أقلام فكرية

أقلام فكرية

أبدى مؤسس مدرسة التحليل النفسي "سيجموند فرويد" ملاحظة هامة ذات مرة لـ "إريك إريكسون"، أحد مريديه قائلاً: أن تحب وأن تعمل، هما القدرتان التوأمان اللتان تمثلان علامتا النضج الكامل. وإذا كانت هذه هي المسألة، فالنضج إذن محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان.

يُحكى أن يابانياً من محاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: "أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك..".

آهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من غضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول  " سأقتلك لوقاحتك... "، أجابه الراهب بهدوء " هذا تماماً هو (الجحيم)... ". هدأ الساموراي، وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده. وانحى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: " هذه هي (الجنة)..".

هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما. وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل. لا شك أن وصية الفيلسوف اليوناني سقراط التي تقول "اعرف نفسك" تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها.

إن أي نظرة للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوة تأثير العواطف هي نظرة ضيقة الأفق بشكلٍ مؤسف. والواقع أن اسم " الجنس البشري Homo Sapiens " ذاته أي الجنس المفكر، يعد تعبيراً خادعاً في ضوء الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحهما العلم الآن. وكلما علمتنا خبرات الحياة، فإن مشاعرنا غالباً ما تؤثر في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا بأكثر مما يؤثر تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا. ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهمية العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان. وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يحقق الذكاء العقلي شيئاً لو كبح جماح العواطف.

شهدت الأبحاث والدراسات العلمية المتعلقة بعواطف الإنسان نقلة نوعية بما أن العواطف والمشاعر تلعب دوراً كبيراً في التأثير على السلوك الإنساني وإقامة العلاقات والروابط الاجتماعية مع الآخرين، فقد نقوم أحياناً باتخاذ القرارات والإتيان بالتصرفات وتحديد موقفنا من الآخرين بناءً على مشاعرنا أو عواطفنا. لذا سعى علماء النفس إجراء مجموعة من الدراسات والأبحاث لتفسير دور العواطف الإنسانية الإيجابي في الحياة اليومية، وبالأخص فيما يتعلق بالذكاء العاطفي.

تتمثل أهمية الذكاء العاطفي في الصلة بيـن الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية النظرية، وأن المواقف الأخلاقية الأساسية في الحياة إنما تنبع من قدرات الإنسان الانفعالية الأساسية، ذلك أن الانفعال بالنسبة للإنسان هو (واسطة) العاطفة، وهو شعور يتفجر داخل الإنسان للتعبير عن نفسه في فعل ما. وهؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال أي المفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي فالقدرة على السيطرة على الانفعال هـي أساس الإدارة وأساس الشخصية وأساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف مع الآخرين أي القدرة على قراءة عواطفهم، أما العجز عـن الإحساس باحتياج الآخر أو بشعوره بالإحباط فمعناه عدم الاكتراث به.

كما يعد الذكاء العاطفي صفة أساسية في تكوين شخصية القائد الناجح The personality of the successful leader، وذلك أن القدرة على التأثير في الآخرين هي الصفة الأهم في القيادة، لأن هذه الصفة تحدد فيما إذا كانت الصفات الأخرى ستعمل أم لا، فما قيمة صفة الذكاء والقدرة على التخطيط إذا لم يكن القائد قادراً على التأثير في الآخرين؟

أثبتت الدراسات والأبحـاث المعاصرة أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. بناءً على ما سبق يتحتم علينا الإجابة على التساؤلات الرئيسية التالي: ما هو مفهوم الذكاء العاطفي؟ وما هي أسسه؟ وكيف يؤثر في معرفتنا لأنفسنا؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها أصحاب الذكاء العاطفي؟

- مفهوم الذكاء العاطفي: تشير تعريفات الباحثين للذكاء العاطفي على أنـه قدرات ومهارات في فهم مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المضمون. يعرف سالوفي وماير الذكاء العاطفي بأنه القدرة على معرفة الشخص مشاعره وانفعالاتـه الخاصة كما تحدث بالضبط، ومعرفته بمشاعر الآخرين، وقدرته على ضبط مشاعره، وتعاطفه مع الآخرين والإحساس بهم، وتحفيز ذاته لصنع قرارات ذكية.

 ويرى دانييل جولمان مؤلف كتاب "الذكاء العاطفي" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أن الذكاء العاطفي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض صفـات شخصية، لها أهميتها البالغـة في مصيرنا كأفراد. بمعنى آخر، أن تكون قادراً على حث نفسك على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل، إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادراً على التعاطف والشعور بالأمل. ويعرفـه آخرون بأنه القدرة على التعامل مع المعلومات العاطفيـة، من خلال استقبـال هذه العواطف واستيعابهـا وفهمها وإدارتها.

بناءً على ما سبق يمكننا تعريفه بأنه مجموعة من القدرات أو المهارات الشخصية التي تساعد الشخص على معرفة مشاعره وانفعالاته، وسيطرتـه عليها جيداً، وفهم مشاعـر وانفعالات الآخرين، وحسن التعامل معهـم، وقدرته على استثمار طاقته الوجدانية في الأداء الجيد، وعلى إقامـة علاقات طيبة مع المحيطين. باختصـار هو قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله. ووفقاً لمجلة " Psychology today "، فإن الذكاء العاطفيEmotional Intelligence هو القدرة على تحديد وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، وهذا الأمر عادةً ما ينطوي على:

- الوعي العاطفي، ويتضمن القدرة على تحديد مشاعرك ومشاعر الآخرين.

- القدرة على تسخير المشاعر وتطبيقها عملياً في حل مشاكلك في الحياة اليومية.

 - القدرة على إدارة العواطف، مثل التحكم بمشاعر الغضب أو القدرة على الحفاظ على هدوئك عندما تكون مستاءً.

- أسس الذكاء العاطفي: يقوم الذكاء العاطفي على الأسس الآتية:

1- أن يعـرف كل إنسان عواطفه من خلال الوعي بالـذات Self - Awareness فالوعي بالنفس والتعرف على الشعور وقت حدوثه، هو الحجر الأساسي في الذكاء العاطفي، وامتلاك القدرة على رصد المشاعر من لحظة إلى أخرى يعد عاملاً حاسماً في فهم النفس، كما أن عدم القدرة على فهم المشاعر الحقيقية، تجعل الفرد يقع تحت رحمتها، فالأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة أشخاص واثقون في أنفسهم وفيما يتخذونه من قرارات.

وقد صنف " ماير" الناس بالنسبة للوعي بأنفسهم إلى ثلاثة أصناف: الأول الواعون بأنفسهـم: وهم الذيـن يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، وعندهم الحنكـة فيما يخص حياتهم الانفعالية ويمثـل إدراكهم الواضـح لانفعالاتهم أساساً لسماتهـم الشخصية يتمتعون باستقلالية في شخصياتهم، واثقون من أنفسهم ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرةً إيجابية، وهم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن، باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. أما الصنف الثاني الغارقون في انفعالاتهم: العاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية تمتلكهم تماماً، وهم متقلبو المزاج، غير مدركين لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حدٍ ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية، إنهم أناس مغلوبون على أمرهم فاقدو السيطرة على عواطفهم. وأخيراً المتقبلون لمشاعرهم: وهـؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية دون محاولة لتغييرها، وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. أما المجموعة الثانية: تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم، فهم استكانوا لليأس.

2- إدارة العواطف والتحكم بهاEmotion Handling ، إن الوعي بالذات والتعامل مع المشاعر لتكـون ملائمة مع المواقف الحالية، يتم عن طريق القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الجامح، وسرعة الاستثارة. وإن من يفتقر إلى هذه المقدرة، يظل في عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتع بهـا فهو ينهض من كبـوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر.

3- تحفيـز النفس Motivation عبر توجيـه العواطف في خدمة هدف ما، فهذا أمر مهم لتنبيه النفس ودفعها للتفوق والإبداع، فالتحكم في الانفعالات وتأجيل الإشباع، أساس مهم لكل إنجاز ومن يتمتع بهذه المهارة الانفعالية يكون لديه فاعلية في كل ما يناط به من أعمال.

4- معرفـة عواطف الآخرين أو التقمص الوجدانيEmpathy ، وهي مقـدرة تتأسس على الوعـي بالانفعالات، حيث يدفع التقمص الوجداني الإنسان إلى الإيثار والغيرية (الاهتمام بالغير)، ومن لديه هذه الملكة يكون أكثر قدرةً على التقاط الإشارات التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم.

5- توجيه العلاقات الإنسانية أو المهارات الاجتماعية Social Skills عن طريق إدارة انفعالات الآخرين وتطويع عواطفهم، والقدرة على القيـادة الفاعلة والتأثير في الآخرين من خلال مشاعرهم.

خلاصة القول، إنك إذا كنت تتمتع بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي أو تريد تعزيزه من أجل تحقيق النجاح في حياتك الشخصية والاجتماعية والمهنية، نعرض لك في هذا السياق الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي: أولاً: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قدماً بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف. ثانياً: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظراً لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد. ثالثاً: يتقبلون التغيير، بدلاً من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة. رابعاً: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم. خامساً: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، كتابه " ركِّز (المحفز الخفي للتميز) "، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك. سادساً: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضاً كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب. سابعاً: لديهم دوافع ذاتية، إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي. ثامناً: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جداً بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعاً: يركزون على النواحي الإيجابية، يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلاً من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه.

وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليه. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

يعلمنا التحليل النفسي ما إنغرس في أعماقنا ويحرك سلوكنا، يقودنا إلى ما ننطق به إلى أهوال في بعض الأحيان عبر اللسان، وهو منطوق عبر الكلام، وهو مخزون في التفكير، كان تكوين فرضي، فتحول إلى واقع وصار نحن " أنا المتكلم" وقول المحلل النفسي الفرنسي كريستيان هوفمان في محاضرة له بتاريخ 2 / 12 / 2022 في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس "محاضرة غير منشورة" قوله: تحليل السلوك هو تحليل الأنا، وتحليل الكلام هو تحليل الذات، ربما يقول البعض أن هوفمان ذهب بنا بعيدًا إلى فكر الفيلسوف الفرنسي والمحلل النفسي " جاك لاكان" وهي حقيقة واقعة، فما ننطق به هو مخزون في فكرنا، وما نقوله نعبر عنه بشكل جميل، مُحسن، مقبول يرضي السامع، ولكنه ليس هو ما نحمله في دواخلنا، وأفضل دليل على ذلك ما دونه لنا سيجموند فرويد في الهفوات وزلات اللسان والقلم. وقوله "سيجموند فرويد" بأن الفلتة نفسها يكون لها في بعض الأحيان معنى، والفلتة تنطوي على مغزى وقصد. ويضيف فرويد قوله: أن الهفوة قد تكون في بعض الأحيان سلوكًا يتسم بما يتسم به كل سلوك سوي، إلا أنه زج بنفسه مكان السلوك الذي يتوقعه الفرد أو يقصد عليه. وهي أيضًا أقصد الهفوة ليست وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، وما نتعلمه من التحليل النفسي اليوم إمتدادًا لأفكاره في التكوين والتحديث الكثير فما يراه فرويد قوله: وعما إذا كان من الممكن أن تستوعب هذه النظرة شتى أنواع الهفوات الأخرى، كزلات القلم وعثرات القراءة والخطأ في تنفيذ بعض الأفعال، والنسيان، واستحالة العثور على أشياء حفظها الإنسان من قبل، وغير ذلك وما الدور الذي يقوم به التعب وشرود الذهن والاهتياج وتشتت الانتباه حيال الطبيعة النفسية للهفوات .

يؤكد لنا "سيجموند فرويد" بأن النشاط النفسي يخضع لحتمية سيكولوجية، فليس في العالم النفسي مجال للمصادفة الطارئة، ومن ثم فكل ما يصدر عن الفرد من سلوك إنما هو محتم " محتوم- حتمي" مقدر بما سبق أن خَبره في أطوار حياته. فهو يصدر ليس إعتباطًا، أو عشوائيًا، ويضيف "فرويد" الحق أنكم تتوهمون وجود حرية نفسية. إذن الأمر كل ما يصدر عنا له دلالة ومعنى، وإن غاب عن التفسير في الوقت الحاضر.

ما نتعلمه من التحليل النفسي أن نسيان الموعد مع شخص له دلالة ومعنى، وكذلك نسيان  تنفيذ الأوامر الموكلة لك في العمل، أيضًا لها دلالة ومعنى، ونسيان تنفيذ متطلبات الزوجة، أو الابناء، له دلالة ومعنى، وكذلك ضياع الأشياء واستحالة العثور عليها له أيضًا دلالة ومعنى، ويقول " فرويد" نحن نفقد الأشياء متى أختلفنا وتخاصمنا مع من قدموها إلينا، فلا نريد أن نذكرهم أو أن نفكر فيهم بعد، كما نفقدها إن مللناها فالتمسنا عذرًا لكي نتبدل بها خيرًا منها. ويرى فرويد أن كسر الأشياء وإسقاطها وإتلافها يؤدي أغراضًا شبيهة بالأغراض السابقة بطبيعة الحال. ونقول وراء كل سلوك دافع وإن كان خفيا.

ما نتعلمه من التحليل النفسي على حسب قول سيجموند فرويد أن بعض أنواع التفاؤل والتشاؤم لا تخرج عن أن تكون من قبيل الهفوات، من تلك تعثر الفرد أو سقوطه على الأرض، وإن كان لبعضها الآخر طابع الحوادث الموضوعية لا طابع الذاتية، ويضيف فرويد قوله: قد لا تصدقون كيف يصعب علينا أحيانًا أن نقطع بما إذا كان حدث ذو طابع الحوادث الموضوعية، أو إلى طابع الأفعال الذاتية، فالفعل يعرف في كثير من الأحيان كيف يتنكر ويلبس لبوس الحدث السلبي.

ما نتعلمه من التحليل النفسي هو أن للهفوات دلالة ومعنى، وأن لكل هفوة معنى، ويضيف فرويد: أن الهفوات أفعال نفسية تنشأ عن تداخل قصدين، ويمكننا القول إن الهفوات أفعال نفسية، ويفسر فرويد ذلك قوله: حين نصف ظاهرة بأنها عملية نفسية لذا يجدر بنا أن نضع عبارتنا في الصيغة الآتية، للظاهرة معنى، ونقصد بهذا أن لها دلالة، وأنها تصدر عن قصد، عن نزعة، وأنها تحتل مكانًا معينًا في سلسلة من العلاقات النفسية.

يدلنا فرويد في طروحاته العميقة عن فلتات اللسان حينما يؤكد بأن فلتة اللسان قد تكون مظهرًا لنزعة أُعيقت عن التعبير عن نفسها منذ زمن طويل، بل منذ زمن بعيد جدًا، بحيث لا يعود المتكلم يفطن إلى وجودها أصلًا، فيكون مخلصًا كل الإخلاص إن أنكر وجودها، وينهي قوله: أن قمع القصد – القصد إلى قول شيء – هو الشرط الضروري لحدوث فلتة اللسان.

يضيف لنا "فرويد" وللتحليل النفسي كيف أن الهفوات وزلات اللسان والقلم وضياع الأشياء واستحالة العثور عليها هي نتيجة لفعل قوي في النفس، وعلى أنها تعبيرات عن نزعات تعمل متضافرة للوصول إلى غاية. ويضيف  أن الإنسان لايميل إلى أن يعترف عن طيب خاطر بأنه تورط في فلتة لسان، بل يحدث في كثير من الأحيان أن يفوته سماع فلتة زل بها لسانه في حين لايفوته ألبته سماع فلتة وقع فيها غيره.

أما عثرات القراءة فيبين لنا سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي قوله: أختلف الموقف النفسي اختلافا بينًا عنه في فلتات اللسان وزلات القلم ، ذلك أن إحدى النزعتين المتصارعتين يحل محلها في هذه الحال تنبيه حسي قد يكون أقل منها مقاومة وإلحاحًا. ةيضيف قوله: إن ما يقرؤه الإنسان لا يكون غالبًا من نتائج عقله، كما هي الحال فيما يكتب. لذا فالغالبية العظمى من عثرات القراءة تنجم عن عملية " إبدال" تام، فالكلمة المقرؤة تُستبدل بها أخرى دون أن تكون هناك بالضرورة صلة بين مضمون المقروء ومضمون نتيجة الخطأ، بل يحدث الإبدال عادة عن طريق تشابه بين الألفاظ. يبين لنا فرويد ثمة صنف آخر من عثرات القراءة يستثير فيه النص المقروء نفسه نزعة دخيلة تحرفه، وكثيرًا ما تقلبه إلى ضده كما لو طلب إلى أحد أن يقرأ شيئًا لا يستسيغه، لا يحبه، لا يرغب بقراءته فيتضح من التحليل أن المسؤول عن التحريف في هذه الحالة رغبة قوية في نبذ ما يقرأ، ونحن نقول إنها رغبة لاشعورية في الرفض.

يرى فرويد أن النسيان وسيلة دفاعية تقي من الذكريات الأليمة، ويرى أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، ديناميكية، تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما، ويضيف فرويد .. بيت القصيد هنا هو أن نعرف موقف إحدى النزعتين من الأخرى، والاثار التي تترتب على كل واحدة منهما والحديث عن تلك الظواهر النفسية التي تصدر من الإنسان لا ينتهي لأنها ترتبط بموضوعات آخرى منها الأحلام والإضطرابات النفسية والعقلية.

***

د. اسعد الامارة

 

بعد هذه السلسلة التي تتناول المعرفة الأخلاقية من منظور سياقي ادعي أن الصورة السياقية التي قدمتها دقيقة في وصفيتها إلى حد ما، على الأقل إذا ركزنا على الأسئلة التي تدور حول المسؤولية المعرفية في الاعتقاد الأخلاقي. ولكن حتى لو كنت محقًا في ادعائي الوصفي حول كيفية عمل ممارساتنا، فهل لدينا سبب وجيه لتأييد ممارساتنا؟ هل يمكننا تقديم سبب منطقي لوجود معايير وممارسات تشبه تلك التي لدينا؟ ننتقل،هنا، من الأسئلة الوصفية إلى الأسئلة المعيارية.

لا يسمح االمجال هنا بمتابعة القضايا المنهجية بأي تفاصيل، لكنني سأفترض أن الحكم على الملاءمة الكلية للنظرية المعرفية هو مسألة تماسك تلك النظرية بشكل شامل مع الافتراضات والآراء من الحس السليم في الأمور العملية ومجالات البحث الأخرى. هناك على وجه التحديد بعدين لهذا النوع من الكلية أو الشمولية يستحق الفرز. أولاً، قد يرغب المرء في أن تتوافق نظرية المعرفة الأخلاقية مع افتراضات الحس السليم حول الأمور المعرفية مثل الافتراض بأن العديد من الناس (على الأقل في بعض الأحيان) يعتقدون بشكل مبرر ببعض الافتراضات الأخلاقية. ثانيًا، يريد المرء أن تتوافق الالتزامات والآثار المترتبة على نظرية المعرفة مع أي افتراضات ونظريات ونتائج من المجالات التجريبية مثل علم النفس وعلم الأحياء والأنثروبولوجيا.[1] بالطبع، أن تقييم النظريات المعرفية هي مسألة مقارنة. يأمل المرء أن يُظهر أن النظرية المعرفية المفضلة لديه تقوم بعمل أفضل، مقابل أي منافس، في تلبية الرغبات.

على الرغم من أنني لن أجادل في هذه القضية هنا، لكن دعوني فقط أخمن أن وجهة نظري السياقية تتوافق بشكل أفضل من الآراء المتنافسة مع افتراضات الفطرة السليمة مثل أن الأشخاص العاديين غالبًا ما يكونون مسؤولين معرفيًا في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها. أظن أن هذه الآراء المعرفية المتنافسة، بغض النظر عن الفضائل التي تمتلكها، تميل إلى فرض أعباء معرفية على المعتقديين العاديين والتي قد توحي بأنه ليسوا مسؤولين بشكل عام في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها.[2] لذلك أعتقد أن السياقية أكثر منطقية من منافسيها فيما يتعلق بالهدف الأول لأي نظرية المعرفة الأخلاقية.

أعتقد أيضًا أن نظرية المعرفة السياقية التي اعرضها تتوافق بشكل جيد مع معطيات تجريبية معينة حول البشر. إن ما يدور في ذهني، على وجه التحديد، هو نوع من المنطق العملي الذي اشرت إليه في سياق هذا البحث للدفاع عن الشرط "البينية أو الفترات الفاصلة" التي تحكم مسؤوليتنا في التعامل مع الاحتمالات المضادة. لقد أشرت فيما يتعلق بالمتطلب المعني إلى أنه نظرًا "لمأزقنا" أو لوضعنا الصعب، بما في ذلك حقيقة أننا كائنات ذات موارد معرفية محدودة، ووقت محدود، وأهداف أخرى غير معرفية، فإننا نتوقع أن أنواع المعايير المعرفية في الحياة العملية اليومية من شأنه أن تفرض نوعًا من مستوى الرعاية "في الفترات الفاصلة" لفحص القدرات المحتملة التي اكتشفناها سابقًا. علاوة على ذلك، فإن النظر إلى المعايير المعرفية من هذا المنظور البراغماتي يجعل من المنطقي أن معاييرنا المعرفية بشكل عام لها تحيز "بريء حتى تثبت إدانته" تجاهها، وهو نزعة محافظة تذهب إلى صميم السياقية التي اتناولها.[3] إذا كان هذا صحيحًا، فبما أنه لا يبدو أن هناك أي سبب خاص لافتراض أن المتطلبات المعرفية المرتبطة بالمعتقد الأخلاقي تختلف في هذا الصدد عن تلك المرتبطة بالمعتقدات غير الأخلاقية، فإن نوع المنطق البرغماتي- العملي الموصوف سابقًا ينطبق على الحالات الأخلاقية ايضًا.

الخاتمة

لقد حاولت تقديم حجة لمعقولية نظرية المعرفة السياقية في مجال الأعتقاد الأخلاقي. لقد شرعت، بعد فرز وتوضيح العديد من أطروحات السياق المعرفي، في وصف فرد معرفي نموذجي مناسب للتقييم المعرفي اليومي للأشخاص العاديين. و شرعت، على أساس هذا النموذج، في تحديد صيغة من السياقية حول بنية الأعتقاد الأخلاقي المسؤول. اسمحوا لي أن أختم بإعداد قائمة جزئية لبعض المهام التي تنتظرنا إذا أراد المرء أن يدافع عن هذا الرأي بشكل كامل.

أولاً، هناك مفاهيم تلعب دورًا مهمًا من وجهة نظري والتي تركتها دون أن اوضحها. فكان المطلوب أن اقول المزيد عن مفهوم السياق وكيف يتم تحديد السياق الاجتماعي للتقييمات المعرفية المحددة.

ثانيًا، لقد أشرت إلى حيث تتطلب بعض المطالب السياقية الرئيسة دفاعًا أكثر مما قدمته. أظن، كان المفروض أن اقدم المزيد من الشرح لدعم دعم أطروحة المحافظة المعرفية. وينطبق الشيء نفسه على أطروحة الكفاية المعرفية، والتي بموجبها يمكن أن تكون المعتقدات غير القانونية والمسؤولة، بمثابة أساس مناسب للوصول إلى معتقدات أخلاقية أخرى بشكل مبرر.

ثالثًا، هناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن حول هذا النوع من وجهات النظر، وهي أسئلة تصبح أساسًا للاعتراضات: "ألا ترقى وجهة النظر هذه إلى مجرد صيغة من النسبية المعرفية (السياقية المعيارية) وبالتالي تشير ضمناً إلى أنه حتى الأشخاص الذين لديهم معتقدات أخلاقية مجنونة، والذين خضعوا لعملية تعليم" أخلاقي"، سيكونون مسؤولين معرفيًا عن تبني معتقدات أخلاقية شائنة؟" "إذا لم تكن وجهة النظر، بالمعنى الدقيق للكلمة، صيغة من النسبية، ألن تظل لها الآثار المعيارية نفسها مثل صيغة من النسبية المعرفية؟" "علاوة على ذلك، حتى لو تجنبت وجهة النظر المشاكل المذكورة للتو، ألا يعني ذلك أن الرأي يقع بنوع غير مقبول من الدوغماتية المعرفية لأن منظور المرء- الفاعل المعرفي النموذجي يستند إلى حساسيتنا المعرفية (المشتركة إلى حد كبير)، والتي قد ألا تشاركها مجموعات أخرى ولكننا نستخدمها لتقييم معتقدات المجتمعات الأخرى؟ "

أخيرًا، كما ذكرنا في نهاية القسم الأخير، يتطلب الدفاع الكامل عن نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية أن أبين أن وجهات النظر المعرفية البديلة أقل منطقية من وجهات نظري. لقد ألمحت فقط إلى أسباب تقديم مثل هذا التأكيد.

أنا متفائل بشأن الرد على الشكوك وملء الحجج والتفاصيل المهمة. لكن المحاولة الأكثر شمولاً تنتظر مناسبة أخرى.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] إن الادعاء بأن العمل الوصفي في العلوم يجب أن يؤثر على التنظير المعرفي المنطقي يمثل ما يسمى بالنهج المتجنس لنظرية المعرفة، وهو النهج الذي يصر على أن التنظير المعرفي السليم يجب أن يعتمد على العمل ذي الصلة في العلوم. انظر، على سبيل المثال،

Hilary Kornblith, "Introduction: What Is Naturalistic Epistemology?" in Naturalizing Epistemology, 2d ed., ed. Hilary Kornblith (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1994), 1-14.

[2] Gilbert Harman, Change in View (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1986), chapter 2.

[3] لمناقشة نوع الأساس المنطقي لمفهوم المسؤولية المعرفية.، أنظر:

Foley, Working Without a Net, chapter 3

في الوجود لا توجد حقيقة سوى حقيقة الذات وفي الذات لا توجد حقيقة سوى حقيقة الإدراك والشك بما تدرك هذا هو جوهر (الكوجيتو الديكارتي). أنا أشك إذن فأنا أفكر وكل مفكر موجود إذن فأنا موجود.

نعم لا شيء يصمد أمام شكك إلا شكك لأنك مهما شككت فلن تشك في أنك تشك.

والشك تفكير والتفكير دليل قاطع على وجود ذات تفكر . ومن هذا الفكر تتبرعم كل ثمار العلاقة بين الذات والذات وبين الذات والموضوع.

العلاقة بين الذات والذات تجد ثمرتها في أنك تستطيع أن تقف خارج ذاتك فتتأملها وهنا يولد الحوار الذاتي حوار الذات للذات شكا ونقدا وهذا هو قمة الوعي الذاتي.

والعلاقة بين الذات والموضوع تجد ثمرتها في تأكيد إنفصال الذات عن الموضوع حيث تحكم الذات بوجود موضوع خارج عنها وهنا تكتمل علاقة الذاتي بالموضوعي فتبدأ المعرفة المنطقية وتتأسس قوانين الإدراك.

صار واضحا أن الوعي الذاتي له معنيان.

الاول معرفة الإنسان بذاته. والثاني قدرته على الخروج من معرفة الذات إلى معرفة الموضوع.

 الوعي الذاتي إذن هو ما يجعل الإنسان إنسانا أي كائنا واعيا يربط شبكة علاقات خاصة بالعالم وبذاته تميزه عن غيره من الحيوانات.

من هنا نستطيع أن نؤكد أن الوعي الذاتي هو ماهية الفكر الإنساني حصرا دون باقي الأحياء على الأرض.

وفلسفيا نستطيع أن نعرف الذات كجوهر متميز عن الجسد يحدد طبيعة أو ماهية الإنسان.

إذن الإنسان بالتعريف كائن أو جوهر مفكر ومن هذا التفكر أدرك أن الوعي الذاتي ميزته الخاصة التي يتعالى بها عن باقي أحياء الأرض أنه سيد هذا العالم بلا منازع أو غريم.

ومن رحم الوعي بالذات تولد الشخصية وتتوحد مع الأنانية وبفضل وحدة الوعي هذه التي تستمر أمام جميع التغييرات التي يخضع لها تكون الأنا والذات والشخص وحدة واحدة.

هنا تقيم الشخصية فرقا تاما بين الذات والأشياء حسب الترتيب الماهوي فتقول الذات (أنا أولا).

ومن هذا نفهم لماذا لا يستطيع الإنسان أن يخدم غرضا أسمى من تحقيق ذاته.

الموروث والمكتسب

الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض-دون بقية الحيوانات- الذي أمتلك الوعي الذاتي فأين يكمن سبب هذه الميزة؟

يولد الإنسان وهو مزود بأجهزة جسمية تختلف عن الأجهزة الجسمية لأي حيوان راقي حتى ذلك الحيوان القريب منه في سلم التطور البايولوجي ويبلغ الإختلاف أشده في أهم هذه الأجهزة الجسمية وهو الجهاز العصبي وعضوه المهم (الدماغ).

إن هذا الاختلاف يصبح اختلافا نوعيا وفريدا بهذا الكينونة لكنه يظل مشروعا غير مكتمل الإركان فالإنسان يولد مشروع إنسان وإنسانيته لا تكتمل إلا من خلال الهيئة الاجتماعية التي تمنحه هذه الصفة فتكتمل بذلك كينونته.

وبديهي ان هذه الكينونة أو الذات الطبيعية البشرية تظل تشترك مع أي كينونة أو ذات طبيعية حيوانية بحاجات بايولوجية ضرورية للاستمرار في بقاء هذه الذات كذات نامية تمر بمراحل معينة ومتعددة من التطور البايولوجي كالحاجة للطعام أو الحاجة للنوم او الحاجة للجنس ..ألخ.

على هذا الأساس فإن الإنسان كائن طبيعي كأي حيوان آخر سواء بسواء ذو حاجات بايولوجية أما السبب الدافع لهذه الحاجات فهو «الرغبة في البقاء على قيد الحياة». وعلى الرغم من وجود الإختلافات الكبيرة بين البيئة الداخلية للإنسان والبيئة الداخلية للحيوان (الأجهزة الجسمية الداخلية) وخاصة في أعظم أقسام هذه البيئة أي في الجهاز العصبي المركزي الصادر منه والمسيطر على جميع أنماط السلوك سواءا كان هذا السلوك بشريا أو سلوكا حيوانيا فإن الإنسان لا يبلغ أية درجة من الإنسانية التي يتميز بها عن حيوانية الحيوان إذا ظل معزولا عن المجتمع وغير متفاعل معه.

هذا معناه أن المجتمع هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته ومقدار هذه الإنسانية يتوقف على مقدار إنسانية المجتمع الذى يتفاعل معه الانسان وعلى مقدار هذا التفاعل. وبذلك فإن إنسانية أي إنسان ستختلف حتما عن إنسانية أي إنسان آخر تبعا للإختلاف الحاصل في كل من هذين الشرطين وفي النهاية ما الإنسانية إلا مجموعة قيم والقيم هي التي تحدد السلوك.

هذا الاستنتاج يجد صداه فيما أورده (مستر جيسل) في كتابه (طفل الذئاب وطفل الإنسان).

إذ كشف لنا بمزيد من العمق والوضوح الوهم الذي كنا نظنه جزء من موروثنا الجيني إذ تبين إن هو إلا جزء من تراثنا الاجتماعي المكتسب من خلال التفاعل الايجابي المستمر والحاصل بين الإنسان وبيئته الاجتماعية.

ففى حالة الأطفال البشريين الذين اختطفتهم الذئاب لوحظ إن الطفل البشري المختطف يصبح كطفل الذئاب يعوي ويصرخ عند الحاجة إلى ذلك لكونه لا يعرف الكلام وبالتالي لا يجيد التفكير كما أنه يعدو بخفة على أربعة أرجل بدلا من أن يمشي منتصبا على قدميه

وينام في النهار ويستيقظ في الليل ويأكل الرمم بفمه مباشرة.

كان المستر (جيسل) مؤلف كتاب(طفل الذئاب وطفل الانسان).1. يعيش مع زوجته في الهند عام 1920 يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في أحد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق شاهد ذئبة مع (صغيرها). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة ويجري على أربع.

كان المستر (جيسل) قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى حجرها فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ.

يرجح انها ولدت عام 1912 أي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار وتصحو في الليل وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء منتصف الليل نشطت وصارت تمشي على أربع. كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. وإذا اقترب منها احد كشّرت عن أنيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الإغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها وأكلت من الطبق بيديها. بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة(ما). وإذا عطشت وطلبت الماء أو جاعت وطلبت الطعام قالت(هو هو). ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت أكل الفضلات. وعندما بلغت (14) سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحت. بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات :

1-إن السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة لكن بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العقلية التي ينشأ عنها التصرف.

 2-إن ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وتنشئة اجتماعية. حتى بعد

سنوات. فذهن هذه الطفلة لم يتطور الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن. لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه خالية تتقبل التعليم الجديد. لكن هذه المسكينة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب. ومن هنا صعب تعلمها.

3-إن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي والأكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي.

4-إن اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فإن هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة(ما) وبدا ذكائها ينمو. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك. وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة والفكر يتبادلان الفعل والتأثير نحو بناء الفهم وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم. وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني. حين تعلمت بعض الكلمات. وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

الأمر الذي يتضح معه أن التراث الاجتماعي المكتسب وليس التراث الطبيعي الموروث هو الذى يشكل إنسانية الإنسان من حيث كونها ذاتا إنسانية تتفاعل مع ذوات الآخرين من حيث كونهم ذوات إنسانية وعلى قدر إنسانية هذه الذوات وعلى قدر تفاعل ذات الإنسان معها يكون قدر إنسانية هذه الذات. معنى هذا إن العمل الذى تأتي به الذات سواءا كان هذا العمل نبيلا او شائنا يتوقف حسب هذا التصور على جودة أو رداءة ذوات الآخرين وعلى حجم مجال التفاعل الذي يمنح للذات مع ذوات الآخرين.

إن الذات الإنسانية تجد نفسها كاملة كذات إنسانية في التوحد أو التفاعل مع ذوات الاخرين إذ لا يكفي ان تملك الذات الإنسانية التراث الطبيعي الموروث لتحقيق هذا التكامل مالم تملك إزائه التراث الاجتماعي المكتسب الذى يسبغ عليها مسوح الانسانية.

بعد هذا المستوى من الفهم للإنسان لابد وأن يواجهنا السؤال عن فحوى أو مضمون تلك الإنسانية أو بالأحرى عن ماهية هدف تلك الهيئة الاجتماعية التي منحت الإنسان إنسانيته أي عن ذلك الهدف الآخر الذي يكمن وراء هدف "الرغبة في البقاء على قيد الحياة" وهو الهدف الذي قلنا أننا نشترك مع الحيوان في السعي اليه.

لكن ما لا نشترك فيه مع الحيوان وهو ميزة فريدة لنا هو هدف إجتماعي يمنح الانسان إنسانيته إذ من دونه لا يصبح الإنسان إنسانا فلكون الحيوان لا يملك قدرة السعي إليه فهو لن يتعدى طور الحيوانية ولو تربى في حضن الإنسان وعاش في مجتمع إنساني.

أما الإنسان هذا الكائن الفريد الذي يشترك مع الحيوان في البايولوجي ويفترق عنه في الإنساني بفعل الهيئة الاجتماعية التى تفرض عليه هذا الهدف الذي يزيد على هدف الرغبة في البقاء على قيد الحياة.

ومن خلال هذا الادراك يتضح لنا ان الإنسان كائن بايولوجي واجتماعي في آن واحد أي كائن مزدوج فهو كائن ذو حاجات بايولوجية كالحاجة للطعام أو الحاجة للشراب أو الحاجة للجنس .. حيث يكون السبب الدافع لهذه الحاجات هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة وهو كذلك كائن اجتماعي يصبح لرغبته في البقاء هدف أساسي لا يحيد عن تحقيقه اكتسبه من المجتمع الذي يحيا فيه.

الحقيقي والواقعي في الطبيعة البشرية

تبين لنا إن "الانسان كيان ذاتي" بمعنى أن الغاية من وراء مختلف أشكال السلوك هي بناء الذات وتوكيد هذا البناء وبذلك فأن منجزات الإنسان الثقافية والحضارية

ومنذ أن أكتسب الإنسان إنسانيته في الهيئة الاجتماعية هي نتائج للسعي إلى هدفه الخاص أي لهدف "تحقيق بناء الذات وتوكيدها".

إن سعي الإنسان الجاد من أجل البناء الذاتي وتوكيده هو الحقيقة التي تشكل محتوى القانون العام الذى يشترك به جميع البشر فدوافع مختلف أشكال السلوك البشري واحدة لأنها تتجه جميعها نحو غاية مشتركة.

أما الاختلاف الكائن فيما بينها فيكمن في اختلاف الوسائل الموصلة لتحقيق تلك الغاية حيث إن هذا الاختلاف الحاصل في الوسائل الموصلة ناجم عن الاختلاف في الظروف التي يتعرض لها إنسان معين في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية ولا يتعرض لها انسان آخر يعيش في بيئة أخرى مختلفة. إذ يتعرض لظروف أو لمواقف أخرى في تلك البيئة تفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك.

على إننا حينما نقول إنها تختلف فإنما نعني بهذا الاختلاف أنها لا تتشابه إلى حد التطابق إذ إن هناك درجات معينة من التشابه والاختلاف.

ولعل معرفة هذه الحقيقة قادرة على أن توضح لنا سبب الاختلاف الحاصل بين سلوك إنسان ما وسلوك إنسان آخر.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه هنا هو ضرورة التمييز بين ما هو "حقيقي" وبين ما هو "واقعي" فللطبيعة البشرية حقيقة كما أن لها واقع ملاحظ.

فحقيقة الطبيعة البشرية هي إنها تخضع لقانون (الصراع) الذي يعم لا الكائنات الحية فقط وإنما هو قانون كوني عام وشامل وعلى كافة التقديرات فقد تصارع الإنسان مع الحيوان في الغابات في بدايات وجوده الأولى حيث مكنته قوة عقله من البقاء وأضعاف الكائنات الاخرى فدجنها وتسيد عليها.

ثم صارع الإنسان الطبيعة بكل قساوتها وقاوم ظروف البرد القارس والحر اللاهب ببناء البيوت واختراع وسائل التدفئة والتبربد. لكن أقسى أنواع الصراعات كان صراع الإنسان مع الإنسان هي حرب منذ أن وجد وإلى حد الآن حيث الغزو والقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والإبادة الجماعية أحيانا.

ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي شهدته البشرية في جميع مجالات الحياة و في كل مكان من العالم في العصر الحديث وسن القوانين والتشريعات ذات المضمون الإنساني والمؤسسات الدولية والتي تدعو الى احترام حق الانسان بالحياة لازال الإنسان يمارس أنواع مختلفة من الصراعات من أجل التملك والتسيد والسيطرة على حساب حياة و راحة أخيه الإنسان.

ثم أخذ الصراع أبعادا إيديولجية فكانت صراعات وحروب الأديان أقسى الحروب ثم الصراع الأنكى والأمر وهو الصراع الطائفي الذي ليس له نهاية واضحة في الأفق ثم الصراع العشائري في البلدان المتخلفة ثم الصراع الحزبي في مؤسسات السياسة ثم العائلي ثم الفردي ثم الذاتي حيث يتصارع الإنسان مع ذاته.

وإذا كان الصراع بين أفراد المجتمع يشكل جوهر هذه الحقيقة فلا يعني ذلك أنه السبب في الواقع المزري الذي يعيشه أفراد المجتمع متمثلا باستعباد الرجل للمرأة أو في استغلال الرأسمالي للعامل أو في استعمار دولة لدولة اخرى.

وإنما لكون الصراع الذي تتضمنه حقيقة الطبيعة البشرية يتجه من أجل ديمومته نحو علاقات غير عادلة متمثلة بالاستعباد أو الاستغلال أو الاستعمار.

وفي كونه لا يتجه الى علاقات مغايرة في الوفاق الفردي والاجتماعي.

وأظن ان هذه المعرفة -معرفة تشخيص الداء- تشكل نصف وظيفة العلم في عصرنا الراهن أما نصفها الآخر فيكمن في ترشيد ذلك الصراع نحو وفاق يضمن ذوبان التناقض الحاد الكائن بين حقيقة الطبيعة البشرية في الصراع وواقعها المعيب في العلاقات الفردية والاجتماعية غير العادلة على هذا الأساس فإن الإجراء الإيجابي الوحيد يكمن في توجيه ذلك الصراع ما دام إن القضاء عليه يعني القضاء على الطبيعة البشرية نفسها.

وبديهي إن مثل هذا التوجيه لا يتم من خلال أفكار تعتمد على الإيديولوجيا أو على الدين لمعالجة أحوال اجتماعية معينة.

فعلى الرغم من إن حلول الإيديولوجيا أو الدين لا تخدم ذلك التوجيه لانها بصراحة تساهم في تأجيج حدة ذلك الصراع نحو مزيد من التناقض الجائر . إنما الحل يتم عبر أفکار تقدمية تعتمد أسس منهج العلم بعيدا عن مؤثرات الإيديولوجيا والدين والطائفة.

***

سليم جواد الفهد

............

1-أقتبست معلومات عن المستر (جيسل) من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه سلامة موسى.

 

التداخلُ بين الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية يُؤَدِّي إلى تكوين مصادر جديدة للمعرفة، وهذه المصادرُ تُمثِّل تأسيسًا للنَّزعة النَّقْدِيَّة للأنماط الاستهلاكية في المُجتمع، وتُجسِّد وَعْيًا بالصِّراع الدائر بين تفاصيل حياة الإنسان المُتَشَظِّيَة (الحنين إلى المَاضِي الذي لا يَمْضِي، والغرق في الحَاضِر الذي يتمُّ تفريغُه مِن مَعْنَاه وَجَدْوَاه، والخَوف مِن المُستقبَل الذي تتمُّ أدلجته كَمَنفى للرُّوحِ والجسدِ). ولا يُمكن للإنسان أن يَكُون هُوِيَّةً للوَعْي التاريخي إلا بالتخلُّصِ مِن الخَوْفِ الزمني والقَلَقِ المَكَاني، ولا يُمكن للمُجتمع أن يَكُون سُلْطَةً للمَعْنى الحضاري إلا بالتخلُّصِ مِن اغترابِ الكِيَان واستلابِ الكَينونة. وإذا كانَ الإنسانُ يَستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على الانعتاق مِن حُطَامِ الرُّوحِ وأنقاضِ الجسد، فإنَّ المُجتمع يستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على التَّحَرُّر مِن انكسارِ الذات وغُربةِ الشُّعور.وهذا يَعْني أنَّ الإنسانَ والمُجتمعَ يُكوِّنان معًا تاريخًا للأحلام المُشترَكة يَمنع تَحَوُّلَ المَنطِق إلى ضِدِّه، ويَمنع انتقالَ العقلانية إلى نقيضها، تحت ضَغْط تضارُب المصالح الفردية والجماعية، وإفرازاتِ البيئة الحياتيَّة تاريخيًّا وحضاريًّا، وتأثيراتِ الطبيعة الوُجودية للأشياء والعناصر. والخطرُ الحقيقي الذي يُهدِّد البناءَ الاجتماعي هو تَحَوُّلُ مَنطِق التاريخ إلى نَمَط استهلاكي غَير مَنطقي، وتَحَوُّلُ عقلانيَّةِ الحضارة إلى غَريزة شَهَوَانِيَّة غَير عقلانية. والتاريخُ والحضارةُ يُشكِّلان منظومةً فلسفيةً مُوَحَّدَةً في الشُّعور والإدراك الحِسِّي، ومُوَحِّدَةً للانعكاسات الاجتماعية القَصْدِيَّة والعَفْوِيَّة في الزمانِ والمكانِ. وكُلُّ تَوليدٍ للوَعْي الخَلاصِي في التاريخِ والحضارةِ هو بالضَّرورة تأسيسٌ للمَعنى الإنساني في الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية. والثقافةُ هي إعادةُ مُمارَسة التاريخ الإبداعي مِن مَنظور أخلاقي، والمُجتمعُ هو إعادةُ تَكوين الجَوْهَر الوجودي في بُنية العقل الجَمْعي المُسيطِر على تحوُّلات الفِعْل الاجتماعي.

2

إذا صَنَعَ الفِعْلُ الاجتماعي التجانسَ المركزي في شخصية الفرد الإنسانية، فإنَّ بُنية العَقْل الجَمْعي سَوْفَ تَنتقل مِن تأويلِ أنساق التاريخ إلى تغييرِ أنماط المُجتمع، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيلِ وسائل التواصل بين المُحتوى والشَّكْل، وتجسيدِ المشروع الإنساني المُتكامل في الأحداث اليومية القادرة على تكوين تَصَوُّر ثقافي للذاتِ والعَالَمِ، مِن أجل تخليصِ التجارب الحياتيَّة مِن التناقضات الداخليَّة، وتطهيرِ فلسفة التاريخ مِن المُسلَّمات الافتراضية، بِحَيث تُصبح الحياةُ إطارًا معرفيًّا للفِكْر الخَلَّاق والوُجودِ الفَعَّال، ويُصبح التاريخُ هُوِيَّةً جامعةً للسِّيَاقاتِ العقلانية والتَّشَظِّيَاتِ الواقعية. وينبغي الحِفاظُ على الفِعْل الاجتماعي كمشروعٍ للخَلاص يُعرَف بذاته ولَيس بأضداده، وكَفِكْرةٍ مصيرية تتوالد مِن ذاتها، ولَيس كأيديولوجية مُسَيَّسَة يُعاد تشكيلُها مِن أجل إقحام الأفراد والجماعات في الانتماء المصلحي النفعي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس حَدَثًا عابرًا في تفاصيل الواقع المُعاش، وإنَّما هو نَسَقٌ فلسفي عميق يَحْمِل خصائصَ تاريخِ المُجتمع داخليًّا وخارجيًّا، ويُفْرِز مناهجَ لُغوية تَجْمَع بين تشخيصِ الأحلام الإنسانية المَكبوتة، وبين تَكوينِ آلِيَّاتِ تفسيرها وأدواتِ توظيفها.

3

المناهجُ اللغوية لا يَقتصر دَوْرُها على التأثير في الأحلامِ المكبوتة والعناصرِ المُهمَّشة والحَيَوَاتِ المنسيَّة. إنَّ هذه المناهج تَنبُع مِن اللغة كَجَسَدٍ فلسفي، ونظامٍ تواصلي، ومسارٍ رمزي، وتُحوِّل الأحداثَ اليومية إلى ظواهر ثقافية مُتجانسة ومُتكاملة، اعتمادًا على الطبيعة الأخلاقية للفِعْل الاجتماعي، واستنادًا إلى الجُذورِ الحضارية، والسِّيَاساتِ الإنسانية، والهُوِيَّاتِ التاريخية، والماهيَّاتِ الفكرية. واللغةُ هي سُلطة المعرفة. ومعَ أنَّ المعرفة نِسبية وغَير يقينية، إلا أنَّ الطريق إلى المعرفة هو اليقين، والعمل أكثر أهميةً مِن النتيجة، لأنَّ العمل تحت سيطرة الإنسان، لكنَّ النتيجة خارج سَيطرته. وكُلُّ إنسانٍ مُتَأكِّدٌ أنَّه يسير في طريقه، لكنَّه غَير مُتأكِّد مِن الوُصول إلى هَدَفه. وهذا يَعْني أنَّ الطريق الحياتي هو الطريقة الوجودية، وأنَّ الإنسان يُؤَسِّس مَصِيرَه أثناء اختيار مَسَاره.وهذا يَفرِض على الإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرَات صحيحة حَوْلَ نَفْسِه،وطبيعةِ بُنيته الوظيفية في الحياة، لِكَيلا يُمَارِس المَاضِي في الحَاضِر، ولا يَتَقَمَّص أقنعةَ الأمواتِ في حياته، ولا يَلعَب دَوْرَ الضَّحِيَّة في المسرحية، ولا يَبني مَجْدَ أعدائه على حُطَامه، ولا يَترك الآخرين يَصعَدون على ظَهْرِه، لأنَّ الانحناء شديد الخُطورة، فقد لا تأتي الفُرصة للنُّهُوض مَرَّةً أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المفهوم: عصر التنوير المعروف أيضًا باسم «عصر المنطق». هو حركة فكريّة وفلسفيّة هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبيّة خلال القرن الثامن عشر. واعتقد المشاركون في الحركة أنّ من شأنها أن تنير ذكاء الإنسان وثقافته إثر عصور الظلام الوسطى. حيث سيطر على عقول الناس التفكير اللاهوتيّ المشبع بالخرافة والأسطورة، والعقل الميتافيزيقيّ، والذاتيّة. وتشمل خصائص التنوير بزوغ مفاهيم أساسيّة مثل الإيمان بالعقل والحريّة والمساواة والمنهج العلميّ في التفكير. وقد كانت فلسفة التنوير تنتقد الممارسات الدينيّة السائد في عصر الاقطاع، وخاصة ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة، وتدين الأنظمة الملكيّة والأرستقراطيّة الوراثيّة المستبدة. وبالتالي كان لفلسفة التنوير الأثر الكبير في التبشير بتشكيل الدولة المدنيّة ومضامينها كالمواطنة والمؤسسات وحرية الرأي والعقيدة وبصياغة الدساتير النابعة من مصالح الشعب بكل مكوناته وخاصة الطبقيّة منها، مثلما كان لها التأثير الكبير على قيام الثورات الشعبيّة في أوربا وعلى نخب العالم الثالث، وكان في مقدمة أسباب هذا التأثير المنطلقات النظريّة للثورة الفرنسيّة المشبعة بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والعلمانية والدولة المدنيّة. (1).

لقد ساهمت الثورة الصناعيّة على امتداد القرنين السابع عشرة والثامن عشرة، ممثلة بحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة المالكة ومساندة الطبقة العماليّة المنتجة، في  تطوير القوى المنتجة في المجتمع، وخلق حالات جديدة من التناقضات بين أسلوب الإنتاج الرأسماليّ الذي أخذ يشق طريقه داخل العلاقات الاجتماعيّة السائدة، ممثلة بأسلوب الإنتاج الإقطاعيّ وحوامله الاجتماعيّة الرئيسة وهم الملك والكنيسة والنبلاء، وبخلق علاقات وتحولات عميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ظهر للطبقة الرأسماليّة والعماليّة الدور الكبير في وجودها، وخلق بنيّة سياسيّة جديدة تقودها بشكل فعليّ الطبقة الرأسماليّة بشكل خاص. ومن أهم التجليات العمليّة لأفكار عصر التنوير كانت الثورة الفرنسية عام (1789)  التي تعمقت مفاعيلها داخل فرنسة حتى عام (1799)، من جهة، وكان لأفكارها الفلسفيّة وقيمها الثوريّة تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي عموما، والنخب المثقفة في العالم الثالث ومنها عالمنا العربي على وجه الخصوص من جهة ثانية، هذه الثورة التي  انتهت بسيطرة البورجوازية خلال التحالف مع نابليون على السلطة. وتشكيل المرحلة الاستعماريّة معلنة بداية المرحلة الامبرياليّة للطبقة الرأسماليّة ذاتها التي راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن قيم ومبادئ هذه الثورة التقدميّة بعد وصولها غلى السلطة.

لا شك أن أسلوب الإنتاج الرأسماليّ قد ساهم في تطوير العلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة والتكنولوجيّة والبيولوجيّة والرياضيات والعلوم الإنسانيّة بشكل عام وفي مقدمتها الفلسفة وعلم الاجتماع.. الخ. ومع سياق هذا التطور العلمي بدأت الأفكار الفلسفيّة الماديّة تشق طريقها في عالم الفكر بشكل أكثر وضوحاً مما كانت عليه مع بداية الثورة الصناعيّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لتلامس ليس عقول الفلاسفة والمفكرين فحسب، بل وقوى الشعب التي عانت من قهر وظلم النظام الاقطاعيّ والكنيسة. بيد أن هذا التقدم الفلسفيّ جوبه من قبل القوى الرجعيّة آنذاك، وفي مقدمتها الكنيسة وسدنتها من رجال العلم والأدب الذين عملوا مروجين لأفكار الكنيسة وحلفائها من النبلاء.

وعلى الرغم من أن الفكر التنويريّ في بريطانيا كان سباقاً على الفكر التنويريّ في فرنسا، إلا أن الفكر التنويريّ في فرنسا كان له تأثيره الكبير على الفكر التنويريّ للغرب عموما، خاصة بعد قيام الثورة الفرنسيّة وكومونة باريز، (1871). وتأثير أفكارها ومبادئها التي أسس لها مفكرو التنوير الفرنسي أمثال فولتير وروسو وريكاردو ومنتسيكيو. ومع ذلك لم يخبو الفكر التنويريّ في بريطانيا، حيث "ظهر جان لوك" كمفكر تنويريّ ساهم مساهمة فعالة بحركة التنوير الفرنسيّة، فمع فولتير ومنتسيكيو بدا المثقفون التنويريون الفرنسيون يتعرفون على إنكلترا الجديدة وثقافتها وخاصة أفكار جان لوك. (2).

جان لوك والتنوير:

لقد طورت أفكار "جان لوك" -1632 – 1704. أفكار فلسفة التنوير، حيث دعا هذا الفيلسوف أنصار تيار التنوير الواسع إلى مناهضة الأيديولوجية الاقطاعيّة السكولائيّة/ المدرسيّة. أي (الدينيّة الوثوقيّة) التي جعلت الإيمان بديلاً عن العقل، والفضيلة بديلاً عن حل التناقضات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة القائمة، وراحوا يؤكدون على العقل أولاً وتوظيفه لصالح العلم، واعتبار نور العقل وسيلة أساسيّة لإسعاد المجتمع،  كما نادوا بضرورة تحرير الأخلاق من الوصاية الدينيّة، ونشر الثقافة والعلم بين الجماهير باعتبارها القوة المحركة للتطور التاريخ، والشرط الأساس لسلطة العقل. (3).

الدور التاريخي لفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر:

1- محاربة وفضح ركائز الأيديولوجيا الاقطاعيّة والحياة الفكريّة المدرسيّة /السكولائية التي توطت في المجتمع الاقطاعيّ، وكانت عائقاً كبيراً أمام تقدم العلم والمعتقدات العلميّة. ووطدت سيطرة الكنيسة الروحيّة على المواطنين، ودعمت استمرار السلطة السياسيّة للقوى الرجعيّة السائدة، ممثلة بالملك والكنيسة والنبلاء.

2- ضرورة محاربة هذه السيطرة بشقيها الدينيّ والسياسيّ، والدعوة لتحرير عقول الناس فكريّاً وسياسيّاً.

