الملائمة وخلق ضرر مفتوحا للنقاش. نحن يمكننا الاتفاق او الاختلاف على هذه القضايا ونبقى أصدقاء.

أفكار حول الحقيقة الاخلاقية

احدى المشاكل امام الباحثين عن صيغة نيوتنية للأخلاق هي انه من الصعب رؤية كيف يمكن ان تكون الادّعاءات الأخلاقية مثلما هي الحقائق الاخرى حول العالم. فمثلا، المجتمع له تأثير هائل على ما يُعتبر صحيحا ام خاطئا. حتى المحرمات المطلقة مثل التطهير العرقي كان مقبولا في روما القديمة وفي رواندا وآلمانيا النازية وأماكن اخرى. كيف يمكن معرفة اننا على صواب حول ذلك؟ تناول اللحوم وإحراق الوقود الاحفوري - هي سلوكيات مقبولة على نطاق واسع في معظم تاريخ الانسان – لكن هناك منْ ينظر اليها باعتبارها مستهجنة اخلاقيا . ايضا، كيف نكتشف الصحيح والخطأ؟ هما ليس مثل الكواكب بحيث يمكن مشاهدتهما في السماء، وهما ليس تفاحا يؤذي منْ يسقط على رؤوسهم. نحن لا نستطيع شم او تذوّق او سماع القيم الأخلاقية. بدلا من ذلك، نحن نستحضرها في أذهاننا تماما مثل الأشياء التي نتصورها والتي هي غير موجودة حقا. هذا يعني ان الصواب والخطأ لهما من المشتركات مع المخلوق الاسطوري Tooth fairy (2) اكثر مما مع مفاهيم الكتلة، المسافة، والزمن التي غيّر بها نيوتن خارطة العالم.

لكن عندما ننظر عن قرب سنجد خمسة أفكار حول الكيفية التي يعمل بها الخطأ والصواب، وهي تشير الى اتجاه مثير وهام جدا.

1- انت عندما تسمّي عملاً "صحيحا"، انت في نفس الوقت تُجبر لتسمية أي فعل مشابه آخر بـ "صحيح" ايضا. مالم يكن هناك اختلاف مهم أخلاقيا فهل من المقبول وصف، على سبيل المثال، القتل الواسع كجريمة فظيعة بينما جرائم القتل الآخرى مقبولة. نظريا،عند القول ان فعلا معينا هو صحيح او خطأ،انت تقرر كم هو صحيح الفعل المشابه له، حتى لو كان ذلك الفعل يبعد عدة أميال او قرون.

2- تسمية "صحيح" و "خطأ" تنطبق فقط على أشياء معينة. الفعل يمكن ان يكون خيّراً، حالة ذهنية او نية، والمحصلات يمكن مقارنتها بنفس العبارات، البعض اكثر انصافا من غيرها. لكن الشيء غير الحي مثل الكرسي ليس جيدا او سيئا تماما مثل الطريقة (الأخلاقية). عندما نصف الفن، الهندسة، او طب الأسنان بـ "جيد" نحن نبيّن نوعا مختلفا من الإعجاب او التقييم له. انه ليس حكما أخلاقيا مألوفا.

3- انه يمكننا فقط تطوير شكل متماسك للأخلاق عندما نطبق تسميات الجيد والسيء فقط على نوع واحد خلال نفس الفترة – النية او الافعال او المحصلات. العديد من المآزق الأخلاقية تبرز عندما نمزج هذه الطرق من الحكم. أخلاق بنثام مثلا، تقدم حكما لكل قرار بالارتكاز فقط على كم عدد الناس السعداء في النهاية: بالنسبة له، المزيد من السعادة هي أفضل دائما. لكن أخلاقه تبدو غريبة عندما يُحكم عليها من وجهة نظر أفعال او نوايا: هل من الصواب حقا إجبار اثنين من الناس الأبرياء للمبارزة حتى الموت لو ادّت الى جعل 40 الف مشاهد يستمتعون جدا بالمشاهدة؟ الصواب يتضاعف لو كان عدد المشاهدين 80 الفا؟ يبدو كما لو ان الأخلاق تعمل بوضوح في عالم او بُعد احادي، لكن المشاكل تأتي عندما نتحول من بُعد الى آخر.

4- طريقتنا بالتفكير حول الصواب والخطأ تؤثر على طريقتنا في التفكير والتصرف تجاه الناس والأشياء. انت يمكنك تمرير طلب إعانة لشخص بلا مأوى بدون الشعور بالذنب، ولكن عندما تسأل نفسك "ما هو الشيء الصحيح للعمل هنا؟" انت ستفكر وتتصرف بطريقة مختلفة. انت ستتسائل اولاً ان كان الشخص يستحق المساعدة. مجرد التفكير في الموقف سيغيّر مشاعرك. لكي تنظر في مأزق أخلاقي هو ان تؤثر فيه.

5- واخيراً، ليس من الواضح ان كان للصحيح والخطأ أي مكان حقيقي في العالم، لأننا قد لا نمتلك الرغبة الحرة. البعض يجادل ان كل قراراتنا تتشكل بفعل التطور والبيئة المحيطة او بفعل الأحداث الفيزيائية السابقة، ولهذا من الوهم الاعتقاد اننا حقا نعمل خيارات. اذا كانت هذه الرؤية صحيحة، عندئذ نحن لا نستطيع حقا وصف قراراتنا بـ "الصحيح" او "الخطأ": انها تشبه لوم المحيط لجعله الساحل رطبا. اذا كان الناس مُسيطر عليهم بالكامل من قبل الطبيعة فسيكون في غير محله مدحنا او لومنا على سلوكنا لأننا في الحقيقة لم نتخذ أي قرارات حرة للقيام بذلك،العالم هو الذي صنع قراراتنا .

أخلاق الكوانتم

هذه الأفكار الخمس تشير الى ان الصح والخطأ هما أشياء غريبة جدا. في الحقيقة، الفيلسوف الاسترالي Jl Mackie سمى القيم الأخلاقية بـ "شواذ"، واقترح انها غير عادية جدا لدرجة يستحيل التفكير بها مثل أي شيء آخر. لكن دعنا ننظر مرة اخرى في هذه القائمة من كيفية عمل الصح والخطأ في العالم. نحن سنراها أشبه كثيرا بشيء درسه علماء الفيزياء في آلاف التجارب بعد نيوتن بقرنين.

كل هذه الافكار الخمس حول الاخلاق تأتي مباشرة من العالم الكوانتمي. ظاهرة التشابك الكوانتمي هي ظاهرة محيرة في كيفية عمل الكون. هذه الظاهرة اطلق عليها اينشتاين عبارة "عمل مخيف عن بعد" spooky action at a distance . التشابك يعني ان مظاهر جسيم واحد لزوج متشابك يعتمد على مظاهر الجسيم الاخر، لا يهم المسافة بينهما. هذه الجسيمات قد تكون الكترونات او فوتونات، والمظهر قد يكون الحالة التي هو بها كأن يكون يدور في اتجاه معين او غيره. الشيء الغريب انت عندما تقيس شيء ما حول الجسيم في الزوج المتشابك، انت فورا تعرف شيء ما حول جسيم آخر حتى لو كان يبعد ملايين السنين الضوئية. هذا الارتباط الغريب بين جسيمين اثنين هو تلقائي و يبدو يخرق القانون الأساسي للكون. تأثير "اللاّمحلية" هذا يذهب بالضد من كل بداهتنا مثلما ذهب بالضد من اينشتاين الذي بقي مشككا به حتى وفاته. لكن الإختبارات المتكررة أثبتت بان هذا هو ما تقوم به بالفعل الجسيمات دون الذرة. في الحقيقة، ان جائزة نوبل للفيزياء لعام 2022 مُنحت مناصفة لكل من Alain Aspect و Anton Zeilinger لإثباتهما في النهاية صحة ذلك التشابك الكوانتمي.

ان ظاهرة "عمل مخيف عن بعد" تعمل في مجال الأحكام الأخلاقية ايضا: كما نرى، الحكم على شيء كونه "سيء" ينطبق فورا على مواقف او سلوكيات مماثلة مهما كانت متباعدة. لذا فان الحكم في مكان معين له تأثير مباشر وفوري على موقف آخر حتى لو كانت هناك مسافة كبيرة ولا وجود لإرتباط مباشر بين الاثنين.

تشابه آخر بين فيزياء الكوانتم والاخلاق هو في الحدود التي نستطيع بها تسمية الأشياء. مثلما الاخلاق تنطبق فقط على اشياء معينة، هناك عدد محدود من مختلف الجسيمات دون الذرة للدراسة. العدد الدقيق يقال (17 جسيم او اكثر)، لكن الجسيمات الاولية (كورك) واللبتونات والغلونات مؤهلة ايضا للتسمية.

الأخلاقيون كالعلماء يختلفون بقوة، لكن معظمهم يقبل ان الصح والخطأ يمكن اطلاقهما على النوايا والأفعال وعلى خصائص معينة من النتائج، ولكن ليس على معظم الاشياء الاخرى.

فيزياء الكوانتم ايضا تبيّن ان الأشياء الكوانتمية يمكن ان تتصرف كالموجات في بعض المواقف ومثل الجسيمات في مواقف اخرى. الضوء،مثلا، يمكن ان يؤثر على شبكية العين كفوتون منفرد، كالجسيمات، لكن يمكنه ايضا ان يأتي على شكل موجات تشكّل نماذج للتدخل، تقود الى ضوء "موجي" ومناطق معتمة على الشاشة بعد ان يتغلغل الضوء من خلال فتحات ضيقة . الموقف مشابه في الاخلاق، التي بها يبدو الخطأ والصواب ينطبق على الافعال في بعض الظروف (التي يركز عليها كانط)، وفي مكان اخر على نوعية المحصلات (اتجاه بنثام). في هذه الطريقة، ثنائية (الفعل- النتيجة) او بلغة اخرى (ثنائية الذرائعية الاخلاقية) للخطأ والصواب تعكس ما يُسمى "ثنائية الموجة- الجسيم" في فيزياء الكوانتم. ثم هناك مبدأ (لايقين هيزنبيرغ). الفيزيائي الالماني ويرنر هيزنبيرغ أثبت اننا نستطيع معرفة سرعة موجة الجسيم دون الذرة او موقعه لكن ليس كلاهما ابدا، ونفس الشيء مع الازواج الاخرى للصفات الكوانتمية. كذلك تماما، في الفلسفة الاخلاقية، نحن نستطيع ان نتأكد ان شيء ما صحيح طبقا لنتائجه، او عبر الحكم على الافعال، ولكن ليس بالنظر الى كلاهما في وقت واحد. نحن ننتقد شخصا ما على السرقة (فعل سيء) او نمتدحه لإعطاءه النقود لفقير (محصلة جيدة)، لكن الجمع بين الاثنين هو حكم اخلاقي معقد. ايضا، نحن نمتلك تأثير المراقب. في فيزياء الكوانتم، كما ثبت مرارا، ماهية وكيفية اختيار المراقب للملاحظة سوف يؤثر بعمق على ما يلاحظ. التفكير او ملاحظة قرار اخلاقي سوف ايضا يؤثر على خيارنا الاخلاقي بعمق. المراقبة –غير المؤثرة المرتكزة على الاكتشاف، كما جرى بواسطة نيوتن، هي مستحيلة للاثنين.

اخيرا، فيزياء الكوانتم ربما تساعد في الإجابة على معضلة الرغبة الحرة.على المستوى الانساني ربما كل شيء يتقرر سلفا بواسطة البيئة، الجينات، وعموما، بواسطة ما حدث من قبل. في النطاق الكوانتمي،جسيمات دون الذرة يمكنها ان تظهر تلقائيا ليس من أي مكان . اذا كانت الخيارات في أذهانا تظهر عفويا ايضا، هذا ربما يحل لغز الرغبة الحرة. الصح والخطأ هما غريبان جدا، كما ذكر ماكين: لكنهما يشتركان في غرابتهما مع جسيمات دون الذرة بطريقة مشابهة و مثيرة.

غرابة اخرى

هناك بعض التأثيرات الكوانتمية الاخرى التي لها ما يوازيها في الفلسفة الأخلاقية. النفق الكمومي Quantum tunnelling،مثلا، يبيّن كيف يمكن لجسيمات ما دون الذرة ان تخترق الحواجز بطرق لا نتوقعها (عبر النفاذ من خلال الجدران الصلبة، مثلا). هل هذا يقدم لنا دروسا في كيفية التنبؤ بالعواقب الأخلاقية؟

لذا هل ميكانيكا الكوانتم تثبت ان التطهير العرقي حقا خطأ، او حتى تساعدنا في ان نقرر أي لون قميص نرتديه في العزاء او هل من الجائز السحق على حشرة؟ يمكن ذلك ولكن ليس بشكل مباشر. لكنها بالفعل تخبرنا عدة اشياء حول المعتقدات التي تمنع القتل الواسع، او اشكال الموضة للمناسبات الرسمية، او قواعد للسحق على الحشرات. انها تخبرنا مثلا بانه اينما توجد العقيدة او الحكم الاخلاقي، فهي مثل الجسيم دون الذرة سوف تتشابك في مواقف اخرى مماثلة بمكان آخر.

تماما لكي تراقب العقيدة هو ان تتأثر بها، وتؤثر بدورك على تطبيق العقيدة (حتى عندما نرفضها). بعض المعتقدات قد تُطبق فقط عندما نحكم اما على الافعال او على نتائجها، لكن ليس الاثنين. ونطاق المعتقدات له أهمية ايضا: المعتقدات التي تنطبق على شؤوننا الفردية قد تتحول الى معتقدات مختلفة جدا عندما يشترك بها المزيد من الناس.

هل كل هذا يأخذنا نحو الجواب للسؤال الأساسي جدا في الفلسفة الأخلاقية، "ماذا يجب ان نعمل؟"

ربما لو فهمنا فيزياء الكوانتم بشكل أفضل، قد نجد الجواب. الحل لأكبر المشاكل التي تواجهها الانسانية ربما يمكن اكتشافه في أسرار أصغر الأشياء التي نعرفها. محطّم الذرة في مختبرات المنظمة الاوربية للبحوث النووية CERN،او بعض مصادمات هادرون الاخرى، ربما تساعدنا فعلاً في جعل العالم مكانا أفضل.

يبدو ان فلاسفة الأخلاق كانوا على صواب في حسد الفيزياء. لكن لا يجب ان يكون ذلك لفيزياء نيوتن. وعلى الرغم من ان الصياغة الفاخرة للجاذبية والتفاضل والتكامل أرشدت الانسانية بدقة كبيرة للقمر، لكنها أرسلت الفلاسفة على الارض، بما في ذلك كانط وبنثام، في الاتجاه الخاطئ. اذا اردنا ان نعرف أسرار الصح والخطأ، فان ميكانيكا الكوانتم هي المكان المناسب للنظر.

***

حاتم حميد محسن

.....................

Ethical Truth in light of Quantum Mechanics, philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) عبارة حسد الفيزياء physics envy تشير الى رغبة أي حقل من الدراسة ليكون مثل الفيزياء من حيث الدقة والتنبؤ والتكرار، والقابلية على النمذجة والتنظير. معظم الحقول التي تستلزم اناسا مثل الاقتصاد والعلوم الاجتماعية نادرا ما تكون انيقة ومرتبة على شكل صياغات رياضية دقيقة. هي بدلا من ذلك تكون فوضوية وغير مؤكدة ومليئة بالسياقات والتاريخ والعوامل الخارجية وهو ما يجعل من الصعب الاستفادة منها بطرق قابلة للتطبيق الواسع مثلما يحصل في الفيزياء.

(2) قيل للاطفال انهم عندما يضعون سنهم المخلوع تحت الوسادة، سيأتي هذا الكائن الاسطوري ليلاً ليسرقه منهم.

فرش اشكالي: محاورة هيبياس الصغير زمنيا جاءت بعد محاضرة القاها هيبياس في مدرسة فيدوسترات وقد اخذت هذا الاسم تمييزا لها عن محاورة هيبياس الكبير وهي تصنف ضمن المحاورات الافلاطونية المبكرة والملمح الأول فيها ان افلاطون بروح سقراطية نجح من خلال هذه المحاورة في رسم صورة السفسطائي هيبياس بفرشاة ساخرة وبألوان فاتحة وقاتمة فهيبياس الحكيم والعقل المدبر الذي يعرف كل شيء ويمكنه أيضا ان يصنع أي شيء، المتحضر والحاذق الذي يعلم الاخرين الحكمة ويأخذ المال منهم والسياسي المحنك صاحب المهمات الصعبة والذي وصف نفسه بانه لا يوجد افضل منه انزله افلاطون في هذه المحاورة الى مرتبة السفسطائي الباحث عن المال المتاجر بالمعرفة شخص يدعي الحكمة ومع ذلك هو يقول أشياء تافهة وسخيفة ويتصرف باندفاع وسذاجة ومكر وخبث، فالمحاورة في ظاهرها تبدو للوهلة الأولى محاكمة فكرية واخلاقية القاضي فيها سقراط والمتهم هو السفسطائي هيبياس.

هذه الصورة رأى فيها الدكتور الطيب بوعزة ومعه نفر من الباحثين والمفكرين الكثير من التجني فالسفسطائي هيبياس في نظرهم يمثل العقل العملي البراغماتي عقل يتميز بالتفكير النسقي المنسجم مع متغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي، سلوكه أخلاقي لا يتناقض مع القانون الطبيعي الذي كان يؤمن به سقراط وعقله فلسفي مشدود الى حراك الاجتماع* وهنا نتساءل أي الصورتين أقرب الى تمثل حقيقة الفكر السفسطائي؟ وكيف يفسر هذا التهجم على شخصية هيبياس ومن معه من قبيلة السفسطائيين؟

الواقع ان محاورة هيبياس الصغير على صغر حجمها قياسا بالمحاورات الأخرى التي قاربت الثلاثين، امتزج فيها الخيال بالواقع والجد بالهزل والبساطة بالتعقيد مما جعلها نصا فلسفيا مفتوحا على قراءات نقدية متعددة ومتضاربة سواء في العصور القديمة والوسطى او الدراسات الفلسفية المعاصرة حيث يمكن القول مع كارل ياسبرس ان لا احد يمكنه ان يزعم ان فلسفته قد تجاوزت فلسفة افلاطون،وقد جاء في كتاب مدخل لقراءة افلاطون لمؤلفه الكسندر كواريه ان في:" قراءة أفلاطون لذة كبرى بل متعة فائقة. فان النصوص الرائعة التي يمتزج فيها الكمال الفريد للصورة بالعمق الفريد للفكرة، قد صمدت أمام عوادى الدهر فلم ينل منها الزمن، وبقيت حية على الدوام، حية كما كتبت منذ عهد بعيد. وتلك الأسئلة السافرة المسلمة: ما الفضيلة؟ ما الشجاعة؟ ما التقوى؟ ماذا تعنى هذه الألفاظ؟ تلك الأسئلة التي ضايق بها سقراط مواطنيه وأثارهم لا تزال قائمة حتى الآن كما كانت من قبل، وما زالت كذلك تبعث على الحيرة والضيق." [1] وهذا الوصف ينسحب على كل محاورات افلاطون ومنها محاورة هيبياس الصغير. والملاحظ ان أفلاطون انتهج فيها أسلوب المحاورة، وهو أسلوب أقرب إلى المسرحيات الأدبية، فهل أثرت نزعة أفلاطون الأدبية والحبكة الدرامية الواردة في المحاورات على تاريخه للسابقين على السفسطائية؟ وإلي أي مدى يطمئن القارئ إلي صدق الروايات الأفلاطونية تاريخياً مع أنها محبوكة دراميًا؟ هل طغت الحبكة على صدق الفكرة؟ هل هذه "المسرحة"- للمذاهب والأفكار الفلسفية - يمكن أن نعتمد عليها باعتبار أن أفلاطون كان لديه وعيّ تاريخي بالفلاسفة السابقين عليه؟* وهل كان سقراط دائما صديقا للفضيلة وصادقا ام انه في محاورة هيبياس الصغير كان كاذبا ليدافع عن الكذب؟

في دلالة الصمت

نقطة الانطلاق في متن هذه المحاورة الفضول الذي حرك السوفسطائي يوديكوس للتساؤل عن دلالة صمت سقراط ومحاولة دفعه للحديث والمناقشة من خلال التساؤل عن موقف سقراط من محاضرة هيبياس،هذا الصمت يمكن تفسيره أولا على انه في جوهره صمت حكيم وبليغ منسجم مع الروح السقراطية " كل ما اعرف هو اني لا اعرف" والدليل على ذلك هو تعليق الحكم مؤقتا فسقراط منذ البداية لا يمدح ولايذم اراء هيبياس،لا يدحض ولايوافق في مقابل ذلك نجد هيبياس مندفعا يتحدث ويسترسل يدعي على الدوام امتلاك المعرفة وثانيا يفسر الصمت على انه حالة من الحيرة والاندهاش شعر بها سقراط بسبب عدم التمييز بين كثير من الحدود والتصورات والانسياق الى توظيفها في بناء احكام واستدلالات دون الانتباه الى حقيقة الفروفات بينها من جهة المفهوم والماصدق حيث يمكن القول " إن ما أظهره لنا سقراط من خلال صمته الأولي هو أنه في حالة حيرة، وبالتالي فهو لا يعرف. على النقيض من صمت سقراط، فإن مديح هيبياس او دحض أفكاره منذ البداية يعني امتلاك المعرفة، فمن يمدح أو يدحض يفعل ذلك بناءً على معرفة خاصة، وموقف سقراط الصامت، هو موقف أخلاقي ووجودي يفرق بين من يدعي أن لديه المعرفة ومن يرفض ادعاء امتلاك المعرفة" [2] هذا الصمت كما قلنا أثار فضول يوديكوس و لم يمنع سقراط من ابداء رغبته في محاورة هيباس منطلقا من صميم الموضوع المتمثل اشعار هوميروس متسائلا: ماذا تقول عن أوديسيوس وأخيل؟ أيهما أفضل؟ وبأي ميزة يتفوق أي منهما على الآخر؟ وتأتي إجابة هيبياس على هذا النحو: سأكون سعيدًا جدًا، يا سقراط، في شرح آرائي حول هذه الأمور وكذلك حول الأبطال الآخرين بشكل أوضح مما أستطيع. أقول إن هوميروس قصد أن يكون أخيل أشجع الرجال الذين ذهبوا إلى طروادة، ونستور الأكثر حكمة، وأوديسيوس هو الامكر ويرد عليه سقراط: شكراً لك: الحقيقة هي أنني فهمت ما قصدته عندما قلت إن الشاعر قصد أن يكون أخيل أشجع الرجال، كما أنه قصد أن يكون نستور هو الأكثر حكمة؛ لكن عندما قلت إنه كان يعني أن أوديسيوس هو الأمكر.

التشكيك في الفرق بين الرجل الصادق والكذاب

يشعر سقراط بالارتباك عند إسناد المكر إلى أوديسيوس ويريد أن يعرف كيف يفهم هيبياس هذا التعبير من المثير للقلق للوهلة الأولى أن سقراط مهتم بمفهوم المكر وليس بشكل مباشر في مفهوم التميز بين الرجلين فالمكر مفهوم له حواف معرفية وأخلاقية وأن الحوار سوف يدور بدقة حول العلاقة بين المعرفة والأخلاق [3] وهنا يسترسل سقراط: يجب أن أعترف أنني لا أستطيع أن أفهم ما كنت تقوله. هل ستخبرني، وبعد ذلك ربما سأفهمك بشكل أفضل؛ ألم يجعل هوميروس أخيل مراوغا؟ وهنا يعترض هيبياس على سقراط ويؤكد ان هوميروس اشار بوضوح إلى اخلاق شخصية الرجلين وانه يظهر أخيل في صورة الرجل الصادق والبسيط، بينما أوديسيوس رجل ماكر وكاذب ووفق هذه المعادلة يصبح الماكر هو الكاذب حيث يصف هيبياس الكذاب على النحو التالي: "الكذاب شخص قادر على الخداع" وهنا يتساءل سقراط: هل تصنف انت الكاذب والمزيف بالمريض، مثل الأشخاص الذين ليس لديهم القوة على فعل الأشياء، أو الأشخاص الذين لديهم القوة على فعل الأشياء؟ والغرض من هذا التساؤل ان يدفع سقراط محاوره الى الاعتراف بان الحكماء وحدهم هم من يمتلكون القدرة على الكلام الكاذب وان الجاهل لا يمكن أن يكون كاذبًا وبمجرد أن نجح سقراط في إقناع هيبياس بقبول أن الكذاب لديه قدرة فكرية. أدخل تغييرًا في المناقشة مقدما حجة لها في صورة استقرائية وذلك من خلال الأمثلة الملموسة المأخوذة من المجالات التي يكون هيبياس نفسه خبيرًا فيها: الحساب والهندسة وعلم الفلك وغيرها من التخصصات التي بالكاد تم ذكرها في الحوار والغرض من ذلك هو بيان ان الصادق والكذاب نفس الشخص يلاحظ بنيامين جويت انه بالرغم من أن هيبياس الصغرى، أقل شأنا من الحوارات الأخرى، والحوار فيها أقل من مستوى أعمال أفلاطون الأخرى، أو أنه ينسب إلى سقراط مفارقة لا معنى لها،ربما كان هذا الامر بهدف إظهار أنه قادر على هزيمة السفسطائيين بأسلحتهم الخاصة ؛ أو أنه يمكن أن يجعل الأسوأ يظهر سبب أفضل ؛ أو مجرد تجربة ديالكتيكية... ويخرج باستنتاج عام مفاده هذا الحوار كشف عن: (1) أن أخلاق المتحدثين أقل دقة وصقل مما كانت عليه في محاورات أفلاطون الأخرى (2) أن سفسطة سقراط أكثر وضوحًا وخجلًا، كما أنها غير ذات مغزى؛ (3) أن هناك العديد من المنعطفات في الفكر والأسلوب.

الإرادة هي محور الحوار

هناك من الباحثين من يعتقد ان استنتاجات بنيامين جويت مردود عليها والذي يمكن استخلاصه من هذه المحاورة هو اعتبار ان الإرادة أساس الفكر والسلوك لأن الخطأ والخداع والكذب طواعية يصدر من أولئك الذين يسيطرون على موضوع معين أكثر من غيرهم و أولئك الذين على العكس من ذلك لا يعرفون أو يسيطرون على موضوع أو نشاط، سيكونون أكثر عرضة للكذب وارتكاب الأخطاء، ولكن بشكل لا إرادي. [4]

ووفق منطق جدلي استقرائي يعطي سقراط عدة أمثلة: في السباق، في القتال، في القدرة على الوقوف، الأفضل في هذا هو في نفس الوقت الأكثر قدرة على الكذب والخطأ طواعية. الأفضل هو القادر على فعل ما هو أسوأ طواعية والعكس صحيح: "إذن في السباق الذي ينفّذ أشياء سيئة بشكل لا إرادي هو أسوأ من الذي ينفّذها طواعية؟" يسأل سقراط ويجيب هيبياس بنعم. وهناك مزيد من الأمثلة. في الأمور الجسدية مثل العرج وقصر النظر، يكون الجسم الذي ينفذهما طواعية أفضل، وليس الشخص الذي يعاني من هذا بشكل لا إرادي. فيما يتعلق بالصوت، من الأفضل أن يكون الصوت الخارج عن النغمة طواعية وليس الشخص الذي يخرج عن سيطرتك. نفس الشيء مع الآلات: الدف، القوس، القيثارة، تكون أفضل عندما يكون من الممكن تنفيذها أو إساءة استخدامها طواعية، وليس عندما تفشل بشكل لا إرادي. الشيء نفسه مع الحصان: فالخيل الذي يمكن للمرء أن يركب معه بشكل سيء طواعية أفضل من الحصان الذي يمكن للمرء أن يركب معه بشكل سيء لا إراديًا. يتساءل سقراط، "هل روح رامي السهام أفضل إذا أخطأت الهدف طواعية، أو إذا أخطأت بشكل لا إرادي؟ يجيب هيبياس "إذا أخطأ عمدا". على الرغم من أن سقراط يبدو مترددًا في استنتاجه، إلا أنه يشير ضمنيًا إلى أن الشخص الأكثر قدرة على التصرف بطريقة تؤدي إلى فعل الخير يجب أن يعرف الكثير عن أسباب الشر، وبالتالي في بعض المناسبات. الكذب أفضل من قول الحقيقة. [5]

سقراط وهيبياس ايهما الكذاب

عرض اقريطون على سقراط الهروب من السجن لكنه رفض ولم تكن المسالة تتعلق بالمخاطرة اذا كان يكفي رشوة الحراس وحسن التخطيط لعملية الهروب فالمسالة في نظر سقراط اعمق من ذلك انها تتعلق بالقيم والمبادئ الأخلاقية فلا يمكن للكثرة او الراي العام ان يتحول الى مشرع للقيمة الخلقية وديمقراطية الكثرة هي ديمقراطية الرعاع ثم ان الأهم هو الحياة الطيبة الخيرة ولذلك كان فناء الجسد ضروريا لخلود الروح ولايمكن الفصل بين الخير والجمال والعدل ومن هنا كان ارتكاب الظلم شرا وعارا حتى وان تمت الإساءة لنا يقول سقراط:" انني طيلة حياتي كلها، وليس اليوم فقط،لا اطيع شيئا اخر غير الحجة التي تبدو لي الأفضل بعد التأمل " وهكذا نجد أنفسنا بالفعل، في نهاية محاورة هييياس الأصغر، أمام أصناف ثلاثة من العلم: علم يحدد على أنه السيادة في كل الميادين النظرية والعملية، وهو العلم الموسوعي الذي يتبجح بامتلاكه هيبياس، وعلم يتعين كقدرة دائمة على قول، أو صنع المتناقضات بحسب مشيئتنا؛ وهو ما يفتح مسألة علم ثالث كمبدإ اختيار بين المتناقضات. هناك مشكل يمكث بالفعل، وهو: لماذا قد يختار من يكون قادرا على الجري بسرعة، أو قادرا على الغناء المضبوط، أن يجري ببطء، أو أن يغني نشازا؟ من أين تستمد النية توجهها نحو هذا النقيض عوضا عن الآخر؟ إن جعل العلم يكون قدرة، لا يكفي إذن لتوحيده. [6] هذا الالتباس دفع الدكتور الطيب بوعزة الى ملاحظة ان الصورة التي رسمها افلاطون عن هيبياس فيها مقدار كبير من التجني والتزييف ويلزم عن ذلك في نظره انه يصح القول ان افلاطون وسقراط لم يدركا دلالة جدة الموقف المعرفي لهيبياس. في الجهة المقابلة غلام رضا الاصفهاني وهو باحث في الفلسفة والأدب انطلق من مسلمة انه لا يمكن فهم المحاورات الافلاطونية بعيدا عن منهج التوليد والتهكم فهناك ثلاثة مستويات من سخرية سقراط في الحوارات الأفلاطونية وهي نوع من السلوك الفلسفي تتجلى في: 1. طرح أسئلة مهمة للقارئ وجعله يتساءل. 2. وضعه في تجربة ساخرة واتباع نوع من التجربة الفلسفية بإشراكه في موقف ساخر. 3. دفع الجمهور إلى عتبة مشكلة فلسفية، وهي في الواقع مدخل إلى التفكير الفلسفي الخالص. فمثلا على مستوى البلاغي (السخرية اللفظية والعملية) نلمس السخرية في:

1. قول شيء مخالف للمعنى المقصود: تمنحنا دراسة محاورات أفلاطون فهمًا عامًا لشخصية سقراط، بناءً على ذلك لا يمكننا اعتبار بعض كلمات سقراط كلماته المباشرة والطبيعية ؛ لأن هذه الكلمات تتعارض مع بعض أقواله الأخرى وأيضاً مع الانطباع العام الذي حصلنا عليه من شخصيته وسلوكه.

2. الاستنكار من الذات: بصرف النظر عن حقيقة أنه بالنسبة لشخص على دراية بالمكانة الفلسفية لسقراط، فإن حديثه إلى الشباب والطلاب من السفسطائيين مثل Alcibiades و Callicles و Thrasomachus هو شكل من أشكال الاستنكار الذاتي وخفض المستوى من تفكيره إلى مستوى فهم الجمهور الشاب، تُظهر الأمثلة الملموسة الأخرى في الحوارات استنكار سقراط للذات. وغني عن القول أن هذا الاستنكار الذاتي هو شكل معدل من "قول شيء ما وقصد شيء ما ضده" ؛ لأن سقراط يُظهر شيئًا بسلوكه ليس سلوكه حقًا.

3. المراوغة والاختباء: المراوغة تعني إعطاء إجابة نهائية لتعريف الشؤون وإخفاء الرأي الحقيقي و من بين الأساليب الساخرة الأخرى في خطاب سقراط الاختباء والمراوغة

4. الصمت (الصمت البليغ): هناك قاعدة في الحوارات الأفلاطونية التي يبدي عليها سقراط دائمًا رغبة أكبر من محاوره في مواصلة النقاش والجهد المستمر للتدقيق المفصل والمزعج أحيانًا حول الموضوع المعني، لدرجة أنه في بعض الأحيان بسبب إرهاق محاوره من طريقة المناقشة هذه، يضطر إلى المضي قدمًا في المناقشة بنفسه والإجابة على أسئلته الخاصة. ومع ذلك، في حالات نادرة، ينهي سقراط بطريقة ما المناقشة ضد رغبته المعتادة ويرفض مواصلتها.

5. المغالطة / السفسطة: كيف يمكننا أن نصدق أن سقراط، سيد التحليل المنطقي، خالق مبادئ المنطق وعاشق الجدل، والأهم من ذلك، الناقد الشرس لسفسطة السفسطائيةوهل هي مغالطة وسفسطة في بعض الحالات؟ هل يمكن القول أن مغالطاته هي ببساطة بسبب الجهل أو قصر النظر؟ أم من ناحية أخرى، هل يمكن أن تنسب مغالطاته إلى احتياجات فترات مختلفة من حياته، من الشباب إلى الشيخوخة، وتعتبر قسوة الشباب وعدم نضجه وبطء الشيخوخة سببًا لهذه المغالطات؟ يواصل سقراط سخريته ويخاطبنا من خلال هيبياس: "لا أشك في أنك أكثر حكمة مني. لكن لدي طريقة، عندما يقول أي شخص آخر أي شيء، لإيلاء اهتمام وثيق له، خاصة إذا كان المتحدث يبدو لي رجلًا حكيمًا. لدي رغبة في الفهم، أستجوبه، وأقوم بفحص وتحليل وتجميع ما يقوله، حتى أفهمه ؛ ولكن إذا بدا لي أن المتحدث ضعيف، فأنا لا أستجوبه، ولا أزعج نفسي بشأنه، وقد تعرف بهذا من هم الذين أعتبرهم حكماء، لأنك سترى ذلك عندما أكون كذلك. أتحدث مع رجل حكيم، فأنا منتبه جدًا لما يقوله ؛ وأطرح عليه الأسئلة، لأتعلم، وأتحسن بواسطته"

***

عمرون علي أستاذ الفلسفة

ثانوية التميمي المسيلة – الجزائر-

..........................

المراجع المعتمدة

* هذا هو تحديدا موقف الدكتور الطيب بوعزة من خلال كتابيه السفسطائي سقراط وصغاره، ودفاعا عن السوفسطائيين.

[1]- مدخل لقراءة افلاطون، الكسندر كواريه. بيير نيكول، ترجمة عبد المجيد أبو النجا، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، ص:13.

*يمكن العودة الى مقال ثيولوجيا التأريخ تأويل افلاطون لبعض الفلاسفة السابقين على السفسطائيين،الدكتور شرف الدين عبد الحميد امين، كلية الآداب جامعة سوهاج مصر

[2]- مقتطف من محاضرة سيرجيو اريزا جامعة الانديز - بوغوتا – كولومبيا

[3]- نفس المرجع.

[4] هيبياس الصغرى المؤلف: أفلاطون المترجم: بنيامين جويت

[5] نفس المرجع،هيبياس الصغرى المؤلف: أفلاطون المترجم: بنيامين جويت

[6] مونيك ديسكو، افلاطون الرغبة في الفهم،ترجمة حبيب الجربي،المركز الوطني للترجمة تونس،ص 11

ربما يسلكُ المثقفُ نمطاً معيناً من الأدوار الثقافية، ليس رغبةً منه بصورةٍ واضحةٍ في ذلك وإنْ بدت الاختياراتُ والأهدافُ كامنةً تحت السطحِ، لكن منطقَ الممارسات الثقافية يفرضُ وجود التصنيف في نهاية المطاف. إنَّ اختيارات المثقفين (المواقف والأفكار) هي الخطوط التي تصلهم بفضاء الحياة، وكيفية التصرف واضعةً أياهم على محك التحليل. حيث ينكشف دور المثقف في طرح القضايا والمشاركة في إبرازها والدفاع عنها من عدمه. وتظهر كذلك نواياه التي يحاول إخفائها من وقت لآخر (زاعماً عكس ممارسته): أنَّه ما كان ليرَ غير ما يفيد الحقائق وحياة الناس!!

في هذا الإطار، يواصل بعض المثقفين المعاصرين تجاهل الجوانب الإنسانية والهروب من الواقع، ذلك نتيجة الإلتصاق بوظائف هامشيةٍ أخرى. لقد سقط هؤلاء المثقفون في اختبار الإنسانية الأول، اختبار أنْ يكونوا أحراراً مدافعين عن المبادئ لا المصالح، عن القيم والأسس لا  القشور والمظاهر. وليس يوجد منْ بإمكانه الظفر بالحياة الحرة وسط هذا التراجع المُرعب.

كثيرةٌ هي العوامل وراء الحالة السابقة، ولكن أبرزها تلك التحولات التي أصابت الثقافة الراهنة في مقتل. مثل: أولا: انتشار الوسائط التواصلية التي تسمح بظهور غير الجديرين باسم المثقف. ثانياً: استعادة المركزيات لواقع يدافع عن منافعها وتحصيناتها. ثالثاً: غياب النقد وأدوات المقاومة الثقافية الناجعة تجاه نزعات الاستحواذ والهيمنة. رابعاً: تضخم أسواق الاقتصاد الثقافي حتى ابتلعت كل شيء. خامساً: تسليع الثقافات والتراثات بإعتبارها بضائع ترفيهيةً لا وزن لها. سادساً: عولمة التفاهات وتكريس نمط الاستهلاك السائد، وقد طالت الجوانب الرمزية والميتافيزيقية. سابعاً: شيُوع مظاهر التسلُّط والتقليد في دورات لا تنتهي من المعاودةِ والتكرارِ.

ضمن هذا المناخ، سأواصل عرض باقي انماط المثقفين:

المثقف الرعوي

تأتي تسمية المثقف الرعوي اعتماداً على توظيف الثقافة لأغراض مادية رعوية وأنظمة سياسية رعوية بالمثل. وهو مثقف يقدم مادةً ثقافيةً قابلة للبيع والشراء تحت غطاء التداول والرواج. فهو يستهدف منذ اللحظة الأولى وضعَ قدراته قيد الاستعمال. وربما يكون لديه ما يقدمة بشكل (معرفي أو فكري أو بحثي)، لكنه شخص لايتمتع بالأصالة التي تؤهله لأنْ يكون مستقلاً. هناك عيب تأسيسي في هذا النمط ألَا وهو (غياب الرؤية الابداعية)، إنه مثقف حالة لا مثقف أصالة، مثقف تآمري لا صاحب فكر حقيقي، مثقف بروباجندا لا مثقف مشكلات فعلية، مثقف برتوكولات لا مثقف نقد وتطور، مثقف صفقات لا مثقف قضايا وأزمات. بل بالعكس، ربما سيزيد الأزمات تضخيماً، لأنَّه جزء منها، ولن يكون أبداً جزءاً من الحل، نظراً لانعدام نضج ذهنيته.

ورغم تواجد هذا النمط المتكرر، إلا أنه ظهر بقوةٍ في بيئاتنا العربية (قبيل سنوات الربيع العربي وما بعده)، إذ استطاعت أنظمة الحكم الثرية أنْ تستقطب – كما سأوضح - بقايا المثقفين المتحولين بين أيديولوجيات مختلفة إلى بلاطها الرعوي. وأن تستعملهم لأغراض جماهيرية رعوية، لترويض الجماهير واستقطاب المؤيدين إلى جانبها. ويشكل المثقف الأداة الديماجوجية الشعبوية للسيطرة على الناس وإدخالهم الحظائر السياسية من أوسع الأبواب.

المثقفون سالفو الذكر يدورون مع رأسمالية الأنظمة الحاكمة دوران العلة مع معلولها، وهي رأسمالية رعاعية ورعوية جنباً إلى جنب. رعاعية من زاوية تذليل طاقات البشر لخدمتها والسماح لدورتها التداولية بالدهس فوق عقول وأجساد الجماهير. وقد أخضعتهم الرأسمالية لنمط استهلالكها الإنساني وتضييع فرص النمو والتطور، ويدخل المثقف من هذا الجانب باعتباره إحدى عملات الأنظمة في أسواق السياسة والثقافة.

أما الرأسمالية الرعوية، لكون الأنظمة الحاكمة تستثمر في أنشطة تافهة، وتقوم على اقتصاديات رعوية بدائية تعوق نمو المجتمعات، وكذلك لكونها أنظمة ترعى أتباعها كقطعان سائمة على فتات الحكام ورغباتهم التي تظهر من حين لآخر، سواء بالنسبة لشعوبهم في الدولة الواحدة أم تجاه دول وشعوبٍ أخرى. كما ظهر ذلك من دخول أنظمة دول عربية في صراعات مع أنظمة أخرى أبان الربيع العربي، حيث وقف المثقفون مدافعين عن تلك الأنظمة الخادمين في بلاطها. وتجد المثقفين متوزعين على خريطة الأحداث في دول المشرق والمغرب العربي، كلٌّ منهم يقف بين مجموعة من الباحثين وأصحاب الأقلام الذين يشنون هجوماً بحثياً وثقافياً تجاه الأنظمة العدائية لدولهم.

ظهر أحدهم المتحول أيديولوجيا في أحدى مراكز البحوث، وكأنه مُشرّع لحياة الشعوب العربية، وليس باحثاً أو كاتباً فحسب، وأخذ المبادرة بشن(الهجوم البحثي) على بعض دول الربيع العربي متهماً إياها بمعاداة نظامه الحاكم الذي يعمل لديه. وطوال الوقت، تُوجه إليه الأوامر من أجهزتها السياسية لدراسة حالة دولة عربية معينةٍ أو أخرى تقف بالمرصاد لدولته، فإذا بالمثقف الرعوي يعقد مؤتمراً أو ندوةً أو يدعو إلى تأليف كتاب جماعي ضارباً في عمق تلك الحالة ويكيل الاتهامات لها طوال الوقت!!

إنَّ هذا المثقف الرعوي يمثل رأس حربة مسمومة في الصراع بين أنظمة الدول العربية، ويعد شخصاً خادماً للرأسمالية الرعوية التي تحمله إلى أي مكان يريد وإلى أي باحثين يبتغي تجنيدهم لخدمة نظام دولته الحاضنة. علما بأن هذا المثقف كان في مرحلة سابقة يزعم كونه صاحب مواقف قومية شريفه ويرفع شعارات العروبة مدافعاً عن قضايا الأمة كل الأمة ضد التواجد الغربي والصهيوني وضد التدخلات الأجنبية العسكرية في المنطقة العربية.

المثقف المتحول

في مجتمعاتنا العربية المختلفة، ظهرت شخصيات ثقافية مُتحولة من اتجاه إلى اتجاه آخر. هم يخلعون أفكارهم وأحياناً أدمغتهم كما يخلعون نعالهم خارج البيت. فهناك مثقفون متحولون من الماركسية إلى النزعة القومية، ومن الماركسية إلى النزعة الاسلاموية، ومن العلمانية ذات المرجعيات الغربية إلى المتمسحين بمرجعيات إسلامية كأنها ظهرت لأول مرة، ومن مصاحبين لرجال السياسة والإعلام وكتاب في صحف رسمية إلى مشتغلين في مراكز بحوث وكاتبي تقارير خاصة، بل متحولون من التأييد لأنظمة معينة إلى أنظمة حاكمة أخرى يعتاشون على هباتها ورعايتها.