3- النظر إلى علاقة المعرفة بالإيمان. أي توضيح الرؤية العلميّة الحديثة بأحداث الكون، أمام المواقف الفكريّة للأساطير والخرافات التي شكلت عقول الناس بسبب توجهات الكتب الدينيّة اللاعقلانيّة في النظر إلى الكون وتشكله، وخلق الإنسان وغير ذلك. فرجال الدين يعتبرون كل ما ورد في الكتب المقدسة،  حقائق جرت في التاريخ، لا تقبل النقد والتعديل ولا حتى المراجعة، وهي قوانين سنها الله وحدد مثلها القواعد الأخلاقيّة والتنظيم السياسيّ والقانونيّ للمجتمع. أو بتعبير آخر قام التنوير بالدعوة إلى إعلاء شأن العقل والعلم أمام الغيبيات والأساطير والخضوع المطلق لسلطة السلف. أي الانتصار لعقليّة كوبريك وهارفي وسبينوزا، وكل المفكرين والفلاسفة العقلانيين الذين حاربتهم الكنيسة.

4- العمل على إشاعة روح التسامح الدينيّ.

5-  الدعوة إلى حريّة البحث العلميّ والفكر والفلسفة. (4).

نقد أفكار فلاسفة التنوير:

إن مشكلة فلاسفة عصر التنوير تكمن أساساً في كونهم لم يعتبروا التناقضات الاجتماعيّة وما تولده من صراعات بين اَلْمُسْتَغِلْ واَلْمُسْتَغَلْ هي أساس الصراع مع السلطات السياسيّة والدينيّة المتحالفة مع بعضها ضد مصالح الجماهير، بقدر ما اعتبروه صراعاً مع كنائس دينيّة ورجال الكهنوت الذين وقفوا إلى جانب الملك والنبلاء، كما جرى سابقاً للإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر وزنغلي. إن نظرة التنوير للدين ظلت نظرة إيمانيّة إلى حد كبير، فهم يريدون القول بضرورة الاعتراف بالله علة أولى للعالم، وهذا ما قال به معظم فلاسفة التنوير، فهم لم ينكرون الإله والوحي والآخرة، وغيرها من المعطيات الدينيّة التي تنافي العقل أو تناقضه. ولكنهم رفضوا الاعتراف بأن كل شيء مخلوق لله، وكانوا يسخرون كثيراً من رجال الدين كما فعل فولتير في كتابه (قاموس الفلسفة)، وقدموا الكثير من رجالاتهم للمقاصل أثناء قيام الثورة الفرنسية.

لقد حمل التنوير دلالتين ثوريتين، الأولى: كينونة الإنسان العابرة للهويات الوطنيّة والقوميّة والدينيّة، أي وجوده الكونيّ. والثانية: قدرة العقل الإنسانيّ على بناء عالم مضيئ ومتنور، وبالتالي فالإنسان مشروع التنوير وهدفه، ففي الدلالة الأولى أطاح التنوير بالقوالب الدينيّة والطبقيّة والفلسفيّة السائدة في عصر الإقطاع، التي قزم فيها الإنسان، وأعلن القطيعة الجدليّة ولا أقول السكونيّة مع التراث القديم، على اعتبار أن هناك في التراث محطات ايجابيّة وجوهريّة في قيمها الإنسانيّة ولا بد من تبنيها واستلهامها وبالتالي توظيفها لخدمة الإنسان. وفي الدلالة الثانيّة أيقظ التنوير القدرة الفكريّة للفرد لمعارضة دور الدين الإرشادي لرجال الكنيسة في الفكر والعمل. وربطه بالفرد دون وساطة بين الله والناس، مثلما ركز على دور الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على تحقيق مصيره بذاته. (5).

ملاحظة:

أأكد هنا على أن فلسفة عصر التنوير وكل تجلياتها، لم تكن موجودة في الأصل على أرض الواقع لولا قيام الثورة الصناعيّة، وتشكل الطبقة البرجوازيّة والطبقة العماليّة وشريحة الفلاسفة والمفكرين المعبرين عن مصالح هاتين الطبقتين وطموحاتهما. لذلك إن كل دعوة للتنوير في أي مجتمع من المجتمعات لم تتوفر فيها التحولات الموضوعيّة ممثلة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج في الوجود الاجتماعيّ، ولم تتوفر فيها أيضاً التحولات الذاتيّة وفي مقدمتها تشكل طبقة اجتماعيّة واعية لذاتها ولمصالح شعبها، سيظل الفكر التنويري فكراً تبشيرياً رسولياً، تبشر به نخب مثقفة مرتبطة بقضايا شعبها، في الوقت الذي يلاقي فيه هذا الفكر والمبشرون به، الكثير من المعوقات من قبل القوى الحاكمة المستبدة ومشايخها من تنابل السلطان، وجهل الشعوب وتخلفها وسيطرة الفكر الجبريّ والأسطوريّ على عقولها.

***

د. عدنان عويّد

......................

المراجع:

1- موسوعة ستانفورد للفلسفة.

2- (موجز تاريخ الفلسفة، مجموعة من الباحثين السوفييت 0 دارالأهالي، دمشق، 1971). ص 266، وما بعد).

3- المرجع نفسه. 266 وما بعد.

4- للاستزادة أكثر عن أفكار عصر التنوير يراجع: كتاب (فلسفة الأنوار- تأليف ف. فولغين دار الطليعة بيروت 1981 طبعة اولى. ترجمة هنريت عبودي.).

5- موقع مجتمع الأكاديميّة بوست – فلسفة التنوير وتفكيك المقدس.

نأتي أخيرًا إلى الميزة 4 للمعتقد. غالبًا ما توفر المعتقدات الأخلاقية الأساسية الأساس التبريري لمعتقدات أخرى مبررة استنتاجيًا وفقً الصيغة السياقية البنيوية التي تحدث عنها. يُنظر إلى الاستدلال على أنه مسألة روابط استنتاجية بين العبارات أو المعتقدات في كثير من الأحيان. لكن في اعتقادي، يجب أن يتعرف التفسير الواقعي للتفكير الأخلاقي على ادعاء روس بأنه لا يتبع التفكير الأخلاقي نمطًا استنتاجيًا بسيطًا في كثير من الحالات، ولا يخضع هذا التفكير للقواعد التي تملي ما هو على وجه الخصوص عقلاني للاعتقاد به أو تصديقه في كثير من الحالات ايضًا. كانت وجهة نظر روس موضوع استياء فلسفي لأنه رفض تقديم أي خوارزمية أو إجراء عام للوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة في الحالات التي يوجد فيها اعتباران أخلاقيان ذات صلة  أخلاقية ببعضهما، ويدعم أحدهما على الأقل تقييمًا أخلاقيًا واحدًا للفعل و واحد على الأقل من الآخرين يدعم تقييمًا أخلاقيًا معارضًا. من المفترض أن تكون المشكلة أنه ما لم يكن هناك قاعدة أو إجراءات تغطية عامة يجب اتباعها للوصول إلى تقييم أخلاقي شامل للفعل، فإن أي حكم أخلاقي ناتج من جانب المرء سيكون تعسفيًا وبالتالي غير مبرر.

أعتقد أن روس محق في الطريقة التي نتبعها في كثير من الأحيان في التفكير في الأمور الأخلاقية: نحن نعمل مع عدد قليل من التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط غير القابلة للاختزال والتي لا يمكن ترتيبها بشكل معجمي لتوفير قاعدة للفصل في النزاعات بين التعميمات. ومع ذلك، فإن الفكر الأخلاقي والمداولات غير الخاضعين للقواعد بهذه الطريقة غالبًا ما يؤديان إلى معتقدات أخلاقية يمكن تبرير التمسك بها. على سبيل المثال، قضايا مثل الإجهاض (حيث تتجاذب العديد من الاعتبارات في اتجاهات أخلاقية متعاكسة)، يفكر الناس في أخلاق تلك الممارسة (أو حالات محددة منها) باستخدام مخزون المعتقدات الأخلاقية العامة ذات المستوى المتوسط نفسها، على الرغم من أن الأفراد يمكن أن يختلفوا في تقييمهم الأخلاقي لهذه الممارسة وأن يكونوا مبررين فياستجاباتهم الفردية المختلفة. علاوة على ذلك، بالإضافة إلى حالات تضارب التعميمات الأخلاقية، هناك العديد من الحالات التي ليس من الواضح فيها ما إذا كانت بعض التعميمات الأخلاقية تنطبق بشكل صحيح على حالة معينة أم لا. يتم التعبير عن التعميمات الأخلاقية من حيث مفاهيم مثل الأذى والكذب والشخص البريء وما إلى ذلك، والتي غالبا ما تكون غامضة.  تتطلب حالات التطبيق هذه مثل حالات الصراع أن يلعب الحكم الأخلاقي دورًا معرفيًا مهمًا في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة. إن ما يجب علينا فعله إذن هو جعل نظريتنا المعرفية الأخلاقية تتفق مع هذه الوقائع.

هناك اعتبارات فلسفية وتجريبية تدعم اعتقادي بأن التفكير الأخلاقي غير القائم على القواعد يمكن أن ينتج عنه اعتقاد أخلاقي مبرر. يتعلق الاعتبار الفلسفي الرئيس بأعمال بعض الفلاسفة حول مفهوم العقلانية.  فقد انتقد هارولد براون، على سبيل المثال، المفهوم "التقليدي" للعقلانية الذي وفقًا له كل المعتقدات العقلانية هي أعتقاد وفقًا لبعض القواعد. يجادل براون بشكل مقنع بأن وجهة النظر التقليدية تتضمن تصور مستحيل مما يعني أنه حتى البحث العلمي الدقيق يجب اعتباره غير عقلاني. ما يقترحه براون هو نموذج جديد للعقلانية، نموذجًا يوفر مكانًا لما يسميه ببساطة الحكم وهو: "القدرة على تقييم الموقف، وتقييم الأدلة، والتوصل إلى قرار معقول دون اتباع القواعد".[1] لذا فإن هذا النموذج العام للعقلانية الذي يحدد دورًا معرفيًا للحكم يتماشى جيدًا مع وجهة النظر القائلة بأن البحث العلمي عقلاني، ويتوافق أيضًا بشكل جيد مع الادعاء القائل بموازنة الاعتبارات الأخلاقية المتنافسة، وبناءً على هذه الموازنة، يمكن أن يؤدي الحكم (الذي لا يتعلق بالامتثال لقواعد محددة) إلى اعتقاد منطقي أو مبرر. أظن أن أحد الأسباب التي جعلت الفلاسفة غير متعاطفين مع روس هو أنهم يأخذون العلم كنموذجنا للتحقيق العقلاني، ويفترضون أن مثل هذا البحث محكوم بالقواعد تمامًا، وبالتالي يستنتجون بأنهم اذا اخذوا بوجهة نظر روس ستكون وجهة نظر  معيب وناقصة معرفيًا  بخصوص التفكير الأخلاقي. لقد قوض براون هذا الخط الفكري تمامًا. وإذا كان براون على حق، فإن دور الحكم الأخلاقي في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة ليس ظاهرة منعزلة وغير مألوفة من الناحية المعرفية وغريبة على التفكير الأخلاقي، بل مجرد مثال عن  فينومينو (ظاهرة) عامة تمامًا.

يمكن العثور على الاعتبارات التجريبية التي تؤثر على هذه المسألة في عمل الأخوين دريفوس. يجادلون بأن التفكير الأخلاقي والحكم هي أنشطة تشبه إلى حد كبير العديد من الأنشطة البدنية والفكرية (يناقشون قيادة السيارة ولعب الشطرنج) في أن القيام بها بشكل جيد هو مهارة تتطور عبر مراحل. في البداية يتم تعليم لاعب الشطرنج للمبتدئ أبن يتبع بوعي القواعد التي مع الخبرة  لم تعد ممتعة بوعي، حتى يتمكن المرء في النهاية من "رؤية" كيفية الرد على الأنواع المختلفة لمواقع الشطرنج. إن نقطتهم الرئيسة، التي يطبقونها على حالة التفكير الأخلاقي، هي أن الفرد يصبح أكثر مهارة في بعض النشاطات المعقدة ينطوي على اكتساب مهارة لمعرفة كيفية القيام بشيء ما، حيث لا يعتمد الفرد بوعي على القواعد (وهو كي لا نقول إن القواعد لا تلعب أي دور تبرير على الإطلاق في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة حول حالات معينة). لكنهم يطرحون وجهة نظر روسية أخرى، أي أن الحكم الأخلاقي الماهر والتفكير في الحالات المعقدة، حيث يدخل عدد من الاعتبارات الأخلاقية، لا يرتكز على أي قاعدة خوارزمية أو قاعدة عظمى من شأنها أن تحدد بعقلانية بعض النتائج.

أنهم يقولون: " إذا كانت فينومينولوجيا المواجهة الماهرة التي قدمناها صحيحة، فإن المبادئ والنظريات تخدم فقط المراحل الأولى من التعلم؛ لا يوجد مبدأ أو نظرية "أرضية" لأستجابة أخلاقية متخصصة، أكثر من لعبة الشطرنج، هناك نظرية أو قاعدة تفسر حركة المستوى الرئيس. كما رأينا في حالة الشطرنج، مع الاعتراف بأنه لا توجد طريقة لإثبات وجود الحدس في التفسيرهو خطوة مهمة على طريق اكتساب الخبرة".[2]

إن فينومينولوجيا التفكير الأخلاقي التي يقدمها الأخوان دريفوس تدعم وجهة نظر روس التي تؤكد على دور الحكم الأخلاقي في اتخاذ قرارات أخلاقية معقولة، وفي الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة.

تتوافق هذه الملاحظات حول الحكم الأخلاقي بشكل جيد مع وجهة نظري المعرفية الأخلاقية السياقية. في الحالات التي يفكر فيها المفكر الأخلاقي في بعض القضايا ويتوصل إلى اعتقاد حول أخلاق عمل ما، فهو منخرط في نشاط يزن ويوازن بين مختلف الاعتبارات الأخلاقية- الاعتبارات التي تنعكس في معتقداته الأخلاقية العامة التي تحدثت عنها بوصفها أساسية للسياق. المعتقد الأخلاقي الذي يستقر لا تمليه عليه في النهاية أي خوارزمية؛ فالحكم الأخلاقي المتربي و المتدرب عليه هو الفعال هنا. ومع ذلك، فإن ذو الخبرة يفكر في القضية ويمكنه، ذكر الأسباب التي كانت حاسمة في النهاية. يتم تمثيل أسبابه من خلال المعتقدات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط في الأساس. لذلك، يمكن لذو الخبرة تقديم تبرير لانتهاء معتقده من معتقداته الأخلاقية ذات المستوى المتوسط، ولكن لا توجد قاعدة تغطية متبعة تملي على نوع واحد من الاعتبارات الأخلاقية العامة أن يتفوق على الاعتبارات الأخلاقية المتنافسة في هذه الحالة. ما يكشفه هذا عن تلك المعايير المعرفية التي تحكم الاعتقاد الأخلاقي هو أننا نعمل وفقًا للمعايير المعرفية التي يسمح بعضها للمرء بالتمسك بمعتقدات أخلاقية، في ظروف معينة، على أساس ممارسة الحكم الأخلاقي.[3].

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] Harold Brown, Rationality (London and New York: Routledge, 1988), 137.

وقد تم التأكيد على نفس الموضوع  في ما يتعلق بتفسير نجاح العلم من قبل هيلاري بوتنام

Hilary Putnam, Reason, Truth and History (Cambridge: Cambridge University Press, 1981, p.195)

ويشير إلى أن محاولات إضفاء الطابع الشكلي على المنهج العلمي لم تنجح ولن تنجح، ولذا يجب علينا تجاوز محاولة ما يسمية "method fetishism"اي محاولة التعلق للاسباع بطريقة غير طبيعية  لفهم العقلانية العلمية. بدلاً من ذلك، وفقًا لبوتنام، يعمل العلماء مع مجموعة من "القواعد" غير الخوارزمية وغير الشكلية التي تتطلب "عقلانية غير  شكلية، أي الذكاء والفطرة السليمة، لتطبيقها".

[2] Hubert Dreyfus and Stuart E. Dreyfus, "What is Morality? p. 252.

[3] هناك الكثير مما يمكن قوله عن الحكم الأخلاقي وما الذي يجعل مثل هذا الحكم حكمًا جيدًا حتى لو لم يكن خاضعًا للحكم. لا يسمح الفضاء بمعالجة هذا الموضوع هنا، ولكن أهمية النماذج (المذكورة أعلاه في وصف النظرة الأخلاقية) تبرز هنا بشكل مهم. الحكم الأخلاقي الجيد هو الحكم الذي يتوقعه المرء من الخبراء الأخلاقيين. هذا هو نوع القصة التي نجدها في:

Brown, Rationality, and in Dreyfus and Dreyfus, "What is Morality?

من المعروف لدى الجنس البشري أن هناك علاقة وثيقة بين العوامل والظروف الاجتماعية وبين صحة الإنسان وتطور المرض عنده، فكثير من الأفراد يرون الأمراض من منظور مجتمعهم وثقافتهم الخاصة، حيث إن قيم الفرد ومعاييره ومعتقداته ونموذج حياته تؤثر على حالته الصحية وبالتالي على نوعية مرضه وأسبابه، فالعلاقة الوثيقة بين العوامل الاجتماعية ومستوى الصحة التي تتسم بها أي جماعة من الجماعات تجعلنا نقرر أن علم الاجتماع الطبي يعتبر فرعاً من فروع علم الاجتماع العام، فإذا كان علم الاجتماع يهتم بالعمليات والتنظيمات الاجتماعية وبسلوك الفرد والجماعة، فإن علم الاجتماع الطبي يهتم بالحقائق الخاصة بالصحة والمرض والوظائف الاجتماعية للتنظيمات والمنظمات الصحة، وبعلاقة انساق توزيع العناية والرعاية الصحية بغيرها من الانساق الاجتماعية الأخرى، كما أنه يعتني أيضاً بدراسة السلوك الاجتماعي للطبيب والممرضة لمعرفة العلاقة بينهما وأثرها على تطوير العناية الطبية(1).

يرجع ظهور علم الاجتماع الطبي المعاصر إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وذلك بسبب الهيمنة الثقافية للعلم والطب في وقتها، مما أدى إلى خلق شعور بالتفاؤل لإمكانية القضاء على العديد من أمراض وأوبئة المجتمع وقتها، حيث أُعطيت العديد من المساهمات وحُفز الاهتمام الأكاديمي لتطوير ذلك التخصص العلمي الوليد.

وقد أُسِسَ قسم علم الاجتماع الطبي في عدد قليل من أقسام علم الاجتماع في جامعات النخبة خلال سنوات تطويره الأولى، وبدأت في السبعينيات من القرن الماضي معظم أقسام الدراسات العليا في علم الاجتماع في تقديم علم الاجتماع الطبي ضمن البرنامج الدراسي، واليوم تنتشر عدة دورات في علم الاجتماع حول الصحة والطب في كل برنامج دراسات عليا تقريباً في الولايات المتحدة وكذلك في العديد من الدول الأوروبية وبعض الدول الآسيوية.

يرتبط علم الطب بعلم الاجتماع بعلاقة وثيقة، باعتبارهما علمان يدرسان المشاكل التي تواجه الإنسان في المجتمع، حيث يسعى كل منهما إلى استخدام نظرياته ومناهجه وطرق بحثه وأدواته في جمع البيانات والمعلومات لدراسة وتحليل وتفسير الموضوعات التي يهتم بها. كما يسعى عالِم الطب والطبيب الممارس إلى دراسة علم الاجتماع، نظراً للضرورة الملحة التي يمكن من خلالها الاسترشاد بطرق البحث الاجتماعي وأساليب دراسته للظواهر الاجتماعية " بغية فهم ومعرفة العوامل الاجتماعية التي تؤثر على انتشار الأمراض والأوبئة والرعاية وفعالية الخدمات الصحية والطبية، فقد أصبح لزاماً البحث والتدقيق وإجراء الأبحاث والدراسات عن العلاقة الترابطية والوثيقة ما بين علم الاجتماع والطب وبالتالي تأثير كل منهما في الآخر "(2). هذا ما جعل معظم دول العالم منذ عقود طويلة إلى فرض تدريس علم الاجتماع في كلية الطب، وهذا ما طبق بالفعل في العديد من جامعات الدول العربية والدول النامية. وأصبح علم الاجتماع الطبي Medical sociology، من أهم فروع علم الاجتماع المتخصصة التي يلتقي من خلالها فكر وتصورات وآراء كل من علماء الاجتماع والطب في نفس الوقت (3).

كما أصبح هنا فروع أخرى متخصصة في علم الاجتماع الطبي والتي يطلق عليها سوسيولوجيا المستشفى Sociology of hospitals أحد المجالات الهامة التي تهتم بدراسة الأمراض المتوطنة وغير المتوطنة، ونظم إدارة المستشفيات، وأساليب رعاية المرضى، والطاقة الإنتاجية المثلى لكل من الفئات العاملة بالمستشفى مثل: الأطباء، وهيئة التمريض، والفئات المهنية المعاونة الأخرى.

ومن هنا يتحدد تعريفنا لعلم الاجتماع الطبي بأنه الدراسة السوسيولوجية لقضايا الصحة والمرض، وتناول المستشفى كنسق اجتماعي وثقافي، ودراسة علاقة المريض بالقوى العاملة الطبية وبالمؤسسات العلاجية، كما يحددها البناء الاجتماعي والوضع الطبقي. كما يُعرف علم الاجتماع الطبي بأنه مجموعة الجهود الرامية إلى تطوير الأفكار السوسيولوجية في داخل سياقات الأنساق الطبية، وإلى دراسة القضايا التطبيقية المهمة فيما يتصل بعمليات المرض ورعاية المريض(4).

يهتم علماء الطب والاجتماع عموماً بالاستفادة المتبادلة من خبرات تخصصاتهم المهنية والأكاديمية. فعالم الطب أو الطبيب العادي لا يمكن أن يشخص حالة مرضاه دون الرجوع إلى كثير من المتغيرات السوسيولوجية: مثل التاريخ المرضي للمريض وأسرته، وما يعرف بالحالة المرضية، والوضع الطبقي، والمهنية، والدخل، والأسرة، ومستوى التعليم والثقافة وغير ذلك من متغيرات ضرورية قبل أو خلال مراحل العلاج التي تقدم إلى المريض ذاته(5).

وعند دراسة الأمراض وتوطنها في المجتمعات وكيفية القضاء عليها أو التخفيف من حدتها يلجأ الأطباء إلى الاستعانة بخبرات علماء الاجتماع، وهذا ما أكده الكثير من المتخصصين في علم الاجتماع الطبي مثل فردسون Friedson وجلاسر Glasser وغيرهم، أو ما اهتم به دوركايم عند دراسته للانتحار وغيره من العلماء الذين أكدوا على ضرورة استخدام المداخل السوسيولوجية المختلفة عند تشخيص الأمراض سواء للمرضى أو بدراسة طبيعة الأمراض التي توجد في المجتمع، والأسباب التي تؤدي إلى تفاقمها أو الحد من سلبياتها. وهذا ما ظهر أخيراً عند دراسة الأمراض مثل: الإيدز، والسرطان، والكوليرا، والتيفوئيد، والسل، والبلهارسيا، الطاعون، شلل الأطفال، ... وغيرها. خاصة، وأن هناك أنواع معينة من الأمراض تكون متوطنة في مناطق معينة دون الأخرى مثل: أنيميا وأمراض البحر المتوسط، وفقر الدم... وغيرها. ومن ثم، فإن دراسة الأمراض من قبل علماء الطب أو الاجتماع تستلزم التعرف بوضوح على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والشخصية للمرضى حتى يمكن تقديم سبل العلاج اللازمة. علاوة على ذلك، أن استجابات المرضى للعلاج أو التماثل للشفاء أو الاستعداد لإجراء العمليات الجراحية تلزم الأطباء، ضرورة التعرف على أساليب سوسيولوجية معينة للتعامل مع مرضاهم والتي يطلق عليها علماء الاجتماع الطبي علاقة الطيب بالمرضى Doctor – Patient relationship  والتي على ضوئها يتم معرفة آراء المرضى وتحليل استجاباتهم نحو معالجتهم من الأطباء أو هيئات الطب المختلفة، كما نجد كثيراً من الأفراد المرضى أو البسطاء يرفضون أخذ العلاج الذي حدده الطبيب لأن مدخل الطبيب أو أسلوبه أثناء العلاج، لم يكن أسلوباً اجتماعياً، وهذا ما يفسر مدى إقبال المرضى على طبيب معين دون الآخر، بالإضافة طبعاً إلى متغيرات الخبرة الطبية والتشخيص الجيد(6).

عموماً، بعد انتشار كليات الطب المختلفة والمنظمات العالمية مثل منظمة الصحة العالمية  World Health Organization وغيرها من المنظمات على المستويات الإقليمية والقومية، التي تؤكد دراساتها على ضرورة تبنى المداخل السوسيولوجية من قبل الأطباء عند معالجة مرضاهم، أو دراسة أسباب حدوث وانتشار الأمراض في مناطق معينة من العالم دون الأخرى وكيفية الحد من الآثار السلبية للأمراض الاجتماعية مثل الإيدز على سبيل المثال، والتي لا يمكن معرفة أسبابها دون الرجوع إلى العوامل الاجتماعية البيئية المحلية والعوامل الأخلاقية والدينية التي توجد في المجتمع، وهذا بالطبع يدخل في مجال اختصاصات عالم الاجتماع. وفيما يلي ندرج أهم خصائص علم الاجتماع الطبي الذي يعتبر تتويجاً للعلاقة الوثيقة ما بين علم الاجتماع والطب، وهي كالآتي(7):

التركيز على دراسة العلاقة بين الحالة الصحية والمرضية والواقع الاجتماعي بأبعاده وتأثيراته المتداخلة بين الميدانين الطبي والاجتماعي.

الاهتمام بالمفاهيم الاجتماعية للصحة والمرض من خلال تحليل العناصر الثقافية السائدة في مجتمع ما التي تكون على شكل عادات وتقاليد وأعراف وقيم وقوانين وفنون وأساليب المعيشة.

التأكيد على دراسة التأثير الاجتماعي الذي يمارسه الأفراد على بعضهم البعض، والربط بين المفاهيم الاجتماعية للأفراد وبين موافقهم ومعتقداتهم حول الصحة والمرض والوقاية والعلاج.

التأكيد على أهمية الوظيفة الاجتماعية للمؤسسات الطبية في توعية الأشخاص ومحاربة العادات والتقاليد السيئة التي تؤدي إلى انتشار المرض.

استخدام المناهج العلمية للبحوث الاجتماعية التي تمكن هذا العلم من الوصول إلى التفسير المنهجي العلمي للظواهر والموضوعات التي يتناولها، وكذلك استخدام المداخل المنهجية العلمية المستمدة من العلوم الطبية مثل مدخل الخبرة الطبية العلاجية، ومدخل دراسة معدلات المرض، ومدخل دراسة معدلات الوفيات.

بمعنى آخر، يتخصص علم الاجتماع الطبي في أربع مجالات رئيسة، وهي كالآتي:

علم الأوبئة الاجتماعية يرصد علم الأوبئة الاجتماعية انتشار الأمراض بين مختلف فئات المجتمع، وأثر هذه الأمراض على السكان، وتُدرس فيه مسببات المرض والوفيات، مثل: العوامل الاجتماعية، العوامل الاقتصادية، العوامل الديموغرافية، العوامل السلوكية.

دراسة التنمية والديناميات التنظيمية: تدرس فيه المهن الصحية والمستشفيات ومنظمات الصيانة الصحية والرعاية طويلة الأجل، بالإضافة لدراسة العلاقات بين المنظمات والسلوك بين الأشخاص، مثل: العلاقة بين الطبيب والمريض، وينظر في حاجة المنظمات الطبية للمساعدة من المؤسسات الاجتماعية من أجل رعاية المرضى(8). وتشمل الوحدة التنظيمية الطبية المختلفة مثل: المستشفيات والجمعيات الطبية وما إلى ذلك مركز الصحة العامة وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الأولية في المناطق والأحياء السكنية(9).

دراسة ردود أفعال المجتمعات تجاه المرض: يهتم في دراسة المعاني الثقافية والتوقعات المعيارية، حيث يدرس ردود أفعال الأفراد في تفسير تجارب المرض والتفاوض بشأنها وإدارتها وتكوينها اجتماعياً، ويقيم ويصف الطريقة التي يتفاعل معها الأفراد مع الأمراض، لتوقع وجهة نظرهم ولتعريفهم بمجموعتهم الاجتماعية والثقافية داخل ذلك المجتمع.

دراسة السياسات الاجتماعية: يهتم في دراسة السياسات الاجتماعية والحركات الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي تتشكل بسبب عوامل الصحة والمرض داخل البلدان الفردية، بالإضافة لدراستها ضمن سياق دولي مقارن مثال ذلك: دراسة أسباب انتشار جائحة كورونا (كوفيد 19) والآثار الكارثية المترتبة عليها على الصعيد العالمي(10).

نستنتج مما سبق أن أهمية علم الاجتماع الطبي تنبثق من أهمية ارتباطه بالطب ودراسته لقضايا الصحة والمرض والنتائج الإيجابية، التي لمسها الجميع من هذا الارتباط بين الاجتماع والطب، والفوائد الجمة التي فرضها علم الاجتماع على الطب نتيجة الدراسات والأبحاث، التي قام بها علم الاجتماع الطبي، وما تفرع علم الاجتماع الطبي إلى عدة فروع إلا دليل واضح وصريح على أهمية هذا العلم على المجتمعات البشرية. حيث إن لعلم الاجتماع الطبي دور أساسي ودراسات مستفيضة في قضية مهمة جداً تخص المجتمع والطب على حد سواء، وهي قضية المدمنين على المخدرات والكحول، لأن قضية الإدمان بالذات تعتبر قضية ومرض اجتماعي إلى جانب المرض الطبي والصحي، لأن التأثير السلبي للانحراف على المجتمع كبير جداً ويهدم بعض المجتمعات، لأنه إلى جانب التأثير الصحي هناك تأثير وسلبية اقتصادية وأخلاقية، مما يبث الخوف في نفوس المختصين في المجال الاجتماعي، وعند معالجة المدمنين يتلازم العلمين معاً الاجتماعي والطبي لمعالجة الإدمان، لأننا نريد أن نعالج السبب النفسي والفسيولوجي إلى جانب العلاج العضوي، مما يعطينا نتائج أفضل للبعد عن الإدمان، ونظراً إلى نظرة المجتمع للمدمن، فإن العلاج يتصف بالسرية أحياناً لجدوى العلاج(11). كما لعلم الاجتماع الطبي أهمية كبرى في دراسة وبحث القضايا الأسرية وخاصة الدراسات التي تتعلق وتتلاقى مع الطب مثل: زواج الأقارب والرضاعة وتباعد الأحمال، وعدد حالات الإنجاب وخدمات الأمومة والطفولة والثقافة الأسرية الصحية إلى جانب ثقافة الوالدين وتعلم الأبناء العادات الصحية والتثقيف الصحي، ولا ننسى دراسات علم الاجتماع الطبي في مجال تأخر الحمل أو العقم عند الرجال أو السيدات، مما يجعلنا لا ننكر أبداً دور علم الاجتماع بالتعاون مع الطب في معالجة هذه المشكلة التي تبدو أنها مشكلة اجتماعية طبية مشتركة.

وفيما يتعلق بنظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة نجد أنها اختلفت من حضارة إلى حضارة، فتارةً تقوم الحضارات بالتخلص من ذوي العاهات سواء العقلية أو الجسدية، وتارةً تحترم وتقوم بعض الحضارات بالاعتناء واحترام ذوي العاهات، وتساهم في انخراطهم في المجتمع عن طريق التأهيل، فهنا كما نرى أن قضية ذوي الاحتياجات  الخاصة والتأهيل هي قضية اجتماعية إلى جانب أنها صحية، فعملية التأهيل تكون بإتباع أساليب وطرق اجتماعية إلى جانب العلاج العضوي للمعاق، مما يجعل نتائج التأهيل أكثر إيجابية وجدوى عند تلازم وتعاون علمي الاجتماع والطب، ﻷن نظرة المجتمع للمعاق تحدد نفسية المعاق وتقبله للعلاج، وما القوانين العالمية في دور ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع، إلا دليل على اهتمام المجتمع والطب لهذه القضية.

كما أن أي ظاهرة صحية في المجتمع يجب ربطها مع الظواهر الاجتماعية، لأنهما متلازمتين أي قضيتي الاجتماع والطب، واعتبار أي دراسة اجتماعية أو طبية لأي مجتمع يجب أن ترتبط بالأخرى، فمثلاً دراسة صحة أو مرض قلة معينة من المجتمع، مثل أصحاب المهنة الواحدة (الأمراض المهنية) مرتبطة بواقع جغرافي وطبيعي، لأن الأمراض المهنية تصيب أشخاص يعيشون نفس البيئة الاجتماعية ويتأثرون بالعوامل الطبيعية المسببة للمرض، مثل تعرضهم للحرارة أو الرطوبة أو الأبخرة والإشعاعات، وبالتالي علم الاجتماع الطبي يقوم بدراسة المرض المهني من ناحيتين الاجتماعية والطبية معاً.

بالمقابل، نجد أن ثقافة المجتمع ما من عادات وتقاليد وقيم وأعراف، هي دراسة اجتماعية بحتة تلعب دور كبير في قضية نظرة المجتمع إلى قضايا الصحة والمرض، وبالتالي فإن ثقافة المجتمع الصحية من عادات وطرق سليمة من النظافة وعادات الأكل وتثقيف المجتمع صحياً يأتي عن طريق دراسة علم الاجتماع لهذه العادات، وبالتالي تكون النتائج الاجتماعية ذات الطابع الصحي، مما يساعد الطب على وضع البرامج الصحية وتنفيذها بالتعاون مع علم الاجتماع. فعلى سبيل المثال يعتبر الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) مرض العصر الذي بدأ يهدد البشرية بأكملها، وبالرجوع إلى الأبحاث والدراسات التي أجريت على هذا المرض توضح لنا أن المرض أساسه اجتماعي أخلاقي سلوكي، وطريقة الإصابة به ناتجة عن خلل أخلاقي نظراً للعلاقات الجنسية الخاطئة والممارسات الجنسية الشاذة، وهذا سبب اجتماعي، وبالتالي بعد هذه العلاقة الخاطئة يصاب الإنسان بالإيدز وتظهر الأعراض المرضية العضوية، وهنا طريقة علاجه تأتي عن طريق الدور الكبير لعلم الاجتماع في التوعية والتثقيف الاجتماعي الأخلاقي، ويتعاون العلمين في الوقاية من المرض عن طريق النواحي الخلقية والنفسية إلى جانب توضيح الأخطار العضوية والمرضية على الشخص المصاب(12).

وفي النهاية، تنبع أهمية علم الاجتماع الطبي من خلال تأهيل وتثقيف العاملين في النسق الطبي اجتماعياً إلى جانب تأهيلهم طبياً، وما المساقات المقررة في الكليات والجامعات التي تدرس التمريض والمهن الطبية، إلا دليل واضح على أهمية وجدوى معرفة دراسة علم الاجتماع الطبي، الذي يلعب دوراً أساسياً وكبيراً في معرفة العاملين في النسق الطبي لثقافة المجتمع والأسباب الاجتماعية التي تكون سبباً مخيفاً للأمراض العضوية، وتأثير الأمراض العضوية على سلوك الأفراد والمجتمع، مما يسهل عملية العلاج الطبي عند معرفة الأسباب الاجتماعية للمرض وبالعكس.

*** 

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

...................

(1) عبد المجيد الشاعر وآخرون: علم الاجتماع الطبي، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، 2000، ص(23).

(2) قدري الشيخ علي وآخرون: علم الاجتماع الطبي، مكتبة المجتمع العربي، عمان، ط1، 2008، ص (50).

(3) عبد الرحمن محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع النشأة والتطور، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص (79).

(4) علي مكاوي: علم الاجتماع الطبي – مدخل نظري، جامعة القاهرة، القاهرة، 1989، ص (46-47).

(5) عبد الرحمن محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع النشأة والتطور، مرجع سبق ذكره، ص (80).

(6) المرجع السابق نفسه، ص (81).

(7) نجلاء عاطف خليل: في علم الاجتماع الطبي (ثقافة الصحة والمرض)، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، 2006، ص(137).

(8) المرجع السابق نفسه، ص (81).

(9) Ramesh Sigdel: Role of Medical Sociology and Anthropology in Public Health and Health System Development, Health Prospect, vol.11, 2012, p.(28).

(10) For more reading and viewing see: Indranil Chakrabortya and Prasenjit Maity: COVID-19 outbreak: Migration, effects on society, global environment and prevention, Science of The Total Environment, Volume: 728, 1 August 2020. https://www.sciencedirect.com/journal/science-of-the-total-environment

(11) قدري الشيخ علي وآخرون: علم الاجتماع الطبي، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008، ص(58).

(12) المرجع السابق نفسه، ص(58-59-60).

يتحدث عدد كبير من السياسيين عن الشخصية، الفضيلة، الأخلاق، وإنجاز الأشياء الصحيحة. ولكن عندما ننظر الى ما يقومون به كأفعال وليس كأقوال، فان سلوكهم نراه بعيدا عن الفضيلة. هم يكذبون، يخادعون، واحيانا يكرسون سلطاتهم او يشنون الحروب المدمرة المسببة لتعاسة عدد لا يحصى من الناس. الحديث هنا ليس عن السياسة الحالية في امريكا او المملكة المتحدة او روسيا. بل يتعلق باوربا النهضة، في وقت كان البابوات يجسدون الدور الأعلى للمسيحية بعد يسوع، كانوا احيانا  يلبسون الدروع ويمتطون الخيول ليخوضوا المعارك.

أصل السياسة الواقعية Realpolitik

يمكن القول ان الفجوة بين الكلمات والأفعال لم تختف في القرون الخمسة الأخيرة. لكن هذا التناقض الصارخ في السياسة بين النظرية والتطبيق أثار انتباه الدبلوماسي الشهير نيكولاي ميكافيلي (1469-1527) لدرجة انه كتب كتاب (الامير) الذي أعطى فيه نصائح لرجال الدولة بناءً على تقييم صريح للواقع السياسي وليس بناءً على نوايا الخير الطوباوية.

كانت لدى ميكافيلي عدة تجارب شحذت رؤاه السياسية. احدى هذه التجارب تتمثل بلقائه رجل الدولة الايطالي سيزاري بورجيا Cesare Borgia، في وقت اعتبره ميكافيلي أمل ايطاليا في الوحدة ضد الغزاة الأسبان والفرنسيين (وهو ما لم يحدث). في عام 1503م، التقى ميكافيلي بـ بورجيا للمرة الثانية في سياق مهمة دبلوماسية. خلال اللقاء تعلّم شيئا او اثنين حول طريقة عمل بورجيا. في فترة ما، واجهت بورجيا مشاكل عميقة مع النبلاء في المدينة المجاورة التي كانت يديرها اورسيني (ايطالي ارستقراطي)،حيث وُجّهت لهم الدعوة من قبل بورجيا للحضور في مدينة سينغاليا بهدف إجراء محادثات سلام والوصول الى اتفاقية سلام متبادل. حالما وصلوا اُلقي القبض عليهم واُعدموا جميعا.(الاسلوب الايطالي الدبلوماسي،سيركا،1500 م.)

وهناك واقعة اخرى حدثت في مدينة سيزينا المحتلة من جانب بورجيا، وهي المنطقة التي كانت بحاجة الى تهدئة. يذكر ميكافيلي: "عيّن بورجا ريميردو ،الرجل القاسي وأعطاه سيطرة كاملة. في مدة قصيرة تمكن ريميردو من إشاعة السلام وتوحيد المنطقة .. ولكن حالما وجد بورجا ذريعة، قام بقطع رأس ريميردو ووضع جثته في الصباح أمام العامة في صندوق خشبي الى جانب سكين ملطخة بالدماء. وحشية المشهد تركت الناس بين صدمة وإعجاب" (الامير). ترك بورجا أحد أتباعه يقوم بالمهمة البشعة، متيقنا ان هذا سيُغضب الناس ولكن طالما يحتاج الامير الى الدعم الشعبي، فهو وجد عذرا لقتل الحليف له، وهكذا أعطى للناس ما يريدون وخفف من غضبهم.

لا غرابة لو سمى برتراند رسل كتاب الأمير بـ "مرشد العصابات". وكما أوضح تم بارك Tim Parks في مقدمته لترجمة داربنجوين "كتاب ميكافيلي الصغير كان تهديدا مستمرا. انه يذكّر الناس ان السلطة دائما ما تكون مغرية، هناك دائما سؤال حول ما يمكن أخذه بالقوة او بالخيانة، ودائما رغم كل الاحتجاجات، تبقى السلطة هي الاهتمام الرئيسي لأي حاكم".

كان ميكافيلي اول كاتب حديث فكر منهجيا في ما يسمى السياسة الواقعية. منذ ذلك الحين، شهدت الواقعية السياسية عددا من التطورات ونالت عدد كبير من المؤيدين. يمكن القول ان أشهر الفلاسفة المبكرين في هذا السياق هو توماس هوبز الذي اوضح في كتابه اللفياثان (1651) الحاجة الى حاكم قوي لكي يجنب الناس "دولة الطبيعة "العنيفة،التي من دون ذلك ستكون العودة اليها حتمية. هذه الدولة وصفها بـ "حرب الجميع ضد الجميع":

"في مثل هذه الظروف لا مكان هناك للصناعة،لأن الثمار منها غير مؤكدة، وبالنتيجة لا ثقافة على الارض، لا بناء مادي، لا معرفة، لا حساب للزمن، لا فنون، لا رسائل، لا مجتمع، وما هو أسوأ ، هناك خوف مستمر وخطر الموت العنيف،وحياة الانسان منعزلة، فقيرة، مقرفة، وحشية، وقصيرة".

أليس من المنطقي التخلّي عن بعض الحريات لكي يمكن تجنّب كل تلك الأخطار؟ بين الممارسين للميكافيلية، كما يسميها البعض هم رجال الدولة الحديثين المبكرين والمعاصرين، من الكاردينال الفرنسي ريشيليو، الى الملك البروسي فردريك الاكبر، من كافور الايطالي الى بسمارك وصولا الى ماو وشارل ديغول وهنري كيسنجر.

الطريقة السقراطية

غير ان هناك طريقة اخرى للنظر الى العلاقة بين الأخلاق والسياسة بدون الحاجة للاستسلام لنفاق بابوات النهضة والسياسيين الحديثين. انها طريقة وضعها سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد وتعتمد كليا على شخصية رجل الدولة الطموح. عُرف سقراط في اثينا القديمة بـ (ذبابة الحصان) المزعجة، دائما يسعى ليبيّن للناس انهم حقا لا يعرفون عن ماذا يتحدثون عند التطرق الى مبادئ حاسمة مثل العدالة (كما أوضحها افلاطون في الجمهورية او التقوى (كما في يوثيفرو). ولكن مظهرا اخرا كبيرا لنشاطات سقراط يبرز من مصدر ثانوي. فمثلا، مذكرات زينوفون (370ق.م) تعرض حدثين فيهما ينصح سقراط حول تفضيل او معارضة العمل السياسي، اعتمادا على الشخص الذي يتحدث اليه. في احدى المناسبات، يلتقي سقراط مع الشاب جلوكون Glaucon الاخ الاكبر لافلاطون . جلوكون مصمم على العمل السياسي، وهو يعتقد انه يعرف ماذا يعني ذلك. سقراط يبدو معجبا على نحو ما ولكن كالمعتاد هو يبدأ باستجواب محاوره: "حسنا،يا جلوكون، بما انك تريد ان تنال الشرف،أليس من الواضح انك يجب ان تنفع مدينتك؟

"بالتأكيد".

"لاتصمت،أخبرنا كيف تقترح ان تبدأ خدمتك للمدينة".

جلاكون بقي صامتا، يبدو كأنه يفكر في كيفية البدء " (المذكرات، 3.6.3-4).

في نقطة ما جلوكون يخبر سقراط ان اثينا ستكون قادرة على زيادة احتياطاتها من خلال الحرب. سقراط يرد على هذا:

"لكي تنصح بالقتال، من الضروري معرفة قوة المدينة (اثينا) وقوة العدو، لأنه اذا كانت المدينة هي الأقوى، ربما احد ينصحها بالذهاب للحرب، ولكن اذا كانت أضعف من العدو،لابد ان تقنعها بأخذ الحذر".

"أنت على صواب".

"اولاً، أخبرنا عن القوة العسكرية والبحرية لمدينتنا ومن ثم عن قوة العدو".

"كلا،بالطبع انا لا استطيع اطلاعك بشيء سخيف وخطير" (3.6.8)

بعد ذلك يسأل سقراط ما اذا كان جلوكون لديه تقدير جيد للفترة التي يستمر بها مخزون الحبوب، لأن تلك المسألة حاسمة لتغذية المدينة. يجيب جلوكون بان تلك المهمة مرهقة للغاية وانه لا يحب تنفيذها. هنا سقراط يوبخ جلوكون مذكّرا اياه انه اذا رغب المرء بتحمّل مسؤولية المنزل، فيجب ان يهتم بالضبط بالتفاصيل التي لحد الان يتجاهلها جلوكون عندما يأتي لشؤون الدولة. جلوكون يجيب:

"حسنا، انا استطيع عمل شيء لبيت عمي اذا كان يستمع لي". ماذا؟ انت لا تستطيع اقناع عمك وايضا انت تفترض انك قادر على اقناع كل الاثنيين بما فيهم عمك، للاستماع لك؟ انتبه يا جلوكون ان طموحك لا يقود للسقوط، الا ترى خطورة قول او فعل ما لا تفهمه؟"(3.6.15-16).

ذلك يبدو حقق الهدف المطلوب، جلوكون أجّل حلمه في ان يصبح رجل دولة. في الحقيقة، هو لن يصبح كذلك ابدا. بدلا من ذلك، هو قاتل ببسالة في معركة ميغارا في ذروة حرب البيلوبونيز ضد سبارطة عام 424 قبل الميلاد. هو لاحقا اصبح موسيقي بارز كما أكّد سقراط ذلك في الجمهورية.

مقارنة هذا الحدث مع ذلك الذي حدث بعد سنة يستلزم إشراك خارميدس: "ترى ذلك يا جلوكون .. كان رجلا محترما واكثر قدرة من السياسيين هذه الايام، الذين مع ذلك خففوا من التحدث في الجمعية العامة والمشاركة في السياسة، قال سقراط: "اخبرني يا خارميدس ماذا تعتقد في الرجل الذي كان قادرا على الحصول على النصر في الالعاب الكبرى وبالنتيجة الفوز في الشرف لنفسه وتحقيق السمعة لبلده في العالم اليوناني، ومع ذلك رفض المنازلة؟". "انا يجب ان اعتقد انه جبان بالطبع" (3.7.1).

خارميدس أدرك حالا ان سقراط يتحدث عنه حول العلاقة مع السياسة، وهو ينصب له الفخ السقراطي المألوف: "لا ترفض مواجهة هذا الواجب: كافح بجدّية اكبر لتنتبه لنفسك، ولا تهمل الشؤون العامة، اذا كانت لديك السلطة لتحسينها " (3.7. 9). في هذه الحالة الخاصة،لم تمض الاشياء على ما يرام. خارميدس دخل فعلا في السياسة، لكنه كان سيء الحظ في خدمة اثينا في ظل حكم الثلاثين طاغية الذين عينتهم سبارطة  بعد الهزيمة الاسبارطية لأثينا في الحرب.

توفي خارميدس في معركة ميونخ عام 403 قبل الميلاد. هذا يؤكد مسألة نالت اعجاب ميكافيلي بعد عدة قرون: رجل الدولة يحتاج المهارة وكذلك الحظ. كان بورجان ماهرا جدا على الأقل وفق المعايير الميكافيلينية، ولكن في النهاية هو فقد الحظ. أقوى مساعديه، ابوه، البابا الاسكندر السادس ماتوا قبل ان يتمكنوا من تحقيق تقدم كافي في مواصلة خططهم.

أصر سقراط على العنصر الثالث الى جانب المهارة والحظ وهو الفضيلة. هذا الإصرار اصبح واضحا جدا في سياق حوار السيباديس الاول First Alcibiades(الذي نُسب عموما لافلاطون رغم ان البعض يشك في  تأليفه له). السيباديس كان صديقا وتلميذا لسقراط، وكان مرغوبا جدا. في وقت الحوار،  كان عمره عشرين سنة ، وسيما، غنيا،كاريزميا،وواثقا بنفسه. اراد السيباديس ان يحدث فرقا في العالم، لذا هو ذهب الى سقراط للنصيحة حول ما هي احسن طريقة لمتابعة مسار الفضيلة. ولكن في سياق المحادثة اتضح ان السيباديس كان مهتما كثيرا بالمجد وتضخيم الذات. في لحظة ما سقراط يشخص مشكلته بعبارات صريحة: "وا أسفي، يا السيباديس، أي ظروف انت تعاني منها، انا اتردد بتسميتها لكن طالما نحن الاثنين وحيدين هنا، فلابد ان تُقال . انت تعاني من الحماقة، وهذا يفسر لماذا انت تقفز الى شؤون المدينة قبل ان تتعلم". (السيباديس 1.26). بالطبع السيباديس لم يصغ الى مرشده واتّبع بدلا من ذلك غرائزه. هذا ادى الى سلسلة مذهلة من الكوارث السياسية في كل العصور القديمة بما في ذلك الدور الرئيسي في هزيمة اثينا في حرب البيلوبونيز ومن ثم موت السيباديس بأيدي الفرس الذين كانوا يعملون لمصلحة سبارطة.

شيشرون والطريق الثالث

اذا كان ميكافيلي يجادل بان المهارة والحظ وليس الفضيلة هما اللذان يخلقان القائد الجيد، سقراط رهن كل شيء بالفضيلة. الفيلسوف الروماني شيشرون يقول انهما كلاهما يشكلان فقط جزءاً من الصورة: القائد الجيد لايحتاج فقط الشخصية الجيدة وانما ايضا يحتاج ليكون قادرا على ان ينجح برجماتيا في المواقف المعقدة من خلال المقايضة والتسويات. هذا يفسر لماذا كان شيشرون حادا مع صديقه الشاب كاتو، الرواقي الصارم الذي تسبب بالنهاية بالمزيد من الضرر للجمهورية الرومانية بدلا من الخير: " .. صديقنا كاتو يتحدث ويصوّت كما لو كان في جمهورية افلاطون وليس في حثالة رومولوس"(رسائل اتيكوس، 2.1.8). في الحقيقة اننا دائما نعيش في "حثالة رومولوس"(رومولوس كان مؤسس روما الاسطوري).القادة الجيدون يدركون ان أتباعهم معيبون،ويتصرفون طبقا لذلك بدون الذهاب الى الحدود القصوى لـ بورجيا.

شيشرون عرف عن ماذا كان يتحدث طالما هو كافح طوال حياته لحفظ الجمهورية الرومانية. هو حوّل ولائاته السياسية وأهدافه القصيرة الأجل لكي يُبقي عينيه دائما مفتوحة على الجائزة النهائية. وهو قام بهذا مع محاولة الحفاظ على سمعته والتزاماته الفلسفية. في النهاية هو فشل في حماية الجمهورية ربما بسبب ان الجمهورية لم تعد نموذجا يمكن ادامته ولابد من افساح الطريق للامبراطورية كضرورة تاريخية، او ربما بسبب ان العديد من الآخرين الذين حوله تصرفوا بالطراز الميكافيلي، واضعين توقهم للسلطة والمجد قبل الخير العام. كان بامكانهم ممارسة هذا السلوك لأن الشعب الروماني تخلى عن مطالبة قادته التصرف بفضيلة كما تحدثوا. يجب عدم تكرار نفس الأخطاء.

***

حاتم حميد محسن

إن الميزة الثانية للمعتقدات الأساسية السياقية (بعد أن تناولنا الأولى في البحث السابق في هذه السلسلة) التي يجب أخذها في الاعتبار هنا هي فكرة أن  تكون اساس أوقاعدة حساسة  للسياق، وبالتالي فإن ما هو أساس في سياق ما قد لا يكون أساسيًا في سياق آخر. دعونا نبدأ بالنظر في السياقات الاجتماعية المختلفة التي تنطوي على مجتمعات مختلفة لديها وجهات نظر أخلاقية مختلفة. فقد تكون هناك بعض الاختلافات في الافتراضات الأخلاقية التي تعتبرها هذه المجتمعات بشكل عام أمرً مسلم به، بالإضافة الى الوزن الأخلاقي المرتبط بالعديد من الاعتبارات الأخلاقية التي تلخصها القواعد على الرغم من أن المرء يتوقع أن تشترك أيً نظرتين أخلاقيتين في العديد من الافتراضات الأخلاقية الأساسية نفسها (على سبيل المثال، الافتراضات ضد قتل البشر والسرقة وما إلى ذلك).[1] وإذا كان الأمر كذلك، فإن إحدى الطرق التي يكون فيها الأساس حساس للسياق هي قد تأخذ المجتمعات المختلفة معتقدات أخلاقية مختلفة كأمر مسلم به.[2]

هناك احتمال مثير للأهتمام لأستكشافه هو المدى الذي قد تكون فيه تقييماتنا المعرفية حساسة للسياق بطريقة من شأنها أن توحي بأن قد يكون المرء  مسؤولاً معرفيًا عن الألتزام ببعض المعتقدات الأخلاقية دون تبرير في سياق، وغير مسؤول للألتزام بها في سياق آخر؛ حيث تشمل الاختلافات في السياق هنا مجتمعات مختلفة. فقد يكون للفرد نظرة أخلاقية تختلف افتراضاتها الأخلاقية الأساسية عن افتراضات نظرته الأخلاقية السابقة بمرور الوقت.[3] يشبه هذا النوع من الحالات، في بعض النواحي، الحالة الموضحة في الفقرة السابقة: هناك وجهتان أخلاقيتان متميزتان تخلقان سياقين مختلفين. ولكن حتى بالنسبة للمرء الذي تظل نظرته الأخلاقية ثابتة نسبيًا على مدى فترة من الزمن، والتي تعتبر معتقدات أخلاقية معينة أساسية في السياقات العادية والمشتركة للفكر والتداول الأخلاقي، فقد تكون هناك سياقات اخرى لا تكون فيها تلك المعتقدات الأخلاقية أساسية.  هناك نوع واحد من الحالات الملائمة لهذا الوصف هو السياق الذي يواجه فيه المرء تحديات متشككة في النظرة الأخلاقية للفرد، التحديات التي تستهدف تلك المعتقدات الأخلاقية، والتي تكون أساسية في سياقات المشاركة. سأوضح نوع الحالة التي أفكر فيها بمزيد من التفصيل.