وهؤلاء يمثلون فريقين يشتركان في بعض السمات:

الفريق الأول: هم من كانوا يعتنقون أفكاراً وتوجهات كالماركسية على سبيل المثال، ثمَّ فجأة يعلنون أنهم اعتنقوا- كلية- توجهات أخرى باختلاف مشاربهم، أو العكس بطبيعة الحال. وعادة ما يحدثون قطيعة في أفكارهم بين مرحلتين. وهو التحول الذي ينتقل بأصحابه من النقيض إلى النقيض. وهؤلاء يشبهون المراهقين حين يمارسون انتقالاً من فكرة إلى فكرة، ومن سلوك إلى سلوك باعتبار هذه المرحلة مرحلة التقلبات وعدم النضج. وكم رأينا أحدهم كان ملحداً أو علمانياً أو شيوعياً، ثم فجأة يعلن (توبته الثقافية)، وقد انضم إلى قوافل التنظيمات الإسلامية أو أصبح قومجياً منافحاً عن نظامه الحاكم، وكأنَّ القومية أو الاسلاموية قد استحالت إلى دين جديدٍ.

والحقيقة أنّه لم تخلو جماعة دينية من أحد ممثلي النمط المتحول، معتبراً أن حياته قبل الجماعة نوعاً من الانحراف والضلال. ولذلك يحاول فيما بعد أن ينتج شيئاً مقروءاً عن سلبيات ما كان يعتنق، وأنَّ تحولات جوهرية قد أخذته إلى حياته الجديدة التي هي الباقية ولها كل الإخلاص والولاء. والأمر نفسه مع بعض المثقفين في المجال السياسي، حيث يغادرون انتماءاتهم وأحزابهم ويرحلون إلى انتماءات وأحزاب أخرى يرونها أكثر نجاعةً، وقد يظلون في هذه الحركات البهلوانية دون توقف ... أو يتوقفون حيث تتوقف السلطة وترسخ أقدامها، لأنَّهم يعلمون أنَّ المنافع توجد حين توجد أصابعُ السلطة التي تحركهم عادة.

الفريق الثاني: وهم مثقفون يتبنون قناعات فكريةً وثقافية ما في بداية حياتهم، وينحازون إلى توجهاتٍ بعينها، ثم سرعان ما ينخفض مؤشر التوجهات مع التقدم في العمر، ويعدلون من رؤيتهم قليلاً أو كثيراً. وقد يختارون الكتابة في موضوعات مناقضة إلى حد ما لموضوعات الكتابات الأولى. وهؤلاء يختلفون فكرياً ولكنهم يبقون كما هم عملياً، مثل زكي نجيب محمود الذي كتب في بداياته الفلسفية: " نحو فلسفة علمية " و" خرافة الميتافيزيقا " و" شروق من الغرب"، ثم كتب مؤخراً: " قيم من التراث " و" عربي بين ثقافتين ". وكذلك عبد الرحمن بدوي الذي بدأ وجودياً ذا طابع إلحادي متمرد على التقاليد والموروثات في كتابه " الزمان الوجودي" و " الحور والنور" و " من تاريخ الالحاد في الإسلام" و" شخصيات قلقة في الإسلام"، وانتهى ذا طابع ديني محافظ " دفاع عن النبي محمد ضد المنتقصين من قدره" و" دفاع  عن القرآن ضد منتقديه". وهذا الفريق الثاني يعيدُ النظر في المقدمات التي انطلق منها، وقد يكتشف موضوعات كانت جديرةً بالبحث والدراسة، أو يسلط رؤيته صوب قضايا عامةٍ واسعةٍ الانتشار في بيئته الثقافية.

أمَّا الفريق الأول، فهم أصحاب التحول الحاد في مسارهم الفكري، ويكشفون عن مواقف تمثل ردود أفعال لا أفعال، فالآراء والأفكار الأولى كانت أصداءً لحياة القهر والتسلط التي  هي كل ما يملكون. ففي البيئات الأقل انفتاحاً وحريةً، يلوذُ بعض المثقفين بأفكار وتوجهات، كأنَّها حقائق من باب التمرد والاختلاف عن الثقافة الشائعة. وقد يأخذهم العناد مأخذاً بعيداً في التصلُّب للآراء من غير نقدٍ. وبعد ذلك يحدث الإنقلاب من النقيض إلى النقيض مهما تعددت الأسباب أو تباينت المبررات، نظراً لإنعدام الأصالة في مرحلتي البداية والنهاية.

الحقيقة أنّ نمط المثقف المتحول بفريقيه يكشف أصالة المثقفين من عدمها، لأنهم أصحاب دور حقيقي، ولهم من الإبداع- أو هكذا يفترض- ما يجعل اسهامهم ذا تأثير في المجتمعات. أما التحول فعلاقة قائمة على خلل الرؤى المواقف. وقد يكون التحول مقبولاً في حالة  وجود أخطاء في المعرفة أو في التطور اللازم لمواكبة العلوم وجديد التفكير والبحث.

المثقف الكوني

نمط نادر الوجود دون توافر إبداع حقيقي تكون وجهته الإنسانية جمعاء. وهو المبدع على الأصالة ويشق طريقه رأساً إلى الاهتمام بقضايا الإنسان والحقيقة، ويفعل غير عابئ بما يترتب على أفعاله واسهامه الثقافي من نتائج. والثقافة تبدو من تلك الزاوية هي فنون الإلتقاء المتنوع والأصيل مع الآخر بإطلاق.

1- لا يأخذ المثقف بثنائيات الفكر أو الحقائق أو الميتافيزيقا، لكونه صاحب رؤية نافذة، رغم اختلاف الأزمنة والمجتمعات.

2- يمارس دوره كأنَّه يتكلم لكل البشرية من غير أن يُعنى بالقضايا التي تميز وتفرق.

3- يضع الحقائق نصب عينيه لا يحيد عنها، مهما تكن قوةُ الممارسات المضادة لما يعمل.

4- يشعر الناسُ كل الناس بكونهم معنيين بما ينتج من ثقافة، لأن من طبيعة عمله أن يتجاوز المحلي والقومي والعرقي إلى مخاطبة الإنسان كونياً.

5- يحمل فكره وتحمل أفعاله الثقافية جانب الهدم والبناء، الهدم لأفكار وتصورات سابقة وبناء أفكار جديدة، مثل كل مبدع حين يعمل في الوقت نفسه على الجانبين معاً.

6- تنطوى أعمال هذا المثقف على العناية بالمستقبل المشترك لحياتنا الكونية، فليس هناك مثقف لا يهمه المستقبل إلاَّ ويسقط في نزعة مؤدلجة أو دجما فكرية.

7- لا يخضع لسلطة ولا يروم التوافق مع أيديولوجيا أو اتجاهات تجزيئية، لأن المثقف الكوني بطبيعة فكره الفلسفي لا يهادن أية سلطة.

8- ليس المثقف ابن بيئته المحلية، لكنه يولد من الدور الذي يؤدية لكافة شعوب الأرض، إنه مصدر إلهام ومنارة عامة تضيء دروب العتمة، سيجد لديه الناس مفتاحاً رمزياً لحل مشكلاتهم وفهم الحياة.

9- يتميز عمله بالمعايير الكونية للحياة بشكل(أفقي ورأسي) في وقت واحدٍ، أي ليس مستغرقاً في صراعات نوعية، لكنه يشتغل على القيم الكبرى الجامعة، أنْ يعني ما يعنيه ناظراً إلى الآخرين دوماً.

وقطعاً تعدُّ بيئاتنا العربية عقيمةً لإنجاب مثل هذا المثقف الكوني، نظراً لانشغال المثقفين بالصراعات المحلية وعدم قدرتهم على النظر خارج الصناديق المغلقة لكل سلطة يدينون لها بالولاء. كما أنَّ هذه(الخامة الكونية) غير متوافرة من جانب الأعمال الفكرية التي يشتغل عليها، فالمثقف لا يري إلا بجلده اليومي و لا يشعر إلاَّ بقرون استشعاره الخاصة التي انكفأت على النسبي المستهلِك لكل قدراته قبل أنْ تنضج.

ربما الأسباب كثيرة وراء هذا الجدب الثقافي عن ولادة المثقف الكوني لدينا، لكنها بمثابة (النقيض الموضوعي) لكل معالمه الكونية المذكوره، فثقافتنا لا تترك الحياة حرةً طليقةً، فهي تسعى للإنغلاق الدائم، بينما كانت فترات الانفتاح نادرةً، ولا تحدث سوى تحت وقع أحداث كبرى. كما حدث مع فترات الاحتلال الغربي لبعض بلداننا العربية، ونتيجة الاحتكاك غير المتكافئ مع مجتمعات أوروبا والغرب الأمريكي. وقد يكون الانفتاح نتيجة التخلف الشديد في مظاهر الحياة مقارنة بالآخرين. ونحن نعلم أنَّ العبور المادي للتقنيات ووسائل الحضارة أسرع وأكثر نفاذاً من حركةِ الأفكار والثقافة.

وهذا بالطبع لم يحُل دون وجود مثقفين كونيين عاشوا تجربة كونية الحقائق الإنسانية سواء من الشعراء والأدباء والفنانين الكبار أم من المتصوفة ورجال الفكر والمعرفة. فأشعار المتنبي وأبي نواس تمس أوتار إنساننا الكوني قبل أن تنزل منازل الاستحان لدى عرب الجزيرة والرافدين، ونتاج أدب نجيب محفوظ ويوسف أدريس والطيب صالح وعبدالرحمن منيف يستطيع أن يجد فيه الإنسان الغربي بعضاً من همومه كما يجدها لدى جارثيا ماركيز وإرنست همنجواي وتشيكوف ودوستويفسكي وبودلير ورامبو وهولدرلين.

والمفارقة الحاصلة أنه رغم حضور الطابع الكوني للثقافات العالمية في تفاصيل الحياة اليومية، إلاَّ أن مثقفي العرب لم يكونوا على الصعيد نفسه، ثمة نكوص مباشر أو غير مباشر تجاه نزعات محافظة ارتدت بهم إلى ثقافة محدودة بأطر الزمان والمكان، ولم يتطلعوا إلى أبعد من ذلك. أنَّها ثقافة إنحطاط الإنسان الذي ينتعش ويعيش لدينا مثل الميكروبات. لدرجة أنَّ بعض المثقفين يفضلون لوناً ثقافياً كهذا على ألاّ يعيشوا عصرهم المنفتح. ويروا في المصالح الضيفة فردوساً موعوداً لن ينالونها بحالٍّ من الأحوال لو خطوا بالخارج بعيداً عنها.

***

د. سامي عبد العال

العاري داخل ملابسه

ماكس شتيرنر

***

من الصعب جدا وصف أدب أو فلسفة التطرف والأنانية، فالعالم بوصفه حالة مشتركة لا يمكن أن يتفق مع تلك الأفكار، التي تبدو غير عادلة حسب أعراف العالم، وهذا المذهب في الفلسفة الموضوعية نراه يحمل صحة وقناعة من جهة تأصيل الأنا ذاتيا في الأدب والفن، ويحمل معنى متطرفا من جهة المشترك السيوسولوجي، وما تبديه البنية الاجتماعية من اتصال، أو ما يمكن تسميته بالفرد الجمعي حسب توصيف ماركس للفرد بوصفه عاملا مشتركا من الآخرين، ولكن العثور على الحياة الغريبة المتطرفة ليس بالعمل المستحيل، لكن من الممكن توصيفه بالعمل الشاق، وهذا ما نجده وجه اختلاف للهدم والتجديد في أن واحدا، وهناك أمثلة متنوعة عديدة، ويكاد يكون في الشعر رامبو مثال نوعي، وأما نيتشه فهو تلك الحالة الأمثل، التي أثارت العالم ولا تزال تثيره إلى اليوم، وأنموذج ماكس شتيرنر شائق في توصيفه، ومن المهم التعرف عليه، وأنا صراحة هذه المرة أعدت قراءة شتيرنر بطريقة مختلفة عما قرأته في تسعينيات القرن المنصرم.

نحن في الإطار العام أبناء السياقات، وفي الأدب والفن نحن أبناء المنهج، لكن نحن في ظروف ما بعد الحداثة قد هدمنا السياقات ودخلنا في فوضى موضوعية، وفي إطار المنهج لسنا تطرفنا منذ شتيرنر، فهناك أديب هولندي معاصر له فرض على جويس أن يستوعبه تماما، ويقر جيمس جويس بأنه أعاد رودريكن كليا في رواية – في نحو البرية – ولم تكن تلك الثورة التي شهدها الربع الأول منذ القرن العشرين هي السعي إلى تحسين وتزامن فقط، بل لمسنا التوجه إلى بلاغة متطرفة وانعتاق من السياق والتوجه إلى المعنى ما بعد الراشد، وأما الموجة الفرنسية ما بعد سارتر، فكان تقليعة حدادة قلبت المفاهيم رأسا على عقب، وفكر بريتون والآن غرييه وناتالي ساروت وبنجيه وكلود سيمون، هو مواز تماما لثورة الإلكترونات، ويعد عري ماكس شتيرنر داخل ملابسه هو الجوهر العنيد لإزاحة المسار وإبداله بالتحليق حول العالم بحرية ذاتية.

هل يستوجب الأدب وجود عدالة اجتماعية وأخلاق عامة تفرض عليه الالتزام بالمعايير العامة، وذلك يعتبر قمة في عدم الإنصاف، ولا يعلم من يروج لذلك، بأن الأدب هو الدين الجوهري، والذي لا بد من أن نسعى إليه، فهو يضع اعتبارات مهمة جدا لسمو الإنسان وإعلاء قيمته، فيما الدين الاجتماعي والأخلاق العامة وحتى العدالة لا تبلغ ذلك الحد، ومن هوغو ونحن وصلنا إلى إدراك بأن الشرطي ليس رمزا للعدالة بل هو رمز الاستبداد، وذلك إذا كان انحسر فقط في المجال الأدبي، فله أهمية في جانب الوعي والتفكير، وفلسفة شتيرنر تمتلك غاية ذاتية، ومن الطبيعي هكذا نوعا من الطروحات تمهد إلى معارضة وتأويل مضاعف لها، وقد واجه شتيرنر فكرة تفصل ما بين الإرادة الحرة التي تتمثل في الاختيار عن الأنا وبين الأنانية التي هي تعتبر حالة نفسية بلا حدود بحد ذاتها، واتصال الإرادة الحرة بالإدراك العقلي إلى حد كبير، فيما الأنانية هي تزحف بها الغريزة إلى ما لا نهاية لو تم ذلك، وهنا نحيل الأنانية إلى المادة المكتوبة، فيما نحيل الإرادة الحرة إلى ذات ماكس شتيرنر ووعيه وفهمه.

أقود طوى النسيان ما طرحه ماكس شتيرنر في كتاب له، ونحن نبحث في جميع الجوانب، وأول الجوانب الذي نعنى به هو السياق العامة للثقافة وعلاقته بفكر وفلسفة ماكس شتيرنر، فالسياق العام للثقافة سيرورة وتواصل، لكن كل تجديد عليه ألا يمس شكل تلك السيرورة ولا يتعارض مع وحدة زمن التواصل، وهذا يعني بأن ماكس شتيرنر كما الأدائية التي تلته بحوالي نصف قرن، فهي عارضت السياق العام ومعناه، وهدمت ركن اللغة المتصل بالمجتمع، وهكذا نوع من الطروحات التي سعت إلى أن تنفصل كليا إلى السيرورة لا بد من أن تعارض، ثم على وفق جانب ثان في مستوى علم النفس، والذي يرى الأدب الغريزي حالة مرضية، وهنا سيواجه ماكس شتيرنر حاجزا آخر، ومن جانب ثالث إذا كانت تلك الطروحات فلسفة فهي منقطعة تماما عن التاريخ، ولا تتصل به من خلال أي مرحلة من مراحل الفلسفة الثلاث، وهنا سيكون ماكس شتيرنر في مواجهة حاجز ثالث مهم، وبذلك سيكون على ماكس شتيرنر قد كتب أن يبقى عاريا وهو داخل ملابسه، فالمعنى الجدير المختلف لابد أن يواجه قطعان السياق التي تقصيه إلى أقصى حد ممكن.

فلسفة الأنا مهمة جدا في الأدب، وأسعى هنا إلى تبسيط الفكرة، فلا أقصد الذات الشخصية هنا أبدا، بل العكس أتوخى من الذات الكاتبة امتلاك تلك الروح المرحة والمحبة الخالصة للجميع، والكراهية ليست مهنة الأديب، بل هي مهنة السياسي أو المارشال، ولا بد من أن يكون الأديب عكس إلى ما يسعى إليه في فلسفته، فما يطرح في فلسفته لا بد من روح أنانية إلى أقصى الحدود، وذلك فقط في المعاني الأدبية، والتي لا تكون في التعبيرات بل في البناء، وإذا لم تختلف فلسفتك عن غيرك، فأنت لم تفعل أي شيء ويذهب ما كتبته إلى الإهمال على مستوى النقد الحقيقي، والنقد في معناه الأصيل هو الذي يسعى إلى قدرات مستقلة كما تلك التي تبناها ماكس شتيرنر على وجه الخصوص، حيث ستجعل النقد يقف أمام بكل إعجاب وامتنان أيضا، فأنت جعلت النقد يبحث في قيمة الاختلاف، فالنقد ما لم يختلف بالنسبة له أمثلة هي تدعوك إلى أهملها، وعدم الاهتمام به، واهتمام الأنا لا بد من أن (يتقدم على طريق تحقيق ذاته اللاواعية، يجعل محتويات اللاوعي الشخصية واعية بالضرورة، مما يوسع مدى وآفاق وغنى الشخصية وبشكل ملحوظ)1، وماكس شتيرنر أدرك أن الانانية هي ممر الى الانا الاعلى.

كانت تجربة ماكس شترينر تكاد تكون متفردة الى اقصى حد في كتابه الذي ترجم – الاوحد وحد وملكيته – والذي هو بعيد جدا عن مضمون فلسفة شتيرنر وطروحاته التي يمكن المقارنة بينها وما بين طروحات هيجل عن الذات والعالم، وماكس تفرد

خطابه الفلسفي كما تفرد خطاب نيتشه، فيما فلاسفة العالم منذ الفلسفة القديمة الى الفلسفة الحديثة يدورون في مدار واحد، والنفس الفلسفي لديهم لا يختلف كما يختلف جدا عند ماكس، فالفلسفة عند ماكس منفصلة تماما عن التاريخ وسلطة الذات ايضا في حيز الوجود العام، ويفسر العالم بأنه ما يلجأ له وحدة معنوية خارج مفهوم الذات في ركن الوجود، والانا ليست تلك المتصلة في الغايات والمواقف المشتركة، فهي عند ماكس صافية تماما كما مرآة.

العالم بالنسبة لماكس ليس ذلك الوجود المتعدد الافاق المشترك بين كل افراد محيط ما، فالتلاميذ بينهم عامل مشترك، وكذلك مجموع موظفي شركة او دائرة، لكن الادباء واهل الفن لابد لهم من استقلالية واضحة، وهذا ما قدمه لنا ماكس بوضوح، حيث كل سبيل مشترك بالنسبة لماكس هو صحراء بلا نهاية ومتاهة بلا دليل، واذا عاش كشخص كما الاخرين فذلك يعود لذاته الاجتماعية، فماكس قد تزوج مرتين في الاولى توفيت الزوجة اثناء الحمل، وتزوج ثانية من ماري داينهردت، والتي كانت من دعاة الحرية، والتي تحولت لاحقا الى الكاثوليكية، ولا يراهن ماكس على تلك الحياة، فهي نسخة من الماضي، وممكن أن تكون نسخة من المستقبل، وارتحل ذلك الفيلسوف الجدير عام 1856 بعد التمكن من هزيمة العالم والاطاحة به، وعلى مستوى التلقي ما كان قد حظي بالإنصاف.

لقد ادرك شتيرنر على اقل تقدير في نفسه بأن لا قانون ديني يعد يحكم الإنسان حتى من الخارج، على اعتبار أن البشرية تحولت من سلط الدين الى سلطة الاخلاق الشخصية، فالعالم الذي كنا نمثل له في المواقف الكبرى خصوصا، قد مر بتحول خطر، فلم يعد الإنسان هو مركز الوجود ويبنى عليه كل شيء، وتخلى بلا ارادة الإنسان عن كونه ذلك الهرم العتيد، ووجه المصيبة في استبدال الاشياء الدور الفعلي بدلا من الإنسان، والذي اصبح بشكل كبير يمثل اعلى نسب الهزيمة والانكسار، وصراحة البشرية تعيش حالات الاغتراب الداخلي اكثر الاغتراب الخارجي، وماكس شتيرنر ذلك المجهول حتى في حقول المعرفة والفلسفة اصبح تلك القضية المثيرة للجدل في الفلسفة والمعرفة، فالفلسفة لا ننكر هي تراعي الاصول التاريخية للأخلاق، ولا تفرط بالقيم البشرية، بل تعيد صياغتها بعد استهلاك المعنى السابق لها، واذا كان سقراط قد مثل تلك الصيرورة الجديرة لإعادة تفسير العالم بصورة تتوافق مع روح العصر، فيشكل موقف ماكس شتيرنر اقصى انواع الاحتجاج الفلسفي على التمثيل الاجتماعي للحياة، وعلى وجه الخصوص الانحدار بالمعنى الإنساني الى الحضيض، وذلك الاستغلال البشع لديموقراطية الشعب، ولا سبيل امام ماكس شتيرنر الا تجريد الخطاب الفلسفي، ليكون اقرب الى مذهب ذاتي لا تأثير مباشر له على السياقات العامة .

يقترب تفسير ماكس شتيرنر كثيرا من طروحات ارتور شوبنهور، لكن دون تماس مباشر، بل فقط في جانب التجريد، اي ليس في اطار الكينونة، بل في بعد الماهية، فالعالم ذلك التصور، الذي يمكن أن يستبدل نفسه، والتوافق الفلسفي بين عقل استبعد العالم، على اعتبار لا جدوى منه في كسر سياقات الاستعباد المحور من الديموقراطية المزيفة، والتي استهلكت الروح الاجتماعية مرارا، والحد الذي شعر به ماكس شتيرنر بأن لم تعد هناك حياة تلمس من المجتمع، ولم تعد روح الجماعة نافذة تشرع لصوت الجماهير، والعالم لم يعد افق للمجتمع الا في افاق الترابط العضوي، والكينونة الاجتماعية اصبحت في حالة خمول عن المعنى الإنساني، وتفسير ما لا يعقل اصبحت هناك دوافع له لاحتلال المواقع المهمة في الركن الاجتماعي، وذلك احد المحفزات لماكس شتيرنر، لكن التجريد النوعي للفلسفة حرض العقل للمقاربة مع جعل ارضية العشب حمراء، ولم يعد هناك افق عضوي ترتسم من خلاله المسميات، وكما كانت لدراكولا من انتفاضة جريئة ضد الموت، كانت هناك دوافع وجهت ماكس شتيرنر لتحرير معنى الفلسفة، وادخاله في جملة من التبريرات الحيوية ضد نظم العالم الملزمة للحياة .

نحتاج الى تفسير العلاقة ما بين الفلسفة والمعرفة، فلا وجود لفلسفة بلا معرفة، لكن يمكن أن تجد معرفة بلا فلسفة، فالمعرفة علاقة عقد تعرف ما بين جهة وجهة اخرى، فيما الفلسفة بكل تأكيد هي ببعد حرية من تلك المعاقدة، والتي لا نرغب بتسميتها كمصلحة كما ترجمت عن هابرماس، العقد ملزم لجهة التأسيس له، لكن غير ملزم للجهة الاخرى، والتي تفسر بحرية واسعة، والعقل يبدأ من المعرفة، ومن ثم قد يتجه الى الفلسفة او يتحول عنها الى افق اخر، بعد اكتسابه معرفة مناسبة فيه، والمعرفة تقبل الجدل كما الفلسفة، لكن بمنسوب اقل بكثير مما في الفلسفة، والمعرفة الادراك مهم واساس ايضا، ويحتمل كثيرا أن يكون مباشرا او في بعد الفطرة الادراكية، وتختلف الفلسفة اذا الادراك العقلي هو العنصر الاساس الذي يقوم التزام فكرة، او عدم التزام تلك الفكرة، والعقل في الفلسفة واسع الخيال وغير محدد فيه عنصر الخيال احينا، وهذا ما يتيح للفلسفة من تجريد بعض الافكار، وذلك تبعا لضرورات معينة، ونعتقد كان النشاط العقل عند ماكس شتيرنر يتميز بكفاءة الخيال فيه، وهنا نحيل الفكرة الى امكان التحول من مضمون فلسفي الى مضمون ادبي، وعضوية العالم الخارجي لا تكون ذات اثر او تتدخل الا في المشاع من السياقات العامة للحياة، والتي مثلت عند ماكس شتيرنر اقصى انواع العبودية، وعليه أن يتحرر منها، والخطاب ومغزاه يحيلنا الى جدية التفكير ازاء التحرر من تلك المعضلة، والتجاوز لما يكون من اثر احباط نفسي، قد ينجم عنها .

من الطبيعي هناك دور لا نشعر به لعنصر الزمن، والذي من الممكن في تحولات الخطاب الفلسفي من افق عام الى اكثر خصوصية يستوجب التجريد، فعلى عكس العالم سيتجه العقل الى نفسه، ولا يتجه الى الاخرين، وذلك الخطاب في صيغة التجريد من الطبيعي أن يبتعد عن الافق العام كثيرا، ولا يلامس الافكار المتسلسلة تاريخيا، ووفق سيوران النشاط العقلي التجريدي هو روح فاعلة تمتنع عن التحديد او التمييز، ويلعب عنصر الخبرة الدور المهم، فالحد الديناميكي يستوجب وجود خبرة متمكنة من اتاحة نسب اكبر للتجريد، والعقل في التجريد هو متنعم بنشوة الخيال، وهنا ينعدم مصطلح النجاح، وكذلك عنصر الفشل لا يكون الا مبررا، فالغاية في الخطاب طرح افكار خارج السياق، ولا تتبع منطقة من مناطق الفلسفة المتسلسلة، والوجود والكينونة تكون في الخطاب التجريدي ماهيات، من الممكن أن تتحول من علامة الى اخرى، ومن الطبيعي إن افق الاشارة لم يعد غير احد المسميات، وليس بأحد الضرورات الملزمة في الخطاب، ونحن هنا حتما نكون في افق لساني للفصل ما بين الاشارة والعلامة كليا .

لا تسعى الفلسفة في تحقيق تجريد الخطاب الى خلق نسق مختلف ومتفرد فقط، وهذا ما حققه بشكل واسع نيتشه في مضامين خطابه الفلسفي المتعدد المستويات الدلالية، وبث افكار لا تقف عند حد معين، ونشير الى إن الفلسفة العملية سعت الى ترسيخ قوانين الفكر، لكن فلسفة التجريد هدفت الى توسيع موقع الاحتجاج والدفاع عن المضمون الإنساني معناه الجدير، وصراحة الفلسفة من جهة اهتمت بمفاهيم قدمت على مفهوم الإنسان، ونعتبر وعي الفيلسوف لم يقف عند القضية الكبرى للفلسفة، والتي يشكل سقراط الاساس الواقعي والجوهري لها، واذا كان مفهوم الكينونة اهم من سقراط فأني اعتبر ذلك العزل للمعنى الإنساني والاقصاء له احد مشاكل الفلسفة الكبرى، واذا كانت المثالية قد راعت بشكل نسبي المذهب الاخلاقي، فأن الوجودية قد شتت ذلك المذهب، وقلبت البلاغة التقليدية، وانتجت المذهب الجديد، والذي يعتبر الإنسان الضحية والجلاد، وذلك القياس الفلسفي لم يهتم بشكل مباشر في تفسير الانا ليس خارج مفهوم – النحن – وما فصلت الإنسان المجسد بشريا عن المفهوم، وقد اهتمت كما الفلسفة العملية بالمعايير فقط، والفلسفة العملية لها كل الحق فيما ذهبت اليه، فهي تسعى الى براهين ونتائج، وهي بعيدة جدا عن الفلسفة الوجودية، التي راهنت على الوجود الاعتباري، وتناست بأن تلك الهرمية العتيدة قد تزعزعت واستبدلت الاشياء وحلت محل الكائن البشري، والسعي وراء الحاجات هو احد اسس الحياة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، اي قبل افول الحداثة تماما، واحلال ما بعد الحداثة محلها.

***

محمد يونس محمد

............................

1- جدلية الانا واللاوعي – ك. غ. يونغ – ترجمة نبيل محسن – دار الحوار للنشر والتوزيع- ص 26

الروابطُ الاجتماعية بين الأفراد تُمَثِّل أنساقًا تاريخيةً كامنةً في بُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي، ومُتَجَسِّدَةً في الوَعْيِ المُسيطِر على مصادر المعرفة، وهذه الأنساقُ تَحتاج إلى آلِيَّاتٍ لُغوية لتحليلِ مَعْنَاها، وبيانِ جَدْوَاها، وتكريسِ شرعيتها، مِمَّا يُسَاهِم في تَوظيفِ البُعْدِ التاريخي في المُجتمع، لَيْسَ مِن أجلِ إعادةِ الحَاضِرِ إلى المَاضِي، بَلْ مِن أجلِ تَحويلِ الحَاضِر إلى وَعْي بالمَاضِي، وامتلاكِ الظواهر الثقافية التي تُعَرِّي الأزمنةَ مِن الوَعْي الزائف، وتُجَرِّد التفاعُلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن أوهامِ الهَيْمَنةِ . وهذه التفاعلاتُ لَيْسَتْ تَوَاصُلًا ميكانيكيًّا بين الأفراد، أوْ تَبَادُلًا آلِيًّا بين عناصر البيئة المُعَاشة، وإنَّما هي تفاعُلات قائمة على الشُّعورِ الواعي، والإدراكِ الحِسِّي، وَمَنْطِقِ اللغة، وهذا يَحْمِي مَركزيةَ الوُجودِ الإنساني مِن القطيعة المعرفية، ويُحَقِّق الانسجامَ بَين إفرازاتِ العَقْل الجَمْعِي وتأثيراتِ تاريخ الأفكار.وكُلُّ التفاعُلاتِ المُتَجَذِّرَةِ في البِنَاءِ الوُجودي للمُجتمعِ وبُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي تُمَثِّل مَناهجَ نَقْدِيَّةً لا يُمكِن عَزْلُها عن السِّيَاقِ الحضاري للفردِ والجماعةِ، وتُمَثِّل مَرجعياتٍ فكرية لا يُمكِن إبعادُها عن دَلالاتِ التأويلِ اللغوي لتجارب الأفراد الحياتية، التي تَتمركز حَول هُوِيَّةِ المَعنى الإنساني، وعلاقةِ الوَعْيِ بِسُلطةِ المعرفةِ كَنَسَقٍ وُجودي مُلتزِمٍ بالمعاييرِ الأخلاقية، ومُتَجَاوِزٍ لِحُدُودِ التَّوظيفِ المَصلحي للثقافةِ والتاريخِ والحضارةِ .

2

لا مَعنى للمَاضِي خارجَ حُقولِ المَعرفة، ولا جَدْوَى مِن الحَاضِر خارجَ الفِعْلِ الاجتماعي، وهذا يدلُّ على أنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ نِظامًا فِكريًّا قائمًا بذاته، ولا يُكَوِّن نَفْسَه بِنَفْسِه، وإنَّما هو وِعَاء حَاضِن للتفاعُلاتِ الاجتماعية الرمزية، يَدفع تاريخَ الأفكارِ إلى التمركز حول الذات الإنسانية، بهدفِ نَقْدِها وتحليلها، ولَيْسَ تقديسها وتَحنيطها. ومنظومةُ (النَّقْد / التَّحليل) تَمنح شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ القُدرةَ على صِناعةِ مَاهِيَّتِهَا وتَكوينِ رَمزيتها، في عَالَمٍ مادي شديدِ التعقيد ذي طَبيعة أيديولوجية، تَقُوم على تَوليد مَعَاني الأشياء حَسَب المصالحِ المُتَغَيِّرَة، ولَيْسَ حَسَب حقيقة الأشياء . لذلك _ في أحيان كثيرة _ تَضِيع حقيقةُ الأشياءِ في الوَعْي الزائفِ، وتَذُوب صَيرورةُ التاريخِ في ضَغْطِ المَصالحِ الضَّيقةِ التي تُعيد تأويلَ الزَّمَنِ لتكريسِ اللحظةِ الآنِيَّةِ خَوْفًا مِن المُستقبل، وتَغِيب القِيَمُ الإنسانية في النَّزعةِ الاستهلاكية المادية التي تُجَرِّد السُّلوكياتِ اليومية مِن المَعنى لتكريسِ الغَيبوبة المَعرفية خَوْفًا مِن الوَعْي الفاعلِ في البيئة الاجتماعية، والمُنفعِلِ بالأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، والمُتفاعِلِ معَ تجارب الأفراد الحياتية.

3

جَوهرُ الوُجودِ الإنساني يَقُوم على ثلاثة أركان رئيسية : الدَّلالةُ الرمزية في كَينونة اللغة، وتاريخُ الأفكار في كِيَان الفرد، وسُلطةُ المعرفة في هُوِيَّة المُجتمع . وهذه الأركان تُقَدِّم تفسيرًا منطقيًّا للذاتِ الإنسانية في تَجَلِّيَاتِها الزَّمنية، وانعكاساتِها الرُّوحية، وأبعادِها المادية، وتُحَافِظ على العَقْلِ الجَمْعِي كَمَنظومة مُتجانِسة، وتُكَرِّس المنظورَ الحضاري في اللغةِ والهُوِيَّةِ كَوَحدة مُتماسكة . وكُلُّ رُكْنٍ مِن هذه الأركان يُمَثِّل مَرجعيةً نَقْدِيَّةً تُنقِذ الظواهرَ الثقافية مِن المَأزِقِ الحياتي للفردِ والجماعةِ، مِن أجلِ نقلِ سُلطةِ المَعرفة مِن الشَّك إلى اليقين، وتُخَلِّص التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن إشكاليات البيئة المُعَاشَة، مِن أجل نقلِ هُوِيَّة المُجتمع مِن الاغترابِ الوُجودي إلى صِنَاعةِ الفِعْل الاجتماعي في تفاصيل الحياة اليومية . ومَنظومةُ (الإنقاذ / التَّخليص) في الثقافةِ والمُجتمعِ تُحَدِّد طبيعةَ المَسَارِ العقلاني القادرِ على تَجَاوُزِ تناقضاتِ الذاتِ والهُوِيَّةِ في النَّزعةِ الاستهلاكيةِ الماديةِ، وهذا مِن شَأنِه إنزالُ تاريخِ الأفكار مِن بُرْجِه العَاجِي إلى حُقول المعرفة ذات التَّمَاس المُبَاشِر معَ الواقع الاجتماعي، وتحليلُ الأنساقِ التاريخية كَآلِيَّاتٍ للتَّحَرُّرِ مِن ضَغْطِ المصالحِ الضَّيقة، وإعادةُ إنتاجِ الرمزية اللغوية للربط بين الشَّكلِ والمَضمونِ مِن جِهَة، والذاتِ والمَوضوعِ مِن جِهَة أُخْرَى . وكُلَّمَا انصهرت الرمزيةُ اللغوية في البناءِ الاجتماعي والوُجودِ الإنساني، أعادَ الوَعْيُ إنتاجَ المَاضِي بِوَصْفِه قُوَّةً دافعة للإبداع، ولَيْسَ سَيْفًا مُصْلَتًا على الرِّقَاب . وإعادةُ إنتاجِ المَاضِي لا تَعْنِي تَزويرَه، أوْ صناعته ذهنيًّا بشكل يُخَالِف الحقيقةَ، وإنَّما تَعْنِي غَرْبَلَةَ أنساقِه، وفَصْلَ المَرجعياتِ الفكرية عن المراحل الزمنية، مِن أجلِ التَّمييزِ بَين جَوهر الوُجود الإنساني الصافي، والعناصرِ الدخيلة عَلَيه، والتَّفريقِ بَين سُلطةِ المعرفة القائمة بذاتها، والوَعْيِ الزائف الذي تَمَّ تجذيرُه في سُلطة المعرفة بِفِعْلِ عوامل خارجية،لتحقيق مصالح شخصية ومنافع ذاتية.ولا يُمكِن فهمُ الحَاضِر كفلسفة للوجود الإنساني إلا إذا استطاعَ العقلُ الجَمْعِي التَّمييزَ بين عناصرِ المَاضِي التي حَدَثَتْ وانقَضَتْ، وعناصرِ المَاضِي التي تَتَجَدَّد في وَعْيِ الفرد، وتَنعكس في الحَاضِر .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يتمحور النقاش في موضوع الحتمية مقابل الإرادة الحرة حول أمرين اثنين وهما: هل ان سلوكنا يتقرر نتيجة لقوى خارجة عن سيطرتنا، ام ان الناس قادرين على ان يقرروا بأنفسهم أفعالهم وتصرفاتهم بطريقة معينة.

الحتمية Determinism

الاتجاه الحتمي (الجبري) يقترح ان لكل سلوك سبب، ولهذا يمكن التنبؤ به، وان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً، وسلوكنا محكوم بقوى داخلية وخارجية ليس لنا أي سيطرة عليها.

الحتمية الخارجية

الحتمية الخارجية (البيئية) ترى ان سبب السلوك يقع خارج الفرد، مثل تأثير الآباء، الإعلام، او المدرسة. الاتجاهات التي تتبنّى هذا الموقف تشمل السلوكية behaviourism ونظرية التعلّم الاجتماعي. فمثلا، النفساني باندورا Bandura(1961) أوضح ان الأطفال يصبحون عدوانيين من خلال ملاحظتهم وتقليدهم لعنف آبائهم.

الحتمية الداخلية

الفريق الرئيسي الآخر المناصر للحتمية يشمل اولئك الذين يتبنّون منظورا بايولوجيا. هم يرون ان العوامل المقررة للسلوك هي داخلية وليست خارجية. طبقا لعلم اجتماع البايولوجي، ان التطور يحكم سلوك الأنواع الحية والجينات الوراثية لكل فرد. فمثلا الطبيب، باولبي Bowlby(1969) يؤكد ان الطفل لديه حاجة فطرية للارتباط بشخص هام. سمات الشخصية مثل الانفتاح او العصابية والسلوك المرتبط بهما يتأثر بقوى عصبية وهرمونية داخل الجسد. لا حاجة لمفهوم الكائن البشري المستقل. بالنهاية، هذه الرؤية تنظر لنا باعتبارنا ليس اكثر من مكائن بايولوجية، وحتى الوعي ذاته يُفسر كمستوى من الإثارة في النظام العصبي. فرويد ايضا نظر الى السلوك باعتباره موجّه من داخل الفرد على شكل حوافز غير واعية او أحداث طفولة، تُعرف بالحتمية النفسية.

المستويات المختلفة للحتمية:

الحتمية الصلبة:

الحتمية الصلبة ترى ان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً وتعتقد ان كل حدث وكل فعل له سبب معين. السلوكيون يعتقدون بقوة بالحتمية الصلبة. أبرز ممثل صريح وواضح لهم هو B.F. Skinner . مفاهيم مثل "الرغبة الحرة" و "التحفيز" جرى نبذها كأوهام تنكر الأسباب الحقيقية للسلوك الانساني. طبقا لسكنر، الفرد الذي يرتكب جريمة ليس لديه خيار حقيقي. هو مدفوع في اتجاه بفعل ظروف بيئية وتاريخ شخصي يجعل خرق القانون أمر طبيعي وحتمي.

بالنسبة للملتزم بالقانون، يصبح تراكم المكافآت له تأثير مضاد. كون الفرد كوفئ لإتباعه القاعدة في الماضي، فهو سيقوم بهذا في المستقبل. لا تنطوي العملية على أي تقييم أخلاقي او حتى حساب ذهني . كل السلوك يخضع لسيطرة التحفيز.

الحتمية الناعمة Soft determinism

وهي تمثل منطقة وسطى، حيث ان الناس يختارون حقا، لكن ذلك الاختيار مقيّد بعوامل داخلية وخارجية. فمثلا، كونك فقير لايجعلك تسرق، ولكن ربما من المحتمل جدا ان تلجأ الى السرقة من خلال اليأس. الحتمية الناعمة تقترح ان بعض السلوكيات مقيّدة أكثر من غيرها وهناك عنصر الرغبة الحرة في جميع السلوكيات. غير ان المشكلة في الحتمية هي انها غير منسجمة مع افكار المجتمع حول المسؤولية والسيطرة على الذات التي تشكل الأساس لإلتزاماتنا الأخلاقية والقانونية. قيد اضافي آخر يتعلق بحقيقة ان علماء النفس لايستطيعون التنبؤ بسلوك الشخص بشكل دقيق بنسبة 100% بسبب التفاعل المعقد للعوامل التي تؤثر على السلوك.

الرغبة الحرة

وهي الفكرة باننا قادرون على امتلاك الخيار في كيفية التصرف و اننا احرار في اختيار سلوكنا. بكلمة اخرى، نحن احرار في الاختيار. فمثلا، الناس يمكنهم عمل خيار حر في ما اذا هم سوف يرتكبون جريمة ام لا(مالم يكونوا اطفالا او مختلين عقليا). هذا لا يعني ان السلوك عشوائي، وانما يعني اننا متحررون من التأثيرات السببية لأحداث الماضي. طبقا للرغبة الحرة، الفرد يكون مسؤولا عن أفعاله. احدى أهم الافتراضات الرئيسية للاتجاه الانساني هي ان الناس لديهم رغبة حرة، وان السلوك ليس كله مقرر سلفا. الاستقلالية الشخصية personal agency هي المصطلح الانساني لممارسة الرغبة الحرة. الاستقلالية الشخصية تشير للخيارات التي نتخذها في الحياة، والمسارات التي نسلكها وما يترتب عليها من نتائج.

بالنسبة لعلماء النفس الانسانيين مثل ماسلو (1943) و روجرز (1951)، يرون ان الحرية ليست فقط ممكنة وانما ايضا ضرورية اذا اردنا ان نصبح كائنات بشرية تعمل بكامل طاقتها. كلاهما يرى ان تحقيق الذات كحاجة انسانية متفردة وشكل من التحفيز يجعلنا متميزين عن كل المخلوقات الاخرى. هناك خط يجب ان يُرسم بين العلوم الطبيعية والاجتماعية.

لنأخذ مثالا بسيطا، عندما يحصل رد فعل لعنصرين من المواد الكيميائية، لا معنى هناك لتصور انهما يستطيعان التصرف بأي طريقة اخرى غير الطريقة التي يقومان بها. غير انه، عندما يجتمع شخصان ، هما ربما يتفقان، او يختلفان، او يصلان الى تسوية او يدخلان في نزاع وهكذا. لكي نفهم سلوكهما نحن نحتاج لفهم كيف يختار كل طرف العمل اثناء العلاقة.

بالضد من علماء النفس الحتميين الذين يعتقدون ان ما "هو حاصل" هو حتمي، هناك الذين يعتقدون ان الانسان لديه القدرة للسيطرة على مصيره. هناك ايضا موقف وسطي يعود الى علم النفس التحليلي لفرويد. فرويد يبدو مناصرا للحتمية في كونه يجادل ان افعالنا وافكارنا مقررة باللاوعي. غير ان هدف العلاج هو مساعدة المريض للتغلب على تلك القوى. في الحقيقة، بدون الايمان ان الناس يمكنهم التغيير فان العلاج ذاته لا معنى له.

تلك الرؤية اتخذها العديد من الفرويديين الجدد. احد أبرز المؤثرين كان ايريك فروم (1941). في (الخوف من الحرية) هو جادل ان جميعنا يمتلك امكانية السيطرة على حياته لكن العديد منا يخشون القيام بهذا، وبالنتيجة، نحن نتخلى عن حريتنا ونسمح لحياتنا لتُحكم بالظروف وبالناس الآخرين والايديولوجيات السياسية او المشاعر اللاعقلانية. ان القدرية ليست حتمية، والاختيار الذي من خلاله نعمل الخير ام الشر، يراه فروم هو جوهر الحرية الانسانية.