دعونا نفرق بين السياق المشترك للفكر الأخلاقي والسياق المنفصل الذي لا يفكر فيه المرء ويتداول بالكامل من داخل نظرته الأخلاقية، ولكنه ينظر إليه من الخارج. والآن، حيث لا يتم التركيز على التحديات المتشككة في تلك النظرة في سياق ملتزم بالتفكير الأخلاقي، يكون المرء مسؤولًا معرفيًا في جعل  تلك المعتقدات والافتراضات الأخلاقية الأساسية (بدون تبرير) أكثر أو اقل اساسية بالنسبة إلى النظرة الأخلاقية. ومع ذلك، بمجرد أخذ التحديات المتشككة على محمل الجد، يتم تغيير السياق (بمعنى أن المجتمع الأساسي للتقييم المعرفي هو مجموعة المشككين). لم تعد تلك المعتقدات الأخلاقية الأساسية عادةً أساسية في هذا السياق المنفصل نسبيًا الذي يتم  فيه تحدي الافتراضات الأخلاقية الأساسية للنظرة الأخلاقية للفرد. لنفترض، على سبيل المثال  أننا نفكر في التحديات المتشككة في أعمق جوانب النظرة الأخلاقية للمرء، وتخيل أن هذا المرء يواجه مجموعة من النيتشويين الذين يجادلون، بأن المجتمعات الديمقراطية تنتج ضميرًا أخلاقيًا زائفًا، وبالتالي فإن الكثير من المعتقدات الأخلاقية التي يتم اعتبارها كأمر مسلم به في مثل هذه المجتمعات خاطئة أو مشكوك فيها على الأقل.  يبدو أن ما يحدث غالبًا في مثل هذه السياقات المنفصلة هو أن القواعد المعرفية السارية فيها تختلف عن تلك المعمول بها في السياقات المتفاعلة أو المنخرطة في سياقات من النوع  الأول،  حيث لا يجوز للمرء أن يأخذ المعتقدات الأخلاقية التي قد يعتبرها المرء كأمر مسلم به في سياقات من النوع الأخير كأمر مسلم به (كما ناقشناه سابقا). إن سبب الاختلاف في المعايير المعرفية التي تحكم هذه السياقات واضح إلى حد ما. لا يُطلب من المرء أن يكون لدي أسباب لبعض المعتقدات الأخلاقية التي تعتبر أساسية للنظرة الأخلاقية في السياقات المنخرطة المتفاعلة، حيث يكون الهدف والغرض من السياق هو التفاوض حول طريقته في عالم اجتماعي. لا يُسمح للمرء بأخذ المعتقدات والافتراضات الأخلاقية الأساسية للفرد على أنها أساسية في السياقات المنفصلة، حيث يكون الهدف والغرض من السياق هو فحص النظرة الأخلاقية للفرد في محاولة لاكتشاف وتصحيح أي تحيزات ثقافية أو شخصية.

تثير الحالات التي تتلاءم مع هذا الوصف العام والتي يدخل فيها المرء سياقًا منفصلاً أسئلة مهمة حول الظروف التي يصبح من المناسب في ظلها أو ربما يكون مطلوبًا الدخول في مثل هذا السياق بالإضافة إلى أسئلة حول أنواع المعايير المعرفية السارية في مثل هذه السياقات.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] Francis Snare, "The Diversity of Morals," Mind 89 (1980), 353-69

[2] أنظر:

Donald G. Kraybill, The Riddle of Amish Culture (Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 1989.

[3] للحصول على وصف لمثل هذه التحويلات الأخلاقية الراديكالية التي تنتج عن تحول "متقطع" في النظرة الأخلاقية للفرد.ن أنظر:

DePaul, Balance and Refinement, Routledge, 2013, 39-48.

 

كما اشرت في البحث السابق  الى أن الادعاء 2 هو ما يميز السياقية حول البنية عن الأسسية. وكما رأينا، يحافظ السياقي على الادعاءين التاليين1.

(1) لا تحتاج المعتقدات الأساسية المعرفية إلى التبرير في السياقات العادية للتبرير العقائدي.

(2) قد تتطلب المعتقدات الأساسية في سياق معين تبريرًا في سياق مختلف.

ساقوم في ما يلي بتفصيل هذين الادعاءين. أبتداءً لابد أن نوضح مفهوم السياق عند تناول الادعاء الأول (كما أستخدمه هنا). وتوضيح دور المعتقدات الأساسية للسياق في السياقات العادية للفكر والمناقشة الأخلاقيين.

سأبدأ بالتركيز على السياقات العادية والمشتركة للتفكير الأخلاقي - السياقات التي  لها تأثيرًا على بعض  المسائل الأسئلة الأخلاقية- وسأتناول بعض التفاصيل المهمة من الناحية المعرفية لهذا السياق. إذن، فيما يخص الأعتقاد الأخلاقي، فإن جزءًا مهمًا من السياق عندما يتعلق الأمر بالأسئلة حول التبرير في التمسك بمعتقدات أخلاقية مختلفة ينطوي على دور النظرة الأخلاقية للفرد. فما هي النظرة الأخلاقية؟

تمثل النظرة الأخلاقية طريقة لعرض بيئة المرء والاستجابة لها من وجهة نظر أخلاقية؛ إنه منظور يتخذ من خلاله المرء موقفاً أخلاقياً. تأتي النظرة الأخلاقية للمرء من خلال التربية الأخلاقية التي تتضمن سمات اساسية وهي:

(1) تطوير حساسية تجاه السمات المختلفة لبيئة الفرد الأخلاقية وبالتالي تكون أساس التقييم الأخلاقي وفقًا لوجهة النظر الخاصة التي يتم تعليمها أو التربية عليها.

(2) تَعلم ربط الاستجابات العاطفية المختلفة بالتقييم الأخلاقي (على سبيل المثال، تعلم الشعور بالذنب والاستياء تجاه بعض أفعال الفرد وأفعال الآخرين).

(3) التعرف على بعض الأمثلة، أي الحالات النموذجية للأفعال الأخلاقية أو اللا أخلاقية والأشخاص والمؤسسات وما إلى ذلك2.

(4) تَعلم التعميمات الأخلاقية التي تلخص أهم السمات الأخلاقية التي يطور المرء من خلال التدريب عليها حساسيته الأخلاقية.

(5) تعلم الأنماط الأساسية للتفكير الأخلاقي (على سبيل المثال، القاعدة الذهبية / التفكير الانعكاسي وكذلك تعلم التفكير في الأنتقال من التعميمات الأخلاقية إلى حالات معينة). يكتسب المرء نتيجة لأنشطة التعلم هذه مجموعة من المهارات المترابطة والمعتقدات والاستجابات العاطفية وما إلى ذلك والتي تشكل النظرة الأخلاقية للفرد.

يوفر وجود وجهة نظر أخلاقية معينة جزءًا من "السياق" الذي يكون لدى المرء فيه معتقدات أخلاقية مبررة عادةً. لكن يكون سياق اجتماعي غني في الحالات العادية عندما يحدث التعليم الأخلاقي في بيئة اجتماعية معينة يتشارك أعضاؤها بشكل أو بآخر بعض القيم والمعتقدات الأخلاقية. حيث يجلب المرء في السياقات الأخلاقية المتفاعلة النظرة الأخلاقية للتأثير على حالة تتطلب استجابة أخلاقية، وغالبًا ما تلعب بعض المعتقدات الأخلاقية- ما أطلقنا عليه سابقا التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط - دورًا تبريرًا خاصًا، وكذلك يمكننا من خلال رؤية كيفية عمل هذه المعتقدات الأخلاقية في النظرة الأخلاقية للفرد  أن نفهم بشكل أوضح الحالة المعرفية لتلك المعتقدات. دعونا إذن ننظر في دور المعتقدات الأخلاقية العامة ذات المستوى المتوسط في النظرة الأخلاقية.

تمثل السمات الخمس للنظرة الأخلاقية،على الأقل جزءًا من، ما يمكن أن نسميه السمات "الشكلية" للنظرة الأخلاقية؛ السمات التي تميز أينظرة أخلاقية أو معظمها. قد تختلف وجهات النظر الأخلاقية في المحتوى، لكن إحدى الطرق المفيدة لوصف وجهة نظر أخلاقية معينة، وتمييزها عن وجهات النظر الأخلاقية الأخرى، هي من حيث السمات الأخلاقية المذكورة في (1) و(4). دعنا نقول، إذن، أن تلك السمات من الناحية الأخلاقية للأفعال والأشخاص والمؤسسات وما إلى ذلك والتي تمثل (وفقًا لوجهة النظر) أهم السمات الأخلاقية الأساسية للأشياء التي تشكل أساس التقييم الأخلاقي، هي سمات مميزة لتلك النظرة الأخلاقية المعينة. إن التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط، كما أفهمها، تربط تلك السمات الأخلاقية بالأشياء من خلال مصطلحات التقييم الأخلاقي. ومن ثم، يمكننا القول أن مجموعة من هذه التعميمات ذات المستوى المتوسط تشكل وجهة نظر أخلاقية معينة. وهكذا، تساعد هذه المعتقدات الأخلاقية العامة في بناء وتنظيم فكرنا وتجربتنا الأخلاقية، في العديد من سياقات التفكير الأخلاقي العادية والمشتركة حول مسائل وقضايا أخلاقية محددة. عندما ينصب تركيزنا على قضايا محددة، فهي تكون جزء من مجموعة كبيرة من الافتراضات التي نستخدمها في تفكيرنا. علاوة على ذلك، تعتبر مثل هذه المعتقدات الأخلاقية في مثل هذه السياقات أمرًا مفروغًا منه: فلا توجد شكوك أو تحديات جادة يتم أخذها في الاعتبار أو على محمل الجد من قبل المجتمع المعني. نظرًا لأن جزءًا كبيرًا من المسؤولية المعرفية يتعلق بالقدرة على اكتشاف التحديات والتعامل معها، وإن التحديات التي تواجه التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط ليست ذات صلة بها وفي السياق العادي للتبرير الأخلاقي، إن اعتناق المرء لمثل هذه المعتقدات وإسناد معتقدات أخرى غير أساسية عليها لا يخضع للنقد المعرفي، وبالتالي يكون المرء مسؤولًا معرفيًا في حملها دون أن يكون لديه أسباب مبررة.

لذا، إذا كنت على حق، لا تتطلب معاييرنا وممارساتنا المعرفية الفعلية أن يكون لدى الأفراد أسباب مبررة لبعض معتقداتهم الأخلاقية التي غالبًا ما تلعب دورًا معرفيًا حاسمًا عندما يتعلق الأمر تبريرها استنتاجيًا في تبني  معتقدات أخلاقية محددة.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................

1- مهتم هنا فقط بما أشرنا اليه سابقا  بأطروحة المحافظة المعرفية وأطروحة حساسية السياق الاجتماعي.

2- Thomas Kuhn, "Second Thoughts on Paradigms," in The Essential Tension, ed. Kuhn (Chicago: University of Chicago Press, 1977), p. 298.

أرغب في التعبير عن السياقية وبنية المعتقد الأخلاقي.[1] وساقدم في هذه الحالة بُعدًا وصفيًا ومعياريًا. أولاً، أنا مهتم بتوصيف ممارساتنا الفعلية عندما يتعلق الأمر بالأعتقاد الأخلاقي، وتلك الممارسات المعرفية التي تؤثر على التحرر من اللوم المعرفي أو استحقاقه على وجه الخصوص. فرضيتي الوصفية هيِ أن معاييرنا المعرفية، كما تنطبق على المعتقد الأخلاقي، لا تتطلب أن يكون لدى الفاعلين المسؤولين معرفيًا أسبابًا تبرر تحمل مسؤولية جميع معتقداتهمالأخلاقية عادةً. تعمل بعض المعتقدات الأخلاقية، لاسيما تلك التي تشكل جزئيًا وجهة نظر المرء الأخلاقية، كمجموعة من الافتراضات الأخلاقية الأساسية التي لا تحتاج إلى تبريرفي السياقات العادية للفكر والمناقشة الأخلاقيين. إذا كانت هذه الأطروحة الوصفية صحيحة، فمن الصحيح ، أيضًا، وصف بنية التبرير الأخلاقي التي تنطوي عليها معاييرنا المعرفية على أنها سياقية. وأطروحتي المعيارية هي أن هناك سببًا وجيهًا لتأييد مثل هذه المعايير بشكل انعكاسي.

إن خطتي من أجل تقديم حجة لادعائي الوصفي، هي تقديم صورة مقبولة حول ممارساتنا في تبرير المعتقدات الأخلاقية. إن الصورة التي في ذهني موجودة في كتابات السيردبليو دي روس. أريد أن أشير بإيجاز إلى بعض الأسباب التي تجعلنا نقوم بالتفكير في الأمور الأخلاقية كما تقترح الصورة التي يرسمها روس، وبعد ذلك سأقوم بتوضيح بعض الميزات المعرفية االذي يمثله "السياق العادي للفكر والمناقشة الأخلاقيين." إن ما ينبثق من الصورة هو وصف سياقي لبنية التبرير.

روس والتبرير في الأخلاق

أميل إلى الاعتقاد بأن بعض آراء روس حول طبيعة التبرير في الأخلاق صحيحة، فأستخدمها لرسم صورة سياقية للتبرير في الأخلاق. تقدم الصورة التي في ذهني القواعد الأخلاقية باعتبارها توفر أساسًا لتبرير معتقدات أخلاقية معينة. وعلى الرغم من أنني أعتقد أن القواعد لها دور تلعبه في تبرير الاعتقاد الأخلاقي، فإن وجهة نظري للسياقية ليست ملتزمة بالادعاء بأن تكون القواعد الأخلاقية في تفسير المعتقد الأخلاقي للفرد مبررة ضرورة في جميع السياقات.[2] وبالتالي، تهدف الصورة إلى توضيح الصيغة التي اقدمها من السياقية الأخلاقية فقط.

كان روس بالطبع اسسيا أخلاقيًا دعا إلى صيغة من التعددية الأخلاقية. تضمنت صيغته من الأسسية الأخلاقية الادعاءين التاليين: (1)هناك في الأخلاق، كما هو الحال في الرياضيات، توجد بعض "الأفتراضات أو القضايا" التي لا يمكن إثباتها، وهي لا تحتاج إلى إثبات،[3] و(2) مثل هذه الافتراضات هي حقائق ضرورية بديهية تصف الحقائق والخصائص الأخلاقية غير الطبيعية التي يمكن معرفتها بطريقة قبلية أو بشكل مسبق. وتضمنت التعددية الأخلاقية ادعاءين رئيسيين أيضًا: (3) هناك مجموعة من التعميمات ذات المستوى المتوسط غير القابلة للاختزال وتعبر عن التزامات أخلاقية للوهلة الأولى. (لا تحتاج هذه الافتراضات إلى دليل). (4) قد تتعارض هذه الالتزامات الأخلاقية البديهية الواضحة في حالات محددة للوهلة الأولى، وعندما يحدث هذا، لا يوجد إجراء أو قاعدة أو خوارزمية يمكن للمرء الفصل في هذه النزاعات من خلالها.

أقبل، مبدئيًا مع بعض التعديلات، ادعاءات روس (1) و(3) و(4)؛ لكن ما لا أقبله هو الأسسية الإبستيمولوجية ( نظرية المعرفة ) وما يرتبط بها من ميتافيزيقيا (2). فكرتي هي: يمكننا إعادة صياغة بعض آراء روس من خلال تجريدها من نظرية المعرفة الأسسية والميتافيزيقية غير الطبيعية، وإعادة تفسير الادعاءات الأخرى في ضوء الإبستيمولوجيا السياقية. تمثل الادعاءات (1) و(3) و(4) ما أعتبره صورة لجزء مهم من بنية الأعتقاد الأخلاقي المبرر. فيتضمن المنظور البنيوي في نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية، الادعاءات المركزية الأربعة التالية:

1. هناك عدد من التعميمات الأخلاقية غير القابلة للاختزال التي نكتسبها نتيجة للتربية الأخلاقية. وغالبًا ما تكون هذه قاعدة معرفيًة أساسية في السياق العادي للتبرير في الأخلاق.

2. ومع ذلك، فهي قاعدة أساسية من حيث السياق: انها لا تمثل حقائق أخلاقية واضحة بذاتها أويمكن معرفتها بشكل قبلي ولا تنتج عن تحرر ملكة الحدس الأخلاقي. وإن وضعها كقاعدة أساسية مرتبط بالسياق بطريقة سأفصلها أدناه.

3. توفر المعتقدات الأساسية للسياق (جنبًا إلى جنب مع المعتقدات الواقعية غير الأخلاقية التي تتصل بالسياق) الأساس التبريري للاعتقاد المبرر في افتراضات أخلاقية أخرى غير أساسية. وهكذا، (مع ثبات العوامل الأخرى) يمكن تبرير المعتقدات الأخلاقية الأخرى غير الأساسية إذا كانت تستند إلى بعض المبادئ الأساسية للسياق.

4. ومع ذلك، فإن الانتقال من المعتقدات الأخلاقية الأساسية- التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط- إلى معتقدات أخلاقية أكثر تحديدًا حول حالات معينة ليس دائمًا مجرد مسألة أخذ التعميم الأخلاقي جنبًا إلى جنب مع المعلومات التجريبية التي لها صلة بها والوصول الى نتيجة أخلاقية. ففي كثير من الحالات، سيكون هناك اعتباران أو أكثر من الاعتبارات الأخلاقية التي تعبر عنها التعميمات الأخلاقية الأساسية في حالة واحدة، وفي هذه الحالات لا نحتاج إلى خوارزمية أو نظام ترتيب يمكننا اللجوء إليه للفصل في النزاع. يستحوذ الحكم الأخلاقي في هذه الحالات على شيء يمكن للمرء أن يفعله بشكل أفضل أو أسوأ ولا يحتاج إلى وجود قاعدة تغطية من أجله تملي ما يكون من المنطقي تصديقه. ومع ذلك، ، يمكن تبرير تبني الأفراد معتقدات أخلاقية معينة في الحالات التي تتطلب حكمًا أخلاقيًا في السياقات العادية للفكر والنقاش الأخلاقي.

اسمحوا لي أن أوضح وجهة النظر هذه.

تشكل عقيدة 1 و3 معًا فكرة مألوفة جدًا حول بنية التبرير الأخلاقي- وهي وجهة نظر مشتركة بين كل من الأسسسية والسياقية. يأتي دعم وتاييد لهذه العقائد من الملاحظة المنطقية ومن العمل التجريبي في علم النفس الأخلاقي.[4]

إذن ما الذي تقترحه الأدلة المتاحة؟ إذا قمنا بفحص الأجزاء الفعلية من التفكير الأخلاقي، فمن المعقول أن نفترض أن تبرير الأعتقاد في الأخلاق يرتكز على معتقدات معرفية أساسية من نوع ما. ومن الطبيعي أن نفترض أنه من خلال التعبير بصدق عن أسباب اعتقادنا الأخلاقي، إننا نعبر عن البنية المعرفية لمعتقداتنا الأخلاقية. فعندما يُطلب من الناس التعبير عن أسباب اعتقادهم الأخلاقي حول قضية معينة، مثلا فأنهم يعبرون وفقًا للنمط المألوف لديهم لتقديم اعتبارات عامة تتعلق بالحالة المحددة التي يعتبرونها ذات أهمية أخلاقية. وعادة ما تصاغ مثل هذه الاعتبارات بوصفها تعميمات أخلاقية متوسطة المستوى مثل: "الكذب خطأ" و"إيذاء الآخرين أمر خاطئ". علاوة على ذلك، هناك سمتان جديرتان بالملاحظة لهذه التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط. أولاً، لقد أفاد الناس عند سؤالهم عنها أن مثل هذه الادعاءات تبدو بديهية. ويرتبط هذا الجزء من الظواهر بحقيقة أن الناس يعاملون هذه التعميمات على أنها غير تعسفية. وهذا يعني أنه لا يميل معظم الناس في السياقات العادية إلى مواجهة تحديات هذه المعتقدات بجدية - فهي تمثل المحصلة الأخلاقية للشخص بالنسبة لهم. وتشير هذه الحقائق إلى أن الكثير من الناس ليس لديهم أسباب مبررة لهذه المعتقدات التي تمثل الحد الأدنى الأخلاقي لهم. لكن لا يعني هذا أنه لا يمكن للفرد أن ينفصل عن معتقداته الأخلاقية، وأن يبقيها بعيدًا عن ألسئلة التي تتعلق بالنظرة الأخلاقية للفرد (على الطريقة النيتشوية مثلا). فأغلب الناس عندما يسألون عن تبرير معتقداتهم الأخلاقية يكونون مندهشين من السؤال حيث يعتبرون معتقداتهم الأخلاقية واضحة وبدهية. [5] ويوجد نوع آخر من الردود، كما أشار دريفوس ودريفوس أنهم يحاولون للتصرف بطريقة تجعل العالم مكانًا أفضل للعيش فيه إون أسمى مبادئهم الأخلاقية هو "افعل شيئًا جيدًا".[6]

قراءتي لكل هذا هي: توجد في العديد من السياقات معتقدات أخلاقية توفر الأساس لتبرير معتقدات أخلاقية أخرى، وليس للمعتقدات التي لدى معظم الناس العاديين سبب مبرر. لا أعتقد في هذا أنه من المعقول انتقاد هؤلاء الأشخاص لكونهم لايتمتعون بالمسؤولية المعرفية. ولديهم معتقدات أخلاقية معينة تستند إلى تبريرهم لمعتقدات أخلاقية معينة أخرى تمثل جوهر حساسيتهم الأخلاقية. علاوة على ذلك، لإنهم يعتبرون هذه المعتقدات واضحة وغير اعتباطية، وبالتالي يعرضون نوع من الالتزام العقائدي من الدرجة الثانية المميزة للمعتقدات الأساسية للسياق. هناك، بالطبع، الكثير لنقوله عن كل هذا، لكن اقتراحي هنا هو أن التفكير في هذه الحالات العادية يساعد في الكشف عن شيء مهم حول معاييرنا المعرفية عندما يتعلق الأمر بالأعتقاد الأخلاقي، أي، لا يحتاج المرء في "السياقات العادية للفكر الأخلاقي والمناقشة" إلى أسباب مبررة لمعتقدات أخلاقية معينة تلعب دورًا معرفيًا حاسمًا في كون المرء مبررًا له تبني معتقدات أخلاقية أخرى.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] Carl Wellman, Challenge and Response (Carbondale, Ill.: Southern Illinois University Press, 1971);

Charles Larmore, Patterns of Moral Complexity (Cambridge: Cambridge University Press, 1987);

and Jeffrey Stout, "On Having a Morality in Common," in Prospects for a Common Morality, eds. G. Outka and J. P. Reeder (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1993).

يتبنى هؤلاء المفكرين صيغة أو أو اخرى ن السياقية البنيوية حول المعتقد الأخلاقي.

[2] لذلك ، على سبيل المثال ، في سياقات محددة ، قد ينطوي تبرير الاعتقاد الأخلاقي على مناشدة نهائية للنماذج الأخلاقية ، أو ربما بدلاً من ذلك مجرد مناشدة لخصوصيات حالة معينة قيد التدقيق ، وقد لا تلعب القواعد الأخلاقية أي دور على الإطلاق. أنا هنا أفكر في الآراء المعرفية لما يسمى بالخصوصية الأخلاقية. انظر ، على سبيل المثال:

Jonathan Dancy, Moral Reasons (Oxford and Cambridge, Mass.: Blackwell, 1993), chapters 4- 7).

[3] W. D. Ross, The Right and the Good (Oxford: Oxford University Press, 1930), 30.

[4] حول علم النفس الأخلاقي أنظر مثلا : الربيعي، د. علي رسول:

https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwj8g96s2cT8AhWPWcAKHdpOBtgQFnoECAsQAQ&url=https%3A%2F%2Fhdf-iq.org%2F%25D8%25B9%25D9%2584%25D9%258A-%25D8%25B1%25D8%25B3%25D9%2588%25D9%2584-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B1%25D8%25A8%25D9%258A%25D8%25B9%25D9%258A-%25D8%25B9%25D9%2584%25D9%2585-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2586%25D9%2581%25D8%25B3-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D8%25AE%25D9%2584%25D8%25A7%25D9%2582%25D9%258A%2F&usg=AOvVaw1_apMJXtnCM8Ya0qvpQhaJ

[5] Carol Gilligan, In a Different Voice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1982);

"Moral Orientation and Moral Development," in Women and Moral Theory, eds. E. F. Kittay and D. T. Meyers (Savage, Md.: Rowman and Littlefield, 1988);

Carol Gilligan, J. V. Ward, J. M. Taylor, and B. Bardige, Mapping the Moral Domain (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1988).

[6] Hubert Dreyfus and Stuart E. Dreyfus, "What is Morality? A Phenomenological Account of Ethical Expertise," in Universalism vs. Communitarianism, ed. D. Rasmussen (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1990), 252.

 

"لا تقف الفتوي على أعتاب الدين فقط، بل تشكل أيضاً رؤى الفكر والحياة.."

"يمارس المفكر العربي أفكاره بذهنية الإفتاء التي رضعها من الثقافة الموروثة والسائدة.."

أوصافٌ كثيرةٌ هي التي وسمت كوكبَ الأرض، منها الكوكب الأزرق بفضل الألوان الزرقاء التي تعكسها مياة البحار والمحيطات والأنهار، ومنها كذلك أنَّ الأرض هي الكوكب الأخضر ارتباطاً بكونها مغطاةً بالغابات والنباتات الخضراء. وليس هذان الوصفان الطبيعيان هما الوحيدين فقط، بل قد يُوصف كوكبنا بألوان ثقافيةٍ أخرى: كوكب العولمة، كوكب الشركات العابرة للحدود، كوكب أنماط الحياة المتنوعة، كوكب الضوضاء، كوكب الحروب والصراعات.

لكن من قبيل الإتيان بجديدٍ لدى متابعي القضايا والمشكلات، لماذا لا توجد هناك أوصاف مغايرة؟! في هذا الباب المفتوح على مصراعيه، يمكن أنْ نسمي الأرض بـ" كوكب الفتوى ". بيد أنَّ وصفاً كهذا به حتى ظلم للفتوى التي غدت (أفقاً معرفياً ونموذجاً عقلياً) في أغلب مجالات الفكر والمعرفة والثقافة!! فهي الآلية التي يعرفنا بها العقل العربي على الحياة والعالم والطبيعة، وهي واسطة النظر إلى المجتمعات العربية من خلال التواصل المعرفي بين الأفراد. الحق يُقال إنَّ الفتاوى في واقنا المعيش قد تجاوزت الأرض، أمست كوكباً مستقلاً بذاته، كوكب يظهر وقت الأزمات والكروب والعواصف السياسية والاقتصادية ووقت الأوبئة العاصفة بالمجتمعات ووقت الركود الفكري والتراجع الحضاري. مثل عواصف (كوفيد19) التي جعلت الكوكب معصْوبَ الرأسِ، ومُغطّى بكماماتٍ فوق أنفاسه خلف بعضها البعض!!

وإذا كان للقرود كوكب مستقل في السينما العالمية، كحال الفيلم الذي يحمل العنوان نفسهPlanet of the Apes وهو فيلم خيال علمي إنتاج عام1968 ومن إخراج فرانكلين ج. شافر، والفيلم مقتبس من رواية كوكب القرود التي كتبها بيير بول.. نقول إذا كان ذلك كذلك، فلماذا على المنوال نفسه لا يكون هناك كوكب الفتاوى؟! لا لشيء بعينه من قبيل التشبيه ولا التقليل من الإفتاء في مجاله الخاص، إنما لكون بعض فئات رجال الدين ورجال الفكر والثقافة يحاولون أنْ يستقلوا بالدين والفكر والثقافة دون سواهم. ولا يكفون عن غزو الأرض- كل الأرض- بما لديهم من فائض رغبات وفتاوى لا تنتهي. وكأنَّهم يعيشون بمفردهم على كوكبٍ لا يطأهُ الآخرون. وبعضهم يريد العكس، أي أنَّه يأخذ الناس إلى كوكب آخر لينفردوا بهم، وقد فرشوا هذا الكوكب بالفتاوى، وأنبتوا أشجاره وغاباته من الفتاوي، وأسّسوا المنازل والأسواق من الفتاوي، ووضعوا لافتات من الفتاوي، وخطّطوا طُرقات ومُدن الكوكب من الفتاوى أيضاً.. وهلم جرّا!!

الفتوى والتخطيط الكوكبي يبدوان كصنوين في ذهنية هؤلاء الناس حتى اللحظة. بالفعل هناك هوسٌ محموم بالتحكم في عقول الآخرين وتوجيههم أينما حلُوا. ذلك منذ أن كانت الفتوى تحمل كرسي الحاكم العربي ذاهبةً به إلى حيث يريد. ومنذ أنْ نُسجت ملابسه المهيبة والمقدسة من الفتوى، رغم أنه قد يكون قاطعَ طريقٍ أو قاتلاً أو سفاحاً على رؤوس الأشهاد. وتلك الفكرة ليست سهلةً في التراث العربي مثلما نتحدث عن وظيفة البيانات وخطابات التأييد للحكام ورجال السلطة. فكل الكائنات لا تعرف الفتوى، بينما لو سبرنا أغوار الإنسان وأحواله، لكان هو مجرد إنسان لاجئ في حظيرة الفتوى، إذ تحمله إلى ما لا يدرك. وتفرض طبيعة عملها الثقافي على تفاصيل حياته شاءَ أم أبى وسط غياب المصادر الحقيقية للمعرفة وتطور العلوم والتقدم الفكري.

على سبيل المثال، فإنَّ الفتوى الدينية بالتحديد هي عمل لاحق دائماً، لا يمكنها أنْ تكون أصلاً أو مرجعاً بذاته. فهي تقيس ما هو حاضر على ما هو غائب، وتقرن ما لا نعلم بما نال اليقين بالضرورة. والرابط بينهما (الحاضر– الغائب) هو الإعتقاد في صحة الإتصال بين حالين، أحدهما ماض ولا يمكن الإتيان به، لكونه قد انقضى، بينما الآخر ماثل أمامنا ولا نملك الهيمنة عليه ولا معرفة تفاصيله على وجه الدقة. ومن ثمَّ، فإنَّ (الحالة المستفتي عنها) تأخذ أهميتها من حالات سابقةٍ بالضرورة، وتقف على قدم المساواة معها بالتبعية. وعليه، فكان هناك حثٌّ دائم على مرجعية معينةٍ هي الأصوب والأقرب للصحة، وأنَّها الأقوى في ترجيح الأمور نحو ما تقوله الفتاوى. وإلى هذا الحد كانت الفتوى تؤدي وظيفة دينية مطلوبة مع تجدد العصور والابتعاد عن الأصول، وكانت تجيب عن أسئلة الناس الملحة والطارئة.

ولكن عندما تصبح الفتاوى مجرد معرفة مكررة تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، وتختزل الدين كله في أحكام، فهنا بيت القصيد المعبر عن الانحراف والتضخم الرمزي لتلك الوظيفة التواصلية. ولذلك كلما ذهبت الحياة إلى أقصى ما تريد بحكم التطورات والتحولات الزمنية، تستوقفها الفتاوي الدينية وتعيدها إلى نقطة البداية مرة أخرى مذكرةً أياها بأنَّ هناك أصلاً واحداً يجب الإرتباط به. والفتوى من تلك الزاوية أحد أسباب التراجع الحضاري في العالم الإسلامي، لأنّها ترتبط بأحكام الدين مغلفةً بالثقافة ومراحلها الماضوية. أي لا تنظر إلى الدين الاسلامي مجرداً من نمط الحياة والظلال الفكرية عليه، إنما تخلط الأصول بالممارسات الأخرى. وتعتبر هذا الخلط من جوهر الفتاوى الراهنة دائماً، رغم أنها قديمة قدم التاريخ. وحين لا تتغيا الفتاوى إحكامَ الدين خالصةً، فإنها تأخذ بالمبررات الثقافية كقرينة على الدين وتؤصّل لتجسُد الأحكام في الواقع، وهذا ما يجعلها تُسيء عادةً فهمَ الظروف المعاصرة للمجتمعات.

التدرُج في تلك العملية يقول إنَّ الفتوى انتقلت من تبيان الأمور الشرعية مع تغير وتصريف أحوال الناس إلى أنْ أمست شرطَ الاعتقاد والإيمان. أي ارتهن الدينُ نفسه كنظام روحي واعتقادي وحياتي بطبيعة الفتاوى. بل أخذت الفتوى مكان الدين وحلحلت أواصره وبات اعتقاد الناس في الفتاوي أغلظ من اعتقادهم في الأصول وكتاب الوحي والسنة النبوية الصحيحة، وباتوا يترقبونها كمن يترقب طوق النجاه الأخير من غوائل الزمن ومن مشكلات الحياة. ولهذا كانت وظائف الفتوى أكثر خطوةً ألحقت ضرراً غير مباشر بالدين والناس جنباً إلى جنبٍ. ولا يخفى على القارئ أنَّ التاريخ يرسخ الممارسات الخطأ ولو لو كانت كذلك خاطئة أمام الناس، وقد يزحزح التاريخُ الناس والمجتمع عن الممارسات الصحيحية ولو كانت كذلك صحيحة. لأنَّ الأمر مرهون بغلبة نمط الحياة السائد بكل تعقيداته ومركزيته، إذ يكتسح ما يقابله من أحوال صانعاً لواقع جديدٍ ليس أكثر.

من ضمن آثار غلبة الفتوى أنْ تحول (العقل العمومي والفردي) لدى العرب المعاصرين إلى عقل قائمٍ على الفتوى. والمقصود أنَّ هناك (بنية عميقة) تشكل طرق التفكير والتواصل وانتاج المعرفة وهي البنية الثقافية اللاواعية التي تتحكم في أنشطة المثقفين والأفكار الناتجة عن الكتابات والأقوال الخاصة بهم. وتلك البنية تتشكل بطرائق وأساليب وسريان الإفتاء دون نقاش ولا حوارٍ. فحينما يتحدث ما يسموّن أنفسهم بالمفكرين والأساتذة والمثقفين يقفزون فجأة - ضمناً أو صراحةً - إلى مقاعد الإفتاء. بالضبط مثلما يتسلم رجل الدين الموقع نفسه في النظام الديني التقليدي، وهو المأخوذ عن جوانب لاهوتية وسياسية في التاريخ العربي والإسلامي.

لقد أسست الفتوى (جوانب العقل) في الثقافة العربية طوال الوقت انتقالاً من عصرٍ إلى آخر، واستمرت في تغذيته بالمداد نفسه الذي يمهرُ به رجل الدين خطاباته ومدوناته وشروحاته. ولذلك ليس بعيداً عن الملاحظة كون الإفتاء وظيفة سياسية نشطة لا خاملة، قوية لا ضعيفة، نافذة الدلالة لا مترددة. لأنها الجانب القائم على الرأي والمبررات والتأصيلات التي يمكن الخروج بها بحسب الحالة المستفتي عنها. كما أنَّ الفتوى تغطي المساحة المتأرجحة من الآراء الحرة لدى عموم الناس، وتغطي المساحة الافتراضية بين الحاكم وسلطة الدولة والمجتمع إزاء الأفراد وخضوعهم للنظام العام. وليس هذا البُعد فقط، لكنها تحسم الصراع بين الإرادات على أحوال المجتمع والأفراد. وكأن تلك الفراغات الثقافية ستكون في مأمن طالما ستخرج فتاوى لصالح أولياء الأمر.

وأقرب الظن أنَّ تلك الحالة هي التي شكلت آفاق المثقفين وأصحاب الفكر وظلّت تتحكم في إنتاجهم القولي والكتابي بالمثل. وأنَّ الذهنية التي يفكرون بها ذهنية فتوى لا أكثر ولا أقل، ذهنية لا تعتمد على الجدل والنقاش والبحث والتقصي المبدع، فهذه الأشياء تتطلب أدوات معرفية مغايرة وتحتاج إلى مفاهيم عقلية مختلفة عن الإفتاء. أي أن رجل الفكر والإبداع لدينا نحن العرب: هو المثقف- المُفتي، هو الشاعر- المُفتي، هو المفكر- المفتي، هو الكاتب- المفتي، هو السياسي- المفتي، هو المعلم - المفتي، هو المتحدث - المفتي، هو المحلل- المفتي، هو الخطيب- المفتي.. كل تلك المواقع الثقافية المزدوجة تبقى في جميع أحوالها مضروبة في الإفتاء قلَّ أو زادَ عن حده. وهو شخص واحد برأسين متوازين يحدثنا بهما معاً، احداهما تقبع خلف الأخرى وتتسابقان في التكلم وإبداء الآراء.

والأغرب أنْ ينطبق هذا الضرب الحسابي على المثقفين الذين لا يميلون إلى التوجهات الدينية، سواء من أصحاب الأفكار العقلانية أو التنويرية أو العلمانية أو غير ذلك إلى أخر القائمة. ستجد هؤلاء عقلانيين بمنطق الإفتاء، يفتون في كل شيء ولا يرجعون إلى مفاهيم التنوع والاختلاف ولا يقبلون رأياً معابراً آخر. وستجد أولئك تنويريين ببغاوات وإمعات قح، لكنهم يرتدون عباءة الإفتاء والأقوال المستندة إلى أصول فلسفية غربية بالمنطق ذاته. وستجد بخلاف هؤلاء وأولئك، علمانيين يطلقون الأحكام في كل اتجاه ويمارسون دور رجال الإفتاء على الأصالة، ويصورون الزمن والمستقبل في ضوء مرجعية دنيوية على شاكلة المرجعية الدينية، ويمارسون التعصب الأعمى كأي مُتشددٍ أو مؤدلج دينياً.

على هذا المنوال، كثيراً ما يشترك بعض رجال التنوير والعلمانية والعقلانية مع رجال الإفتاء فيما يلي:

أولاً: التشبث بالأصول:

إذْ يحرص هؤلاء جميعاً على وضع أصولٍ ثابتةٍ تحت بصرهم ووعيهم. وفي مجال الدين والإعتقاد، قد نعرف ما المقصود بالأصول تحديداً، وعادة ما تخضع الأصول المتعارف عليها للإيمان الذي محله القلب والروح. وهي أمر محمود حتى يحافظ الناس على صحيح الدين وأصول العقيدة. أما الفئات الأخرى من التنويريين والعلمانيين والعقلانيين، فلا ندري لماذا يكررون الأصول ويثبتونها كأنها وحي راسخ لا مرد له؟! ولماذا يضعون نتاج الثقافة الغربية الحديثة بإعتبارها الأصول الحاكمة لفكرة التنوير والعقل والعلمانية في تاريخ العالم قاطبةً؟! حيث يظل هؤلاء الثلاثة يدافعون عن الأصول الفلسفية الغربية دون مللٍّ، حتى ضد ما تقول هذه الأصول ذاتها!!

ولئن كان الإفتاءُ عبر فضاء الدين أمراً خاصاً بتبيان الأحكام الشرعية إزاء الأحداث والأعمال التي لا حكم صريح فيها، فالتنويريون والعلمانيون والعقلانيون يبينون حكم الأصول على أحوال المجتمعات كذلك. ويبدون في فكرهم كأنهم نسخ بليدة وخائبة من أصول لم يكن منبتها الثقافة العربية الإسلامية. إنه"البؤس الإفتائي" الذي يسكن ذهنية هذا القطيع الثقافي الجديد، ويحركه أينما ذهب بشكل أعمى البصر والبصيرة. وتلك الفكرة توجد بصورة متفاوتة بين هؤلاء الثلاثة (التنويريين والعلمانيين والعقلانيون). تجد أحدهم يفهم التنوبير على أنه خطاب لحُوح ومكرر بصورة غثة خارجاً من قضية إلى أخرى، فتكتشف أنها الدائرة نفسها لمرجعية مشوهة. فيأخذ في ترديد العبارات والكلمات والنقول من غير فهم ولا أصالة ولا فهم، كأنه رجل" إفتاء قُح " لا يملك من واقعه غير قياس الحاضر على الغائب.

ثانياً: الدعوة والداعية:

 يتبنى (التنويريون والعلمانيون والعقلانيون) أفكارهم وكلماتهم بمنظور الدعاة، يطلقون المماحكات اللفظة نفسها والجري وراء المعاني البعيدة. ويتحولون إلى دعاة بحرفية الكلمة متنطعين بالعبارات، ويقدمون أفكارهم بأساليب الفتوى من جهة الشرح والتوضيح والتأثيل الذي يرد الأفكار إلى مفاهيم ونصوص غربية المصدر وشرقية التكرار.

بحسب المناخ الثقافي العام، يستعمل هؤلاء خطاب الدعاة علانيةً، وكم ريناهم على وسائل التواصل، وعلى بعض التلفاز وهم يعبرون بممارسات الوعظ المعرفي وبأساليب المداحين والبكائين والنداهين على السلع الفكرية البائرة في البيئات الشرقية. وهذا لا يؤسس ثقافة مغايرة ولا يقدم حلولاً لمعضلات الفكر والواقع ومفارقاته. لأنَّ هؤلاء جزء أصيل من الأزمة التي تمر بها المجتمعات العربية الإسلامية ولا يشكلون خطوة نحو الحل. فهم مع تقدم العالم فكرياً يرتدون إلى النموذج الأولي الذي يسكنهم، نموذج الفقهاء ورجال الفتوى.

ثالثاً: آلية التبرير:

طوال الوقت يذهب مثقفونا التنويريون والعلمانيون والعقليون إلى تبرير خطابهم بشكل نصوصي textually، أي التخفي من الحياة داخل النصوص والإقتباسات. لم يعودوا فاهمين للواقع والحياة، وإلّا لغيروا مواقف النقل والتدبيج عن الآخرين، إنما التبرير على غرار الفقهاء في عباءة السابقين من الشيوخ والعلماء.

وهناك منهم من يطلق على نفسه فقيهاً بصريح القول، بل اعتبر الفقه مرتبة تمنى لو وصل إليها يوماً ما، بينما ينسج بعضهم الآخر أقوالهم بماء الفتاوى الفقهية واقعاً في دائرة التبرير الدجمائي ليس أكثر. والتنويريون العرب كارثة ما بعدها كارثة: أغلبهم مقلدون يغلفون أفكارهم بمزيد من التوقُح الفارغ ضد الناس ومعتقداتهم. وعلى الرغم من كون الواقع أسوأ من ذلك، لكن هؤلاء كانت مبرراتهم رديئة وواقعة في فخ الذهنية التي ينتقدونها طوال الوقت. التنويري لدينا مجرد لص نصوص وأفكار في أفضل الأحوال، وفي أدق المعايير لا يستطيع انتاج فكرة مبدعة ترى المشكلة الحقيقية وتعالج المواضع السلبية.

رابعاً: من أعلى إلى أسفل:

الإفتاء يعطّي صاحبه - بوعي أو بدونه - مرتبة العارف والمشرَّع البديل تدريجياً. حتى وإنْ كان في مرتبة المستنبط لأحكام الشرع إزاء القضايا المستجدة، فإنَّه في الثقافة يحتل هذه المكانة المقلوبة لما يفعل. والمدهش أنَّ التنويريين يتعاملون بالذهنية ذاتها مع الواقع البائس الذي يعيشون فيه، فهم يتكلمون بلهجة التعالي الأجوف ويمارسون الخُيلاء والصفاقة الخطابية بمنطق: نحن الأعرف بأمراض الثقافة!!

إن ذهنية الإفتاء بطبيعتها الثقافية ذهنية متسلطة، لأنها تقول كل شيء في أي شيءٍ وتفتارض أن السائل سيتقبل ما يقال دون اعتراض، وتبادر إلى ذلك في جميع المواقف، وهي نوع من التعالم المتخفي في قول الحقيقة.

واللعبة معروفة في فرض الآراء والتوجهات دون اعتناءٍ بماهية الواقع نفسه، وبات المشتغلون بالفكر كأنهم أصحاب شرائع وأديان بالفعل. وصحيح أن كانط حصر وظيفة العقل في التشريع للعقل من جهة ممارسته بشكل مفتوح وحر، غير أن هؤلاء لدينا مشروعون لصنف منقرض من الوظائف: هي وظائف الكهانة الجديدة. وارتدوا القبعة العصرية فوق العمامة الدينية، وإذا نزعت القبعة الملونة ستفاجأ بهذه الذهنية الكامنة في كافة التفاصيل.

والأنكى أنَّ التنويريين يلمون عقول الناس حولهم بأساليب الأتباع والتابعين باحثين عن الرواج والتداول. تجدهم مهوشين على وسائل التواصل الإجتماعي بطريقة الشيخ والمريد، الخطيب والمتلقي، المفتي والمستمعين. هذا النموذج الرديف المكمل لذهنية الإفتاء التي لم يفلت منه مثقف ولا مفكر عربي واحد. وسرعان ما تُعمدّه الثقافة العربية على نطاقٍ لم يكن ليحتمله ولا يتوقف عنده بالضرورة.

السؤال: لماذا ينتشر "برادايم الإفتاء" على نطاق واسع؟!

جميع الأمثلة السابقة تقول شيئاً واحداً: إن تلك الذهنية هي الذهنية التي تجد سلطة نافذة بين الناس، وترسخها الممارسات السياسية والإجتماعية المختلفة. فكمْ لدينا من مسئولين يتشوفون إلى ذهنية الفتوى باستمرار دون ضابط ولا رابط. وذلك لغياب الوعي ولغياب الشفافية وقتل البحث الحر عن الفكر والمعرفة.

المثقف لدينا يأتي دوماً متأخراً عن قطار الحياة بسنوات وسنوات وربما قرون وقرون، فيتثبث بكل ما يعطيه المكانة والقيمة في المجتمع، كما أن ذهنية الإفتاء تُلخص جميع معضلات العقل والتفكير والتواصل والسلطة والممارسات العامة في الثقافة العربية الإسلامية. والمثقف يبحث عن المجد الغابر الذي لم يصنعه متمسكاً بأضابير الدين قدر ما يستطيع، محولاً عقله إلى جراب حواه أمام الجماهير التي يحلم بتصفيقها على وسائل التواصل الإجتماعي. وقد أعطته الأخيرة فرصة الإفتاء المجاني وجعلته صاحب مكانة مدفوعة التبريرات مسبقاً. وأخذ المتابعون يتلقطُون غثاءه كحبات الألماس النادرة، وهو لا يعدو أنْ يكون بهلوناً جديداً في مُسوح الكاهن الأشر.

***

سامي عبد العال

(الواقع الراهن- رؤية ابستمولوجية)

لا يخفى على العاملين في الحقل الاجتماعي أن علم الاجتماع في البلدان العربية كان ومازال دون آفاق مجتمعية، ما زال غريباً عن المجتمع، لأنه لم يولد في رحم هذا المجتمع، ولم تشكل ملامحه الثقافة العربية، ولم تكون هويته الفكرية.

إن علم الاجتماع العربي علم مقهور وخائف، شأنه شأن الإنسان الذي يريد دراسته، وما دام هذا هو وضع الإنسان، موضوع علم الاجتماع، كيف سيكون حال علم الاجتماع؟

إذا كان علم الاجتماع صوت الإنسان في التاريخ والحاضر، أو هو الضمير الأعلى للمجتمع وقراءة علمية للتغيرات الفكرية والثقافية والمجتمعية، فإن الإنسان العربي دون صوت دون علم يدرس هواجسه وهمومه، وما لنا إلا أن نراجع أدبيات هذا العلم، لنرى أنه ليس علماً عربياً، ولا نقرأ فيه صورة الإنسان العربي المقهور، إنه تجميع من هنا وهناك، إنه ظاهرة عبثية، ويدرّس في مجتمع، لا يمت بصلة إليه، ولا قيمة له في هذا المجتمع ما دام لا يساهم في فهم العالم الاجتماعي وتفسيره. كما أنه لا يعبر عن تحولات مجتمعية وثقافية وتاريخية، بل هو علم مستورد، مع أنه يعود للعلامة ابن خلدون 1332-1406، الذي تناول في مقدمته إشكالية تكوين المجتمع العربي والإسلامي.

وفي هذا المقال سنسعى إلى تناول أهم الإشكاليات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربية، القائمة في بنية العقل والثقافة العربية، والتي أعاقت استقلال هذا العلم وتحديد صورته وميادينه. فحتى الآن مازال الباحثون يتناقشون حول دور علم الاجتماع وأهميته، ومنهم من يخلط بينه وبين الخدمة الاجتماعية، وهذا المجتمع يعاني من مشاكل اجتماعية لا حصر لها، وهو في أمس الحاجة إلى هذا العلم أكثر من أي وقت مضى، لأن علم الاجتماع لا يدرس المشاكل الاجتماعية ويساهم في حلها فقط، بل يساهم أيضاً في تطوير رؤية فكرية واجتماعية للمجتمع، وفي تكوين الشخصية والهوية الفكرية للمجتمع.

- الإشكاليات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربية:

يشير مفهوم الإشكالية إلى أنه سؤال مطروح يطلب حلاً أو مسألة علمية أو نظرية لا يوجد لها حلاً، وتكون الإشكالية أولية حينما يضعها الباحث ويبنى عليها فرضياته أو خطة بحثه، وعندما يجمع الباحث المادة العلمية، ويبدأ في دراستها وتمحيصها ثم تنقيحها أو تعديلها وإضافة إليها ما يلزم تصبح نهائية. أي أن الإشكالية قضية كلية عامة تثير نتائجها الشكوك بحيث أنها تقبل الإثبات أو النفي أو الأمرين معاً. والإجابة في الإشكالية غير مقنعة وتبقى دائماً بين أخذ ورد.

ويعتبر بعض المفكرين الإشكالية كمظلة تتسع لكل المشكلات، تتمثل في أن المشكلة جزء من الإشكالية حيث إن الإشكالية مجموعـة من المشكلات الجزئية، فإذا استطعنا أن نحدد موضوع الإشكالية عرفنا المشكلات التي تتبعـها. وبمعنى آخر، المشكلة طابعها جزئي، والأسئلة التي تتناولها أسئلـة جزئية بينما الإشكالية طابعها شامـل وعام يتناول القضايا الكبـرى.

وهذا يعني أن القضايا التي تطرحها الإشكالية هي قضايا عميقة عالقة فـي الفكر الإنساني تعكس البحث الدائم للإنسان من أجل أن يتكيف مع الوسط الذى يحيط به.

يعاني المجتمع العربي من مجموعة من الإشكاليات البنيوية، بسبب حالة الانغلاق الفكري والمجتمعي وغياب التجديد البنائي والثقافي والعقلي. هذا الركود الثقافي جعل المجتمع لا يتفاعل مع الأزمات الأحداث الكبرى، مما أفقد حسه التاريخي، فالتاريخ ليس هو الماضي بل القدرة على صناعة التاريخ. وعلى العموم تصدر المشهد المعرفي لولادة علم الاجتماع العربي مجموعة من الإشكاليات، وهي كالآتي:

1- إشكالية العلاقة بين علم الاجتماع والتراث:

يُعرف التراث بأنه ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ... كذلك فكل الناتج الثقافي للأمة يمكن أن نقول عنه " تراث الأمة ".

وفي حقيقة الأمر يخضع الفكر العربي لوصاية التراث والمجتمع، ولم يتجرأ حتى الآن على خوض الصراع مع المرجعية التراثية (العادات والتقاليد والخرافة والمعرفة اللا علمية)، التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع المقدس في المخيلة العربية. حيث إن كل ماضٍ مقدس، وكل مقدس يتم توارثه دون مراجعة. فالمجتمعات التي تقدس التراث يكون العقل أول ضحاياها. وهذا يصدق على الواقع الاجتماعي الذي تحكمه العادات والذي لكثرة ما سمعه الناس، وَقَرَ في نفوسهم كشيء مقدس. وعلم الاجتماع طبيعة الحال هو ضحية هذه النظرة اللا عقلانية، التي تضع التاريخ والثقافة خارج النقد والتقويم، مما يعيق دور علم الاجتماع بمعالجة المشاكل الجوهرية التي يعاني منها الواقع العربي.

2- إشكالية المرجعية:

يعني مفهوم المرجعية الرجوع إلى المرجع في كل عمل وعدم الانحراف عنه ويمكن تفصيل آلية المرجعية في خطوات كالتالي:

أ‌- هي أن يرجع النظام إلى المرجع ليقارن نفسه به.

ب‌- يلاحظ مدى انحرافه عن المرجع.

ت‌- يستفيد بهذه الملاحظة ويبني عليها عمل تصحيحي يؤدي لتقليل انحرافه عن المرجع.

ث‌- أن يكون العمل التصحيحي مناسب وفي وقته فلا يكون أقل مما ينبغي ولا مبالغ فيه ولا يكون في وقت غير مناسب.

ج‌- يعود مرة أخرى إلى المرجع ليختبر صحة الخطوات السابقة وهكذا لكل عمل. والمراد بالمرجعية ثلاث مستويات:

- المستوى الأول (وهو أعلاها): الإطار الكلي والأساسي المنهجي والركيزة الجوهرية في أي خطاب أو ملة أو دستور أو نظام.

-  المستوى الثاني: المصادر والمستندات والأدلة التي يعتمد عليها لتكوين أي نوع من أنواع المعرفة.

- المستوى الثالث (ممثلو المرجعية): هم الأشخاص الذين يعاد إليهم في الشؤون العلمية أو العملية.

وفي حقيقة الأمر يعاني علم الاجتماع العربي من غياب المرجعية الموحدة، وفي الوقت نفسه من تعدد المرجعيات، ونقصد بالمرجعية مركز المعنى أي النظام الرمزي للمجتمع القائم على مركز معنى متخيل. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان الدين في العالم الغربي المعنى في العصور الوسطى، والآن أصبح الإنسان والاقتصاد الرأسمالي هو مركز المعنى للحداثة، أما علم الاجتماع العربي فيفتقر للمرجعية المجتمعية. إن القضية المركزية التي يستند عليها العلم وينطلق منها هي العقل. فالعقل هو المرجع الأولي لدراسة المجتمع وتفسيره، عندها يتحول علم الاجتماع إلى فكر تاريخي وديناميكي مرتبط بالحياة والواقع، ولكن حتى الآن ما تزال المرجعية المعرفية لعلم الاجتماع العربي هي الغرب والشرق، وليس العقل والفكر والإنسان العربي.

ويجب أن يكون الإنسان مشروع علم الاجتماع وهدفه، وعندما نقول ذلك نقصد أن الوظيفة الأساسية لهذا العلم تكمن في قيام مجتمع إنساني يحترم إنسانية الإنسان، ويؤسس مؤسساته على أساس هذه المعايير. كما ينبغي على علم الاجتماع العربي الأخذ بالحسبان خصوصية المجتمعات العربية الدينية (العامل الديني الذي يوجه كل مناحي الحياة) باعتبارها مرجعية أولية مع العقل في دراسة وحل القضايا والمشكلات الاجتماعية من منطلق أن الإيمان لا يتعارض مع العقل والعلم.

3- إشكالية غياب المداخل المنهجية والنظرية:

في هذا السياق نقصد بالمداخل النظرية مجموعة من القضايا الفكرية، التي تتداخل مع بعضها البعض منطقياً، بغية تكوين النسق النظري لها، الذي يتم من خلاله تحليل وتفسير ونقد الواقع الاجتماعي. بمعنى آخر يمكن القول بأنها كيان نظري له مبادئه وقضاياه الرئيسية التي توجب على أي بحث علمي مستنداً إلى هذا الكيان أن يشتق فروضه الرئيسية منه، ثم بعد ذلك استخدم المقولات الرئيسية للكيان النظري في عمليات أخرى: كالوصف والتحليل والتفسير والتنبؤ.

ويمكن القول أيضاً إن المداخل النظرية تتشكل من مقولات وقضايا نظرية بناءً عليها يتم إدراك الواقع الاجتماعي من خلال إعطاء تصورات متباينة وتنظيماً محدداً لمتغيراته وطبيعة واتجاه التفاعل بين هذه المتغيرات.

أما مفهوم المداخل المنهجية فيمكن القول بأنها أقل تجريداً من المستوى السابق الذي يتعلق بالمبادئ الأساسية للمداخل النظرية في علم الاجتماع، فالأسس المنهجية تتعلق بطبيعة الحال بالمداخل المنهجية التي تمثل زاوية الاقتراب من قضية البحث موضوع الدراسة، وعليه يمكن القول إن المدخل المنهجي أكثر ارتباطاً ببناء النظرية لأن المقولات النظرية هي التي تفرض هذا المدخل أو ذاك. وبالمقابل فإن المدخل المنهجي بدوره هو الذي يحدد مناهج وطرائق البحث المناسبة في هذا البحث أو تلك القضية.

بناءً على ما تقدم نجد أن معظم دراسات وأبحاث علم الاجتماع في البلدان العربية تتصف بالفقر الابستمولوجي والنظري والمنهجي. صحيح أن المناهج البحثية عالمية بما أنها تستند إلى جوهر خطوات المنهج العلمي، لكن بطبيعة الحالة مضامينها محلية وثقافية واجتماعية. فمن يقرأ دوركايم، ماركس، وفيبر، وغيرهم يقرأ التاريخ الاجتماعي والأوروبي والثقافة الأوروبية لأن علم الاجتماع بنظريات ومناهجه رغم اختلافه جاءت استجابة للواقع الغربي بكل ملامحه وتجلياته. ولهذا لا يتطور الفكر الاجتماعي إلا في سياق تاريخي واجتماعي محدد. وهنا يجب أن نشير أن إنتاج المعرفة لا يتولد إلا داخل فضاء فكري منفتح، أما الفضاء الفكري المنغلق فإنه عقيق لا يتفاعل مع مجتمعه. وهذا يعني أن الثقافة العربية ثقافة مغلقة متخلفة عن زمانها وعصرها، أما الثقافة المنفتحة فهي بنت زمانها. لهذا لم يفرز الفضاء الفكري العربي نظريات ومناهج تعبّر عن واقع مجتمعاتنا وتتوافق مع خصوصيتنا، كما توافقت النظريات والمناهج في علم الاجتماع الغربي مع منطلقات الواقع الأوروبي ومفرزاته.

4- إشكالية علماء الاجتماع العرب ومسؤوليتهم الأخلاقية والعلمية:

فمن المعلوم أن النظريات والمناهج الاجتماعية طورها علماء وهبوا أنفسهم للعلم، وقد فهم هؤلاء العلم رسالة ومسؤولية، رسالة لفهم الكون وتفسيره والحفاظ عليه، ومن ثم فإن للمناهج بعد قيمي وأخلاقي وإنساني، وهذا تأخذه عن الثقافة.

وقيم المفكرين تجسدها مناهجهم، وهذا ما تعبر عنه علاقة المنهج بالإيديولوجيا، وبإنتاج المعرفة والفكر مرتبطتين بطريقة رؤيتنا للكون. فعلى سبيل المثال، فإن المنهج الفيبري، أو المنهج التاريخي الاجتماعي المطبق على دراسته) الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية)، يرى أن حركة الإصلاح البروتستانتية، هي التي أسست الحضارة الغربية، فهو يقرأ تقدم المجتمعات وتخلفها من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. كما نجد إيديولوجيا ماركس قائمة في منهجه، وكذلك إيديولوجيا فيبر وبارسونز.... إلخ، والإيديولوجيا فكر وقيم سياسية وثقافية ومعرفية. ولا نجد عالماً ذا مدرسة دون هذا البعد الإيديولوجي، والعلوم الاجتماعية كلها ليست بعيدة عن الإيديولوجيا، والإيديولوجيات هي الرؤى المتعددة للكون، وإن هذه الرؤى المختلفة هي التي تكون النظريات والمدارس، فتبرز المدراس الفكرية بقدر ما يوجد من اتجاهات نظرية.

نستنتج مما سبق أن مدراس علم الاجتماع طورها مفكرون وعلماء أصحاب رؤى سوسيولوجية. وهذه الرؤية تسعى إلى دراسة وتحليل وتفسير وتطوير الواقع الاجتماعي لأنها قائمة على المنهج والنظرية. فالبعد الإيديولوجي، أو الحكم القيمي هو أساس التنظير ولما غاب التنظير عن علم الاجتماع العربي، فقد غابت عنه المدارس والاتجاهات الفكرية المفسرة للمجتمع، ذلك أن التنظر ليس عملية خارج المجتمع والتاريخ، وإنما يتم في سياق ثقافي ومجتمعي وتاريخي معين. وما سردناه عن النظريات السوسيولوجية ينطبق على المناهج وطرائق البحث الاجتماعي، فهذه تمثل جانب الضعف في علم الاجتماع وهي مرتبطة بالنظريات فلا يقوم التنظير دون منهج، ولذلك نلاحظ أن غياب الاتجاهات والمدارس عندنا، إنما يعود إلى ضعف الانتماء النظري والمنهجي.

وفي النهاية نقول إن إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربية كثيرة، ولا مجال لتحليلها ومناقشتها جمعياً، إلا أنه يجب علينا التسليم بكل الأحوال بأهمية هذا العلم الذي يمثل في جوانب مختلفة فكر وفلسفة ونقد اجتماعي، فالمجتمعات المتقدمة، تقدمت بأفكارها ومعرفة أخطائها بالتوازي مع التقدم المادي. وهذا ما يجب أن يحدث في المجتمعات العربية من خلال تفعيل دور لعلم الاجتماع الذي سيكون استجابة حقيقة لواقعنا وخصوصيتنا الثقافية والاجتماعية.

الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

القيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان، الإنسانُ بلا قيم يخرج من إنسانيته ويتحول إلى كائنٍ متوحش مخيف. القيمُ مُثُلٌ سامية يتطلع ويسعى الإنسانُ للتحقّق بها، لتتكاملَ شخصيتُه، ويثري حياتَه بالمعنى، ولن يبلغ مدياتِها القصوى إلّا الأفذاذُ من البشر. القيمُ ضرورةٌ للحياة الإنسانية، وهي شرطٌ لوجود كلِّ مجتمع حيوي خلّاق.

هناك ثلاث مجموعاتٍ من القيمِ التي ينهلُ منها الإنسانُ وتشبِعُ متطلباتٍ معنويةً أساسية لحياته، وهي: القيم الروحية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية، ولكلّ واحدةٍ منها وظيفتُها الأساسية، وكلٌّ منها يحقّق للإنسان كمالًا على شاكلته، ويشبِعُ احتياجاتٍ أساسيةً في حياة الفرد والمجتمع. وبين هذه المجموعات الثلاث للقيم علاقةٌ عضويةٌ من التأثر والتأثير المتبادَل، فوجودُ كلٍّ منها يعزّز وجودَ الأخرى ويثريها، وترسيخُ كلٍّ منها يرسّخ وجودَ الأخرى ويكرّسها[1].

الحقيقةُ القيمية كالحقيقة الدينية، يدركهما الإنسانُ بالتدريج عبر التاريخ، فمع تقدّمِ الزمن تتضح رؤيةُ الإنسان وتنضج وتتكامل، تبعًا لتطورِ وعيه، وتراكمِ خبراته، وتكاملِ مناهج وأدوات المعرفة التي يوظفها في الفهم. مصاديقُ تحقّق القيم نسبيٌّ في حياة الفرد والجماعة، كما أن السعادةَ والنجاحَ والكمالَ نسبيةٌ[2].

الكرامةُ والكونيةُ هما المعيارُ الذي تتحدّد على أساسه القيمُ الأخلاقية، بمعنى أن هذه القيمَ شاملةٌ، وأنها قانونٌ كلّي يصلح للتعميم لكلِّ الناس الذين تتوحد مصائرُهم في الأرض، فمهما كان الإنسانُ فإنه يحتاجُ الكرامة، لأن الكرامةَ تتحقّق بها إنسانيتُه، يحتاجها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغضِّ النظر عن دينه وإثنيته وثقافته وعصره.كما يحتاجُ الإنسانُ مهما كان: الصدقَ والمساواةَ والحريةَ والعدلَ والأمانةَ، وهي كلّها تكرِّس الكرامةَ وتحميها من الانتهاك. الكرامةُ والحرية والمساواة والعدل والصدق والأمانة كغيرها من القيم الإنسانية الكونية، لم يولد الوعي بمفهومِها واكتشافِ مصاديقها دفعةً واحدة، بل تَطَلَّبَ وصولُ الإنسانية إلى الوعي بمعانيها المعروفة اليوم، والتعرّفُ على حدودها وتطبيقاتها ومصاديقها عبورَ محطات موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا عبر التاريخ. وذلك ما انتهى إليه الإعلانُ العالَمي لحقوق الإنسان، فلم تعد حقوقُ الإنسان الكونية قيمًا ترتبط عضويًّا بالثقافة المحلية والهوية المجتمعية؛ ذلك أن بعضَ الثقافاتِ المحلية والهوياتِ المجتمعية يتمايزُ فيها البشرُ، وتتفاوتُ حدودُ مكانتهم ومساحةُ حقوقهم وحرياتهم تبعًا لجنسهم ومعتقدهم وإثنيتهم.

لا حياةَ أخلاقية بلا قيمٍ كلية كونية تتجاوز الزمانَ والمكان والواقع، وتتموضع بوصفها معايير ثابتة للحق والخير والعدل والفضيلة والسلام والصدق والكرامة والمساواة والحرية والأمانة. مفاهيمُ هذه القيم تقف خارج التاريخ، لكن تطبيقاتِها تاريخية، تتناغم على الدوام وإيقاعَ رؤية الإنسان للعالَم وعلومه ومعارفه، وتعبّر مصاديقُها عن وعيه وتطوره الحضاري وثقافته ونمط عيشه في كلِّ عصر. يرى إيمانويل كانت أَنَّ: "الصفة المميزة الجوهرية لأي قانون هي أنه كلي، أي صادق بالنسبة إلى جميع الأحوال بدون استثناء... وبالمثل القانون الأخلاقي، أو قانون الحرية، وهو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقيًّا، إذا سيطر العقل على كل ميوله. فإن كان هذا قانونًا، فيجب ألا يكون له استثناء مهما تكن الظروف، كما أنه لا يمكن أن يكون صادقًا بالنسبة إلى أناس دون أناس، بل يجب أن يصدق على الجميع على السواء. خذ مثلًا: الواجب. إنه ليس واجبًا عليّ فقط دون غيري، وليس واجبًا في ظرف دون ظرف آخر، ولا يحتمل أي استثناء لمصلحة هذا أو ذاك. والأخلاق يجب أن تتألف من قوانين صادقة بالنسبة إلى كل الكائنات العاقلة على السواء"[3]. ويذهب كانت أيضًا إلى أنّ على الإنسان الذي يفعل أيَّ فعلٍ أن يفعله بالشكل الذي يصيّره تشريعًا عامًا لكلِّ البشر، إذ يقول: "افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ لتشريع عام... افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما، وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"[4]. نعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام على وفق التصنيف الفقهي، أو ما عرُف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، عندما أضحى مفهومُ الشريعةِ مطابقًا لمفهومِ الفقه.

لا تتنكّر القيمُ الأخلاقية الكونية للحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الاعتقاد، والحقِّ في التفكير، والحقِّ في إبداء النظر، والحقِّ في التعبير. التكفيرُ يصادر كلَّ هذه الحقوق ويتنكّر لها، لأنه لا يرى إلا وجهًا واحدًا للحقيقة، ولا يعتقد إلا بوجود صورةٍ واحدةٍ لله، وتصورٍ واحد لصفاته، وطريقٍ واحد إليه، وقوالبَ جزميةٍ للاعتقاد به، وكلماتٍ أبديةٍ في التعبير عنه.

ألا يجدر بنا أن نُسائل التراثَ الأخلاقي في عالَم الإسلام، لماذا عجز عن الوفاء ببناءِ ضميرٍ أخلاقي يحمي حياةَ الفرد والمجتمع من: انتهاك الكرامة، وتضييع الحقوق، وتجاوز الخصوصيات الشخصية؟ لماذا كانت مدونةُ الأخلاق شحيحةً، مقارنةً بمدوناتِ الحديث والرجال والتفسير والفقه والكلام واللغة وغيرها؟ لماذا يفتقر هذا التراث، على الرغم من سعته، إلى مقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري في ضوءِ الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والمعارف الحديثة، لئلا تُكرِه الإنسانَ وتعنّفه على فعلِ ما هو الضدّ من طبيعتِه الإنسانية؟

إن ما نعنيه بافتقارِه لمقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري بعمق: أنه تراثٌ يتسع لعناصر متضادّة، وُلِدت في سياقات متنوعة، تعود إلى مجتمعاتٍ عاشت في أزمنةٍ مختلفة، وتنحدر من ثقافاتٍ متعدّدة وهوياتٍ متنوعة، وتحيل إلى مرجعياتٍ ليست موحدة. لذلك أخفق هذا التراثُ في تأليفِ المختلِف، وتوحيدِ المتعدّد، بالتعرّفِ على مشتركاته واستخلاصِ جوهره الأخلاقي، وصياغةِ رؤيةٍ تكرّس الحياةَ الأخلاقية، وتنشد تحقيقَ معادلة تَوازُنٍ تستجيب لاحتياجات مكوّنات طبيعة الكائن البشري، وتشبعها في سياق أخلاقي؛ لا يقدّم الجسدَ قربانًا للروح، ولا يجعل العقلَ قربانًا للمشاعر والعواطف، ولا يختزل الكلَّ في واحد.

الحقُّ في الاختلاف يفرض بناءَ قيمِ التنوع والتعدّدية والعيش المشترك، لكن يتعذر ذلك في مجتمع تتفشّى فيه أحكامُ تكفير المختلِف في المعتقد. التكفير هو اللغم الأخطر في التراث الذي يقوّض كلَّ مسعىً للانخراط في العصر، إنه عنصرُ الممانعة الأقسى والأعنف لحضورِ المسلم الفاعل اليوم في العالَم. التكفيرُ في علم الكلام القديم يمنع المسلمَ من التفاعل العضوي الخلّاق داخل المجتمعات المتنوعة الأديان والثقافات، كما يمنع ولادةَ المواطنة بوصفها ركيزةَ بناء الدولة الحديثة، لذلك يتعذّر بناءُ الدولة الحديثة في البلاد التي تعتمد مقولاتِ الكلام القديم وتتخذها مرجعيةً في دساتيرها وتشريعاتها وقوانينها وبرامجها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...........................

[1] الرفاعي، عبدالجبار، الحب والايمان عند كيركغورد، ص 12، 2016، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

[2] الرفاعي، عبدالجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص 119 – 120، ط 2، 2019، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

كنت، إيمانويل، الأخلاق عند كنت، ص 58، 1979، وكالة المطبوعات، الكويت. [3]

[4]  كنت، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، ص 11، ط1، 2002، منشورات الجمل، كولونيا - ألمانيا.

هناك أدعاء يقول إن بعض المعتقدات، على الأقل في سياقات معينة، لا تحتاج إلى تبرير على الرغم من أنها قد تزود المرء بأسباب مبررة للأعتقاد بمعتقدات أخرى. دعونا نلقي نظرة فاحصة على الادعاء.

تتكون الأطروحة السياقية البنيوية الأساسية من ثلاثة مبادئ أساسية: (1) قد يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عن اعتناق معتقدات معينة في وقت ما، على الرغم من عدم وجود دليل مبرر أو أسباب مبررة للاحتفاظ بهذه المعتقدات في ذاك الوقت. (2) قد تكون هذه المعتقدات بمثابة أساس معرفي لتبرير اعتناق معتقدات أخرى. (3) تعتمد المعتقدات التي تحتاج إلى تبريرعلى حقائق معينة حول الظروف الاجتماعية للفرد - السياق الاجتماعي للفرد. دعونا نأخذ هذه واحدة تلو الأخرى.

1. إن الفرضية القائلة بأنه من الممكن لشخص ما أن يكون مسئولًا معرفيًا عن اعتقاد ما دون تبرير هي إحدى الطرق للتعبير عما أصبح يسمى بالمحافظة المعرفية. يدعي المحافظ المعرفي أن مجرد الالتزام العقائدي قد يكون كافيًا لخلق درجة معينة من الاحترام المعرفي لمعتقدات معينة. هناك صيغتان اساسيتان من هذه العقيدة.[1]. وفقًا لمفهوم المحافظة من الدرجة الأولى، قد يكون الاحترام المعرفي إلى معتقد كنتيجة لمجرد الإيمان بهذا الاعتقاد أو، بشكل أكثر معقولية، كنتيجة للاحتفاظ بهذا الاعتقاد طالما أنه لا يتعارض مع المعتقدات الأخرى التي يمتلكها المرء. وفقًا للمحافظة من الدرجة الثانية، فإن المعتقدات من الدرجة الثانية- المعتقدات حول المعتقدات - ضرورية لخلق درجة معينة من الاحترام المعرفي لمعتقد من الدرجة الأولى. لذلك، على سبيل المثال، وفقًا لإحدى الصيغ الممكنة للمحافظة من الدرجة الثانية، من أجل أن يزداد مستوى معين من الاحترام المعرفي لبعض المعتقدات (التي ليس لدى الشخص أسباب أو أدلة مبررة لها)، يجب ألا يكون لدى المرء الأعتقاد فقط، ولكن يجب عليه أيضًا أن يصدق بانه الحقيقة.[2] باختصار، يجب على المرء أن يعتبر الأعتقاد سليمًا صحيحًا من الناحية المعرفية.

ليس هذا هو المكان المناسب للتحقيق في المحافظة المعرفية. فقد حاجج جوناثان كيفانفيج[3] بشكل مقنع بأن صيغة المحافظة من الدرجة الأولى لا يمكن الدفاع عنها ولكن أي نظرية معرفية معصومة من الخطأ تحتاج إلى التسليم بصيغة من المحافظة من الدرجة الثانية. كنت قد قدّمت في البحث السابق نقاشا عن النزعة المحافظة وأوضاعنا الصعبة: نظرًا للقيود على قدراتنا المعرفية وحدود عصرنا، فمن المنطقي لا تتطلب ممارساتنا المعرفية من المعتقدين دائمًابأن يكون لديهم أدلة أو أسباب مبررة لكل ما يعتقدون بشكل مسؤول. كما سنرى في القسم التالي من بحثنا، تُظهر ممارساتنا المعرفية فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي النوع نفسه من النزعة المحافظة. لذلك سأستمر على افتراض أن المحافظة من الدرجة الثانية صحيحة.

2. المبدأ الأساسي الثاني لسياق السياق البنيوي- ما يمكن أن نسميه أطروحة الكفاية المعرفية- يدعي أن المعتقدات القائلة بأن المرء مسؤول معرفيًا عن اعتقاده، وبدون امتلاكه أي مبرر، تكون أحيانًا كافية معرفيًا كأساس للاعتقاد المبرر في القضايا الأخرى. يمكن أن ينتهي رجوع المرء الى الوراء بالتبرير الى الأعتقاد بمعتقدات لا يملك أسبابًا تبرر التمسك بها. إذا كنت على حق في أن ممارساتنا المعرفية الفعلية تتوافق مع أطروحة الكفاية المعرفية، فإن هذه الحقيقة حول الأطروحة توفر، كما حاججت، سببًا افتراضيًا لصالحها. لكن تتطلب هذه الأطروحة، مثل أطروحة المحافظة المعرفية، طريقة للدفاع عنها أكثر مما يمكنني تقديمه هنا.

3. أخيرًا، يعتمد ما إذا كان هناك حاجة إلى تبرير اعتقاد ما أم لا لكي يكون بمثابة معتقد أساسي صحيح بشكل حاسم على السياق، وعلى وجه الخصوص، على السياق الاجتماعي. وهذه هي أطروحة حساسية السياق الاجتماعي. والآن، الفكرة العامة القائلة بأن التقييمات المعرفية الصحيحة حساسة للسياق، بمعنى أنها تعتمد على ظروف المرء،وكما رأينا في المناقشة التي قدمتها سابقا حول التبرير والمسؤولية المعرفية، مقبولة. بشكل عام، ما إذا كان الفرد له ما يبرره (أو إذا لم يكن له ما يبرره، فعلى الأقل مسؤول معرفيًا) في الاحتفاظ ببعض المعتقدات سيعتمد على سمات معينة لظروفه. إن ما يجعل السياقية مميزة هو الادعاء بأن التقييم المعرفي الصحيح، وعلى وجه الخصوص، ما إذا كان اعتقاد المرء يحتاج إلى تبرير أم لا، يعتمد بشكل حاسم على "السياق الاجتماعي" للفرد- على حقائق اجتماعية معينة. لقد لاحظنا بالفعل أن بعض الحقائق الاجتماعية تؤثر على التقييم المعرفي الصحيح، وأن الحالة المعرفية لمعتقدات الفرد حساسة لهذه الأنواع من الحقائق الاجتماعية ليست مميزة للسياقية البنيوية. ما يدعيه السياقيون هو أن الحقائق حول الالتزامات العقائدية للمجتمع المحلي مهمة للتقييم المعرفي بشكل عام، و كذلك لمسألة ما إذا كانت بعض معتقدات المرء بحاجة إلى تبرير (تحت وطأة اللامسؤولية المعرفية) على وجه الخصوص. تتمثل إحدى طرق وضع هذه الفكرة فيما يتعلق بالمعتقدات التي تحتاج إلى تبرير أو لا تحتاج إليه في القول ما إذا كان المرء بحاجة إلى تبرير أو لا يحتاج له حيث يعتمد في بعض المعتقدات على ما تسمح به مجموعة الفرد للإفلات من الاعتقاد دون وجود مبرر.

بالطبع، هناك أسئلة كبيرة وصعبة تلوح في الأفق للسياقي حول المسألة المتعلقة بحساسية السياق الاجتماعي. نظرًا لأن يعتقد السياقي أن التقييم المعرفي حساس للسياق الاجتماعي، فإنه يحتاج إلى معالجة أسئلة حول أنواع العوامل التي تحدد السياق الاجتماعي ذي الصلة لتقييم الحالة المعرفية لمعتقدات الفرد. نحن أعضاء في العديد من المجموعات (الاجتماعية) في وقت واحد، وهناك طرق لا حصر لها لتخصيص المجموعات وفقًا للأغراض المطروحة. بالطبع، أشك بشدة في وجود خوارزمية أو صيغة عامة وكافية تمامًا يمكن للمرء استخدامها لإصلاح السياق الاجتماعي ذي الصلة في أي حالة معينة بطريقة غير تعسفية. بدلاً من ذلك، فإن الأسئلة المتعلقة بالسياق الاجتماعي ذي الصلة هي نفسها (كما قد تتوقع) حساسة للسياق. وإذا كان هذا صحيحًا، فلن يكون لدينا خيار سوى المضي قدمًا على أساس كل حالة على حدة، على الرغم من أن القيام بذلك لا يستبعد صياغة تعميمات قابلة للتنفيذ حول أنواع العوامل التي تساعد في إصلاح مجموعة اجتماعية في سياق معين.[4]

قبل الانتقال إلى الأسئلة حول التبرير الأخلاقي التي سأناقشها في البحث اللاحق، اسمحوا لي أن أربط الموضوعات السياقية الرئيسة في هذا البحث بمفهوم المسؤولية المعرفية الموضحة في البحث السابق المنشور. إن أحد المسؤولية المعرفية تجاه بعض المعتقدات التي يحملها المرء تكون فقط عندما يتعامل بشكل مناسب مع تلك الاحتمالات التي تشير إلى أهميتها من خلال معتقدات تمثل الخلفية الخاصة بها وتلك التي تشير إليها المعلومات التي يشترك بها المجتمع المعني على نطاق واسع. تلك الحالات التي يحمل فيها المرء بعض الاعتقاد دون أن يكون لديه سبب مبرر للاعتقاد والتي لا توجد فيها إمكانات محتملة ذات صلة من النوع المذكور للتو هي حالات مرشحة يبدو من المناسب فيها القول إن المرء مسموح له معرفيًا ومن ثم فهو مسؤول في التمسك بهذا الاعتقاد. ولكن، في ضوء التمييز بين المحافظة من الدرجة الأولى والثانية، أعتقد أنه يجب علينا إضافة الشرط التالي لوصفنا للمعتقدات الأساس للسياق: ليس فقط في حالة عدم وجود احتمالات مضادة ذات صلة بالاعتقاد المعني، ولكن يجب أن يكون الاعتقاد المعني، حتى يكون اساسه صحيح، هو الذي يعتبره المُعتقد ومجتمعه سليم من الناحية المعرفية. إن المعنى الضمني حول المعتقدات الأساسية للسياق هو أن وضعها كأساس يعتمد بشكل حاسم على السياق الاجتماعي وأنواع المتطلبات المعرفية التي يتوقع المرء أن يفي بها وكذلك مستوى التزام المجموعة المعرفي بالمعتقد المعني.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] يتبع نقاشي للتحفظ المعرفي، بما في ذلك التمييز بين الأنواع من الدرجة الأولى والأنواع من الدرجة الثانية وجهة النظر جوناثان كفانفيج.

Jonathan Kvanvig, "Conservatism and Its Virtues," Synthese 79 (1989), 153-63.

[2] يقترح روبرت عودة أن المدافع عن المحافظة لا يحتاج إلى مطالبة المؤمنين بامتلاك معتقدات من الدرجة الثانية، وبدلاً من ذلك يمكن أن يتغلبوا على شرط أن يكون المؤمنون على استعداد فوري للحصول على النوع المناسب من الاعتقاد من الدرجة الثانية. أعذر نفسي من التشويش على تفاصيل الصياغة الملائمة للمحافظة من الدرجة الثانية.

Robert Audi, Belief, Justification, and Knowledge (Belmont, Calif.: Wadsworth, 1988.

[3] Jonathan Kvanvig, "Conservatism and Its Virtues

[4] أحد العوامل الواضحة التي تظهر بشكل مهم في تقييماتنا المعرفية تتعلق بالمعرفة الخاصة للفرد والمهارات والمعرفة والمهارات التي قد تكون مرتبطة أو غير مرتبطة بمهنة المرء. وفقًا لمبدأ الشخص العاقل من القانون كما هو موضح في Keeton et al.، The Law of Torts، "الأشخاص المحترفون بشكل عام وأولئك الذين يقومون بأي عمل يتطلب مهارة خاصة، لا يُطلب منهم فقط ممارسة العناية المعقولة فيما يقومون به، ولكن أيضًا لامتلاك حد أدنى من المعرفة والقدرة الخاصة "(ص 185). يشير هذا إلى أننا نتوقع المزيد من الأشخاص الذين لديهم معرفة خاصة أو أعضاء في مهن تتمثل مهمتهم في معرفة المزيد عن موضوعات معينة.

 

إذا كانت السلفيّة في خطابنا الإسلاميّ تشكل موقفاً فكريّاًّ ومنهجياً يدعو إلى فهم الكتاب والسنة وفقاً لفهم سلف هذه الأمّة لهما، والأخذ بأحكام الكتاب والسنة، وبنهج وعمل النبي وصحابته، والتابعين، وتابعي التابعين باعتباره يمثل نهج الإسلام الصحيح عندهم، والابتعاد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، وعن كل ما أجمع عليه هذا السلف...

فإن الحداثة في سياقها العام هي تحديث وتجديد ما هو قديم في حياتنا ولم يعد قادر على مواكبة تطور الحياة وتجددها. وهو مصطلح يبرز كثيراً في المجال الثقافيّ والفكريّ موضوع دراستنا هذه.

وللنظر في قضيّة الخطاب السلفيّ وموقفه من الحداثة نقول: منذ أن أصدر الخليفة العباسيّ "المتوكل" عام (232) للهجرة، أوامره لرجال الدين بترك العقل والتوجه نحو النقل، مع فرض عقوبات صارمة أقرتها محاكم للتفتيش، شُكلت لمن يخالف هذه الأوامر، لم يعد هناك مجال تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة في المشرق العربيّ منذ ذلك الوقت لأي نشاط فكريّ عقلانيّ خارج فهم النص الدينيّ المقدس للقوى السلفيّة التي فسرت وأولت هذا النص وفقاً لرؤيتها، وبما يخدم مصالحها ومصالح أسيادها من القوى الحاكمة. فعلى أساس هذا الموقف الفكريّ الجموديّ توقف الاجتهاد العقلانيّ من جهة، وتوقف الاشتغال فكريّاً على العلوم الأخرى (الوضعيّة) التي تناولها فلاسفة ما قبل مرسوم الخليفة المتوكل من جهة ثانيّة، واقتصر العمل الفكريّ بشكل عام على علوم الدين من حديث وفقه وعلم كلام اقتصر على الجانب العقيدي وتصوف وعبادات وغير ذلك. واعتبر أي خروج فكريّ عن هذه العلوم بدعة وضلالة، إن كان من حيث الاشتغال على الفكر الوضعيّ العقلانيّ، أو الخروج فكريّاً عن رؤية علماء الدين السلفيين في تفسير وتأويل النص الدينيّ المقدس، أو ما أَصَلَ له الشافعي في الفقه وأصوله، أو ما أصل له أبو حسن الأشعري والغزالي في علم الكلام. هذا مع تأكيدنا هنا، بأن هناك اتجاهاتٍ فكرّيةً عقلانيّةً محدودة راحت تتعامل مع النص الدينيّ وفهم الواقع إن كان في المغرب العربيّ، أو في الأندلس كابن حزم وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، بالرغم من أن بعض هؤلاء المفكرين الفلاسفة لم يسلموا من الحسبة على ما طرحوه من أفكار عقلانيّة كان للبعد السياسيّ دوراً فيها، كما جرى لابن رشد وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر.

إذن نستطيع القول: منذ تاريخ المتوكل حتى سقوط الدولة العثمانيّة كان هناك حصار قد فرض على التفكير العقلانيّ الحداثي أو التنويريّ بشقيه الدينيّ والوضعيّ. ولا نستغرب أن علماء الأزهر وغيرهم في مصر قد اختلفوا في تاريخنا الحديث على النظر في مسألة السماح باستخدام (حنفيّة الماء) في الحياة العامة، فمنهم من رفضها باسم الدين واعتبارها بدعة، ومنهم من قبلها باسم الدين أيضاً، كدعاة الفقه الحنفيّ، ومن هنا جاء اسم (الحنفيّة) نسبة إلى المذهب الحنفيّ. ولا نستغرب أيضاً أن مشايخ الدين السلفيّ قد أفتوا بعدم صحة التعلم بالمداس الحكوميّة زمن محمد علي باشا عندما أسس الطهطاوي هذه المداس بأمر حكوميّ، الأمر الذي كان يدفع أولياء الطلاب بتوجه من مشايخ السلفيّة المتزمتة والجاهلة إلى ممارسات لا إنسانيّة بحق أعضاء أولادهم الجسديّة حتى لا يلتحقوا بهذه المدارس اللادينية. كقطع اليد أو الرجل أو فقع العين... الخ. (1).

على العموم مع بداية القرن التاسع عشر راحت تظهر توجهات عقلانيّة باتجاه العلم الحديث وخاصة في مصر محمد علىّ باشا، وفي تونس خير الدين التونسيّ، دون أن ننكر تلك الارهاصاتِ الأوليّةَ لهذا التحديث في المشرق العربيّ، كتجربتي فخر الدين المعنيّ في سورية، وطاهر باشا في العراق، إلا أن كلا التجربتين قد أجهضتا، وبقي لتجربتي محمد على باشا وخير الدين التونسي تأثيرها على تاريخنا الحديث والمعاصر. وراحت نتائجهما تظهر بوضوح في مصر مع الطهطاوي وتلامذته من جهة، ثم مع مدرسة جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده من جهة ثانية. فهذه المدرسة التنويريّة الإسلاميّة راحت تتعامل مع مفردات أفكار الثورة الفرنسيّة، كالديمقراطيّة والحريّة والعلمانيّة وماهية الإنسان، والاجتماع المدنيّ، والمرأة، والقيم الإنسانيّة، والدولة، والتطرف، والتسامح وغير ذلك من مفردات وضعيّة، محاولين أسلمتها من خلال البحث عن نصوص دينيّة أو مواقف ذهنيّة لهذا الخليفة أو ذاك، أو لهذا الفقيه أو ذاك تتوافق مع مضمونها. فالديمقراطيّة وجدوا مرادفة لها وهي الشورى، والعدل والمساوة وجدوا له أحاديث وآيات وموقف ذهنيّة كموقف عمر بن الخطاب من قضية ابن عمر بن العاص والقبطي في قوله (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً).. والعلمانيّة وجدوا لها حديثاً للرسول وهو تأبير النخل.. وللمرأة وحريتها كان موقف عمر ابن الخطاب من المرأة التي حاججته وأخذ برأيها.. وهكذا دارت أمور التحديث. وبالرغم من أن هذا التوجه التنويريّ راح يتسع فيما بعد مع بناء الدولة الحديثة وتوسع التعليم المدنيّ في كل مراحله، ودخول الاختصاص الفلسفيّ في الجامعات. إلا أن شهوة السلطة في الأنظمة العربيّة التي تحولت إلى أنظمة شموليّة حاصرت أصحاب التوجهات الفكريّة التنويريّة وفسحت في المجال واسعاَ للتيار السلفيّ كي يمارس دوره في الوقوف بوجه التيار العلمانيّ التنويريّ، والتصدي لرجالاته ومحاصرتهم وتكفيرهم والتشهير بهم كونهم مارقين عن الدين، ولم يتوانوا أحيانا في التعدي على بعضهم أو تصفيته جسديّا.

أمام كل الذي جئنا عليه هنا، يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو: كيف الخروج من المأزق السلفيّ في خطابنا الفكريّ العربيّ المعاصر.

لا شك أن الإجابة على مثل هذا السؤال الإشكاليّ ليست وصفة طبية لمعالجة مرض فيزيائيّ يصفها طبيب لمرض شائع، وإنما المرض الذي نعاني منه هو مرض اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ. فإذا كان المرض الاجتماعيّ يتجسد في البنية الاجتماعيّة المفوّتة حضارياً، أي التي لم تزل مسكونة بمرجعيات تقليديّة سيطرت عليها روح وعلاقات القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب، والكثير من القيم الأخلاقيّة التقليديّة المحكومة أيضاً بالعرف والتقليد والعادة، و هي قيم اتخذت الصفة المعياريّة وتعود إلى مئات السنين، أشبعت بقيم الدين التي لا يأتيها الباطل من بين بين يديها أو من خلفها، مع تأكيدنا أيضاً على انتشار الجهل والفقر والتخلف واستبداد الحاكم في الوجود الاجتماعي.  فالمرض الاقتصاديّ محكوم بدوره بقوى وعلاقات إنتاجيّة متخلفة وهجينة أو متعددة الأنماط، يسيطر عليها اقتصاد السوق البسيط أو الصغير على مستوى الداخل، والاقتصاد الريعيّ والاستهلاكيّ على مستوى التعامل مع الخارج، وإن وجد هناك أسواق صناعيّة في بعض الدول العربيّة، فهي أسواق صناعيّة تجمعيّة أو ذات اللمسات الأخيرة، ومعظم مكونات هذه الصناعة الأساسيّة مستوردة من الخارج. وهذا الواقع الاقتصاديّ المزري سينتج عنه بالضرورة اقتصاد متخلف غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي ، أو خلق أسواق قادرة على المنافسة مع الخارج ، وأخيراً غير قادر على إنتاج طبقة صناعيّة وطنيّة قادرة على وعي نفسها ودورها التاريخيّ، وبالتالي التخلص من سماتها وخصائها الكومبرادوريّة، وتحقيق إمكانيات قيادتها للدولة والمجتمع. أما على المستوى السياسيّ فغياب المجتمع المدنيّ، سيؤدي بالضرورة إلى غياب البنية السياسيّة العقلانيّة بحواملها الاجتماعيية المؤمنة بتداول السلطة والمشاركة السياسيّة ودولة القانون والمواطنة.. الخ. وبناءً على ذلك ظلت البنية السياسيّة مرتبطة بحوامل اجتماعيّة تقليديّة يسيطر عليها شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة في الوجود الاجتماعي، أو يسيطر عليها  الأمير والملك والزعيم والقائد الملهم وغير ذلك في الهرم السياسيّ. والملفت للنظر أن عدوى هذا المكونات السياسيّة التقليديّة انتقلت إلى الأحزاب التي تدعي التقدميّة والعلمانيّة حيث راح قادتها يخضعون لشهوة السلطة مما زاد في الطين بلّة بالنسبة لأزمة الخطاب السياسيّ في هذه الدول التي راحت تسير في خطابها السياسيّ كـِسيرِ (بول البعير)، أي الرجوع إلى الوراء. الأمر الذي كان وراء قيام ما سيمّي بثورات الربيع العربيّ التي كشفت عورات هذه الأنظمة وبينت مساوئها ومساوئ القوى المعارضة لها على السواء. أما بالنسبة للمسألة أو البنّية الثقافيّة، فقد أشرنا إلى تخلفها وهجانتها وسكونتيها ووثوقيتها وشفويتها واستسلام حواملها الاجتماعيين لما هي عليه، كما بينا دور القوى السياسيّة المتخلفة التي تدفع باتجاه تكريس هذا الثقافة المفوّتة حضاريّاً خدمة لمصالحها، يساعدها في ذلك مشايخ السلطان ومؤسساته الدينيّة والعديد من المثقفين والاعلاميين من المطلبين  والمزمرين الذي يعملون ليل نهار على تكريس التخلف وتغييب الفكر العقلانيّ التنويريّ، ومحاربة حوامله الاجتماعية، إما عن طريق سجنهم كأصحاب رأي أو دفعهم للهجرة خارج الوطن، أو تحريض مشايخ السلطان عليهم للتشهير بهم، تحت ذريعة الكفر والالحاد من جهة، أو الفسح في المجال للقوى الأصوليّة الجهاديّة على قتلهم والتنكيل بهم من جهة ثانية.

****

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في هذا التوجه الأصولي ومقاومة الحداثة، راجع كتابنا: إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط –  إصدار داري المدى والتكوين - دمشق .

تتصل المسؤلية المعرفية بأنشطة مثل: (1) جمع الأدلة، (2) النظر في الأحتمالات المضادة والتعامل معها، (3) التعامل مع الصراعات الداخلية في المعتقدات. عادةً ما ننتقد الأشخاص الذين لا تستند معتقداتهم إلى أدلة كافية، والذين لم يتحققوا من الاحتمالات ذات الصلة بما يعتقدون به، والذين يفشلون في القضاء على بعض تضارب المعتقدات. لكي يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عما يعتقد به، يجب ألا يندرج تحت معايير أو قواعد معينة تحكم هذه الأنشطة أو تسيطر عليها. ماذا تتطلب المعايير؟ وبشكل أكثر تحديدًا: ما مقدار الأدلة الكافية للحصول على اعتقاد مبرر؟ ما هي الاحتمالات المضادة التي يجب على المرء التحقق منها؟ ما هي صراعات المعتقدات التي يجب القضاء عليها؟ نظرًا لأننا مهتمون بمنظور المرء المسؤول معرفيًا، فإن هذه الأسئلة تدور حول أكثر المعايير المعرفية العامة التي تميز هذا  المرء. لا تسمح قيود المساحة بمعالجة هذه الأمور بشكل كامل هنا، ولكن يمكننا تقديم  صورة مختصرة لشخص مسؤول معرفيا ستكون كافية للأغراض الحالية من خلال التركيز بشكل أساس على تلك المسؤوليات المعرفية والمعايير المرتبطة بها ذات العلاقة بفحص الاحتمالات المضادة.[1]

يمكن أن تتراوح المسؤولية عن التحقق من الاحتمالات المضادة للقضايا التي نعتقد بها في وقت معين من متطلبات صارمة للغاية تتوافق مع معيار يتطلب من الأشخاص التحقق منها بداية من جميع الاحتمالات المضادة الممكنة منطقيًا إلى المتطلبات المتراخية للغاية، حيث سيكون هناك، في الحد الأقصى، حرية كاملة للقيام بأي فحص. هناك بين طرفي النقيض مجموعة من المعايير المحتملة التي يتطلب التحقق منها  أكثر من الشخص أو أقل. إذا بدأنا بافتراض أن نوعًا من المطالب، مثل المطلب "الوسط" لا يناسب الممارسة المعرفية الفعلية فحسب، بل يمكن الدفاع عنه، فإن اقتراحًا واحدًا معقولاً لتحديد نطاق الاحتمالات المضادة التي يكون المرء مسؤولاً عنها معرفيًا يمكن وضعه بالصوغ التالي:[2]

المسؤولية المعرفية: يكون الشخص س  مسؤولاً معرفيًا عن تصديق بعض الافتراضات ب p في زمن  ت فقط إذا تحقق س من كل تلك الاحتمالات المضادة التي تشير اليها معتقداته.

دعنا نأخذ الفرد المسؤول معرفيا كنموذج مثالي للممارسة المعرفية البشرية الفعلية، ويكون بعيدًا عن بعض العوامل التي من شأنها أن تشوه حكمه كشخص مسؤول من الناحية المعرفية، وعليه يفترض، أولًا،  أن يطابق الشخص المسؤول من الناحية المعرفية معتقداته مع مجموعة المعايير المعرفية التي تتصل بها دائمًا ، تمامًا كما هو الحال في القانون،حيث "يجب ألا يٌعرًف الشخص العاقل مع أي شخص عادي قد يفعل أشياء غير معقولة أحيانًا؛ أنه شخص حكيم وحذر، وهو يرتفع الى مستوى المعايير دائمًا ".[3] ثانيًا، أن نتجاهل في وصف أنشطة الشخص النموذجي الذي ذكرناه أعلاه، السكر، والتخدير، والتعب، والتشتت، وغيرها من العوامل المثبطة التي من شأنها أن تضعف الحكم الطبيعي للشخص العادي. وثالثًا، لايقع الشخص النموذجي  تحت ضغط المواقف الطارئة الملحة التي من شأنها أن تتداخل مع تركيزه أو انعكاسها على بعض االقضايا أو المعتقدات التي تكون حالتها المعرفية موضع شك.

نريد أن يعكس شخصنا المٌتخيًل القدرات البشرية الطبيعية. تمامًا كما هو الحال في القانون، حيث يُتوقع من الشخص العاقل أن يتمتع بقدرات معرفية "طبيعية" للبشر، فيجب تشكيل نموذجنا الخاص بالشخص العارف بهذا المثال. يمكننا أن نبدأ بالإشارة إلى أن هناك كل أنواع الاستدلالات الاستنتاجية التي يتعذر على البشر العاديين القيام بها. وبالمثل للاستدلالات غير الاستنتاجية. إذا كان من المستحيل على البشر العاديين أن يقوموا في بعض هذه الاستنتاجات أو كانت غير قابلة للتنفيذ  فلا ينبغي أن نحمل الأشخاص المسؤولين عن الاحتمالات المضادة التي قد تتطلب منهم تقديم استنتاجات غير مجدية  وغير عملية ولا يمكن القيام بها بسهولة من مجموعة معتقداتهم السارية. نحن نتوقع من الناس أن يتوصلوا إلى استنتاجات من مجموعة معتقداتهم السارية تكون مجدية وعملية للبشر العاديين. وهنا يأتي دور الاعتبارات التجريبية التي تسفر عن نظريات الجدوى الاستنتاجية وغير الاستنتاجية كما يسميها تشيرنياك،[4] أو نظريات الوضوح كما يسميها كوهين،[5] لتلعب دورًا في المساعدة على وضع معايير مقبولة توفر ماهو ضروري للمعرفة لفحص الأحتمالات المضادة. علاوة على ذلك، نتوقع، عند تحديد مستوى المسؤولية المعرفية للتعامل مع الأدلة المضادة، أن يكون الأفراد قادرين على تذكر المعلومات ذات الصلة من الذاكرة، على الرغم من أننا لا نلزم الناس بمعايير الذاكرة التي تتجاوز ما هو ممكن للبشر العاديين. تساعد نظريات الاستدلال الممكن والذاكرة المجدية على تحديد مستويات المسؤولية المعرفية المناسبة للبشر العاديين أيضًا. دعونا نستخدم تعبير "الاحتمالات المضادة الواضحة" للإشارة إلى تلك الاحتمالات المضادة التي يمكن أن  يدركها إنسان عادي يتمتع بقدرات معرفية طبيعية. وبالتالي، يجب مراجعة اقتراحنا  بحيث يُطلب منا التحقق من بعض وليس كل تلك العلاقات المحتملة المضادة التي ينطوي عليها ما نعتقد، ويتم تحديد القيود المفروضة على التحقق من الاحتمالية المضادة جزئيًا من خلال وجهات نظرنا التجريبية حول القدرات المعرفية "الطبيعية" أو العادية.

لا يعني مجرد التحقق من كل تلك الاحتمالات المضادة الواضحة التي تتضمنها مجموعة المعتقدات الحاصلة في وقت معين أن المرء مسؤول معرفيًا، لأنه (1) قد يفتقر إلى معلومات عامة مفترض أن يعرفها أي شخص أو (2) ) التقصير في الحصول على أدلة لها علاقة بقضية أو مطلب معين. (هذا هو المكان الذي تلعب فيه المسؤوليات المتعلقة بجمع الأدلة للشخص المسؤول معرفيًا). هناك أشياء معينة، فيما يتعلق بالمعلومات العامة التي يفترض يعرفها المرء، يُتوقع أن يعرفها أي فرد، حيث نعتمدها فيما يتعلق بظواهر اجتماعية مثل التجربة المشتركة ( كحرائق الغابات والماء سوف يغرق مثلا، وعدد لا يحصى من المعلومات الأخرى)، والخبرات التعليمية المشتركة على نطاق واسع (مثل، الحقائق الأولية حول العلوم الفيزيائية، والتاريخ، وما إلى ذلك)، والمعلومات التي تم جمعها من خلال وسائل الإعلام. ينعكس مطلب المعرفة العامة هذا في عقيدة الشخص العاقل: " فهناك حد أدنى من المعرفة، بناءً على ما هو مشترك في المجتمع"،[6] يمتلكه الشخص العاقل وبالتالي يجب ان يمتلكه الأشخاص العاديون.

فيما يتعلق بالمعلومات الخاصة التي تتعلق ببعض الادعاءات أو المعتقدات على وجه التحديد  فإن ما هو مشترك بين المجتمع يساعد في تحديد مدى مسؤولية الشخص عن إدراك تلك المعلومات عادةً.  وقد حاجج سوسا وآخرون،[7] في إننا عادة ما نتحمل المسؤولية عن المعلومات التي تمثل الاحتمالات المضادة والمعروفة عمومًا في مجتمعنا وجهلنا بهذه المعلومات ليس عذرًا. تعكس هذه الحقيقة التي تتعلق بممارساتنا المعرفية أهمية فكرة وجود بُعد اجتماعي للمسؤولية المعرفية. ويلعب هذا البعد دورًا مهمًا في الصورة السياقية للمسؤولية المعرفية كما سأتناوله في دراسة لاحقة  في سلسلة نقاشنا المعرفة الأخلاقية  ووضعيتها السياقية.

يمكننا إعادة صياغة المسؤولية المعرفية لتعكس النقطة المتعلقة بالمعلومات المتاحة اجتماعيًا وكذلك  المتعلقة بوضوح الاحتمالات:

المسئولية المعرفية: الشخص س المسئول معرفيًا عن تصديق بعض الدعوى ب في الوقت ت فقط إذا قام س بالتحقق من كل تلك الاحتمالات المضادة الواضحة التي يُشار إليها من خلال مجموعة مناسبة من المعتقدات في ت.

كنت منخرطًا حتى حتى الآن في ما أعتبره مشروعًا لوصف سمة مهمة من تقييماتنا المعرفية اليومية الفعلية. لكنني أعتقد أيضًا أن هناك سببًا وجيهًا للنظر في المعايير الأخرى المتصلة في الموضوع.  أفكر هنا في الأساس المنطقي البراغماتي الذي ينظر إلى المعايير المعرفية من حيث هدفها  لنا  كبشر. باختصار، أن الأساس المنطقي هو: نظرًا لأننا مخلوقات محدودة ذات موارد معرفية محدودة ولدينا أنواع من الأهداف غير المعرفية في الحياة، فنتوقع أن تعكس أي معايير معرفية مفيدة حقًا مثل هذه الحقائق. لقد صغنا الآن المسؤولية المعرفية  بوضوح بحيث تعكس قدراتنا المعرفية المحدودة. علاوة على ذلك، لا تتطلب معاييرنا المعرفية منا أن نكرس قدرًا كبيرًا من الوقت للتحقق من ادعاءاتنا ومعتقداتنا بحثًا عن خطأ محتمل، بل تتطلب فقط أن نقضي قدرًا "معقولًا" من الوقت في القيام بذلك، وأننا لسنا كائنات فكرية بحتة اهتمامها الوحيد امتلاك مخزون من المعتقدات الحقيقية.[8] فالحياة قصيرة وهناك أشياء أخرى يجب القيام بها. نظرًا للحاجة إلى بعض المعايير المعرفية، ولما نحن عليه (بما في ذلك القيود)، يبدو أن المعايير كالمسؤولية المعرفية هي  نوع المعايير التي نريدها ونتوقع أن تكون فعالة في الحياة اليومية. لذلك، بمجرد أن نفكر في المعايير بهذه المصطلحات البرغماتية، يمكننا أن نرى أن أنواع المعايير التي نميل إلى استخدامها هي تلك التي يوجد لها أساس منطقي جيد.

أخيرًا، قبل مغادرة  قضية هذه الدراسة ، أود أن أطرح سؤالًا يتعلق مباشرة بصطلح المسؤولية المعرفية، إن  هذا المصطلح أوسع من مفهوم الاعتقاد المبرر. لكي يكون الفرد مبررًا معرفيًا بشكل إيجابي في الاعتقاد هي أن يكون له أسبابًا إيجابية كافية لهذا الافتراض. لا يتطلب كون المرء مسؤولاً معرفيًا عن اعتقاد ما أن يكون مبررًا التمسك بهذا الاعتقاد بالضرورة. لذلك، قد نتساءل، في ضوء توصيفنا للمسؤولية المعرفية، عما إذا كان المرء مطالبًا دائمًا بالحصول على أسباب مبررة لجميع المعتقدات التي يحملها، ويتمسك بها دون أن يكون غير مسؤول من الناحية المعرفية. ربما تلعب بعض المعتقدات التي لا يكون المرء غير مسؤول في التمسك بها في بعض السياقات دورًا معرفيًا في تبرير معتقدات أخرى لا تحتاج في حد ذاتها إلى تبرير. وسواء كانت هناك حالات كهذه أم لا، سيعتمد ذلك على المعايير والممارسات المعرفية للشخص المسؤول إبستمولوجيًا. قد يكون الأمر كذلك،  حيث في النهاية وفي بعض السياقات نحن مسؤولون معرفيًا عن اعتناق معتقدات معينة يمكن أن تكون بمثابة أساس للاحتفاظ بمعتقدات أخرى، حتى لو لم تكن لدينا أسباب مبررة لتبرير المعتقدات المعنية.

أعتقد أن هذا هو الحال بالفعل وأن نوع المنطق العملي الذي تم رسمه للتو للدفاع عن المسؤولية المعرفية  يمكن توسيعه لتفسير سبب ممارساتنا المعرفية على هذا النحو. باختصار لدينا أهدافًا غيرمعرفية، وأننا غير قادرين على تذكر كل ما تعلمناه، وأن أي مسعى فكري يستغرق وقتًا، لا ينبغي لنا قضاء الوقت في التحقيق وجمع الأدلة لجميع معتقداتنا؛ فلا نتمكن من القيام بذلك. ليس لدينا خيار سوى الاعتماد على جميع أنواع المعتقدات والمهارات والقدرات التي نمتلكها عندما ننخرط في أي مسعى فكري. وبالتالي، فإن التفكير في حالتنا  النهائية يجعل من المعقول افتراض أن المرء مسؤول معرفيًا عن اعتقاد معين ما لم تكن هناك أسباب ملموسة للشك.[9]

وهذا يسمح بأن يكون المرء مسؤولاً عن تصديق بعض الافتراضات حتى لو لم يعد لديه ، أو في الواقع ، لم يكن لديه أبدًا، دليل إيجابي من النوع الذي يمكن أن يكون بمثابة أسباب مبررة للقضية المعنية. إن الفكرة القائلة بأن المرء قد يكون مسؤولاً معرفيًا في التمسك بمعتقدات معينة دون الحاجة إلى تبرير هي أمر أساسي للسياقية البنيوية. دعونا ننظر في هذه الأطروحة بمزيد من التفصيل في الدراسة القادمة .

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

………………….

[1] يبدو أن المسؤوليات المتعلقة بجمع الأدلة تنبع في الغالب من مسؤوليات التعامل مع الاحتمالات المقابلة ذات الصلة. علاوة على ذلك ، فإن أنواع المعايير التي تحكم القضاء على التناقضات الداخلية مماثلة في الشكل لتلك الخاصة بإلغاء الاحتمالات المضادة. أنظر:

C. Cherniak, Minimal Rationality (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1986), chapter 1.

[2]للدفاع عن مبدأ مشابه يسميه "شرط الأسباب الخاصة". الكثير من نقاشي حول المسؤولية المعرفية متأثر بـجميك، أنظر:

C. Cherniak, Minimal Rationality , chapter5 .

[3] W. P. Keeton, D. B. Dobbs, R. E. Keeton, and D. G. Owen, Prosser and Keeton on The Law of Torts, 5th ed., (St. Paul, Minn.: West Publishing Co., 1984), 175.

[4] Chemiak, Minimal Rationality, chapter 2.

[5] أنظر:

Cohen, "Knowledge, Context, and Social Standards."

[6] Keeton et al., The Law of Torts, p. 184.

[7] انظر:

Sosa, "How Do You Know?" and "Knowledge in Context."

[8] ما يعتبر قدرًا "معقولًا" من  زمن  حساس للسياق ، وسيعتمد على عوامل مثل مدى أهمية وجود معتقدات صحيحة حول بعض الموضوعات في بعض المناسبات بالإضافة إلى مهنة الفرد ( أن مستوى اهتمام الفرد في التعامل مع ستكون الاحتمالات المضادة أعلى من المعتاد إذا كان الفرد عضوًا في مهنة خاصة وظيفتها الحصول على معلومات دقيقة حول بعض الموضوعات).