تقييم نقدي

يرى علماء النفس المناصرون لرؤية الرغبة الحرة ان الحتمية تمحو الحرية والكرامة وتحط من قيمة السلوك الانساني. عبر خلقه قوانين عامة للسلوك، يتجاهل علم النفس الحتمي فرادة الكائن البشري وحريته في اختيار مصيره. هناك انعكاسات هامة للأخذ بأي جانب من النقاش. التوضيحات الحتمية للسلوك تقلل من المسؤولية الفردية.

الشخص الذي يُعتقل لإرتكابه هجوم عنيف ربما يبرر ذلك في انه لم يكن مسؤولا عن سلوكه – ذلك ناتج عن تربيته ، او نتيجة ضربة في الرأس اثناء الطفولة المبكرة، او بسبب التوتر الأخير في العلاقات، او مشاكل نفسية. بكلمة اخرى، سلوكه كان مقررا.

الاتجاه الحتمي ايضا له تأثيرات هامة على علم النفس كعلم. العلماء مهتمون باكتشاف قوانين يمكن استعمالها للتنبؤ بالأحداث. هذا يمكن رؤيته بسهولة في الفيزياء والكيمياء والبايولوجي. علم النفس، كعلم يحاول نفس الشيء – تطوير قوانين، لكن هذه المرة للتنبؤ بالسلوك. لو نحن نجادل ضد الحتمية، نحن بالنتيجة، نرفض الاتجاه العلمي لتوضيح السلوك.

الأمراض العقلية يبدو تتجاهل مفهوم الرغبة الحرة. فمثلا، الافراد الذين يعانون من الامراض النفسية يفقدون السيطرة على افكارهم وافعالهم ، والناس ذوي الكآبة يفقدون السيطرة على مشاعرهم. من الواضح، ان اتجاها حتميا خالصا او رغبة حرة خالصة لا يبدو ملائما عند دراسة السلوك الانساني. معظم علماء النفس يستعملون مفهوم الرغبة الحرة للتعبير عن الفكرة بان السلوك ليس رد فعل سلبي لقوى وانما ان الافراد يستجيبون بقوة للقوى الداخلية والخارجية.

عبارة الحتمية الناعمة عادة تُستعمل لوصف هذا الموقف، حيث ان الناس حقا لديهم الاختيار لكن سلوكهم هو دائما ما يكون بسبب شكل من اشكال الضغوط البيئية او البايولوجية.

***

حاتم حميد محسن

(السخرية من الفلسفة هي أيضاً تفلسف، وإن السخرية من المعلمين، تعني الوفاء لهم والانفصال عنهم).. سبونفيل

قليلون من تجرأوا على مبارزة العدة المفاهيمية الثقيلة والهادرة للفيلسوف الفرنسي أندريه كونت - سبونفيل صاحب (روح الإلحاد) الشهير بـ(الرسالة الصغيرة عن الفضائل الكبيرة).

ذلك أن الاقتراب من سبونفيل يحيل بالقراءة الأولية إلى "تسفيه الدين" وإسقاط العقيدة" و"تمجيد الذات الفردانية "... الخ . بينما يجتاز صديقنا الباحث في الفكر الفلسفي المغربي حسن اوزال هذه الفرضيات الإبدالية، إلى أقصى درجات التأمل.. شأنه في ذلك، شأن انتشاله اليقظ والمتدور لفعل العقل والسيرورة، وعلاقتهما بمحنة الوجود ومآلية الجسد والروح ..

قراءتي المبدئية لهذه الإضاءة المبرومة لتحولات الفكر واستعاراته الجديدة، في خضم الفورة التي استبصرتها نتوءات العقل الانساني وتداعياته في سيرورة الحياة وما بعدها، يثير فينا فضول البحث المتواصل عن أسئلة الكينونة والمعنى، وموقف العقل الباطن إزاءهما..

ما الذي يريده سبونفيل من خلال مكاشفاته المترنحة في "تأملات الفلسفة"؟، ومن خلال ذلك، البحث المستعاض به عن التأمل بالقياسات الفلسفية الأخرى، التي يواجه بها الباحث حسن اوزال المبضع الذي يجتبيه صاحب الكتاب وهو يرتق كنه التفكير بالمآل، بما هو انشغال بالآخر، وبالفردانية السيئة ..

هي إذن "فلسفة مضادة"، قريبة من البناء الذي يوحد فكرة الشمول والاتقان، لكن، دون تجاوز العقل ..

في كتابه الغرائبي "لست فيلسوفا"، يشيح سبونفيل عن توجهه الفكري، حيث يبتعد تماما عن خطابية الفلسفة الاستدلالية، متمنطقا بروح جديدة وفضاء استعاري متوثب، يكافح من أجل "تطويع الحياة، وجعل أساليب ممارستها مليئة بالوهج والانتشار المستجيب للسعادة". 

يحاور سبونفيل مركزية الفلسفة الكلاسيكية، مستعيدا بذلك شرائطها المكرورة في استكناه محورية الوجود وأقدميته في الوجود والسيرورة. وهو إذ يفعل ذلك، فإنما ليعيد تفكيك نظرية الخالق والمخلوق، ويثير مشكلة علاقة الفلسفة بالغيبيات. ما يفسر مذهبيته في تقييد مفازة الإلحاد، وتمطيطه ليصير" وسيلة للتواضع. إنه أن نفكر في أنفسنا على أنه حيوان، كما نحن بالفعل وأن نسمح لنفسه بأن يصبح إنساناا.

لا يعني ذلك تماما، أن مبدئية الحياة والموت، تنتهي بالإغراء الفكري بممارسة العدم، فقد استوجبت الحياة عنده شيئا من الفناء، ربما لاجتراح متاهة غامضة، أو مكاشفة لأسرار كونية بالغة التعقيد.

وقد واجه سبونفيل هذه القطيعة الفلسفية، باستنباطه المتعب لماهية الموت وسط جحيم الحياة، قائلا:

"في  كل لحظة في حياتنا تتميز بالموت، مثل الظل من عالم آخر، يبدو لنا وكأنه نقطة تلاشي لكل شيء. كيف يمكن للمرء أن يتأمل في الحياة دون التأمل أيضًا في قصرها وهشاشتهاا؟"

أليس حريا بهذا الإذعان الطوعي للفرح بالحياة ومجابهة الفناء، أن يستميل عقلا يؤمن بوعاء التفلسف حوضا جامعا للفعل التحرري والرفض القاطع للتبعية والسلطة، والاصغاء العميق للحياة، منتفضا على الدوام في وجه الردة والجمود والسلبية، حيث البحث عن سعادة العيش، بما هي فن وإبداع فلسفي واع بالزمن والسيرورة والاقتدارية؟.

في كتاب "تأملات فلسفية" لا يخرج المفكر الفرنسي المعاصر أندريه كونت – سبونفيل، عن قاعدة أسلافه ممن تقصدوا تدوير أهم قضايا الفلسفة الكلاسيكية المحايثة للنصوص التي تكرس للمواضعات المفهومية المعروفة في المتن الفلسفي القديم، كالحرية والسعادة والذات والمدينة والسياسة والأخلاق وقيم المعرفة والعلاقات الإنسانية والعيش المشترك.. إلخ، وهو بذلك يكسر أطواق مجايليه ممن راكموا تجربة فلسفية معاصرة رائدة، كآلان فينكلكروت، وجوليا كريستيفا، ودانيال تشارلز، وجورج غوستورف، وإدغار موران، وغابريل مارسيل.. وغيرهم كثير.

هل يعني ذلك أن الاقتراب من التفكير في دهاليز سبونفيل السادرة والمحلحلة لمنظومة الفلسفة، بما هي ممارسة للتساؤلات اللاعقلانية، المتسيدة والخارجة عن الوعي بالمعرفة العلمية أو العقائد الدوغمائية؟، سيغير من علاقة تأسيس النص الفلسفي المتجدد والواعي بشكل ومنطق الزمان والسيرورة وتكييفاتها المتاخمة للأنماط والسلوكات؟ أم أن القدرة على فك الارتباط بكل ذلك وغيره، هو مبغى العالم ومستقبل التفكير الحقيقي؟.

***

د. مصْطَفَى غَلْمَان

في المقدمة النقدية لدراسة الكاتب والناقد منصف الوهايبي عن الشاعر المجدد المعاصر اللبناني شوقي بزيع (1) ان جيل ديلوز يميز بين ثلاثة انماط من الخطاب اللغوي المعرفي، حيث الخطاب الفلسفي معقود على التوسل ب (المفهوم)، فيما الخطاب الفني معقود على التوّسل بفعل (الادراك)، اما الخطاب الديني فمعقود على (الانفعال والوجدان) .

ويضيف: ان الذات الرومانطيقية انما هي ذات انفعالية لذلك يمكن اعتبار الادب الرومانطيقي اقرب الى (الديانة) مستدركا انه يجازف بهذا الرأي ولا يدّعي له الوجاهة حتى يتم اختباره والقطع بصحته .

وبرأيه ايضا: ان الذات في فضاء الشعر ادراكية، ومسألة الذاتية تظل شرط امكان المشاركة في (كونية الشعر) والكونية التي يقصدها نطاقها وساحتها الطبيعة البشرية المأهولة –كوكب الارض . وهي كونية محدودة عالميا وليست فضاءا غير منته غير محدودSpace .

والكونية مقصود بها مراد منها مشاركة الذات الشعرية، و هي نقيض / ضد العولمة بمفهومها الايديولوجي السياسي والتاريخ الفلسفي المعاصر الدارج، بدليل قوله: (الكونية أفق محدود يجدر الانسان الانخراط به، فهي لاتلغي الاختلاف والتعدد، بل تسعى ادماجهما في سياق التناغم ....) بينما العولمة بتعبير الوهايبي (على نحو ما يصرفها أهلها، أهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط، ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها وأفنت مصائرها من أجل أغناء تنوعها وتطوير اختلافها وخلافها ايضا ...)

لنا مداخلة بضوء التوطئة التي مررنا يها: مايتعلق بالشعر

اشارة الوهايبي لتيارالرومانتيكية في الادب والفن التي كانت بدايات ظهورها في المانيا القرن التاسع عشر، نوفاليس، شيلينغ، فريدريك شليغل، التي دعت اضافة الى الهيام الرومانسي الحالم في تمجيدها الحب، والتفاني بحب الحياة وعظمة الطبيعة، والمناجاة الشعرية في الليالي الهائمة في العشق، والتغني بالغريزة الجنسية والخيال.. ومصير الانسان الفاجع في الموت — معظم الشعراء والادباء الرومانتيكيين ماتوا في عنفوان شبابهم - واضافة الى ما طبع نتاجهم الرومانتيكي، فقد كانوا دعاة الغاء الفروقات الفنية والاسلوبية الجمالية التي تميزالاجناس الادبية وأكثر من هذا، كانوا دعاة الغاء الفروقات اللغوية الفنية المتواضع عليها ادبيا في تمييز الشعر عن النثر.

يمكننا القول ان وحدة الاجناس الأدبية ارساها الرومانسيون قبل أربعة قرون او اكثر على ظهور الدراسات اللغوية اللسانية التي بشرت بذلك وهي لم تات بجديد. من هنا يمكننا التساؤل هل كانت اشارة الوهايبي للرومانتيكية هدفها ربط تعالق الشعر بالدين بحسب اجتهاده التنظيري، أم كانت تمهيدا مقصودا في دراسة الشاعر، الذي لاعلاقة لشعره بالرومانتيكية؟. كما أجد في تعالق الدين بالشعر له اشارات في موروثنا العربي تفيد ان العرب في الجاهلية قبل الاسلام كانوا يقدّسون الشعر وينشدونه على قبور موتاهم تراتيل جنائزية.

لا أعطي نفسي حق مجاراة الناقد منصف الوهايبي في دراسته القيّمة عن الشاعر المجدد اللبناني شوقي بزيع، لكن انطباعي من مطالعتي بعض قصائد الشاعر المنشورة على صفحات مجلة الاداب اللبنانية، انه يمتلك خصوصية لغوية شعرية بين كبار مجايليه من الشعراء المجددين، في عبارته الشعرية القصيرة المعبرة عن دلالة وجدانبة منفتحة، انها لا تتخلى عن الغنائية تماما وحسب بل تذهب الى أعدام الايقاع الداخلي كلية في ترابط المفردات الشعرية لدرجة الالتقاء بالنثر الرمزي الملغّز والمقتصد حد التكثيف، فتكون العبارة الشعرية عنده كباقي معظم شعراء جيله، عصّية على التلقي والفهم، كما ان العبارة تعطي معناها الحدسي في تضادها اللغوي اي الوجود في مغايرة ثنائية طرفيها .

وقام الناقد الوهايبي باضاءة جوانب شعرية الشاعر شوقي بزيع باقتدار متمّكن يحسب له. ومع تحفظنا الشديد في تكرار ماقيل كثيرا في الخطاب النقدي الشعري، من أن نصوص الحداثة باتت لاتضع نصب اهتمامها متاعب وهموم ايصال (معنى) للمتلقي -- هذا التوجه على قدر اهميته من الناحية الجمالية الفنية اللغوية الصرف، الا انه بات مشكلة لا يستهان بخطورتها على مستقبل الشعرية العربية، وانحسارمتلقي الشعر، اذ تشير احدى الاحصائيات الى ان من بين 300 مليون عربي لا يقرأون الشعر و يتابعونه اكثر من مائة الف قارىء فقط --، على كل حال هذا ليس موضوعنا و يحتاج دراسة معمّقة بضوء النظريات اللغوية المعاصرة، في ثنائية النص - المتلقي بحسب نظرية رولان بارت (موت المؤلف). ومقاربات جيل ديلوز حول موضوع التلقي والاستقبال.

ان سعي الشعر الحديث المعاصر في توخي تواصله تحقيق تجاوب انفعالي يستوقف المتلقي حتى وان جاءت العبارة الشعرية في ومضات لغوية اشارية، الذي يصل حد الصدمة في غرابته في ملفوظ القول ومكتوبه في النص الشعري .(لا يدخل في هذا القول، شعر العمود ولا الشعر الشعبي).

- الشعر الذي هو بؤرة مركزية في الاجناس الادبية، يتأرجح فيه المتلقي حسب مقدمة الناقد الوهايبي، وفي مرجعيته التي أعتمدها عن جيل ديلوز ان الخطاب اللغوي بأجناسه الثلاثة، الفلسفي الذي يتوّسل المفهوم في التلقي، والخطاب الديني الذي يتوسل الانفعال الوجداني، والخطاب الفني الذي يتوسل الادراك، يكون الشعر الذي هوضرب من الفن في تعالقه مع الخطاب الديني، متأرجحاً في الجمع بين الفهم الادراكي، والتلقي الانفعالي الوجداني، اذا ما أخذنا صحة فرضية الوهايبي، ان الشعر الرومانتيكي يقترب من الفعالية الدينية ويتعشّق معها بمشترك الخطاب اللغوي.

هذا التعالق بين خطابي الدين والشعر ضمن استقلالية بنائية كل خطاب منفردا لوحده، يتوسطهما الشعر في فعالية (التلقي) بين المنحيين، و تكون الذات المستقبلة للشعر ادراكية وجدانية معاً.

- يشترط الناقد الوهايبي ان يكون شرط الذات المبدعة – ذات الشاعر- المشاركة الفاعلة في (كونية الشعر) اي عالميتهِ المنفتحة على أفق بشري محدود غير فضائي، وليس عولمة الشعر بالمفهوم الايديولوجي السياسي الشمولي السائد في سحب مؤثرات واهداف العولمة، ان كانت هذه التقديرات والمخاوف في محلها، على روافد الحضارة الانسانية من ثقافات وفنون الامم و الشعوب قاطبةً... هذه المخاوف التي ترى ان للعولمة مجالات استهداف اخرى غير السياسة والاقتصاد والتكنولوجييا والمعلوماتية والاتصالات، ليصل الدمج والهضم والتذويب الى مجالات الهويات والثقافات والفنون والمعارف وروافد الحضارة الاخرى المتنوعة في مصاهر العولمة!! وكونية الشعر، او بالمعنى الاشمل كونية الاداب والفنون والافكار و المعارف و الفلسفات، لن تكون ضريبة عالميتها بالضرورة في اللقاء مع العولمة، بالتبعية والصهر والاذابة بالصبغة الاحادية، فهذا برأينا من الصعوبة بمكان كون جميع تلك الفعاليات الثقافية والمعرفية والحضارية محصّنة ذاتياً بخصوصيات مشروطة تتأبى على مصهر العولمة تذويبها تكوينيا!! ولاتخضع هذه المجالات في ملامحها الفنية الخاصة، كما يتجلى في مخاوف البعض امكانية ان تفعل العولمة مع الاداب والفنون والمعارف ما تفعله في الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا. أن التنوع الثقافي والادبي والفني والحضاري سماته التمايز والتعدد النوعي بتعدد امم وشعوب العالم، ولن يكون من اليسير السهل صهر وتبعية ذلك التنوع عولميا في مركزية احادية، مهما كانت ادوات ووسائل ايديولوجيا العولمة نافذة فاعلة في مجالات قاطعة اخرى أسهل من مجالات روافد الحضارة وأكثر طواعية في التبعية والاندماج الاحادي الذي لم يثبت لحد الان تطبيقات ميدانية له له . لذا لاخوف على عالمية الحضارة الثقافية وكونيتها من عولمة القطب الواحد.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

ما بعد الحداثة.. هل هي الحرية المطلقة أم المسؤولية الفردية؟

في عام 1967 أسس فنان البوب الأمريكي "آندي وارهول" شركة للنشر المطبوع، ومن خلالها نشر سلسلة من عشرة حافظات مطبوعة بالشاشة الحريرية حول موضوعات حملت توقيعه. كانت صور مارلين مونرو هي المشروع الأول. وكلها تُظهر نفس الصورة لنجمة السينما مارلين مونرو في الخمسينيات من القرن الماضي. واحدة حملت الصورة الفوتوغرافية، وبقية الصور مختلفة عم بعضها بدرجات متباينة من الألوان. بعضها برّاق، وبالآخر باهت.

حول التكرار قال وارهول: "كلما نظرت إلى نفس الشيء بالضبط، كلما تلاشى المعنى، وكلما شعرت بشكل أفضل، ولكن أكثر فراغًا".

تعد النسخ العشر لمارلين مونرو التي رسمها التشكيلي وارهول مثالاً على تمرد ما بعد الحداثة ضد السلطات والأيديولوجيات وفكرة التقدم الحديث.

ما بعد الحداثة هو التمرد على السلطات والأيديولوجيات وفكرة التقدم الحديث. إنه الانقسام وليس الكمال، غير المكتمل وليس الكامل، والنسبي وليس المطلق. إنه بريق ومكياج "ديفيد بوي" وألغاز "بول أوستر" البوليسية بدون إجابات واضحة، ونسخ "آندي وارهول" العشر لمارلين مونرو. تتجنب ما بعد الحداثة وجود الأصيل والصادق والنقي، وبدلاً من ذلك تزرع النسخ والسخرية والهجين.

ما بعد الحداثة سلس مثل ثعبان البحر وقد أعطى القليل منهم تعريفًا واضحًا للمصطلح. يعتقد البعض أن ما بعد الحداثة هو فصل قد اكتمل، والبعض الآخر يعتقد أننا ما زلنا فيه، ومن ثم هناك من يعتقد أنه لم يكن موجودًا وأن ما نسميه ما بعد الحداثة هو مجرد بديل للحديث.

بعد أن نشر الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" "معرفة مجتمع ما بعد الحداثة" في عام 1979 بدأ الناس يتحدثون بجدية عما بعد الحداثة في الثمانينيات.

ما هو ما بعد الحداثة؟

"Post" هو المصطلح اللاتيني لـ "بعد" وبالتالي فإن ما بعد الحداثة postmodern تعني حرفياً "ما بعد الحداثة". تتميز ما بعد الحداثة بحقيقة أننا انتقلنا من مختلف الأيديولوجيات والمذاهب التي تميز المجتمع الحديث، خاصة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل: التصنيع، والقومية، والشيوعية، والاستعمار، وما إلى ذلك، بحيث تصبح متشككا.

هذا هو السبب في أن "ألان ماكفارلين" الأستاذ البريطاني للأنثروبولوجيا والتاريخ، يسمي أيضًا ما بعد الحداثة "عالمًا بلا رؤية للعالم". في عالم ما بعد الحداثة  لم يعد الفرد ينمو بالضرورة ويأخذ نظرة العالم من والديه أو طبقته الاجتماعية أو الدولة، ولكنه يقرر بنفسه كيف يريد أن يعبر عن نفسه، لأن تعبيرنا يساوي الهوية. بعبارة أخرى، فإن الفرد ما بعد الحداثي هو مؤلفه الخاص ويمكنه كتابة حياته وهويته عبر الطبقة الاجتماعية، والعرق، والحدود الوطنية، والتاريخ، والتقاليد، والأسرة، وما إلى ذلك. لذلك يُطلق على ما بعد الحداثة أيضًا اسم عصر الفردية، لأنه فيما بعد الحداثة يقوم الفرد نفسه ببناء عالمه.

بدأت مناقشة ما بعد الحداثة بجدية في الثمانينيات، بعد أن نشر الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" "المعرفة ومجتمع ما بعد الحداثة" عام 1979، وغالبًا ما يشار إلى هذا العمل لشرح ما يدور حول ما بعد الحداثة. بدلاً من النظرة العالمية  يستخدم ليوتار مصطلح "ما وراء السرد" أو "السرد الكبير"، وهو النظرة العالمية أو إطار الفهم الذي ينظم الطريقة التي ندرك بها العالم. وبعبارة أخرى إن السرد الكبير يعطينا زوجًا من النظارات التي تلون نظرتنا إلى العالم. السرد الكبير ـ على سبيل المثال ـ هو سرد العلم مما يجعل العالم بطلاً، لأنه قادر على شرح العالم والتحكم فيه من خلال العقلانية.

هذا هو الشيء العظيم. وهكذا يخلق السرد صورة للعلم الطبيعي باعتباره الطريق إلى الحقيقة المطلقة حول العالم. في مجتمع ما بعد الحداثة تحول الإيمان بالسرد الكبير إلى شك: لا توجد حقيقة واحدة حول العالم، ولكن هناك العديد من الحقائق المختلفة مثل الناس.

في استعراضه لنظرية ما بعد الحداثة ليوتارد والمجتمع ما بعد الحداثي" يشير "نيلز بروجر" إلى أن ليوتار أعاد تعريف ما بعد الحداثة لاحقًا ليس فقط كحقبة - أي فترة في التاريخ - بعد الحداثة، ولكن أيضًا للدلالة على طريقة حاسمة لفهم العالم الحديث. بدلاً من أن تكون فترة زمنية بعد الحداثة، فإن ما بعد الحداثة أقرب إلى موقف نقدي داخل العصر الحديث.

ما هي ما بعد الحداثة؟

باستخدام "ما بعد الحداثة" يشير المرء إلى الحالة الاجتماعية الشاملة، والتي تشمل الأنماط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بينما يشير استخدام "ما بعد الحداثة" إلى التيارات في الأدب والفن والعمارة.

غالبًا ما يتم استخدام مصطلح ما بعد الحداثة بدلاً عن التجديد، قد يكون هذا مرتبطًا بحقيقة أن الناس في العلوم الاجتماعية قد تحولوا إلى حد كبير إلى الحديث عن "الحداثة المتأخرة" بدلاً من "ما بعد الحداثة" في وصف مجتمعنا ما بعد الصناعي اليوم.

كيف تختلف ما بعد الحداثة عن الحداثة؟

وصف عالم الاجتماع البولندي البريطاني "زيجمونت باومان" ما بعد الحداثة بأنها عالم حديث نشأ وخاب أمله. حيث تتميز الحداثة بالوحدة، تتميز ما بعد الحداثة بالتشرذم والتناقضات. إذا تخيل المرء أن الحديث هو محاولة لبناء برج بابل - أي فكرة وجود حقيقة عالمية ولغة واحدة توحد البشرية - فإن ما بعد الحداثة من ناحية أخرى هي فكرة أن برج بابل هذا سقط على الارض. إن فكرة الحديث مجرد وهم محطم يعد برج بابل. وفقًا لتعريف ليوتارد لما بعد الحداثة أنها سردًا كبيرًا فقد فجأة جاذبيته وشرعيته.

يمكنك أيضًا تفسير العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة كطريقتين مختلفتين للسفر: إذا كنت تفكر في الحياة الحديثة على أنها رحلة نحو هدف ثابت - فكلما اقتربت من برج بابل كلما اقتربت من الحقيقة العالمية. وفقًا لـ "زيجمونت بومان" فإن الوجود ما بعد الحداثي هو رحلة لا نهاية لها، وتجول دون هدف ثابت. الواقع متغير ومشتت ومعقد بدون معايير موضوعية لماهية الحياة الجيدة، وبالتالي فإن الأمر متروك للفرد أن يثق في حكمه ويختار طريقه.

الخلفية والتوضيح

فكرة ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية. حركة في العلوم الإنسانية والفلسفة في الستينيات مع شخصيات مشهورة مثل الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو".

متى نشأ مفهوم ما بعد الحداثة؟

بدأ المصطلح في الازدهار بالفعل في الجامعات الأمريكية في الخمسينيات - خاصة في جامعة كولومبيا في نيويورك - في محاولة لوصف المجتمع ما بعد الصناعي. استخدم عالم الاجتماع "تشارلز رايت ميلز" هذا المصطلح في سلسلة من المحاضرات في الخمسينيات من القرن الماضي، في كلية الأعمال في كوبنهاغن وأماكن أخرى كمصطلح للتمرد ضد الحداثة والكلية - أي مفهوم الوحدة.

في عام 1960 استخدم الأستاذ بجامعة هارفارد "هاري ليفين" المصطلح في مقال بعنوان "ما هي الحداثة" وبالتالي أشار إلى أنه يرى الحداثة على أنها فصل نهائي. لقد دخل العالم الآن في حالة ما بعد الحداثة. يظهر هذا من مقال حول المفهوم الذي كتبه "هانز هوج" المحاضر في علم الجمال والتواصل في جامعة آرهوس الدنمركية.

ولكن مع نشر "المعرفة ومجتمع ما بعد الحداثة" للفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" في عام 1979 بدأ الناس يتحدثون حقًا عما بعد الحداثة. ومنذ ذلك الحين أصبح تعريف ليوتارد مركزيًا: الشك تجاه الروايات الكبرى.

وفقًا لـيوتارد أنه في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، دخل المجتمع الغربي عصر ما بعد الحداثة حيث تغير المجتمع من كونه صناعيًا إلى ما بعد صناعي. يتميز مجتمع ما بعد الصناعة على نطاق واسع باقتصاد تجاري تحول من الإنتاج الصناعي إلى كونه أكثر تركيزًا حول الخدمات والتجارة، بما في ذلك تداول الأسهم. من وجهة نظر ليوتارد إنها علامة على أن الليبرالية قد انتصرت على المذاهب الأخرى، ودخلت مرحلة جديدة حيث الاقتصاد الاجتماعي هو أكثر من الاستهلاك من الإنتاج.

يعتبر مفهوم ما بعد الحداثة بين المثقفين اليوم كلمة طنانة تنتمي بشكل خاص إلى الثمانينيات والتسعينيات. وهكذا استخدم عالم الاجتماع "زيجمونت باومان" مصطلح ما بعد الحداثة في العديد من أعماله، ولكن في سنواته الأخيرة استبدلها بمصطلح "الحداثة السائلة"، تمامًا كما استخدم المثقفون الآخرون بالفعل في الثمانينيات مصطلح "الحداثة المتأخرة" فيما يتعلق بوصف الحالة المجتمعية.

ما هي الخلفية النظرية لما بعد الحداثة؟

فكرة ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية. كانت ما بعد البنيوية حركة في العلوم الإنسانية والفلسفة  خاصة في فرنسا في الستينيات مع شخصيات مشهورة مثل "جاك دريدا" و"ميشيل فوكو" و"رولان بارت ". تخلصت من الفكرة البنيوية القائلة بأن الهياكل الاجتماعية والنفسية واللغوية التي تسيطر بشكل غير مرئي الأفراد وتربطهم معًا في مجتمع  مستقرون وثابتون. مع ليوتارد يمكنك القول إن البنيوية هي فكرة أن هناك سردًا رائعًا لهيكله تتدخل أفكارنا في سلوكنا، وبالتالي تعمل كإطار عمل مشترك للفهم.

فيما يتعلق بهذا التعريف للبنيوية، فإن ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية، لأن فضاء الفكر ما بعد الحداثي محدد بدقة من خلال التشكك في جميع المطلق والمبادئ العالمية أو الروايات الكبرى التي تساعدنا في فك تشفير العالم. وفقًا لما بعد الحداثيين لا يمكننا - كما اعتقد البنيويون - الكشف عن حقيقة الوجود البشري بعقلنا، لأنه حتى فكرة الخير والحقيقة والواقعية والمعنى يتم بناؤها وبالتالي هي غير مستقرة.

التفكيك هو مصطلح آخر وثيق الصلة بما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. كان الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هو الذي استخدم الكلمة في الستينيات لوصف وكشف الأنظمة الثنائية في لغتنا التي تبني أفكارنا والتي هي متأصلة جدًا لدرجة أننا لم نعد نشكك فيها، على سبيل المثال الروح والمادة، ذكر وأنثى، داخلي وخارجي، معنى وعلامة إلخ.

الأنظمة الثنائية هي تسلسل هرمي للسلطة حيث يكون المصطلح الأول هو السائد. وفقًا لمقدمة "هانز هايج" للتفكيك في "مناهج الأدب" فإن التفكيك لا يعني التدمير ولا البناء، ولكنه يشير بدلاً من ذلك إلى مواجهة مع التسلسلات الهرمية للسلطة في لغتنا. المواجهة ليست ببساطة عن طريق عكس المصطلحين، لأنك ستحصل ببساطة على تسلسل هرمي جديد للسلطة، ولكن من خلال اتخاذ موقف نقدي واستجواب تجاه النظام. على سبيل المثال العلاقة بين الرجل والمرأة في نظرية الكوير.

في عام 1990 كتبت المؤيدة الأمريكية لما بعد البنيوية والنسوية "جوديث بتلر" كتاب "مشكلة بين الجنسين" حيث انتقدت الحركة النسوية لإدامة المعارضة بين الرجال والنساء من خلال رؤية الجنس البيولوجي على أنه نقطة البداية للهوية الأنثوية. وفقًا لجوديث بتلر لا ينبغي تصنيف الرجال والنساء فيما يتعلق بجنسهم البيولوجي على الإطلاق، لأنه يجبرهم تلقائيًا على هوية جنسية معينة.

ما الذي يميز الفرد والمجتمع ما بعد الحداثي؟

كتب الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" عن الفرد في مجتمع ما بعد الحداثة مشيرًا إلى أن الفرد ما بعد الحداثي يجب أن يبني هويته الخاصة: "الجميع متروك لنفسه". عندما لا يكون هناك أي سرد كبير للعالم يمكن للمرء أن يتولى زمام الأمور. عندما لا يؤمن المرء بسلطة أو أيديولوجية، عندما لا يكون هناك نموذج يحتذى به يطمح إليه، يجب على المرء أن يبدأ في إنشاء عالمه الخاص وهويته الخاصة.

وفقًا لـ "آلان ماكفارلين" فإن ما بعد الحداثة هو تقويض كل السلطات - الآباء والمعلمين والخبراء والسياسيين والسلطات الدينية - وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الفرد ما بعد الحداثي يصبح مؤلف ذاته يكتب روايته الخاصة، ولكن أيضًا " يعتني بالأطباق المختلفة". بعبارة أخرى، يستعير الفرد ما بعد الحداثي ويبتكر هويته. يكتب ليوتارد عن هذا أن الفرد موجود في عقد مختلفة في شبكة من العلاقات. لم يعد هو أو هي بالضرورة مخلصًا لفئته، أو لهويته الوطنية، أو عائلته، أو لجنسه.

كتبت المنظرة الأدبية الأمريكية "جوديث بتلر" في عام 1990 كتاباً بعنوان "مشكلة الجندر" حيث تخلصت من فكرة وجود هوية تبدأ من الجنس البيولوجي. الجنس هو ما نقوم به - يجعلنا - لا علاقة له أبدًا ببيولوجيتنا.

وبالتالي فإن هوية الفرد ما بعد الحداثي ليست بالضرورة متجذرة بقوة في مجتمع ثابت أو يتعلق بمبدأ ثابت. يمكن القول إن وجود ما بعد الحداثة مجزأ وعابر وليس وحدة ثابتة. إن معرفتنا بالعالم الآن لا تأتي فقط من الراديو والصحف، ولكن أيضًا من القنوات التي لا تعد ولا تحصى لوسائل الإعلام التلفزيونية، وفي السنوات الأخيرة أيضًا من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا تكون فقط متلقيًا للمعلومات، ولكن أيضًا أنت بنفسك جزءً من إنتاجه.

في حين أن القصة الإيجابية لما بعد الحداثة هي أنه يمكن للفرد أن يعتني بنفسه بحرية من تقلب الحياة، فإن الجانب المظلم لما بعد الحداثة على العكس من ذلك، هو أيضًا النسبية الساحقة والعدمية، التي تذيب كل القيم والتهدد بلا معنى.

من ناحية أخرى، تعد ما بعد الحداثة تمجيدًا للحرية المطلقة للفرد، ومن ناحية أخرى تعني المسؤولية الفردية عن خلق حياة المرء الخاصة، والتي قد تبدو بالنسبة للبعض غير قابلة للإدارة. بعبارة أخرى، يمكن أن يكون ما بعد الحداثة عبئًا قد يبدو ساحقًا على الفرد.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

كان السوفسطائيون في الأصل حركة فكرية ضمت في صفوفها فلاسفة ومعلمين في اليونان القديمة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. كانوا متخصصين في واحد او أكثر من الموضوعات مثل الفلسفة، البلاغة، الموسيقى، الرياضيات. هم علّموا الفضيلة للشباب من رجال الدولة والنبلاء.

اعتقد السوفسطائيون بكمال الانسان، فجعلوا الانسان مقياسا لكل شيء. هم نشروا النسبية الأخلاقية والمعرفية، ذلك ان ما هو جيد ومفيد لأحد ربما هو شرّير ومؤذي للآخر. تعاليمهم تقضي بان لا وجود للأشياء. بالنسبة لهم الدين اختراع خادع من جانب الأقوياء للسيطرة على الضعفاء. هم شككوا بقيمة وبإمكانية المعرفة، وبدأوا بشك فلسفي متكامل. بدلا من التركيز على الحقيقة، هم كانوا اكثر اهتماما بالفوز في الجدال ضد المخالفين ومهما كلّف الثمن. هؤلاء السوفسطائيون كانوا فخورين في قدرتهم على تحويل الحجة الأضعف الى حجة أقوى. اعتمدوا على طريقتهم المقنعة والمضللة المرتكزة على المنطق والبلاغة وعلوم اللغة في إفحام الخصم وكسب الجدال. كان بإمكانهم مناصرة أي جانب يحقق مصالحهم او يدفع لهم الكثير.

حاليا، تشير كلمة سوفسطائي الى شخص ما يحاجج بشكل متعمد مستعملا حججا خاطئة او مضللة لكي يضلل الآخرين. بروتوغوراس كان من أبرز السوفسطائين القدماء، هو علّم التلاميذ فن المحاججة من كلا وجهتي النظر لأنه اعتقد ان الحقيقة لا تقتصر على جانب واحد من النقاش. هو القائل "الانسان هو مقياس كل شيء".

موقف افلاطون من السوفسطائيين

هاجم افلاطون السوفسطائيين بشدة لأنهم كانوا مهتمين بجمع الثروة والشهرة والمكانة الاجتماعية العالية. لاحظ افلاطون ان السوفسطائئن ليسوا فلاسفة. هو ادّعى ان السوفسطائيين يبيعون تعليما خاطئا للناس الأثرياء. هو وصفهم بـ "صيادو الشباب والنقود"، و"تجار المعرفة الزائفة" و"خبراء في رياضة الكلمات". كانت طريقة التعليم التي اعتمدها السوفسطائيون في اثينا في تضاد مع مدرسة افلاطون الفكرية. طبقا لحجج افلاطون، السوفسطائون لم يعلّموا "المعرفة الحقيقية" لأن اهتمامهم لم يكن حول بناء معرفة او المشاركة بها مع الآخرين. بدلا من ذلك، هم ارادوا ملأ صفوفهم بالطلاب الأغنياء لجمع النقود. تعليمهم كان مرتكزا على "آراء في الأشياء". افلاطون اعتبر هذه الطريقة بلاغية وليست فلسفية. طبقا لافلاطون ان السوفسطائيين ارادوا ان يجعلوا طلابهم يؤمنون بالرآي العام بدلا من تزويدهم بالمعرفة. تعليم البلاغة من جانب السوفسطائيين كان في تصادم مع فلسفة افلاطون. هذه القضية شكّلت الأساس في كراهية افلاطون للسوفسطائيين. رؤية افلاطون كانت ان البلاغة لها امكانية خلق كل من "الخير والأذى". هو اعتبر ان هناك مسؤولية أخلاقية. الأخلاق هي المظهر الأهم والأساسي في الحياة. الأخلاق هي خير كوني يجب ان يكتشفه الانسان من خلال اللغة. ارتكز نقد افلاطون للسوفسطائيين على ثلاثة اسئلة:

1- هو تسائل عن هوية البلاغة.

2- جادل ان البلاغة تضلل المجتمع لأنها لا ترتكز على المعرفة.

3- هو اعتقد ان أخلاق المجتمع تحطمت بالقناعات التي صنعها السوفسطائيون.

لمعالجة تلك الأسئلة، لاحظ افلاطون ان السوفسطائيين كانوا يستعملون اتجاها بلاغيا بدلا من الفلسفة، ولذلك هم فشلوا في توفير رؤية كافية وحقيقية للعدالة. فمثلا، السوفسطائيون علّموا الناس الـ "Doxa" او (الرأي العام والسمعة حول الناس والاشياء). غير ان الرأي العام يرتكز على الإقناع. وهكذا، كان هدف السوفسطائيين الإقناع بدلا من العثور على العدالة.

ثانيا، السوفسطائيون فشلوا في تطبيق المعرفة الحقيقية (episteme). جل اهتمامهم كان اقناع طلابهم بالإرتكاز على الرأي العام، ولهذا فشلوا في اكتشاف الحقيقة الإبستمية التي توفق بين القانون والعدالة. يمكن القول ان الفرد لايمكنه استعمال الرأي العام لتوفير العدالة. بدلا من ذلك، المعرفة يجب ان تُستعمل لتوفير العدالة.

كذلك افلاطون كره السوفسطائيين لانهم ادّعوا انهم يعلّمون العدالة بينما هم لا تتوفر لديهم المعرفة المطلوبة للتعليم. طبقا لإفلاطون ان العدالة هي معرفة، تتحقق فقط عبر التفاني والدراسة الشاملة. اكتشاف العدالة يتطلب استخدام فضائل وتفكير عميق . هو أعلن ان السوفسطائيين لم يهتموا بهذا المظهر للعدالة. بدلا من ذلك هم فبركوا أشياءً تُعرف بـ "kairos" وهي (تعريفات ملائمة نسبيا للسياق). ايضا انتقد افلاطون الفن البلاغي للسوفسطائيين. هذا الفن كان بمثابة "knacks" (طريقة ماهرة للعمل) بدلا من ان يكون فنا حقيقيا. الفنان السوفسطائي طبّق وعلّم مهارات وُجدت في الطبيعة وليست معرفة فنية مرتكزة على البحث.

السوفسطائية الحديثة

بعض المفكرين الحديثين رفضوا إدانة افلاطون للسوفسطائيين، واعتبروهم كثوريين طموحين. هنا يبرز السؤال ماذا يمكن ان يقدم السوفسطائيون للتعليم وللخطاب في القرن الواحد والعشرين؟ وهل السوفسطائيون هم حقا الشعار القديم لما بعد الحقيقة post truth (الموقف الذي يقبل فيه الناس الحجة وفقا لعواطفهم وعقائدهم وليس على اساس الحقيقة)؟ ومع ان السوفسطائيين لم يدّعوا الحقيقة لكن السياسيين من الشعبويين المعاصرين مثل الرئيس الامريكي السابق ترامب كان مهوساً في الحقيقة، وحتى أطلق على منصته الاجتماعية اسم "الحقيقة الاجتماعية" Truth social". ترامب طوال حملته الانتخابية رفض استخدام وسائل الاتصال الحديثة لنقل آراء الناس في محاولة لخلق انطباع بانه ناقل للحقيقة. الحقيقة كانت صفة مركزية في بلاغة ترامب. كانت لدى ترامب ثقة مطلقة وحصرية في الوصول الى الحقيقة. بالنسبة له، يرى نفسه هو المقياس الوحيد لكل الاشياء. عبارة "الحقائق البديلة" التي ظهرت لأول مرة في ادارة ترامب قد تبدو وبشكل مضلل أشبه بالطريقة السوفسطائية التي تسمح بادّعائين متعارضين اثنين ليظهرا في كل موقف. العبارة استُخدمت لتبرير البيانات الزائفة التي وفرها سكرتير البيت الابيض للاعلام Sean Spicer حول عدد الحاضرين في الحفل الافتتاحي لترامب. الفكرة جرى نقدها لأنها شكّلت تحديا خطيرا وسخيفا للحقيقة. الحقائق العددية لا جدال فيها، واذا أمكن التحقق منها فلايمكن ان تكون هناك بدائل. هذا الخطاب للحقائق البديلة والأخبار الزائفة هو في تضاد مع الممارسة السوفسطائية للحجج المتعارضة. اذا كان السوفسطائيون رغبوا في إثارة الانتباه لضرورة وجود ادّعاءات متنافسة في الديمقراطية، فان ترامب قدّم موقفا احاديا فيه مكان واحد فقط لحقيقة واحدة – حقيقته هو.

هناك من رفض الخلط بين السوفسطائية والكذب، فهي ليست لها علاقة بـ "الحقائق البديلة"، وان ترامب وأشباهه ليسوا سوفسطائيين. السوفسطائيون الأصليون الحقيقيون مقابل الديماغوجيين، كانوا بعيدين عن ترسيخ ثقافة الخداع والإستغلال. في الحقيقة، هم استخدموا أساليب يمكن ان تساعدنا في التعامل مع الحقائق المتنافسة في عصر المعلومات الذي يسعى فيه مزيد من الناس الى إسماع أصواتهم للعامة. تلك الطرق لم يُقصد بها إستبدال التحقق من الحقائق (fact-checkng)، انها تساعد في فحص معقولية الحجج ضمن سياقاتها. انها تتعامل خصيصا مع المواقف التي تكون بها الحقائق الواضحة جدا لايمكن بلوغها، حيث في تلك اللحظات لايمكن ان يساعدنا التحقق من الحقائق والمنطق الصوري في تقرير ما اذا كنا جرى التعامل معنا بإنصاف، او تعرّضنا للتضليل اوالخداع . يقول السوفسطائي جورجياس Gorgias، الناس لا يستطيعون تذكّر كل الماضي، ومعرفة كل الحاضر، والتنبؤ بكل المستقبل، لذا فان قدرتهم للوصول الى استنتاجات نهائية هي محدودة. هذا ربما يجسد الموقف اليوم عندما تكتسحنا الكميات الهائلة من البيانات، والتي رغم خدمة الانترنيت السريعة لكن لايمكن لها استبدال الأحكام الذاتية للانسان وعملية اتخاذ القرار في المواقف المعقدة.