[9] أنظر  ملاحظة بيرس  في:

C. S. Peirce, Collected Papers (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1932),358.

 

Heidegger et Dieu

بقلم: مجموعة من الكتاب

إعداد وتقديم وترجمة د. جواد بشارة

***

توطئة: هل يمكننا بالعقل وحده معرفة الحقيقة: وهل الذكر والتعبد يكفي لإثبات وجود الله؟ لن تكون الفلسفة وحدها قادرة على إحداث أي تأثير فوري يغير الوضع الفكري القائم حالياً لدى البشرية في العالم.

المقدمة: هيدغير والوجود الإنساني

ﺍﻧﻄﻠﻖ ﻫﻴﺪﺟﺮ ﻣﻦ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ‏وماهو حوله (ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ‏) ﻟمعرفة ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ، ﺣﻴﺚ ﻳﺮﻯ ﺑﺄﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻣﻌﻨﻰ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻮﺍﺟﺪ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﺎﺩﻱ ﻷﺷﻴاء ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻷشياء ﺑﺘﻤﻴﺰﻩ ﺑﺨﺼﻮﺻﻴﺎﺕ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﺫﺍﺗﻴﺘﻪ ﻭﻓﺮﺩﻳﺘﻪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻮﺍﺟﺪ ﻣﻊ ﺫﻭﺍﺕ ﺁﺧﺮﻯ ﺗﺸﺒﻬﻪ ﻭﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ؛ ﺃﻱ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻟﻴﺴﺖ ﺫﺍﺗﺎً ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺗﻤﺎﻡ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ، ﺑﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻫﻲ ﺗﺘﻮﺍﺟﺪ ﻣﻊ ﺫﻭﺍﺕ ﺁﺧﺮﻯ؛ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﺣﺴﺐ ﻫﻴﺪغر ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻮﺟﻮﺩﻳﻦ : ﻭﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩ ﻣﻊ العالم أي مع ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﺇﺫ ﻗﺴﻢ ﻫﺎﺫﻳﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ .

ﻭﻗﺪ ﺃﻭﺿﺢ ﻫﻴﺪغر ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻓﻲ ﻛﻮﻥ ﺍﻷﻧﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ الذي ﻳﻌﻴﺶ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺷياء ﻭﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻭﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻦ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻄﺎﻗﺎﺕ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺭﺑﻂ ﻋﻼﻗﺎﺕ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ، ﻭﻣﻦ ﺗﻘﺎﺳﻢ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻣﻊ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻣﻮﺿﺤﺎً ﺃﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺪﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻳﺔ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻳﺤﻤﻞ ﻭﺟﻬﺎﻥ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺎﻥ، ﻭﺍﺣﺪ ﺳﻠﺒﻲ ﻭﺍﻵﺧﺮ ﺇﻳﺠﺎﺑﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ﺗﺒﻌﺎً ﻟﻸﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻬﺠﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ، ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻹﻳﺠﺎﺑﻲ ﺃﺳﻠﻮﺑﺎً ﺃﺻﻴﻼ ﻭﻳﺸﻜﻞ ﻧﻘﻴﻀﻪ ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ، ﺇﺫﻥ ﻓﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﻗﻮﻝ ﻫﻴﺪغر، ﻳﻨﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﺎﺗﻪ ﻭﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﺑﻮﻋﻲ ﻛﺎﻣﻞ ﺑﺎﻷﻭﺿﺎﻉ ﻭﺍﻟﻈﺮﻭﻑ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻪ .

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ، ﻓﻴﺮﻯ ﻫﻴﺪغر ﺃﻧﻪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻨﻤﻄﻲ ﺍﻟﻐﺎﺭﻕ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ، ﺣﻴﺚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻋﻦ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻭﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ، ﻭﻳﺼﺒﺢ ﺗﺎﺑﻌﺎً ﻹﺭﺍﺩﺍﺕ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻓﻴﺴﻘﻂ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻻﻏﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻌﺰﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﺫﺍﺗﻪ ﻭﻳﺘﺤﻮﻝ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺇﻟﻰ ﺷﻲﺀ ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻨﻪ؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺗﻔﺮﻍ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻭﺗﺼﺒﺢ ﻣﻬﺪﺩﺓ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻭﻻ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻮﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ..

الله والوجود أم الكينونة والله؟

هذا موضوع شغل التفكير في العصور القديمة سواء في الشرق أو الغرب لدى الحضارات اليهو- مسيحية أو الإسلامية التوحيدية أو الوثنية، ولكن يبدو إن الفكر الغربي المعاصر قد أهمله نوعاً ما.  ولكن قبل أن نبتعد قليلاً عن علاقة فكرة الوجود وفكرة الله من الأهمية بمكان معرفة أصل الحضارة الغربية وعلاقتها بالدين، وأن ندرك ونفكر مرة أخرى في انتمائنا المزدوج إلى حقيقة الوجود كما كشف عنها الفيلسوف الإغريقي باراميندس وأفلاطون والفلسفة اليونانية القديمة كنقطة انطلاق ومن ثم تناول الأطروحة التوراتية في العهد القديم وقصة موسى والتوحيد من زاوية العلم كما تناولها سيغموند فرويد وتعاطي بقية الأنبياء لغاية المسيح عيسى بن مريم ومحمد ". بين قطبي تأثير العبرية والهيلينية هذين يتحرك عالمنا ومن هذا اللقاء المفترض ينجم فكر جديد عن الوجود يحفر التفكير بالوجود من منظار الفكر الديني.

من البديهي القول برأي أغلب الفلاسفة المعاصرين إن مارتن هايدغر هو بلا شك الرائد الرئيسي لمحاولة تجديد مسألة الوجود وإعادة قراءة التقليد الميتافيزيقي كتاريخ للوجود، وعلى نحو أكثر دقة، كتاريخ للنسيان. فالوجود من التطرف والتعقيد بمكان بحيث لا يمكن لقرن الأزمة هذا أن يصل إلى أجوبة لهذه السمة الراديكالية للوجود. فهناك بلا شك تفكيك حاسم " للهيكل الموجود" والطافح على سطح الميتافيزيقيا ومنطقها مما يدل على عدم ملائمة هذا المنطق للحقيقة التي يحاول تعريفها.

بعد ذلك سوف نعثر لدى هيدغر على دعوة لعمل "خطوة إلى الوراء" للشروع في بداية جديدة أخرى بدءاً من الشعراء ومن الفكر السائد ما قبل سقراط ومن اهتمام أكثر جوهرية بحقيقة الوجود، كما نراه يتألق في الوجود الإنساني والإبداع الفني. أخيراً أعلن هيدغر، الذي حرر الفكر من قبضة العقلانية التكنولوجية، عن تحرير الإنسان نفسه وتحرير الكائن الذي يتحداه. صدفة غريبة بين هذه اللفتات التحررية وتلك الخاصة بالفكر الديني، والتي ولدت أيضا من الأزمة أزمة نفسية متعطشة بنفس القدر إلى حقيقة أكثر أصالة وإلى دعوة لإعادة قراءة التقاليد، حيث يضعنا هيدغر وجهاً لوجه مع سؤال لا يمكن تجنبه ويجعلنا عقبة أمام الحلول الموجزة: ما هي العلاقة بين أن يتم كشف النقاب عن طريق الأنطولوجيا الجديدة وبين الله؟

فهيدغر المستهدف باستجواب ديني جديد، وتماشياً مع أسلوب تفكيره، ترك لنا سؤالاً مفتوحاً وليس خاتمة أو أطروحة ناجزة. ما هو مطلوب منا هو الاستماع إلى هذا السؤال فمثل هذا الاستماع يمكن أن يقود مفكري الوجود ومفكري الله أيضًا إما لاتفاق، وإما لاختلاف ومعارضة أو تعارض، أو لعدم التفكير في السؤال الهيدغري نفسه. بطريقة لا مفر منها لطبيعة هذا السؤال، حتى لو أدت المواجهة إلى طريق مسدود. أولئك الذين يأخذون الكلمة في هذا النقاش ليسوا كلهم من أتباع الفكر الهيدغري. وربما تكون هذه التعددية في الأصوات هي التي تكمن في مصلحة هذا الاجتماع.

إن عواقب استجواب جديد للوجود بالنسبة للفكر الديني لم يتم استكشافها بالكامل؛ لكننا نأمل أن تمثل النصوص في هذه المجموعة الخطوة الأولى في تساؤل أكثر جذرية، وهو الانفتاح والحوار.

هل تغير موقف هيدغر الديني؟ وهل صحيح إنه في السنوات الخيرة من حياته انتبه إلى ضرورة وجود " إله مخلّص" إله ينقذ الوجود من شقائه مع الكائنات؟ وهل يتعارض مع الجهد المبذول للتفكير في الله من قبل هيدغر؟ لم تكن رباعية هيدغر، الأرض، السماء، البشر والآلهة خاصة بالهيلينية، بل الشكل الذي يتخذه العالم البشري، حتى في الكتاب المقدس، علماً إن هذا الأخير موضوع يتجاهله هيدغر في تأمله. من ناحية أخرى، إذا تم النظر إلى الممكن على أنه ملف البعد الذي من خلاله يتم تحديد الوجود والعدم أولاً، كما يقترح هيدغر، إذن فالمطلوب مراجعة جادة لأفكارنا عن الله ولغتنا اللاهوتية. بالنسبة إلى هيدغر، يتباعد اللاهوت وفكرة الالتقاء حول نقاط محددة، مثل العلاقة بين الهدوء الهيدغري والأمل أو الخلاص اليهودي المسيحي، ثم يتباعدان حسب زاوية التفكير بإظهار الاختلافات في التركيز وفي الاهتمام بين البحث الصوفي ومسار الحادثة. للعودة إلى سؤال أكثر جوهرية من مسألة الكينونة، السؤال الأخلاقي الذي يقاوم أي جهد لإعادته إلى أصل الوجودية وخارجها حيث لا يجد الوجود لنفسه أي مبرر. بحجب أسبقية المصير، نحن نغفل عن ما يمكن أن يربط معنى الرسالة الكتابية (والتي لا ينبغي اختزالها في "الإيمان، غير قابل للتواصل) بالمعنى الأنطولوجي الذي جعل هيدغر نفسه مترجمًا له. إن ما يُدعى خطأً "على المنطق" قد حمى سمو الله وعدم قابليته للتعبير عنه أفضل بكثير مما يُعتقد. كان دور مفهوم الوجود في اللاهوت المسيحي معقدًا للغاية ولا يمكن "التغلب عليه" بسهولة. ربما تكون "الخطوة إلى الوراء" التي ندعوا إليها اليوم أكثر راديكالية مما يوحي به النموذج الهيدغري.

سوف نفهم أن هذا الازدهار غير المتوقع لوجهات النظر المتنوعة لا يسمح باستنتاجات نهائية. شاهد الحوارات اللاحقة التي قمنا بترجمتها: في الجزء الثالث من هذه المجموعة. يتهم توني أوكونور علماء اللاهوت الذين ألهمهم هيدغر بالتقليل من خطورة أزمة مؤسسة الرب. يبدو أن فكر ليفيناس، المستوحى من الأساليب الكتابية لإظهار الله، واعد أكثر لبناء خطاب ديني معاصر. في المقابل، يسعى باتريك هيدرمان للدفاع عن هيدغر ضد انتقادات ليفيناس، مشيرًا إلى أن هيدغر أدرك أهمية الاستماع.

التفكير بالألوهية:

يقول بول ريكور:" ما أدهشني كثيرًا مع هيدغر هو أنه، على ما يبدو، تجنب بشكل منهجي المواجهة مع كتلة الفكر العبري. كان يفكر أحيانًا من الإنجيل ومن اللاهوت المسيحي؛ لكنه يتجنب دائمًا الكتلة العبرية، وهو الغريب المطلق فيما يتعلق بالخطاب اليوناني، فهو يتجنب الفكر الأخلاقي بأبعاده المتعلقة بالآخر وبالعدالة، والتي تحدث عنها ليفيناس كثيرًا. إنه يتعامل مع الفكر الأخلاقي بإيجاز شديد باعتباره فكرًا ذا قيمة، مثلما قدمه الفكر الكانطي الجديد، ولا يدرك اختلافه الجذري عن الفكر الأنطولوجي. يبدو لي أن سوء الفهم هذا موازيًا لعجز هيدغر عن اتخاذ "خطوة إلى الوراء" بطريقة تسمح لنا بالتفكير بشكل مناسب في جميع أبعاد التقليد الغربي. ألا تتطلب مهمة إعادة التفكير في التقليد المسيحي من خلال "خطوة إلى الوراء" أن ندرك البعد العبراني الجذري للمسيحية، والذي يتجذر أولاً في اليهودية وبعد ذلك فقط في التقليد اليوناني؟ لماذا تأمل فقط في هوديرلان وليس على المزامير؟ "

في " هيدغر وعلم اللاهوت" يقول جون بوفريه" يدعونا هذا السؤال إلى العودة إلى المناقشات الأولى التي أثارها نشر كتاب الوجود أو الكينونة والزمن Sein und Zeit، أي فيما يتعلق بفرنسا، في اجتماع الجمعية الفلسفية الذي انعقد في الرابع من ديسمبر 1937، برئاسة ليون رونتشفيك، الجلسة التي دُعي إليها هيدغر رسميًا، كما تشهد رسالة منه نُشرت في النشرة! توثق مساهمته لكنه لم يحضر 'بسبب عمل' الفصل الدراسي الحالي 'العمل المعني كان موضوعه جين الفلسفة  الأساسي Grundfrp. gen der Philosophie، أعلن اليوم كمجلد 45 من الأعمال الكاملة Gesamtausgabe. إذا كان غياب هيدغرHeidegger، الذي جاء إلى باريس فقط للمرة الأولى والوحيدة في عام 1955، بمناسبة وفاة Cerisy، كان الدافع الوحيد لهذا العمل؛ في ذلك الوقت، رحلة من جانبه خارج ألمانيا لم يواجه أي صعوبات أخرى. لا تزال هناك حقيقة تاريخية: ضيوف هيدغر في عام 1937 تحملوا بمرح، وبعد ثماني سنوات، إقالته من الجامعة بناءً على طلب سلطات الاحتلال الفرنسي: في تلك الجلسة لم يكن موضوع اللاهوت هو المحوري بل التفكير في الله. كان هيدغر يلتف على الموضوع من خلال الالتفاف على كيركيغارد Kierkegaard. كان هذا هو السؤال الشائك الذي كان رائجًا آنذاك حول العلمنة المزعومة لهيدغر من قبل غاسبرز- (كما يقول ريومور سيباستوبول) عن فكر كيركيغارد. بعد عشر سنوات، ما زال أحد أصدقائي يقول لهايدغر (ذات يوم كنا نحن الثلاثة نسير في غابة بالقرب من زاهرينجن): "ما يقولونه عنك في فرنسا هو أنك قبل كل شيء، علمنت فلسفة كيركيغارد. "لا يزال بإمكاني سماع رد هيدغر المبتهج:" ("لكن كيف يمكنني أن أعلمن فلسفة حيث لا توجد فلسفة؟") هذا ما كتبه هيدغر بالفعل إلى غاسبرز. ودوّن في عام 1937. وجود الإنسان: لكن مسألة كونك تطرح هذا السؤال الوحيد الذي يطرحه كتاب الوجود والزمن Sein und Zeit، لم يتعامل معه Kierkegaard أكثر من نيتشه، وقد تجاوزه غاسبر Jaspers تمامًا. بعد بضع سنوات، سيقول هيدغر بشكل أكثر وضوحًا في نص مُدرج في كتابه نيتشه: "كيركيغارد، الذي ليس لاهوتيًا ولا ميتافيزيقيًا، على الرغم من أنه جوهر كليهما في نفس الوقت دعونا نفهم أنه يجمع بشكل رائع بين "الشغف اللاهوتي" (المرجع نفسه، 477) مع العمى الكاذب لدى الميتافيزيقيا لمسألة "حقيقة" الكينونة مثل الانطلاق من الميتافيزيقيا، سوف يسعى هايدغر إلى تطويرها إلى "العودة إلى قلب الميتافيزيقيا" ولكن بعد ذلك، من هو Kierkegaard؟ هو يقول ذلك بنفسه (كما يتذكر Holzwege هولزفيغ،. "كنت ومازلت مؤلفًا دينيًا"، بمعنى أن "نشاطي ككاتب عن كل شيء يتعلق بالمسيحية، بصعوبة أن تصبح مسيحيًا، بأهداف جدلية مباشرة وغير مباشرة ضد هذا الوهم الهائل الذي هو النصرانية Christlichkeit، وبعبارة أخرى الادعاء بأن جميع سكان بلد ما هم مسيحيون مثلهم ". علاقة كيركيغارد بهيغل تعرض بالكامل في هيدغر وعلم اللاهوت 2 - أحد تلك "الأهداف الجدلية" حيث يقدم نفسه على أنه "خصم" لهيغل الذي خيب آماله، بينما كان ينتظر أن يكون مقلبًا من الدرجة الأولى، والذي لا يمنعه من البقاء تحت التبعية تمامًا للمثالية الألمانية التي حصل منها على الأطروحة القائلة بأن أساس الأشياء يتألف من الذاتية، بينما يتنفس المرء هواء العصر. أعلن في عام 1846 في حاشية الفتات الفلسفية: "تلك الذاتية والداخلية هي الحقيقة، هذه أطروحتي". وهي، في الواقع، أطروحة هيغل. إن هيغل بالفعل، وليس كيركيغارد، هو الذي أعلن في دورة برلين في فلسفة التاريخ، الذي كرر عدة مرات من 1822 إلى 1831 من تقريره حين كتب، "كان هذا! الطرح هو حل صالح لكل شيء بالنسبة لهيغل، لا يتلقى كيركيغارد فقط أطروحة أسبقية الذاتية، التي من المفترض أن تعطي المسيحية تفسيرًا أكثر جذرية من هيغل، ولكن أيضًا الرؤية الهيغلية للعالم اليوناني باعتباره الطفولة السعيدة للبشرية، أنه، من الناحية الفلسفية، يلتصق بديهياً من ناحية بوجهة نظر الذاتية ومن ناحية أخرى بتفسير غير نقدي للفكر اليوناني. وهي الأطروحة "التي لا تخضع بأي حال من الأحوال لمدرسة القرون الوسطى" كل هذا لا يمنع بأي حال من الأحوال قيام نيتشه وكيركيغارد بعمل مذكرة الاكتشافات التي وصفها بأنها غير حكيمة بعض الشيء كالكذب في "علم النفس (مثل المزيد في أواخر نيتشه، لكنها كانت موضة) والتي سيتعجب منها هيدغر. من هناك إلى الادعاء بأن الوجود والزمن أو الكينونة والزمن Sein und Zeit كـ "علمنة الفكر الكيركيغاردي هناك هاوية. ولماذا، أطلق كتاب كارل بارث، ولكن في الاتجاه المعاكس، على رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية لن يخضع لنفسه نوع الخصم ذاته؟ أن هيدغر وبارث قرأوا قراءة واحدة والآخر كيركيغارد بالذوق والربح كما يقولون، لم يترددوا في قول ذلك، فقط حكم مسبق في نظر الأدباء على الأسئلة التي كانت في أصل تفكيرهم.

ومع ذلك، إذا تخلينا عن الالتفاف عبر كيركيغارد باعتباره خارج السؤال، فإن "صعوبة أن تصبح مسيحيًا" ليست بأي حال من الأحوال مقدمة للفلسفة، فهي تعلق أهمية أكبر على حلقات واحدة من مقابلات ندوة Cerisy.

وكما أتذكر بشكل صحيح، الخميس 4 سبتمبر1955. خصصت جلسة ذلك اليوم بأسرها للأسئلة أو الاعتراضات التي وجهها الجمهور إلى هيدغر. في هذه المناسبة، صاغ بول ريكور سؤالاً أو اعتراضًا على "التراث العبري" بما في ذلك محاضرة تمهيدية عن: ما هي الفلسفة؟ بدا له أنه لا يتفوه بكلمة واحدة. ليس هناك سؤال (لقد أعدت تكوين مداخلة ريكور وفقًا لملاحظاتي) "لا عن الكائنات ولا عن الكينونة ولا حتى عن" ما هو اليوناني "الذي يتساءل بامتياز. ولكن هناك دعوة، سواء كانت دعوة تجوال موسى أو اقتلاع إبراهيم. هل يمكن استبعاد مثل هذه الدعوة، التي هي ليست يونانية، من الفلسفة؟ ترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية، والمعروفة باسم ترجمة الترجمة السبعينية، أليس هذا حدثًا لا يُسبر غوره في القاعدة من ثقافتنا؟ ما الذي، في الفلسفة، يحمل استجوابًا؟ وهل يمكن أن يكون الوجود دون أن يكون الكائن الأول؟ أو، على العكس من ذلك، ألا يكون الكائن الأول هو نفسه تمامًا ومصدر إشعاع لكينونة الكائنات؟ أجاب هيدغر: "هنا تتطرق إلى ما أسميته الطابع" اللاهوتي "للميتافيزيقيا والذي تعاملت معه كثيرًا. هل من الضروري حقًا في هذا الموضوع ربط الفلاسفة بالأنبياء، كما تقترح؟ أنا مقتنع بأنه بالنسبة لأي شخص ينظر إلى الأشياء عن كثب، فإن تساؤل أرسطو - سواء كان، كما سنقول لاحقًا، وجوديًا أو لاهوتيًا - له جذوره في الفكر اليوناني. وليس له علاقة بالدوغماتية الكتابية ". كما قال هايدغر بالفعل عن الشعارات وتفسيرها بهذه الطريقة، لا يصرح هيدغر بأنه حصري لكنه يظهر أقصى درجات الحذر تجاه سؤال: هل يمكننا حقًا، على أساس الفلسفة، الجمع بين المساهمة اليونانية والمساهمة التوراتية حيث تيس القديمة ما هي المساهمة اليهودية على وجه التحديد؟ لمن يرى الأشياء من بعيد يبدو أن الندوة لا تقدم أي شيء قدر المستطاع ربما كان الأمر مطروحاً بالفعل من العصور الوسطى ثم من الفلاسفة المعاصرين. ومع ذلك، فالأمر ليس كذلك بل أكثر من ذلك، بالنسبة لأي شخص يدرك أن المساهمة اليونانية هي بالضبط الفلسفة نفسها، والتي ليست بأي حال من الأحوال إطارًا عامًا يمكن ملؤه بلا مبالاة. بالاعتماد على مصادر أخرى، ولكن من إشكالية متمايزة، ألا وهي إشكالية وجود الكائنات. لمقاربة مسألة الكينونات فقط من بداية مسألة الكينونة، كان هذا هو المعنى الأنسب لما أطلق عليه الإغريق اسم الفلسفة وكذلك لكل شيء ظهر في العالم منذ الإغريق تحت هذا الاسم. الفلسفة أو الميتافيزيقيا، المصطلحان مترادفان بشكل صارم. هذا هو السبب في أنه لا يمكن للمرء أن يقرأ بدون أن يتفاجأ بعض هذه السطور من بول ريكور، الذي كتب عن هيدغيرHeidegger (la Métaphore vive، الاستعارة الحية ص 395): "لقد حان الوقت، يبدو لي لمنع الراحة، التي أصبحت كسلًا لـ الفكر، لتجميع تحت كلمة واحدة - ميتافيزيقيا - الفكر الغربي كله. لا ينكر هيدغر، بالطبع، وجود شيء آخر غير الميتافيزيقيا، أي الفلسفة، في الغرب. هناك أيضًا علوم وتقنيات ومعلوماتية وتحليل نفسي وأديان وحروب وحكومات ووزارات وخدمات عامة ومبادرات خاصة ونقابات ومعارض للرسم. إن عدم التفكير بأي من هذا هو أمر واضح للغاية. لكن هذا الفكر في كل مكان يعمل، فهو بالضبط مثل الفلسفة التي تدعي أنها تجتمع في قمتها الخاصة، أو حتى أنها تشكل اسم هيغل الأخير الأعمق الخيّر- ليس أقل وضوحًا. ربما تكون مساهمة هيدغر الأكثر جذرية هي إنه: جعل من المستحيل استخدام كلمة فيلسوف لتعيين أي صهارة أو مزيج من الأفكار العامة المتعلقة بأصل أو سبب العالم والأشياء بالإضافة إلى النهاية المفترضة التي سيكشف عنها تاريخهم، في المعنى الذي تحدث به هوسرل عن "غائية العقل"، ولكن لإعادة اكتشاف الدوام السري لسؤال أولي، من أحد أطراف الفلسفة إلى الطرف الآخر، وهو السؤال الذي لم يصبح سؤالًا فقط مع الإغريق ليظل بعيدًا، لهم ولنا، "إن لم يكن خارج أنفسنا". كل المشكلة موجودة في أن" الفيلسوف، في الغرب، خاصة، متخصص في العموميات؟ أين الفلسفة هناك؟

هل كانت المثابرة، لأكثر من ألفي عام، من السؤال بمبادرة من الإغريق؟ كيف أصبحت كريهة؟ وصولاً إلى لوثر الذي عاد إلى رسالة القديس بولس، وأعلن، بصدق أكثر من الرسول، تلك الفلسفة كانت صوفية، في العالم، من نصيب الشيطان وأنه سيكون من الأفضل حرق أرسطو. ربما كان لوثر، وهو يتحدث بهذه الطريقة، يتعمق أكثر من أولئك الذين يرضون أنفسهم بأقل تكلفة منه، الادعاء بالتفلسف دون فقدان الإيمان أو دون أن يحرم الإيمان نفسه من التفلسف. تفوقت الكاثوليكية في الواقع "لتسخير الخيول والغريفين معًا" (كانط)، وبفضل تقنية "الحظر" التي أعجب بها كانط. اتفق هيدغر على عكس ذلك مع لوثر، على الرغم من كونه على الجانب الآخر وهو الجانب الفلسفي، فهو غير خبير في "الإضرابات".

***

لماذا نُصدّق الأكاذيب والشائعات؟ هل لأنَّها قابلة للتصديق هكذا رغم معرفتنا بها أم أنَّ هناك نقصّاً في خبراتنا ومعارفنا؟ هل ثمة عنصرٌ في الأكاذيب يُمررها على الوعي دون نقدٍ؟! للإجابة عن أسئلةٍ كهذه، يجب التأكيد على كلمة (القابلية ability)، فهي تعني الإمكانية الذاتية لتقبُل ما يُقال في وضع تلقٍ دون مُساءلةٍ. ولكن: هل تلك الإمكانية واعيةٌ ولديها المبررات الكافية لاتخاذ المواقف؟!

يعني مصطلحُ  القابلية لكذا...) إمكانيةَ عمل شيء ما له نتائج مؤثرة أو لا تؤثر. وأنَّ هناك أمراً معيناً يصل بالإنسان إلى تلك المرحلة، ويكون جزءاً من أفكاره ودافعاً من دوافعه المُلّحة. لكن وعي الإنسان القابل لتصديق الموضوعات المتداولة– سواء أكان متجسداً في شخصٍ أم جماعة – يدفعنا إلى التفرقةَ بين مستويين:

أولاً: هناك الإمكانية بوصفها مسارَ قضيةٍ أو موضوعٍ أو فكرةٍ أو خطابٍ. وهذا المسار موجود في المجتمعات تحت ضغوط الثقافة السائدة، والأخيرةُ في الحقيقة تحاول كوظيفة رمزية توجيه المسارات إلى خطابات معينةٍ بحسب السمات التكوينية لها. والتوجيةُ يجري بشكلٍّ تلقائي دون أن يشعر به الناسُ، ويختلف من سياق إلى غيره ويسهم هؤلاء الناس في صناعته بنصيب وافر من التداول والأخذ والطرح والرد. لدرجة أنك عندما تجري مسحاً للآراء المقبولة وهي ليست حقيقة، ستندهش من مقدار التضخُم والإضافات التي قيلت فيها وجعلتها عند هذا المستوى.

ثانياً: هناك القبول العام الذي يُوجّه هذه المعطيات صوبَ ناحيةٍ بعينها. أي عندما يتم قبول هذه الفكرة أو ذاك الخطاب، فإنّ القبول إشارة إلى جر الشيء المقبول إلى مستوى آخر من التأثير. إذ لا يخضع الشيء المقبول للفحص والنقد، ولكن من مرةٍ إلى أخرى، يمتثل الوعي لتلك العملية بشكل متواصل حتى يصبح وعياً مستلّباً.

وبالتالي قد تأتي المبررات التي سيتمّ بناءً عليها قبول الموضوعات والأقوال من عدمه. وسيأخذ القبولُ مجراه فارضاً وجوده على وجهات النظر المختلفة. إذن (فكرة القابلية) بمثابة إمكانيةِ السماح لما هو ممكن في (مستواه) إنتقالاً إلى (مستوى آخر)، فيصبح الممكنُ جزءاً من نظام المعرفة عموماً، حيث يكون الأنا أو الـ" نحن" لاعباً أساسياً في تلك العملية المتبادلة. فهما اللذان يفتحان الطريق لقبول الشائع والرائج على أنَّهما حقيقة. وبقدر ما تكون العلاقة بينهما قائمةً على الشفافية أو التسلُّط يأتي وعي الأفراد يقظاً أو غافلاً عما يدور حولهم.

وقد يتعامل الأفرادُ مع الأكاذيب والشائعات على أنها جزءٌ مما يقبله الإنسان وكفى. لأنَّ ملء العقل بما يشغل الفراغ الحاصل أمر لا تتركه أنظمة بعض المجتمعات للصدفة، فحركة الفكر تتطلب محتوى جديراً بالعقل. وفي حالة ما لم يوجد المحتوى اللائق، ستكون الشائعات هي الغذاء اليومي للناس. ولن يكون هناك حد فاصلٌّ بين الشائعات والواقع المعيش طالما لا يستطيع الناس التمييز. وتدريجياً يتحول الوعي إلى (وعاء عام) يتقبل مع يطرح له وقد يذبُل حتى الإضمحلال. وستظهر بالتأكيد أمراض فكرية شديدة الخطورة لدى الأفراد مثل: ضعف الفهم وتشوش التفكير وانخفاض الآمال والإكتفاء باليومي والعابر والإنشغال بالأشياء الهامشية وتسطيح الرؤى.

ولذلك لوجئنا إلى معانٍ تقترب من فكرة (قابلية التصديق) لنحدد مضمونها بالنسبة إلى الإنسان، لوجدناها مختلفةَ المعنى هكذا:

القدرة: إذ ليست القابلية للتصديق قدرةً بالمعنى المعروف، لأنَّ القدرة إمكانيات فاعلة active تتجسد في أعمال للذات، ويستطيع أنْ يحققها الإنسان مؤثراً في محيطه. فلئن كان هناك منْ له قدرة على صناعة شيءٍ أو إنتاج شيءٍ أو إنجاز شيءٍ آخر، فهذه الأعمال تتخلق في الواقع اعتماداً على ما يمتلكه الإنسان من قدرات ذاتية (معرفية – نفسية - فكرية- جسمية...)، بينما القابلية للتصديق إمكانية متوجهة إلى الذات، من الخارج إلى الداخل وتقتحم وجود الإنسان رأساً. وليس هذا فقط، بل تشكِّل بعضاً من طريقة تفكيره ورأيه ومواقفه إزاء الأشياء والأحداث والأشخاص.

التمكُّن: التمكُّن هو القدرة على إمتلاك ناصية شيء ما أو مهارة معينة أو معرفة محددة. وهو الوصول إلى مرحلة القبول بهذا الشيء، لدرجة أنَّه يصبح موضوعاً محدداً بالنسبة للذات المتمكنة. ولكن إتساقاً مع ما سبق لا يعد القابل للتصديق من  جنس هذا التمكُّن الخاص، لأنَّ التمكن جهد مبذول بوعيٍ تجاه ما نريد التمكُّن منه عاجلاً أم آجلاً.

الكفاءة: لا تعد القابلية للتصديق كفاءةً، فالكفاءة بمثابة إضافة وزيادة تمكنان شخصاً من إنجاز عملٍّ بعينه. وبالتالي حينما نقول: إنَّ شخصاً معيناً كفؤٌ لهذه المهمة يعنى كونه إنساناً فاعلاً وقادراً على إتمامها بنجاح. وكل ذلك لا يتوافر في معنى القابلية للتصديق من بداية الطريق.

الطاقة: وهي وسع الفرد لأنْ يتقبل شيئاً ما بناء على روية خاصة به وبناء على قدرات يتمتع بجوانبها الحيوية. والطاقة بذل الوسع لأجل بلوغ شيء معين، ومن أول وهلة لن يكون معنى طاقة الإنسان موازيا لقابلية التصديق. لأنَّ الإثنتين مختلفتان في البنية وفي طريقة العمل. فالقابلية للتصديق تلغي (طاقةَ الفرد) على الفعل، أي تجعل الإنسان دون طاقةٍ، وهي تنظر إليه باعتباره وجوداً سلبياً. مجرد تراكم بشري ليست له فاعلية خارج ذاته، وإلّا لما صدّق كل ما يقال له بالضرورة.

الحَوْل والطَّوْل: وهما كلمتان متميزتان في اللغة العربية، إذ يتم التصرف في الأمور والتأثير فيما يحيط بالإنسان. ومن حيث المبدأ، فإنَّ الذي يتميز بالحول والقوة يستطيع أنْ يكون رقماً صحيحاً في معادلة الواقع والحياة. ولكن يتبين أن القابلية للتصديق تسلبُ إنسانها تلك الخاصية، تجعله مجرد عرض فارغ ملقٍ على قارعة الآخرين.

ذلك إنَّ القابلية للتصديق تعود بالإنسان إلى كونّه كائناً منفعلاً، أي أنّ الإنسان عندما يكون لديه (قابلية للتصديق  believability) لا يتم الأمر منفصلاً عن تكوين فكري عام يدمجُه والموضوع القابل للتصديق جنباً إلى جنبٍ، بل يصبح الأمر من جملة الأشياء والموضوعات التي تجري في هذا الإتجاه. على سبيل المثال: لو قيلت شائعات أو أخبار متداولة عن شخصيةٍ مشهورةٍ نحن نعرفها، فإنَّ القابلية للتصديق تتوقف على المُناخ العام الذي يصوغ الأخبار، ويساعد على انتشارها وإطلاق بذورها قيد الريح. وتبدو العقول كأنها مستقبلات لخطاب موجودٍ بالفضاء الثقافي، وليس يحتاج أكثر من الوصُول إلى الأسماع حتى يصدق الناسُ ما يُقال.

ومع توجُهات الثقافة الجارية، قد يشارك الناسُ أنفسهم في صياغة الشائعات وإطلاقها على الرغم من كونهم متلقين. لأنَّ الشائعات تختلط بقدرات المتلقي على القول، والتعبير عما يكمن في الثقافة من فراغاتٍ ممتدةٍ. وأحياناً تعتبر الشائعات تنفيساً لما يعتمل في نفوس الناس من غرائز وصراعات نفسيةٍ. عندئذ يكون المتلقي لديه القدرة على أنْ يكون مصدراً للأخبار الكذوبة رغم أنه في مرحلة التلقي السلبي. فمع الوقت ينقلها بمبررات لا واعية إلى الآخرين، وتصبح عالقةً بالمواقف والعلاقات الإجتماعية طالما تستطيع الثقافة إزكاء جوانب القول وترويجه على نطاق واسعٍ. والفرد هنا مجرد صدى رديء للمناخ العام سامحاً للآخرين بالتلاعب بوعيه وأن يصبح رد فعل ليس أكثر.

ولنلاحظ أنَّ سلطة المعرفة (مصدرها ومؤسساتها و رمزيتها وآثارها) تكرس حالة القابلية بوصفها إمكانية مرهونة بمواقف تشبع الوعي حتى النهاية. نظراً لعدم وجود البدائل القوية التي تتفق مع جوهر المعرفة ومناهجها. فالسلطة تمثل بالنسبة إلى الوعي الوصفة السحرية التي تراوغ مقاومته لصالح مركزيتها المفترضة. ويعد الوعي مجالاً خصباً لا لإدراك السلطة بوصفها متجاوزة له، بل باعتبارها ملتحمة به في تحولاته وعناصره وطريقة عمله داخل المجتمع والتاريخ والثقافة.

أي أن السلطة هي أصلاً نوع من (القابلية لأحداث كذا..) في تكوينها وممارسة وجودها، وهي ما نطلق عليه السلطة كأثر يتجاوز موضوعاتها القريبة. لماذا تُوجد السلطة حين لا نتوقع وجودها في المجتمعات الإنسانية عادةً؟! أثر السلطة هنا هو الوجود الممتد والذي نقابله دوماً باساءة التقدير، لأنه يوجد حيثما لا نتوقع وعندما نتوقع لا نقدّره كما هو بالضبط، إذ ينتشر في المناطق الرمادية من حياتنا المشتركة. ويظهر وجود السلطة بإستمرار مع الوعي بحركة المجتمع ووجود الآخر.

وبالتأكيد نمثل نحن البشر أبرز حوامل السلطة دون أنْ ندري وقد نعيد إنتاجها على المدى القريب والمحتمل. بدليل أنَّ المرء لو رأى سلوكاً غير متسقٍ مع العادات والتقاليد أو مع القوانين، سرعان ما تبدو عليه علامات الإستنكار وقد يتخذ موقفاً ملموساً. وهذا معناه أنَّ السلطة تترك أشكالَّها البديلة في موضوعاتٍ حاملةٍ لمعناها ومعاييرها من واقع الثقافة الجارية.

إنَّ انتشار السلطة هي الصفة نفسها التي تجعل الشائعات ممكنةً وقابلةً للتصديق. أي أنَّ الأكاذيب تزدادُ رواجاً في المناطق الرمادية من الوعي الجمعي ضمن المجتمعات الإنسانية. بمعنى أنَّ العلاقة عكسية بين إعمال العقل وزيادة رقعة التسلط، والعلاقة تجعل العقول ضائعة وسط ضجيج الأقوال دون مصدرٍ موثوق لها. ومتى كانت المجتمعات حُرّة ويتمتع أفرادها بحقوق التعبير والتفكير، قلّت درجة القابلية للتصديق. لأن القابلية للتصديق تنتشر في البيئات الأدنى شفافية، والتي يتسطَّح فيها الوعى إلى مساحات أفقية ممتدة طوال الوقت.

في المقابل يعد المجال العام بمثابة مجال عدم القابلية للتصديق، ولذلك كان من طبيعة هذا المجال كونه مجالاً فارزاً لكل ما يُضاد الإنسان، ولكل ما يُضاد التعميّة والقبول من غير شروطٍ. وإنعدام قابلية التصديق يعني إيجاد معايير موضوعية تحتاج إلى تمحيص دائم. والديمقراطية في أحد مستوياتها تدعم عدم القابلية للتصديق، وبخاصة أنها تمثل نطاقاً من العمل المشترك لأجل الآخر حاضراً وغائباً. وتلك الوضعية تتطلب إقراراً بالثقة في العقل، ولكنه في الوقت نفسه لن يكون باباً خلفياً لمرور الأكاذيب والمزاعم دون توقفٍ.

لعلَّ عدم القابلية للتصديق سمةٌ من سمات التنوع والإختلاف، ويُقصد بها عدم القابلية لأن يكون( عقلُّ الإنسان) موضوعاً رديئاً وكفى، وألّا يصبح كالورقة البيضاء – عبارة جون لوك مرة أخرى ولكن في سياق مختلف- التي يكتب عليها أيُّ عابر سبيل ما يشاء. وتلك هي الكارثة التي تشهدها مجتمعات أقل شفافية، حيث تأخذ الأكاذيب والشائعات دورتها الشعبوية مروراً على أغلبِ العقول، حتى تشطب ما يبديه الإنسان من نقدٍ أو معرفةٍ حقيقيةٍ.

***

د. سامي عبد العال

 

تلعب فكرة الذات دورا مركزيا في الفلسفة الغربية وفي الهند وفي الثقافات الكبرى الاخرى. هناك ثلاث رؤى رئيسية حول الذات يمكن تمييزها. احداها تنطلق من التصور الكانطي للذات العقلانية المستقلة، والرؤية الثانية ترتكز على ما يسمى بنظرية الانسان الاقتصادي ذات الأصل الارسطي. كلا الرؤيتين تؤكدان استقلالية الانسان عن بيئته الاجتماعية والبايولوجية. مقابل هاتين الرؤتين، جرى افتراض رؤية اخرى تعتمد الذات المتطورة ضمن بيئة معينة.

مكان الذات

تشغل فكرة الذات دورا مركزيا في معظم الفروع الفلسفية. فمثلا، في الميتافيزيقا، نُظر الى الذات كنقطة بدء في التحقيق (في كل من الفلسفتين التجريبية والعقلانية) او كينونة يكتسب فيها التحقيق قيمة وتحديا (الفلسفة السقراطية). اما في الأخلاق والفلسفة السياسية، تُعتبر الذات مفهوما أساسيا في توضيح حرية الارادة بالاضافة الى المسؤولية الفردية.

الذات في الفلسفة الحديثة

في القرن السابع عشر، ومع ديكارت، اتخذت فكرة الذات حيزا مركزيا في التقاليد الغربية. اكّد ديكارت على استقلالية الفرد: انا استطيع ادراك اني موجود بصرف النظر عن العالم الذي أعيش به. بكلمة اخرى، يرى ديكارت ان الاساس الإدراكي لتفكيره الشخصي هو مستقل عن علاقاته البيئية وان عوامل الجنس والعرق والمكانة الاجتماعية والتربية جميعها غير ملائمة لفهم فكرة الذات. هذا المنظور عن الذات ستكون له نتائج حاسمة في القرون اللاحقة.

المنظور الكانطي

يُعتبر كانط هو أول منْ طور المنظور الديكارتي بطريقة أكثر قوة وثورية. طبقا لكانط، كل شخص هو كائن مستقل قادر على تصور مسارات الفعل التي تتجاوز أي علاقات بيئية (العادات، التربية، نوع الجنس، العرق، الحالة الاجتماعية، المواقف الشعورية). مثل هذا التصور عن استقلالية الذات سيلعب دورا هاما في صياغة حقوق الانسان: كل انسان مؤهل لهذه الحقوق بسبب الاحترام الذي يستحقه كـ انسان بقدر ما هو كائن مستقل. منظور كانط يشكل واحدا من أقوى وأهم الاسس النظرية التي تنسب دورا مركزيا للذات.

الانسان الاقتصادي والذات

رؤية الانسان الاقتصادي تنظر لكل انسان ككيان انفرادي يكون دوره المركزي وربما الوحيد في الفعل هو المصلحة الذاتية. وفق هذا المنظور، الاستقلالية الانسانية يُعبّر عنها في أفضل الاحوال في السعي لتحقيق رغبات المرء الشخصية. تحليل أصل الرغبات ربما يشجع اعتبار العوامل البيئية، لكن تركيز نظرية الذات المرتكزة على الانسان الاقتصادي ترى كل فرد كنظام من الأفضليات منعزل بدلا من شخص متكامل مع بيئته.

الذات الايكولوجية

أخيرا، المنظور الثالث للذات يراها كعملية من التطور تحدث في مكان بيئي معين. عوامل مثل الجنس ونوع الجنس والعرق والمكانة الاجتماعية والتربية والتعليم الرسمي والتاريخ العاطفي جميعها تلعب دورا في تشكيل الذات. كذلك، معظم الكتّاب في هذا المجال يتفقون على ان الذات ديناميكية، وهي في عملية صنع دائم: الذاتانية ربما هي التعبير الأكثر ملائمة لهذه الكينونة.

***

حاتم حميد محسن

أحتاج لتمهيد الطريق لصيغة السياقية المعرفية التي اعتزم مناقشتها هنا، أولاً إلى تحديد فكرة التثمين أو التقييم المعرفي. إن اهتمامي الأساس هنا هو طرح أسئلة حول تبريرالأعتقاد الأخلاقي وليس أسئلة إثبات المبادئ الأخلاقية أو كشفها أوعرضها. أحتاج إلى توضيح ما أعنيه هنا، وأحتاج إلى توضيح كيفية عمل مصطلحات معينة من التقييم المعرفي (مثل "التبرير"،"العقلانية") أيضًا. وكما سأوضح، من الأفضل تفسير إسهامات التبرير (والعقلانية) على أنها تتضمن معايير معينة ومتغيرة سياقيًا. سيسمح لي شرح هذه الأمور بتوضيح الفكرة المحددة للتبرير العقائدي التي تثير اهتمامي، وهو فكرة أن يكون المرء مسؤول معرفيا عما يؤمن به. دعني أوضح.

ملاحظات أولية حول التبرير

أهتم -هنا- بالأسئلة المتعلقة بالتبرير العقائدي، أي الأسئلة المتعلقة بالوقت الذي يكون فيه شخص ما لديه ما يبرره من اعتقاد رمزي، وعلى وجه التحديد الأعتقاد الأخلاقي.[1] يجب التمييز بين الأسئلة المتعلقة بالتبرير العقائدي، اي المتعلقة بمعتقدات المرء والأسئلة المتعلقة بالظروف التي يمكن بموجبها إثبات صحة أو التحقق من صحة أو "تبرير" بعض االقضايا أو المطالب أو الادعاءات. لقد كان هناك الكثير من التركيز على موضوع التبرير في الأخلاق. ويدل على ذلك محاولات الفلاسفة الأخلاقيين لتوضيح وتفسير أنواع الاعتبارات التي يمكن استخدامها لإثبات أو إظهار حقيقة (صحة) الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية بما في ذلك المبادئ الأخلاقية خصوصًا. أفكر هنا في محاولات الفلاسفة الأخلاقيين لشرح أنواع الاعتبارات التي يمكن استخدامها لإثبات أو إظهار حقيقة (صحة) الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية بما في ذلك المبادئ الأخلاقية. وتتمثل هذه المحاولات في: محاولة ماركوس سينجر[2] لإثبات مبدأ حجة التعميم استنادًا إلى اللجوء الى منطق الخطاب الأخلاقي، ومحاولة جيويرث[3] لإثبات ما يسمى بمبدأ الاتساق الشامل استنادًا إلى ادعاءات حول طبيعة الفعل العقلاني، ومحاولة دوناجان[4] لإثبات مبدأ الاحترام الكانطي للأشخاص بناءً على ادعاءات حول طبيعة الأسباب العملية وطبيعة الأشخاص الأخلاقيين، ومحاولة براندت[5] لتبريرصيغة من النفعية تستند إلى حد كبير على الاعتبارات التجريبية من علم النفس المعرفي، ومحاولة راولز[6] في تبرير مبدأيه الخاصين بالعدالة على أساس اعتبارات التماسك العام المتصورة على نطاق واسع، ومحاولة هير[7] في تبرير مبدأ أخلاقي نفعي قائم على منطق المفاهيم الأخلاقية. نظرًا لأن المبادئ الأخلاقية هي في صميم النظريات الأخلاقية المعيارية، فإن محاولات هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين لإثبات المبادئ الأخلاقية تتعلق بمسائل قبول النظرية في الأخلاق، وليس معنية بمسائل التبرير العقائدي (أيً التي تتعلق بمعتقدات المرء) بشكل مباشر.[8] ومع ذلك، حتى إذا اتخذ المرء موقفًا مضادًا للنظرية الأخلاقية وينكر إمكانية تنظيم الظواهر الأخلاقية من خلال مبدأ واحد أو حتى بمجموعة صغيرة من المبادئ، فإن التمييز بين التبرير العقائدي وغير العقائدي يعد مهما واجبا.[9]

نجد في نظرية المعرفة المعاصرة مجموعة متنوعة من التفسيرات لتبرير الأعتقاد. يشير ريتشارد فولي، إلى أن إسناد العقلانية يجب أن يُفهم على أنه يتضمن إشارة إلى (1) هدف أو مجموعة أهداف (2) وكذلك الى منظور.[10] أنا مهتم في المقام الأول بمفهوم تبرير الأعتقاد الذي يمكن فهمه بشكل مفيد وفقًا للخطوط التي يوصي بها فولي للأعتقاد العقلاني. سواء كانت الفكرة التي أهتم بها متطابقة مع فكرة فولي عن الأعتقاد العقلاني أم لا، فإنني أترك هذا مفتوحًا. ما أقترحه، إذن، بعد فولي، هو التفكير في وصفات التبرير العقائدي على أنها تنطوي على عوامل معينة متغيرة سياقيا . أريد أن أعلق بإيجاز على اثنين من هذه المعايير حتى أكون على وصف أكثر دقة لمفهوم تبرير الأعتقاد.

بادئ ذي بدء، إذن، أن التقييمات التي تستخدم التبرير سواءً بشكل صريح أو ضمني،أو الترويج لبعض الأهداف دائما ما تُعزز بمعتقدات مبررة. إنه من المعتاد هنا التمييز بين الأهداف المعرفية مثل امتلاك معتقدات حقيقية وتجنب الأهداف الخاطئة، ومختلف الأهداف غير المعرفية مثل البقاء على قيد الحياة. بالمقابل، نميز بين التبرير المعرفي والتبرير غير المعرفي. وهذا يعتمد ما إذا كان اعتقاد ما مبررًا معرفيًا وعلى ما إذا كان يروج لأهداف امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة.[11] إنه من المهم بشكل خاص التمييز بين التبرير المعرفي من التبرير غير المعرفي، ولاسيما في الأخلاق حيث تكون المناقشات حول ما إذا كانت العبارات الأخلاقية صحيحة أو حتى لها قيم حقيقية في مركز الصدارة.

ثانيًا، تفترض وصفات التبرير منظورًا بشكل مسبق. يصف فولي المنظور بأنه مجموعة من المعتقدات أو من الآراء التي يمتلكها بعض الأفراد أو المجموعات الفعلية أو الخيالية. ومن المفترض أن تتضمن هذه المجموعة من الآراء معتقدات معرفية تعكس مجموعة من المعايير المعرفية التي تظهر في المنظور المعني.[12] هناك وجهات نظر معرفية مختلفة تنطلق منها التقييمات المعرفية؛ وتتضمن: المنظور الذاتي أو الأناني للشخص، والمنظور الذي يجمع بين أفراد المجتمع، ومنظور مجموعة من الخبراء. غالبًا ما تمر حقيقة التبرير منظوريًا دون أن يلاحظه أحد لأننا لا نوضح المنظور الذي تجري من خلاله مثل هذه التقييمات في كثير من الأحيان. لكن تعكس وجهات النظر المختلفة السارية في وصفاتنا للتبرير والعقلانية اهتمامات وأغراض تقييمية مختلفة لدينا. على سبيل المثال، عندما نكون مهتمين بفهم بعض المعتقدات التي يتبناها شخص معين في مناسبة ماضية، وعندما يبدو هذا الاعتقاد خاطئًا بشكل واضح الآن، فغالبًا ما نهتم بكيفية ظهور الأشياء للمرء في المناسبة المعنية. هنا من الطبيعي أن نستدعي منظورًا ذاتيًا وأن نسأل عما إذا كان له ما يبرره، بالنظر إلى المنظور المعرفي للفاعل في ذلك الوقت، في التشكيك في الاعتقاد.

ومع ذلك، قد نكون مهتمين، ولأغراض معينة، بتقييم فرد ما بالنسبة للمعايير المعرفية السائدة في مجتمعه، وفي هذه الحالة يتضمن تقييمنا منظورًا اجتماعيًا. ورغم أنه، في سياقات أخرى، لدينا اهتمام المسائل المتعلقة بالتبرير بصرف النظر عن المنظور الذاتي أو بين الذوات في المجتمع كطريقة لالتقاط منظور موضوعي مناسب. ياتي التعبير عن الدرس الأكثر أهمية للتعلم من كل هذا الحديث عن المنظورات بشكل جيد من قبل فولي: "لا يوجد منظور واحد مناسب لفهم النطاق الكامل لأحكامنا المتعلقة بالعقلانية. نحن نصدر مثل هذه الأحكام لمجموعة متنوعة من الأغراض وفي سياقات متنوعة، وفي نوع الحكم الذي نميل إلى إصداره وفقًا لهذه الأغراض والسياقات.[13]

هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذه العوامل المتغيرة سياقًا للتبرير المتعلق بمعتقدات المرء، وسنكتشف كيفية عملها أثناء تقدمنا في البحث. وبعد حديثنا الذي تقدم يمكننا ان ننتقل للحدث عن التبرير الأخلاقي.

أولاً، أنا مهتم بالتقييم المعرفي لمعتقدات الأفراد، حيث يكون الهدف الأساسي الذي ينطوي عليه مثل هذا التقييم هو امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة. ثانيًا، أنا مهتم بشكل خاص بنوع التقييم المعرفي الفعال في تقييماتنا المعرفية اليومية للأفراد.[14] إن نوع التقييم الذي يدور في ذهني يتعلق بأسئلة حول كيف يمكن أن يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عن المعتقدات التي يحملها.تتمثل إحدى الطرق المضيئة في تقييم المسؤولية المعرفية للفاعل هي في استدعاء منظور ما يمكن أن نطلق عليه "االفرد المسؤول من الناحية المعرفية" على التناظر مع معيار "الشخص العاقل" في القانون.[15] تكمن الفكرة في استخدام هذا النموذج كأساس للتحقيق في المعايير المعرفية الأساسية التي نستخدمها عادة في تقييم الحالة المعرفية للاعتقاد الأخلاقي. هناك نوعان من السمات التي يجب أن يتمتع بها هذا النموذج إذا كان سيخدم في هذا الدور. أولاً، إذا كان لها أي نوع من المعيارية تكون مفيد كمقياس لشخص مسؤول معرفيا بخصوص المعتقدات التي يؤمن بها، فيجب أن يأخذ طابع المثالية، أيً أفضل مما هو عليه في الواقع. إن المرء المسؤول معرفيا هو المرء الذي تعمل أنشطته المعرفية كمعيار لأنشطتنا المعرفية: يجب أن نلتزم بتلك المعايير التي تميز المرء المسؤول. ثانيًا، نظرًا لاهتمامنا بتوصيف فكرة التبرير المعرفي الذي ينطبق على البشر، فإننا نريد مفهومًا للمسؤولية المعرفية غير مثالي بشكل مفرط. باختصار، نريد نموذجًا للمسؤولية المعرفية يمثل "نموذجًا واقعيًا". بعد وضع هذه القيود في الاعتبار سأشرع في رسم جزء من نموذج للمسؤولية المعرفية.

**

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] من المهم أن نميز بين ما يمكن أن نسميه التبرير العقائدي الفعلي والتبرير العقائدي الافتراضي. يشير الأول إلى الحالات التي يكون فيها: (1) لدى المرء أدلة كافية e تبرر الاعتقاد بأن أ، (2) يعتقد المرء أن p، و (3) يعتقد المرء أن أ على أساس ب. الحالات التي لا يكون فيها المرء مبررًا فعليًا ولكن فقط افتراضيًا هي تلك الحالات التي يكون فيها البند (1) صحيحًا ولكن إما (2) أو (3) (أو كليهما) يفشل في الاحتفاظ به ؛ بالنظر إلى الأدلة أو الأسس، يمكن تبرير اعتقاد المرء بأن يؤسس هذا الاعتقاد على الأدلة أو الأسس. أنا مهتم في المقام الأول - هنا- بمسائل التبرير الواقعي الواقعي. يمكن العثور على بعض المناقشات حول هذا التمييز في:

Robert Audi, Belief, Justification, and Knowledge (Belmont, Calif.: Wadsworth, 1988), 1-2,

على الرغم من أنه يستخدم مصطلحي تبرير الاعتقاد والتبرير الظرفية لما أطلقنا عليه التبرير الواقعي والافتراضي على التوالي.