***

حاتم حميد محسن

هَيمنةُ الأنساقِ التاريخية على الظواهر الثقافية، وسَيطرةُ فلسفةِ القُوَّة على العلاقات الاجتماعية، تُعْتَبَرَان مَنظومةً واحدةً ومُوَحِّدَةً للعناصرِ الفكريةِ المَنْسِيَّةِ في البناء الاجتماعي. وإذا كانَ الوَعْيُ تشخيصًا للحاضرِ مَعْنًى وَمَبْنًى، فإنَّ اللغةَ تشخيصٌ للواقعِ إدراكًا وحِسًّا. والوَعْيُ واللغةُ يَنطلقان مِن قُيودِ اللحظةِ الآنِيَّةِ إلى فَضاءاتِ التاريخِ والحضارةِ، لصناعةِ زَمَنٍ معرفي عابرٍ للتَّجنيسِ، ومُتَجَاوِزٍ للحُدود، وقادرٍ على إيجاد رابطة منطقية بين فَلسفةِ القُوَّة وسُلطةِ المعرفة، مِمَّا يَدفَع باتِّجاه تَوليد مفاهيم تُحَلِّل الصِّرَاعَ بين الفردِ وذَاتِه ضِمن البُنى الوظيفية في المُجتمع. وتَوليدُ المفاهيمِ يَعْني بالضَّرورةِ تأسيسَ مناهج اجتماعية إبداعية ذات طابع خَلاصِي تَحْريري للأحداثِ اليومية مِن سَطوةِ آلِيَّات الوَعْي الزائف، وتأثيرِ أدوات القَمْع الفكري، وهذا يُؤَدِّي إلى تَحويلِ الفِعْل الاجتماعي إلى مِعيار أخلاقي في جَوْهَر الطبيعة الإنسانية للفردِ والمُجتمعِ، وتَحويلِ الظواهر الثقافية إلى مُمَارَسَات وُجودية فَعَّالة تُوَظِّف الأنساقَ التاريخية في الحُلْمِ الفردي والمَصلحةِ العَامَّة، مِمَّا يَضمَن تحقيقَ التجانس بين الماضي والحاضر، وإعادة تأسيسهما على الزمن المعرفي، بِوَصْفِه وَعْيًا إبداعيًّا مُتَجَدِّدًا، وتَفجيرًا مُسْتَمِرًّا للطاقة الرمزية في اللغة من أجل تحقيق اندماجِ الفرد في ذَاتِه ومُحيطِه، واندماجِ المُجتمع في تاريخِه وحضارته. وعمليةُ الاندماجِ الفرديةُ والجَمَاعِيَّةُ قائمةٌ على ثُنائية (التَّقييد / التَّحييد)، تَقييد العلاقاتِ الاجتماعية الناتجة عَن تَكريسِ الوَعْي الزائف، وهذا يُؤَدِّي إلى امتلاك المُجتمع لِمَسَارِه ومَصِيرِه، وتَحييد التناقضاتِ الشُّعورية الناتجة عن تأويل اللغة الوَهْمِي، وهذا يُؤَدِّي إلى تحقيق التوازن بين إنتاجِ سُلطة المعرفة وامتلاكِ سُلطة القَرَار، وهاتان السُّلْطَتَان تُحَدِّدَان مَاهِيَّةَ البناء الاجتماعي، وقُدرته على التَّكَيُّفِ معَ ضغط الأنساق التاريخية، والتَّأقْلُمِ معَ تجاذبات مراكز القُوَى في الظواهر الثقافية.

2

التَّنقيبُ في الأنساق التاريخية المُرتبطة بِوَعْيِ الفرد وثقافةِ المُجتمع، يُمثِّل خُطْوَةً أسَاسِيَّةً في اتِّجاه فَهْمِ مركزية الذات الإنسانية في الوجود، التي يُعاد تَشكيلُها عقلانيًّا في الإطار الاجتماعي، وتأويلُها رمزيًّا في الإطار اللغوي، وتكريسُها واقعيًّا في الإطار الحضاري، مِن أجل الحِفَاظِ على كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمعِ كَمَصْدَرَيْن لِشَرعيةِ الحياة اليومية بلا قطيعة معرفية، ومَشروعيةِ سُلطة الوَعْي بلا حواجز نَفْسِيَّة. وهذا مِن شأنه نقل التجارب الحياتية مِن الحَيِّزِ الشخصي إلى المَجَال العام، وتَوظيفها في شبكة العلاقات الاجتماعية لإيجاد هُوِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بين المعاييرِ الأخلاقية والقِيَمِ الوُجودية المُطْلَقَة، وجامعةٍ للقواعدِ التفسيرية الخَاصَّة برمزية اللغة الحاملة للتُّرَاثِ الرُّوحي للفردِ والمُجتمعِ. وإذا انتقلَ التفسيرُ اللغوي مِن النَّسَقِ الثقافي النُّخْبَوِي إلى النظام الاجتماعي العام، فإنَّ البُنى الوظيفية في المُجتمع سَتُصبح قادرةً على فَتْحِ مَعْنَى الحياةِ أمام إفرازات العقل الجَمْعِي، بحيث يُصبح مَعْنَى الحياةِ زمنًا داخلَ الزمن، وَصَوْتًا لِمَن لا صَوْتَ له. والتاريخُ لا يُصبح طاقةً تَوليديةً للأفكار النَّقْدِيَّة إلا إذا دَمَجَ مَعنى الحياة معَ العقل الجَمْعِي ضِمْن بُنية لغوية مُتماسكة تُنقِذ الفردَ مِن أزماته، ولا تَكُون عِبْئًا عليه.

3

المناهجُ الاجتماعيةُ الإبداعيةُ تُمَثِّل ظواهرَ ثقافيةً ذات امتداد عميق في الأنساق التاريخية، وحُقُولًا معرفيةً حاضنةً لِسُلطةِ الوَعْي وآلِيَّاتِ إنتاجه وأدواتِ تَوظيفه. وهذه المناهجُ لَمْ تَتَشَكَّلْ بِمَعْزِل عن فلسفة القُوَّة في العلاقات الاجتماعية، ولَمْ تَتَكَوَّنْ خارج السِّياقات الحضارية للمُجتمع. إنَّ هذه المناهج تُجَسِّد مركزيةَ الوجود الإنساني القادر على استرجاعِ العناصر الفكرية المَنْسِيَّة في البناء الاجتماعي،وانتشالِ الأحلام الفردية المَقموعة مِن أعماق النظام الاستهلاكي القاسي، واستعادةِ عناصر التاريخ المُهَمَّشَة مِن قَبْضَةِ الوَعْي الزائف الذي يُغَلِّف الزَّمَنَ المعرفي بالأقنعة. والزَّمَنُ المعرفي لَيْسَ بُنيةً وُجوديةً فَحَسْب، بَلْ هو أيضًا حاضنةٌ لرمزيةِ اللغةِ وتأثيرِها في الوَعْيِ، وتأثيرِ الوَعْي في دَلالات الألفاظ والمعاني. والزَّمَنُ المعرفي لَيْسَ تجسيدًا للأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، باعتبارها تجارب ثقافية مُتذبذبة بين الماضي والحاضر، وإنَّما هو تَجسيدٌ لِجَوهر الطبيعة الإنسانية للفردِ والمُجتمعِ، التي تَحَرَّرَتْ مِن الأعراضِ الوَهميَّة، وتَخَلَّصَتْ مِن الأغراضِ المَصلحيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

كيف اختلف ديفد هيوم مع كانط في نظرية السببية؟ هيوم وكانط ليسا فقط الشخصيتين الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة، وانما هما الشخصان اللذان تترابط أعمالهما بعمق. في الحقيقة، لم توضع مكانة هيوم بشكلها الصحيح، فقد اُنزلت الى مرتبة "سلف كانط" بدلا من اعتباره فيلسوفا أصليا ومقنعا بحد ذاته. وبصرف النظر عن ذلك، كان فهم كانط يعني فهم هيوم، وفهم هيوم يعني فهم كانط.

رد فعل كانط الفلسفي

ان تاريخ الفلسفة هو تاريخ ردود الأفعال. هذه عبارة مكررة لكنها تستحق التكرارهنا. لا يوجد في أي تخصص انساني أخر مثل هذا الشكل القوي من الاستجابة. الوعي بالانتساب والوراثة وعلاقات الإستجابة لاتنفصل عن الفعالية الفلسفية. انه من الصعب النقاش بان أي علاقة رد فلسفي تستحق انتباها أكثر من تلك التي بين ديفد هيوم وكانط خاصة العلاقة في تعاملهما مع موضوع السببية.

هناك ثلاثة أسباب لأهمية هذه العلاقة وما تستحقه من انتباه.

1- هما أكثر الفلاسفة الحديثين أهمية من حيث اتّساع وتميّز عملهما الفلسفي، ومن حيث الكيفية التي اثّرت بها أعمالهما.

2- العلاقة بين عمل هيوم وعمل كانط كانت مباشرة ولايمكن إنكارها. كما سنرى، كان كانط واضحا وبشكل استثنائي حول مديونيته لديفد هيوم، وللتأثير الواسع لهيوم على تطور كانط الفلسفي.

3- رغم ان تأثير هيوم على كانط لا خلاف فيه، لكن ظروف ذلك التأثير من الصعب جدا تحديدها. لا يتفق الفلاسفة ليس فقط على ما تعلّمه كانط من هيوم وانما على ماذا قال هيوم وكانط بشكل منفصل عن السببية.

تفسير هيوم للسببية

لا يتسع المقام هنا لتلخيص مختلف تفسيرات هيوم للسببية، لذا فان بيانا مختصرا للتفسير التقليدي يمكن ان يكون كافيا. نظرية هيوم (1711-1776) في السببية تعلن بان علاقات السبب والنتيجة ليست نتاجا لقانون طبيعي او حقيقة كونية وانما هما ارتكزا على ضرورة اننا نربط أحداثا اعتمادا على التجربة. هذا يعني اننا عندما نلاحظ حدوث (س) قبل (ص)، سنفترض ان (س) هو الذي سبّب (ص)، وهذا الافتراض يرتكز على التجربة وليس على ارتباط متأصل بين الحدثين. هيوم جادل بان السببية لا توجد في العالم المادي، وانما هي ببساطة وهم وبناء خُلق في أذهاننا:

"الذهن لا يمكن له ابداً ان يجد نتيجة في السبب المُفترض مهما كانت دقة الاختبار والتمحيص. لأن النتيجة هي مختلفة كليا عن السبب، وبالتالي لا يمكن أبدا اكتشافها فيه. الحركة في كرة البليارد الثانية تختلف جدا عن الحركة في الكرة الاولى، ولا يوجد أي شيء في الاولى ما يشير الى أبسط تلميح عن الكرة الثانية. عندما أرى مثلا، كرة البليارد تتحرك بخط مستقيم نحو كرة اخرى، وأفترض ان حركة الكرة الثانية حدثت كنتيجة لإتصالهما او إندفاعهما، فانا لا أتصور ان مائة حدث مختلف آخر ايضا ستتبع السبب وبنفس الطريقة؟ ... كل هذه الافتراضات منسجمة وقابلة للتصور". هيوم رأى اننا طالما لا نلاحظ ابدا السببية وانما فقط حدثا يتبع آخر، فان عقيدتنا في السببية هي ناتجة عن عادة لا اكثر، او تعميم لإرتباط متكرر بين حدثين، هذه السببية ليست الاّ وهماً فهي مادة للايمان وليست جزءاً من المعرفة.

تاثير ديفد هيوم على عمانوئيل كانط (1724-1804)

تأثير أعمال هيوم على كانط كانت واضحة. هنا واحد من أشهر المقاطع في أعمال كانط: " انا أعترف طوعاً بذكرى ديفد هيوم التي أوقفت سباتي الدوغمائي قبل عدة سنوات وأعطت لتحقيقاتي في حقل الفلسفة التأملية اتجاها مختلف كليا".

وفي مكان آخر، نجد كانط واضح جدا حول تأثير أعمال هيوم عليه: "لم يحدث حادث وله تأثير حاسم على مصير هذا العلم أكثر من هجوم ديفد هيوم عليه ... هيوم انطلق اساسا من مفهوم ميتافيزيقي معين لكنه أكثر أهمية، أعني ذلك الإرتباط بين السبب والنتيجة". انه مهم وواضح من البداية ان كانط لا يبدو يقبل بتفسير هيوم للسببية. في الحقيقة، تأثير هيوم على كانط تجسّد بطرح تحديا فلسفيا: وهو ازالة "الشك الهيومي تماما".

الحل لمشكلة هيوم

وضع كانط نصب عينيه طريقة لحل مشكلة هيوم من شأنها ان تحافظ على ما إعتقد به من "مفاهيم خالصة للفهم" وصلاحية القوانين العامة للطبيعة. للقيام بهذا، هو إعتقد ان هذه المفاهيم يجب إعتبارها تنطبق فقط على تجاربنا، وهو سعى للتحقيق بالطرق التي تؤسس بها هذه المفاهيم إمكانية التجربة. خطة كانط كانت كالتالي: هذه المفاهيم ليس كما اعتقد هيوم، تُشتق من التجربة، وانما "التجربة تُشتق منها"،نوع معكوس تماما لإرتباط لم يحدث أبداً لهيوم".

هو يتعامل بجدية مع ادّعاء هيوم بان المظهر لا يمكن بذاته ان يوفر أرضية لأي ضرورة لتعاقب المظاهر. "المظاهر بالتأكيد توفر الحالات التي تكون فيها القاعدة ممكنة طبقا لما يحدث عادة، ولكن لا يكون التعاقب ضروريا ابدا، ولهذا السبب، الامر يتعلق بتوليفة السبب والنتيجة الذي لا يمكن ابدا التعبير عنه تجريبيا، أعني، ان النتيجة لا تتبع ببساطة السبب وانما تُطرح من خلاله وتنطلق منه".

المعرفة القبلية لعمانوئيل كانط Synthetic a priori

المعرفة القبلية هي المعرفة التي نمتلكها بداهة وبشكل مستقل عن التجربة، مثل المثلث له ثلاثة اضلاع، او الرجال هم ذكور، الزمن لا يعود للوراء، او كل شيء له سبب. يقول كانط بدون مبدأ السببية سوف لا نستطيع التمييز بين التجربة التي تتعلق بنا والتجربة التي تتصل بالعالم الخارجي (مستقلة عنا)، سوف لن نتمكن من التعامل مع بعض التجارب على انها من صنع الذهن، وبعضها على انها تصورات لعالم مستقل عنا. فكرة كانط هي لكي نعمل هذا التمييز يجب ان يكون هناك ترتيبين اثنين للتجربة. واحد هو الذي يحدث فينا، والاخر هو الذي يحدث بشكل مستقل عنا. عندما ننظر الى منزل نستطيع اختيار الرؤية من الباب او من السياج او من الأعلى، لكن اذا كان هناك قارب مجاور يبحر في النهر، فلابد ان ننظر اولا الى مقدمة القارب لأنها اول ما يظهر لنا. بدون مبدأ السببية لا نستطيع التمييز بين الحالتين من التجربة. حقائق التجربة لا تنطوي فقط على تأكيد التجربة، وانما تتضمن أحكاما قبلية (تسير من العام الى الخاص او من السبب الى النتيجة). ... "انا اطرح سؤالي في هذا الشكل المبسط: كيف يمكن ان افهم حدثا مثل، لأن شيء ما موجود، فان شيئا آخر يجب ان يكون هناك؟". تحدّي هيوم للعقل هو، في الواقع، تحدي متمثل بكيفية اخذ العلاقة السببية الضرورية بالاعتبار. الحل الكانطي لهذه المشكلة هو تأسيس فرضية المعرفة القبلية، وهو ليس المفهوم الذي نعرفه بالعقل، ولا هو تحليل لما احتواه الجزء الثاني من الفرضية (predicate). فرضية المعرفة القبلية هي الاساس الذي عليه نكون قادرين على معرفة شيء جديد من تحليل تجربة خالصة، والطريقة الوحيدة التي نستطيع بها ان نصل للحقائق حول العالم هي ضرورية، لكنها لا ترتكز على اعتبارات منطقية.

ضرورة السببية: حل عمانوئيل كانط

طرح كانط الشكوك في السببية في كتابه نقد العقل المحض، هو يرى ان مفهوم السببية ليس شيئا نستطيع ملاحظته من خلال التجربة وانما هو ضروري. رؤية كانط للسببية هي ببساطة ان "التعاقب ضروري، ... النتيجة ليست ببساطة تتبع السبب وانما تُطرح من خلاله وتنطلق منه .. واضح جدا ان مفهوم السبب يحتوي على مفهوم ضرورة الارتباط مع النتيجة وشمولية صارمة للقاعدة، ان مفهوم السبب سيضيع كليا لو تظاهر أحد باشتقاقه كما فعل هيوم، من ارتباط متكرر مع ما يحدث سلفا، وبالتالي من العرف الناجم من الربط بين المظاهر".

علماء معاصرون مثل جراسيلا دي بيريس Graciela De Pierris و مايكل فريدمان Michael Friedman يوضحان استجابة كانط في الطريقة التالية: "هيوم يؤكد ان فكرة النتيجة ليست متضمنة في فكرة السبب (في لغة كانط، العلاقة ليست تحليلية)، وبهذا، طبقا لهيوم، لايمكن ابدا التعرف عليها قبلياً. لذلك نحن نحتاج التجربة بالمعنى الهيومي لكي نطرح اي ادّعاء سببي".

بالمقابل، كانط يحاول ان يقبل ويدمج عنصر الشك الهيومي بدون أي تأثيرات سلبية على قدرتنا لفهم العالم، يعني – بالنسبة لكانط – ان ننسب الموضوعية لمفهومنا عنه .

هيوم والعلوم

من الواضح ان العلوم من فيزياء وكيمياء وغيرها تعتمد على مبدأ السببية، فكيف سيكون الحال عندما تُنكر السببية؟ هيوم لا يقترح التخلي عن العلوم، هو يقترح ان علومنا ترتكز على افتراضات قائمة على الايمان وليس على العقل، وهذا يجب ان يقلقنا. العقل لايمكنه اثبات عقائدنا الاساسية حول كيفية عمل الكون. نحن يجب ان نتخلى عن الادّعاء بان عقلنا والعلوم يعطيان لنا معرفة تامة. بدلا من ذلك، نحن يجب ان نقبل بان المعرفة الانسانية ترتكز على افكار غير دقيقة مبنية على انطباعات عابرة تشكلت بالعادات الاجتماعية. هو لم يكن ضد العلم وانما اصبح واعيا بان العلم يضع افتراضات تقوم على أرضية رخوة. مشكلة العلم هو ان كل المعتقدات العلمية في القوانين تفترض ان الاشياء والقوى التي عملت ذات الشيء في الماضي هي تعمل الآن وسوف تستمر ذاتها بنفس العمل في المستقبل. ماذا لو لم يكن هذا هو الموقف؟ يشير هيوم انه لو بدأت الجاذبية تعمل بشكل مختلف غدا، هذا سوف لن يكون مخالفا للمنطق.

***

حاتم حميد محسن

......................

المصادر:

1-David Hume and Immanuel Kant on causation, the collector, 17 May 2023

2-David Hume on causality and science, Douglas Giles, Inserting philosophy, Sep1, 2021.

إذا كان مفهوم الحداثة في محتواه الأدبي والفني والفلسفي هو إشارة مرسلة إلى ذاك النوع من الأدب والفن والفكر، الذي تمثل في بعده النظري أفكار عصر التنوير التي أفرزتها التحولات الرأسماليّة المناهضة لسلطات الملك والإقطاع والكنيسة، وهي أفكار من حيث الجوهر، تدعوا إلى العقل، والضمير، والواجب والأخلاق، والمحبة، والإنسانية، والبطولة، والرجولة، والجمال، والخير، والحرية، والعدالة، والمساواة والإبداع، ومن حيث الأسلوب تدعوا إلى الربط العميق، والانسجام، والتكامل، مابين شكل الظاهرة ومضمونها، وذلك أملا في تحقيق الفكرة الفنية أو الأدبيّة أو الفلسفيّة التي تختزل بين طياتها جوهر وروح الإنسان وإبداعاته وتطلعاته وتعميق تجربته الحياتية، الباحثة والمغامرة دوما باتجاه كل ما هو مجهول في عوالم الطبيعة والإنسان معا، رغبة في إعادة صياغة وجوهرة حياة هذا الإنسان من جديدا على أنه سيد لهذا العالم وخليفة الله عليه.

أما مفهوم ما بعد الحداثة بكل توجهاته وأنساقه الأدبيّة والفنيّة والفلسفيّة أيضا، فهو مفهوم فرضته أيضا طبيعة الأحداث الجسام، ممثلة بتلك التحولات التاريخيّة القاسية التي أصابت العالم أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما، وخاصة مع سيادة رأسمالية الدولة الاحتكاريّة والنظام العالمي الجديد، فما تركته طبيعة هذه الأحداث من قتل وضياع واستلاب وتدمير لمعظم ما بناه الإنسان من قيم إنسانيّة عبر تاريخه الطويل، انعكس بالضرورة في عالم الأدب والفن والفلسفة، بحيث فقد الإنسان الأوربي بشكل عام، والفنان والأديب والفيلسوف على وجه الخصوص، حالة توازنه وقدرته على توجيه حياته وحياة مجتمعه بالاتجاه الصحيح، الأمر الذي دفع باتجاه ضياعه عبر كل مستويات حياته الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

إن كل ما أشرنا إليه هنا، راح في الحقيقة يعمل على تقويض معظم الانجازات العمليّة السابقة التي حققتها الحداثة في نطاق القيم الإنسانية المؤمنة بالإنسان قيمة عليا، وليفسح في المجال واسعا أمام سيادة وانتشار روح الانجاز الفردي، الذي ساعد بدوره على تحقيق عالم الانعزال الموجه من خارجه، والمشكّل لمجموعة لا عضويّة من الأفراد فاقدي الهويّة والقيمّة معا، أي مشكلا لأفراد مستلبين ومشيئين، وخير من عبر عن هذا الأنموذج تحت ظل النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الجديد، وبكل دقة (بييرباسكالون) الذي قال عنه بأنه أنموذج تجد الفرد فيه، (... فرد نقي كيميائيا، ذرة موحدة النوعية، منمذجه بلا لون، أو نتوء، فارغة، مغلقة على ذاتها، منفصلة عن الآخرين، فاقدة لروحها وماهيتها، توجهها شعارات رخيصة، لأنها لا تفكر قط من نفسها تقريبا، فالجهاز الإذاعي، والصحافة الرخيصة والدعاية، هي التي تشكل إدراكها، والتلفاز يشكل تاريخاها.).

هذا الفرد المنمذج إذن، هو الذي أنتجه اقتصاد السوق المتوحش، هو من يمثل تيار ما بعد الحداثة بكل معطياته الأدبيّة والفنيّة والفلسفيّة، فجاءت معطياته في هذه الاتجاهات مطابقة تماما لروحه، لجوهره، لذلك علينا أن لا نستغرب، عندما نجد تيار ما بعد الحداثة يعمل داخل شبكة مفاهيميّة تقوم على النفي، والتدمير، والتجاوز لكل ما هو إنساني، أو يدعوا إلى الرقي بالإنسان، كما ويدعوا إلى التمسك بأخلاقيات الموت، كموت الفن، والنزعة الإنسانيّة... الخ، مثلما يدعوا أيضا إلى الدمار، والعبثيّة، وعدم التواصل، و العدميّة، وعودة الميتافيزيقيا، وإلى التفكيكيّة، والتشتت، وللااستمراريّة واللامعقول، والتذرير الاجتماعي والقومي. الخ.

إن تيار ما بعد الحداثة في الحقيقة هو دعوة إلى التمسك بالشكل على حساب المضمون، حيث أصبح الشكل هو الأساس في معطيات هذا التيار الما بعد حداثي، ومع ذلك نقول رغم كل ما جئنا عليه هنا من عرض أو كشف لحقيقة تيار ما بعد الحداثة، يظل هناك جوانب إبداعيّة شكلانيّة في هذا التيار الذي غالبا ما حقق الكثير من حالات الإدهاش والمتعة للإنسان، فما نشاهده في اللوحات السرياليّة، ومسرح وسينما اللامعقول أو العبث، وفي الأدب الحديث،- وبخاصة في الشعر الحديث- ما يدل على ذلك، وهذا يؤكد لنا مسألة أساسيّة هي أن معطيات ما بعد الحداثة لم تكن في معظمها موجهه ومدروسة لتحقيق ضياع الإنسان واغترابه، بل أن قسما كبيرا منها جاء تعبيرا هادئا وحقيقيا عن معاناة الإنسان الأديب أو الفنان أو المبدع بشكل عام، فضياعه في واقعه الذي فرضته عليه الظروف التي أشرنا إليها أعلاه هو الذي أفرز هذه التجليات الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة التي تجسدت في تيار ما بعد الحداثة.

أما بالنسبة لتيارنا الجديد، تيار (بعد ما بعد الحداثة)، فهو على ما يبدو تيار لم تكوّنه ظروف موضوعيّة تتعلق بحروب أو تحولات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ذات طابع تاريخ، كتلك التي أدت مثلا إلى وجود تياري الحداثة وما بعدها، وإنما هناك عوامل ذاتية لها الدور الكبير في الوقوف وراء ظهور وانتشار هذا التيار في الساحة الأدبيّة والفنيّة والثقافيّة بشكل عام، وهي حالات لم تزل محدودة. لذلك، ما يلفت النظر فعلا في ممثلي هذا التيار، هو ما يبديه هؤلاء من سلوكيات شخصيّة ذات طبيعة انتهازيّة وعدوانيّة تجاه المحيط الذي ينشطون فيه، وبخاصة تجاه الآخرين ممن يشاطرونهم النشاط الأدبيّ أو الفنيّ ذاته، وإن اختلفوا معهم في نمط الشخصيّة التي سأقوم بتوصيفها هنا.

إن أبرز ما يمثله نمط هذه الشخصيات الأدبيّة أو الفنيّة الممثلة لتيار(بعد ما بعد الحداثة)، هو عدم القدرة على الاستقرار والانسجام مع المحيط الاجتماعيّ الذي يعيش فيه هذا الأديب أو الفنان، وهذا يعني أن هناك حالة ضياع وعدم استقرار نفسي وأخلاقي سيؤدي بالضرورة إلى خلق الكثير من حالات الصدام والصراع مع الآخرين دون مبرر قانونيّ أو أخلاقيّ، بحيث يصل هذا الأديب إلى مرحلة يشعر فيها وكأن كل من يحيط به هو عدو له، وهذا مؤشر على أن ما يعيشه هذا لأديب، أو ما يعانيه يدخل في نطاق المرض النفسي.

على العموم، إن ما يتعرض له هذا الأنموذج من مرض نفسي وعدم استقرار اجتماعيّ، غالبا ما يتمظهر في مواقفه الأدبيّة أيضا، حيث نجد أن الكثير من أعماله هي انعكاس لما يعيشه داخليّا من ضياع وقهر واستلاب، لذلك هو يحاول أن يغطي على كل هذه الدواخل عن طريق كتاباته التي غالبا ما تأتي فاقدة للشكل والمضمون معا، حيث يتخذ من قلمه وسيلة للارتزاق، فتراه يكتب عن كل المناسبات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية.

إن شخصية أديب (بعد ما بعد الحداثة) تمتاز بسمات وخصائص أخرى إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه، فهي شخصية ينطبق عليها أيضا توصيف " بيير باسكولون "  على أنها (ذرة موحدة النوعية، منمذجة بلالون، أو نتوء، فارغة، ومنغلقة على ذاتها، منفصلة عن الآخرين، وفاقدة لروحها وماهيتها)، انتهازية، ونرجسية، وذات طبيعة عدوانية، متناقضة مع ذاتها ومع الآخرين.

على العموم، إذا كان الأديب الحداثيّ يتمسك في أعماله بالشكل والمضمون معا. وأديب ما بعد الحاثة يتمسك بالشكل على حساب المضمون عموما، إن أديب بعد ما بعد الحداثة لا يهمه لا الشكل ولا المضمون، بقدر ما يهمه كيف يستطيع أن يربح من قلمه على حساب أي شيء حتى ولو كان كرامته.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

"لم تعد فضيلة الشرف والكرامة تقابل بالاحترام

وهي التي كانت دوما توضع في مقدمة الفضائل"

باسكال يونيفاس [المثقفون المزيفون]

مدخل عام:

تستهدف الفلسفة كتفكير نقدي محاربة الكذب والتضليل والخداع على اعتبار انها تبحث عن الحقيقة،لكن المفارقة أن بعض المشتغلين بها والمنتسبين إليها يكذبون بخبث وعن قصد ويعملون على تشويه الحقائق، يعلنون انفسهم كأشخاص صادقين ورجال حكماء لكن في الواقع هم يكذبون ثم يكذبون ومن السهل اكتشاف اكاذيبهم وفضحهم رغم تنكرهم بقناع الحقيقة، انهم يكذبون بغباء وقد سخر اوسكار وايلد الذي اشتهر بأسلوبه الهجائي من تدني مستوى الكذب وسجل ان اتقان الكذب في هبوط مستمر، وقد حدث ان تقاطعت الحقيقة مع الكذب -كما يحكى في الاساطير- ابتسم الكذب قائلا: الطقس رائع وجميل هذا اليوم ما رأيك أن نتمشى معا، نظرت الحقيقة إلى السماء وما حولها وقالت له: نعم الطقس جميل ورائع هذا اليوم، وبينما كانا يتمشيان، وصلا إلى بئر ماء كبير، مد الكذب يده في الماء وقال: الماء دافئ وجميل دعنا نسبح، الحقيقة تلمس الماء بأصابعها وكان دافئا حقا، وقد وثقت بالكذب. كلاهما خلع ملابسه وسبحا بهدوء. وفي غفلة خرج الكذب مرتديا ثياب الحقيقة وغادر لكن الحقيقة رفضت لبس ثياب الأكاذيب، بدأت تمشي عارية وكان الجميع يصدمون لرؤيتها رجعت مسرعة واختفت في البئر. وبقي الكذب يختال بمشيته على الأرض بلباس الحقيقة وكل الناس ترفض رؤية الحقيقة المجردة وهي عارية. وبعيد عن الاساطير الواقع ان الاعتقاد بإمكانية وجود عالم لا يضطر فيه الناس الى الكذب أمر خيالي ولكن يجب الاقرار حتما ان انتشار الأكاذيب رغم ان حبلها قصير يجعل العالم اسوء.

من المفهوم الى الاشكال

يحدد جميل صليبا في معجمه الفلسفي الكذب على انه لفظ معاكس للصدق، اذا اطلقته على الخبر دل على عدم مطابقته للواقع، واذا ارتبط بالشيء دل على التزييف او الغش، واذا اقترن بالشخص دل على عدم مطابقة السر للعلن وفي المنطق يقترن الكذب بفساد الاحكام وهو من المغالطات. [1] وجاء في دليل أكسفورد للفلسفة: "يتعين على المذهب الملائم في الكذب ان يعتبر ما اذا كان وكيف يخترق الكذب قواعد سلوكية تحكم أفعال الكلام الخاصة بالاقرار وان يحدد نوع الضرر الذي يحدثه بالثقة التي تشكل علاقات إنسانية مركزية " [2] وفي الاستخدام الحديث، تعّد كلمة الكذب في العادة مصطلحاً للتجريم الأخلاقي، ویمیل الأشخاص في محادثات الكیاسة إلى تجنبه ففي كثیر من الأحيان تُستعمل مرادفات مفهوم الكذب كالزیف، وعدم الصدق بوصفھا بدائل له ومن السھل نعت الشخص غیر الصادق بالكاذب" [3] وهكذا يتقاطع الكذب مع الكثير من الكلمات من قبيل الخداع والغش والنفاق ...الخ وقد وجاء في كتابه النظرات لمصطفى لطفي المنفلوطي: " كَذِبُ اللسان من فضول كذب القلب، فلا تأمن الكاذب على ودٍّ، ولا تثق منه بعهدٍ، واهرب من وجهه الهرب كله، وأخوف ما أخاف عليك من خُلَطائِكَ وسجرائك الرجل الكاذب. عرَّف الحكماء الكذب بأنه مخالفة الكلام للواقع، ولعلهم جَارَوا في هذا التعريف الحقيقة العرفية، ولو شاءوا لأضافوا إلى كذب الأقوال كذب الأفعال"  ونظر القديس توما الأكويني الى الكذب على أنه يعبر عن ما يتعارض مع حقيقة ما يفكر المرء فيه ووضع ثلاثة شروط لحدوث الكذب، حيث يحدث الكذب فقط اذا تحققت ثلاثة عناصر: أولاً، الباطل المادي، أي التعارض بين الكلمة والفكر وليس فقط بين الكلمة والحقيقة وبالتالي إذا أعلن المرء شيئًا كاذبًا، واعتبره صحيحًا، فإنه يرتكب خطأ ويقول كذبًا، وليس كذبة: والثاني الباطل الشكلي، والذي يتكون من الإرادة لقول عكس ما هو يعتقد، على الرغم من أن الشيء الذي يقال صحيح ؛ بحيث يمكن للمرء أن يكذب حتى يقول الحقيقة دون أن يعرف ذلك ؛ وثالثًا، الرغبة في الخداع كما يحدث في العروض المسرحية. والكذب أنواع ودرجات حيث يسرد القديس أغسطينوس في كتابه ضد الأكاذيب ثمانية أنواع وعنده لاوجود للكذب بمعزل عن قصد او إرادة او رغبة الخداع وأول الأكاذيب الكذب في تعاليم الدين. الثاني: الذي لا ينفع أحدا ويضر به. والثالث، الذي يستغل أحدهم بإيذاء الآخر؛ والرابع ما يكذب فيه لذة الكذب والخداع فقط. الخامس هو الذي يقال عن الرغبة في الرضا. والسادس هو الذي دون أن يضر أحد. الاستفادة من شخص ما لتأمين ثروته؛ السابع: الذي لا يؤذي أحداً، ويستغله في التخلص من الموت. الثامن: الذي لا يضر أحدا ويقصد به نجاسة الجسد. ان تعدد هذه المفاهيم يضعنا امام تساؤلات يمكن الارتكاز عليها حتى نتقدم في مقالنا هذا:

هل يمكن الاتفاق حول مفهوم الكذب؟ ما طبيعة الكذب وماهي دلالاته؟

هل يمكن وضع مفاهيم الكذب والغش والتضليل ضمن نفس الحقل الدلالي؟

هل يمكن للإنسان ان يكذب على ذاته؟

لماذا نكتب عن الكذب؟

إذا كان من الممكن تبرير الكذب في بعض الحالات، لماذا لا يمكننا التخلص من فكرة أن الكذب أمر يستحق اللوم؟

يجيب أليخاندرو توماسيني باسولس: " أنا أزعم أن هذه المفاهيم هرمية وأن "الغش" هو أبسط شيء على الإطلاق، لأن الكذب شيء لا يستطيع فعله سوى مستخدمي اللغة ويمكن العثور على ظاهرة الخداع في مملكة الحيوان" وفي تحليله اللغوي للكذب انطلق من المسلمات التالية: لا يمكن للمرء أن يكذب دون نية الخداع، وأنه لا يمكن الكذب باستخدام افتراضات حقيقية، وانه يجب الإقرار بان الكذب هو دائمًا عمل بغيض وفي مقال قول في الكذب للدكتور أحمد برقاوي اكد ان الحديث عن الكذب يوقعنا دوما في التكرار وترديد نفس العبارات والعودة الى ذات النصوص لذلك تساءل لماذا نكتب عن الكذب؟ وجاء الجواب نكتب عنه لسببين: الأول تذكير الناس بشرور الكذب، لان انتشار ظاهرة الكذب يخلق نوعاً من التلاؤم مع هذا الشر، دون ردود فعل مناهضة له. والسبب الثاني: لشيوعه وسرعة انتشاره عبر منصات التواصل الاجتماعي. والكذب يمتد الى مجالات عديدة ابرزها السياسة وقد اشرنا الى ذلك في مقالنا من اجل اخلاق سياسية تقول حنة ارندت وهي تتحدث عن السياسة والحقيقة: " يمكن اعتبار اللجوء الى الكذب احدى الوسائل الضرورية والمشروعة،ليس فقط لكل من يمتهن السياسية او يمارس الديماغوجية،بل وكذلك لممارسة الحكم " [4]

هل يمكن ان يكون الكذب مبررا؟

في نظر كانط يجب قول الصدق في كل الحالات كن صادقا هذا واجب أخلاقي وواجب التزام الصدق هنا قطعي لا شرطي حيث يجب قول الحقيقة ولاوجود لأكاذيب بيضاء وقد يكون تبرير الكذب بادعاء حسن النوايا وان الهدف هو تشجيع الاخرين ولكن التشجيع الزائف ضرب من السرقة فهو يسلب الوقت، والطاقة، والتحفيز من شخص كان سيستغلها لتحقيق أي هدف آخر لكننا كثير ما يغرينا أن نشجع الآخرين بمديح غير صادق ً وبهذا فإننا نعاملهم كالأطفال، في حين ّ نفشل في جعلهم مستعدين لمواجهة من سيحكمون عليهم كبالغين.وهنا يميز سام هاريس في كتابه الكذب بين الكذب والخداع حيث يتخذ الخداع أشكالا ّ عديدة ولكن أشكاله ليست كلها أكاذيب وهو ينظر الى الكذب كفعل إيذاء هدفه طمس الحقيقة فهو تضليل الآخرين عن عمد حين يتوقعون محادثة صادقة.وفي نظره ان الناس يكذبون لعدة أسباب، فقد يكذبون لتجنب الإحراج، أو للمبالغة في إنجازاتهم، أو إخفاء ً أخطائهم.[5] وقد يقطعون وعود بأمور لا ينوون الوفاء بها، وقد يخفون عيوبا في منتجاتهم أو ّ خدماتهم، وقد يضللون المنافسين كي يتغلبوا عليهم، كما أن كثيرين منا يكذبون على أسرهم ً وأصدقائهم مراعاة لمشاعرهم ووصل في نهاية مقاله الى ان الصدق هدية يمكننا منحها للآخرين، وهو مصدر للقوة ّ ومحرك للبساطة. فمعرفة أننا سنقول الحق مهما كانت الظروف، لن يضطرنا إلى الاستعداد لكثير من الاحتمالات معرفة أننا قلنا الحق في الماضي لن يتطلب منا أن نتابع أي شيء، بل سنكون ببساطة على سجيتنا في كل لحظة.

لماذا يكذب الأطفال

يكذب الأطفال كما يكذب الرجال والنساء لأسباب عديدة وقد حصر أصحاب كتاب الكذب في سلوك الأطفال خمسة دوافع:

01- الخوف من العقاب من سلطة الاب والام.

02- السعي لإرضاء السلطة قد تكون سلطة المعلم مثلا.

03- السعي لإثبات الذات والحصول على مكانة اجتماعية ويتم اللجوء للكذب لتعويض الشعور بالنقص

04- الخيال الخصب للطفل

05- الرغبة في الانتقام من الاخرين وهذا هو الكذب الانتقامي

المثقف الكذاب

يروي جان بوتوريل في كتابه الممتع " اعزائي المحتالين " بان فرنسوا ميتيران الذي كان قد انتخب من قبل وقت قصير رئيسا للجمهورية وتلقى من مارغريت تاتشر دعوة لزيارة المملكة المتحدة طلب ان يلتقي بعدد من مثقفي البلد اجابه موظفو داونينغ ستريت بانهم ربما يجدون له كتابا او مؤرخين او فلاسفة او باحثين ولكن ليس مثقفين [6] وهنا يجب ان نميز بين سلطة المثقف ومثقف السلطة من خلال العودة الى المفاهيم الكبرى سواء في الفكر الغربي او العربي .ويمكن العودة هنا الى الإيطالي "أنطونيو غرامشي" الذي قسم المثقفين الى نوعين، الأول هو المثقف العضوي الذي يحمل هموم وقضايا أمته وشعبه، وهو الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى والذي يستمر في العطاء جيلا بعد جيل. والثاني هو المثقف التقليدي ينفذ سياسات الدولة مقابل اجر وهذا النوع له قابلية للتعليب ويمكن تحجيمه او عزله او تحويله الى ناطق باسم السلطة.

كما يمكن الحديث عن المثقف الملتزم كما صوره جون بول سارتر والذي يختلف في وظيفته عن مثقف السلطة او مايسميه سارتر المثقف المزيف: ففي حين يلعب هذا الأخير(دور الرجل الاكاديمي الخبير) يمارس سلطته المعرفية في اطار ضيق باحثا عن امتيازات مادية في الأكثر مرتكزا على فكر دوجماطي فإن المثقّف الملتزم مرتبط بقضايا عصره وهموم مجتمعه بل الإنسانية ككل يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والاجتماعية دفاعًا عن الحرية.لا يكفّ عن "مشاغبة الدولة " و"لا يتراجع "، بالاخص حين يواجه عدّوه اللدود اي "المثقف المزيّف" (مثقف السلطة) وهو "كلب حراسة السلطان"، يقول احمد برقاوي: " أكثر عالم يضج بالكذب هو عالم المثقفين من كل الأنواع. فلقد توافرت لأكاذيبهم كل القنوات التي تسمح بنشرها للناس. فالكذب عندهم مرتبط ارتباطاً صميمياً مع شهوة الحضور. وهو بهذا المعنى هو حالة وجودية"

في سياق الفكر الغربي نجد جوليان بندا في كتابه خيانة المثقفين يتحدث عن مثقف السلطة وهم عموم المثقفين الذين رأى أنهم جميعاً خانوا الفكر النقيّ الخالص، هائمين وراء الأهواء السياسية والأيديولوجية، متخلّين عن المثل العليا " في مقابل المثقفين أصحاب الرسالة وهم «عصبة صغيرة من الملوك والفلاسفة، الذين يتحلّون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذّ، ويُشكّلون ضمير البشرية ".

الأكاذيب الكبرى

السايكوباثية هي اضطراب في الشخصية يتميز صاحبه بالعديد من الصفات، أهمها سلوك ضد المجتمع (anti-social)، والغطرسة والخيانة والتلاعب بالآخرين، مع افتقاد الشعور بالتعاطف مع ضحاياه ...لكن الكذب لا يعبر عن حالة فردية بل هو في الواقع صناعة وقد أشار كليمانطا الى الأكاذيب العشر للعولمة وتحدث بعضهم حتى عن كذب الفلاسفة ومعظمنا اليوم يدرك بكل ألم أن ثقتنا في الحكومة والشركات الكبرى وسائر المؤسسات العامة قد قوضتها الأكاذيب فقد أشعل الكذب حروبا وأطال من أمدها: فقد كان حادث خليج تونكين في فيتنام، وكذلك التقارير الزائفة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق ً،مثالين قاد فيهما الكذب الى صراع مسلح .يذكر عالم الأوبئة بن غولديكر أنه فيما يخص بعض الادوية 50بالمئة من التجارب حجبت وأضاف قائلا: " لعل إحدى الحقائق المحزنة حول النفسانية البشرية أننا نميل لتذكر العبارات على أنها حقائق حتى بعد تكذيبها ويعرف ذلك في علم النفس بتأثير الحقيقة الوهمية فالألفة كما قيل تولد المصداقية ان أكاذيب الأقوياء تدفعنا نحو الشك في الحكومات والمؤسسات، وأكاذيب الضعفاء تجعلنا جامدين تجاه معاناة الآخرين، وأكاذيب نظريات المؤامرة تثير الشكوك في مصداقية كاشفي الأسرار، حتى حين يقولون الحقيقة. فالأكاذيب هي المكافئ الاجتماعي للنفايات السامة: إذ يمكن انتشارها أن يؤذي الجميع".

الكذب من منظور السينما والمسرح

قدم المسرح الوطني محي الدين بشطارزي العديد من العروض المسرحية ومنها مسرحية “الزاوش” من اقتباس وإخراج كمال يعيش، عن نص للكاتب المسرحي المجري فيرنتش كارينتي بعنوان “البوزندورفر”، تسلط الضوء على الكذب تدور أحداث المسرحية التي تتخذ من الفساد والخيانة سمة رئيسية لها حول فكرة محورية وهي ان الكذب انعكاس لفراغ عاطفي يتغذى على الماضي ويرتكز على المخيلة فيه يفقد الانسان انسانيته يدور حولها العمل ضمن قالب أراده المخرج أن يكون فلسفيا محملا بالرسائل التي تناقش قضية الكذب والخيانة والعلاقات الزائفة بين البشر وبين ما يحمله القوي للضعيف، لتصل بنا المسرحية لتأكيد مدى تجردنا من مشاعرنا الإنسانية.