[2] Marcus G. Singer, Generalization in Ethics (New York: Atheneum, 1961).

[3] Alan Gewirth, Reason and Morality (Chicago: University of Chicago Press, 1978).

[4] Alan Donagan, The Theory of Morality (Chicago: University of Chicago Press, 1977).

[5] Richard B. Brandt, A Theory of the Good and the Right (Oxford: Oxford University Press, 1979).

[6] John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1971).

[7] R. M. Hare, Moral Thinking: Its Levels, Method, and Point (Oxford: Oxford University Press, 1981).

[8] لمزيد من المعلومات حول التمييز بين الأسئلة حول التبرير العقائدي والأسئلة حول التبرير غيرالعقائدي nondoxastic في الأخلاق، انظر:

Norman Daniels, "Wide Reflective Equilibrium and Theory Acceptance in Ethics," Journal of Philosophy 76 (1979), 257 n. 1;

David Copp, "Considered Judgments and Moral Justification: Conservatism in Moral Theory," in D. Copp and D. Zimmerman, eds., Morality, Reason, and Truth (Totowa, N.J.: Rowman & Littlefield, 1984), 143;

and Mark Timmons, "Foundationalism and the Structure of Justification in Ethics" Ethics 97 (1987), 598-99.

[9] بالطبع، الأسئلة المتعلقة بالتبرير غيرالعقائدية ذات صلة بالأسئلة حول التبرير العقائدي على الأقل: إذا كان، على سبيل المثال، يمكن إثبات الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية أو `` تبريرها '' من خلال استنتاجها من الافتراضات المتعلقة بالطبيعة البشرية، فإن إحدى الطرق التي يمكن تبريرها بشكل منطقي في التمسك بمعتقدات أخلاقية مختلفة هي الاستدلال عليها من مجموعة المعتقدات ذات الصلة (التي يتم تبريرها) حول الطبيعة البشرية. ولكن لا يجب أن تكون هذه هي الطريقة الوحيدة، أو حتى الطريقة الأساسية، التي يتبنى بها معظم الناس العاديين معتقدات أخلاقية بشكل مبرر. انظر، على سبيل المثال،

William Tolhurst, "Supervenience, Externalism, and Moral Knowledge," The Southern Journal of Philosophy 29, supplementary volume on "Moral Realism" (1986), 43-55,

[10] بالإضافة إلى الأهداف والمنظور، يدعي فولي أن التقييمات المعرفية يجب أن تُفهم على أنها تشير أيضًا إلى ما يسميه مجموعة من الموارد التي يمتلكها المؤمن. يقدم فولي هذه الصيغة، إذن، لفهم إسناد العقلانية: "من المنطقي أن تصدق - لأن لديك مورد ج، ولانه يبدو من منظور أ  في حالة ج تعتقد بـ د.

Foley, Working Without a Net (Oxford: Oxford University Press, 1993), p. 34.

[11] نحن نتفهم الاعتقاد المبرر فيما يتعلق بتعزيز أهدافك على ما يبدو بدلاً من القول، على سبيل المثال، أنه يجب في الواقع تلبية أهدافك لأنه حتى في الحالات التي لا تفي فيها معتقداتك بأهدافك، فنحن نريد السماح لك بأن تظل مبررًا في الأحتفاظ بإيمانك.

[12] هذا الأمر ليس واضحًا عند فولي. ينطوي الحكم من منظور ما على الحكم بالنسبة للمعايير المعرفية التي تميز جزئيًا المنظور المعني. على الرغم من أن فولي لم يكن صريحًا بشأن هذه المسألة، إلا أنه يبدو أنه يعتقد أن المعايير المعرفية للمنظور يتم تمثيلها على أنها معتقدات (يتم تعريف المنظورات، بعد كل شيء، على أنها مجموعات من المعتقدات). أظن أن الطريقة الأفضل لتفسير منظور لن تكون من منظور المعتقدات، لكننا لا نحتاج إلى الخوض في هذه المسألة هنا.

[13] Foley, Working Without a Net, p. 14.

وهذا يعني، بالطبع، أن الإسهامات الإبستيمولوجية ( المعرفية) حساسة للسياق - وهو ادعاء يتبناه السياقيونالإبستيمولوجيون . ومع ذلك، سوف يتضح مع تقدمنا في البحث أنه يمكن للمرء أن يؤكد أن التقييمات الإبستيمولوجية سياقية بالطرق التي يتضمنها مخطط فولي دون أن تكون من النوع السياقي حول البنية التي سأناقشها في هذا البحث.

[14] اضع هنا تعليقين : أولاً، ربما يكون من التبسيط للغاية افتراض أن هناك هدفًا معرفيًا واحدًا - امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة. فولي، على سبيل المثال، يوصف الخلاصة الإبستيمولوجية المحضة ( الهدف النهائي الذي بموجبه يتم تأسيس القيم والأولويات في نظام أخلاقي.) على أنه وجود نظام دقيق وشامل من الإيمان. Foley, (Working Without a Net, p. 19.

يجادل مايكل ديبول بأنه يجب علينا أن ندرك أنه بالإضافة إلى وجود معتقدات حقيقية وتجنب المعتقدات الخاطئة، تتضمن الخلاصةالإبستيمولوجية نظام معتقدات "عقلانية" و "مضمونة".

Balance and Refinement: Beyond Coherence Methods of Moral Inquiry (London and New York: Routledge, 1993), chapter 2.

ثانيًا، نظرًا لكوني مهتمًا بمفهوم بالتسويغ الإبستيمولوجي (التبرير المعرفي )، فأنا ملتزم بالتالي بالمنظور الميتا-أخلاقي الذي يسمح للحقيقة أن تُبنى على الجمل الأخلاقية وتتنبأ بشكل صحيح. ومع ذلك، فإن وجهة النظر حول الحقيقة الأخلاقية التي أقبلها تهدف إلى التوافق مع موقف ميتافيزيقي (يقبل الموقف كما هو ومستعد للتعامل معه وفقًا لذلك) حول الخطاب الأخلاقي. لتوضيح وجهة نظر محددة حول الحقيقة الأخلاقية، والتي تفسر حديث الحقيقة على أنه ينبثق من الافتراضات الأخلاقية بروح الحد الأدنى، انظر:

Mark Timmons, Morality Without Foundations: A Defense of Ethical Contextualism, Morality Without Foundations: A Defense of Ethical Contextualism.1998.

[15] قد يبدو، إذن، أنني مهتم بالتقييمات التي يتم إجراؤها من منظور اجتماعي، وعلى وجه الخصوص، المنظور المعرفي لمجموعة واحدة (على الرغم من أنني أقترح فهم الحديث عن "مجموعة الفرد"). هذا ما يهمني، بمعنى ما، لكني أريد تجنب سوء فهم معين لما أنا بصدد القيام به.

أولاً، نحتاج إلى ملاحظة أن هناك نوعين مختلفين من التقييم الإبستيمولوجي يستعملان أو يوظفان منظورًا اجتماعيًا. أولاً، تستدعي بعض التقييمات القائمة على المركزية الاجتماعية المنظور الإبستيمولوجي لمجتمع المعتقد بغض النظر عن المجتمع الذي قد يكون عليه. قد نسمي التقييمات الاجتماعية من هذا النوع عالمية أو عامة في الروح. إنها تمثل موقفًا نسبيًا مألوفًا في الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة) والسياقية المعيارية. لكن في سياقات أخرى، قد يكون الاحتجاج بمنظور اجتماعي محلي ( يمثل طائفة معينة من الناس تلتزم بأعتقاد معين) بشأن الروح. هذا هو، لبعض الأغراض، قد نكون مهتمين بتقييم معتقد الفاعل طبقا للمنظورنا الإبستمي، والذي يشمل، بالنسبة لنا، تلك المعايير الإبستمية (المعرفية) التي نؤيدها. الآن، من خلال التركيز على المنظور التخيلي للمعتقد مسؤول معرفيًا، فأنا مهتم بالتقييمات المعرفية التي تعكس ما أعتبره أكثر معاييرنا المعرفية عمومية وأكثرها استخدامًا على نطاق واسع، ولذا فأنا مهتم بالتقييمات ذات الروح المحلية ( التي تمثل جماعة معينة).

ثانيًا، أفسر مهمتي على أنها وصفية جزئيًا؛ إن المعايير المعرفية التي يستخدمها الفاعل المعرفي المؤهل هي المعايير التي تميز بشكل عام ممارستنا المعرفية االقائمة. لكنني أعتقد أيضًا أن أنواع المعايير المعرفية العامة التي لدي في ذهني - المعايير التي تحكم عادةً، بطريقة عامة، المهام ذات الصلة المعرفية المتمثلة في جمع الأدلة والتحقق من الاحتمالات المضادة للادعاءات التي نعتقدها - هي معايير تصمد أمام التدقيق النقدي، وبالتالي تمثل المعايير التي نود استخدامها في التقييم المعرفي.

على سبيل المدخل:

يبدو عنوان ندوة الدكتور عبد الجبّار الرّفاعيّ "الدّين: حياة في أفق المعنى"[1] لافتا، جذّابا لسببين على الأقلّ. لكونه يلفت الانتباه إلى مستويين في المعنى، أوّلهما وجوديّ، وجدانيّ يربط الدّين بالحياة الإنسانيّة في أعمق أبعادها. وثانيهما معرفيّ - تفكّريّ، يتقوّم بالرّبط بين الدّين والمعنى، فيؤسّس لعلاقة بين العقديّ والمعرفيّ.

والمطّلع على كتابات الرّفاعي يدرك أنّه يبني رؤيته الإسلاميّة التّجديديّة على هذين المقوّمين الرّئيسين، اللذين ترتكز عليهما جلّ المبادئ الفرعيّة. وقبل أن ننظر في الإجابات التي قدّمها وأسّس عليها مشروعه الفكريّ في إصداراته العديدة، وآخرها خماسيّته التي نحن بصددها:

1. الدّين والنّزعة الإنسانيّة.

2. الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ.

3. الديّن والاغتراب الميتافيزيقيّ.

4. الدّين والكرامة الإنسانيّة.

5. مقدّمة في علم الكلام الجديد.

يعنينا أن نتفكّر في الأسئلة التي طرحها أوّلا. من جهة كون السّؤال يمثّل أولى خطواتنا التّأويليّة في اتّجاه المعنى. فسؤالنا حينئذ: عمّ تساءل عبد الجبّار الرّفاعي في سياق تجربته الفكريّة والرّوحيّة وفي إطار بحثه عن المعنى الدّينيّ وعلاقته بالمعنى الإنسانيّ؟

من خلال مراكز الاهتمام التي ضمّنها كتبه ومنشوراته، كان سؤال الإنسان في فكر عبد الجبّار الرفاعي هو السّؤال المركزيّ الذي تدور في مداره كامل الأسئلة، وتطوف حوله كلّ المباحث والمشاغل.

فقبل السؤال عن الدّين ومقتضياته ومشروطيّة الانتماء إليه، لا بدّ من فهم حقيقة الوجود الإنسانيّ. حيث أنّ الدّين لا يتقوّم إلا بالإنسان. ولا يتعرّف الإنسان إلى الدّين إلا بمعرفة نفسَه أوّلا.

هذا السّؤال المركزيّ عن الإنسان، تتفرّع عنه أسئلة تفصيليّة تختصّ بالبعد النّفسيّ والبعد الرّوحيّ بما هما بعدان داخليّان في وجوده، تنتج عنهما الأبعاد الوجوديّة الأخرى على المستوى الاجتماعيّ والثّقافيّ والسّياسيّ وغيرها. ويتفرّع عن سؤال من نحن؟ ومن أنا؟ أسئلة من قبيل ما الحياة؟ ما الموت؟ أيّة رحلة وجوديّة تربط بين البدايات والنّهايات؟ أيّ سبيل للخلاص؟....

هذه المشاغل غير منفصلة عن بعضها البعض، بل هي تحتكم إلى تواصل وتواشج وثيقيّن، وتتقوّم بعلاقة التّأثير والتّأثّر. ذلك ما نقف عليه في طرح الرّفاعي ونجد عليه أدلّة ثابتة في مؤلّفاته.

ذلك أنّ مساءلاته عن الإنسان وعن حقيقة وجوده في الكون، وعن علاقة ذلك بوعيه بذاته وبالآخر وبصيرورته التّاريخيّة، جعلته يخصّص أقساما كبرى من كتاباته - وخاصّة في مؤلّفه "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ"- للإصغاء إلى صوت ذاته العميقة وهي تتحدّث إليه.

يمكن انطلاقا من هذا المدخل أن نوجّه اهتمامنا إلى نقطتين أساسيّتين:

I.  ماهية الإنسان ، ماهية الدّين: أيّة علاقة؟

1-  من هو الإنسان؟ [من الماهية الموهومة إلى الماهية المطلوبة]

1-1 الماهية الموهومة

1-2 الماهية المطلوبة

2-  ماهية الدّين: نحو تصحيح المسارين المفهوميّ والعمليّ

2-1 الماهية المحرّفة

2-2 الماهية المنشودة

II.  "السّؤال اللاّهوتيّ الجديد" ومساراته الممكنة

1-  المسار القلبيّ - الوجدانيّ - الحيويّ وآفاقه

2-  المسار الفكري - المعرفيّ

3-  المسار التّفعيليّ - الواقعيّ

I.  ماهية الإنسان ، ماهية الدّين: أيّة علاقة؟

يؤكّد الرّفاعي في غير موضع من كتاباته أنّه لا وجود لدين جامد - جاهز يقدَّم في شكل قواعد متكلّسة، ثابتة. وأنّه لا وجود لماهية واحدة تختزل التّنوّع الإنسانيّ في وحدة صامتة مصمتة. التّنوّع الإنسانيّ الذي قوامه تعدّد البيئات الحاضنة لطفولة كلّ إنسان والذي يتأسّس على كثرة التّجارب وتعدّد الثّقافات، يحتّم على من يتجشّم مسؤوليّة التّعريف بالإنسان عامّة أن ينطلق من تجربته المخصوصة، ويتتبّع تفاصيلها، ويتملّى دقائقها، ويلج أغوارها بصبر شديد وجرأة كبرى على مواجهة آلامها الدّفينة، ورغباتها الخفيّة، وهواجسها الكامنة. وذلك ما تجرّأ عليه الرّفاعي في إطار ما يعرف بـ "كتابة الذات".

من هو الإنسان؟ [بؤرة الأسئلة]

"لكي تعرف من أنت، عليك أن تعرف ما لست أنت" [حكمة شرقيّة]

(على سبيل التّصدير)

1-1 الماهية الموهومة:

يرفض الرّفاعي في التّعريف بالذات الإنسانيّة أمورا عدّة أوكدها وأبرزها:

* التّنميط، بمعنى حصر الوجود الإنسانيّ في قوالب انتماء موروثة ومسقطة.

* نسيان الذات واغترابها عن ذاتها.

* تعريف الذات بملامح شخصيّة مستعارة - مقنّعة.

* تزييف الأنا واستتارها وراء أنماط مجتمعيّة سائدة ومكبّلة.

* تنزيه الذات وتجريدها من تناقضاتها (إقصاء ثنائيّة الخير والشّرّ).

* تقزيم الذات ورفض تناقضاتها.

* اختزال الإنسان في الذات الاستهلاكيّة - التّملّكيّة.

* اختزال التّنوّع الإنسانيّ في مفهوم تبسيطيّ - سطحيّ.

* تعنيف الذات (استحضار التّجربة التّعليميّة التّربويّة الأليمة في طفولة الرّفاعي، ويحيلنا على هذه المعاني تحديدا كتابه "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ").

* إقصاء قيمة الكرامة في التّعريف بماهية الوجود الإنسانيّ.

* الاستعباد والاستكانة، وذلك في شكليها: "العبوديّة المقنّعة الطّوعيّة" و"العبوديّة المسلّطة - المفروضة".

* ذوبان هويّة الذات الفرديّة في الذات الجمعيّة. وانمحاء فردانيّتها لتكون جزءا من نظام كلّيّ يلتهم وجودها ويفرغه من ذاتيّته ليحتكره. (مثال الذات الجمعيّة الطقوسيّة - الذات الجمعيّة الاجتماعيّة، السّياسيّة...)

1-2 الماهية المطلوبة:

"إنَّ الإنسانَ أشْكَلَ عليهِ الإنسانُ" [أبو حيان التّوحيديّ]

"من أهمّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم نفسه" [عبد الجبّار الرّفاعي، الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص70].

هدف الإنسان الأكبر "أن يخلِّدَ الحياةَ ويميتَ الموتَ" [الدّين والنّزعة الإنسانيّة، ص58.]

(على سبيل التّصدير)

في مقابل التّعريف المزيّف للذّات، يعرّف الرّفاعي الذات الإنسانيّة بكونها:

1- الذات المتسائلة عن ذاتها، المتعطّشة لحقيقتها.

2- الذات المعترفة بالاختلاف مع الآخر وبصيرورة حالاتها الوجوديّة (احتضان تناقضاتها، "الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد"، الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص69.)

3- الذات اللاّنمطيّة - اللاّمتكلّسة: الحركيّة، الحيويّة "حياتي عبور متواصل" (الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص122).

4- الذات المقرّة بأخطائها والمتطوّرة بواسطتها ("أولد كلّ يوم عبر أخطائي"، الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص95).

5- الذات الغافرة لزلاّتها، الرّحيمة بذاتها، إذ أنّه لا يمكن أن يغفر الإنسان للآخر ما لم يغفر لذاته عثراتها.

6- الذات المتحرّرة من أشكال عبوديّاتها، الفارضة لكرامتها.

7- الذات الواعية بغربتها، والباحثة عن الألفة في الوجود في تصالحها مع المآزق الوجوديّة، وأبرزها "الموت".

8- الذات الواعية بحقيقتها المركّبة. "الإنسان كائن مركّب غامض (...) والطّبيعة الإنسانيّة عميقة مركّبة متضادّة" [الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص71.]. ويستدلّ الرّفاعيّ على صعوبة ضبط الطّبيعة البشريّة بقول ابن عربيّ: "لا شيء أوسع من حقيقة الإنسان، ولا شيء أضيق منها".

ومن دلائل التّركيب، تداخل الأبعاد النّفسيّة والجسديّة والذّهنيّة والرّوحيّة فيما بينها، وتفاعلها في نسيج حياتيّ محبوك السّبك، بحيث لا استقلاليّة لبعد منها عن الآخر.

9- الذات المحبّة، المتّصلة بقيم الحبّ بما هي قيمة القيم.

10- الذات الجامعة بين الذّكاء الرّوحيّ والعاطفيّ والذّهنيّ. وهنا ننبّه إلى أهمّيّة اشتغال الرّفاعي على البعد الوجدانيّ في الإنسان، إذ يفرد في مؤلّفاته أقساما صريحة للطّرح النّفسيّ، من ذلك حديثه بدءا من ص80 من كتابه الدّين والكرامة الإنسانيّة، عن "علم النّفس الإيجابيّ".

2-  ماهية الدّين: نحو تصحيح المسارَين المفهوميّ والعمليّ

تصحيح المفهوم هو أوّل خطوات تصحيح التّجربة. فكلّ انزياح دلاليّ لا يؤدّي فقط إلى الخطإ النّظريّ المجرّد، بل كذلك إلى خطإ تفعيل ذلك المفهوم في التّجربة المعيشة.

الماهية المحرَّفة للدّين:

يرفض الرّفاعي أن يكون الدّين:

1- نظاما طقوسيّا مغلقا أصمّ وأخرس وغير تفاعليّ، منجزا ومكتملا وغير حيويّ.

2- مجموعة قواعد فوقيّة تتسلّط على الإنسان وفق منطق الأمر والنّهي، والثّواب والعقاب والتّرغيب والتّرهيب... هذا الفهم الأرثوذوكسيّ الذي تبنّته المؤسّسات الإسلاميّة الرسميّة قديما وحديثا، سواء في الوسط السّنيّ أو الشّيعيّ، هو أكبر مشوّه لماهية الدّين. وربط الإنسان به على وفق منطق الواجب، الإكراه، الخوف، الطّمع... يكشف عن تركيزٍ على الجانب الظّلاميّ في الإنسان لا على البعد النّورانيّ فيه. وفي هذا السّياق ينتقد المؤلّف بشدّة كلّ تشكّلات الصّياغة السّلفيّة للدّين عند كل المذاهب، القائمة على إقصاء الآخر لا فقط فكريّا بل كذلك جسديّا.

3. رفض أدلجة الدّين والاستحواذ عليه عمليّا. اعتماد الدّين أداة إيديولوجيّة سياسيّة واجتماعيّة يتضادّ مع ما أسماه الرّفاعي "العقلانيّة الدّينيّة". إذ الغاية من الأدلجة الهيمنة على عقول الأتباع ووجدانهم.

4. رفض الانتماء الشّكلانيّ المفرغ من جوهرانيّته.

5. رفض اعتماد الدّين ذريعة لتدمير نفسيّة الإنسان والهيمنة عليه وتوجيه رغباته وإثارة هواجسه.

6. رفض الاستحواذ التّأويليّ والرّمزي على الدّين باسم التّخصّص المعرفيّ الأكاديميّ (المشيخة، كلّيّات الشّريعة، معاهد التعليم الديني التقليدية...).

7. رفض تحصيل التّجربة الدّينيّة عبر التّلقين والتّكرار السّلبيّ في غياب تامّ لكلّ إبداع.

8. رفض كلّ أشكال الدّين الشّعبويّ – المرضيّ – الشكّليّ – الاستهلاكيّ – التّكفيريّ – الإقصائيّ – العدواني - الحسيّ المباشر...

9. رفض النّقد العلمانيّ الدّحضي المناهض لحضور الدّينيّ في الحياة العامّة. هذا الموقف لا يقلّ تطرّفا عن الموقف السّلفيّ للدّين. فهو أشبه ما يكون بالسّلفية العلمانيّة التّقدّميّة على غرار السّلفيّة الرّجعيّة الماضويّة. فهما وجهان لعملة واحدة وإن بدا عليهما الاختلاف والتّعارض.

2-2 ماهية الدّين المنشودة:

يتمحور مفهوم الرّفاعي للدّين حول النّقاط التّالية:

1. الدّين الحيويّ:

"الدّين حياة": إشادة الرّفاعي بالبعد الحياتيّ المعيشيّ المتخلّل لكلّ تفاصيل التّجربة الإنسانيّة يستبطن موقفا نقديّا ممّن يعزل فعل التديّن عن فعل الحياة ويقضي بحصر وجوده في دور العبادة المغلقة.

2. الدّين الرّمزيّ:

يعدّ عبد الجبّار ألا وجودَ لاعتباطيّة في العلامة الدّينيّة. فكلّ حركات الإنسان وكلّ سكناته الوجوديّة، لها دلالة روحيّة عميقة. وفي ضوء ذلك يكون التّديّن الحقيقيّ حركة وعي بهذه الحقيقة الرّوحيّة، وتفعيلا لذلك الوعي في المعيش اللّحظيّ.

إنّ إضفاء البعد الرّمزيّ لا يعني التّجريد والتّعالي ومفارقة الواقع، بل هو عين التّجذّر في الواقع الرّمزيّ للإنسان بما هو "كائن استثنائيّ" - رمزيّ، على حدّ تعبيره. على نحو تلازميّ، يعدّ عبد الجبّار تفريطَ الإنسان في بعده الرّمزيّ تفريطا في الحقيقة الرّمزيّة للدّين وعكس ذلك صحيح.

3. الدّين اللاّمركزيّ:

المقصود من توصيف الدّين بكونه لامركزيّا أنّه يراد له أن يكون تشاركيّا - تفاعليّا، غير محتكَر من المؤسّسات الرّسميّة، ولا ممّن يدّعون التّخصّص فيه.  الدّعوة إلى اللاّتمركز الدّينيّ إذن، لا تعني فقط رفض التّمركز من خارج الذات، بل كذلك التّمركز من داخل الذات المتديّنة، حتّى لا تتوهّم حيازتها للحقيقة الإلهيّة واحتكارها لها.

4. الدّين التّحرّريّ:

يقصد به الرفاعي رفض الانتماء الاستعباديّ الإكراهي. فالدّين إن لم يقد إلى تحرير الإنسان من عبوديّة الأشياء والأشخاص والأحداث، "لا يعوّل عليه" بعبارة ابن عربيّ.

5. الدّين القيميّ:

نفهم من كتابات الرّفاعيّ أنّه يميّز بين الدّين المشاعريّ الحيّ، والدين الشّعائريّ الميكانيكيّ/الآليّ.

6. الدّين التّوسّعيّ، التّطوّري:

نفيد من هذا التّوصيف أنّ معاني الدّين ليست محصورة في فهم واحد، وليست حكرا على شخص دون آخر، ولا على زمن دون آخر.

ونفهم التّوسّع هنا حينئذٍ على نحو بينيّ: بيزمانيّ، تطوّري (عبر التّجربة التّاريخيّة الممتدّة) وتذاوتيّ/بيذاتيّ (بين الذّوات المسهِمة في تشكيل معناه).

من البداهة بعد عرض كلّ من ماهيتَيْ الإنسان والدّين، أن يكون السّؤال الأساسيّ الذي ينبغي طرحه هو التّالي: ما الذي يجمع بين ماهية الإنسان وماهية الدّين عند الرّفاعي؟

قد نجد بعض إجابة في قوله: "من لا يعرف نفسه، لا يعرف الله"، وفي تركيزه على فكرة "الإنسانيّة الإيمانيّة"، وفي عدد غير قليل من عناوين كتبه منها "الدّين والكرامة الإنسانيّة" "الديّن والنّزعة الإنسانيّة"، "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ" إذ البعد الأنطولوجيّ لا يكون إلا إنسانيّا...

إنّ ملخّص مفهوم الرّفاعي لماهيتي الإنسان والدّين كما يرتضيهما وينظّر لهما نقرؤه في قوله: "الطريق إلى الله يمرّ عبر الإنسان".

II.  السّؤال اللّاهوتيّ الجديد ومساراته الممكنة

1-  المسار الوجدانيّ - الحيويّ

يقول الرّفاعي "الدّين كائن حيّ"، إذ لا يمكن الحديث عن تجديد دين "ميّت". فالتّجديد لا يكون إلا في كنف الحياة. والحياة التي يفعّلها الإنسان في عمق ماهيته تنعكس على الدّين لا بما هو مجموع قواعد جامدة، بل بما هو "كائن" يشاركنا الوجود. وهو ما يقتضي إخراج الدّين من القراءات النّمطيّة المسيّجة إلى فضاءات المعنى المعيش المتحرّك دائما.

إنّ البحث في مسارات القلب الذي هو "الطّريق" [كما يعبّر الرفاعي عن ذلك في كتاب الدّين والكرامة الإنسانيّة] يستتبع أن تكون العلاقة بالدّين قلبيّة – ذوقيّة. وهو ما يجعلنا نقف على حضور المعنى العرفاني بقوّة وكثافة في نصّ الرّفاعي. ومن منطلق ذلك يكون المسار الوجدانيّ طريقا نحو "دين العشق"، وتخارجا من مجرّد "دين الفرض والواجب" إلى بعد جماليّ فنّيّ في الدّين.

هذا المسار يتفعّل فيه البحث في أغوار النّفس البشريّة، وفي سبل تحرّرها من برمجيّات المجتمع والنّظم الفوقيّة المتسلّطة عليها، والتي تجعلها تعكس هذه النّظرة الضّيّقة على فهمها للدّين ذاته. ذلك أنّ الدّين يتلوّن "بالوعاء الذي يحلّ فيه"، كما ورد في كتاب "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ".

كما أنّ هذا المسار من شأنه أن ييسّر الانسجام مع الحركة السّيّالة للأفكار والانطباعات. ويدحض الجهل بالطّبيعة الإنسانيّة المعرقل لكلّ تجربة إصلاح في الوعي الدّينيّ.

يمكن أن نخلص من كلّ ذلك إلى أطروحة الرّفاعي الرّئيسيّة فيما يخصّ المسار الوجدانيّ مسلكا للتّجديد الدّينيّ عبر تجميع عناوين مؤلّفاته التي يشعّ فيها جميعِها الجانب الإنسانيّ وينعكس بوضوح على الأفكار المضمَّنة في متونها. فالتّديّن إرواء للظّمإ الأنطولوجيّ إلى المقدّس، وفكّ للاغتراب الميتافيزيقيّ للإنسان في هذا العالّم، واستئناف لنزعته الإنسانيّة المولّدة بالضّرورة لكرامته، والسّاعية في طلبها بإلحاح.

المسار الفكريّ - المعرفيّ:

إنّ إعادة فهم الدّين ضرب من "إيقاظ العقل" للتّفكّر في الوجود انطلاقا من مدارات اهتمام واسعة. من شأنها أن تفضي إلى أنسنة الخطاب الدّينيّ وعقلنته، بما هما هدفان يجريان نحو التّصدّي لمآزق التّكفير والانتماء الآليّ للدّين، ونحو احترام قوانين الاختلاف.

ضمن هذا المسار أيضا، يتجلّى الوعي بقيمة المشروع الكلاميّ في تجديد الرّؤية الدّينيّة. فعلاقة الرّفاعي بعلم الكلام وثيقة جدّا، إذ كان موضوع كتب عديدة وإصدارات متنوّعة، إضافة إلى تخصيص أعداد كثيرة من مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة لموضوعات الكلام الجديد ومناهجه المجدّدة. وفي قوله "تجديد الدّين يبدأ بتجديد علم الكلام"(مقدّمة في علم الكلام الجديد، ص78)، نفهم أنّ المقاربة العقديّة تحديدا هي التي تمثّل شغله الشّاغل، فهو لم يتّخذ الرّؤية الفقهيّة التّشريعيّة مثلا منطلقا للتّجديد، لأنّها في تقديره مستوى لاحق، تابع للمستوى التّأصيليّ.

إنّ العلاقة بالنّصّ الكلاميّ تجمع النّصّين التّراثيّ والمعاصر - الرّاهن. فعندما يقول الرّفاعي في كتابه "مقدّمة في علم الكلام الجديد"، "ملّكتني الحوزة مفاتيح التّراث" (ص101)، فهو لا يعدّ التّراث موضوعا جامدا خاضعا لسلطة الذات الدّارسة له، ولا جثّة هامدة تطبّق عليها أدوات التّشريح. ولا يعني كذلك ذاك التّراث المتحفيّ الذي يعرض في المتاحف للانبهار أو الاعتبار بسرديّات القدامى وآثارهم، بل هو يعني تحديدا ذاك "التّراث الحيّ" الحاضر فينا تأويليّا، على الرغم من كونه ماضيا حدثيّا. هذا الحضور له وجهان: استحضار تواصليّ - نقليّ ، واستحضار نقديّ.

إلى جانب ما سلف، يلفتنا تأكيد الرّفاعي في أكثر من موضع في خماسيّته، على الاشتغال في أفق إنسانيّ - غير مذهبيّ/ ميامذهبيّ. ويبدو ذلك صريحا وواضحا في قوله: "لا هويّة مذهبيّة لعلم الكلام الجديد" (مقدّمة في علم الكلام الجديد، ص217.) واعلانه: "أنا مسلم وكفى" (الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص 237.)

3- المسار التّفعيليّ - الواقعيّ

تنعكس تجلّيات هذا المسار على جميع مستويات الواقع الإنسانيّ، نكتفي فيها بضرب مثالين:

الجانب السّياسيّ: ويهدف إلى التّصدّي للاحتكار الإيديولوجيّ – السّياسيّ للدّين. السّياسة باعتمادها الأسس الأخلاقيّة للدّين، يمكن أن تصحّح فيها بعض المسارات وتعدّل بعض التّمشّيات المصيريّة.

الجانب الاجتماعيّ: هو جانب مرتبط بدوره بالمنظومة الأخلاقيّة للدّين، القائمة لا على أساس ردعيّ - حدّيّ، بل على أساس اقتناعيّ - عشقيّ.

فالعلاقة السّليمة الصّحيّة بالأخلاق، من شأنها أن تنظّم كلّ ما يشمل علاقة الإنسان بذاته وبغيره أيّا كانت مجالات التّعامل معه. ذلك أنّ كلّ طريق للإصلاح مفصول عن إصلاح الذات الإنسانيّة من داخلها، هو طريق مسدود.

على سبيل الخاتمة

إنّ الطّرح النّفسيّ - التّأويليّ الذي يتخصّص فيه عبد الجبّار الرّفاعيّ بالإمكان تطويره في شكل اختصاص قائم الذات قد يحمل اسم: "علم النّفس الكلاميّ- العقديّ".

وإلى جانب ذلك، فإنّ مشروع عبد الجبّار الرّفاعي ينشغل بالدّوائر الوجوديّة الإنسانيّة الأربع: دائرة الوجود الحسّيّ، والذهنيّ، والنّفسيّ، والرّوحي. في شكل رؤية تكامليّة - تفاعليّة بينيّة. فلا يمكن الحديث عن مستوى وجوديّ إلا وهو في علاقة بالمستويات الأخرى، وهو ما كان واضحا في خطابه بشكل لافت.

فضلا عن أنّ ما يصوغه الرّفاعي في مقاربته من أفكار ومقترحات وتعديلات، ليس تنظيرا ولا تجريدا مفارقا للواقع (كما تذهب إلى ذلك بعض القراءات النّقديّة)، بل هو سعي إلى تجذير فلسفته في صميم المعيش. إنه ضرب من استشكال اليوميّ ومن ترميزه من جهة، وهو أيضا تدريب عمليّ على معايشة هذا الرّمز وهذا الحضور الرّوحيّ الأخلاقيّ في صميم التّجربة المعيشة. فما يعرضه من ذكريات طفولته ودراسته وتدرّجه في مراحل الحياة، هو نقل لتجربة حيّة تتأصّل في أفقها رؤية "حياة في أفق المعنى"، عودا على ما بدأنا.

والسّيرة الذاتيّة التي نقلّب صفحاتها في كتبه هي ليست مجرّد كتابة للذّات المتحيّزة بأطر الزّمان التّاريخيّ ولا المكان الجغرافيّ، بل هي سيرة الإنسان يطلّ من خصوصيّته على الأفق الإنسانيّ الكلّيّ، ويصطحبنا في رحلته الرّوحيّة نحو ما يراه فطرة نورانيّة في الإنسان. هذا ما تدعونا نصوص عبد الجبّار الرّفاعيّ إلى قراءته، أو هكذا يمكن الإصغاء إلى ندائها.

***

د. إيمان مخينيني - باحثة وأكاديمية تونسية

أستاذة بالجامعة التونسية، متخصصة في التأويل في الفكر العربي الإسلامي (اختصاص علم الكلام والتّصوّف). من مؤلفاتها: " تشكل مرجعية الصحابي في كتاب سيرة الأولياء"، و"الانتماء العقديّ والفعل السّياسيّ في الطّرح الكلاميّ الجديد"، الكلام الجديد مشروعا بيتخصّصيّا.

[1] "الدّين: حياة في أفق المعنى" عنوان ندوة د. عبد الجبار الرفاعي في مركز مسارات تنوير في عمّان / الأردن، مساء 31-12-2022. وهذه الورقة إعادة تحرير لمداخلة د. إيمان مخينيني في الندوة.

فلسفةُ البناءِ الاجتماعي تعتمد على استخراجِ الإشارات مِن الوَعْي الوجودي، واستنباطِ الرُّمُوز مِن المُستويات التعبيرية في النظام اللغوي كجسدٍ معرفي، وتجسيدٍ للبُنى الوظيفية في المُجتمع، التي تُعيد كتابةَ تاريخ العلاقات الاجتماعية مِن مَنظور إنساني ومَصلحي في آنٍ معًا. وإذا كانَ الوَعْيُ الوجودي لا يَنفصل عن اللغة، فإنَّ السُّلوك الإنساني لا يَنفصل عن المَصلحة. وهذا يَعْني أنَّ كُلَّ نشاط عقلي هُوَ مُمَارَسَة لُغوية تُساهم في تَكوينِ الفِعل الاجتماعي، والدفعِ به في اتِّجاه تحقيق مصلحة الفردِ والجماعةِ ضِمن النسيج الحَيَاتي، بِكُلِّ تفاصيلِه النابعةِ مِن مُكَوِّنَات اللغة، وتأثيراتِه الحاسمةِ على الظواهرِ الثقافية والمعاييرِ الأخلاقية. والنسيجُ الحَيَاتي لا يُوجَد بِمَعْزِل عَن التجسيد العملي للفِكر اللغوي في أنساق التاريخ، الذي يُعاد تأويلُه باستمرار، لِيَصِيرَ التاريخُ تواريخَ مُتكاثرة، تحتاج إلى الوَعْيِ والإدراكِ للسَّيطرةِ عليها، ومَنْعِها مِن التَّشَظِّي خارجَ المَعنى الإنساني للحضارة القائمة على الفِطْرَة والخِبْرَة. وإذا تَشَظَّى التاريخُ فإنَّ المَعنى يَفقد وُجُودَه، وتَختفي المعاييرُ الحاكمةُ على الحُلْمِ الإنساني، والمحكومةُ بالأحداث اليوميَّة. ولَيس للحُلْمِ الإنساني وُجُودٌ إلا دَاخل فلسفة البناء الاجتماعي، ولَيس للأحداث اليومية شرعيةٌ إلا داخل طبيعة الظواهر الثقافية.

2

الوَعْيُ الوجودي لا يَحْتَل اللغةَ مِن أجل تَدجينها وتوظيفِها في بُنية العلاقات الاجتماعية، وإنَّما يُحَرِّر اللغةَ مِن أجل إدماجها في الثقافة باعتبارها نظامًا جوهريًّا مُسْتَقِلًّا، ولَيْسَتْ شيئًا تابعًا للأنظمة الاستهلاكية. وتحريرُ اللغةِ هو تحريرٌ لمصادر المعرفة مِن ضَغْط اللحظة الآنِيَّة، مِمَّا يُسهِّل عمليةَ نقلِ الفِكْر المَحصور بالتأويلات إلى الذات الفاعلة المُنْطَلِقَة، ونقلِ الوَعْي الوجودي إلى التجربة العملية، ونقلِ الصورة الذهنية للحَياة المُعَاشة إلى العقلانية الواقعية التي تُخلِّص المُجتمعَ مِن الهَيمنة التَكنولوجية، وتَمنع سيطرةَ الآلَة على الفرد. وإذا عادَ الفردُ إلى شخصيته الإنسانية، وعادَ المُجتمعُ إلى مركزية وُجوده في فلسفة اللغة، فإنَّ التاريخَ سَيَصِير فِعلًا اجتماعيًّا إبداعيًّا في الحضارة بِوَصْفِها منظومةً ديناميكيةً مُرتبطةً معَ الإطار الأخلاقي، الذي يَشتمل على التوازنات الثقافية العميقة والسطحية. وهذه التوازناتُ ضرورية لضبطِ انعكاسات العلاقة بين هُوِيَّة الفرد وسُلطة المُجتمع تَصَوُّرًا وَتَحَقُّقًا، وتَكوينِ مَنطق للتاريخ روحيًّا وماديًّا، وتأصيلِ الأنساق الثقافية في العُلوم الإنسانية، وتشييدِ البناء الاجتماعي على قاعدة الوَعْي الوجودي الخالي مِن القطيعة معَ الزمانِ والمكانِ، وإعادةِ إنتاج قِيمة الفرد الإنسانية، مِن أجل تحقيق التكامل بين الفاعلِ الواعي الذي يُدْرِك ذَاتَه ومُحِيطَه، وبين الفاعليَّة اللغوية التي تُولِّد التفاعلاتِ الرمزية في تيَّارات الشُّعور داخل الفِعل الاجتماعي وخارجه.

3

مركزيةُ الوَعْي الوجودي في البناء الاجتماعي تُولِّد نَقْدًا مُستمرًّا لِسِيَاقات سُلطة المعرفة، وتَكشِف الأبعادَ المَرْئِيَّةَ وغَير المرئية لِدَلالات هُوِيَّة اللغة، مِمَّا يُسَاهِم في تأسيسِ حركة تفسيرية للمَسَارات التاريخية، وتحريرِها مِن هَيمنة الأحكامِ المُسْبَقَة على المُجتمع،وسَيطرةِ الأفكارِ التقليدية على الفرد، وتَسَلُّطِ التَّصَوُّراتِ المُسْتَهْلَكَة على الوُجود. وإذا نَجَحَ الفردُ في تشخيص إشكاليات البناء الاجتماعي، باعتباره قُوَّةً توليديةً للمفاهيم المعرفية ذات الامتداد الأُفُقي في النظام اللغوي القابل للتطبيق على أرض الواقع، وذات الامتداد العَمُودي في أنساق الحضارة القابلة للتَّحَوُّل إلى رُوحٍ عقلانيَّة فرديَّة، ونزعةٍ مَنطقيَّة جماعيَّة، فإنَّ الوَعْي الوجودي سَيَكتشف مواطنَ الخَلَل في هياكل المُجتمع، ومواطنَ الانقطاع في مَسَارات التاريخ، وعِندئذ يُصبح الفردُ تاريخًا داخلَ التاريخ، ولَيْسَ ذاتًا مُتعاليةً على التاريخ، وسُلطةً حاكمةً عَلَيه، ومُتَلاعِبَةً به. وهذا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْم أفضل للعَالَم، وإنشاءِ آلِيَّات فكرية لتحليل علاقةِ الفرد بالبيئة، وعلاقةِ المُجتمع بالطبيعة، وعلاقةِ الوُجود باللغة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

المقدمة: أتناول هنا الخطوط العريضة للإبستمولوجيا (المعرفة) الأخلاقية السياقية. غالبًا ما توصف السياقية المعرفية بأنها بديل للنهج الأكثر تقليدية في الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة- استعملها تطابقا)  التحليلية والتي تعود جذورها الى كتابات البراغماتيين مثل بيرس وديوي وفيتكَنشتاين في وقت لاحق. يدعي السياقيون أن الأعتقاد المُسًوغ/ المُبررَ يستند في نهاية المطاف إلى معتقدات غير مبررة في حد ذاتها، وبذلك يعارضون كل من وجهات النظر الأسسية foundationalist والتماسكية أو الترابطية Coherentist حول بنية التبرير والمعرفة. لكن اكتسبت ما يُعرف بالمطالب السياقية الأخرى، التي لا علاقة لها بالقضايا البنيوية، اعترافًا ومناقشة متزايدة من قبل الابستيمولوجيين التحليليين في العقود الأخيرة. يعتمد أحد هذه االمطالب على امتلاك مثل هذه القيم الابستمية كمعرفة وتبرير لظروف المرء أو "سياقه" بشكل كبير، بما في ذلك حقائق معينة عن مجتمع المرء.

إن هدفي هنا هو التعبير عن الإبستمولوجيا الأخلاقية التي تتضمن عددًا من الموضوعات السياقية. وبشكل أكثر تحديدًا، خطتي هي: أخصص القسم الأول من هذه الدراسة لفرز وتوضيح أهم هذه الأفكار السياقية نظرًا لأن السياقية ربما تكون أقل ألفة بنظرية المعرفة الأخلاقية من الرؤى المعرفية الأخرى، و بسبب تنوع الموضوعات والأطروحات السياقية التي يُدافع عنها أيضًا،. وكما سنرى، أنا مهتم بتأييد صيغة "السياقية البنيوية" فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي المبرر. ومع ذلك، نظرًا لعدم وجود مفهوم واحد للتبرير، فقد خصصت القسم الثاني من هذه الدراسة لتوضيح التصور المعرفي– أيً التصور عن المسؤولية المعرفية - التي هي محور تفكيري حول تبرير الأعتقاد الأخلاقي. أوضحت، في القسم الثالث، الأطروحات الرئيسة للسياق البنيوي، ثم، شرعت، في القسم الرابع، بتطويرصيغة من السياقية البنيوية حول الأعتقاد الأخلاقي. إن هدفي هوالتدليل على أن صيغة السياقية تعبر عن منهج أو مقاربة واعدة للأسئلة المتعلقة بتبرير الأعتقاد الأخلاقي.

السياقية المعرفية

سأفرق بين السياقية الظرفية والسياقية المعيارية والسياقية البنيوية. تتشابه الأطروحتان الأوليتان تقريبًا مع وجهات نظر النسبية المألوفة في الأخلاق. وتمثل الثالثة ردًا على المواقف السلبية من مشكلة التبرير.

السياقية الظرفية

يمكن التعبير عن أحد الموضوعات السياقية في نظرية المعرفة الحديثة (المطبقة على قضية التبرير)، باسم "السياقية الظرفية"، بالطريقة التالية: تعتمد بعض الافتراضات أوالقضايا جزئيًا على حقائق معينة عن المرء وعن بيئته سواء كان لديه معرفة أواعتقاد مبرر.

بلا شك يعرف المرء أو يعتقد بشكل مبرر أن بعض القضايا أو الافتراضات تعتمد على السمات "الداخلية" (النفسية) لظروفه مثل الدليل الذي يمتلكه (سواء في شكل معتقدات أخرى أو حالات تجريبية معينة)، وما إذا كان يمتلك أي دليل مقوّض، وما إلى ذلك. لكن  لفت العديد من الإبستيمولوجيين الانتباه إلى خصائص "خارجية" معينة لظروف المرء قد تؤثر على الحالة المعرفية لمعتقداته. لقد كانت الفكرة التي تقول: أن المعرفة والتبرير يعتمدان على حقائق حول البيئة الاجتماعية للفرد وأن التقييم المعرفي له "بُعد اجتماعي" ذات أهمية خاصة في الإبستيمولوجيا الحديثة. وفقًا لستيوارت كوهين وإرنست سوسا، هناك علاقة بين بعض الحقائق الاجتماعية، أيً حقائق حول مجتمع الفرد، والمتطلبات المتعلقة باستخدام القدرات الأدراكية للفرد التي توضح كيف يمكن للمعرفة والتبرير أن يعتمدا على الظروف الاجتماعية للفرد.

تنبثق سياقية كوهين من دراسته للظروف التي يحوز أو يتحصل فيها الدليل على تقويض معرفة المرء. ويجادل أولاً ما إذا كان يمتلك المرء الدليل (أي معتقدات يعتبرها المرء كدليل ضد بعض الافتراضات التي يعتقدها) الذي يقوض معرفته بهذا الافتراض أم لا يعتمد على القدرات المنطقية لاي عضو في المجتمع وما إذا كان بعض الأدلة المقوضة التي يمتلكها المرء ستكون واضحة للأعضاء العاديين في ذلك المجتمع. وهكذا، من وجهة نظر كوهين، يتم تحديد أحد مكونات المعرفة من خلال حقائق نفسية معينة عن المجتمع. ولكن ماهو المجتمع الذي يعمل كأساس للحكم على مدى وضوح الأدلة المقوضة؟ اقتراح كوهين هو أن "تُحدد المعايير السارية في سياق معين من خلال قوى التفكير العادية لأعضاء مجتمع المرء".[1] ويقترح أيضًا، في ضوء هذا البعد الاجتماعي للمعرفة، أن أفضل تفسيرلعزو المعرفة (وإنكارها) هو مؤشرها الحساس للسياق: فيمكن أن تختلف مجموعة معايير الوضوح بين الذوات التي تنطبق عليها إسهامات المعرفة من سياق إلى آخر اعتمادًا على  المجتمع وسماته كمجتمع. ربما تنطبق فكرة أن المعرفة تنطوي على مستوى محدد اجتماعيًا بخصوص القدرة على التفكير على القدرات المعرفية للذاكرة والإدراك أيضًا.[2] لا يمكن قياس المتطلبات المعرفية للتعامل مع الأدلة المضادة من خلال بعض الحقائق الاجتماعية المتعلقة بالقدرات المعرفية فقط، ولكن تلعب العوامل الاجتماعية الأخرى دورًا في المعرفة. يجادل سوسا، على سبيل المثال، بأن مدى امتلاك أفراد المجتمع بعض المعلومات يؤثر على معرفة المرء. فعلى سبيل المثال، إذا كان لدى معظم أفراد المجتمع معلومات تتعارض مع بعض الافتراضات الحقيقية فسيكون لدى المرء دليل قوي لتصديق تلك المعلومات وعندئذٍ يفشل المرء في الحصول على المعرفة. إنه من الممكن، وفقًا لسوسا في مثل هذه الحالات، استنتاج أن المعرفة لها" جانب اجتماعي" بحيث لا يمكن أن تعتمد على ماهو معروف بشكل عام."[3]

السياقية المعيارية

هناك ادعاء سياقي آخر هو أن التبرير (للعقلانية والمعرفة) يعتمد على الممارسات الاجتماعية وقواعد مجتمعات أولئك الذين يستفسرون ويتحققون أو ما يرتبط بها. يشيربعض السياقيين إلى أن ممارسات جمع المعرفة لدينا اجتماعية بطبيعتها ومرتبطة بشكل مهم بالممارسات المعرفية ومعايير أعضاء مجموعتنا. ويُفهم على أنه ادعاء وصفي حول تقييماتنا المعرفية، ربما يكون هذا الادعاء صحيحًا لأنه يرقى إلى الادعاء بأن تقييماتنا المعرفية يتم إجراؤها عادةً على أساس الممارسات و القواعد المقبولة والمستخدمة بشكل عام من قبل مجتمع المستفسرين الذين ننتمي إليهم. ومع ذلك، فإن السياقيين الذين أفكر فيهم يقصدون المطالبة بشكل معياري (أي كادعاء حول الظروف التي بموجبها يعرف المرء، أو يكون له ما يبرره في التمسك، ببعض المعتقدات). إذا تركنا "السياق" يشير إلى بعض مجتمعات المستفسرين والممارسات والمعايير التقييمية المشتركة، فيمكننا صياغة توصيف عملي للسياق المعياري بالطريقة التالية:

إن السياقية المعيارية هي أن: يمتلك الشخص "س" المبرر في وقت محدد لاعتقاده ببعض الافتراضات في السياق "ج" فقط في حالة توافق "س" مع المجموعة ذات اصلة بالممارسات والمعايير المعرفية المعمول بها في ج.

أذن، هناك بُعدًا اجتماعيًا للتقييم الإبستيمولوجي وذلك لأعتماد المعرفة والتبرير على مجتمع ينتمي اليه المرء وهي يمكن أن تؤخذ بطريقتين. أولاً، كما رأينا مع كوهين وسوسا، يمكن اعتبارها ميًزة واحدة لظروف المرء ذات الصلة بالتقييم المعرفي. ولكن، كما أوضحنا للتو، يمكن اعتبارها كفكرة تقول أن المعرفة والتبرير مرتبطان بالمعايير المعرفية للمجتمع أيضًا، بحيث تعتمد على ما إذا كان لدى المرء معرفة أو له ما يبررتصديقه بعض الافتراضات أم لا على ما إذا كانت يتوافق معتقد المرء مع المعايير المعرفية للمجتمع أم لا. لا ينبغي الخلط بين أطروحة السياقية الظرفية والسياقية المعيارية. فمن المعياري التمييز بين النسبية الظرفية (الظرفية والبيئية) والنسبية الأخلاقية في الأخلاق. الأول مشابه للسياقية الظرفية وغالبًا ما يتم التعبير عنه كأطروحة مفادها أن الصواب والخطأ لأفعال وممارسات معينة يعتمدان جزئيًا على حقائق حول ظروف الفاعل. لذا، على سبيل المثال، ما إذا كان من الخطأ أن يمتنع شخص ينظر الى طفل يغرق عن القفز  في مياه عميقة  لمحاولة لإنقاذ الطفل يعتمد (جزئيًا) على حقائق حول هذا الشخص نفسه، وعلى وجه الخصوص، على ما إذا كان بإمكانه السباحة أم لا. على النقيض من ذلك، تمثل النسبية الأخلاقية نظرية معيارية تجعل الحقيقة الأخلاقية نسبية للمعايير الأخلاقية للمجتمعات: تحدد المعايير الأخلاقية لمجتمع ما العبارات الأخلاقية المعينة لأعضاء ذلك المجتمع. إن النظير المعرفي للنسبية الأخلاقية هو ما نطلق عليه السياقية المعيارية. نقطتي هنا هي أنه كما يجب ألا نخلط بين النسبية الظرفية في الأخلاق والنسبية الأخلاقية المعيارية، لا ينبغي لنا أن نفسر السياقية الظرفية لكوهين وسوسا على أنها معادلة للسياق المعياري أو تستلزمه.[4]

أريد أن أذكر ذلك في هذه المرحلة ليس في نيتي الدفاع عن صيغة معينة من السياقية المعيارية ضد وجهات النظر المعرفية غير النسبية. قد يكون من المشروع في بعض السياقات ولأغراض معينة تقييم الحالة المعرفية لمعتقدات المرء بالنسبة للمعايير المعرفية لمجتمع ذلك المرء كما سنرى في القسم الخاص بالتبرير والمسؤولية المعرفية. لكن هناك سياقات نعتزم فيها إجراء تقييمات معرفية قاطعة وغير نسبية، حتى لو كنا أثناء القيام بذلك أننا نستخدم المعايير المعرفية التي نقبلها.

السياقية البنيوية

لقد هيمنت على نظرية المعرفة التحليلية القضايا البنيوية المتعلقة بالتبرير والمعرفة في العقود الأخيرة. وغالبًا ما يُنظر إلى السياقية على أنها أطروحة حول بنية التبرير المقصود منها أن تكون استجابة لمشكلة التبرير. تنشأ هذه المشكلة عندما نلاحظ أن بعض القضايا أو الافتراضات التي نعتقد أنها مبررة تدين بتبريرها لمعتقدات أخرى نقبلها؛ فتشكل مثل هذه المعتقدات سلسلة معرفية. لكن ما لم تكن هذه المعتقدات المبررة في السلسلة مبررة بحد ذاتها، يبدو أن لدينا فقط ما يمكن أن نسميه التبرير الشرطي: الارتباط الأصلي في السلسلة مبرر إذا كانت الروابط الإضافية مبررة. لكن كيف لنا إذن أن نفهم طبيعة التبرير غير المشروط؟ الخياران المعياريان للرد على هذا السؤال هما التاليان: 1) الأسسية المعرفية: يتوقف التراجع عن المعتقدات التي يتم تبريرها بطريقة غير استنتاجية، بمعنى أنها لا تُعزى في تبريرها الى الاستدلال على معتقدات أخرى أو استنادها إلى معتقدات أخرى؛ 2) التماسك المعرفي: لا توجد موانع للتراجع، بل إن التبرير هو مسألة ترابط مجموعة محدودة من المعتقدات. تمثل السياقية خيارًا ثالثًا: 3) السياقية المعرفية: ينتهي التراجع بمعتقدات لا تحتاج إلى تبرير في سياق معين.[5] لذا يمكن وصف ما السياق البنيوي على النحو التالي:

إن السياقية البنيوية: قد تنتهي تراجعات التبرير بشكل صحيح بالمعتقدات التي لا تحتاج إلى التبرير في السياق المعني. نطلق على هذه المعتقدات الأخيرة، المعتقدات الأساسية للسياق.[6]

تنقل هذه الصيغة التقريبية الصورة البنيوية الأساسية للتبرير الذي يفضله السياقيون. ويُترك الحديث عن "السياق" بدون تفسير، كما هو الحال بالنسبة للحديث عن المعتقدات التي لا تحتاج إلى تبرير. سأوضح هذه المفاهيم (في القسم التالي) عند تناول الفكرة المحددة للتقييم المعرفي التي اثرت في تفكيري. ومع ذلك، قبل المضي قدمًا، لاحظ أن السياقية البنيوية لا تتطلب أن تستند جميع المعتقدات المبررة استنتاجيًا إلى معتقدات أساسية من حيث السياق، بل تسمح بأن قد ينتهي التراجع بشكل شرعي بمثل هذه المعتقدات. هذا يعني أن السياقي يمكن أن يسمح بأن المعتقدات المبررة للفرد قد تظهر إما كبنية اسسية أو بنية متماسكة.[7] إن ما يدعيه السياقيون هو أن الصورة السياقية تمثل صورة واقعية ودقيقة للبنية الفعلية للمعتقدات المبررة للمرء. وهذا بالفعل ما أخطط لمناقشته فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي.