يمكن الإشارة أيضا الى فيلم "كذب أبيض" للمخرجة المغربية أسماء المدير، التي اختارت "الحفر في الذات كأفضل طريقة للخوض في السياسة يعود الفيلم إلى جزء مما يعرف في المغرب بـ"سنوات الجمر والرصاص"، وتحديدا إلى انتفاضة الدار البيضاء في 1981 أو "ثورة الخبز" ضد رفع أسعار المواد الأساسية وغلاء المعيشة، والتي قتل فيها مئات المغاربة سواء خنقا جراء الاكتظاظ في المعتقلات أو رميا بالرصاص إثر تدخل القوات المغربية ضد المتظاهرين. بصفتي مخرجة مغربية شابة، أحمل معي العديد من الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها. بعضها شخصي، وبعضها سياسي وأريد أن أسألهما الآن، بصفتي مخرجة وابنة، تتفاعل مع أقرب الناس منها: أسرتها. من خلال هذه العلاقات الأسرية، أخلق مساحة مشتركة للفيلم هي منزلنا في الدار البيضاء. مساحة مليئة بالتواطؤ والحب والعداء والاعتراضات.أثناء التحقيق في قصص طفولتي، أتفاعل مع أمي وأبي وجدتي. يسمح لي ذلك أن أتساءل عن ذكرياتي العالقة بين الخيال والواقع، بين الحقيقة والأكاذيب. وأظهر مدى صعوبة بناء هوية المرء عندما تكون كل ذكرى نمتلكها مشكوك فيها.[7]

تجدر الإشارة أيضا الى الفيلم الذي أخرجه دييجو سابانيس للمخرج خوليو كورتازار: رواية حبكتها بسيطة: يسافر بابلو (والتر كيروز)، الابن المفضل لماما (ماريلو ماريني)، إلى باريس للعب مع بعض الأصدقاء في ملهى صغير. تمر أسابيع ولا أحد لديه أخبار عنه. يؤدي عدم اليقين إلى تفاقم حالة والدته الصحية الهشة، وهذا هو السبب في أن أشقائه، خورخي (كلوديو تولكاشير) ونورا (باولا رانسنبرغ)، قرروا كتابة رسائل مزيفة وإرسال هدايا لها، وتأجيل عودتهم. لتعزيز التدريب، طلبوا من باتريشيا (فيرونيكا بيلاتشيني)، صديقة بابلو، مواصلة زياراتها. عندما لاحظت ماما حزنها، تقترح المضي قدمًا في الاستعدادات للزفاف، لتسريع عودة بابلو. تتفرع الأدب الخيالي إلى شخصيات أخرى، بينما يتم تفكيك المنزل تدريجياً لمواجهة الديون المتولدة عن الشحنات القادمة من باريس.

الخلاصة

توجد دراسات من جامعة ماساتشوستس تظهر أنه في مجتمعنا، في المتوسط، يتم إصدار كذبة أو نقول نصف الحقيقة كل 3 دقائق والإسلام يرفض الربط بين الايمان والكذب هذا الواقع مؤلم فنحن نخترع الأكاذيب عن قصد، نرددها وكثير من الناس يستهلكونها. وهناك قول مأثور الكذبة مهما كانت تقية تأكل كل شيء.

***

عمرون علي

....................

المراجع

[1] المعجم الفلسفي، جميل صليبا الصفحة 227

[2] دليل اكسفور للفلسفة الصفحة 212

[3] نفس المرجع.

[4] انظر كتاب تاريخ الكذب لجاك دريدا

[5] سام هاريس في كتابه الكذب

[6] باسكال يونيفاس [المثقفون المزيفون]

[7] يمكن العودة لتقرير فرانس 24 حول هذا الفيلم .

لم يكن تحرُر المثقفُ ممكناً قبل أنْ (ينادي هو) بتحرير نفسه، وقبل أنْ يقاوم كلَّ ألوان القهر التي يواجهها. فبدت حريتُه مهمةً بقدر زيادة الوعي الناقد لديه. أي عندما أُدرجت حريةُ المثقف على طاولة النقاش، وعندما أصبح وجودُه موضِّعَ تساؤل وإجابةٍ، موضِّع شكٍ ونقدٍ من ناحيةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، حدثَ التحررُ فعلياً نتيجة تطورات تاريخية مهمة، إذ تمت المطالبة اجتماعياً وسياسياً بتحديد دور المثقف في الفضاء العام. وهذه الحالة مثلت ولادةٍ عسيرة للمثقفين مقارنةً بوجودِ من كان يحمل لواء الفكر سلفاً. فلم يكُن دورٌ كهذا مطرُوحاً بصورة مستقلةٍ داخل المجتمع، لكن المثقفين شعروا بأهمية الاستقلال والاختلاف فيما بعد. ثمَّ تواصل النقاش تباعاً كضرورةٍ فرضتها حركةُ الواقع، وانكشاف جوانبه التي فاجأت بنية المجتمعات البشرية في الصميم.

تبلورت النقطة السابقة بعدما غدت للمثقف مكانةٌ لا غنى عنها، وأخذ الناسُ ينظرون إليه بوصفه ذا شأنٍ فيما بينهم. والأمرُ بمثابة ظهور(وعي آخر للمثقف) خارج ما يحيطه من محددات مكبلةٍ لحركته. وإذا كان المثقفون يطلقون وعوداً إزاء وجودهم في الفضاء العام، فهي وعود تسير بنمو هذا الخط، وهذا مرتبط بظروف المجتمعات بالطبع، لأنَّ التاريخ أعمق من محاولات تغييره من نقطةٍ ما على أقطار الحياة العامة.

المسألة مع توالي العصور أنَّ المثقف كان خاضعاً لألعاب الحياة المشتركة التي تتجاذب خيوط أفكاره وكيانه لمصلحة القوى الغالبة، ولم تخلو المسألة من رغبته أن يظل هامشياً لمتون القوى بعناوين مختلفة. حتى أنَّ مثقفاً- مع إلتزاماته- قد لا يعي جذور المسألة بحكم كونّه غارقاً داخل التاريخ من نقطةٍ بعينها. فالواقع هو الحجيم بالفعل والانهماك في مساراته حجاب غليظ أمام الرؤية، وربما يشعر المثقفُ بوصوله إلى ذروة ما يتمناه دون إدراكٍ أنه يناقض ما ينبغي أنْ يكون، وأنَّ المعايير ليست مختلطة بتراب الحياة، بل هناك آفاق أخرى عليه أنْ يجترحها.

حقاً ثمة بُعدٌ ليس معروفاً ويصعب التحكم فيه، وهو (مراوغة الثقافة) التي لا تنتظر المثقفين ولا تسمح بتحجيم وجودها الرمزي. إنَّ الثقافة ككل أعمق من اختزالها في أعمال الإنسان الفاعل كمثقف أو كمفكر، ولا يمكن لسلطةٍ مهما بلغتْ أنْ تحكم قبضة السيطرة عليها. الثقافة هي قدرتنا كأناس على أن نتجاوز أوضاعنا التاريخية بكل إشكاليتها. صحيح لا يضيعُ شيءٌ ولا يسقط أيُّ شيء من غربال الثقافة، لكن الأخيرةَ تعصف بكل منْ يقف أمامها، ولا تغيبُ كثيراً دون العودة لتغيير قواعد اللعبة وكشف المحجوب والمخفي.

المثقف - الخدمي:

يعود هذا الصنف من المثقفين إلى حاملي شعارات الثقافة في بلاط الملوك والسلاطين والآن في مؤسسات الأنظمة الحاكمة وأروقة السلطة والمنتديات العمومية واستديوهات التلفاز الرسمية ومواقع المؤسسات والمنتديات ومراكز الإعلام والإعلان ومراكز دعم واتخاذ القرارات وتقديم الخدمات اللوجستية. إنه المثقف الخادم على الأصالة لا غير، يدرك مكانته من جهة كونه تحت سقف الحاجة باستمرار، أو هكذا يحاول أصحاب السلطة وضعه في تلك المساحة دون تردد!!

ورغم جذور المسألة في مجتمعاتنا العربية منذ استعمال الشعراء والكتاب والوراقين داخل دواووين الحكام واعتبارهم من العتاد الرمزي إزاء الآخرين، إلاَّ أن(الخدمة service) مفهوم معاصر وما بعد حداثي بإمتياز. الخدمة تُبلور إمكانية البعض لأنْ يضع قدراته ومهاراته تحت طوع الاستعمال من غيره الأعلى شأناً. الخدمة تطور طبيعي لتعقد وسائل التطور والتعبير عن الأهداف في السياسة والإقتصاد جنباً إلى جنبٍ. ثم جرى الأمر مع تعقد بناء المجتمعات المعاصرة وقيام أحوالها على السرعة والترفيه وانتشار اقتصاديات الوساطة وألعاب السوق السوداء، حتى باتت الخدمة إحدى مفردات الحياة اليومية التلقائية.

الخدمة serviceاقتصاد سياسي مُركب يعكسُ عدةَ مستوياتٍ ثقافية، بل غدت الخدمة ضرورة من ضروريات التطور الحضاري الراهن، وخلعت دلالتها على جوانب كثيرةٍ من أفعالنا ومعطياتنا القيمية والفكرية. وفي فضاء الثقافة، ستكون الخدمة محل استفهام، لأنَّ الثقافة خطيرة على الصعيد الرمزي، ولها قوتها في الاحتكام إلى إنسانيتنا الحرة والمقاومة لألوان العسف والاستغفال. تمثل الخدمةُ أكثر التحولات في تأثير الثقافة في المجتمعات وعلى وعي الأفراد.

1- تعبر الخدمات الثقافية عن تحول المهام والمسئوليات إلى نشاطٍ بديل. فنتيجة تسطيح الأشياء والقيم، غدت الأعمال مجردَ خدمات داخل أمعاء المجتمعات المعاصرة. وأغرب التحولات أنْ تصبح الثقافة - التي هي عميقة بالضرورة - لوناً من التعويم للأعماق، واستهلاك القدرات والطاقات الإنسانية.

2- تكشف الخدمات علاقة السلطة بما دونها من فاعلين ومساعدين ووسطاء وجماعات مصالح. في الخدمة تكون قوة الإستعمال هي الغالبة، ولاسيما أنَّ السلطة تحاول إبقاء تأثيرها نافذاً من خلال جعل القيم والجوانب الرمزية مجرد وسائل تتهافت على مآربها الخاصة. وفي الوقت نفسه تعد الخدمة وسيطاً يعكس: كيف يتم استعمال المثقف؟ وأية أساليب هي الفاعلة في عملية ترويضه وإخضاعه المتواصلين؟!

3- هناك خلط واضح بين المعرفة والإقتصاد حيث تسليعُ الثقافة، وهي نزعة طاغية على امتداد منتجات العصر من القيم والتقاليد حتى التكنولوجيات الصغيرة، وانتشار فكرة البيع والشراء لكل ما يمت للإنسان بصلة، وتحويل الروحانيات والفكر إلى خدمات مدفُوعة الأجر. وتلك العملية تطرح" تسعيرة " للمنتجات الثقافية بما فيها وظيفة المثقفين في المجال العمومي. والرسائل الناتجة عن ذلك تصل من فورها لكل مثقفٍ، فيشعر بكونه داخل سوق كبير لا مجرد فاعل وإبداعي. ومن ثمَّ، يترك نفسه لموجات وبورصة الأسواق من وقت لآخر.

4- تحكُّم سياسات الفكر في الانتاج الفكري والثقافي داخل المجتمع. لم تعد السياسةُ ذلك الفن المعبر عن الممكن، لكنها أضحت الخميرة التي تدس تأثيرها في كل ما يمت للمجتمعات ومجالاتها بصلةٍ. والسياسة بالنسبة للمثقف المعاصر هي الأكسير الذي سيحل مشاكله وخوفه من الجماهير والانتشار دون مجهود والحلم القديم بكونه سيدخل المجال العام مكللاً بالمهابة والغلبة.

5- طغيان قيم الاستسهال والتفاهة والتشبث بالرواج والتداول. وهذا الطغيان لا يأتي عارياً، لكنه تشكل من مادة الخدمات، ومن قدرتها على التسلل إلى تفاصيل حياتنا المعاصرة. حتى أنه يمكننا تلخيص إيقاع العصر بكونه عصر الخدمات التي تعبر عن جوهر التداول والرواج. وغدا كل شيء – بما فيه الثقافة - مادةً إعلانيةً، مادة قابلة للتوليف والتغيير والتحول بلا أدنى أصالةٍ.

6- السرعة والعجلة في انجاز الأشياء دون انتظار الجودة. الخدمات هي لغة السرعة التي تنادي بتلبية الطلب والحاجة. ولذلك تتميز الخدمات- بما فيها الخدمات الثقافية- بالسرعة العجولة، لأنها نوع من تصنيع وسائط للأحداث تكون علامة عليها وتتمكن من التعامل معها في الحال. والخدمات الثقافية تُلخص الطرق السريعة وغير الناضجة في معالجة القضايا الجوهرية. ولاسيما أن الثقافة غدت مهمةً في هذا المجال، لأن الاحداث سريعة التواتر، وبدا المثقف خادماً لأصحاب القرار، وظل بإمكانه توصيل ما يريدون إلى الجماهير الغفيرة واعتبارهم رعاياً لا مواطنين.

7- توظيف المهارات والقدرات الناعمة للمصالح والمنافع. فالحياة المعاصرة توظّف كل ما هو رمزي في خدمة النواحي المادية، إنها عملية التشيؤ التي يخضع لها المثقف في صورة خدمة قابلة للبيع والشراء. وعليه فقد أصبح المثقف سلعةً متاحةً للسياسيين والاقتصاديين ودهاقنة السلطة، بل وهو نفسه أصبح أكبر إنتهازياً جرياً وراء الفرص. وكأنه يقبل تحويله إلى خدمة تحت الطلب كما قلت.

يأخذ المثقف الخدمي طريقه إلى هذا الإستعمال نتيجة المُناخ السائد، وإزداد ذلك الوضع مع وجود مظاهر العولمة واعتبار الخدمات المغلفة بالمغريات والمصالح طاغيةً في حركة الحياة اليومية. لأنَّ ثقافة الاستهلاك أشبعت كل تجليات العولمة، بل كانت ثقافة مختلطة بالأفعال والمظاهر العامة. ولاسيما أن الخدمة الثقافية تُطرح كأي سلعةٍ في الطريق العام، وعادة ما يُنظر رجالُ السياسة إلى المثقف القابل للاستعمال من هذه الزاوية ويصبح قيدَ التوظيف. واللون الثقافي الذي يقدمه مثل كتابة مقالات أو مواد إعلامية لتدعيم تيار بعينه أو كتابة فكرة تؤيد سياسات مكبلة للشعوب أو ترويج لسياسات مستبدة عفى عليها الزمن.

المثقف الحركي:

وهو المثقف الذي يُوجد في الواقع ناشطاً لصالح مرجعيةٍ ما أو سلطة بعينها. ويتصف بقدرته على المشاركة في مسار الأحداث وصناعة المناسبات الثقافية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وكأنه يرى واقعاً جديراً بالتدعيم. هو مثقف مُسيّس بالمعنى الخاص لكلمة سياسة والتي تعني استراتيجية " صناعة الفرص " ورسم خرائط الأحداث. ولعلَّ هذا الصنف هو التطور الطبيعي لدلالة الخدمة، فلن نعرف: ما إذا كان المثقف ملتزماً أم لا، لكن ما نعرفه بالضبط أنه ينخرط في عمليات الصراع ويضع كل ما يملك من أفكار ومعرفة قيد التوظيف والعمل بعيد المدى.

النموذج الواضح لهذا المثقف هو برنارد هنري ليفي Bernard-Henri Lévy، حيث كان فاعلاً في أحداث الربيع العربي خدمةً للقوى الدولية والإقليمية التي تريد تغيير الأنظمة السياسية. ولم يكن الأمر كذلك فقط، بل كان ليفي مشبعاً بأبعاد أيديولوجية وصراعية كفلت له التحرك على مساحة شائكة من السياسة بين دول الشرق (ليبيا وتونس ومصر والجزائر والسودان وسوريا) وأوروبا فرنسا وانجلترا. وكل ذلك - فيما كان يقول - لمساعدة الشعوب العربية على التحرر، بينما هو يتحرك على خريطة سياسية لاهوتية متمثلة في إعادة الدور اليهودي المسيَّس إلى الواجهة.  حيث كان مرشحاً بارزاً عام 2011 لرئاسة إسرائيل بكل هذا الميراث المتأخر.

في جميع حالات الصراع، حرص برنارد ليفي على التواجد بين أنظمة الثوار وأصحاب المعارضة كما كانوا يسمون آنذاك، ولم يكتف بهذا، إنما توغل داخل صفوف معارضي الأنظمة بالمثل، وكذلك ذهب إلى جبهات الصراع، وقد كتب مقالات وشهادات وحضر لقاءات وحوارات من واقع الحروب الربيعية، كي يستحث أوروبا والغرب على التدخل واستصدار قرارات دولية ضد أنظمة الحكم. وكان دائم التجوال الحربي وسط المعارك والاشتباكات في أعماق المدن والضواحي العربية التي شهدت حراكاً. مما أثار أسئلة مريبة آنذاك حول: ماهية تحركاته وكيف يجد الطرق ممهدة لدخول الدول والقفز من مطار إلى آخر ومن جبهة عسكرية إلى غيرها ومن حراك سياسي إلى سواه؟!!

كان برنارد ليفي يقف على ساقين: ساق لاهوتية قديمة ترجع إلى ثقافته الدينية الضاربة في التاريخ اليهودي، وإيمانه الخاص بحسم الصراع التاريخي مع العرب المسلمين. وكذلك كانت تدفعه ذكريات أجداده اليهود بين طيّات الرمال العربية والوجوه القديمة لهم التي تماهت مع وجوه الآلاف من الأجيال اللاحقة، وبات حين كان يسير على الرمال الليبية كأنه يسير على آثار أسلافه السابقين، وكأنّه يُقرّب المسافة التاريخية للعودة إلى الوراء، وكأن هناك " مملكة غابرة " يميط عنها اللثام رويداً رويداً بسواعد العرب المعاصرين، ذلك وسط ضجيج العالم والقوى التي تتصارع على الخريطة السياسية لدول الربيع العربي.

ولم يكن برنارد ليفي حركياً ثم يتحول إلى شيء آخر، بل كان يكتب المقالات وينشر التعليقات والتحليلات وينقل الأخبار عن أحداث الربيع العربي كأنه يكتب عن وثائق لأجيال تاليةٍ، وكان همزة الوصل العالقة بين الشرق بكل موروثاته وأزماته والغرب بكل أطماعه وتواجده على أرض الشرق. حتى قيل إنَّ ليفي كان عراباً للثورات العربية الراهنة. والمهمة نفسها كانت لصيقة الصلة بمثقفي الحروب والاستخبارات الغربية، وليس أدل على ذلك من أن صراعات أمريكا كانت مصحوبةً بحروب ثقافيةٍ وإعلامية قتلت الثقافة العربية بحثاً ودراسةً. فصمويل هنتنجتون  Samuel Huntingtonأصدر كتاب" صدام الحضارات the clash of civilizations"، وهو كتاب يرسم خريطة سياسية لأمريكا بالخارج ويحدد الأوزان النسبية لأعداء الأمبراطورية الأمريكية التاريخيين. حيث رشّح- بعد تراجع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية - الإسلام والمسلمين كعتاد قديم وقادم للحروب في منطقة الشرق الأوسط.

واللافت للنظر أنَّ كتاباً كهذا الكتاب (صدام الحضارات) كان بالأصل- عام 1993 - مقالاً  في مجلة غير محايدة هي " فورين بوليسي foreign policy " التابعة شكلاً لمؤسسيها (صمويل هنتنجتون ووارن ديميان مانشيل)، لكنها في الحقيقة امتداد ثقافي لأنياب الخارجية الأمريكية. وقد شغلت أفكار هنتنجتون المحللين السياسيين ورجال الحروب ربطاً بالحالة الأمريكية، ولقد ركزوا فقط على ماذا ستفعل أمريكا تجاه العالم ومناطق ضغط القوى المؤثرة وخفضها.

غير أن هنتنجتون بهذا المعنى كان مثقفاً حركيّاً بإمتياز، هو ينقل ويُؤشر إلى ما سيحدث في أقاليم العالم، وكيفية ترتيب الأولويات بالنسبة لصراع أمريكا في المستقبل القريب. والمثقف في تلك الحالة مخطط استراتيجي بالدرجة الأولى، يدرك كون الثقافة تلعب دوراً خطيراً في تغليف وتأسيس أي صراع على الأرض. ولا يتوانى عن خلق حالة من العداء تجاه الأغيار بلغة اليهودية، وبات معروفاً أنَّ مثقفاً كهذا هو صاحب إسهام مسيّس، والغرب العسكري يحرص على هذا النمط مع وجود التعبئة السياسية وخلق الأعداء لاقتناص المصالح. وفي الحقيقة أنَّ أمريكا ضليعة في صناعة هؤلاء المثقفين الذين يسبقون حملاتها العسكرية تجاه الشرق، سواء تجاه العراق بداية القرن أو تجاه غيرها في شكل تدخل جراحي عسكري كما في سوريا وليبيا واليمن وبعض مناطق النزاع.

لم يكن برنارد لويس -على سبيل المثال- بعيداً عن تلك المهمة الثقافية، لقد كتب عن قضايا الشرق والإسلام والتجليات السياسية للدين ورأيه أن الاسلام لعب دوراً تاريخياً خطيراً في تماسك الكتل البشرية التي تغطي مساحات العالم الإسلامي، ولكنه كان يقصد تقديم فهم لتشكيل العقائد السياسية الدينية لحامل مفاتيح الصراع في البيت الأبيض. ودائماً يظهر صوت برنارد لويس مع اشتداد وتيرة التواجد الأمريكي على الرمال العربية، فهو يرى أنَّ للعرب حريةَ التمتع بالرمال المتحركة والعقائد المتحركة بالمثل، بينما سيكون لأمريكا حرية الاستيلاء على الثروات فوق الأرض وتحت الأرض. وبرنارد لويس يطلق جيوش المداد الذي يكتب به جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية التي تمرح بين دول الشرق والأوطان العربية. وهو صاحب مقولات تغليف التدخل الأمريكي بأبرز الصور بريقاً، مثل قوله" إنَّ نشر الديمقراطية أفضل وسيلة لمحاربة الإرهاب". وليس يدرك ذلك البعد الحركي في العبارة إلاَّ منْ عرفَ أنَّ الطريق إلى جهنم أمريكا معبد بالورود والأزهار والكلمات المعسولة.

وبالفعل تعدُّ أمريكا أكثر الدول فتحاً لجهنم السياسة، نتيجة الارتباط بين السياسة والحروب على خلفية المصالح والتمدُد الاستراتيجي لكيانها الاستعماري، وهذه العلاقة بين السياسة والصراع المسلّح هي التي استحضرت شخصيةَ المثقف الحركي. فلربما لا تدرك أنت ما إذا كان المثقف سياسياً أم رجل حرب، ما إذا كان يخاطب ضميراً إنسانياً أم يخاطب غرائز القوى المسلحة، ولكن المؤكد أنَّ هناك نتائج فعلية للتعبئة الثقافية وتمهيد الميدان لنشوب النزاعات والأحداث والقلاقل. مما يجعل العلاقة السابقة قائمةً على الأيديولوجيا بصورة ضمنية. فكل ثقافة حركية لون من الأيديولوجيا التي لها أشكال مختلفة من الممارسات.

ولذلك لا يبتعد مثقفو التنظيمات الاسلامية عن هذه النماذج، ربما هم مثقفون في أحد أقاليم العالم الاسلامي بالمنطق نفسه. والفكرة واحدة هي اعتبار المعتقد وطريقة التفكير درباً للممارسة، حتى ولو اقتضى شقه دهس كافة الطرق الأخرى، وتحشيد كافة الأنصار بأية وسائل ممكنة وبشكل عنيفٍ لا مفر منه. ولذلك رأى مثقفو التنظيمات مد الطرق إلى مآربهم على جثث الآخرين، ومن هنا نشأت أفكار التكفير والجهاد المسلح واستحلال رقاب المختلفين دينياً وعقائدياً.

ومن تلك الزاوية، تظهر العلاقة القوية بين أمريكا ككيان والجماعات الدينية كتنظيمات حركية، وهذا يفسر المسافة بين طرفي العلاقة السابقة ايجاباً وسلباً في الوقت عينه، لأنَّ أمريكا هي النموذج الأكبر والعملاق لهذه التننظيمات على الصعيد الكوكبي والعالمي، فهي امبراطورية حركية حتى النخاع، وتمثل ذروة الثقافة التي تمارس دورها بالمنطق النفعي ذاته. وبخاصة أن التنظيمات الدينية تسير بالوقود المؤدلج في كلِّ حارةٍ هنا أو هناك من حارات العالم الاسلامي، ولذلك لا يوجد تناقض إطلاقاً بين الحس الامبراطوري لأمريكا والحس الحركي لتلك التنظيمات الجهادية، وكثيراً ما كانت وما زالت تستعملها أمريكا لمصالح منتظرة وتفكيك الأقاليم التي تنتشر فيها.

إنَّ ذهنية منظري التنظيمات الإسلامية مؤسسةٌ على هذا الجانب، والعلة في ذلك هي عدم تقدير (المسافة الزمنية والثقافية) بين المرجعيات الثابتة والأحداث المتغيرة، فما كان من المنظرين إلاَّ اعتبار الأفكار وسائل لتغيير الواقع عنوةً، والجري وراء الأهداف والغايات بطريقة الممارسة اللاحقة لاسقاطها على هذا الواقع. فإذا كانوا يريدون تطبيق الشريعة كما يرددون عادة، فقد اعتبروها مطبقة سلفاً سواء بناء على نموذج جاهز في التاريخ أو في العقل، ثم يعتبرون الواقع سائراً بأثر رجعي إليه طوال الوقت. وهذا ما يجعل النبرة الثورية الراديكالية بمثابة الفأس التي تهوي على تنوع الواقع وتعقيده.

***

د. سامي عبد العال

هل هناك جواب نهائي للسؤال القديم عن معنى الحياة؟ سؤال لطالما طُرح على الفلاسفة ومعلمي الكهنة. ما معنى الحياة؟ هو سؤال هام. امتلاك معنى وغرض للحياة عادة تترتب عليه نتائج صحية وايجابية. وبالعكس عندما لا نمتلك معنى للحياة سنشعر بالفتور والخسران. فردريك نيتشة خشي من ان افتقار معنى للحياة قد يُغرق العالم في العدمية، وهو الأمر الذي سيكون كارثيا.

العديد من الفلاسفة اقترحوا أجوبة لذلك السؤال القديم، سننظر هنا في أربعة منها. القائمة ليست شاملة، لكن العديد من المفكرين من مختلف المدارس نظروا في المشكلة واقترحوا لها الحلول التالية.

1- الوجودية:

وهي اتجاه فلسفي يركز على اسئلة الوجود الانساني، أي، كيف تعيش حياة ذات معنى في وجه كون لا معنى له. العديد من المفكرين والكتاب ارتبطوا بحركة الوجودية بمن فيهم نيتشة وسيمون دي بينوفور وديستوفسكي. لكن أبرز الوجوديين في القرن العشرين كان جين بول سارتر.

في كتابه (الوجودية هي انسانوية) يضع سارتر اسس الفلسفة الوجودية. هو يوضح "الانسان قبل كل شيء يواجه ذاته، يرتفع في العالم – ويعرّف نفسه بعد ذلك". بكلمة اخرى، بالنسبة للانسان، الوجود يسبق الجوهر. الناس عليهم ان يقرروا ماذا يعني ان يكونوا اناسا  من خلال أفعالهم وبالتالي يعطون معنى لحياتهم. تلك الخيارات ايضا تعرّف الإنسانية ككل. وعلى هذا النحو، يجادل سارتر ان بعض الإختلافات في الأخلاق المطلقة – القاعدة الاخلاقية التي تقول انك يجب ان تتصرف بطريقة يستطيع منطقيا كل شخص آخر التصرف بها – هي جزء حيوي من اتخاذ القرار. اولئك الذين يخشون من ان يقوم  الوجوديون باختيار قيما تمزق المجتمع ربما ايضا يشعرون بالراحة في هذه المعرفة. بالنسبة لـ البير كامو، كان سيزيف بطلا عبثيا لأنه كان يستطيع التمرد ضد عبثية أعماله من خلال وضع قيمته الخاصة على ما يفعل.

2- العبثية  Absurdism:

هي فلسفة أوجدها صديق سارتر ومنافسه الفكري لاحقا البير كامو. انها ترتكز على فكرة ان الوجود هو عبثي أصلا ولا يمكن فهمه من خلال العقل. العبثية، فلسفة مرتبطة بالوجودية لكنها لا تعني ذات الشيء. يجادل كامو ان العبثية تبرز عندما يحاول الانسان ان يفرض نظاما ومعنى على عالم بطبيعته غير عقلاني وبلا معنى. غير ان لاعقلانية العالم وحتمية انقضاء حياتنا فيه دائما يأتيان مجتمعان للاستهزاء بأفضل محاولاتنا لإيجاد معنى. هذا هو الصراع الذي نواجهه.

يرى كامو ان الجواب يكمن في احتضان العبثية. هو يشير الى شخصية سيزيف في الميثولوجيا اليونانية الذي عاقبه زيوس بدفع الصخرة الى أعلى التل. سيزيف لم يتمكن من النجاح لأنه حالما يقترب من قمة التل تتدحرج الصخرة مرة اخرى نحو الأسفل. مهمته بالنهاية كانت بلا معنى ويجب تكرارها الى الأبد. رغم هذا، كامو يدعونا ان "نتصور سيزيف سعيدا".

مثلنا، هو يواجه موقفا عبثيا لا أمل فيه للهروب. كل النظام الذي يفرضه على العالم سوف يتدحرج بالنهاية مرة اخرى. غير ان كامو يخبرنا بان سيزيف يمكنه التمرد ضد عبثية الموقف عبر احتضان العبثية. هو يستطيع الزعم بقيمة حياته واحتضان العبثية في أعماله. عبر القيام بهذا، هو يجد معنى في السخافة – حتى لو ذهب عمله هباءً في النهاية. سيزيف هو بطل كامو العبثي.

3- الوجودية الدينية:

اذا كان الوجوديون الكبار ملحدين –  نيتشة دق ناقوس الخطر حول العدمية عندما صرح "بموت الاله" – فان مؤسس المدرسة الوجودية الدينية كان مفكرا دينيا متطرفا وهو سورن كيركيجارد. فيلسوف دانماركي عمل في النصف الاول من القرن التاسع عشر، هو حوّل تصرفاته الغاضبة الى فلسفة كبيرة. كان كيركيجارد مهتما بالحياة الحقيقية التي يعيشها المرء، وليس فقط في التفكير فيها. ولكن في كل حياة، سنصل الى نقطة يجف بها العقل. في هذه النقطة، يمكن للعاطفة مساعدتنا. كيركيجارد يجادل بان الايمان مطلوب اذا اردنا ان نجد المعنى الحقيقي. ذلك يتطلب "التحلّي بالايمان" leap of faith وهو يجد مثالا على الايمان هذا في احدى شخصيات الانجيل وهو ابراهيم. مثلما كان سيزيف مثالا لكامو، كذلك ابراهيم كان مثالا لكيركيجارد.

في كتابه (خوف وارتجاف)، يرى كيركيجارد ان ابراهيم عرف فورا ان التضحية بإسحق كانت جريمة، وان الله كان يجب ان يُطاع، وان اسحق سيظل حيا وبصحة جيدة. وبالتالي هو كوفئ بسبب ايمانه وذهابه طوعا لتنفيذ اوامر الله. ابراهيم احتضن العبثية من خلال الايمان. العقلانية كانت قليلة الفائدة له، لكن الايمان كان مفيدا. في كتابه (اما او)، يمتدح كيركيجارد ايضا دايوجينس كـ "فارس الايمان" الذي استحق لقبه من خلال النشاطات العادية المألوفة.

4- البوذية:

تجسيد لدين آخر يمكن العثور عليه في أعمال الفيلسوف الياباني كيجي نيشاتاني Keiji Nishitani. نيشاتاني درس الوجودية المبكرة تحت اشراف مارتن هايدجر الذي كان ذاته مفكرا وجوديا رئيسيا، لكنه قدّم اتجاها بوذيا للعديد من المشاكل التي يعالجها الوجوديون.

لاحظ نيشاتاني المشكلة الحديثة في العدمية في كل مكان وانها ارتبطت بإحكام بنزعة التكنلوجيا لتسمح لنا كي نصبح أكثر أنانية. وبينما نحن عادة نواجه "العدمية" أثناء أحداث الحياة الكبرى مثل موت محب، لكنها يمكن ان تبرز في أي وقت – لتجعل السؤال عن كيفية التعامل معها أكثر اهمية. هو يصف حياة الانسان حين تحدث في ثلاثة مجالات: الوعي، العدمية، الفراغ. نحن في أغلب الوقت نعيش في المجال الاول، حيث نحصل على أفكار مثل الثنائية او ان هناك ذات. غير انه، تقريبا كل شخص بالنهاية يواجه العدمية وعليه ان يواجه فكرة الموت، اللامعنى، والفراغ المتأصل في افكارنا. نيشاتاني يجادل اننا يجب ان نندفع نحو المجال الثالث. الفراغ يحيط بالاثنين الآخرين. انه يسمح للفرد بفهم الذات الحقيقية، وكيف تتجذر العدمية في الفراغ كوعي، وفي العلاقة المتبادلة بين جميع الكائنات. وعلى المستوى الأكثر عملية، هو يقترح تأملا بوذيا كأداة لفهم الفراغ المتأصل في الواقع. وبينما هذا قابل للتنفيذ، لكنه لم يعتقد به كعلاج لمواجهة مشاكل العدمية كما وُجدت في اليابان.

***

حاتم حميد محسن

الفِعْلُ الاجتماعي لَيْسَ زمنًا مُتَحَجِّرًا في الظواهرِ الثقافيةِ والقوالبِ التاريخيةِ، وإنَّما هو تجديدٌ فِكري حقيقي ومُؤثِّر في مفاهيمِ المُجتمعِ وحقولِ المعرفةِ، وكُلُّ تجديدٍ فِكري يُمثِّل آلِيَّةً لإعادةِ إنتاج التفاعلات الرمزية في لُغةِ الفردِ الإبداعية، وهُويته المركزية، وسُلطته الاعتبارية. وإذا تَكَرَّسَ الفِعْلُ الاجتماعي كأداةٍ تفسيريةٍ للأحداثِ اليوميةِ والسُّلوكياتِ الأخلاقيةِ، فَإنَّ وَعْيَ الفردِ بِذَاتِه وعناصرِ البيئةِ المُحيطة به، سَيَصير قُوَّةً دافعةً لأشكالِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، ومُوَلِّدَةً لرموز البُنى اللغويةِ، ومُنَظِّمَةً للمعاييرِ الأخلاقيةِ. وهذا يدلُّ على أنَّ الوَعْيَ هو أساسُ الفِعْلِ الاجتماعي، وكِلاهُمَا مُندمِج معَ عمليةِ تحريرِ الظواهرِ الثقافية مِن عِبْءِ المَصَالحِ الشخصيَّةِ، وعمليةِ تخليصِ القوالبِ التاريخيةِ مِن ضَغْطِ التأويلاتِ المُغْرِضَةِ. وإذا كانَ المُجتمعُ هو ذاكرةَ الأحلامِ الفرديةِ التي تُعيد تشكيلَ سُلطةِ البناءِ الاجتماعي، وترسيخَ إنْسَانِيَّةَ الواقعِ التي لا يُمكِن أَدْلَجَتُهَا مَصلحيًّا، ولا تفكيكُها تاريخيًّا، فإنَّ فلسفةَ المُجتمعِ هي تجسيدُ ذاكرةِ الأحلامِ الفرديةِ في بُنيةِ السِّيَاقِ الحضاري لِثَورةِ اللغةِ وحركةِ التاريخِ، وهذا التشابكُ المعرفي بين المُجتمعِ وفلسفته يَجعل جَوْهَرَ الفِعْلِ الاجتماعي إطارًا مرجعيًّا لِمَنطقِ اللغة الرمزي، ومَنهجِ العقل الجَمْعِي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَجذيرِ الفِكْر النَّقْدِي، وتَكَيُّفِ فَلسفةِ الحَداثةِ معَ فَلسفةِ التُّراثِ، بدون عوامل خارجية ضاغطة، ولا عمليات تَلفيق اصطناعية على الصَّعِيدَيْن الزَّمَني والأيديولوجي.

2

الفِعْلُ الاجتماعي القائم على الوَعْي قادرٌ على تَكوينِ منظومةٍ مُزْدَوَجَة مِن فَلسفةِ الحَداثةِ وفَلسفةِ التُّراثِ، بشكل طبيعي وانسيابي وسَلِس، لأنَّ الوَعْيَ طاقةٌ ذاتيةٌ في تفاصيل المُجتمع، ولَيْسَ عُنصرًا دَخيلًا أوْ كِيَانًا مُسْتَوْرَدًا أوْ كَينونةً غريبةً، وهذا يَعْني أنَّ الفِعْلَ الاجتماعي والوَعْيَ مُتَجَانِسَان، وتَجْمعهما رابطةٌ وُجوديةٌ واحدةٌ، وغايةٌ مصيريةٌ مُشْتَرَكَةٌ، ويَتَحَرَّكَان في نَفْسِ الاتجاهِ ضِمْن تَيَّارٍ معرفي مُتماسك بلا انقسامٍ معنوي ولا انكسار مادي، مِمَّا يَمنع التعارضَ بين الحداثةِ والتُّراثِ، ويَمنع التصادم بين فَلْسَفَتَيْهِمَا على صَعِيدِ الشَّكلِ والمَضمونِ. والفِعْلُ الاجتماعي عمليةُ حَفْرٍ في الفِكْرِ النَّقْدِيِّ والظواهرِ الثقافية، والوَعْيُ عمليةُ حَفْرٍ في البُنى اللغويةِ وأنماطِ الحياةِ. وهذا النشاطُ الإنساني يُمثِّل شبكةً مِن العلاقاتِ الاجتماعية، ونسيجًا مِن الخِبراتِ الحياتية. وكُلُّ نشاط إنساني يَرتكز على التجانسِ بين عناصر البيئة المُعَاشة، ويَعتمد على التفاعل الواقعي معَ مصادر المعرفة، ويَستند إلى الأدوات المنهجية التي تُوَظِّف رمزيةَ اللغةِ في تأويلِ السِّيَاقِ التاريخي للعقلِ الجَمْعِي، وتحليلِ المَسَارِ الحضاري للفردِ والجماعة، مِمَّا يُشير إلى أنَّ النَّشَاطَ الإنساني نظامٌ فِكري مُندمِج معَ البيئةِ والتاريخِ والحضارةِ، وَفْق آلِيَّات عقلانية تَسْعَى إلى النُّهُوضِ بالواقع، ولَيْسَ الهَيمنة عليه، وتَسْعَى إلى تحرير هُوِيَّةِ المُجتمع الإبداعية مِن سُلطةِ اللحظةِ الآنِيَّةِ، ولَيْسَ احتكار الأحلام الفردية لصناعة وَعْيٍ زائف وشُعُورٍ مُخَادِع وإنجازاتٍ وهميَّة.

3

الفِعْلُ الاجتماعي يُؤَسِّس أركانَ الفِكر النَّقْدِي لتحريرِ التُّرَاث مِن أوهام الحداثة، وتحريرِ الحَداثة مِن تقديس التُّراثِ، مِمَّا يَجعل الفردَ يُمارس سُلطته اللغوية في سِيَاقَاتِ الحداثة ومجالاتِ التُّراث، اعتمادًا على طرحِ الأسئلة المصيرية، والبحثِ عن أجوبة مَنطقية مَهْمَا كانت صادمةً، والأساسُ الفلسفي للأسئلة المصيرية مُتمركز في بُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي، مِن أجل اكتشاف الحقيقة، ولَيْسَ التحايل عليها، أو الالتفاف حَوْلَها. وهذا يَنقل الظواهرَ الثقافيةَ مِن الفِعْلِ الاجتماعي إلى الفاعليَّة الوجودية، ويَنقُل الأحلامَ الفردية مِن المصالح الشخصية إلى الكَينونة المعرفية، مِمَّا يُحَرِّر الفردَ مِن الاغترابِ الرُّوحي في الأحداثِ اليومية، ويُحَرِّر المُجتمعَ مِن الغُربة الزَّمنية في الوقائع التاريخية، وبالتالي، يَتَكَوَّن تَصَوُّرٌ فلسفي لصورة الماضي في الحاضر، وانعكاسِ الحاضر على الماضي، وهذا التَّصَوُّرُ الفلسفي مُرتبط بشكل وثيق مع التَّحليل النَّفْسِي للحَداثةِ والتُّراثِ، وكيفيةِ تَوظيفهما بشكل تكاملي في تفاصيل الحياة، بحيث يُصبح الفِعْلُ الاجتماعي نظامًا تَوليديًّا للفِكْرِ النَّقْدِي، ويُصبح الفِكْرُ النَّقْدِي إطارًا تنظيميًّا للفِعْل الاجتماعي.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الإسلام والوجودية.. هل تأثر فلاسفة الوجودية بالتصوف الإسلامي؟

إذا توافقنا على تصور الأفكار الفلسفية دائرةً متصلة الأطراف يقود بعضهاَ إلى بعض في إطار متجدد من عدد من الرتوش والإضافات الظرفية لمناسبة الآن والزمان والحال. فإن فلاسفة الوجودية ليسوا بمنأى عن ذلك؛ لهذا فمن الغريب ألا تجد محاولة الفيلسوف المصري د.عبدالرحمن بدوي، وكذلك المفكر الأصيل الذي لم ينل ولو جزءاً من حقه الأدبي والفكري الدكتور عبدالغفار مكاوي، لم تجد محاولتهما في نص د.عبدالرحمن بدوي على التشابه بين أفكار فلاسفة التصوف الإسلامي واصطلاحاتهم وأفكار فلاسفة الوجودية سورين كيركجارد (١٨١٣ م - ١٨٥٥ م)، هيدجر (١٨٨٩م - ١٩٧٦م)، وفي تنبيه د.عبدالغفار مكاوي إلى تأثر الوجوديين بأبي البركات البغدادي، لم تجد من يعمل على فحصها ودرسها والتوسع في مقابلة النصوص ومقارنة الأفكار وتطابق النتائج والمقولات.

والسبب فيما يبدو ذلك الذي أشار إليه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي متمثلاً في قابلية الاستعمار لدينا، إن لم يكن عسكريا فليكن اجتماعياً وثقافياً يضعنا في مقام التابع لا المتبوع، لأن مقام المتبوع يزيل الوهج والانبهار الذي تسربلت به منتجات الحضارة الغربية.

لكن لأننا قد درجنا واعتدنا الموضوعية نهجا بحثيا بعيداً عن الذاتية فيما يقتضيه البحث العلمي، فإننا سنعمد إلى المقابلة بين بعض المسائل التي عرضها فلاسفة الوجودية مما نجد له نظيراً سابقاً في معطيات الفكر الإسلامي وتمثلاته الصوفية.

ولنبدأ بمسألة الموت.