في الختام ، لابدأن نتعرف على ثلاث أطروحات سياقية عامة. أنا أعتبر السياقية الظرفية غير مثيرة للجدل إلى حد ما، على الرغم من أن الإبستيمولوجيين قد يختلفون حول أنواع العوامل الظرفية التي تؤثر على الحالة المعرفية لمعتقدات المرء. وكما سنرى في لاحقا، توضح نظرية المعرفة الأخلاقية أهمية الظروف الاجتماعية للمرء في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة. إن السياقية المعيارية (أي النسبية الإبستيمولوجية) مثيرة للجدل تمامًا ولا يجب الخلط بينها وبين السياقية الظرفية أوالبنيوية. لا يُقصد من نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية التي سأتناولها أن تكون صيغة من السياقية المعيارية. أخيرًا، أخطط  لنقاش قوة  صيغة من السياقية البنيوية حول الأعتقاد الأخلاقي المبرر، والتي ستكون مدار أهتمامي فيما يلي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] Stewart Cohen, "Knowledge and Context," Journal of Philosophy          83 (1986), 579.

[2] لمناقشة حالات الذاكرة والإدراك أنظر:

Stewart Cohen, "Knowledge, Context, and Social Standards," Synthese 73 (1987), 3-26.

[3] Ernest Sosa, "Knowledge in Context: Skepticism in Doubt," Philosophical Perspectives 2 (1988), 139-55.

[4] Ernest Sosa, Knowledge in Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 1991), 10 n. 14,

إرنست سوسا صريح حول هذا الموضوع. لذلك يمكننا أن نقول مع كوهين وسوسا فيما  يقترحان ما يعتبرانه مبادئ معرفية صحيحة  بشكل عام والتي تشير إلى أن حقيقة بعض التقييمات المعرفية المحددة تعتمد على الحقائق (بما في ذلك الحقائق الاجتماعية) حول ظروف المرء.

[5] يتحدث الأسسيون عن المعتقدات التأسيسية التي لا تحتاج إلى تبرير أحيانًا ، ويقصدون بها أن مثل هذه المعتقدات، لأنها، على سبيل المثال، "تبرر ذاتها"، فلا تحتاج الحصول على تبرير من معتقدات أخرى. ومع ذلك ، فإن السياقي البنيوي يقصد شيئًا أكثر راديكالية هنا، أي أن هناك معتقدات معينة، في سياقات معينة على الأقل، لا تحتاج إلى نوع من الحالة المعرفية المتمثلة في التمتع بالدعم الإيجابي للأدلة (إما متأصلًا أو من معتقدات وخبرات أخرى) من أجل لعب دور وقف الانحدار في بنية الاعتقاد المبرر. بحصوص الدفاعات عن اللسياق البنيوي فيما يتعلق بالإيمان التجريبي، انظر:

David Annis, "A Contextualist Theory of Epistemic Justification," American Philo¬ sophical Quarterly 15 (1978), 213-19;

Michael Williams, "Coherence, Justification and Truth," Review of Metaphysics 34 (1980), 243-72, and David Henderson, "Epistemic Competence and Contextualist Epistemology: Why Contextualism Is Not Just the Poor Person's Coherentism," Journal of Philosophy 91 (1994), 627-49.

[6] يجب التمييز بين التبرير الاستنتاجي وعملية الاستنتاج النفسي لقضية ما من الأخرى. علاوة على ذلك ، فإن مثل هذا التبرير لا يتطلب أي عملية استنتاج من هذا القبيل ، أنظر:

Laurence BonJour, The Structure of Empirical Knowledge (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1985), 19-20.

[7] بالطبع ، سينكر  السياقي (الذي يتبنى النظرية السياقية)  أي ادعاء من قبل الأسسي بأن وجود اعتقاد أساسي (كما يتصوره الأسسي) ضروري لامتلاك أي معتقدات مبررة على الإطلاق. وكذلك ، سينكر السياقي أي ادعاء من قبل التماسكي( الذي يتبنى نظرية التماسك) بأن وجود مجموعة متماسكة من المعتقدات أمر ضروري لامتلاك أي معتقدات مبررة على الإطلاق.

 

 

موقع مقالات المملكة المتحدة

ترجمة ا. د. رحيم محمد الساعدي

***

تاريخيا، تطورت الفلسفات الشرقية والغربية بمعزل عن بعضها البعض. وحددت المسافة الجغرافية والثقافية بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية اختلافات جوهرية بين الفلسفات الشرقية والغربية.

وفي أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل سقراط، والفلسفات الشرقية، مثل الطاوية، بعض الأفكار والمفاهيم المشتركة، وبغض النظر عن أوجه التشابه، فإن الاختلافات بين الفلسفات الشرقية والغربية واضحة. ففي هذا الصدد، من الممكن الخوض في الفلسفة التي طورها سقراط والطاوية كفلسفتين مختلفتين، وقد احترمتا صراع الأفراد لتحسين حياتهم وكمالهم الذاتي .

وبهذه الطريقة، قامت الطاوية بعبادة (طاو) باعتباره السبب الأول للكون وطورت الفلسفة التي عبدت طاو وعززت الكمال الذاتي للأفراد لتلبية المثل الطاوية، في حين وقف سقراط على أساس أن الأفراد يجب أن يبحثوا عن الحكمة كطريق للكمال الذاتي، مع الاعتناء بأرواحهم للوصول إلى الانسجام والتوازن الروحي.

مبادئ سقراط

في الواقع، سقراط احد أكثر الفلاسفة تأثيرا في اليونان القديمة التي حددت، إلى حد كبير، تطور ليس فقط الفلسفة القديمة ولكن أيضا الفلسفة الغربية بشكل عام. ووضع سقراط الأساس للمبادئ الأساسية للفلسفة الغربية، والتي تم تعديلها وتغييرها وتكييفها من قبل فلاسفة آخرين. في الوقت نفسه، كانت وجهات نظره، بطريقة ما، عالمية لأن سقراط ركز على تطوير الأفكار والمفاهيم والقيم التي كانت عالمية وقابلة للتطبيق على الثقافات المختلفة. ومن ثم، استمرت فلسفة سقراط عبر الأزمنة والأماكن لعدة قرون.

في مثل هذا السياق، من المهم التركيز على المبادئ الأساسية لفلسفة سقراط ومقارنتها بالمبادئ الأساسية للفلسفة الطاوية. بادئ ذي بدء، شدد سقراط على أهمية الحكمة والمعرفة. واصر على ان الناس يجب أن يتعلموا العالم المحيط  بأنفسهم والظواهر من حولهم.

وطور فكرة أن الحياة لا تبحث لا تستحق العيش. في الوقت نفسه، ظل ناقدا للغاية فيما يتعلق بذاته ومعرفته.

وعند تحليل معرفته يقول "أنا أحكم رجل على قيد الحياة، لأنني أعرف شيئا واحدا، وهو أنني لا أعرف شيئا". بهذه الطريقة، وقف سقراط على الأرض وأن العقل البشري بالكاد يمكن أن يصبح حكيما تماما. بعبارة أخرى، كان لدى سقراط شكوكا في أن الناس يمكن أن يعرفوا كل شيء. وفي هذه المرحلة، كانت وجهات نظره قريبة من الطاوية، تلك التي احترمت طاو باعتباره الإله الأكثر حكمة، والذي لا يمكن تحقيق حكمته للبشر العاديين.

في مثل هذا السياق، تجدر الإشارة إلى حقيقة أن سقراط أصر على أن الحكمة لا ينبغي أن تكون الهدف النهائي للحياة البشرية ولكن ما جعل الحياة هادفة هو البحث عن الحكمة والتعلم:

قرر أن الحكمة ليست هي التي تمكن الشعراء من كتابة شعرهم، بل بنوع من الغريزة أو الإلهام، كأن يجده عند العرافين والملهمين الذين يوصلون كل رسائلهم السامية دون أن يعرفوا على الأقل ما تعنيه.

في الوقت نفسه، ناقش سقراط بأن اهم مهمة في الحياة هي الاهتمام بالنفس: "كل أرواح الرجال خالدة، لكن أرواح الصالحين خالدة وإلهية". لذلك، قال سقراط بأن الناس يجب أن يعتنوا بانفسهم وأن يعيشوا حياة فاضلة ليكونوا جيدين وسعداء. يركز سقراط على حقيقة أن الناس يجب أن يعملوا على تحسين الذات والكمال الذاتي لرعاية روحهم والعيش حياة سعيدة.

في هذه المرحلة، هناك مبدأ آخر لسقراط له أهمية قصوى. يعتقد سقراط أن الشخص الجيد لا يمكن أن يتضرر من قبل الآخرين. ولم يكن الرفاه المادي للشخص مهما بالنسبة لسقراط لأنه: "إنه الأغنى الذي يكتفي بالأقل، لأن محتواه هو ثروتة الطبيعية". لذلك، اعتقد سقراط أنه من خلال الحياة الفاضلة يمكن للناس أن يكونوا سعداء ويعيشون في وئام مع أنفسهم ومع الآخرين.

مبادئ الطاوية

لقد كانت  المبادئ الأساسية للطاوية، بطريقة ما، تشبه مبادئ سقراط، على الرغم من أن المبادئ الطاوية مبنية على أساس ديني. بتعبير أدق، يعتقد الطاوي أن الطاو هو السبب الأول للكون:

"نحن نؤمن بطاو الأبدي الذي لا شكل له، وندرك أن جميع الآلهة المجسدة مجرد اشياء بشرية. نحن نرفض الكراهية والتعصب والعنف غير الضروري، ونحتضن الانسجام والحب والتعلم، كما تعلمنا الطبيعة. ونضع ثقتنا وحياتنا في الطاو، حتى نتمكن من العيش في سلام وتوازن مع الكون، سواء في هذه الحياة الفانية أو خارجها".

وتختلف آراء الطاوية تمامًا عن آراء سقراط  في مجال اخر، لأن الطاوي نظر إلى طاو على أنه الكائن الأسمى، الإله الذي يحكم العالم والبشر، بينما أصر سقراط على قوة العقل البشري. لذلك، كان سقراط أكثر تركيزًا على الإنسان مقارنة بالطاويين الذين كانوا ينظرون إلى طاو على أنهم الإله الأعلى.

في الوقت نفسه، كانت أهداف حياة الإنسان ووجوده في الطاوية، بطريقة ما، مماثلة لأهداف سقراط. وقف الطاوي على الأرض أن هدف المؤمنين هو الانسجام مع طاو. هذا يعني أنه من المفترض أن يسعى الطاوي إلى الانسجام والكمال الذاتي للتوافق مع طاو كما اقترح سقراط للبحث عن المعرفة والكمال الذاتي لرعاية الروح.

في الوقت نفسه، كان سقراط على ما يبدو مهتمًا بالحياة الروحية للناس قبل كل شيء، في حين أن الجوانب المادية للوجود البشري كانت ثانوية بالنسبة له. وأصر على ضرورة تطوير المعرفة والحكمة لدى البشر. في المقابل، شددت الطاوية على أهمية الصحة والحيوية على عكس روح سقراط. بهذه الطريقة، اعتقد الطاوي أن السعادة مستحيلة بدون الصحة والحيوية، بينما كان سقراط أكثر اهتمامًا بالمعرفة والحكمة والروح لدى الناس، بدلاً من جسدهم المادي وصحتهم وحيويتهم.

ومع ذلك، طور الطاوي معتقدات كانت قريبة من فلسفة سقراط. بتعبير أدق، اهتم الطاوي بتطوير الفضيلة على أنها المهمة الرئيسية للفرد. والمقصود هنا أن الطاوى يجب أن يعيش أسلوب حياة فاضلة للوصول إلى الانسجام مع  طاو . وفي المقابل، تؤدي الحياة الآثمة إلى مصائب ومشاكل لا يستطيع الناس مواجهتها في حياتهم.

ولقد  طور الطاوي الاعتقاد بأنه يجب على الناس التخطيط مسبقًا والتفكير بعناية في أفعالهم قبل اتخاذها. ففي هذا الصدد، يتشابك الاعتقاد في التخطيط للأعمال البشرية مع تأكيد سقراط على أهمية الحكمة في حياة الإنسان .

ومن ناحية أخرى، تم تحديد تركيز الطاوية على أهمية تخطيط الإجراءات من خلال الاعتقاد بأن الإجراءات تميل إلى المعاملة بالمثل مما يعني أن الإجراءات الجيدة للفرد تؤدي إلى أفعال جيدة يرتكبها الآخرون فيما يتعلق بالفرد والعكس صحيح.، فإن الأفعال السيئة تثير المصائب والأفعال السيئة التي ترتكب فيما يتعلق بالفرد.

وشدد كل من سقراط والطاوية على أهمية الحياة الفاضلة. واكد سقراط على الحياة الفاضلة كجزء من عناية النفس، بينما نظر الطاوي إلى الحياة الفاضلة كوسيلة للوصول إلى الانسجام مع طاو. بهذه الطريقة، نظرت كلتا الفلسفتين إلى الحياة الفاضلة على أنها ضرورية لأنه بدون نمط حياة فاضل لا يمكن للناس أن يكونوا سعداء في حياتهم. في هذه المرحلة، تعد الحياة الفاضلة أحد المفاهيم الأساسية لكلا الفلسفتين. من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى حقيقة أن طرق تحقيق الحياة الفاضلة والسعادة تختلف في فلسفة سقراط والطاوية. بعبارة أكثر دقة، آمن سقراط بالحكمة والمعرفة كأداة رئيسية يمكن للناس من خلالها أن يصبحوا فاضلين، بينما اعتقد الطاوية أنه من خلال عبادة الطاو واحترام مبادئ الطاوية يمكن للناس أن يتمتعوا بالفضيلة، وبالتالي سعداء.

استنتاج

مع الأخذ في الاعتبار كل ما ذكر أعلاه، من المهم التركيز على حقيقة أن سقراط والطاوية طورا لفلسفات كان لها أوجه تشابه واختلاف. للوهلة الأولى، تختلف فلسفة سقراط والطاوية تماما، خاصة فيما يتعلق بدور المعتقدات الدينية في حياة الناس. فمن ناحية، نظر سقراط إلى المعرفة والحكمة على أنهما قضيتان تستحقان العيش. ومن ناحية أخرى، نظرت الطاوية إلى عبادة الطاو والعيش وفقا لمبادئ الطاوية على أنها الطريقة الوحيدة للحياة للطاويين الحقيقيين. وفي مثل هذه الحالة فان سقراط والطاويين طوروا وجهات نظر كانت متشابهة إلى حد ما. كما نظر كلا من سقراط والطاوية إلى الحياة الفاضلة كمفاهيم أساسية لسعادة الناس. في الوقت نفسه، كما اتفق كل من سقراط والطاوية على أن الناس، على الرغم من جهودهم للتعلم والكفاح من أجل المعرفة، لا يمكن أن يكونوا دائما حكماء وأن الناس الحكماء يمكن أن يكونوا قليلي المعرفة .

***

إن المنهج الذي تبناه ماركس في فلسفته السياسية، وفي بناء نظريته حول الدولة، يؤكد على ضرورة الابتعاد عن المطلق والخلود والتقديس والذاتيّة في رؤيتنا للظواهر الاجتماعيّة ومنها الدولة، والتركيز على النسبية في آليّة عمل الظاهرة التي نتعامل معها.

بتعبير آخر: إن المنهج الماركسي يرفض كل إضفاء المطلق على الحقائق الخالدة، أو على أي موضوع يُعْتَقُد أنه يوجد لذاته بعيداً عن العلاقات الاجتماعيّة الموضوعيّة والذاتيّة، بل يجب الانطلاق من التجربة الإنسانيّة، ذلك أن العالم المحسوس ليس هو سوى الفعاليّة العمليّة والمعرفيّة للنشاط الإنسانيّ الماديّ والروحيّ معاً، وأن العلاقة بين النشاط الإنسانيّ والمعرفة، هي علاقة جدليّة ديالكتيكيّة، ذات سيرورة وصيرورة مستمرة.

انطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية الماديّة التاريخيّة، فأن البحث في الظواهر يجب أن يستقل عن الأيديولوجيات المسبقة التي وضعت داخل الغرف المغلقة، وأولها المفهوم المطلق الذي يضفي على الموضوع نوعا من التحيز واللاموضوعيّة. والأيديولوجيا حسب ماركس، هي الوهم الذي يقوم على طرح معرفة تعد نفسها مستقلة عن السيرورة الحيويّة للإنسان وعن وجوده الاختياري. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن ماركس ينطلق من الواقع باعتباره الأساس الذي يفضي إلى المعرفة، وهو نفسه – أي ماركس - الذي أدى به إلى الارتباط بالفكر الثوريّ المعارض للأيديولوجيات، وبه سينتقد العلاقة بين طبقات المجتمع. إذاً من خلال هذا المنهج يُطرح علينا السؤال التالي: كيف نظر كارل ماركس إلى الدولة؟

الصراع الطبقيّ والدولة:

لقد أكد فكر ماركس في كتابيه (الجزء الثالث من الرأسمال) و(مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، وكذلك انجلز في كتابه (أصل الملكيّة والعائلة والدولة)، ولينين في كتابه (الدولة)، بأن ظهور اَلْمِلْكِيّةِ الخاصة يعتبر السبب الرئيس في تشكل النواة الأولى للدولة، هذه اَلْمِلْكِيّةُ التي فرزت المجتمع منذ البداية بين مالك ومنتج، وأوجدت بالضرورة علاقات استغلاليّة أدت إلى تناقضات وصراعات متواترة في حدتها، أفضت إلى خلق تحولات عميقة ومستمرة داخل البنية الاجتماعيّة، ممثلة في طريقة أسلوب الإنتاج المهيمن في كل مرحلة من مراحل تحول التاريخ البشري. وهذا ما جعل منظرو الماركسيّة وفي مقدمتهم ماركس يذهبون إلى القول بأن الدولة ما هي إلا ثمرة الصراع الطبقيّ، فمنه ولدت الدولة أول مرة، لكي تعمل على إخماد نيران التناقضات والصراعات التي نشبت ولم تزل تنشب بين طبقتين متناقضتين اقتصاديّاً، فالأولى: تملك وسائل الإنتاج وتطمح إلى تراكم وزيادة الأرباح، والثانية :طبقة منتجة لا تملك إلا قوة عملها، حيث استطاعت الطبقة المالكة أن تحول قوة العمل (أي جهد المنتج) ذاتها إلى سلعة، بعد أن استُلبت قوة العمل هذه اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وروحيّا، وبعد أن قامت بتغريب العامل المنتج وتشيئه وتحويله إلا ترس في آلة.

إذن لقد استعمل كارل ماركس الصراع الطبقيّ من أجل فهم وتحليل الظواهر الاجتماعيّة، وعلاقة المجتمع بالحروب والأوبئة والثورات والغنى والفقر، وانتهى إلى القول: إن كل المجتمعات في صراع دائم، مادامت الأطماع تتنافس على السلطة والثروة، كما يؤكد على أن القوي وصاحب الهيمنة هو من يستطيع الانفراد بالسلطة والحصول عليها والهيمنة على الثروات، بدون أن يكون هناك الحاجة إلى التوافق المهاراتي والتعاقد، وأن الطبقات المستغلة تسعى دائما إلى الاغتناء والحفاظ على مكانتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويكون سلاحهم في ذلك القمع والسيطرة على حقوق الطبقة المسحوقة أو المستغلة، بيد أن تصور الماركسيّة للتاريخ يبين لنا أن هذا الظلم الذي مارسته وتمارسه الطبقات المالكة على القوى المنتجة ومنها البروليتارية من قبل الطبقة الرأسماليّة، (1)، لابد أن ينتج عن هذا الاستغلال المتوحش للطبقة العاملة ردود أفعال وثورات ضد الطبقة الرأسماليّة ونظامها. لأن من طبيعة الطبقة البرجوازيّة الوقوف ضد رغبات القوى المضطهدة ومنعها من تحقيق عدالتها ومساواتها، أي منعها من تحقيق إقامة نظام اجتماعيّ عادل تختفي فيه الفوارق بين الأفراد وتزول فيه الطبقات. هذا وينظر ماركس إلى المجتمع باعتباره وحدة عضويّة كليّة ومترابطة، ولا يمكن فهم أي جزء منها معزولا عن الأجزاء الأخرى، فالعلاقات التي تحكم المجتمع هي أساساً علاقة التكامل والتواصل والترابط، ولا مكان فيه لاصطدامات بين مكوناته، ومن خلال النص التالي يبين لنا ماركس كيف تحولت العلاقة بين الطبقة البروليتاريّة والطبقة البرجوازيّة إلى علاقة صراع. “يستتبع التملك الخاص لوسائل الإنتاج تقسيم العمل، ولهذا التقسيم وجهه الإيجابيّ فيما أنه يحقق تقدما في جعل العمل اجتماعيّا (بواسطة السوق) غير أن هذه القوة الإنتاجيّة تفلت من رقابة الناس وتنتج بدورها نتائجها الخاصة، إذ يستحوذ أصحاب الوظائف العليا على وسائل الإنتاج وتتيح ملكيّة هذه الوسائل للمالكين أن يتناقلوا وظائف القيادة التي تستبعد عنها غير المالكين، حينئذ تظهر الطبقات الاجتماعية، وعلى هذا الأساس لم يكن تاريخ كل مجتمع إلى أيامنا هذه غير تاريخ صراع الطبقات”.(2).

يحسم ماركس في أن التاريخ كله صراع بين الطبقات، والتاريخ دائما في طريقه نحو غاية محددة ومن بين مراحله، خضوع الطبقة البروليتاريّة لظروف مجحفة، سيؤدي لا محالة إلى التفاوت الطبقيّ وتجلي تناقضاته الكبيرة، وبالتالي اندلاع الثورة، كما يفترض ماركس بأن التوزيع غير المتكافئ داخل المجتمع سيبقى على حاله من خلال الإكراه الإيديولوجيّ، حيث أن البرجوازيّة تفرض على البروليتارية الرضوخ لظروف العالم الرأسماليّ، ونجده ينبه إلى أن البروليتارية ستثور على قوانين البرجوازية. “من خلال فهم جدل التاريخ الكليّ للماضي والحاضر والمستقبل، وسيقوم التناقض الجدليّ بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج المتوسعة باستثمار القانون الصارم الضروري للتاريخ، والذي نستطيع بواسطته التنبؤ بالمستقبل والتطور التاريخيّ التالي كأمر حتمي، وبناءً على ذلك سوف تصبح البروليتاريا ذات توجهات ثوريّة وتقضي على العلاقات الرأسماليّة للإنتاج وعلى القاعدة الاقتصاديّة للنظام الرأسماليّ تماما، مثلما قضت الطبقة الرأسماليّة الناشئة على الأساس الاقتصاديّ للنظام الإقطاعيّ، وسوف تقوم البروليتاريا باستحداث طريقة شيوعيّة للإنتاج، وتستولي على السلطة السياسيّة، وتقيم ديكتاتوريّة البروليتارية كمرحلة انتقاليّة قبل قيام المجتمع غير الطبقي، وفي هذا العالم الشيوعيّ المستقبلي لن تكون هناك أية مِلْكِيّةٍ خاصة أو تقسيم للعمل أو صراع طبقيّ أو استغلال للبشر أو اغتراب في أي من المؤسسات الأسريّة والأخلاقيّة والقانونيّة والحكوميّة، ولن تكون هناك أي إيديولوجية”. (3).

إن للصراع الطبقي إذاً نهاية بنظر ماركس ومنظري الماركسية، حينما تقوم الثورة من قبل القوى المنتجة المضطهدة على القوى المالكة والمسيطرة على السلطة، وهذا ما حدث في مرحلة العبوديّة عندما ثار العبيد على اسيادهم في الإمبراطوريّة الرومانية (سبارتاكوس) مثلاً. وهذا ما تم مع ثورات الفلاحين (1524_1525) في المانية، حيث كانت ثورة شعبيّة عارمة في الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة، نتيجة للاضطهاد القاسي الذي تعرضوا له والأوضاع المعيشيّة السيئة التي عاشوها..(4). وهذا ما قمت به الطبقة الرأسمالية وحليفتها الطبقة العماليّة في الثورة الفرنسيّة ضد سلطة الملك والنبلاء والكنيسة (1789).(5). وكذلك في كومونة باريس (1871). وكانت حركة نقابيّة وعماليّة يساريّة، قامت بثورة تعتبر أول ثورة اشتراكيّة في العصر الحديث استولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين. وقامت بتعديل لون العلم الفرنسي إلى اللون الأحمر، وأجرت العديد من الإصلاحات أهمها: الإصلاحات التربويّة، وفصل الدولة عن الدين، وإلغاء العمل الليليّ، ومنع الغرامات و الضرائب المفروضة على أجور العمال، واستطاعت تشغيل المعامل التي تركها أصحابها هرباً ولجأوا إلى فرساي، تحول العمال والعاملات إلى جنود فوق المتاريس للدفاع عن إنجازهم، لكن كان قمع الثورة دمويا بشكل فظيع على يد "تيير"، وذلك في الايام الستة الأخيرة من عمر الثورة، مما اأدى إلى سقوط الثورة بعد مجازر دمويّة، لكنها كانت النار التي أوقدت العديد من الثورات الاشتراكيّة بعدها، وما زال الشيوعيون حول العالم يحتفلون بذكرى كومونة باريس إلى يومنا هذا. (6).

وهكذا واجهت البروليتاريا الطبقة البرجوازيّة، رافضة العيش داخل المجتمع الرأسماليّ، الذي يعتمد على تقسيم العمل وفق قوانين غير عادلة، وأمام طموحات الطبقة البرجوازيّة، رافضة استمرار استغلالها.

إن كل تلك الثورات التي جئنا عليها أعلاه عبر التاريخ، وغيرها من ثورات ستأتي لا حقا داخل المجتمعات والدول التي يسيطر فيها المالك المستبد على المنتج، لعبت وستلعب دوراً في تغيير طبيعة النظم الاجتماعيّ والدولة معاً بنظر ماركس وقادة الفكر الماركسي. بل ستؤدي بالضرورة هذه الثورات عندهم إلى (اضمحلال الدولة) في نهاية الأمر، لأنها كانت ولم تزل إلى جانب الطبقات والقوى المستغلة وغير عادلة، والمسخرة مؤسساتها وأدوات قمعها دائما لمصلحة طبقة على حساب أخرى، ولم ترع حقوق الأفراد داخل المجتمع، لذلك (تنبأ) ماركس بدولة شيوعيّة ستحارب الملكيّة الخاصة لوسائل الإنتاج وستمنع الاستحواذ عليها من طرف طبقة معينة، والأهم من هذا ستختفي الإيديولوجيا لأنها كانت تمثل أداة للسيطرة بواسطة نشر الأفكار التي تفرضها الطبقة الحاكمة. كما أن ماركس يتحدث عن مرحلة أساسيّة بعد قيام الثورة، وهي المرحلة الانتقاليّة التي يسميها بـ(ديكتاتوريّة البروليتاريا)، وجميع المجتمعات البشرية مرت كما بينا في موقع سابق بمراحل تحكمها جدلية التناقض الطبقي، بدءا بالمرحلة البدائيّة وبعدها المرحلة العبوديّة ثم مرحلة الإقطاعيّة وبعدها الرأسماليّة، إلى أن تستقر الأوضاع في المجتمع الشيوعيّ الأقرب لتوفير إمكانيّة العيش بكرامة لجميع الأفراد، بحيث أن المجتمع الشيوعيّ هذاعلى حد تعبير ماركس، لا تتواجد فيه الطبقات، ويضمن الحريّة للجميع باعتبارها أساس الشيوعيّة، وإلى حين الوصول إلى هذه المرحلة يقبع المجتمع أثناء المرحلة الانتقاليّة في ظل تغير العلاقات الاجتماعيّة وستزول التمايزات الطبقيّة نتيجة استغلال السلطة الثوريّة التي تتمتع بها البروليتاريّة التي تمثل غالبية القوى الشعبيّة. وتحدث ماركس عن المرحلة الانتقاليّة بصفتها واحدة لجميع الشعوب لأنها هي المرحلة النهائيّة لعصر الثورة الاشتراكيّة العالميّة.(7).

يتبين إذن، أن الدولة كمفهوم سياسيّ وفلسفيّ لم يتناوله كارل ماركس بذلك التقديس الذي تعامل معه فلاسفة العقد الاجتماعيّ، وإذا كان هؤلاء قد أسسوا لقوانين الدولة وبينوا أهميتها وضرورتها لضمان الحريّة والحقوق للجميع، باعتبارها المشترك الذي يتشارك فيه كل أفراد المجتمع، إلا أن كارل ماركس راح يحذر من الدولة باعتبارها حاملة للإيديولوجيا وغير بريئة، وأنها لا تخدم جميع مصالح أبناء الوطن الوحيد، كونها هي نتيجة للصراع داخل المجتمع بين المستغِل والمستغَل وستتخلى عن الواجب والمسؤوليّة التي تم تأسيسها من أجلهما، وستتحول إلى اداة قمع بيد الطبقة المسيطرة على مقاليدها، وستقوم القوى المسيطرة عبر الدولة بفرض قوانين تخدم مصالحها وليس مصالح الشعب، وبناءً على ذلك فإن مصير الدولة سيكون الاضمحلال والزوال، لكي يقوم مجتمع جديد ينبع من ثورة البروليتاريا ومجتمعها الشيوعيّ الضامن للحريّة والمانع لاحتكار وسائل إنتاج الثروة.

ومع ذلك سيظل السؤال المشروع يفرض نفسه علينا هنا وهو: كيف ستسقط الدولة إذن؟.

اضمحلال الدولة وفخ الأيديولوجيا:

الشائع أن ماركس نظر إلى الدولة باعتبارها أداة للقمع والسيطرة وفرض الإيديولوجيا المهيمنة ضد الطبقة المسحوقة داخل المجتمع، وهذا ما قال به "انجلز" بأنها الجهاز القمعي الذي تمتلكه طبقة ضد أخرى، وهي في أحسن الأحوال شر ترثه البروليتاريا المنتصرة في الكفاح، من أجل السيطرة الطبقيّة، كما أنها ليست سوى منظمة مؤقتة تستخدم في النضال من أجل تحطيم الأعداء بالعنف، وأنه من التناقض القول بدولة شعبيّة حرة. وما دامت البروليتاريا في حاجة إلى الدولة، فإنها لا تحتاج إليها من أجل الحريّة وإنما لقمع أعدائها، وما أن يصبح بالإمكان التحدث عن الحريّة حتى تزول الدولة بوصفها دولة. فالدولة عند ماركس وانجلز بالتالي، هي النقيض الضروري للحريّة، ولابد من مرحلة في التاريخ تسقط فيها الدولة في ظل الحاجة الملحة للطبقة الشعبيّة التي ستتمتع بالحريّة بكونها أساس الحياة العادلة. حينئذ تبرز جماعة مشتركة يكون النمو الحر داخلها لكل واحد فيها هو الشرط لتحقيق الحريّة والعدالة والمساواة.. فما أن تزول التناحرات بين الطبقات عندئذ ستفقد السلطة العامة طابعها السياسيّ، فالسلطة السياسيّة بالمعنى الصحيح هي السلطة المنظمة لطبقة من أجل اضطهاد الطبقات الأخرى.

فالدولة إذن عند ماركس، مرتبطة بالاضطهاد لكونها تمثل سلطة سياسيّة، وزوالها هو إيجابيّ وفي صالح المجتمع الشيوعيّ الذي يخضع لمنطق السلطة العامة عوضاً عن السلطة ذات الطابع السياسيّ، ورغم هذا فإن ماركس لم يعط تصوره للمجتمع الشيوعيّ بالشكل المطلوب، بحيث يسهل فهم نظريته حول الدولة، وفهم غاية الرجل من هذا المجتمع المستقبلي، غير أنه واضح القول بمجرد قيام النظام االشيوعي تنحل الدولة من تلقاء ذاتها وتزول. هنا وقع ماركس برأيي ومن أيده في طرحهم لفكرة نهاية الدولة في فخ الأيديولوجيا، حيث من خلال المنهج الماديّ الجدليّ التاريخيّ الذي من خلال قوانينه ومقولاته قاموا بتحليل الماضي والحاضر وفقاً لمعطيات تاريخيّة فسحت لهم في المجال واسعاً كي يحللوا معطيات الماضي، وكذلك معطيات الحاضر ويكتشفوا حقائق موضوعيّة وذاتيّة عجزت عن إثباتها المناهج المثاليّة عموماً، وعند محاولة تحليلهم رسم أفق المستقبل الذي يفتقد إلى معطيات ملموسة، وبالتالي يقوم النظر إلى هذا المستقبل وفق استنتاجات منطقيّة تتكئ على معطيات الماضي والحاضر المعيوش. والاستنتاجات المنطقيّة تظل رؤى ومواقف ذهنيّة وفي أعلى مستوياتها نظريات هي أقرب إلى الأيديولوجيا، التي نعتها ماركس نفسه بأنها وهم.

لقد تبين معنا من خلال نجاح الثورات العماليّة أو حتى الشعبيّة التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكيّة واستمرار أنظمتها حتى العقد الأخير من القرن العشرين، أن الدولة استمرت في حضورها القوي والفاعل، ورغم ما حققته من انجازات عظيمة لشعوبها، إلا أن شهوة السلطة عند الطبقة أو القوى التي سيطرت على الدولة في هذه الأنظمة قد حولتها إلى دول شموليّة سميت بأنموذج الدولة الستالينيّة، وهي دولة حوصرت فيها حريّة الفرد والمجتمع ورفض الرأي الآخر وبناء السجون للمختلف والتنكيل به، وزرع الخوف في عقول أبناء المجتمع، وفي العديد من الأنظمة الاشتراكيّة تحولت السلطة فيها إلى سلطة عشيرة وقبيلة وطائفة. الأمر الذي أفرغ كل منطلقات هذه الدولة من مضمونها الديمقراطيّ والعلمانيّ. لذلك انهارت أو سقطت معظم هذه الدول وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي.

نستخلص من كل الذي جئنا عليه اعلاه، أن نظريّة الدولة عند كارل ماركس ارتبطت بمسألة الأداة، لأنها تخدم طبقة معينة، وهي الطبقة الحاكمة من أجل فرض وضمان استقرار المجتمع الطبقيّ، ومع وصول الجميع إلى الحريّة ستنهار الدولة، وهذا ما اثبت فشله تاريخيّا، وفشل (الاناركيّة) أو اللاسلطويّة كفلسفة سياسيّة، قامت فكرتها على أن الدولة غير مرغوب فيها، وهي غير مهمة ومضرّة للمجتمع، وبالتالي راحت تروّج لمجتمع بلا دولة، و تسعى لتحجيم أو الغاء تدخل السلطة في سلوك العلاقات الانسانيّة. الأمر الذي أوصل دعاة الاناركيّة إلى التطرف، وتصنيف دعاتها تحت اسم "اليسار المتطرف ". (8). كما فشلت أيضاً مقولة مزيداً من الاشتراكيّة، يعني مزيداً من الديمقراطيّة، أي الحريّة.

***

د. عدنان عويد

.........................

الهوامش:

1- للتعمق أكثر في معرفة هذه المسألة راجع (كتاب أصل رأس المال - لأنجلز إصدار دار التقدم - موسكو) وكتاب (تحول قوة العمل إلى رأسمال لماركس. إصدار دار التقدم موسكو).

2- راجع البيان الشيوعي. تأليف ماركس وانجلز - ترجمة العفيف الأخضر -

3- للاستزادة في هذا الموضع راج موقع منبر 24 -“مفهوم الدولة عند كارل ماركس ونقده للدولة الرأسمالية”. بقلم حسن سمر: أستاذ باحث في الفلسفة السياسية.

4- راجع موقع المعرفة – حرب الفلاحين في ألمانية.

5- راجع موقع الموسوعة السياسية. الثورة الفرنسية - الإعداد العلمي - أحلام أزوتار نشر في: 2021-04-18)... وراجع أيضاً موقع بدايات - ماركس والدولة – تلخيص لكتاب – (لماذا كان ماركس على حقّ؟). لتيري إيغلتن.

6- راجع موقع المعرفة – كومونة باريس من قبل الطبقة العمالية ضد الطبقة الرأسمالية.

7- للاستزادة في هذا الموضع راج موقع منبر 24 مرجع سابق.

8- ويكيبيديا.

 

فعلُ الخير ليس مشروطًا

‏الإنسانيةُ غيرُ المشروطة منبعُ كلِّ خير يقدمه الإنسان لكلِّ مخلوق. ‏طاقةُ الإنسانية غيرُ المشروطة تضيء العالَم بأجمل ما يمتلكه الانسان. ‏الإنسانيةُ غير المشروطة على الضد من ‏إنسانية مشروطة تحصرها بهوية أو معتقد أو دين أو أيديولوجيا أو قومية أو جغرافيا أو ثقافة محلية، وأمثالها من شروط وقيود وأوصاف تسجنُ استعدادَ الإنسان لفعل الخير وتضعه في حدودها. مَنْ هو محتاجٌ للإغاثة والحماية والدعم والرعاية والرحمة يستحقها، بغض النظر عما تفرضه الهويات الاعتقادية من حصر فعل الخير ووضع أسوار تحدده في اطارها. في ‏الإنسانية غير المشروطة يُنظَر إلى حاجة المخلوق ويغاث تلهفه، ولا ينظر إلى مَنْ هو المخلوق ولا إلى هويته.

مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحو لا يصدقُ عنوانُه وفقًا لمعتقده إلا على ‏مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان ‏لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسان مختلف في المعتقد. فعلُ الخير في نظره يصدقُ على عنوان الهوية الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه وضميرُه الأخلاقي ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداة تُستخدم لأجل العقيدة، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرض معين.

مَنْ يتمسك بمعتقد انحصاري يجعل ‏الغايةَ معتقده، الإنسانُ ليس غايةً، الإنسانُ أداةٌ لتحقيق ما تفرضه عليه هويتُه الاعتقادية، لذلك لا يفعل خيرًا من أجل الإنسان بما هو إنسان، وإنما يفعل الخير من أجل المعتقد الذي يحدد له مَنْ ينطبق عليهم عنوانُ فعل الخير من البشر، وهم كلُّ مَنْ يعتقد بمعتقده خاصة من دون غيره من الناس.كلُّ شيء يفعله لا يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا موضوعًا للتكريم والاهتمام والاحترام، وإنما يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا يعتقدُ بمعتقدٍ معين موضوعًا، فالتكريم والاهتمام والاحترام يبدأ بالإنسانِ الذي يشترك معه بمعتقده، وينتهي عندما لا يكون الإنسانُ مشتركًا معه في الهوية الاعتقادية. يكتب ابن تيمية: (وأمّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلّ لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا"، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالُهم مملوكةً لهم ملكًا شرعيًا، لأنّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان.. والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها ملكوها شرعًا، لأنّ الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم) . الغريبُ أن الخطابَ في الآية القرآنية التي استدل بها "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا" يشمل كلَّ الناس، ولم يختصّ بالذين آمنوا، فكيف يُستدلّ بها ويحصرها بالمؤمنين خاصة. الاستدلالات من هذا النوع الغريب الذي يقرأ الآيات في ضوء معتقد المفسّر والفقيه في مدونة التفسير والفقه لمختلف المذاهب ليست قليلة.

في ضوء مفهومي لـ "الإنسانية الإيمانية" يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في حماية كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا بغض النظر عن معتقده ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعى يعمل على بناء الحياة، باستثمار قيم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريس ما يسعد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقد أو الهوية أو الثقافة، وغيرها. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدق حينئذ على كلِّ مسعى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير.

فعلُ الخير في "الإنسانية الإيمانية" موضوعُه الإنسانُ من حيث هويته الإنسانية لا غير، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفات إضافية أيديولوجية واعتقادية وعرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على هويته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان ‏بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. ‏عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هويته أو إثنيته، حينئذ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل ‏عقيدة الإنسان. في "الإنسانية الإيمانية" العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه واسعاده. ‏

في "الإنسانية الإيمانية" يقترن الإيمان بالعمل الصالح، فقد وردت كلمة الصالحات 180 مرّة في القرآن الكريم، وجاء العمل الصالح ملازمًا للإيمان في 75 موردًا في القرآن، وذلك يشي بأن الأثر الطبيعي للإيمان هو العمل الصالح، ففي "المواضع التي يذكر فيها القرآن الذين آمنوا يقرن بينهم وبين العمل الصالح بشكل صريح، فيما يقرن الإيمان بألوان من الرؤى‏ والقصد والسلوك في المواضع الأخرى‏، يجسد العمل الصالح روحها، ويمثل مادتها التي تتقوم بها، فإن أركان الايمان، وثمراته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، كلـها تأتلف مع العمل الصالح متواشجة في منظومة واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلى‏ لنا ذلك بوضوح عندما نتأمل الآيات التي اقترن فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح، فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمعطى للإيمان" . الإنسان يكون صالحًا بقدر جهوده وأثره وثمراته الطيبة في الحياة، وبما يقدمه من عطاء يجعل العالَم أجمل. العمل الصالح معنى عام يصدق على كل جهد يعمل على بناء الحياة، وكل ما ينفع الناس ويحل مشكلاتهم ويسعدهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف معهم في المعتقد والهوية والثقافة، "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"، الرعد، 17.

-2-

فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء

مفهوم فعل الخير والعمل الصالح اللامشروط يتنافى مع مفهوم فعل الخير والعمل الصالح في ضوء مقولة الولاء والبراء، إذ لا يصدق فعلُ الخير والعمل الصالح فيها على المختلف في المعتقد. في إطار مقولة "الولاء والبراء" لا يكون فعلُ الخير خيريًّا أو العمل الصالح صالحًا بذاته، وبوصفه فعلًا يُسعِد الإنسان المتلقي له والمبادر به، وإنما يستمدُ فعلُ الخير قيمتَه من كونه متصفًا بالخيرية بحسب المعايير والحدود المرسومة في مقولة "الولاء والبراء"، وهذه الصفة لا تتحقّقُ إلا عندما يكون ذلك الفعلُ من أجل المشتركين في العقيدة، فيكتسب قيمتَه الخيرية وصلاحه من حكم العقيدة بأنه فعلُ خير وعملٌ صالحٌ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الحكمُ مطابقًا في كل الحالات لحكم العقل الأخلاقي "العقل العملي"، لأن أحكامَ العقل الأخلاقي لا تقبلُ التقييد بهوية اعتقادية أو سواها من الهويات القومية وغيرها. أحكامُ العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد، فالكذبُ قبيحٌ والصدقُ حَسَنٌ مع كل الناس، والظلمُ قبيحٌ والعدل حَسَنٌ مع كل الناس، والأمانةُ حَسَنةٌ والخيانة قبيحةٌ مع كل الناس، بغض النظر عن معتقداهم الدينية وهوياتهم المجتمعية وغيرها.

عندما يشدّدُ من يتبنى "الولاء والبراء" على أن أيَّ فعلِ خيرٍ وعملٍ صالح يجب أن يكون لله، ولا يُشرك به أحدًا من الخلق، يريد بذلك أنّ كلَّ فعل لا يتصف بالخيرية إلا إن كانت تنطبق عليه المعايير والقيود والشروط المنصوص عليها في العقيدة كما يفهمها ويفسّرها هو، وهي تعني ألا يفعل فعلًا من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا، بل يفعله لمن ينتمي إلى معتقده خاصة . وإن كان المقصودُ هو الإنسان في بعض الحالات فإنه مقصودٌ لسبب ما، وليس لكونه إنسانًا فقط، وهو ما تحيلُ إليه الرؤية التوحيدية السلفية الذي تتفرع عنها مقولةُ "الولاء والبراء". لذلك لا يبادر مَنْ يعتنقون هذا المعتقدَ إلى فعل الخير للناس من دون نظر لعقيدتهم، يختص فعلُ الخير لمن يشترك معهم في المعتقد دون سواه، بمعنى أن التديّنَ الذي يبتني على هذه الرؤية يرى أن الصلةَ بالله لا تتحقّق إلا من خلال ميثاقٍ خاص للاعتقاد، وما يرسمه هذا الميثاق من حدود تفصيلية دقيقة لمعتقداتِ المتديّن وسلوكِه. الميثاقُ يتضمن مقولاتٍ اعتقاديةً تمنع فعلَ الخير لمن يعتقد بمعتقد آخر في بعض الحالات، وترسم بوصلةً ترشد لخارطة الخيرية التي حدودها أهل المعتقد، داخل هذه الحدود تكون للفعل قيمة دينية تجعله مصداقًا لعنوان كونه خيريًا وصالحًا.

إن مقولة "الولاء والبراء" وغيرَها من مقولات اعتقادية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي الذي ترى أنه يُرضى الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدونة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وفق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ ديني أو مذهبي آخر موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. ولا ينظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية أو محتاجًا لفعل الخير، لأن مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلمي الفرق.

إن العملَ الخيري لأجل الإنسانِ بما هو إنسان ليس مصداقًا لفعل الخير لدى أتباع مَنْ يحرّم حتى المبادرةَ بتهنئة مَنْ ينتمي لدين آخر في أعياده، ويحرّم تحيتَه والسلامَ عليه. يقول ابن القيّم: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب... وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" ، بل يحرّم بعضُهم أكلَ ذبيحة مَنْ لا يصلي، ودعوته لأية مناسبة، ويفرض مقاطعةً شاملةً عليه. فقد "سئل الشيخ ابن عثيمين، عن حكم السلام على غير المسلمين؟ فأجاب بقوله، البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" ، "البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" . و"سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، عن حكم جواز الأكل من ذبائح تارك الصلاة عمدًا الذي لا يصلي لا تؤكل ذبيحته. هذا هو الصواب... إن الذي لا يصلي لا دين له، ولا تؤكل ذبيحته... فلا تؤكل ذبيحته، ولا يدعى لوليمة، ولا تجاب دعوته؛ بل يهجر حتى يتوب إلى الله وحتى يصلي" . وقد بلغ الأمر لدى ابن تيمية أقصى مدياته عندما منعَ الإفادةَ من خبرات ومعارف غير المسلم ومنعَ تقليدَه حتى في ما فيه مصلحة للمسلم، إذ يقول: "لا تقلدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأن اللهَ إما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرًا منه، وإما أن يعوضنا عنه في الآخرة" . وهذا يعني مقاطعةَ المسلمِ للعالَم غير المسلم كلِّه، وذلك متعذر، لأن العالَم اليوم متداخلٌ ومتفاعل ومتشابك كنسيج مترابط في تواصله وتبادله وتفاعله في مختلف مجالات الحياة، وليس بوسع مجتمع يريد أن يحضر في العالَم العيش وكأنه في جزيرة يغلقها على نفسه.

تورّطت أكثرُ الأديان المعروفة بالتكفير في مرحلة من مراحل تاريخها، ولم ينفرد فيه دينٌ واحد فقط، على تباين في درجة التكفير واختلاف في أنواعه وآثاره وحدوده. التكفيرُ مأزق الأديان، التكفيرُ يُفشِّل كلَّ محاولة جادّة للحوارٍ والتعايش بين الأديان. يتنكّر أكثرُ أتباع الأديان للتكفير في أديانهم وتراثهم وتاريخهم، وينزعج كثيرون من الحديث عن التكفير لدى الفرق والمذاهب في تراثنا، وعادة ما يُتهَم مَنْ يكشف ذلك بأنه يُشهِّر بالدين والمذهب الذي ينتمي إليه. وكأنهم لا يعلمون أن التكفيرَ يتفشى في مقولات علم الكلام القديم لكل الفرق.

تحولت مقولةُ "الولاء والبراء" بوصفها رديفة للتكفير إلى سلطة تغلغلت في ضمير المسلم المعتنق لها، بنحو كان معه ومازال المسلمُ الذي يتبناها عاجزًا عن بناء ضمير أخلاقي إنساني حرّ، يسمح له ببناء علاقات إنسانية إيجابية مع أتباع الأديان الأخرى، بل كثيرًا ما عجز المسلم المعتنِق لها عن بناء علاقات ثقة مع المسلم الذي ينتمي لمذهب آخر، لأن عقيدة "الولاء والبراء" تفرض عليه أن يتخذ موقفًا عدائيًّا مع الغير، وهو ما يشدّد عليه بعضُهم بقوله: "واعلم أنه لا يستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحّد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين".

الاقتصارُ على إيراد الأقوال والفتاوى السلفية هذه لا يعني شذوذَها ولا أنها الوحيدةُ التي تشدّدُ على ذلك في تراثنا، بل لأنها مازالت مؤثّرة وفاعلة في مواقف أكثر مَنْ يعتقد بها. الواقعُ الذي يعيشه أكثرُ المسلمين غير السلفيين فرض عليهم تجاوزَ تلك المقولات والأحكام في تعاملهم مع المختلِف في المعتقد. تفرض قوةُ الواقع منطقَها لتتغلب على حجج الذين يعاندون صيرورةَ التاريخ مهما كانت. تحدّثنا صيرورةُ التاريخ عن أنَّ مَنْ يمكث في خصومةٍ حادة مع الواقع لن يلبث طويلا في مواقفه ولن يستطيع الصمودَ في مواقعه مهما فعل،كما رأينا ذلك يتكرّر في كلّ الأديان والمعتقدات والهويات والثقافات.

التكفير يمزق أواصرَ العيش المشترك في المجتمع، ويزجّ المجتمع الواحد في حروب مفتوحة. فضحُ أرشيف التكفير ضرورة لاستئناف حضور قيم القرآن الكريم الروحية والأخلاقية والجمالية في حياة المسلم، وتحرير ضمير المسلم من التراث التكفيري المظلم.

-3-

سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان

التديّن الذي يتأسّس على "الولاء والبراء" لا يكون سبيلُ الإنسان فيه متحدًا مع سبيل الله، ولا يمرُّ الطريقُ إلى الله فيه عبر الإنسان، ولا ينطبق على بعضٍ من أفعال الخير فيه عنوانُ "في سبيل الله"، إن كانت من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا. سبيلُ الله على وفق هذا النوع من التديّن لا يتّحد دائمًا مع سبيل الإنسان، أي لا يصدق على فعلِ الخير والعمل الصالح للإنسان أحيانًا أنه في سبيل الله إلا عندما يكون ذلك الإنسانُ متحدًا معه في المعتقد، ومعنى ذلك أن الإنسانَ بوصفه إنسانًا لا غير لا يستحقّ أن يتعامل معه كما يتعامل مع من ينتمي إلى معتقده، ولا ينطبق عنوانُ فعل الخير على ما يفعله من أجله بوصفه إنسانًا إلا في بعض المواقف الخاصة.

تتكرّر في القرآن آياتٌ عديدة تحثّ على إقراض الله، وفي هذا السياق آياتٌ تتحدث عن قضايا أخرى مماثلة يطلب فيها اللهُ أن يقدّمَ الإنسانُ له شيئًا وهو يريد بذلك أن يقدّمه الإنسانُ للإنسان، من هذه الآيات: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً" ، "إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ الله"، "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ" ، "إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ"، "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا". اللهُ غنيٌ عن العالمين غير محتاج لأحد، إقراضُ الله إقراضُ الإنسان، تكريمُ الله تكريمُ الإنسان، حُبُّ الله حُبُّ الإنسان، كلُّ خيرٍ وعملٍ صالح يقدّمُه الإنسانُ للإنسان يقدّمُه لله. ليس هناك طريقٌ إلى الله خارجَ طريق رعاية الإنسان واحترامه وتكريمه. يكتب محيي الدين بن عربي: "فقلتُ له: فأين حظي من ذاتك؟ قال: في إيثارك بأقواتك؛ ألم تعلم يا بُنيّ أنّه لولا الجود ما ظهر الوجود" .

عندما لا يتطابق سبيلُ الإنسان وسبيلَ الله لا تُصان حقوق الإنسان بما هو إنسان، ويمكن أن تُصادر حرياتُه في حالات متعدّدة بذريعة حماية حقوق الله، على الرغم من أن اللهَ يعفو عن الإنسان لو عصاه وفرّط بحقوقه حين يستغفر. الله يتنازل عن حقوقه بالتوبة والمغفرة والعفو والرحمة مهما كانت، ولا يتنازل عن العدوانِ على أيّ إنسان، وانتهاكِ كرامته وتضييع حقوقه. ذلك حقّ ‏للإنسان، ‏له أن يتنازل عنه، وله ألا يتنازل عنه. يتحدث القرآنُ الكريم عن المغفرة والتوبة والعفو واليسر، فقد وردت كلمةُ المغفرة ومشتقاتُها 234 مرةً في القرآن، تكرّر ذكر كلمة الجزاء 117 مرة، والمغفرة ضعف هذا العدد أي 234 مرة، وكلمةُ التوبة ومشتقاتُها 87 مرة، وكلمةُ العفو ومشتقاتُها 27 مرة، وكلمةُ اليسر 3 أضعاف كلمة العسر، فذكر اليسر 36 مرة والعسر 12 مرة. عدلُ الله يقتضي ألا يتنازل عن الاعتداء على حقوق خلقه، مالم يتنازلوا هم عنها. لا يمكن أن يتغاضى اللهُ عن حقوق خلقه أو يغفرها لمن ضيّعها أبدًا، الله يثأر لانتهاك كرامة الإنسان، ويعاقب من ضيّع حقوقَه عقابًا أليمًا، ويقتصّ ممن سرق أموالَه ويعاقب مَن أهدرَ كرامته، ويكون العقابُ على شاكلة الفعل.