تنظر الوجودية إلى الموت على أنه جزء من الهوية الإنسانية الملازمة لوجودها منذ الميلاد، فالموت والحياة نقيضان يمثلان الوجود والعدم قد وجدا جنباً إلى جنب في دورة متواصلة ووجود غير منفصل، وكأن أحدهما غطاء للآخر ومحايث له في الوجود، فهو هوية في الوجود وفي اللاوجود، ويأتي الموت عندما يفارق الوجود (حالة الإمكان ألى الاستحالة فيحل الموت (العدم) محل الوجود العيني (الدازاين)

وليس الموت في الوجودية تتويجاً لاعتزال اللاعبين ملاعب الحياة، لأن الموت لا يختص فقط بكبار السن أو المرضى، بل إنه لا يميز بين كبير وصغير أو بين صحيح وعليل، فهو الحاضر الحي في كل وقت.

وهو تجربة ذاتية لا يعانيها إلا صاحبها ولن يفهمها غيره وإن مات العالم كله أمامه.

وبداية فإن التصوف الإسلامي وفلاسفته الكبار مثل ابن عربي والحلاج وابن سبعين والسهرودي هم الرافد الأول المفترض للتأثير في فلاسفة الوجودية، وذلك ليس نوعاً من المبالغة في التأويل واعتساف المشابهات بأي ثمن كما يتخوف د.عبدالرحمن بدوي (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي ص 82، 98)

بل إن الأمر يستند إلى واقع دراسات التصوف الإسلامي في الغرب على يد كبار المستشرقين واللاهوتيين على حد سواء بدءاً من (نيكلسون 1868م-1945 م) الذي ترجم وحقق بعض مثنويات جلال الدين الرومي وتذكرة الأولياء للعطار، واللمع لأي نصر السراج، وترجمان الأشواق لابن عربي.

ثم الأسباني (اسين بلاثيوسي ١٨71م- 1944م) الذي اعتنى عناية خاصة بابن عربي ثم بالغزالي حجة الإسلام.

أما الفرنسي (لويس ماسنييون 1883م – 1962م) فقد درس الحلاج دراسة مستفيضة ونشر ديوانه وكذلك (الطواسين) وأخبار الحلاج وكانت رسالته للدكتوراة عنه باللغتين العربية والفرنسية، كما كتب عن ابن سبعين.

وليست المقابلة التي أجراها د. بدوي بين المتناظرات والمتشابهات فيما بين التصوف الإسلامي وبين الفلسفة الوجودية في مسائل:

1- الوجود والماهية

2- الإنسان الكامل، الأوحد

3- الوجود كحياة تطبيقية للآراء في تجربة ذاتية للإنسان

فالآراء تحيا في التجربة الذاتية وليست نوعاً من المعرفة النظرية كما كان الحلاج يحيا حياة المسيح وآلامه في تعرضه للموت اختياراً كما تعتقد المسيحية.

و كما كان كيركجارد ينطلق من القصص الديني مقدمات للوجودية.

4- القلق ودوره في تحول الوجود من حالة الإمكان إلى حالة الكينونة المتعينة ليشغل مكان العدم الماهوي.

ليست هذه المقابلة إلا نماذج حقيقية من ذلك التشابه وبتلك المتناظرات التي عندما يُنظر إليها إلى جانب توفر المادة العلمية للإنتاج الصوفي الإسلامي لا يكون ثمة مجال للقول بالمبالغة أو التعسف.

و يزيد هذه النتيجة وضوحاً وتأكيداً التصور الإسلامي للموت سواء في التمثلات الصوفية أو السلفية على حد سواء.

فالموت في التصور الإسلامي ليس النهاية، وإنما اختتام مرحلة فحسب وبداية لمرحلة وجود أخرى لا متناهية الزمن وهي الحياة المثلى التي ينعدم فيها الموت عدماً حقيقياً ليحقق الوجود الحقيقي والكينونة المتعينة اللانهائية للإنسان، فالإنسان لم يخلق للفناء والعدم بل للبقاء والخلود فالموت في الإسلام ليس عدماً بل وجود خلقه الله إلى جانب الحياة ليؤدي مهمة فاعلة وظيفية: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).

وهذا الموت تجربة ذاتية لكن يعايشها الإنسان في الإسلام معايشة دائمة ومستمرة يومياً: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر/42

و تتعدد صور الموت في الإسلام ما بين موت وظيفي متجدد متكرر، وما بين موت وظيفي محدد.

فالموت الوظيفي المتكرر هو ما أشارت إليه سورة الزمر ممثلاً في الوفاة بالنوم.

أما الوظيفي المحدد فهو موتتان محددتان تعقبهما حياتان إحداهما محدودة قصيرة والأخرى غير محدودة: (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) غافر/11

هي الحياة الدنيا التي ينجح الإنسان فيها إن عاشها (كأنك غريب أو عابر سبيل) لأنها ممر

أما الثانية فهي الحياة الحقيقية الدائمة: (وما هذه الحياة إلا لهْو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت / ٦٤.

ويأتي التأكيد الإسلامي على تجاور الموت والحياة وتحايثهما كموجودين منذ بدء خَلْق الوجود، ولذلك ليس بغريب أن الوجود والحياة قد بدأت بالموت والعدم: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحْييكم ثم إليه تُرجعون) البقرة /٢٨.

ولذلك يفتقد الموت لدى الصوفية أية صيغٍ من المرارات أو التخوفات من المجهول؛ لأنه بمثابة إذن الولوج إلى لقاء المحبوب الأعظم: (مَن أَحبَّ اللهَ أحبَّ لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كره لقاءه) رواه الشيخان في باب من أحب لقاء الله.

ثانيا: (حقيقة الوجود الإنساني)

بعيداً عن تصنيف الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي للفيلسوف الألماني مارتن هايدجر بأنه ملحد، ذلك التصنيف الذي لا يصح بحال من الأحوال ولم يوافقه عليه أحد من الأثبات.

فهل يمكن القول بأن هايدجر عندما أقام نسقه الفلسفي على أساس من (الوجود) حياة الإنسان، (الموت) الذي هو جزء من كينونة الإنسان، وبينهما القلق تجاه مصير الإنسان الحتمي، ذلك القلق الذي ليس شعوراً بل قيمة فلسفية باحثة عن معنى الوجود وكيفية تحقيقه بالدازاين (Da zein) الوجود الحقيقي المتعين بالعالَم، ذلك الوجود الذي تفقد حياة الإنسان معناها إذا لم يحققه باختياره وإرادته الحرة، وإلا أصبح مغترباً عن ذاته، منتفياً وجوده الحقيقي، متهرباً من مسؤوليته الوجودية تجاه العالم، فاقداً البصمة المؤثرة في الحياة، متحولا إلى رقم في قطيع استهلاكي روتيني مغلق تافه.

هل يمكن القول بأنه أول فيلسوف غربي يدرك عظمة الخلق الإنساني على النحو الذي طرحه التصور الإسلامي بأنه سيد الكون الذي خلقه الله تعالى خليفة في الأرض لعمارتها وأمدَّه بكل مقومات الامتياز المناسبة لأداء تلك المهمة وتحمل الأمانة التي عجزت عن تحملها السموات والأرض والجبال، فمنحه العقل وأدوات الإدراك والحواس وأرشده بالوحي لكي يعمل بإيجابية وتأثير يُحاسب على التقصير فيه، فلا تزول قدماه حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مم جمعه وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به؟

فإن كان ذلك كذلك فما هي المصادر التي اعتمد عليها هايدجر من تراثنا ومن فلاسفتنا ومفكرينا خاصة أنه بدأ حياته لاهوتياً، بل يرى بعض نقاده كذلك مثل جلال صادق العظم أن نسقه الفلسفي عبارة عن لاهوت مُقَنَّع، أو على الأقل كما يقول جاك دريدا عن كتاب هايدجر الرئيسي (الوجود والزمان): إنه لم يُقرأ جيدا بعدُ، ولا يزال يعاني سوء الفهم أو عدمه، وما زال الكثير من مواضعه غير واضح وغامض وعسير على الفهم.

ويؤيد ما ذهب إليه جاك دريدا أن هايدجر نفسه قد انتقد الفيلسوف الفرنسي سارتر بأنه قد استعار اصطلاحاته لكنه حرَّفها؟

***

أ. د. عبد الراضي رضوان

عميد دار العلوم السابق - رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة

1. افلاطون مشاعية الجنس والتملك:

منذ عصور الحضارة اليونانية القديمة نعثر على عبارة افلاطون، في دعوته الى مشاعية النساء والثروة، حتى لا يكون القتال من اجلهما وتنشب الحروب بسببهما.

من الواضح أن النساء والثروة كانت مسألة تحظى بأهتمام الفلاسفة اليونانيين الزاهدين بهما، في محاولتهم وضع قوانين وتعليمات دستورية ملزمة تنظّم حياة المجتمع وتنأى به عن المنازعات والاقتتال خاصة بين كل من أثينا وأسبارطة، كما حدث في حرب طروادة التي خلّدها هوميروس في الالياذة، وتسببت بها امرأة (هيلينا) زوجة ملك اسبارطة التي أحبت (باريس) ابن ملك طروادة وهربت معه وكان ماوقع من حرب وسفك للدماء بسببها.

وفي تقصّينا معرفة صحة وصواب دعوة افلاطون لمشاعية الجنس والثروة في عصره، نجد انه كان من مميزات حضارة اليونان تقبّل مثل هذه الدعوة التي نعتبرها نحن الآن من مخّلفات وأرث المجتمعات البدائية المشاعية الجنسية المتخلفة. في أن يكون جميع النساء وبلا استثناء زوجات مشتركات للرجال بحيث لا يكون لكل واحد منهم زوجة واحدة خاصة به، ولا لكل أمرأة زوجا واحدا خاصا بها، ويكون الاطفال مشتركين بالنسب لا يعرف الولد اباه ولا يعرف الاب أبنه لذا كان الى مرحلة متقدمة من الحضارة الانسانية تؤصل الانساب بين القبائل البربرية البدائية على أمومة المرأة وانتساب المولود للأم التي كانت رمز الخصب وربيع الحياة لا للأب غير المعروف.

وهذا ماجرى لألمانيا التي خسرت الحرب العالية الثانية واعقبه اغتصاب جيوش الحلفاء ومنهم الروس الالاف من النساء الاسرى اللواتي حملن وانجبن أطفال تم تسجيلهم باسم الام فقط المجهول الاب.

وبالعودة الى عصور البدائية الحجرية، وبالتحديد الى عصر الصيد والالتقاط، الذي يسبق عصر بداية صنع الانسان للحضارة في اكتشافه الزراعة والري وتخزين الحبوب وتدجين الحيوانات 7500 قبل الميلاد.نجد ان تملك النساء وتملّك الثروة المشاعيين لم يكونا بنفس الاهمية عند التجمعات البشرية البدائية المشاعية. ولم يكونا متكافئين كسبب مباشر باحتمال نشوب النزاعات بين الرجال والاقتتال على الاستئثار بهما.

وانهما بالنتيجة لم تكونا عاملين في هدرهما اخلاقيات تلك التجمّعات المتنقّلة ونشوب الحروب والنزاعات بين تلك التجمعات البشرية، هذا في حال جاز افتراضنا أن انسان تلك المرحلة (الرجل) كان متواضعا متوافقا مع غيره من الرجال على عرف اخلاقي في أبسط معانيه واشكاله أن جاز التعبير، عرف مشاعي ينّظّم امتلاك الرجال للنساء بلا عدد محدد، علما أن الانسان المشاعي الوحشي البدائي لم يكن يعرف التواصل باللغة الشفاهية الكلام، ولا يعرف الكتابة التي هي من أختراع السومريون في بلاد ما يسمى ميزابوتوميا (ما بين النهرين 350 ق. م)، .

بعد آلآف السنين من مغادرة عصر الصيد المشاعي والزراعي القبائلي، كما أن المرجّح ايضا عدم معرفة الانسان البدائي لأدنى قيمة اخلاقية ابتدعها الانسان في مراحل تاريخية حضارية لا قبل اختراع الانسان التدوين ولا بعده لا حقا نشأت مع ظهور الاديان الوثنية وبعدها التوحيدية، ولم يكن هناك ماهو اخلاقي في الحياة البدائية الأولى على الأقل في ما نعرفه بالمجمل العام.

أذن المرأة والتملّك المشاعي لم يكونا عاملي استثارة للمنازعات والاقتتال بين الرجال. وأن الدراسات الانثروبولوجية(علم دراسة الانسان) التي تعتمد التنقيبات الاركيولوجية الاثرية في اطلاق فرضياتها التخمينية، تذهب أن الانسان البدائي لم يكن يعرف معنى اقتران الرجل بأمراة واحدة معينة لا غيرها، ولا المرأة تعرف معنى اقترانها برجل واحد دون غيره ايضا. لا في صيغة تملّك الرجل ولا في صيغة اتفاق تعاقدي بين الرجال والنساء عموما. وأكثر ترجيحا أن المرأة والرجل كلاهما لم يكونا مدركين أن الجماع الجنسي هو وسيلة التكاثر وحفظ النوع الانساني من الانقراض الا في مراحل تاريخية متقدمة من ممارسة الجنس والانجاب بشكل عفوي ناتج عن ممارسة الجنس لاشباع اللذة والمتعة.

اما الثروة فانها تشّكل مرتبة ثانوية بالأهمية على اعتبار أنّها ملكية متواضعة جدا حتى في مقاييس تلك الازمنة، وليست ملكية استغلالية مجحفة تستحق التنازع عليها ودخول التصفية الجسدية بين المتنازعين.

فهي ملكية بسيطة لا تتعدى الطعام وادوات الصيد والكهف والجلود وما تجود به الطبيعة . فهي لا تشكل عامل احتراب وتصفية بين الرجال، والثروة الطبيعية لبساطتها،  وصعوبة التملك الانفرادي الاناني لها لتكون عامل فتنة قتالية الا في مراحل متقدمة جدا على مجاوزة العصور الحجرية الكهفية البدائية، حين اصبح التملّك قيمة استغلالية في استملاك الاراضي الزراعية الشاسعة وامتلاك قطعان الحيوانات الداجنة ووسائل الانتاج الاخرى والاستئثار بها دون الاخرين.

ويمكن القول أن المشاعية الجنسية والتملك السلعي كانتا سببا مهما في بقاء الجنس البشري الذي كان يتهدده الانقراض من قبل الوحوش الكاسرة المفترسة من جهة، وقسوة الطبيعة التي لا ترحم من جهة اخرى في ندرة الغذاء، كانت المرأة ملكا مشاعا لكل الرجال في الحفاظ على الانجاب والتكاثر وتوّحيد الرجال ضد الأخطارالمحدقة بالانسان كنوع. لقد كان الانسان البدائي يحرص على عدم فقدان أشخاص من نوعه في ظروف معيشية صعبة كان فيها الانسان البدائي يقتات الجيف والحيوانات النافقة في ندرة وقلة الحيوانات التي كان يصطادها بصعوبة، كما نشأت في مرحلة لاحقة قبائل أكلة لحوم البشر. فرجل تلك العصور لم يكن يعرف أهمية أن يمتلك هو دون غيره لافي الجنس ولا في التملّك الطبيعي للاشياء، وفي مراحل لاحقة كان يجري تبادل النساء بين القبائل والتجمعات كسلعة تداولية اما لفض النزاعات او لتدعيم اواصر التحالفات ضد اخطار الاخرين..ثم من العسير جدا اعتبار الانسان البدائي مجردا من عاطفة الحب والاناسة الاجتماعية مع غيره من جنسه البشر، فهو يأنس بتلك العلاقة الاجتماعية مع غيره من نوعه ويتأنسن بالطبيعة بهذه الرابطة ككائن نوعي اجتماعي بالفطرة. وفي غير ذلك محال ان لا يكون انقراض الانسان حاله حال انقراض حيوان الماموث والديناصورات قد حصل.

اذا تقدمنا مراحل طويلة من عمر وعصور البشرية البدائية، وبعد معرفة الانسان للعائلة والقبيلة، ووضعنا رحالنا في عصور ماقبل التاريخ عند السومريين والاكديين والبابليين والاشوريين.نجد ان مشاعية الجنس قد اخذت صيغة البغي والدعارة المنظّمة لدى السومريين ابتداءا، فقد كانت المرأة الراهبة في المعبد والمرأة في المجتمع الوثني كلتاهما يمارسان الدعارة كتعبير اخلاقي وطقسي مقدّس من قبل الكهنة ورعايتهم له، وتعتبر تلك الرعاية الوثنية المقدسة للدعارة بمثابة ميثاق ديني اخلاقي متواضع عليه ووجوب ممارسته مجتمعيا.وقدسيته تنسحب ايضا على دلالة الخصب الطبيعي في تجدد الحياة والنماء المستمر المبارك حسب معتقداتهم.وأن أول بيت للدعارة في التاريخ البشري كان من ابتداع السومريين واطلقوا عليه اسم (ميثقديم). methikdeam.

أذن كان الكهنة الوثنيون ينّظّمون تلك الاباحية الجنسية بالقداسة التي أبتدعوها ولم تكن في معايير عصرهم تشي بأي نوع من التسفيل الاخلاقي والعمل المشين اجتماعيا، خاصة في تزكيتهم تلك الدعارة كهنوتيا وثنيا، اذ وصل الحد الى الألهة عشتار البغي أنها كانت تمارس الجنس مع عبد تختاره كل مرة لتروي ظمأها الجنسي بعد اذن الملك زوجها في قضاء حاجتها الجنسية مع العبد الذي يصارلاحقا الى حرقه حيّا في طقس وثني، وانتقام سادي غامض.كما أن راهبات المعبد كنّ يمارسن البغاء مع الزوار الاجانب ايصا لقاء مبالغ من المال.

2. المشاعية في المفهوم العصري:

في المجتمعات الرأسمالية والعالم قاطبة تقلصّت الى أبعد الحدود ليس مشاعية الثروة والمال فحسب امام مشاعية النساء، بل واصبح اليوم ندرة الغذاء بسبب الجفاف والتصحر على الارض وتغير المناخ انتشار المجاعات والاوبئة التي لم تعد تناسب الزيادات الانجابية بالسكان. وقد اسيء كثيرا تفسير تنبؤ توماس مالثوس مالثوس لهذه الكارثة التي يشهدها عالمنا اليوم في مقاله الذي نشره عن الواقع السكاني الجزائري عام 1789 عام اندلاع الثورة الفرنسية..عندما اعلن ان التناسب العكسي يحكم علاقة ازدياد السكان مع قلة موارد الطبيعة في توفير الغذاء.

وباتت اليوم التطلعات الاشتراكية الاقتصادية من (يوتوبيات) عصور الانقراض التي عفا عليها الزمن وتجاوزها التاريخ، ليحّل محلها في الاولوية الاباحية الجنسية وانحلال الاسرة وانحدار الاخلاقيات الجنسية الى مراتب حيوانية بهيمية. علما أنه لا توجد مشاعية جنسية حيوانية الا في فترة محدودة هي موسم التكاثر عند مختلف انواع الحيوانات، وممارسة الحيوان للجنس عنده ليس بافضل منها لذّته بالأكل فقط،  بعكس الانسان الذي يجد متعة الجنس أفضل من متعته بالاكل.

لذا تعتبر مشاعية الجنس عند الحيوان حتى وأن لم يدرك ذلك أعلى مرتبة في نظامها الطبيعي الغريزي بالحفاظ على نوعه من أباحية الجنس الآدمية المبتدعة في المجتمعات الغربية الرأسمالية اليوم، بأسم ممارسة حرية الجنس كحق مكتسب من حقوق الانسان في الاباحية وفي ازالة حواجز التحريم الجنسي نهائيا في زنا المحارم والديوثية واللواط وغيرها من انواع الجنس الشاذ.

السؤال الذي تتناسل عنه عشرات الاجوبة الجاهزة، هو لماذا انحّلّت الاسرة في المجتمعات الغربية ولم يحصل ذلك مع الشعوب الشرقية؟ هل بسبب حصانة الدين وتحريماته وحده ام بسبب مؤثرات اخرى؟

هل تتحمل المرأة مسؤولية أنحلال أخلاقيات الجنس في الغرب، وما دور الرجل بذلك؟ هل لعبت المرأة دورا تخريبيا سياسيا واقتصاديا، شأنها شأن الثروة المتراكمة في جيوب حفنة من الاغنياء المليارديرية والمليونيرية؟ وفي مؤسسات احتكارية عملاقة. هل المرأة والثروة متلازمتان كسبب انحلال الاسرة اجتماعيا عليها، وصولا الى تدمير اخلاقيات المجتمع المتواضع عليها أسريا؟

ولماذا نقصر اخلاقيات الدين في قيمومته الوصاية على اخلاقيات المجتمع في تماسكه الاسري؟ وكيف يمكننا الاحتكام في تقييمنا اخلاقيات المجتمع مع الاقرار بادانة ان النساء والثروة هما سببا التدمير الاسري والاخلاقي الاجتماعي الى يومنا هذا بتفاوت نسبي بين شعوب الارض؟.

واذا سحبنا النقد الاخلاقي الينا، ألم يكن في مجتمعاتنا قبل وبعد الاسلام خروقات جنسية فاضحة ودامغة تبدأ بممارسة البغاء العلني، تلاها الامير والسلطان والقائد الذي يملك كذا عدد من المحظيات والجواري والغلمان وما ملكت ايمانه ممن لا ينالون حظوة الجماع والنكاح معه مرة واحدة كل عام؟ ما عدا الزوجات الاربعة اللواتي يجري عليهن تدويرحكم الطلاق للهروب من فضيحة المخالفة الشرعية الاسلامية، في سحب الدين غطاءا للمستور في ظهور الالتزام بتعاليم الشرع والدين أن الزوجات الاربع كاف لا اكثر.أليس في هذا مشاعية جنسية أنثوية في مضاجعة كذا عدد من النساء لرجل واحد يتشدق بالذكورية المالكة والمتسلطة على الانثى وهوعبد شهوته التي يعجز من اشباعها بايولوجيا؟

3. الاباحية الجنسية بين النظامين الراسمالي والاشتراكي:

هل كان من المفروض ان النظام الاشتراكي الشيوعي مقدّرا له بعد أن ينجز بنجاح توزيع الثروة توزيعا اشتراكيا منصفا عادلا، أن يرافقه انحدار مغاير في الوصول الى نوع من الاباحية الجنسية تقوّض الاسرة واخلاقيات المجتمع كما حصل في مجتمعات النظام الرأسمالي حتى من غير توزيع عادل اشتراكي للثروة.؟ بل فرضية انعدام التكافؤ التقريبي بين امتلاك الثروة الراسمالية وطبقة الفقراء وشرائح المعدمين هي سبب انحلال الاسرة في الغرب خاصة بعد تحييد عامل الدين.

بما يتعلق بهذا التساؤل قبل الدخول في تفاصيل، أشير الى معلومة، انه على خلاف المتداول عن مشاعية الجنس في النظام الاشتراكي الشيوعي، أن ماركس أنكر المشاعية الجنسية وأستهجنها من منطلق تقويضها البناء الاسري وتماسك العائلة والمجتمع، وبذلك وضع حدا فاصلا بين مشاعية الثروة التي يسعى النظام الشيوعي في مراحل متطورة من تطبيق النظام الشيوعي ضرورة الوصول لها وبلوغها كحتمية تاريخية مهمة، وبين مشاعية الجنس التي تستهدف نظام الاسرة بمقتل يتوجب الاحتراز منه وعدم الانغماس به.وليس مؤكدا عندي ايضا ان كان فريدريك انجلز قد ذهب في مؤلفه الشهير(اصل العائلة) نفس المنحى ام لا؟ حول مشاعية الثروة ومشاعية الجنس.

ولتوضيح هذه المسألة الهامة على قدر المامي المتواضع بادبيات الفكر الماركسي اجازف بتحليلي واقول ان النظام الشيوعي بحسب اهتدائه بالنظرية الماركسية ومنهج المادية التاريخية، أعتبر الشيوعية آخر مراحل تطورانحلال الامبريالية الراسمالية يعقب أفولها وانهيارها الحتمي، وبعدها سيمضي النظام الشيوعي الى مراحل متطورة من تعزيز الاشتراكية وتطويرها قبل وصولها الى حتمية تطورية تاريخية معقّدة جدا تشي بانحلال الدولة، ليتولى الشعب أدارة شؤونه بنفسه وربما بمساعدة مؤسسات بديلة لا تمثل الدولة بمفهومها الحديث في تنظيم الحياة.

لكن سوف لن يبقى هيمنة لسلطة ومؤسسات دولة فاقدة لمبرر وجودها اصلا في تمثيلها مصالح طبقية هي طبقة البروليتاريا، وقتها سينعدم اي تملّك فردي لتحل محله مشاعية مالية وامتلاك شعبي مباشر للثروة. لكن الاهم من كل ذلك ان هذه المراحل النظرية الافتراضية لن تشهدها أجيال عمرية محصورة بمئة سنة من الحياة على أبعد التقديرات المستقبلية في توّقع أطالة معدل عمر الانسان ليشهد مراحل من الحياة تحتاج كذا الف عام..في تطور النظام الشيوعي ووصوله مراتب عليا في التطور الذي سيشهد انحلال الدولة. وهو ما لايتاح لاحد اليوم الجزم بان هذه الافتراضات النظرية التاريخية ستحصل ام لا؟ لكن مع تفاقم الانحدار نحو شحّة الغذاء سيصبح من الضرورة الملزمة اللجوء الى انواع من الاشتراكية الديمقراطية المحسنّة.

التفكيك والانحلال الاسري من قبل الغرب الرأسمالي ليس في مشاعية الجنس وحده، ولكن في مشاعية تردي الاوضاع المعاشية التي شهدها النظام الاشتراكي قبل انهيار مركزيته في تفكك الاتحاد السوفييتي القديم بداية التسعينيات.الذي كان بالضرورة يترتب عليه انهيار المنظومة الاخلاقية المجتمعية الاسرية وهو مالم يحصل اقتصاديا تمهيدا له..

في المقابل بقي النظام الرأسمالي في متاجرته بالاباحية الجنسية كواحدة من حقوق الانسان التي يغيظ بها النظم الاشتراكية، وتكدّس المال الاحتكاري الاستغلالي بطبقة ثرية متخمة ومجموع يعيش ضياعه بالحياة المستقرة في الاباحية الجنسية وانحلال النظام الاسري في تفشي الاستهلاك الجنسي غير المقّيد بأية موانع او محرمات تضفي عليه نوع من الانسانوية الاخلاقية التي اعتادتها العصور البشرية وفتك تعاطي المخدرات بانواعها.

وأجد ان هناك استدراك لا بد من التلميح له حول تجربة النظام الاشتراكي مع اخلاقيات الجنس والتماسك الاسري، بان المجتمعات الصينية والنظام الذي يعيل ويقود اكثر من مليار ونصف المليار في حياة انسانية يشبع فيها الفرد والمجتمع جميع حاجاته الاساسية في حياة كريمة في التامين الغذائي والصحي والتعليم ومستلزمات الحياة الاخرى، من ضمنها توفير الكرامة الاخلاقية الجنسية في منحيين، الاول منحى عدم التفريط بالبناء الاسري ماديا وجنسيا، والمنحى الثاني عدم هدر اخلاقيات المجتمع بنوع من الاسفاف الجنسي المبتذل التي تتمشدق به الراسمالية المتغوّلة اقتصاديا والمنخورة اخلاقيا وجنسيا في ما لابراء منه الا في انحلال الراسمالية ومغادرتها مسرح التاريخ المعاصر.لكن نظام مثل الصين يبيح الدعارة الجنسية ويشرف على ضبطها الطبي معتبرا الدعارة استثمارا ماليا كبقية مؤسسات الدولة الاستثمارية الاخرى.

4. العاملان الاقتصادي والديني في البناء الاسري:

أصبح من المتعذر جواز ربط الاباحية الجنسية التي يشهدها العالم على مستوى الفرد ومستوى الجماعة من غير ما ربط ذلك بفلسفة النظام السياسي الكلّية.وأن الربط الاباحي الجنسي بحرية الفرد الشخصية وحقوق الانسان انما هو لعبة استغفالية يعمد لها النظام الرأسمالي التستّر على نهجه الاستغلالي اللاانساني المقيت المدان.

النظامان الاشتراكي والرأسمالي يفترقان في تفسيرهما المختلف حول انحلال الاسرة وتدهور اخلاقيات المجتمع في شيوع الاباحية الجنسية، وأهمية ربطهما بفلسفة النظامين كلا على حدة، فالاباحية التي يصورها الغرب واحدة من الحريات الشخصية وحقوق الانسان لا يلغي الطابع الاستلابي المقيت للمجتمع الغربي اقتصاديا وسياسيا واخلاقيا.وهذا لا يلغي تأشير حقيقة البناء الاسري في المجتمعات الاشتراكية والتمسك بالاخلاقيات العامة، وكانه قد أعدم أمامه فرص الحياة في حقوق الانسان وممارسة الحرية الشخصية المتداخلة مع الحرية العامة المكفولة في النظام الاشتراكي.

من بين عشرات الاجوبة الجاهزة في معالجة اشكالية تفكك الاسرة وتفشّي الاباحية الجنسية عالميا يبرز العامل الديني المنقذ من الضلال على حد تعبير الغزالي، على انه حامي الاخلاق في الماضي وسندها في حاضرها وأمانها في مستقبلها وفي هذا تعميم غير منصف، بدليل انه يلغي اليوم التعددية الدينية وفلسفتها الدينية المميزة المتفردة، ويلغي ايضا رابطة ووصاية ايديولوجيا النظم السياسية على الدين وتبعيته لها، فنظرة المسيحية للاباحية الجنسية هي غيرها نظرة الاسلام او البوذية وهكذا في اديان لاحصر لها تقدر باكثر من اربعة الاف دين ومذهب وطائفة. كما والاهم التغيّر التاريخي الذي ساد عبر العصور في وصوله لنا كما نعهده ونعيشه اليوم.

لا اعرف بالضبط اين قرأت معلومة تفيد ان من مجموع سبعة مليارات نسمة تستوطن الارض عام 2017 من بينهم ست مليارات انسان يؤمنون بالدين ووجود الخالق الله، ولكنهم لايؤمنون باخلاقيات الدين تقود الحياة، وأن المليار الباقي واعتقد انا اكثرمن ملياري انسان يتوزعون بين ملحد وغير مؤمن لا يؤمنون أيضا باخلاقيات الدين تقود الحياة، بخاصة في مجال أباحة الجنس وتفكك الاسرة.

وهنا يبرز أمامنا النفاق البشري أزاء مهمة الدين في اصلاح أخلاقيات المجتمع والحفاظ على مستقبلها.عندما نجد الخرق الجنسي- الديني يأخذ صفة التطرف في استهدافه معاقل المقدسات الدينية في تحدّ سافر لسلطة ايديولوجيا الدين.ومثاله التطرف الجنسي الشاذ الذي لا يتوقف عند الزنا بالمحارم والديوثية، يعطينا مؤشرا واضحا انه لا العامل الاقتصادي وراء المشكلة ولا رغبة الدين معالجتها، فهي حرية جنسية وحق من حقوق الانسان الذي يلجم الجميع ومؤمن قانونا كما تذهب له المجتمعات الغربية.

تسليع الجنس؟:

تسليع جسد المرأة وارتهانه بالمتعة واللذة لا يحيلنا الى سبب معيشي أو اقتصادي، يتخفّى وراءه الدافع الغريزي غير المعلن في الرغبة الشديدة تكسير المتواضعات الاخلاقية التي كانت سائدة بصرف النظر عن كونها مستمدة من خلفية دينية او مستمدة من أعراف مجتمعية سائدة، هذا ما تشهده المجتمعات الغربية.

واذا أجرينا مقارنة بسيطة بين دخل الاسرة في مجتمعاتنا الشرقية وتحديدا العربية الاسلامية، نجدها اوطأ كثيرا عنها في معظم بلدان العالم –باستثناء دول الخليج العربية – ونجد المفارقة في تسليع الجنس غربيا لا يقوم على دعامة دخل الفرد او الاسرة والذي كثيرا مايأخذ مقوماته من اشباع حاجات الانسان الضرورية المؤمنة للجميع تقريبا لكن بمستويات متفاوتة، مع ذلك نجد الممارسات الاختراقية الجنسية المتطرفة بشذوذها واستباحة كل الاخلاقيات الطبيعية ذات المصدر الديني او المجتمعي على السواء وعبور جميع حواجز المنع والمحرمات الجنسية هي سيدة الجنس.وهنا ينتفي ان يكون لمستوى دخل الاسرة اي دور في الموضوع في تفشّي الاباحية الجنسية في الغرب في مقابل حقيقة رغبة وغريزة تحطيم المرتكزات الاخلاقية السائدة.اما في مجتمعاتنا الشرقية العربية الاسلامية يكون انحدار كسر المحظورات الاخلاقية في ممارسة الدعارة والبغاء مبعثه في الغالب العوز المعيشي والحاجة لتوفير مستلزمات الحياة الصعبة، لكنه يبقى محصورا في نطاق ضيّق اجتماعيا بعيدا عن التأثير المباشر العام الذي يجعل من السقوط في الانحراف الجنسي بديلا لأخلاق المجتمع المتعارف على حمايتها بشكلها الطبيعي العام .وهي بهذا تكون مختلفة جدا عن الاباحية الجنسية المتداولة اجتماعيا بعيداعن مؤثرات واسباب المعيشة في الغرب، وتكتسب مشروعيتها الزائفة في التمرير على انها حق لحرية الجنس المكفولة كحق من حقوق الانسان فيما يجسده الواقع الغربي ان الاباحية الجنسية هي الاخلاق الجنسية ان لم تكن المرتكز الوحيد لها على صعيد الحياة الترقيهية.

على عكس ما نجده في مجتمعاتنا الشرقية ان الجنس مرتكز المحافظة على الاخلاقيات المجتمعية الطبيعية في بقاء الاسرة، وان العوز والحاجة رغم اهميتها في الحياة الصعبة، نجد ان الهاجس الذي ينتظم السلوك العام هو الحفاظ على تماسك الاسرة من الانحلال الذي هو عماد بقاء المجتمع كيان موحد غير ممزّق تسوده اخلاقيات الطبيعة السوية في الزواج والانجاب الاسري.

***

علي محمد اليوسف

حينما جاءت نسبية اينشتاين أسقطت فكرة الزمان والمكان المطلقين، واستبدلتهما بنسيج من الزمكان. لكن هل الزمكان حقا له وجود مادي؟

الأفكار الأساسية:

1- لكي يكون الشيء واقعيا وفيزيقيا يحتاج ان يكون ماديا وقابل للقياس مباشرة، وليس فقط وسيلة للقياس لأجل عمل تنبؤات صحيحة.

2- وفق هذا المعنى، الذرات والجسيمات التي يمكن ملاحظتها هي بالتأكيد واقعية، لكن الجسيمات الافتراضية التي لا يمكن ملاحظتها هي حتما غير واقعية.

3- وفيما يتعلق بالزمكان هل هو واقعي مثل الذرات ام انه فقط اداة للقياس؟ هذا هو الموضوع الملفت والذي يستحق الإستطلاع .

عندما يفكر أغلبنا حول الكون، نفكر حول الأشياء المادية التي تمتد هناك عبر المسافات الكونية الهائلة. المادة تنهار تحت جاذبيتها الخاصة لتشكل هياكلا كونية مثل المجرات، بينما سُحب الغاز تتقلص لتشكل النجوم والكواكب. النجوم تطلق الضوء عبر احتراق وقودها من خلال الانصهار النووي ليسافر ذلك الضوء على طول الكون مضيئا كل شيء يأتي في تماس معه. لكن هناك ما هو اكثر للكون من الاشياء التي في داخله. هناك نسيج الزمكان الذي له قواعده الخاصة التي يعمل بواسطتها وهي: النسبية العامة.

ان نسيج الزمكان ينحني بفعل وجود المادة والطاقة، والزمكان المنحني ذاته يخبرنا كيف تتحرك المادة والطاقة فيه. ولكن بالضبط ما هي الطبيعة المادية للزمكان؟ هل هو واقعي كالذرات ام انه مجرد اداة نستعملها لإعطاء الأجوبة لحركة وسلوك المادة ضمن الكون؟ انه سؤال مثير وصعب الفهم.

قبل ان يأتي آينشتاين، كان تصورنا للكون مختلف جدا عن التصور الذي لدينا اليوم. لنعود الآن للخلف الى الكون قبل ان يكون لدينا مفهوم عن الزمكان ومن ثم نتحرك للامام الى حيث نحن اليوم.

على المستوى الأساسي، نحن لطالما افترضنا انك لو تأخذ كل شيء في الكون وتقطعه الى أجزاء أصغر فأصغر، انت بالنهاية ستصل الى شيء ما غير قابل للتجزئة. هذا بالضبط ما تعنيه كلمة "ذرة": من الكلمة اليونانية atomoc، بمعنى غير قابلة للقطع. أول سجل لهذه الفكرة يعود الى ما يقرب من 2400 سنة الى ديمقريطس، ولكن من الجائز انها تعود الى أبعد من ذلك التاريخ. هذه الوجودات "غير القابلة للقطع" توجد بالفعل، وكل واحدة منها تُعرف كـ جسيمات كمومية. وعلى الرغم من حقيقة اننا أطلقنا اسم "ذرة" على عناصر القائمة الدورية، فان ما لا يتجزأ حقا هو الجسيمات دون الذرة مثل الكورك quarks (وهو جسيم اساسي في المادة)، والغلونس gluons (وهو جسيم افتراضي بلا كتلة يشد الكورك الى بعضه)، والألكترونات (بالاضافة للجسيمات التي لا توجد في الذرات ابدا).

هذه الوحدات المادية للتفاعل (quanta) ترتبط مجتمعة لتبني كل الهياكل المعقدة التي نعرفها في الكون، من البروتونات الى الذرات وصولا الى جزيئات الكائن البشري. ومع ذلك، لا يهم أي نوع نتعامل معه من السمات المادية المطلوبة للتفاعل سواء كان ماديا او ضد المادة، ضخم او بلا كتلة، أساسي او هياكل مركبة، على مقاييس كونية او دون الذرة، هذه الوحدات من الخصائص المادية توجد فقط ضمن نفس الكون الذي نحن فيه.

هذا يُعتبر هاما لأننا اذا أردنا من الأشياء الموجودة في عالمنا ان تقوم بأشياء مع بعضها البعض – تتفاعل، تترابط مع بعضها، تكوّن هياكل، تحوّل طاقة وغيرها – يجب ان تكون هناك طريقة لمختلف الأشياء الموجودة ضمن الكون تؤثر فيها على بعضها البعض. انه يشبه ان تكون لديك مسرحية فيها جميع الشخصيات مجسدة، جميع الممثلين مستعدون لتمثيل دور الشخصيات، جميع الأزياء الخاصة بالتمثيل جاهزة للإرتداء، وجميع الأسطر تُكتب وتُتذكر. الشيء الوحيد المفقود والمهم جدا للتمثيل كي يحدث هو المنصة (stage) . ما هي المنصة في الفيزياء؟

قبل اينشتاين كانت المنصة وُضعت من جانب نيوتن. جميع "الممثلين" في الكون يمكن وصفهم بمجموع من الأحداثيات: موقع بثلاثة أبعاد بالاضافة الى لحظة من الزمن. انت تستطيع رؤية انها تشبه شبكة ديكارتية : بناء من ثلاثة ابعاد بمحاور X,Y,Z، حيث كل كمية يمكن ايضا ان تمتلك زخما، يصف حركتها خلال الفضاء كدالة للزمن. الزمن ذاته افتُرض ان يكون خطيا، دائما يمر بنفس السرعة. في صورة نيوتن، كل من المكان والزمان كانا مطلقين. لكن اكتشاف النشاط الاشعاعي في أواخر القرن التاسع عشر بدأ بإثارة الشك بصورة نيوتن. حقيقة ان الذرات يمكنها اطلاق جسيمات دون الذرة تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء علّمنا شيئا مثيرا وهو، عندما يتحرك جسيم قريب من سرعة الضوء، فهو يعمل في زمان ومكان مختلفان جدا عن شيء كان اما بطيء الحركة او في سكون.

الجسيمات غير المستقرة التي تتآكل بسرعة عند السكون تعيش أطول كلما تحركت أقرب الى سرعة الضوء. هذه الجسيمات نفسها قطعت مسافات اكبر مما تشير اليه سرعتها وأعمارها قبل ان تتحلل. واذا حاولت حساب الطاقة او زخم الجسيم في الحركة، فان مختلف المراقبين (بمعنى الناس الذين يشاهدون الجسيم ويتحركون في سرعات مختلفة بالنسبة له) سوف يحسبون قيما كانت غير منسجمة مع بعضها.

هناك شيء ما يجب ان يكون معيبا في تصور نيوتن للزمان والمكان. في السرعة القريبة من سرعة الضوء، يتسع الزمن، ويكون طول الشيء المتحرك أقصر من طوله المناسب، والطاقة والزخم هما في الحقيقة معتمدان على الموقف (frame-dependent). باختصار، الطريقة التي انت تتعامل بها مع الكون تعتمد على حركتك خلاله. اينشتاين كان مسؤولا عن إختراق هام في مفهوم النسبية، هو حدد أي الكميات كانت غير متغيرة ولا تتغير مع حركة المراقب، وأي الكميات معتمدة على الموقف. سرعة الضوء مثلا، هي ذاتها لجميع المراقبين، مثلما هي الكتلة الساكنة rest mass لأي كمية من المادة(1). لكن المسافة المكانية التي انت تلاحظها بين نقطتين تعتمد بقوة على حركتك على طول الاتجاه الرابط لتلك النقاط. ونفس الشيء، السرعة التي تدور بها ساعتك عندما تسافر من نقطة الى اخرى ايضا تعتمد على حركتك. المكان والزمان لم يكونا مطلقين، كما كان يظن نيوتن وانما كانا يُلاحظان بطريقة مختلفة من جانب مختلف المراقبين: هما كانا نسبيين وهو الاسم الذي تأتي منه النسبية. كذلك، هناك علاقات خاصة بين الكيفية التي يلاحظ بها أي مراقب للمكان والكيفية التي يلاحظ بها الزمن: شيئان وُضعا مجتمعين من جانب استاذ اينشتاين السابق البروفيسور هيرمان مينكووسكي Hermann Minkowski بعد سنتين من طرح اينشتاين لنظرية النسبية الخاصة، حيث وضع مينكوويسكي بناءً رياضيا موحدا يدمج الزمان والمكان مجتمعين: الزمكان. وكما أشار مينكوويسكي ذاته:

"من الآن فصاعدا، المكان بذاته والزمن بذاته محكوم عليهما بالتلاشي الى مجرد ظلال، فقط نوع من الاتحاد بين الاثنين سيحفظ الواقع المستقل".

ولكن في كوننا الواقعي، نحن بالفعل لدينا جاذبية. الجاذبية ليست قوة تعمل فورا عبر أقصى الفضاء، وانما هي فقط تنتشر بنفس السرعة التي تتحرك بها جميع الكميات الخالية من الكتلة: سرعة الضوء. (نعم سرعة الجاذبية مساوية لسرعة الضوء). كل القواعد التي صيغت في النسبية الخاصة لا تزال تنطبق على الكون، ولكن لكي نعترف بالجاذبية فان شيئا اضافيا كان مطلوبا: فكرة ان الزمكان ذاته له انحناء باطني يعتمد على وجود المادة والطاقة ضمنه. انه ببساطة : عندما تضع مجموعة من الممثلين على المنصة، تلك المنصة تحتاج ان تتحمل وزن الممثلين أنفسهم. اذا كان الممثلون بحجم هائل والمنصة ليست جامدة تماما، فان المنصة ذاتها ستتشوه نتيجة لوجود الممثلين. نفس الظاهرة عند حضور الزمكان: وجود المادة والطاقة يحنيه، وذلك الإنحناء يؤثر عل كل من المسافات (الفضاء) والسرعة التي تدور بها الساعة (الزمن). كذلك، انه يؤثر على الاثنين بطريقة معقدة، حيث اذا كنت تحسب التأثير الذي تمتلكه المادة والطاقة على الزمكان، فان التأثير "المكاني" و"الزماني" هما مترابطان. بدلا من خطوط شبكية بثلاثة أبعاد التي رأيناها في النسبية الخاصة، تلك الخطوط الشبكية هي الآن منحنية في النسبية العامة.

انت تستطيع، ان كنت ترغب، تصوّر الزمكان كوسيلة قياس خالصة وليس أعمق من ذلك ابدا. رياضيا، كل زمكان يمكن وصفه بقياس رياضي metric tensor، وهو صياغة رياضية تسمح لك لحساب كيف يمكن لأي مجال، خط، قوس، مسافة ان يوجد بطريقة محددة جيدا. الفضاء يمكن ان يكون مستويا او منحنيا بطريقة عشوائية، الفضاء يمكن ان يكون متناهيا او لامتناهيا، منفتحا او مغلقا، الفضاء يمكن ان يحتوي على أي عدد من الأبعاد. في النسبية العامة، القياس الرياضي هو أربعة أبعاد (ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد واحد زماني)، وان الشيء الذي يقرر إنحناء الزمكان هو المادة والطاقة والضغوط الموجودة فيهما. محتويات كوننا تقرر كيفية إنحناء الزمكان. انت تستطيع اعتبار الزمكان منحنيا وتستعمله للتنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها وتتطور كل وحدة من المادة والطاقة في الكون. قواعد النسبية العامة تمكّننا من التنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها المادة، الضوء، المضاد للمادة، النيوترونات، وحتى موجات الجاذبية في الكون، وان تلك التنبؤات تنسجم بشكل رائع مع ما نلاحظ ونقيس.

مع ذلك، ما لا نقيسه، هو الزمكان ذاته. نحن نستطيع قياس مسافات وقياس الفواصل الزمنية لكن ذلك هو فقط فهم غير مباشر للزمكان الأساسي. نحن نستطيع قياس أي شيء يتفاعل معنا – أجسامنا، أدواتنا، كاشفاتنا – لكن التفاعل يحدث فقط عندما تشغل كميتان اثنان نفس النقطة في الزمكان: عندما يلتقيان في "حدث".

نحن نستطيع قياس أي من تأثيرات إنحناء الزمكان على المادة والطاقة في الكون بما في ذلك:

1- إنزياح الإشعاع الأحمر نتيجة لتوسّع الكون.

2- تأثير مرونة الفضاء frame dragging على جسم دوار (2).

3- البطء الإضافي لحركة المدارات نتيجة لتأثيرات الجاذبية التي تتعدى ما تنبأ به نيوتن.

4- كيفية حصول الضوء على الطاقة عندما يسقط عميقا في مجال الجاذبية ويفقد الطاقة عندما يخرج منها.

لكن حقيقة اننا نستطيع فقط قياس تأثيرات الزمكان على المادة والطاقة في الكون، وليس الزمكان ذاته، يشير الى ان الزمكان يتصرف بشكل لايمكن تمييزه بواسطة أداة قياس خالصة. لكن ذلك لا يعني ان الزمكان ذاته ليس كينونة فيزيائية واقعية. لو كان لديك ممثلون يمثلون مسرحية، انت تستطيع ان تسمي الموقع الذي تحدث به المسرحية "منصة"، حتى عندما يكون الموقع مجال بسيط، سطح مستوي، ارض خالية وغيرها. في العالم المادي، على الأقل كما نفهمه، انت لا تستطيع امتلاك وحدات مادية او تفاعلات بينها بدون زمكان توجد فيه. حيثما يوجد الزمكان، كذلك توجد قوانين الفيزياء وكذلك مجالات الكوانتم الاساسية التي تؤطر كل الطبيعة. بمعنى ما، العدم هو فراغ الزمكان والحديث عما يحدث في غياب الزمكان هو لامعنى له – على الاقل من منظور الفيزياء – كالحديث عن "أين" خارج حدود المكان او "متى" خارج حدود الزمان. مثل هذا الشيء يوجد لكننا ليس لدينا تصور مادي عنه.

ربما الأكثر إثارة للإهتمام، عندما نأتي الى طبيعة الزمكان، هو ان هناك العديد من الأسئلة التي تبقى بلا إجابة. هل الزمان والمكان بطبيعتهما كوانتميان ومنفصلان، هل هما ذاتهما يقسمان الى اجزاء غير قابلة للقسمة، او هل هما مستمران؟ هل الجاذبية بطبيعها كوانتمية في الطبيعة مثل القوى المعروفة الاخرى، او هل هي بطريقة ما غير كوانتمية - نسيج كلاسيكي مستمرعلى طول الطريق حتى حدود الكون الحالية؟ واذا كان الزمكان أي شيء غير ما تشير له النسبية العامة، اذاً كيف يكون مختلفا وبأي طريقة سنكون قادرين على اكتشاف ذلك؟

لكن بالرغم من جميع الأشياء التي يمكّننا الزمكان من التنبؤ بها ومعرفتها، لكنه ليس واقعيا بنفس الطريقة التي تكون فيها الذرات واقعية. لا شيء هناك نستطيع عمله لإكتشاف الزمكان مباشرة، انت فقط تستطيع إكتشاف وحدة انفرادية للمادة والطاقة توجد ضمن زمكانك. نحن وجدنا وصفا للزمكان في شكل النسبية العامة لآينشتاين الذي يمكن ان يوضح ويتنبأ بنجاح لـ ظاهرة مادية لاحظناها او قسناها في اي وقت مضى، ولكن ماذا بالضبط هو وما اذا كان "واقعيا" ام لا، ذلك السؤال الذي لم يستطيع العلم اكتشاف جواب له حتى الان.  

***

حاتم حميد محسن

..............................

Spacetime: is it real and physical, or just a calculation tool? bigthink.com, May4, 2023

هوامش توضيحية :

(1) الكتلة الساكنة مفهوم من نظرية النسبية. احدى نتائج نظرية النسبية الخاصة لاينشتاين (1905) هي ان كتلة اي جسم تزداد مع سرعته بالنسبة للمراقب. عندما يكون الجسم في استقرار (قياسا للمراقب)، اي عندما يكون لديه ميل لمقاومة القوة المطبقة، تكون لديه كتلة عادية مألوفة لدى الجميع تسمى الكتلة الساكنة للشيء. اما عندما تكون للجسم سرعة قياسا بالمراقب، فان المراقب سيلاحظ كتلة أقل من الكتلة الساكنة.

(2) وهي نظرية تعني ان الفضاء مرن والجسيمات التي فيه تستبدل الطاقة معه. كلمة مرن elastic تعني علميا انك عندما تطبق مقدار من القوة على شيء(وهو ما يجعله ينحني) ومن ثم تزيل القوة، فان الشيء سيعود الى شكله الأصلي والى حالة الطاقة. مفهوم مرونة الفضاء يوفر أجوبة للسؤال القديم جدا حول الجاذبية وازدواجية الجسيم الموجي (كيف يمكن لـ أشياء مثل الالكترونات ان تعمل مثل الموجات والجسيمات في وقت واحد).

توطئة: من المتعذّر الاحاطة الشاملة بالكتابات والدراسات التي تناولت موضوعة الجنس، كلازمة انسانية بيولوجية غريزية فطرية رافقت وحفظت بالصميم الوجود البشري من الاندثار منذ وجد الانسان في عصور موغلة بالقدم، وتعاقب دور الجنس في تحولات متنوعة مؤثرة وكبيرة، كعامل محرّك للتاريخ والاديان. وتعددت الدراسات الفلسفية والعلمية والتاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية التي تناولت الواقعة الجنسية وتأثيرها في الحياة القديمة و المعاصرة.

نحاول في هذا المبحث طرح مقاربة في دراسة الجنس من منظورين بعيدا عن تلك التناولات:

الاول منظور الاخلاق الجنسية المتعالقة مع منظومة القيم الاخلاقية السلوكية والاعراف السائدة مجتمعيا .

والثاني منظور التعالق الجنسي كسلوك مجتمعي مع الحداثة والمعاصرة في الحياة سلبا اوايجابا.

وما يهمنا في المجتمعات العربية الاسلامية هو قصدية مدى امكانيتنا كشف ان يلعب الجنس دورا مؤثرا في ردم هوّة تخلفنا عن الحداثة او تحفيز تقدمنا منها وتحقيقها في حياتنا، بعدما اصبحت لدينا اشكالية تجديد الفكر الديني (نقد ومراجعة التراث العربي- الاسلامي) بؤرة مركزية في التجاذبات الفلسفية - الثقافية في كيفية توظيف تلك المراجعة النقدية لموروثنا الفكري الديني في مسعى تحقيق نهضة حداثية تجديدية عندنا تأخرنا كثيرا عن ادراكها في حياتنا ومجاراة العصر بها.

نعيش منذ نهايات القرن التاسع عشر اشكالية المسألة الجنسية التي لا تقل خطورتها واهميتها، من نفس منطلق محاولة استحضار (اصلاح الفكر الديني) في اعتماده عامل تنشيط الحداثة والمعاصرة لدينا في ممارستنا النقد الديني في جنبة، ومسعى ان يكون (الجنس) ومنظومته الاخلاقية وتنظيمه في حياتنا عامل يقظة تنويرية تقدمية في حياتنا، لا مصدر انحلال وتدهور واعاقة لتقدمنا من جنبة اخرى، ونسعى تماما لأعطاء مراجعة وتجديد الفكر الديني والتراث عموما مثل هذا الدور في حياتنا وفي تلمسنا تحقيق نهضة حضارية، وأملنا ان يضطلع تنظيم الاخلاقية الجنسية الاسرية والعامة بمثل هذا الدورأيضا.

وربما في هذا المجال الضيّق نستطيع حصر الدراسات الجنسية التي سنرفضها لا حقا فهي لا تناسبنا، ممثلة في منحيين لا نأخذ بهما ولا يشكلان عندنا اضافة يمكننا الافادة منها، كما يتعذّرعلينا حتى محاولتنا ادماجهما تلفيقيا معا، لأننا غير معنيين بذلك فهو(إشكالية الجنس) من خصائص افرازات الحضارة الغربية فقط، لها مبررات اجتماعية ثقافية معزولة عن سعينا ومحاولتنا ايجاد منفذ خاص بنا ان كان ذلك متاحا متيسرا لنا وامامنا في معالجة اهمية ودور الجنس في تقدم حياتنا والمحافظة على حشمة تقاليد واعرافنا الجنسية الخاصة بنا كأمة عربية إسلامية.

1. منهجان لدراسة الجنس:

المنحى او المنهج الاول: الذي يشمل دراسة الجنس (فلسفيا، تاريخيا، علميا، ثقافيا، نفسيا) في المجتمعات الغربية، نجده في سحبنا تلك الدراسات والباسنا نتائجها البحثية، واقعنا الاخلاقي العربي الإسلامي الذي فيه الكثير من التعسّف والمحاذير التي تصطدم مباشرة مع امانة المنهج العلمي، قبل وجوب الاخلاص لواقع حال مجتمعاتنا وخصائصنا الاخلاقية، من حيث ان تلك المباحث اخرجت التقائنا بها من منطلقات دراسة الجنس، كمعطى بايولوجي غريزي انساني وتكوين فسيولوجي متمايز في توزيعه بين فروقات المذكر والمؤنث، الذي طبع تاريخ الجنسانية البشرية، والتي تنعدم فيه التمايزات والفروقات الجوهرية في اهمية ان يكون (الجنس) مؤثرا سلوكيا واخلاقيا ومبعث تجديد حداثوي للحياة لدينا، المنتفية الحاجة لها أساسا عند غيرنا، فالعلم والمعرفة في (اوربا وامريكا) حققتا لهم الهدف في تجاوزهم كلا من ثنائية (الدين والجنس) ان يسهما في تحقيق القفزات الحداثية والحضارية التي حصلت عندهم. بداية كان تجاوز الدين في فصل تدخل الكنيسة في شؤون العلم والحياة للناس في القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية ان الجنس واهميته جاء لاحقا نتاجا للحضارة الغربية وليس خالقا ومساهما تكوينيا لها.

اهمية ثنائية (الدين – الجنس) كعاملي نهضة عندنا معدومة اصلا، ويرافقها انعدام انتاج مؤثرات العلوم ومؤثرات التطور المعارفي الكبير في جميع المنظومات التكوينية لانتاج حضارة خاصة بنا كطموح نريد استحضاره وبلوغه في مستقبل حياتنا لا وجود له الا بحضور حضارة الاستهلاك التي نحيا العصر بها اليوم ومن خلالها فقط.

وفي محاولة تلخيصنا لهذه الدراسات المتشّعبة نجدها لا تخرج عند كثير من الفلاسفة الغربيين العظام مثل سيجموند فرويد وكانط واتباعهما في نزعتهم التشاؤمية، فهم يعتبرون الجنس انحطاطا للطبيعة البشرية، وان الرغبة الجنسية منافية للاخلاق حتى لو كانت ضمن نطاق الزواج، وهدف الانجاب، وان الجنس اذا لم يتقيّد بصرامة الاعراف الاجتماعية السائدة فانه سيؤدي الى انحدار البشرية والحضارة. (الى هذا الحد كلام فرويد يخدمنا) لكن نجد فرويد ينحى بتطرف يناقض اهمية تنظيم الجنس في الحياة قائلا: وكل قيد ديني اخلاقي مجتمعي او تقاليد واعراف، هو قيد باطل للجنس ومدمّر لطاقة الانسان وهو كبت غير مشروع (1)، وبهذا يكون فرويد اول فيلسوف وعالم نفس طبّي شرعن طبيعية ممارسة الاباحية الجنسية التي اجتاحت العالم بجنون غير مسبوق .

على العكس من هذه التشاؤمية السوداوية، نجد الفلاسفة المتفائلين يتقدمهم افلاطون وبراتراند رسل وفوكو، يذهبون ان النشاط الجنسي يمثل اضافة (بعد) آخر يكمّل وجودنا كبشر، وان الدافع الجنسي ينقلنا الى شكل أعلى من السعادة والرضا، والجنس آلية طبيعية تربط البشر وتوّحدهم، لان العلاقة الجنسية اشباع الذات وارضاء الاخر معا.(2) قد لا نقع بمفارقة القول ان هذا التفاؤل المنظّم للجنس يخدمنا اكثر من اطلاق فرويد عنان الاباحية.

المنهج او المنحى الثاني :من دراسة الجنس هو مانجده عندنا، المنطلق من نزعة المجاراة فيما تتركه فينا فلسفات ودراسات الجنس الغربية من ابهار، ورغبة في التقليد ولكن بالاعتماد على مرجعية الجنس في (حكايات الف ليلة وليلة) واخواتها، الروض العاطر في نزهة الخاطر، طوق الحمامة، رشف الزلال من السحر الحلال، مباهج القلوب في غرائبيتها وما تحمله من ادهاش يعزّز هوس القراءة الترفيهية الاستهلاكية في تقليب صفحات المتعة الايروسية النظرية للجنس في الكتب، كمثل قراءة الشعر الماجن او الروايات الجنسية الخليعة كجواز مرور حصد الاقبال القرائي منقطع النظيرلها .

اي ان تلك الدراسات العربية الاسلامية القديمة والحديثة الغربية (نوعا ما ) أهملت تناول الجنس كواقعة تمثّل اشكالية وجودية اخلاقية، ترتبط من حيث التوظيف المطلوب والمراد منها (بهدف سيسيوتحديثي)، وبوثيق الارتباط والصلة باشكالية مظلّة أشمل منها عندنا هي علاقة (التراث والمعاصرة) التي كثر الجدل حولها منذ ما يقرب القرن كاملا ولم تحسم نتائجها في التوظيف لنهضة عربية حضارية وبقيت حبيسة التنظير في المراجعات النقدية التي تراوح مكانها.

وافضل تعبير عن هذا المنحى في تناول الجنس كمادة قرائية للمتعة والترفيه نجده في كتاب مالك شبل(الجنس والحريم/ روح السراري) فهو من جهة يحاول مجاراة وتقليد تناول الجنس كموضوع فلسفي تناوله باهتمام فلاسفة فرنسيين واوربيين، ومن جهة ثانية فهو يتوفر على متعة القراءة الترفيهية لا علميتها في كشف ابعاد الجنس الحضارية، حين اختار المؤلف المجتمع العربي المغاربي المعروف بنزعته (الاسلامية) عيّنة لموضوع دراسته، بما يعزز مرجعية الجنس في العادات والتقاليد والعرف الاحتشامي الاخلاقي المشبوب، والمشبوه أيضا باختراقات جنسية كبيرة مستترة، كما في جميع المجتمعات العربية / ازدواجية الممارسة الجنسية في السر والعلن.

وبالأحالة الى القديم في الكتابات والمؤلفات العربية والاسلامية الجنسية كمادة ترفيهية بعيدة عن مقتضيات البحث العلمي وآثاره الفكرية والثقافية، وتلبيس سيسيولوجيا البحث عباءة القديم بما يحتويه من امتاع قرائي شبقي استهلاكي لا اكثر، الجنس لذّة غريزية فقط غير مقيدة ولا منظمة بعرف أخلاقي مستمد من خصوصية الدين وخصوصية المجتمع.

لم يطرح مالك شبل في مؤلفه المذكور (الجنس) اشكالية حضارية يتطلبها الواقع العربي كمعالجة اخلاقية، في موازاة اشكالية اصلاح الفكر الديني في حياتنا المعاصرة وتكافلهما معا،  بل طرح سيسيولوجيا الجنس في العادات والتقاليد الاجتماعية والاخلاقية في المغرب العربي كسرد امتاعي لممارسات وعادات جنسية فولكلورية شعبية تختزل إشكالية الجنس بالعادات والتقاليد.

2. بين فوكو وبورديو:

بضوء التمهيد الذي سقناه سابقا يمكننا الآن الاشارة الى كتابات ميشيل فوكو 1926 – 1984 في اشهر مؤلف فلسفي له حول تاريخ الجنسانية ثلاثة اجزاء، ذهب في الجزء الاول (ارادة العرفان ) 1976 الى ربط الجنسانية باركيولوجيا التاريخ وحفريات المعرفة مرورا بعصر الفلسفة اليونانية القديمة والرومان، وفي المسيحية وما قبلها في العهد القديم، محاولا الاجابة عن تساؤل يهمنا نحن اليوم بالصميم هو : لماذا يشكّل السلوك الجنسي والانشطة والمتع المتعالقة به موضوع انشغال اخلاقي؟.

لا نغالي اذا قلنا ان الاجابة عن هذا التساؤل هو صميم ما نحتاجه ونبحث عنه لمجتمعاتنا العربية الاسلامية، في اجابتنا الذاتية الخاصة بنا نحن وليس بما يجيب فوكو عوضا عنا عنه ان جاز التعبير، فهو يجيب بما يرضي نزوعه الفلسفي الخاص بالمجتمعات والحضارة الاوربية لا بما نحتاجه نحن كمجتمعات شرقية لم تعرف من الحضارة غير الاستهلاكية منها بعد في حاضرها و في مستقبلها المنظور.

اجابتنا نراها في تسليط الضوء على التساؤل المشروع الجوهري، هل ان الجنس اصبح اليوم كما هو الحال مع الفكر الديني، اشكالية وجودية في اعاقة او تسريع تقدمنا نحو حضارة معاصرة، في حال امكاننا وضع الجنس ضمن منظومة اخلاقية مجتمعية نظيفة محتشمة، تمتلك كل مقوماتها في قيم شغّالة مصدرها تشريعات الدين المعتدل من جهة، ووصاية القوانين الوضعية الرقابية العادلة في حمايتها ورعايتها (الجنس- الزواج) كعرف اخلاقي تقليدي يحمي الممارسة الجنسية من السقوط في الابتذال والاباحية والتفكك الاسري من جهة ثانية؟!

بهذا التفريق في ان يكون الجنس عامل تحديث نحو معاصرة ننشدها في حياتنا، ام ان يكون عامل انحطاط يحملنا الى انفلات جنسي كما في الغرب، يغذّي ويلتقي عندنا عوامل التردي والانحلال في مجمل اشتمالات حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، هو ما نسعى حضوره ويمكّننا من العثور على ماهو خاص بنا ومفيد لنا.

وبالعودة الى فوكو نجده في تقصّيه وتشعّب الاجابات بما يمتلكه من ثراء فلسفي معرفي عمد ربط الممارسة الجنسية المرتذلة اساسا بتاريخ السلطة والمصّحات وقوانين الحظر الوضعية غير الانسانية التي سادت ردحا طويلا من عمر التاريخ الاوربي، بما تحمله تلك الممارسات الجنسية الطبيعية والشاذة، من خرق بعضها النظام الاسري والمجتمعي التي تجاوزها فوكو متعمّدا قاصدا من منطلقات ادانته لها في متراكمها التاريخي الذي يتقاطع مع نزوعه البحثي ولا يماشيه او يخدمه في توكيده الغلمانية وأنواع الشذوذ الجنسي الذي كساه بمنطلقات حقوق الانسان والحرية الاجتماعية في اشباع الجنس والنزعات الجنسية المكبوتة والمحاربة عبر العصور.

وعمد فوكو في دوغمائية فلسفية وقبلية معرفية الباس التاريخ الجنسي رؤاه المنحرفة جنسيا حين سعى بمثابرة وجهد كبير ايجاد تدعيمات تاريخية في تمريره انحرافات وشذوذات الجنس، تحت مسوغات عاطفية وانسانوية مرجعيتها(البيولوجيا، الفسلجة وعلم التشريح، علم النفس الطبي، الاجتماع، السلطة، وفي المصحات والعزل والسجون.

في هذا المتراكم البحثي المعرفي والثقافي استطاع فوكو تطويع حقائق الجنس في اعتبارها اشكالية بيولوجية غريزية انسانوية قبل اي اعتبار آخر لا يهمه ولا يعنيه، في عدم ادانة شذوذاتها، او محاولة تهذيب تلك الممارسات الشاذة في منظومة اخلاقية شاملة، وسعى ما وسعه الجهد انقاذ الاباحية الجنسية بدءا من مراحلها التاريخية القمعية، ومراحلها التسفيلية، الاستلابية المجتمعية وسحبها الى مراتب ومصاف حرية التعاطي الجنسي الفردية، وضرورة اشباع الغرائزالايروسية الانسانوية للجنس، المفتقدة للمشروعية في القمع خلال وطيلة احقاب زمنية تاريخية، وانه حان الوقت اعادة الاعتبار المفقود لها وتجويزه تلك الخروقات الجنسية الشاذة على انها من مسلمات الطبيعة الغريزية الانسانية، لا يتوجب التقاطع المجتمعي معها، ولا تحشيد المؤسسات الدينية اوالسلطة المدنية بوجوب رفضها ومحاربتها، وليس من حق السلطة والقانون الوضعي محاسبتها او الجامها وايقافها عند حدودها المقبولة اجتماعيا بما يحفظ الجنس من الابتذال الاباحي.

ويشير تاريخ حياة فوكو انه في ايامه الاخيرة اراد وضع آرائه الفلسفية الجنسية موضع التطبيق، حيث انخرط في ممارسات جنسية مثلية اعتبرها على حد تعبيره، (الخلق الحقيقي لا مكانية الرغبة التي لم يكن يحظى الناس بها في الماضي) وأدت الى اصابته بالايدز ووفاته.

النموذج الثاني هو عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو (1930- 2002) في مؤلفه (الهيمنة الذكورية) فقد ذهب الى دراسة الجنس (بيولوجيا)، في مقارنته تضاريس الجسد الذكري والانثوي فسيولوجيا وظائفيا، وتشريحيا طبيّا، وتوظيف التمايزات والفروقات الجسدية الجنسية بدءا من اختلاف بيولوجيا الاعضاء التناسلية، وهيمنة الذكورة في الحياة الزوجية الاسرية، والبيت، والعمل، والعلاقة مع الآخرين، والاختلافات النوعية في السلوك والممارسات الاجتماعية، بما يمنح الرجل ويكسبه شرعنة الافضلية على المرأة، بحكم تمايز بيولوجيا الجسد وما تجرّه وراءها من تبعات التمايزوالاختلاف على مختلف الصعد، .والانفراد والهيمنة الذكورية، ليس على صعيد علاقة (فوق- اسفل) جنسيا وحسب، ولكن في انسحاب النتيجة التنافسية في اعلاء شأن الذكر على الانثى وعجز المجاراة في جميع مفاصل الحياة تقريبا. العلاقة التي يشوبها الكثير من الاجحاف بحقوق المرأة انسانيا واجتماعيا وحقوقيا.

ان في اختلاف بيولوجيا الجسد – الجنس الفيزيائي الذكوري والانثوي الذي يكرّس هيمنة الرجل (هذا خارج الدعوة الحضارية بالحقوق المتساوية للجنسين وتحقيقها ضمن ميادين ومستويات عديدة في اوربا وامريكا وبلدان العالم الكثيرة) تكون مساحة استقبالها عندنا مجتمعيا وسلطويا اكثر من مقبول ومرحّب به، في جميع المجتمعات العربية الاسلامية تقريبا، وما ينفرز عنها من ممارسات الافضلية الذكورية على صعيد فروقات بايولوجيا الجسد والجنس، واستخدام هذا التمايز في مجالات المعيشة والعمل ومرافق التعامل مع الحياة.

ويغذّي ويعمّق هذه الواقعة المكتسبة نزعة الافضلية، المتراكم التاريخي التقاليدي والاعراف المستمدة من الموروث الطويل تاريخيا في المتجذّر الوجداني والسلوكي وفي مصدرية ومرجعية الاسناد الديني وقوانين واوامر السلطة والحكم الانفرادي الوراثي المستبد والهيمنة الأطلاقية الذكورية الاحادية غير المتنافسة على مفاصل الحياة والسلوك على مدى قرون طويلة.

لذا يأتي مؤلف بورديو (الهيمنة الذكورية) مطابقا تماما لمسرح اشتغاله لواقع الجنسانية في المغرب العربي، الذي يصح تعميمه على اقطار الوطن العربي الاسلامية بلا ادنى تحفّظ عليه في المفصح عنه او المخفي المستور.

لم نجد في هذا المؤلف، رغم ان كاتبه فيلسوف وعالم اجتماع متمّيز، اية انتباهة في اهمية نقل دراسة الواقعة الجنسية من ميدان سيسيولوجيا الممارسة الجنسية الى سيسيولوجيا الاخلاق والسلوك الجمعي الذي يعزز الالتزام العام باخلاق الجنس الطبيعية المحتشمة على الاقل ما يهم منها مجتمعاتنا الشرقية العربية سيسيولوجيا جنسانيا.

في غياب هذا الربط المفقود الذي اشرنا له، الذي لا يقلل من اهمية ثيمة الكتاب في وصوله نتيجة هي تحصيل حاصل موجود في مجتمعاتنا / الهيمنة الذكورية وما يترتب عليها من ممارسات اخلاقية متمايزة ليس على صعيد الجنس وحده بل في مجمل الحياة كما ذكرنا سابقا.

3.كيف نفهم اشكاليتنا في الجنس؟

بأي فهم ومعنى والى اي مدى يمكننا الحكم على اخلاقيات الجنس، ان تكون مرتكزا في تعميمنا لها على اخلاقيات السلوك المجتمعي العام المعلن، في حال توفرنا على الضبط المطلوب ان لا تصبح العلاقات الجنسية عوامل تردي وانحلال مجتمعي وأسري عندنا؟

وما الفرق الذي يمكننا الافادة منه في مقارنتنا اشكالية الجنس عندنا واشكاليتها في المجتمعات الاوربية والامريكية على وفق منظور (السيسيولوجيا) الذي ذكرناه في اعلاه؟

قد يبدو للوهلة الاولى ان هذا الطرح يحوي افتعالية /مقارنة الاشكالية الجنسية بيننا وبين الغرب الاوربي انها ليست في محلها، وانها تسطيح في انعدام اوجه المقارنة المحسومة مسبّقا لصالحهم، وليس في صالحنا نحن.وهو خطأ... كيف؟

الاشكالية الجنسية في الغرب انتهت الى نتيجة انها استنفدت نفسها جنسيا اباحيا، ولم يعد لديها ما تدّخره وتنافس به غيرها.فهي وصلت مراحل متدنية جدا في الاباحية الجنسية التي لا ينفع معها المعالجة في تصحيح السقوط النهائي. وان زوايا الرصد والمعاينة من قبلنا لاشكاليتهم الجنسية وفروقاتها الكبيرة بيننا وبينهم، لا تتكافأ (نوعيا وقيميا)مع اشكاليتنا التي هي في مراحلها الاولى المستترة بعد، وامكانية وقدرات التصحيح عندنا موجودة وليست ميؤوس منها كما هي عندهم.ان الاباحية الجنسية في امريكا واوربا خرجت ان تكون مخرجا لتنظيم المجتمع اخلاقيا سوّيا.

ان الانحدار الجنسي في اوربا وامريكا انحدار مفزع ومؤرق برأيهم هم وليس برأينا نحن الى حد ان وصف ذلك احد المهتمين بهذا الشأن بقوله:ان تفاقم الاشكالية الجنسية التدميرية في امريكا والغرب تمثل قنبلة نووية، يهدد انفجارها المستقبلي افناء البشرية.

ورغم كل ماذكرناه قد يبدو انه مصادرة بحثية نظرية من قبلنا في حسم مقارنة تحتاج الى توضيح اكثر، يدخلنا ببعض التفاصيل، اننا نجد وبشكل عام معلن ان الجنس في المجتمعات الغربية انحدر وينحدر اليوم بمتواليات رياضية نازلة في الاباحية والاخلال السلوكي والخرق العام للنظام الاخلاقي والقيمي الاسري السوي، ما رتّب انحلال الاسرة، وتراجع الزيجات، انفلات التربية الاسرية وفقدان السيطرة بحكم القانون، في البيت والمدرسة، ممارسة الشذوذات الجنسية المثلية الذكورية والسحاقية الانثوية وحمايتها قانونا، زنا المحارم، الديوثية، تعاطي المخدرات وهكذا.

يقابل هذا الانحدار البشع في الجنس، تصعيدا (قيميا) في السلوك الاخلاقي العام عندهم، بمتوالية تصاعدية مناقضة لمتوالية الانحدار الجنسي الاباحي، تعبيراتها تفشّي سلوكيات وقيم العلم والتحضر والحداثة، اعلاء قيم المساواة والعدالة والديمقراطية في الحقوق والواجبات، النزاهة والصدق والاخلاص، حقوق الانسان والمرأة، حرية المعتقد، وحرية الممارسات الفردية،  الى غيرها من قائمة طويلة عريضة تقاطع جميعها التسفيل الامتهاني للجنس لديهم. ولا ننفي ان يكون هناك خروقات غير مقننّة، انه ليس كل من يمارس التسفيل والانحطاط الجنسي، يكون حريصا على ممارسة التصعيد الاعلائي الاخلاقي القيمي في السلوك والحياة. فقد يمارس العديدون اباحية التسفيل والانحطاط الجنسي بالتماهي مع ممارسة الخروقات في السلوكيات والقيم العامة التي ادرجنا بعضها، في ما ذكرناه مفارقة غريبة فعلا.

لكن لو نحن جربنا سحب هذه المعادلة السبق لنا ذكرها على مجتمعاتنا العربية – الاسلامية، ومحاولتنا تطبيقها، لوجدنا ان مرتكز اخلاقنا الجنسية وغير الجنسية مستمدة من ثنائية (فقه الدين – السلطة الحاكمة) وفي تنظيم الحياة برمتها، وفي مجال الجنس تمارس تلك الثنائية دورها التحريمي الانضباطي الاخلاقي الذي يحول دون السقوط في الانحدار التسفيلي الانحطاطي – هذا على الاقل في المعلن المتداول والمتواضع قبوله مجتمعيا – في تطويق انتشار الاباحية الجنسية وتفكك النظام الاسري الاخلاقي المتين.والمحافظة على الشرف الشخصي والتقاليد الاخلاقية السلوكية المجتمعية.

في مقابل هذا التعالي الاخلاقي المكابرعندنا في العلن ماذا نجد من خروقات واختراقات عميقة غائرة في السر والكتمان على صعيد الممارسة الجنسية.وماذا نجد بخلاف الغرب عندنا من تفريط مذهل بكل قيمة اخلاقية على صعيد سيسيولوجيا الحياة والسلوك الجمعي العام.في عجز ايقاف التردي الاخلاقي في السياسة والاقتصاد والثقافة وميادين الحياة، فلا وجود لقيم الصدق والنزاهة والامانة ومصلحة المجتمع في جميع مفردات التردي البشع في حياتنا، وفي تقاطعها المعيب مع كل مقومات التقدم ومجالات التحضر من حولنا التي تحاصرنا.

اننا هنا لا نتخطى ازدواجية المعلن في تقاطعه الاختراقي مع المستور، بان فواحش الجنس غير المعلنة عندنا هي نفسها فضائح الاباحية الجنسية في اوربا وامريكا المعلنة التي ندينها، لا فرق بين اباحية معلنة ليس فيها محظور او ادانة اسرية او مجتمعية او سلطوية، واباحية تمارس في السر داخل الغرف المقفلة واسرار وخفايا السرير.

الفارق ان الاباحية الجنسية غير المعلنة عندنا يقترن فيها التسفيل الانحطاطي الجنسي مع الانحطاط السلوكي المجتمعي الاخلاقي العام. (يوجد استثناءات لذلك).على صعيد العمل والوظيفة والمؤسسة وتقديم الخدمات وغيرها، وهو ما لانجد مشابهاته في المجتمعات الغربية، فالجنس خارج معادلة الشرف المهني عندهم.فشرف أداء الواجب الوطني والعملي في الحياة اليومية عندهم يتم بمعزل تام عن ممارسة الفرد لحرياته الشخصية الاجتماعية.

وحيثما وضعنا نحن الجنس ضمن وصاية ومدركات (الدين – العقل) نجد يلازم ذلك انحدار كبير في اخلاقيات المجتمع وتدني قيم البناء المجتمعية.ان ما يشكل في المجتمعات الغربية، عيبا او خللا في منظومة البناء الحضاري، نجده لدينا لا يوازي الخلل الذي نتعمده في تعطيل بنانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الغش والفساد والكذب والتزوير.

قضية تردي اخلاق الجنس لدينا، مع تردي مجمل احوالنا الاخلاقية والسلوكية العامة، اصبحت قضية مركبة في ان يكون الاختراق في احدهما يكمله ويعاضده مفردات التردي والاختراقات في الجانب المتتم الآخر وهكذا، حتى تكتمل حلقات التردي والانحلال التدريجي في هياكل المجتمع البعيد عن ادنى معيار اخلاقي متحضّر يحكم الحياة وينظّم شروط وواجبات وحقوق الفرد وحقوق المجتمع.

خاتمة:

نخلص من هذا بمجمله ان التسفيل الجنسي الاباحي في اوربا والعالم تقريبا، منعزل تأثيره في سيسيولوجيا القيم والسلوكيات الاخلاقية والمهنية التي تنظم شؤون الحياة المتحضّرة لديهم، وهذه الممارسات غير مستمّدة لا من وصايا وتحريمات الدين، ولا من رفض قيم العلم والاعراف الاخلاقية لها، اذ كلما انحدرت تلك المجتمعات جنسيا، ارتفعت وتسامقت في تحضّرها في توفير ضرورات الحياة اليومية، ومتطلبات معيشتهم في الرفاهية والسعادة والعيش الكريم.بعيدا ان تكون هذه المعادلة اشكالية تقرر مصير وموقع الفرد في المجتمع. طبعا من غير المعقول انه لا توجد خروقات في تلك المعادلة، لكنها عديمة التأثير بالمنحى الأخلاقي والسلوكي المتمدن العام. نريد العكس عندنا في اهمية ووجوب ان يكون للتربية الجنسية والاخلاقية دورها المؤثر الكبير في بناء مجتمعات متقدمة، تتكافل مع كل قيم بناء الشخصية الفاعلة المنتجة التي تمتلك المعاني الكبيرة في تعاملها مع الحياة.

بقينا عصور طويلة من تاريخنا نفهم الاخلاق انها (جنس ومتعة فقط) يتحدد موقعه ومجال اشتغاله ما تحت حزام بنطلون الرجل وسرّة بطن المرأة، وكل ماعداها من خروقات جائز حلال، وفهمه غيرنا ان مافوق حزام البنطلون وسرّة بطن المرأة تكون ممارسة الاخلاق خارج الابتذال الجنسي عندهم الذي ندينه في العلن ونمارسه في السر.

***

علي محمداليوسف

.............................

1، 2: موقع الباحثون السوريون الالكتروني

ثمة صورة مثيرة للاهتمام، على الرغم من عدم الانتباه لها إلى حد بعيد تتعلق بالترابط الوثيق بين الفلسفة والترجمة، فالفلسفة بسبب الطبيعة الكونية لأفكارها وطروحاتها لطالما اتكأت على الترجمة في تصدير نصوصها إلى لغات عديدة ومختلفة للانتشار حول العالم. كذلك يخضع التنظير للترجمة عادة، سواء من قبل المترجمين أو الفلاسفة، لسلطة الفلسفة ومناهجها. وهناك مستويات عدة للعلاقة بين الفلسفة والترجمة، منها فلسفة الترجمة وترجمة الفلسفة والفلسفة الترجمية، لكن أهمها على الاطلاق هي الترجمة الفلسفية التي اكتسبت أهميتها بسبب تعلقها بالمنهج، حيث تهتم الترجمة الفلسفية بترجمة النصوص الفلسفية اعتمادا على المناهج الفلسفية وبعض الحقائق التأملية الخاصة بالفلسفة.

وعلى مدى التاريخ كان هنالك دوما فلاسفة اشتغلوا في الترجمة، ومترجمين أثروا التنظير الفلسفي في الترجمة، ومن أشهر الفلاسفة المعاصرين الذين جمعوا بين الترجمة والفلسفة وقدموا نظريات مهمة الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير H.G.Gadamer 2002- 1900 الذي قدم نظريته في الترجمة في كتابه " الحقيقة والمنهج"، كما قدم أيضاً أفكاره حول الفهم والتأويل وكان متأثراً بالفلسفة اللغوية والتأويلية عند مواطنه الفيلسوف مارتن هيدغرMartin Heidegger(-19761889) الذي طرح أفكاره حول الترجمة في مواضع عديدة من مؤلفاته ومقالاته منها، كتاب "الكينونة والزمان" وكتاب "المدخل إلى الميتافيزيقا" حيث ميز هيدغر بين اللغة كألفاظ موضوعة وبين اللغة كحقيقة وجودية مستقلة، كما ميز بين المعنى الأصلي للمصطلح الفلسفي وبين معاني مقابلاته غير اليونانية. وبالاستناد إلى هذا التمييز طرح نظريته في الترجمة التحريفية التي تفصلنا عن الوجود المعبر عنه بالنص الأصلي وتؤدي إلى تعارض بين الفلسفة والترجمة، والترجمة التحقيقية التي تصلنا بالمعاني الأصلية وتتيح للغة القدرة على التكلم بذاتها. وأبرز فكرة هيدغرية تأثر بها غادامير هي فكرة "الدزاين" ومعناها عند هيدغر الوجود هنا، اي وجود الكائن في زمان ومكان محددين، فالوعي الأنطولوجي ميزة تخص الإنسان دون غيره في كل الأزمنة وجميع الأمكنة، لأنه الكائن الوحيد القادر على الفهم والتخيل والاهتمام بقضايا الوجود.

وقد أتفق كل من هيدغر وغادامير على مبدأ الكونية في الفهم، وأعتبر كلاهما التأويل فعالية عالمية كونية لا تقتصر على نصوص محددة، إنما تمتد لتشمل كل انواع النصوص التي أنتجها البشر، وبمختلف أنواعها فنية أو أدبية أو فلسفية وغيرها. فالهدف من التأويل هو تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في ذهن المؤلف واكتشاف المعاني المختبئة في ذاته. لذلك قد يجد المترجم نفسه احياناً وكأنه في حوار حاد ومحتدم يقاوم فيه التعسف والسلطة وجميع الإكراهات المتوارية في ذهن المؤلف لحظة كتابته للنص.

والمثير للانتباه هنا هو أن غادامير قد وظف تأثره بهايدغر عن طريق تقديم مجموعة واسعة من المفاهيم التي بنى عليها تأويلاته، نذكر منها،" التأويل " و" الحقيقة " و" الحوار " و" التراث" و" الجدل" و"التاريخ" و"الاستحضار" و" القول" و" التوضيح" و" التأثير" و" الإحداث". ولبيان العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والترجمة قدم مفهومان أساسيان هما: التأويل والحوار.

التأويل

رأى غادامير بداية أن كل فهم هو تأويل، والاهمية الرئيسية التي حازتها مشكلة اللغة في الفلسفة تقوم اساساً على حقيقة أن الفهم والتأويل هما شيء واحد، فالفهم برمته تأويل، والتأويل برمته يحدث وسط لغة ما ومثله مثل المحادثة، دائرة مغلقة لجدل السؤال والجواب. والتمكن من اللغة شرط اساسي لبلوغ الفهم، لكن غادامير لم يقصد بالتأويل استخراج معنى موضوعي خارجي يستقل به النص، إنما شبه التأويل بالدخول في محادثة خاصة يتجدد بها معنى النص، لأن من يقوم بالتأويل لا ينظر إلى النص نظراً مباشراً في رأيه، وإنما يستمع إليه استماعاً حياً من اجل الوصول إلى مرحلة الفهم المطلوبة. وغادامير يقدم اللغة بوصفها وسيطاً للتجربة التأويلية حيث رأى أن المحادثة لا تكتسب صفة الاصالة والحقيقية إلا حين يجد الطرفان أنفسهم قد سقطوا في المحادثة وتورطوا بها، فهم غير قادرين على التحكم في سيرها، كما لا يعرفون على وجه الدقة النتيجة التي سوف تنتهي إليها. وهذا يعني أن المحادثة كلما تمت بشكل غير مقصود وبطريقة تلقائية تتدفق فيها الكلمات كلمة بعد كلمة بمنتهى العفوية كلما كانت المحادثة أصيلة وحقيقية. وهذا هو ما يمنح المحادثة روحها الخاصة، كما أن اللغة التي تجري بها المحادثة تحمل أيضاً حقيقتها الخاصة وتتيح لشيء ما أن يتجلى عبر المحادثة، فاللغة هي الوسط الذي يحدث فيه الفهم والاتفاق الجوهريان بين أي طرفين في أية محادثة. واستنادا إلى ذلك على المترجم أن يفهم السياق الذي يحيا فيه المتكلم الآخر (صاحب النص الأصلي) لكي يتمكن من نقل المعنى وصيانته وجعله مفهوما في لغة جديدة في الوقت نفسه. وهكذا رأى غادامير " أن كل ترجمة هي في الوقت نفسه تأويل حتى اننا يمكن أن نقول أن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات". ومن أجل ذلك حدد للتأويل خلال الترجمة مراحل ثلاث هي: الوعي التاريخي، صهر الآفاق، إقصاء الذات.

الوعي التاريخي

يركز غادامير هنا على الجهد الذي يحتاج أن يبذله المؤول لكي يتمكن من استيعاب كل اللحظات الزمنية التي عاش فيها المؤلف وخضع لسلطتها وتأثر بسحرها، فالمؤلف أو المبدع يتعامل مع احداث التاريخ كما يتعامل مع مفردات اللغة، فهو يختار من بينها ما يناسبه، لكن عملية الاختيار ليست سهلة وبسيطة، لأنها عملية فكرية تحتاج إلى مران وممارسة وخبرة. وكلما كان الجهد الذي يبذله المبدع كبيرا، وكلما كانت خبرته عميقة وطويلة، كلما كانت بالتالي مهمة المؤول شاقة وأكثر صعوبة. لأن النص عادة يثير دلالاته التاريخية الزمانية والمكانية التي تمت كتابته في أطارها، لذلك على المترجم الواعي بأصول التأويل وفنون الحوار مع النصوص أن يتجاهل هذه الدلالات ويعود إلى زمن أنتاج النص ليتمكن من الخروج بمعان منتجة.

صهر الآفاق

لجأ غادامير إلى صياغة هذا المصطلح ليقول أن صهر الآفاق واندماجها أثناء ترجمة النصوص الادبية والفلسفية لا يتم إلا عبر إدراك حقائق الماضي (التاريخ) الذي أنتجت فيه هذه النصوص، بالإضافة إلى الوعي بمعطيات الحاضر( الواقع) التي تسربت إليها، واندماج الاثنين معاً لا يتم إلا من خلال الفهم والحوار والنقد وصولاً إلى تشكيل وانتاج وعي جديد لا يظهر إلا من خلال اندماج تلك الآفاق. وكذلك ليشير إلى أن النص الابداعي من حيث البنية ومن حيث الحدث هو وجود عالمي كوني يتجاوز زمانه ومكانه الأصلي.

إقصاء الذات

الأبداع خلق حر وفضاء فكري وفني وجمالي، والنص بعد انتاجه يصبح قائماً بذاته ومعزولاً عن منتجه، فالنص كما الإنسان عند غادامير وجود تاريخي يصنع نفسه بنفسه بعد أن يتم أنتاجه وهو مشروع في حالة تغير وتجديد وخلق دائم. لذلك علينا الأخذ بنظر الاعتبار أن الترجمة مهما كانت أمينة لا يمكنها ردم الفجوة القائمة بين روح الكلمات الأصلية وإعادة انتاجها في لغة أخرى جديدة. الفجوة سوف تبقى قائمة ولا يمكن ردمها تماما باي حال من الاحوال. وكما يجري في أية محادثة عادية بين طرفين في الواقع وتكون هناك اختلافات لا يمكن تجسيرها، فيتم اللجوء إلى تحقيق تسوية في الحوار المتبادل بين الطرفين، كذلك يلجأ المترجم إلى أيجاد حل أمثل عن طريق تحويل نفسه تحويلاً تاماً إلى مؤلف النص الذي يترجمه. لذلك فان المترجم هو الوحيد الذي يعيد أبداع النص ويُحدث في اللغة الموضوع الذي يتناوله، فقد رأى غادامير أن (إعادة إدراك العملية الأصلية في عقل الكاتب، هي إعادة خلق جديدة للنص الذي توجهه طريقة فهم المترجم لما يقوله النص" وهذه إعادة أنتاج وأبداع لنص جديد عبر التأويل وعن طريق إيجاد لغة مناسبة للنص الأصلي. لذلك فان موقف المترجم وموقف المؤول هو موقف واحد، ومهمة المترجم في إعادة الانتاج هو عملية ابداعية تختلف بالدرجة فقط وليس في النوع عن المهمة التأويلية العامة التي يقدمها أي نص. وقد حدد غادامير ثلاث مستويات للتأويل هي: المستوى الجمالي، المستوى التاريخي، والمستوى اللغوي.

المستوى الجمالي

يتحرى المترجم في هذا المستوى عن الجوانب الجمالية في النص الذي بين يديه، فيبحث عن مقاصد المبدع وعن المعاني الجمالية الأصلية التي قصد المبدع إلى ترسيخها اثناء كتابته للنص. وهنا يبتكر غادامير مصطلح جديد هو " المسافة الجمالية " للدلالة على المسافة التي تنشأ عن التباعد الزمني والفرق بين زمن أنتاج النص وزمن عمل المترجم على النص، أي المسافة الزمنية بين المؤول (المترجم) والنص. وفي هذا المستوى على المترجم النظر إلى النص ضمن فضائه الثقافي الخاص وضمن الأطر الجمالية والقيم الفنية والفكرية والعادات والتقاليد والدين، فكل ذلك وأكثرسوف يكون حاضراً بشكل خفي أثناء كتابة المبدع للنص. وعلى المترجم إعادة انتاج النص من الناحية الجمالية على نحو مختلف فنياً في الشكل والصياغة والأسلوب ومتوافق جوهرياً مع المعنى الذي يتضمنه النص.

المستوى التاريخي

ليست غاية غادامير في الممارسة التأويلية تمثل تاريخ خاص، إنما تمثل تاريخ عام وكلي، فقد حاول أنسنة التاريخ وتصوره على أنه ذات تحاور وتجادل وتفرض وجودها . وتاريخ الادب والفن والفلسفة هو إرث عالمي كوني حتى وأن تم انتاجه الاول بصورة محلية، فهو منتج إنساني عالمي كوني يستحق منا الاهتمام والدراسة والفهم والتأويل في ضوء مفاهيم حداثوية عالمية وكونية.

المستوى اللغوي

نجد هنا المستوى التأويلي بامتياز، فاللغة هي المادة الاساسية لعمليات التأويل والفهم والتفاهم. وللقالب الفني وللصياغة اللغوية أثرها الكبير في عملية التأويل، والنصوص هي صورة ومادة في الوقت نفسه، ظاهر وباطن، لذلك يتضمن هذا المستوى عند غادامير عدة عناصر أهمها، "مواطن الصمت" أو ما يمكن أن نسميه بالصراع بين الغياب والتجلي، ذلك الصراع بين الكلام والواضح وبين المسكوت عنه داخل النص الابداعي، فهناك طبقات عدة للمعنى، منها السطحي المباشر، ومنها الضمني المتخفي الذي يكتشف عن طريق التحليل والتفكيك والربط والاستنتاج. كما تلعب " الأوجه الخطابية" و" الستراتيجيات النصية " دوراً مهماً في تعميق الفهم ومتابعة الاحتمالات المتعلقة بالنص، فلكلمات لها طاقتها الصوتية والعاطفية والتصويرية والنص هو المجال المناسب لاستثمار كل تلك الطاقات وما بداخلها وما تعنيه. وتقود " الاستراتيجيات النصية " إلى الاشتغال في حقل الدلالة، فمواقع اللاتحديد تعمل على تحويل كل موجود إلى علامة، إذ لا يمكن فهم ظاهرة بالعودة غلى سياقها الثقافي فقط، إنما يجب فهم أبعادها الكونية ودلالتها الاجتماعية والفكرية، لذلك غالباً ما يستعين المبدع بالرموز الفنية التي لا تقتصر على مجرد الدلالة، بل تضيف شحنة عاطفية في نفس المتلقي.

الحوار

وكما قرر غادامير " أن كل فهم تأويل " فقد قرر أيضاً أن كل تأويل هو ذو طبيعة لغوية معينة، فيكون لديه كل فهم لغوياً بالضرورة، فاللغة ليست مجرد وسيلة يتوسل بها الإنسان للتعبير عن أغراض خارجية، وإنما هي من حيث الاساس حقيقة حوارية يتواجه فيها عالمان لغويان مختلفان يصيران تدريجياً إلى التداخل فيما بينهما، فتنبثق من هذا التداخل لغة متجددة تحمل معاني جديدة وغير مسبوقة، وهذا هو المعنى المقصود من "صهر الآفاق"، أي تحول الفهم في النهاية إلى تفاهم.

وبناءً على هذين المفهومين جمع غادامير بين الفلسفة والترجمة على أساس أن كل واحدة منهما تقوم على فهم تأويلي، فالتأويل عند غادامير صفة شاملة للفلسفة، حيث وظيفتها الأساس تأويل نصوص الماضي، كما ان الترجمة في جوهرها تأويل، لأن المترجم لزاماً عليه حفظ المعنى الأصلي للنص ونقله كما هو إلى عالم لغوي آخر يختلف عن عالمه الأصل. وهنا قد يحتاج إلى التصريح بما هو ملمح إليه، أو العكس إلى اضمار ما هو ظاهر فيه. وإذن فالترجمة تأويل وعمل يعيد أنتاج النص من جديد .

إن كلاً من الفلسفة والترجمة يقوم على فهم حواري " تفاهم"، فالفلسفة هي فهم يجتمع فيه الفكر إلى الواقع أو إلى التراث، ولا فكر ولا واقع ولا تراث بمعزل عن اللغة. فالوجود الحقيقي للغة هو وجود حواري. والتحاور الفلسفي هو تواجه بين عالمين: عالم الواقع أو عالم النص التراثي مع عالم الفيلسوف، حيث يكون هذا التواجه عبر مقابلة السؤال بالجواب، إذ يضع المتفلسف السؤال الذي أثاره فيه الواقع أو التراث من خلال النص الذي بين يديه، منتظراً ان يتلقى جوابه من النص نفسه.

وأخيراً، فإن الفلسفة والترجمة عند غادامير تجتمعان من جهتين اساسيتين: الاولى تأويلية والثانية حوارية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التأويل في الترجمة أظهر وأكثر منه في الفلسفة على اعتبار الفارق الذي يفصل بين اللغة الناقلة عن اللغة المنقولة، كذلك أن الحوار في الترجمة اكثر تعقيدا عما عليه في الفلسفة للبناء المزدوج الذي يقوم عليه والذي يدعو المترجم الى حفظ النص المنقول في كلتا طبقتيه. وعليه تكون الترجمة النموذج الأعلى لعمليات الفهم والتفاهم التي تتم في الفلسفة.

***

د. غيداء محمد حسن – أستاذة فلسفة إسلامية / جامعة بغداد

.......................

المصادر والمراجع

1. غادامير، هانز جورج: الحقيقة والمنهج، ترجمة:حسن ناظم، علي حاكم، مراجعة: جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر، طرابلس 2007.

2. عبد الرحمن، طه: فقه اللغة (الفلسفة والترجمة)، المركز الثقافي العربي، بيروت 1995.

3. ألبرت، هانس: هايدغر والتحول التأويلي، ترجمة: عبد السلام حيدر، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط 2016.

4. هيدغر، مارتن: الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، مراجعة: أسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت 2012.

5. لزهر، فارس: التأويلية عند غادامير (قراءة في المرجعيات والمنظومات والآليات)، مجلة الفتوحات، العدد الثاني، تبسة2015.

البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة، وتشكيلِ الهُوِيَّة الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد. وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية. وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ مِن العَيْشِ خارج التاريخ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي. والوَعْيُ إذا اتَّصَفَ بالحَيَاةِ، والحَيَوِيَّةِ، والحُرِّيةِ في ذاته، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية المُحيطة به، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا الغَيبوبةِ المَعرفية، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن.

2

مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ، وغَير خاضعة للتَّجنيس المَكَاني، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ الألفاظِ والمَعَاني. وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ (تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء). وإذا صارَ الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه،  فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي.وهذا التَّشَظِّي شديد الخُطورة، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية، بلا تخطيط ولا تنظيم. وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي، وإذا غابَ اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية،فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ، ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح.

3

لا مَعنى للوَعْيِ خارج عملية التفاعل النَّقْدِي معَ الأنساق الثقافية التَّحَرُّرِيَّةِ لا الفَوْضَوِيَّةِ، ولا قيمة للفِكْرِ خارج نطاق الفِعْلِ الاجتماعي القائم على قُوَّةِ المَنطقِ لا مَنطقِ القُوَّة. وَهَذَان المَبْدَآن يُحَدِّدَان طبيعةَ الحقيقةِ الإنسانية القائمة على العقلانيةِ لا الاضطهادِ، ويُكَوِّنان ماهيَّةَ الواقعِ اليَومي القائم على الاختيار لا الاضطرار، ويَصنعان هُوِيَّةَ الرمزيةِ اللغوية القائمة على التَّمحيصِ لا التَّقديسِ. وهذا يَعْني أنَّ قواعد البناء الاجتماعي هي: الحقيقة الإنسانية، والواقع اليَومي، والرمزية اللغوية. وهذه القواعدُ الثلاث تتبادل الأدوارَ فِيما بَينها، لأنَّ البناءَ الاجتماعي لَيْسَ كُتْلَةً أسْمَنْتِيَّةً أوْ إطارًا حَجَرِيًّا أوْ شكلًا ثابتًا، وإنَّما هو بناءٌ وُجودي يَمتاز بالحركةِ والمُرُونةِ والانطلاقِ، والقُدرةِ على تبديلِ الأنساقِ الثقافية، والقوالبِ الفِكرية، والسِّيَاقاتِ الزمنية، والتجاربِ الحياتية، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأحداثِ اليوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ. وكُلُّ بناءٍ اجتماعيٍّ هو بالضَّرورة بُنيةٌ معرفية، وسيظلُّ الوَعْيُ عُنصرًا أساسيًّا في تَكوينِ الفِعْل الاجتماعي في البيئة المُعَاشة، وإعادةِ إنتاج النظام اللغوي لِيَصِيرَ دَليلًا على الحقيقةِ الإنسانيةِ، ودَلالةً على تَجاوزِ الفرد لذاته في رحلته لاكتشافِ وُجُودِه في المُجتمعِ، وَوُجُودِ المُجتمعِ في التَّحَوُّلات الحضاريةِ مَحَلِّيًّا وعالميًّا.

4

الوَعْيُ النَّقْدِيُّ في المُجتمع لَيْسَ نَسَقًا أُحَادِيًّا، وإنَّما هو شَبَكَةٌ مُعَقَّدَةٌ مِن العلاقاتِ الاجتماعيةِ، والمعاييرِ العقلانيةِ، والأنساقِ الثقافية.وهذه الشَّبَكَةُ تُؤَسِّس مناهجَ لُغَوِيَّةً قادرة على تفسير الرابطة بين المعرفةِ والمصلحةِ مِن جِهَة، وبين التاريخِ والسُّلطةِ مِن جِهَة أُخْرَى. وهذا يدلُّ على أنَّ التأويلَ اللغوي هو الحَكَمُ بَين عناصرِ البناء الاجتماعي، والحاكمُ على إفرازاتِ الواقع اليومي، لأنَّ اللغةَ وَحْدَهَا هي القادرة على تخليدِ اللحظة الآنِيَّة، ونَقْلِها عبر مراحل الزمن. وكُلُّ مُجتمعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر وَهْمًا لا هُوِيَّة له ولا ماهيَّة، وكُلُّ واقعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر فَرَاغًا لا كِيَان له ولا كَينونة، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغةَ هي المَرجعيةُ الوُجوديةُ التي تُقَدِّمُ الحقيقةَ الإنسانيةَ أوْ تَسْلُبُها، والشَّرعيةُ المعرفيةُ التي تُفَسِّر الفِعْلَ الاجتماعي كَنُقطةِ تَوَازُن بين العقلِ الجَمْعِي والسُّلوكِ الأخلاقي.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

التيه العدمي الذي وضع نيتشة الانسان فيه منذ نهايات القرن السابع عشرفي مقولته الاستفزازية الملغمّة موت الاله أستقبلته البنيوية في أعتمادها مرتكزين الاول أن الانسان كوجود مأزوم قلق ليس من المتاح أنقاذه في المدى المنظور بل ولا أهمية تسترعي الاهتمام به كبؤرة مركزية تدور في فلكها الفلسفة والعلم والمعرفة واللغة والحياة .، بهذا المعنى كان التبشير غير المقصود من نيتشة لما جاءت به مفاهيم فلسفة ما بعد الحداثة.

والمرتكز الثاني هو تطرف فلسفة علوم اللغة واللسانيات كمفهوم مستحدث خارج منظومة الحياة وصناعة التاريخ الحضاري للانسان. مفاده البنية اللغوية نسق تنظيمي مستقل لا علاقة تربطه بما أصطلح تسميته السرديات التاريخية الكبرى من ضمنها سردية الدين والتاريخ وايديولوجيات السياسة والفلسفة التي انجبتها الحداثة في مقدمتها سردية الماركسية ممثلة في كتاب راس المال....

كلا المفهومين الانسان كوجود ومنظومة اللغة بنية مستقلة في إنفصالها عن الانسان والواقع جرى أقصائهما العمد على لسان دي سوسير مخترع لعبة اللغة القائمة على إزدواجية المفهوم الفلسفي وليس أزدواجية المعنى اللغوي التي كانت مفتتح تجربة جديدة في إستقبال الايديولوجيا الفلسفية المستمدة من نيتشة وغادمير في توظيف اللغة كأداة هدم وتقويض لمباحث فلسفية زادت عليه البنيوية تطرفا أسلوب (القوة الناعمة) بالفلسفة اللغوية والتاويل وهو مصطلح يعود نحته لأول مرة لاجتهادنا بضوء هذا الترسيم الفلسفي الذي أرادته البنيوية عسى أن يحظى بمطابقة الإحالة الصحيحة في التقويض البنيوي- التفكيكي لعالم الانسان من دون ارادة الانسان كجوهرفاعل في الطبيعة والحياة.

من الجدير الاشارة الى أن آراء جاتلوب فريجة وفينجشتين في نظرية المعنى وفلسفة اللغة انما جاءتا متأخرتين على بدايات دي سوسير وليفي شتراوس بداية القرن العشرين. فريجة اعتبر لاحقا عدم ربط الفلسفة بالرياضيات وصمة عار مخجلة بحق تاريخ الفلسفة فوضعها امانة في عنق بيرتراند راسل ووايتهيد وجورج مور(يطلق عليهم حلقة اكسفورد) الذين اقتنعوا بالفكرة واشتغلوا على ما اطلقوا عليه الوضعية التجريبية التحليلية المنطقية قوامها تزاوج اللغة والرياضيات والمنطق وخالفهما هذا المسعى جورج مور احد اعضائها وفينجشتين المتاخرفي كتابه الثاني (تحقيقات فلسفية) ..

شتراوس استغرقه بحثه الفلسفي دراسة اقوام ما قبل التاريخ الذين لا تاريخ لهم كونهم لم يعرفوا معنى التدوين(الرسومات اللغوية والكتابة) وما يطلقونه من اصوات تواصلية دالة اكتشفها شتراوس من دراسته اركيولوجيا الحفريات الاثارية. وعلم الاثنولوجيا المصطلح الذي التزمه شتراوس وتم الاجماع عليه انه يعني دراسة تاريخ الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ.

وبهذا الترسيم العدمي البعيد جدا عن إعتماد إيديولوجيا السياسة التي إستهلكت نفسها على هامش نقد الفلسفة الفضفاض إذ لم تعد أيديولوجيا السرديات الكبرى وسيلة هدم وبناء كما هو المرجو منها فأستأثرت الفلسفتان البنيوية - التفكيكية تحديدا ملء فراغ الهدم والتقويض اللغوي دونما البناء في إعتمادهما أسلوب قوة اللغة الناعمة في تنفيذهما المطلوب بانقلاب ابيض.

، وسرعان ما تبنّى أقطاب البنيوية كلا من بارت وفوكو ولاكان وميرلوبونتي والى حد ما على صعيد ما نقصده منطلقات فلسفة اللغة الناعمة في المراجعة والتقويض إنضمام كلا من شتراوس في الانثروبوجيا (اثنولوجيا الاقوام البدائية) تاريخا وكلاما على اعتبار لا اللغة الصوتية الابجدية ولا مدوناتها الاشارية كانت مخترعة قصديا من انسان ذلك العصر السحيق للوصول الى لغة تواصلية تقوم على الصوت بذلك الوقت، وهي حقيقة لا يمكن دحضها. اللغة صوت له معنى.

والتوسير في إستهدافه السردية الماركسية الكبرى الشاخصة في كتاب رأس المال..والمادية التاريخية ومثله فعل ليفي شتراوس وسارتر في هجومه على الماركسية في عمودها الفقري كتاب راس المال أيضا. لكنهم جميعا توصلّوا الى اختلاق ماركسية بلا ماركس وبلا راس المال في هالة من التنظيراللغوي الفارغ المحتوى الذي يقوم على بنية فلسفية تقويضية هدفها الرفض لمتراكمات النص بما هو لغة وليس باسلوب الاختلاف الفلسفي المفهومي.

ورولان بارت وجيل ديلوز على صعيد الادب في مقولتهما موت المؤلف، ولاكان في نقده علم النفس الفرويدي ، وفوكو في أستهدافه كل شيء يطاله بدءا من إلغائه الانسان والعقل وليس انتهاءا بالجنسانية والجنون وسلطة القمع والمنع والسجون..

إذا ما سمحنا لأنفسنا تجاوز المسار الفلسفي المعقد المتشعب لأقطاب البنيوية سنجد أنفسنا نتوقف أمام تداخلاتهم مع أبرز إمتداد فلسفي لتطويرمفهوم علم اللغة واللسانيات في مشروع بول ريكور في فلسفة التاويل الهورمنطيقا الذي يقوم بالاساس الاشتغال على تطوير منحى التاويل البنيوي الذي جاء تتويجه حين وجد ريكور مشروعه التاويلي اللغوي يستثمر أتجاهات الفلسفات الغربية الحديثة جميعا، البنيوية، الوجودية، التاويلية، الماركسية ، العدمية ، ونظرية الثقافة، والتفكيك، والتحليل اللغوي ونظريات علم اللغة، وأخيرا انثروبولوجيا ميتافيزيقا الدين..

يعتبر الآن كلا من ريكور وجاك دريدا رائدا العبث في فلسفة اللغة بتطرف لا معنى له زاد في تجريد الفلسفة تجريدا اضافيا زاد في انغماس الفلسفة باللغة بما هي لغة عمادها نحو وصرف وقواعد وليس كما هو المعلن تصحيح أخطاء تاريخ الفلسفة بوسيلة تصحيح اخطاء معنى اللغة . القضاء على الابستمولوجيا كمبحث مركزي بتاريخ الفلسفة جعل فلسفة اللغة ونظرية المعنى تدخل التيه العدمي الذي لم تستطع الخروج منه لحد اليوم.

وقد أفاد بول ريكور في منهجه البنيوي التأويلي أيضا من ميراث فلاسفة التاويل غادمير، وشلاير ماخر، وأخيرا دلتاي.. كانت التاويلية لعبة ارادت تاصيل فائض المعنى المدخّر في ايجاد نسق كلي خاص في مجانسة لغوية قائمة لوحدها فقط بعيدا عن التكامل المعرفي مع الواقع بل في التوازي مع كل الموجودات والمفاهيم التي ترافق بنية اللغة ولا تقاطعها بشيء يخدم الحياة.

تاولية بول ريكور في البحث عن فائض المعنى المدّخر في متوالية قرائية مستقلة للنص لا غبار عليها يدينها. اما ان تبنيها اللغة تجريد يوازي الحياة ولا يقاطعها فهي بذلك حفرت فلسفة اللغة قبرها بيديها. وتفكيكية جاك دريدا التي ارادت بناء امجاد فلسفية لا يمكن تحقيقيها في ابتداعه ان التقويض والهدم استراتيجية تحكم النص اللغوي بما لا نهاية له في الوصول الى لا معنى يرتبط بمرجعية (ميتافيزيقية) مرفوض سلفا الاحتكام بها. رفض العقل وتحييد اصل النص وترميز الاهتمام بالاطراف والحواشي كل ذلك جعل من حفريات القراءة الجديدة عقيمة فلسفيا.

الإنفصامية المرضية فلسفيا التي وضعت الانسان كوجود مركزي طارد في مأزق الإحتضار السريري التي كانت البنيوية أضطلعت بالمهمّة الكبرى تنفيذه في حقنها ذلك المريض المحتضر(الانسان) كوجود مركزي بالحياة بمصل الموت الرحيم الذي خرج من محنة الحداثة وما بعدها في تقويضهما كل مكتسباته التي حققها له عصر النهضة والانوار والحداثة، نقول عمدت البنيوية تشييئها الانسان الإلغائي كوجود محوري تدور في فلكه كل ماسمّي بالمعارف والعلوم والسرديات الكبرى على ما شابها من قصور لم يكن الانسان مرتكز ذلك القصور كسبب ولكن كان المساهم الاكبر الوحيد الذي ناء بتحميله عواقب ذلك القصور لزمن طويل وصل الى اليوم في إلقائهم عبء العقل القاصر وخيانة المعنى اللغوي (يراجع كتابات فوكو الفلسفية في اعدامه عالمنا الحاضر ومركزية الانسان بهذا الخصوص)... وكلا الافتراضين لا اساس لهما من الصحة.

هذا الإنفصام المرضي الفلسفي الذي تبنته البنيوية بضراوة كان إعتمادها مفهوم الاكتفاء الذاتي في منظومة اللغة الانفصال التام عن الواقع الانساني بغية الوصول الى معرفة حقيقية للعالم على وفق قراءة لغوية بنيوية نسقية جديدة تنقذ اللغة من إحتكار علاقتها بالواقع وإستئثارها التعبير عنه وحدها.. ..

ولم تعد اللغة مرتهنة وظيفيا وسيليا في تجسير فهم الواقع بتعبير اللغة السطحي المعتاد على حد سوق ذرائع البنيوية كفلسفة حضور لمفاهيم ما بعد الحداثة..وهذا الإنفصام جعل من الأنظمة اللغوية في البنيوية وتأويلية بول ريكور وتفكيكية دريدا أنظمة مغلقة على نفسها مكتفية ذاتيا تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لا يبقى من علاقة ضرورية تجمع اللغة بالعالم الخارجي في تمثّلات اللغة له.

واضح المقصود بالخارج اللغوي هو العالم الواقعي الخارجي للانسان بما هو الحياة في تمثّلات اللغة التعبيرية عنه تداوليا كلام تحاوري مجتمعي.. وليس بالمعنى الفلسفي الذي عّبر عنه دي سوسير أن اللغة تمتلك نظامها الداخلي الخاص بها ولا حاجة للواقع الخارجي التعريف بها ، وكذا الحال معكوسا أن الواقع بكل منظوماته التكوينية له يحقق الكفاية الذاتية بمعزل عن أهمية اللغة الاسهام بهذا التوضيح الاسهامي لمعنى الحياة..

وعندما تبطل وسيلية توظيف اللغة ويجري إنسحابها من ميدانها ألمألوف في مهمة التعبير عن التمثلات الواقعية للعالم الخارجي فهي تكون أنساقا لغوية خاصة بما هي منظومة علائقية تجريدية قائمة داخليا بعالمها الخاص بها خارج مهمتها التعبير عن الواقع ما يرتّب ذلك أن الواقع الانساني الحيوي يكون التعبير عنه بالكلام الشفاهي وليس باللغة المكتوبة التي تكون لوحدها خطابا يبحث في العلاقات النسقية للاشياء بما هي صيرورات لتصورات فلسفية متداخلة متنوعة داخل بناها اللغوية وليس في عالمها الخارجي المرتبط بالانسان الذي أصبح لا يمتلك سوى اللغة في توكيد وجوده الانساني والتي عمدت فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي مصادرة عائديتها الخصائصية بالانسان كوجود نوعي تنتظمه اللغة.. برأيي من الخطأ اختزال الانسان بالخاصية اللغوية فقط لكن يمكننا اختزال الوجود كاملا باللغة كما ذهب له فريدريك سيلارز.

هذه الواقعة المعتمدة بنيويا بموجبها تعتبر نفسها فلسفة نمطية نسقية كليّة من التفكير الجوّاني الذي يعتمل ويتكوّن داخل السيرورة اللغوية بما هي نسق معرفي مستقل له احكام وضوابط خاصة يهتم بعوالمه المخترعة لغويا ولا قيمة للواقع والانسان في علاقة الربط بينهما وبين اللغة...

هذا النمط النسقي اللغوي ( يكون تفكيرا يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية، حينها لم تعد اللغة وسيطا بين العقول والاشياء) على حد تعبير ريكور. فقد تم إغتيال الواقع الحياتي ملاذ الانسان الاخيربأستعداء اللغة عليه وركنه جانبا خارج إهتمامات الفلسفة..بعيدا عن كل إشتراط منهجي عقلي مخالف لهذا التوجه المنحرف..

هناك حقيقة متداولة عمرها عشرات القرون هي أن اللغة تفكير العقل المدرك في معرفة الاشياء والتعريف بها، واللغة هي الوسيط التعريفي بين وعي العقل والاشياء في تعالقهما إدراكا معرفيا.. هذا الفهم إعتبرته البنيوية ومن بعدها التفكيكية في إعتمادهما منظومة علوم اللغة واللسانيات والتاويل والتحليل والإحالة والإرجاء مرتكزا فلسفيا في فهم العالم والانسان في عالمه الخارجي لم يعد له تلك القيمة المطلقة التسليم بصحتها وحقيقة الانسان خارج المنظومة اللغوية لاشيء كما هي اللغة من دون الانسان لا معنى لها لا معرفيا ولا فلسفيا.. متناسين حقيقة الانسان وجود انثروبولوجي لغوي لكنه – اي الانسان – لا يمكننا اختزاله كجوهر في البعد الواحد هو اللغة.

هذا التوجه في أخراج الانسان من الحياة والتاريخ قاد مأزق الانسان الوجودي بالحياة الى أكبر منه ، فاللغة هي تجريد علاماتي خطابي في فهم الانسان وعالمه الخارجي، فكيف باللغة عندما تكون في الفلسفة البنيوية والتفكيكية تجريدا مضافا لتفسير تجريد سابق عليه في الإنفصال الفلسفي التام التعبير عن الواقع الانساني والحياة؟ انفصال اللغة عن الحياة كما هو متداول اصبحت نسقا لغويا ادخلت تاريخ الفلسفة في نظرية فائض المعنى وقصور اللغة في متاهة البحث عن معنى كل شيء في وضعه امام علامة استفهام لا تجد اجابة لها.

لوفيدج فنجشتين فيلسوف اللغة المعروف أراد إخراج اللغة من عنق الزجاجة كما يقال الذي هو النفق الذي أدخلته البنيوية ومن بعدها التفكيكية فيه حين أعتبرتا النظام اللغوي المكتفي بصنع عوالمه الذاتية المستقلة كنسق يسير في توازيه مع الواقع المعيش هو منظومة اللغة أو الخطاب الواجب الإهتمام به...

وليس من مهمة هذا الخطاب اللغوي المنعزل عن تفسير العالم الخارجي ومركزية الانسان فيه الذي بشّرت به الحداثة لأكثر من قرن...ولا أهمية يمتلكها إنسان ما بعد الحداثة ليحتكر محورية التفكير بالحياة والوجود والتاريخ فلسفيا وعلميا وسياسيا ايضا....لذا نجد الفلسفة التي انتزع الاميركان سيادتها من الفرنسيين طرقوا ابوابا غريبة على تاريخ الفلسفة في محاولة تعويض الضياع الزمني في عقم وعجز التجديد بمنطق فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى. ونجد هذا في اقتراب الفلسفة من قضايا علم الاجتماع بمثابة النجاة من الغرق.

أمام هذا الفهم الفلسفي البنيوي التهميشي الذي زرع بذرته الاولى فينجشتين في كتيبّه (رسالة منطقية فلسفية) عن قصور فهم وليس عن خطأ متعمّد مقصود حاول تصحيحه لاحقا قبل وفاته لكن تلك الأخطاء التي تضمنتها المخطوطة مهدّت لبروز ظاهرة التطرف اللغوي في البنيوية والتفكيكية من بعده، وأستثمرته البنيوية والتفكيكية والعدمية بعد وفاة فينجشتين إستثمارا سلبيا بشعا حتى بعد طرح فينجشتين في كتيبه الاخير(تحقيقات فلسفية) توضيحات اعتدالية حاول فيها تصحيح أخطائه في رسالته المنطقية الفلسفية...

ويبدو بفضل نقودات عديدة وجهت لمخطوطته الفلسفية الاولى في الرسالة المنطقية تراجع فينجشتين عن معظم طروحاته التي وجدها لم تكن ناضجة وأراد التصحيح في كتابه التالي تحقيقات فلسفية قائلا ما معناه أن تمثّلات اللغة للواقع هو تلك الحيوية الخلاقة التي تبعثها اللغة في جسد ذلك الواقع المعيش في الوقت نفسه التي تكتسب هي- اللغة - حيويتها الحضورية في تطوير نظامها اللغوي بتأثير من الواقع الذي تحكمه الصيرورة الحياتية أيضا كما تحكم الواقع بذات الحين..

وفي حال العجز من تحقيق هذه المهمة فسوف لن يكون للغة معنى يمكن حضوره وعليه يكون صمت اللغة في العجز أجدى وأكثر حيوية من التعبير عن اللامعنى في التشبث بنحو وشكلانية اللغة من حيث هي لغة فقط على حساب إلغاء المضمون الفلسفي المرجو تحقيقه في حل إشكاليات مفاهيم الفلسفة العالقة بوسيلية تعبير اللغة الإلتباسي المعقد وليس حل مشاكل نحو اللغة بما هي تجنيس في الادب على حساب تنحية مفاهيم الفلسفة عن طريق ماسمّي التحول اللغوي كتجديد فلسفي تاريخي .

هذا التحذير الذي نادى فينجشتين به أن اللغة لا تستمد فعاليتها القصوى إلا في صيرورة الحياة وجريانها المجتمعي المتدفق والانسان جزء هام من هذه المنظومة التي هي مصنع الحيوية البشرية للحياة والوجود..والذي تبنته الفلسفة التحليلية الانجليزية في رفضها والتقاطع مع رائد فلسفة التاويل اللغوي بول ريكورالذي هو أمتداد وتطوير منطلقات البنيوية في اللغة قوله ( لم تعد اللغة بوصفها صورة الحياة كما أراد لها فينجشتين ، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به) . وكان سبق لأقطاب البنيوية أن أخرجوا اللغة بوصفها خطابا لا تتحدد مقاصده في تعابير المفردات اللغوية المنفصلة التي لا ينتظمها سياق الجملة وموقعها في بنية النسق الخطابي داخليا..

منطق دي سوسير هو تنحية الكلام عن مهمته واسطة التعامل المتحاور مع الواقع الحياتي، في أزاحته التنافسية عن طريق فهم اللغة أنها منظومة خطاب متكامل مكتف ذاتيا في تصنيعه عوالمه اللغوية، ويرى سوسيرالكلام فرديا تعاقبيا عارضا، أي أنه محاورة مجتمعية من الكلام الشفاهي ، تسمه بصمة فردية المتكلم، والتعاقب الحواري في تنوع المصدر الفرد المتكلم وما يحمله من محمولات الحديث العابر، وهو أي الكلام أخيرا عارض مؤقت زائل لإنتهاء دوره الإستعمالي التوظيفي في التواصل الحواري التخاطبي التداولي مع إنتهاء وتفرّق المتحادثين المشاركين في إنتاجية وإستهلاك الكلام الجماعي في التحاوربينهم.

فالكلام يختلف عن اللغة الصوتية أنه لا يصلح لتدوين مكتوب يلازمه ملازمة تدوين الكتابة اللغوية.بينما تكون اللغة حسب فهمنا عن دي سوسير خطابا تدوينيا ثابتا مكتوبا في الغالب حين يكون نصّا لغويا تعبيريا.. يحكم ذلك الخطاب نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة الفهم والقيمة على المدى البعيد على خلاف الكلام الذي يستهلك نفسه في الشفاهية التحاورية الوقتية الزمنية الزائلة التي يطالها التزامن العرضي..

نعود الآن الى مبتدئات فهمنا معنى الكلمة أو المفردة هو أنها لفظ صوتي مسموع دال وصوري مكتوب خال من المعنى ما لم يكن متضمّنا دلالته المحمولة بمعناه القصدي سلفا، وفي هذا تجد البنيوية تبسيطا مخّلا عندما لا يكون معنى المفردة مستمدا من سياقها المنتظم في جملة نسقية تشي عن عبارة تحمل معنى متكاملا ونجد تعبير ريكور بهذا المعنى (الجملة وحدة الخطاب الاساسية التي تشمل وحدات أكثر تعقيدا، وتعاقب الكلمات بالجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات المنفردة التي هي الجملة .).

هذه المفارقة التي حاولت البنيوية تكريسها إنما وجدت ضالتها في التماهي الهيدجري معها الذي أيّد منطلق أن تكون اللغة أصبحت فلسفيا حقيقتها مكفولة في إنفصالها عن الواقع وتمّثلاته ويؤثر هيدجر ويفضّل (الشاعر – ويقصد به شاعره الاثير هولدرين الذي يمتلك نفس الحفاوة لدى فوكو ايضا – كونه يقول اي هولدرين قبل وبعد جنونه الوجود بلغة الوجود الاصيلة الغريبة علينا على حد اعجاب هيدجر)... هنا الوجود الاصيل الذي يقصده هيدجر هو الذي ينفرد التعبير عنه بمكنة خاصيّة لغة الشاعر التعبير عن (اللاوجود)، أي بمعنى الوجود القائم على تصورات التهويم الخيالي في تفكيك نسق اللغة التداولي الذي يقصي سلطة العقل على المعنى تماما في رقابة اللغة الشاعرية، فيكون بهذا تعبيرالشاعر الشعري عن الوجود الاصيل إنما هو تداعيات الخيال في اللاشعور الذي تتفكك اللغة فيه وتخرج عن نظامها الدلالي المألوف الى حد طغيان اللاشعورفي تعبير اللغة.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

ما نقصده بالثقافة في موضوع بحثنا هذا، هي تلك الأنساق النظريّة في المعرفة، التي اكتسبها الإنسان عبر تاريخ علاقته مع الطبيعة والمجتمع، والثقافة في هذا الاتجاه، هي ثقافة شعوب، وبالتالي هي ثقافات متعددة، تختص بشعوب وحضارات قديمة وحديثة، وكل ثقافة منها لها سماتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها. وهذا ما يجعلنا نؤكد، بأن الثقافة اليونانيّة هي تختلف من حيث بنيتها عن الثقافة العربيّة، أو الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وهي تختلف بالضرورة عن الثقافة الصينيّة أو الهنديّة أو الفارسيّة أو الأوربيّة. مع تأكيدنا بأن كل ثقافة من هذه الثقافات ليست منعزلة عن غيرها، بل هناك تلاقح ثقافي تم عبر تاريخ الشعوب وعلاقاتها مع بعضها، فالثقافة اليونانيّة تأثرت بالثقافة الشرقيّة ثقافة مصر (الاسكندريّة) وسوريا وبلاد النهرين. والثقافة الأوربيّة تأثرت بالثقافة اليونانيّة والعربيّة الإسلاميّة، والثقافة العربيّة الإسلاميّة تأثرت بالثقافة الهنديّة والفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة. وهكذا.

بنية الثقافة العربيّة:

هي في سياقها العام، وخاصة في نسقها العربي "ثقافة عالمة"، حيّة في لغتها وأدبها ودينها وفكرها.(1). وهي متغلغلة في العقل واللاشعور، وفي الفكر والسلوك معاً. وهي بالحتم كانت ولم تزل ثقافة الماضي المجيد الحاضر دائماً في الذاكرة مع كل فخر واعتزاز، وهي من يشكل الملجأ والحصن ضد كل عدو خارجي يحاول النيل من حملتها العرب. وكل ذلك كما يقول "محمد عابد الجابري" يجعل منها في وعينا تراثاً وليس مجرد إرث. وبالتالي هي عنوان حضور السلف في الخلف.

سمات وميزات خطابنا الثقافي العربي في تاريخنا المعاصر:

أولاً: إن البنيّة الثقافيّة العربيّة السائد الان، هي في مجملها اجترار وتكرا للماضي، وإعادة إنتاج للتاريخ الثقافي العربي نفسه بشكل رديئ، وخاصة التاريخ الثقافي الذي ساهمت السلطة بإنتاجه، وليس التاريخ الثقافي المسكوت عنه، وهو التاريخ الثقافي المشبع بالعقلانيّة والتنوير والدعوة إلى العدالة والمساواة وحرية الرأي والموقف. أي الثقافة التي أنتجها التناقض والصراع داخل بنية المجتمع وعلاقات إنتاجه، ومع طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطات الحاكمة المستبدّة التي ولدت بالضرورة نشاط وتوجه فكري مناهض لثقافة الاستبداد والاستلاب وتشيئ الإنسان وتغريبه.

إنه تاريخ الثقافة نفسه الذي كتبه أجدادنا تحت ضغط الصراعات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة التي عاشوها، وفي حدود الإمكانات العلميّة وخاصة المنهجيّة منها التي كانت متوفرة عندهم. لذلك كانت ثقافة السلطة والطائفة والمذهب، أكثر من منها ثقافة الشعب الحر المبدع، والعقل النقدي، والمنطق العقلاني والبرهان. من هذا المنطلق نقول: نحن مازلنا في الحقيقة سجناء الروئ والمفاهيم والمناهج التي اشتغل عليها أجدادنا في الماضي، مما يجرنا دون أن نشعر إلى الانخراط في صراعاتهم ومشاكلهم ومذاهبهم وطوائفهم ومناهج تفكيرهم، وإلى جعل حاضرنا ومستقبلنا مشغولاً بمشاكلهم. فالصراع السني الشيعي لم يزل قائما، وسب عمر وأبو بكر وعثمان لم يزل موجودا، وقصص وأساطير آل البيت في صيغتها الصفويّة لم يزل يتداولها من ينتمي لها مذهبياً أو طائفياً، وكذلك لم تزل أساطير أهل السنة وكراماتهم التي أنتجها العصر المملوكي والعثماني وتكفير المختلف وإخراجه من الفرقة الناجية قائما، وكثيراً ما يمارس عليه حد السيف. والاختلاف بين المذاهب السنيّة لم يزل فاعلاً فهذا شافعي وهذا حنبلي وذاك مالكي أو حنفي أو جعفري.

بتعبير آخر: إن تاريخنا الذي نقرأه اليوم هو تاريخ فرق ومذاهب وطبقات ومقالات وفتن وصراعات دموية، فكتاب: الفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهرستاني ، ومقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري وغيرها الكثير، لازالت تملأ مكتباتنا ونتحاجج بها اليوم لإثبات إيمان أو تكفير المختلف من الأفراد والجماعات.

نعم إن تاريخنا هو تاريخ الاختلاف في الرأي والموقف، وليس تاريخ البناء والتوافق في الرأي والموقف. وإذا كانت حياة القدماء وطريقة تفكيرهم مبررة لهم في عصرهم، ولا مجال للومهم أو انتقادهم اليوم، ولكن اللوم كل اللوم والانتقاد وبأشد صوره يوجه لأبناء عصرنا الذين يتمثلون أو ينقادون بشكل أعمى لثقافة وسلوك سلفنا باستسلام تام، على أن الحقيقة المطلقة قد أعطيت لهم وحدهم، وبالتالي اعتبار كل خروج عن ثقافتهم وطريقة تفكيرهم وسلوكهم، هو بدعة وضلالة.

لا شك أن تاريخ ثقافتنا المعاصرة هو تاريخ فنون وآداب وعلوم طبيعية وفلسفة... الخ. بيد أنها علوم منفصلة عن بعضها. وكل علم منها لا يتفق مع ما قررته ثقافة الماضي من حيث توافقه مع الشرع أو مخالفته، لا مكان له، وهو ليس أكثر من محاولات فرديّة، غالباً ما يكفر حملة هذه الثقافة، إن كان على مستوى الفن أو الفلسفة. لذلك تغيب قضايانا المعاصرة ومشاكلنا في ثقافتنا الراهنة، وتظل ثقافة الماضي ومشاكل عصرها هي من يسطر على السوق الثقافيّة الراهنة. والنتيجة تداخل الأزمنة في وعينا التاريخي الثقافي، مما يفقدنا الحس التاريخي بالزمن وقضاياه التاريخيّة، وجعل ثقافة الماضي تتري أمامنا متزامنة وليس كمراحل متعاقبة.

ثانياً: إن ترابط الأزمنة في ثقافتنا الراهنة، سيؤدي بالضرورة إلى تداخل الأمكنة. أي نستطيع القول: إن تاريخنا الثقافي يرتبط داخل وعينا بالمكان أكثر من ارتباطه بالزمان، فتاريخنا كما يقول الجابري وهو محق في ذلك، هو تاريخ الكوفة والبصرة والحجاز ودمشق وبغداد وقرطبة وفاس والقاهرة والقيروان، مثلما هو تاريخ شخصيات، فقهاء ومتكلمين وخلفاء وسلاطين.. وغيرهم. وهنا يتداخل تماماً الزمان والمكان والشخصيات، وهذا ما يجعل وعينا وثقافتنا تقوم على التراكم وليس على التعاقب، تقوم على الفوضى وليس على النظام.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................................

1- الثقافة العالمة: هي برأيي ثقافة تحمل في مضمونها ثقافة النخبة والثقافة الشعبيّة معاً، فثقافة النخبة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو تحتها، والثقافة الشعبيّة التي تحول قسم كبير منها إلى حكم وأمثال وقصص وحكايات وسير ومواقف ذهنيّة وشرعيّة نعيد إنتاجها والتعامل معها في شقيها من باب النقل لا العقل. أي هي ثقافة حازت على الحقيقة المقدسة، وغير قابلة للمراجعة والتعديل أو الإلغاء.

في المثقف اليوم