في ضوء مفهومي للإنسانية الإيمانية يتّحد سبيلُ الإنسان بسبيل الله، سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ومفهومُ سبيل الله المنفصل عن سبيل الإنسان لا يوصل إلى الله. سبيلُ الإنسان وسبيلُ الله يتحقّقان معًا، وأن نفيَ سبيل الإنسان يعني نفيَ سبيل الله، كلاهما وجهان لحقيقةٍ واحدة. ذلك هو المضمونُ الإنساني للتوحيد، الذي تنعكس أجلى تعبيراته بالمحبّة والتراحم والتضامن مع القضايا الإنسانية العادلة. أسرع مَن يصلون في سفرهم إلى الله ويحضرون في ملكوته أولئك الذين يجعلون همَّهم الدائم إسعافَ المكروب وإدخالَ السرور على قلبه الكئيب ولو بكلمة محبة صادقة.

مأزقُ التديّن الذي يتأسس على "الولاء والبراء" يكمن في أن الضميرَ الديني يتغلّبُ فيه على الضمير الأخلاقي، وأعني بالضمير الديني ما هو غاطسٌ في البنية اللاشعوريّة، وما تفرضه عليه مقولةُ "الولاء والبراء" ومرجعياتُها الكلامية. يتساءل الضميرُ الديني دائمًا عن تكليفه لحظةَ الإقدام على فعل شيءٍ ما، أو عند ترك شيءٍ ما، يريد معرفةَ موقفه في ضوء معتقده الكلامي، كي يتحدّد موقفُه العملي. أعني بالضمير الأخلاقي ما يحكم به العقلُ الأخلاقي "العقل العملي" بشكلٍ مستقلٍّ عن أيّ عنوان اعتقادي أو ديني أو هوياتي أو أيديولوجي، ففعلُ الخير على وفق منطق العقل الأخلاقي هو ما تقدّمه للإنسان المحتاج بعنوان كونه إنسانًا لا غير، من دون أيّ توصيفٍ إضافي، سواء كان هذا التوصيفُ الإضافي دينيًا أم هوياتيًا أم ثقافيًا أم عرقيًا أم جغرافيًا أم غيره.

عندما يبتني الضميرُ الديني على الأخلاق يكون هو ‏ذاته الضمير الأخلاقي، ‏وهو يختلف عن الضمير الديني الذي يبتني على مقولة "الولاء والبراء". في سياق مقولة "الولاء والبراء" يوجدُ الضميرُ الديني عندما يوجدُ التكليفُ بمدلوله في علم الكلام القديم، وينتفي هذا الضمير عندما ينتفي التكليفُ. فعلُ الخير على وفق مفهوم "الولاء والبراء"، هو ما تقدّمه للإنسان بتوصيفه وعوانه الإضافي، وهو عنوانُ كونه من دينك أو من مذهبك، لذلك لا يجد المُعتقِد بذلك، في أكثر الحالات، حافزًا لأن يفعلَ خيرًا ويعمل صالحًا للإنسان بعنوان كونه إنسانًا، لأنه غيرُ مكلّفٍ بذلك، فينحصر فعلُ الخير والعمل الصالح في ضميره الديني بما يقدّمه للإنسان بعنوان كونه من مذهبه أو دينه، انطلاقًا مما ينغرس في ضمير المتديّن من أن مفهومَ الخير لا يصدق على أيِّ فعلٍ مالم يكن خيرًا بالمعنى المكلَّف فيه المتديّن. هذا المنطق لا يختصّ بدين خاص أو معتقد معين، هذا المنطق يفرض على كلِّ صاحبّ عقيدة دينية من أيّ دين أن يكون فعلُ الخير مختصًا بدينه، إن كان فعلُ الخير في عقيدته مشروطًا بأتباع دينه ولا ينطبق على غيرهم.كما يتسلّط هذا المنطقُ ويأسر كلَّ إنسان ينطلق في فعل الخير من عنوانٍ للإنسان مُقيَّدٍ بتوصيفٍ إضافي مهما كان، سواء كان ذلك القيدُ دينيًا أو هوياتيًا أو ثقافيًا أو عرقيًا أو جغرافيًا أو حزبيًا أو غيره. خلافًا لمن ينطلقُ في فعل الخير من الضمير الذي يحكمُ به العقلُ الأخلاقي، فهو يتألمُ لآلامِ الناس بوصفه شريكًا لهم في إنسانيتهم، ويشعرُ باحتياجاتهم وآلامهم بغضّ النظر عن كونِهم شركاء في ملته أو خارجها، أو اتفاقِهم معه بأيّ توصيف آخر خارج عنوان كونهم شركاء في الإنسانية.

الضميرُ الأخلاقي يفسد إن كان مشروطًا، لأن الضميرَ الأخلاقي حرٌّ بطبيعته لا يقبل أيَّ قيد، بمعنى أن التعاملَ بصدق وأمانة وعدل حسنٌ مع كلَّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغضّ النظر عن دينه ومعتقده وجنسه وثقافته، والتعاملَ بالكذب والخيانة والظلم والتمييز بين الناس قبيحٌ مع كلّ إنسان بوصفه إنسانًا. التربيةُ على "الولاء والبراء" وغيرها من المقولات الاعتقادية المماثِلة تفرض سلسلةً من الشروط لتصنيفِ البشر على مراتب، وعدمِ إنصاف الناس، والتمييزِ بينهم في المعاملة على أساس معتقداتهم، فمن تتطابق معتقداتُه معك يستحقّ أن تعامله كنفسك، في حين لا يستحقّ المختلِفُ عنك في الدين الحقوقَ التي يستحقّها الشركاءُ في معتقداتك.

لا يمكن بناءُ حياة روحية وأخلاقية أصيلة في مجتمع تتفشّى فيه ثقافةٌ يتسلط فيها التكفيرُ على الضمير الديني ويُلزِم المتديّنَ بمقاطعة المختلِف في المعتقد. لا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلِف في المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالَم، وعقلٌ ينهكه التشاؤمُ والاغترابُ والارتيابُ من الآخر، أن يؤسّس لحياة روحية وأخلاقية حقيقية، تشفق على المعذّبين، وتتضامن مع الضحايا، بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وإثنياتهم، وتتصالح مع العقل وقيم الحق والخير والسلام والجمال في الحياة.  يمنع أحد رجال الدين السلفيين تداول "كل عام وأنتم بخير" حتى بين المسلمين بذريعة أنها مستعمَلة عند غير المسلم، إذ يقول: (أمَّا "كل عام وأنتم بخير"؛ هذه تحية الكُّفَّار، سرت إلينا نحن المسلمين في غفلة منا) . العقل السلفي يستفزّه التحدّثُ أيام المسرات والأعياد بأية عبارة لم تكن متداولة في مدونات الحديث، وكأن اللغة ولدت في هذه المدونات واكتفت إلى الأبد بمعجمها، ولا مشروعيةَ خارج هذه المدونات لأية كلمة عند الاحتفاء بالإنسان الذي نشترك معه في الإنسانية بالأعياد وغيرها من المناسبات السارة.

في ضوءِ ذلك نفهمُ لماذا يشحّ حضور عطاء مَن يعتقد بذلك في قائمةِ أعظمِ المتبرعين بثرواتهم من أجل الإنسانية ككل. لا نرى حضورًا لأصحاب الثروات ممن يعملون بـمقولة "الولاء والبراء" بما يتناسب مع نسبتهم من سكان الأرض، ونفهم السببَ الذي لا يجد معه رجالُ الأعمال دافعًا للعطاء من أجل إسعاد الإنسان بوصفه إنسانًا بغضّ النظر عن دينه،كما يفعلُ أصحابُ الضمائر الأخلاقية اليقظة، الذين ينصتون لنداء العقلِ الأخلاقي، من مالكي الثروات الهائلة في العالم، الذين لا ينظرون إلا لاحتياجات الناس الذين يستحقون الرعاية، ولا يهتمون بمعتقداتهم وهوياتهم الإثنية، فينفقون في أعمال الخير مليارات الدولارات، ولا تختصّ مشاريعُهم بصنفٍ من البشر دون غيرهم.

أخلاقُ الإنسان مرآةُ إنسانيته. خلصت من كلِّ تجارب حياتي إلى أن الإنسانَ الوحيد الذي يمكنُ أن أراهن عليه هو مَن يمتلك ضميرًا أخلاقيًا غير مشروط، بغضِّ النظرِ عن دينه وهويته وقوميته وثقافته وجنسه ولونه وموطنه، وبغضِّ النظرِ عن مقامه الاجتماعي والسياسي والمالي والثقافي.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

إذا كانت الماركسية بمثابة محاولة تغييرية نبعت من واقع الفكر الغربي في مرحلة تاريخية معينة ذات تطور مادي معين لمواجهة الإيديولوجية الرأسمالية. إلا أن الرأسمالية استطاعت الاستفادة من المرآة التي وفرتها لها الماركسية ذاتها لرؤية أخطائها وتجاوزها، وفي الوقت نفسه العمل على احتواء الماركسية كإيديولوجية تغييرية وإذابتها في الإيديولوجية الغربية ذات الطابع الليبرالي، هذا ما أفقد الإمكانية في تحقيق تحول شامل في المجتمعات الغربية، لا بل الأحزاب الماركسية الأوروبية والتيارات اليسارية الأخرى التي كانت لها السيادة في الحياة الثقافية – السياسية في الستينيات لم تقدم البديل التاريخي للاحتكار السلطوي للنظام الرأسمالي، مما يؤكد أن تلك السياسات الكبرى في التغيير قد فشلت، مما أدى إلى ظهور سياسات صغرى، من السلطة اللامركزية، المحلية، واختفاء المعرفة الشاملة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاعت الطبقة الرأسمالية توظيف الإيديولوجية الليبرالية في خدمة مصالحها والدفاع عن وجودها كقوى مسيطِرة على البناء الاجتماعي في المجتمعات الغربية؟ هذا ما سوف نقوم بتفصيله في الفقرات التالية.

في حقيقة الأمر، تتبني المجتمعات الغربية لإيديولوجية الفكر الليبرالي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولكن قبل استعراض ممارسات الليبرالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي في المجتمعات الغربية وموقفها من الآخر، سنقوم بتوضيح مفهوم الليبرالية أولاً.

1- مفهوم الليبرالية: تعتبر الليبرالية Liberalism " إحدى الإيديولوجيات السياسية الكبرى في العالم الحديث، وهي تتميز بالأهمية التي تعزوها لحقوق الفرد المدنية والسياسية، لأنها مذهب سياسي أو حركة وعي اجتماعي، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وتتحرك (الليبرالية) وفق أخلاق وقيم المجتمع التي يتبناها، فتتكيف حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى آخر. فالليبرالية مذهب سياسي واقتصادي معاً تقوم على فلسفة استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية . وكمفهوم اصطلاحي ترجع إلى الأصول اللغوية اللاتينية التي دخلت إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية بحكم التواصل الثقافي مع الحضارة الإغريقية، ويعود ظهورها في كل من فرنسا وإنكلترا وهولندا إلى القرن السادس عشر، إذ أصبحت إحدى أهم مفردات الثقافة السياسية الأوروبية في ذلك الوقت، ونقلت إلى العربية غداة ترجمتها من أصلها اللاتيني من قبل رفاعة الطهطاوي بـ:(الحرية) والذي ترجم (ليبرالي) إلى (حُريَّ).

وردت في القاموس السياسي بمعنى التحررية، لأنها كانت تشير إلى إقامة حكومة برلمانية، وتأكيد حرية الصحافة والعبادة وحرية الكلمة. أما من الناحية الاقتصادية، فتعني حرية التجارة، وعدم التدخل في الشأن الاقتصادي، وجاءت في ترجمات عربية أخرى أنها تقليد في الفكر الأوروبي، يركز على قيمة الحرية، وعلاقتها بالدولة، وأن الفرد له (حقوقه الطبيعية) المالكة لوجودها المستقل عن الحكومة، وعن المجتمع.

في حين ترجم المعجم الوثائقي Liberalism بالمذهب الحر، وهو مذهب سياسي واقتصادي يدعو إلى التحرر والانعتاق من القوى التقليدية التي كانت تجمع بين الملكية والاستبداد والكنيسة وطبقة الإقطاعيين، لأن مبادئ وأسس " الليبرالية متناقضة جذرياً مع الإيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الما وراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة. وهي ضد الوحي والميتافيزيقا حين أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرية وهي ضد سحق الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد". كما يدعو هذا المذهب (الحر) إلى إقامة نظام ديمقراطي برلماني، وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلا في أضيق الحدود، وإقامة الأحزاب السياسية الليبرالية. أي أن الليبرالية نشأت في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عصفت بأوروبا منذ بداية القرن السابع عشر، فعلى الصعيد الفكري نجد أن الليبرالية لم " تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في تطورها وإعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز. فالليبرالية ليست اللوكية (نسبة إلى جون لوك 1632 – 1704)، أو الروّسووية (نسبة إلى جان جاك روسو 1712-1778) أو الملّية (نسبة إلى جون ستيوارت ملْ 1806-1873)، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها.

في المقابل " يرى نقاد الليبرالية بأنها نشأت كتبرير إيديولوجي لظهور الرأسمالية، وأن صورتها للفرد المستقل مجرد تمجيد للسعي وراء المصالح الذاتية في السوق، لأنها استبدلت شبكة الالتزامات المتبادلة التي تربط بين الناس في الجماعات العرقية، والدينية، وما في حكمها بمجتمع مؤسس على التنافس والفردانية الذرية ".

بعد القيام بعملية توضيح مفهوم الليبرالية بشكل عام، سنحاول التعرف على الآلية التي سعت من خلالها المجتمعات الغربية إلى تبني واستثمار الفكر الليبرالي كإيديولوجيا على الصعيديين (السياسي والاقتصادي) بهدف تحقيق مصالحها وغاياتها هذا من جانب، ولكي تضمن سيطرة أفكارها ومبادئها على مجتمعاتها في عالم سياسي يتسم بالتناحر وصراع القوى الإيديولوجية المضادة الساعية كل منها إلى تنميط الواقع الاجتماعي بأفكارها من جانب آخر.

2- ممارسات الليبرالية على الصعيد السياسي: أدى تبني المجتمعات الغربية للمبادئ والأفكار الليبرالية في إطار ممارسة العملية السياسية إلى بروز " مفهوم الدولة الديمقراطية الليبرالية التي تمثل دولة القانون، والتي تهدف إلى حماية حقوق الأفراد الأساسية، وإلى تنظيم أمور الجماعة وتطويرها ". بالإضافة إلى ضمان حقوق أفراد المجتمع في المشاركة السياسية في إطار الديمقراطية التمثيلية أو النيابية " عن طريق الاقتراع العام أو الانتخاب العام الذي يقوم به المواطنون لممثليهم في المجالس والهيئات التشريعية "، ووضع القوانين وتنفيذها، وإمكانية التغيير السلمي للسلطة وفقاً للإرادة الشعبية من فئة إلى أخرى بين الحين والحين.

يرى بعض المفكرين أن الديمقراطية ليست مجرد احترام الحقوق الأساسية للإفراد، بل هي فضلاً عن ذلك نظام لحكم الأغلبية ولتداوم السلطة، بحيث إن " لكل فرد صوت ". فهي تقوم على أساس المساواة الكاملة بين الأفراد في الحقوق السياسية، أما في النظام الرأسمالي فإن القوة الاقتصادية تقاس بما يملك الفرد من ثروة أو ما يحققه من دخل، وبالتالي فإن مفهوم المساواة في الرأسمالية لا يقترن بها " المساواة الاقتصادية "، لذلك هناك نوعاً من التوتر بين مقتضيات الديمقراطية في المساواة السياسية وبين مقتضيات الرأسمالية في تفاوت الحظوظ الاقتصادية، لذا كانت وما تزال الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الرأسمالية الغربية أداة لتخفيف حدة التفاوت بين في الدخول والثروات، من خلال دور الدولة الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية الديمقراطية.

بمعنى آخر، أدى التعارض الإيديولوجي بين المساواة في السلطة السياسية التي تقوم عليها الديمقراطية وحقيقة اللا مساواة في القدرة الاقتصادية التي تقوم عليها الرأسمالية، إلى تطعيم الرأسمالية والديمقراطية بالاستثمارات الاجتماعية ودولة الرفاه الاجتماعي. لأن المجتمعات الرأسمالية قد أدركت أهمية قضية " العدالة الاجتماعية "، كأحد أهم التحديات التي تواجهها نتيجة الآثار السلبية التي لحقت بالطبقة العاملة بسبب ممارسات الرأسمالية الاقتصادية اللا إنسانية. وقد ظهرت هذه المشكلة بوجه خاص خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع تزايد درجة التصنيع وتضخم المدن الصناعية وازدحامها وزيادة أحجام البؤس الذي تعرض له العمال في هذه الفترة من التصنيع. وساعد على ذلك أيضاً زيادة الوعي العمالي مع انتشار الأفكار الاشتراكية في ذلك الوقت. لذلك بدأت تلك المجتمعات تصدر، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، قوانين لحماية الفقراء ووضع حدود دنيا لمعدلات الأجور مع تحديد لساعات العمل والسماح للعمال بتكوين النقابات والاعتراف بحق الإضراب ووضع قيود على تشغيل النساء والأطفال واستغلالهم. ومع القرن العشرين وقيام الثورة البلشفية عام 1917 والنظام الشيوعي – في ما كان يسمى الاتحاد السوفيتي سابقاً – وخاصة بعد نجاح الأحزاب العمالية في الوصول إلى الحكم، ووقوع الأزمات الاقتصادية* الكبرى وخاصة الأزمة العالمية في عام 1929. بدأت سياسات الضرائب في المجتمعات الرأسمالية تتجه إلى العمل على تحقيق عدالة التوزيع، بحيث أصبح للضرائب وظيفة اجتماعية في تحقيق العدالة الاجتماعية ومنع الإسراف في سوء توزيع الدخول والثروة. فمع تزايد تدخل الدولة لتوفير أنواع من الضمان الاجتماعي المتمثل بالرعاية الصحية وتوفير حدود دنيا للمعاشات لكبار السن والعاطلين عن العمل وذوي الاحتياجات الخاصة، أصبح الضمان الاجتماعي أحد أهم مظاهر النظم الرأسمالية الصناعية. لأنه بنظر منظري النظام الرأسمالي أنجع وأفضل وسيلة اجتماعية لمواجهة المخاطر الاجتماعية غير المتوقعة والتعويض عنها، وهذا ما عبر عنه بيير لاروك Pierre Laroque أحد أهم رواد الضمان الاجتماعي في فرنسا، وبالأخص بعد أن أصبح " خطر التعاسة في المستقبل يخيم على الطبقة العاملة فيجعلها تطالب بقوة بالتأمين الاجتماعي وبإزالة مسببات القلق وعدم الثقة بالغد.

أدت هذه التطورات والمتغيرات التي أوجدتها " دولة الرفاهية " إلى إيجاد نقلة كيفية كبيرة في مفاهيم الطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية بالحد من عنصر استقلال الفرد المرتبط بقوة شخصيته ومدى تحمله وسيطرته على ذاته، وكذلك من حيث العيوب الذاتية للفرد لدى كل من (العامل) و(صاحب العمل)، حيث لم يعد البؤس يفسر على أنه معتمد أو سبب للّوم بل أصبح المجتمع يرى إمكانية لتغير ظروف الأشخاص وسلوكياتهم. كما لم تعد الطبيعة البشرية هي تلك الصفات الثابتة للأفراد وإنما هي سلوكياتهم الاجتماعية. وبدلاً من النظر إلى النظم السياسية القائمة باعتبارها سلسلة من القيود الضرورية على السلوك الفردي، أعيدت صياغة هذا المفهوم لتصبح النظم السياسية عملية لتنمية الحياة الجمعية الجيدة. وبذلك ظهرت وظيفة جديدة للدولة. فبدلاً من " التدخل " كان " التنظيم " أو " التمكين " لأسباب إنسانية ولمراعاة الكفاءة أو المواءمة السياسية.

 هكذا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية النصف الثاني للقرن العشرين، أصبحت معظم الدول الصناعية الغربية أكثر عدالة في التوزيع بالمقارنة بالماضي. حيث ولدت في خضم تلك الظروف والمتغيرات دولة الرفاهية** " Welfare State" التي وفرت المزيد من الخدمات الاجتماعية مع فرض الضرائب التصاعدية على أصحاب الدخول العالية، وفي الكثير من الأحيان تأميم العديد من القطاعات الإنتاجية الاستراتيجية، كما أصبحت توجه نسبة عالية من الإنفاق العام لأغراض اجتماعية. بالإضافة إلى تدعيم دولة الرفاهية بالديمقراطية الذي أصبح مطلباً مهماً للرفاهية، حتى وإن صدرت مفاهيم الرفاهية عن جذور غير ديمقراطية. ثم إنها، في انسجامها مع الفكر الأعمق عن الدولة، كان يتم تقديمها للمجتمع باعتبارها أداة حيوية لتأمين أهداف اجتماعية وإنسانية أبعد، مثل الازدهار والمساواة والكرامة والمسؤولية وتنمية الذات وتطويرها والمشاركة والعمل المرضي المنتج. فهي ترى في الإصلاح الاجتماعي وسيلة ذهبية ما بين سياسة عدم التدخل الحكومي والاشتراكية.

أدى انتهاج المجتمعات الرأسمالية الغربية لتلك السياسة إلى تزييف الوعي السياسي للطبقة العاملة، مما أدى إلى تبنيها لقواعد اللعبة الرأسمالية (البرلمانية) المتمثلة في حق المشاركة والتفاعل في إطار العملية السياسية " عبر ممارسة المواطنين لحق الاقتراع في الديمقراطيات الحديثة، والاشتراك في التظاهرات والاحتجاجات الذي يعبر عن حرية لا وجود لها، مما أدت ترسيخ الاغتراب عن طريق تزييف الوعي بميكانزيم الديمقراطية.

وهكذا كذبت الرأسمالية المعاصرة توقعات ماركس، فقد تغيرت العلاقة بين الرأسماليين والطبقة العاملة، لأن هذه العلاقة المتغيرة خلقت وضعاً جديداً، خلقت البعد الواحد داخل الوضع الاجتماعي، بحيث وجدت نفسها الطبقة العاملة مندمجة بالنظام السياسي والاقتصادي، مما افقدها فاعليتها كعنصر ثوري. وهذا ما يؤكده بعض المفكرين وعلى رأسهم هربرت ماركيوز Herbert Marcuse أن المجتمعات الغربية عبر ممارساتها السياسية ذات الطابع الليبرالي قد خلقت قوى إنتاجية عظمى بلا تدمير تتمثل بقوة النظام الرأسمالي في المجتمعات الغربية، التي كانت من الممكن أن تتحول إلى قوة تغييرية، إلا أن هذا النظام عبر سياساته المختلفة استطاع أن يدمج الطبقة الثورية (الطبقة العاملة) دون أن تفكر في العنف أو الثورة، مما يجعلها وسيلة بناء وتطوير، لكن على حساب استعبادها واستملاكها، وهذه ما يجعلها تبقى قوةً ثوريةً حتى ولو لم تقم بالثورة حسب ماركيوز.

3- ممارسات الليبرالية على الصعيد الاقتصادي: تتجسد الليبرالية - كمذهب اقتصادي - بشكل عام فيما يدعى بالرأسمالية " وهو مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم "، لكي تترك السوق يضبط نفسه بنفسه. فالأنظمة الرأسمالية المؤمنة بالفكر الليبرالي، تعتبر المقولة الفرنسية (دعه يعمل دعه يمر) هي الشعار المثالي للرأسمالية التي تعمل على حرية التجارة ونقل البضائع والسلع بين البلدان دون قيود جمركية ". وفكرة الاقتصاد الحر تقوم على عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والليبرالية كما أشرنا من قبل تعتمد بالأساس على فكرة الحرية الفردية. وقد مرت الليبرالية الاقتصادية بثلاث مراحل رئيسية: الليبرالية التقليدية أو الكلاسيكية، ثم الليبرالية الجديدة أو الحديثة، ثم أخيراً النيوليبرالية (الليبرالية المعاصرة).

ففي مرحلة الليبرالية الكلاسيكية التي سادت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين بدأت الرأسمالية الصناعية في الظهور، سعى رواد هذه المرحلة على رأسهم آدم سميث Adam Smith وآخرون إلى تجسيد مبدأ عدم تدخل الحكومة في مجال الاقتصاد بشكل عام على أرض الواقع تطبيقاً لمبدأ حرية السوق، طالما أنها لا تملك عقلية المشروع الخاص، هذا من جانب، ولقدرة النظام الرأسمالي على خلق ثروة الأمم من جانب آخر، لأن " جوهره يتمثل في استثمار رأس المال بتوقع تحقيق مكاسب وأرباح" في نطاق الأنشطة الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك فقد اعتقد سميث بوجود " قدرة غيبية " أطلق عليها " اليد الخفية " التي ترسم السلوك العقلاني للأفراد في تتبع مصالحهم الخاصة، والتي تقود بالتالي إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.

 بذلك اتسم الواقع الاقتصادي في معظم المجتمعات الغربية في تلك المرحلة بملامح رئيسية تميزت بوجود رأسمالية المنافسة الحرة " التي تحض على زيادة شدة التنافس بين الشركات الصناعية محدودة الحجم، بالإضافة إلى ضعف التنظيمات العمالية، ووجود تحرر اقتصادي من أي نظم تفرضها الدولة، فقد انحصر دور الدولة في هذه الفترة في مواجهة الفوضى وعدم الاستقرار اللذين كان يخلقهما رأسمال الصناعي". لذا سعت الفعاليات الصناعية " المدفوعة بهاجس الربح وتراكم رأسمال، إلى إنتاج سلع تتجاوز ما يمكن للناس شرائه (عدم التوازن بين العرض والطلب) فيتطور الإنتاج في هذه الحالة بمستوى أكبر بكثير من السوق، ولحل هذا التناقض الذي يتسبب في أزمة تصريف المنتجات تلجأ الرأسمالية إلى وسيلتين: إذ تلجأ أولاً إلى تحطيم قوى الإنتاج بشكل يؤدي إلى إرجاع الإنتاج إلى المستوى الذي يتيح للسوق امتصاصه، وتلجأ ثانياً إلى توسيع السوق إما عبر تكثيف العلاقات التجارية مع الدول الرأسمالية الأخرى، أو عبر إدخال دول جديدة أو جهات جديدة في منظومة علاقاتها الاقتصادية، ويمكن ذلك من رفع مستوى السوق إلى مستوى الإنتاج".

نتيجةً لتسلط رأسمال وطغيان الاستبداد بدأت التمردات والانتفاضات والثورات الاجتماعية تشتغل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فانزعج البعض لأحوال البؤس والشقاء والفقر التي عاشتها الشعوب الصناعية بشكل عام والطبقة العمالية بشكل خاص، مما أدى إلى ظهور بعض المفكرين الليبراليين المصلحين، الذين ينادون بضرورة تدخل الحكومة لإنقاذ الجماهير التي أفقرتها السياسة الليبرالية الاقتصادية (التقليدية أو الكلاسيكية) التي تبنتها الرأسمالية. مبشرين بذلك بداية مرحلة جديدة من السياسة الليبرالية الاقتصادية تدعى الليبرالية الجديدة أو الحديثة.

 فرضت تلك السياسة نفسها على الرأسمالية في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين المنصرم عندما جاءت الأزمة المالية العالمية (الكساد الكبير) عام 1929، لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الرأسمالي إلى درجة الانهيار. فكانت تلك الأزمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي إلى محاولة فهم مكمن المشكلة وإيجاد المعالجات الكفيلة بإنقاذ الوضع. لأن المجتمعات الغربية " بدأت تفقد ثقتها في " رأسمالية دعه يعمل " و " حافز الربح "، وأدى بالكثيرين إلى استنتاج أن الأسواق التي لا تخضع لقواعد لا يمكنها أن تؤدي إلى الرخاء وتمنع الفقر".

لذا بدأ المفكرون الليبراليون في هذه المرحلة ينادون بضرورة تدخل الدولة في المسار الاقتصادي ولو بشكل محدود، وبتدخل الدولة أيضاً لتساعد على سد الضروريات الأساسية للفقراء (الطعام والمسكن والملبس، وعلاج وتعليم).

فسارعت النخب السياسية في المجتمعات الغربية الرأسمالية وعلى رأسها رئيس الولايات المتحدة (فرانكلين روزفلت) آنذاك إلى تطبيق أفكار جون مينارد كينز*** John Maynard Keynes حول تفعيل دور الدولة، لحل هذه الأزمة، من خلال إعطاءها دوراً مركزياً لإعادة ترتيب المجتمع الرأسمالي بدلاً من تركه للفعل الاقتصادي المرتهن بفردانية " دعه يعمل دعه يمر"، حيث سيقترح اللورد جون كينز في كتابه الشهير " النظرية العامة للتوظيف وسعر الفائدة والنقود " عام 1936 حلاً يقوم على إجراء تحليل شامل للاقتصاد السياسي الليبرالي وتطبيقاته، فقد توصل كينز من خلال تحليلاته لواقع الأزمة المالية التي تعيشها المجتمعات الرأسمالية، إلى ضرورة نهج تلك المجتمعات سياسة اقتصادية ترتكز على إدارة جانب الطلب لتأمين التوظيف الكامل للعمالة، في سعيه إلى حل مشكلة البطالة التي لم تنتبه إليها النظرية الكلاسيكية، ولم تبلور لها إجراءات كفيلة للتقليل منها.

إلا أن كينز في المقابل أكد أن التوازن الاقتصادي يمكن أن يتحقق عند مستويات متعددة، وليس من الضروري أن يتحقق ذلك عند مستوى التوظيف الكامل للعمالة، لذلك فإن ظهور البطالة واستمرار الكساد لا يعتبر بالضرورة وضعاً استثنائياً ومؤقتاً تعمل قوى السوق على تصحيحه، بل قد يكون وضع التوازن المقبول في ظروف اقتصاد السوق. ولذلك لا يمكن الخروج منه إلا بتدخل من الدولة عن طريق سياسة مقصودة لزيادة الطلب الفعلي وبالتالي تنشيط الاقتصاد، وبدون ذلك يمكن أن يستمر الكساد والبطالة بلا علاج.

 صحيح أن هذا الحل يخرج الرأسمالية من أزمتها الاقتصادية الخانقة، إلا أن تاريخ الرأسمالية كما هو معروف لنا ينضح بمحاولاتها المستمرة لتسخير القانون لحماية مصالحها الطامعة، ولخرق القوانين وتحديها حين تستعصي على التسخير. وطبيعي أن يكون أقرب القوانين لعدوانها تلك التي تقر حقاً اجتماعياً جديداً للطبقة العاملة الكادحة، وتحاول أن تضع العدالة الاجتماعية موضع التنفيذ، ولو كان ذلك داخل التقاليد الرأسمالية ذاتها. وليس أدل على ذلك ما لقيه الرئيس الأميركي " روزفلت " حينما حاول أن ينفذ سياسته المعروفة بـ " الصفقة الجديدة " New Deal عقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 1933، حيث لم يكن هذا المنهج يمس النظام الرأسمالي في جوهره، بل كان يقوم على وضع برنامج واسع يؤسس به " دولة الرفاهة " عبر إقرار التأمين الاجتماعي وإعانات المتعطلين، ودعم حقوق النقابات، إشراف السلطة الفدرالية على المرافق العامة، وكان روزفلت قبل أن يطالب بهذا النهج قد نجح في حل الأزمة التي حنقت أمريكا والعالم كله معها في أزمة الكساد الكبير عام 1929، حتى لقب في ذلك الحين بـ " المنقذ العظيم ". بيد أنه لم يكن يخطو خطوات إيجابية في رفع مستوى العدالة الاجتماعية في بلده حتى يتصدى له أرباب الصناعة والمال أبشع التصدي، فوصفوا منهجه الجديد بأنه " شيوعية، دكتاتورية، وإهانة للروح الأمريكية وتقاليدها " ووصفوه هو بالرجل الذي خان طبقته، والأحمر الذي يتربع في البيت الأبيض. ومع ذلك فقد استمرت دول النظام الرأسمالي وحلفاؤها في الأطراف في تطبيق السياسات الاقتصادية الكينزية طوال الفترة الممتدة منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى نهاية العقد السابع منه رغم كل الانتقادات التي تم توجيهها لهذه السياسة من قبل الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال لأنها أقرت بامتيازات وحقوق قوية لصالح الطبقة العاملة على حساب شراهة وجشع رأس المال الذي لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية عندما يكون سيد الموقف فقد جاء تطبيق تلك السياسة في ظروف لا يحسد عليها النظام الرأسمالي فكانت الحل الوحيد أمامه لكي يعيد التوازن والقدرة الاقتصادية لأركان نظامه ولمواجهة المد الشيوعي الصاعد بقوة والساعي إلى تصدير الثورة الاشتراكية إلى المجتمعات الرأسمالية الغربية.

 إلا أنه في "بداية السبعينيات من القرن العشرين أخذت سيطرة الاقتصاديات الكينزية تتلاشى وتختفي في الحكم ومن الدراسات الأكاديمية بعد تصاعد البطالة والتضخم تصاعداً خطيراً " لتظهر فيما بعد على الساحة السياسية والاقتصادية للمجتمعات الرأسمالية ما يعرف باسم النيوليبرالية (الليبرالية المعاصرة) Neo Liberalism إبان الحرب الباردة، وتنامي الأحادية القطبية الأمريكية.

قدمت النيوليبرالية نفسها في المجتمع الرأسمالي كدعوة محافظة في شكلها الأقصى في رفض الحلول والسياسات الوسطى، نتيجة سلسلة الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الأنظمة الرأسمالية وأبرزها فترة الركود الاقتصادي بين عامي 1973- 1984 في تلك الفترة، حيث انخفضت نسبة النمو الاقتصادي ونسبة النمو حجم التجارة العالمية، فأرادت تلك الإيديولوجية إعادة الاعتبار إلى حرية الأسواق، والحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بمعنى العودة إلى المفاهيم الليبرالية الأولى (الكلاسيكية). بهذا المقام تعتبر النيوليبرالية نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تدعي حسب رأيها أنها الطريقة المثلى لتحسين الوضع الإنساني عبر إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية. بحيث يقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد وصون وحماية رأسمال وإطلاق حريته في الأسواق مع استخدام القوة إذا لزم الأمر لتحقيق ذلك، " والعمل أيضاً على تشجيع وتقوية مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية ". وهذا يعني أن أنصار النيوليبرالية يصرون على أن دولة الرخاء يجب تفكيكها أو خصخصتها بهدف ترسيخ الحد الأدنى من الإنفاق الحكومي، والحد الأدنى من الضرائب، لأن دولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي عجزت في مرحلة من المراحل عن الوفاء بوعودها لأفراد المجتمع، مما دفع كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نحو تبني سياسات النيوليبرالية التي بدت آثارها واضحة على الشأنين الاقتصادي والسياسي: فعلى الصعيد الاقتصادي أدت دعوات النيوليبرالية إلى زيادة حركة الاستثمارات المالية بصورة لم يشهدها الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، كما زادت نسبة التجارة العالمية بين عامي 1983- 1990 بما يصل إلى 9%. فقد حصل ذلك مع إزالة القيود على حركة الرساميل في الدول الرأسمالية المتقدمة، مما أدى إلى فتح مجالات جديدة أمام الاستثمار الأجنبي التي مكنت تلك الدول من استغلال الموارد العالمية إلى أقصى حد كالعمالة الرخيصة، والمواد الخام، بالإضافة إلى فتح الأسواق جديدة ذات طابع عالمي، بأكثر الطرق الفعالة والممكنة، بهدف تصريف منتجات وسلع الدول المتقدمة عن طريقها هذا من جهة، ومن جهة أخرى " أدت هذه الدعوات بنفس الوقت إلى زيادة تبعية دول العالم الثالث لرأس المال العالمي والحفاظ على وضعيته باعتباره هامشاً للمراكز الرأسمالية في الغرب "، مما ساعد على تحقيق المصالح الاقتصادية للدول الرأسمالية على حساب الدول الفقيرة تحت ذريعة أن الدعوة إلى حرية الأسواق وحرية تنقل رؤوس الأموال ستنعكس إيجاباً على كل المجتمعات تحت عباءة العولمة الاقتصادية. أما على الصعيد السياسي فقد اقترنت النيوليبرالية سياسياً بالعودة إلى اعتماد الديمقراطية، والاعتراف بحقوق الإنسان عالمياً، وعلى الرغم من الاختلافات الفكرية والسياسية بين الدول حيال مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن العالم كما تدعي الدول الرأسمالية المتقدمة قد شهد موجة في تطبيقات الديمقراطية التي أصبحت ملازمة للتعدية الحزبية، وآلية إجراء الانتخابات العامة. وفي النهاية يمكن لنا القول أن دعوات السوق الحرة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتخصصية، متلازمة ومتداخلة في سياق المنظومة العالمية، التي تفسر جانباً من معالم النظام العالمي بعد الحرب الباردة، التي لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً مركزياً في الترويج تلك الدعوات عالمياً. إلا أن الثقافة السياسية الديمقراطية اقترنت بثقافة الاستهلاك المادي على نطاق واسع، في إطار العولمة التي تصور إمكانية إخضاع العالم لأنماط واحدة في الاقتصاد والسياسة والثقافة. حيث جسّد النموذج الأمريكي هذا الدور على حساب مصالح وقيم وثقافات الشعوب الأخرى، فأين تكمن الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان؟

- خلاصة القول:

إن هدفنا من هذا المقال توضيح موقف القوى المحافظة من عملية التحول الاجتماعي ومن الإنسانية جمعاء، التي كانت في يوم من الأيام قوى راديكالية قامت ضد الإقطاعية، بالإضافة إلى التعرف على الإجراءات والآليات والممارسات اللا إنسانية التي اتبعتها الليبرالية كإيديولوجيا للحفاظ على مشروعية وجودها، والإمكانات التي سخرتها لمنع النظام الرأسمالي الجشع من الانهيار، لأن انهياره سيؤدي بكل تأكيد إلى انهيار مصالحها وفقدان الامتيازات، التي تتمتع بها كطبقة مسيطِرة فالمسألة مسألة وجود بغض النظر عن الشعارات البراقة.

وهكذا نجد أن الإنسانية عانت الكثير من ويلات الليبرالية وشعاراتها البراقة خاصةّ في التاريخ الحديث والمعاصر، وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته خير دليل على ذلك ابتداءً من الحروب العالمية الأولى والثانية واستعمار شعوب العالم الثالث، نهايةً بتدمير مجتمعات الشرق الأوسط اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، والسعي إلى تعميق وزيادة معاناتها واستغلال ظروفها السياسية، وتشجيع ومباركة الاستبداد السياسي والظلم والطغيان الممارس عليها، وغض الطرف عن ما يحدث بحقها من جرائم ضد الإنسانية، فكل هذه المعطيات خير دليل وبرهان على فشل القيم والأخلاق الليبرالية بالتعامل مع الآخر، أي مع المجتمعات الأقل منها تطوراً والمختلفة عنها دينياً وثقافياً واجتماعياً. هذا الوضع ناتج بكل وضوح عن سابق إصرار وترصد في توظيف الفكر الانتقائي بالتعامل الآخر، فحقوق الإنسان وحرية الرأي والديمقراطية وميزات دولة الرفاه حلال عليهم حرام على غيرهم. فالشعوب التي لا تنتمي إلى العالم الغربي شعوب مستباحة بكل النواحي من قِبل الإيديولوجيا الليبرالية، التي لا هم لها سوى النباح بشعارات حقوق الإنسان والحرية الشخصية والانحلال الأخلاقي وتدمير الوعي الجمعي المخالف لها. فأين الليبرالية من الإنسان والإنسانية؟ اعتقد أن ليس لها سوى المفهوم دون المضمون، فالنظرية غير التطبيق.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

المراجع المعتمدة:

- تد هوندرتش: دليل أكسفورد للفلسفة، تحرير وترجمة: منصور البابور- محمد حسن أبو بكر، مراجعة اللغة: عبد القادر الطلحي، المكتب الوطني للبحث والتطوير، الجماهيرية العربية الليبية، الجزء:2، 2003.

- عز الدين دياب: الليبرالية، الموسوعة العربية، دمشق، المجلد:17، ص(256).

https://arab-ency.com.sy/ency/details/9867/17

- توفيق المدني: التوتاليتارية الليبرالية الجديدة والحرب على الإرهاب (دراسة)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.

- معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية (المدارس والمذاهب والاتجاهات والتيارات)، معهد الإنماء العربي، بيروت، المجلد: 2، القسم: 2، ط1، 1988.

- حازم الببلاوي: عن الديمقراطية الليبرالية (قضايا ومشاكل)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1993.

- أنتوني غدنز: علم الاجتماع (مع مدخلات عربية)، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005.

- ضياء مجيد الموسوي: العولمة واقتصاد السوق الحرة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط4، 2010.

* يرى مفكرو الاتجاه الاشتراكي أن تاريخ الرأسمالية الصناعية هو تاريخ فترات من الرخاء وفترات من الركود. أي أنه تاريخ ما يطلق عليه الاقتصاديون الرأسماليون الرسميون " الدورة الاقتصادية "، فلأكثر من مائتي عام كانت هناك فترات في التوسع الشديد في الإنتاج تتخللها أزمات مفاجئة تتحطم فيها قطاعات كاملة في الصناعة وتتوقف.

Michael Freeden: The coming of the welfare state, of The Cambridge History of Twentieth-century Political Thought, edited by: Terence Ball and Richard Bellamy, Cambridge University Press, United Kingdom, v.(1), 2008.

** اعتبرت دولة الرفاهية الهدف الأهم للسياسة الداخلية لمعظم دول الغرب تقدماً في النصف الأول من القرن العشرين نتيجة تغيرات جذرية في مفاهيم " الرفاهية " و " مفاهيم الدولة " على حد السواء. وتُعرف دولة الرفاهية بأنها: " دولة يتم فيها استخدام قوة الديمقراطية لتنظيم وتعديل القوى الاقتصادية والسياسية من أجل إعادة توزيع الدخل ".

- حازم الببلاوي: النظام الرأسمالي ومستقبله، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2011.

- علي ليلة: الفكر النقدي في علم الاجتماع - جماعاته وتياراته، من مقدمة كتاب: النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع (الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية)، زولتان تار، ترجمة: علي ليلة، المكتبة المصرية، الإسكندرية، 2004.

- قيس هادي أحمد: الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، قسم الفلسفة، جامعة القاهرة، 1977.

- عبد الغني بو السكك: العنف والسلطة في فلسفة هربرت ماركيوز، رسالة ماجستير في الفلسفة العامة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة، جامعة الحاج لخضر باتنة، الجزائر، 2008-2009.

- أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، مجلد:2، 1966.

- عادل المعلم: ألف باء الليبرالية... والشريعة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2011.

- جيمس فولتشر: مقدمة قصيرة عن الرأسمالية، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2011.

- جواد كاظم البكري: الأزمة المالية العالمية الكبرى القادمة: مقاربة اقتصادية سياسية، موقع المدى، 7 نيسان (أبريل)، 2011.

- الطيب بوعزة: نقد الليبرالية، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط1، 2009

- آمال كيلاني: ألف – باء الليبرالية من موسوعة ويكيبديا، ترجمة: آمال كيلاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2010.

*** جون مينارد كينز (1883- 1946) عالم اقتصاد إنجليزي كان لأفكاره تأثير كبير على الاقتصاد المعاصر والنظريات السياسية وعلى السياسات النقدية للحكومات، أهّله علمه الغزير في أن يسمى فرع كامل في الاقتصاد باسمه، حتى أن لنظريته وممارساته السياسية ما يجعلنا نتحدث عن " الثورة الكينزية " و " عصر كينز "، برز المنهج الكينزي بروزاً كبيراً في السياسة الاقتصادية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين كمنهج في السياسة الاقتصادية. صنفته مجلة تايم الأميركية واحداً من أهم مائة شخصية في القرن العشرين.

- محمد خالد محمد: أزمة الحرية في عالمنا، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006.

- واين بارسونز: السياسة والأسواق: كينز ومنتقدوه، من كتاب :موسوعة كمبريدج للتاريخ: الفكر السياسي في القرن العشرين، تحرير: تيرنيس بول – ريتشارد بيللامي: ترجمة: مي مقلد، مراجعة: طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، المجلد:1، العدد: 1338، ط1، 2009.

- عدنان السيد حسين: تطور الفكر السياسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2012.

- عادل المعلم: ألف باء الليبرالية... والشريعة الإسلامية،

Wayne Parsons: Politics and markets: Keynes and his critics, of The Cambridge History of Twentieth-century Political Thought, edited by: Terence Ball and Richard Bellamy, Cambridge University Press, United Kingdom, v.(1), 2008.

- أشرف منصور: النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي، تقديم: مهدي بندق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الكتاب الأول، 2003.

في حياتنا أشكال متنوعة من الأشياء التي لها تأثير مباشر في تشكيل البنى العقلية والوعي لدينا، ولكل شيء نحاول أن نشكله في حياتنا داخل الوعي بوصفه صورة لهذا الشيء الذي من الممكن أن يكون له أثر كبير في رسم صورة الفهم، وعملية بلورة مفاهيمنا تجاه الأشخاص والأحداث والصور، وحتى تجاه تبني قضايا مفصلية في حياتنا العامة أو الخاصة . إنَّ من بين الضرورات المعتمدة في هذا الطريق هي طبيعة ومضمون المبنى الفكري والعقلي، الذي ينتج عن هذه القضية في رسم ماهيات الأشياء في ذواتنا، وكيفية إطلاق الأحكام المتبناة فيما بعد، نحو أيّ تصور ما، لذلك علينا أن نوجه آليات الفهم في داخل الوعي؛ من أجل ربط القضايا مع مصاديقها الخارجية، حتى يستقيم المعنى المراد الوصول إليه، هذا بالنسبة للذات الفردية عند الشخص المتلقي، أما بالنسبة للمجموعة فمن المؤكد أنه سيكون هناك اختلاف أو اتفاق في كليات المعنى، أو بعض من جزئياته في المعنى المراد الوقوف عنده، أو تبني معان أخرى تظهر عن الموضوع ذاته، إذا تعددت الرؤى والمفاهيم لهذا الشخص الواعي أو ذاك، حسب وجود الشيء وعلاقته بالكينونة عند الكائن ذاته ومراحل انتاج صيرورة الوعي لديه، ويقول (هيدجر الفيلسوف الألماني): " إن الوجود الإنساني هو حوار مع العالم ... ليس الفهم بادئ ذي بدء إدراكًا، ولكنه جزء من تركيبة الوجود الإنساني"(1) بين وجودين وجود إنساني ووجود الشيء ذاته، يتشكل حوار العالم بوصفه حوار مصغر يعكس كمية الحوارات المتعددة التي تنبعث من الملامسات الفكرية بين أطراف هائلة تشكل الوعي الإنساني العام، فالوعي الجمعي لا يقتصر على أفهومات جانبية لا ترتكز على مباني عامة في تشكيل الوعي البشري على مر التاريخ وآفاقه المتعددة والمتداخلة فيما بينها، حتى تشكل فهماً ممتداً في رسم ملامح الوجود الإنساني وشيئياته المتداخلة والذائبة في الفهم الممتد عبر مراحل الزمن، وهنا يأتي الإدراك الذي هو سمة من سمات الانتقال بالوعي من الجزئيات إلى الكليات التي يتقبلها كل وعي ذاتي بحسب صيرورته التي تناغم أفعاله مع الكينونات التي أصبحت تشكل (الدازاين) على وفق الوعي الهيدجري .

إنَّ المعايير التي تشكل حياتنا كيف انطلقت في فضاءاتها وأصبحت ظواهر عامة من الممكن أن نقيس عليها هذه العلاقة بين الوعي والشيء؟ وما هي الأطُر العامة التي تنسق هذه المسافة بينهما؟، وما هي طبيعة هذه العلاقة التي أصبحت معياراً انسانياً ناتجة من طبيعة المسافة ذاتها مع الشيء؟. وعودة أخرى إلى (هيدجر)، الذي ينتقل " إلى مسألة الكائن والواقع البشري مركزاً على العلاقة الإنسانية وهذه العلاقة هي علاقة الكائن – هنا أو الكائن - في – العالم ... وأن الآخر ينطرح أمامي يشكلني وبما أنه كائن من أجلي وإنني كائن من أجله، فالمسألة هي في الاعتراف المتبادل بوعي قائم أمام وعي الآخرين، هذا الوعي الذي يظهر أمام وعي آخر في العالم ويتجابه معه"(2). إن هذه الأطر التي تشكل طبيعة الوعي بالشيء (كائن آخر بشري / كائن أخر غير بشري)،أو كائن من الممكن أن يكون موضوعاً في داخلي، أو حتى أي شكل آخر لا يمكن أن نصفه في آنيته كونه قد يكون خيالاً أو حلماً، وكل هذه الأشياء الماثلة أمامي تشكلني وأشكل معها وجودها في مسافة معينة قد تتصف في الثبات في صورتها الظاهرة، أو متحركة في ذاتها من دون أن ندركها ظاهراً، لكن الوعي بها في علاقة ممتدة بين كائن وآخر لا بد أن تنتج عملية مؤطرة من الفهم الذي يرسم في أقل تقدير بطبيعة العلاقة المتحركة مع الآخر. إن ما يسميه (هيدجر) بـ(من أجلي) و(من أجله) هذه العملية هي أول الأطر التي تحدد العلاقة وطبيعتها، وهل هي مفروضة في الوجود وصيرورته؟، أم هي حتمية في كينونة الأشياء ذاتها واكتمال فعل التكوين فيها وفينا أيضاً؟. أم هي إرادية في الاختيار حتى يتكون معنى الأشياء وحدود المسافات البينية بين وعي الكائن والشيء المشكل لحدود هذه المسافات؟. وكذلك بين الوعي بالكيفية والافتراض هل تنطلق مسافة أخرى في الوعي وما يكدسه من معاني متجاذبة بين الاثنين ؟. أم هل يوجد جاذب أصلاً لكلا الطرفين تبنى على أساسه العلاقة أصلاً؟. من هذه الجدلية التي تشكل معاني الأشياء وصورها في وعينا في باطنها وظاهرها، وفي حركتها نحو الاكتمال، وفي كينونتها التي من المفترض بفعل التغير الجبري نحو القادم والتزحزح عن الثبات، الذي لا يدوم بفعل تقادم الأشياء والأفعال والأحداث التي تغير كل شيء أمامها مهما كان ثباته، وهنا يصور (أدموند هوسرل الفيلسوف الألماني مؤسس الفينومنيولوجيا)، بأن العملية بين الكائن واكتمال كائنيته في الآخر، لا بد من وجود محركة من طرف لآخر حتى تكتمل الكينونة في صورتها الأولى ومن ثم تتلاشى إلى كينونة أخرى حتى ولو بعد حين من الثبات، وهنا يصور (أدموند هوسرل) هذه الحركة بالآتي " إن الوعي ينزع إلى عالم الأشياء فيدركها ويعطيها معنى من المعاني، حتى يتحول هذا العالم من حالة الكينونة إلى الظهورة، أي إلى المعنى، إلى الوجود"(3). للقارئ أن يسأل في هذا المفهوم، والكيفية التي يظهر بها إلى الوجود، هل أن تعدد المعاني تشكل وجودات متنوعة ومختلفة ومتخالفة أحياناً، ومتوافقة أحياناً أخرى؟. وهل أن حالة الظهورة هي من تسمح للآخر على وفق المسافة بين الوعي والشيء أن يشكل معناه في هذه المسافة القابلة فيها للظهور؟، وهل الوجود يأتي في لحظة الظهور فقط ؟، أم تكون بداياته بوصفه وجود هي في عملية النزوع نحو الشيء ذاته؟. نحن في هذا المجال نريد أن نصل إلى المعنى الذي يعد المؤطر لهذه العلاقة والمسافة بين الوجود الأول والوجود الثاني، والوجود الناتج في لحظة الظهور بين الوجودين، وما هي شكل المسافة التي لا بد أن يقع فيها فعل الظهور واكتمال الكينونة حتى يصبح وجوداً ثالثاً؟، ليس بمعنى دمج الوجودين مثلاً (كالسيارة والسائق)، بل (فعل الحركة المتشكل من وجود السياقة بينهما). وهل هذا المثال البسيط يؤكد على الإطار العالم للوجود بمعناه الأوسع الذي يشمل وجودات أكبر تشكل كينونة أمة بعينها ولحظات ظهورها في التاريخ، وكما هي الظهورات السابقة للأمم السالفة في الحضارات القديمة، وأيضاً في الحضارات الحالية والأمم التي بَنَتْ مجدها في الوقت الحالي .

إنَّ في موضوعة الظهور والاكتمال للوجود يصاغ معنى واحد في نهاية هذا الظهور، وقد تصاغ عدة معانٍ لهذا الظهور أيضاً، قد يُتفق عليها وقد يخُتلف فيها، فالاتفاق قد يصيغ فكرة الظهور ومدى التماهي معه حتى يظهر ويشكل معنى ما متفق عليه، مثل النجاح بعد الدراسة، لو كان المعلم متفق مع عائلات التلاميذ أن طريقة الدراسة التي تصل بأبنائهم نحو النجاح تتطلب أن تكون على وفق الطرائق الدراسية المعينة، التي لا بد للأهل أن يسهموا فيها حتى يكون النجاح هو النهاية الطبيعية، هنا سيكون الاتفاق على النتيجة مؤكدا، والمعنى سيكون موحداً من وراء هذا العملية، بينما قد يختلف على مثال آخر كأن يكون عملية توزيع نسب التصويت على المقاعد يشكل ضرراً ببعض من يشترك في هذه العملية، هنا سيكون المعنى المتحقق من هذه العلمية مختلف عليه، أي ستكون هناك عدد من المعاني التي تظهر من هذا الوجود الظاهر بسبب هذه العملية يؤدي إلى اختلاف المعنى عند كل طرف من الأطراف.

ويمكن أن نخرج من هذين المثالين بمفهومين هما:

* التوافق من أجل إنتاج المعنى (إيجابية الظهور للعالم).

فالمثال الأول تضمن عملية تشكيل وعي إيجابي نحو الشيء الذي تم النزوع إليه، وهنا من الممكن أن نطلق على هذه العملية الأولى في الظهور وكيفية تشكيل المعنى فيها بالظهور الإيجابي (التوافق الإيجابي للظهور )، أي (إيجابية الظهور) هو نتيجة انتاج وجود متفاعل نحو هدف معين يتفق على تفعيل جميع العاملين عليه؛ من أجل الوصول إلى تضمين متفق عليه، وهنا تكون المسافة القائمة بين الوعي والشيء - على وفق تصنيفات الكائن السابقة – تكون المسافة مستقيمة الشكل قائمة على انبساطية العلاقة بين الوعي والشيء (الدافع/ النتيجة).

* عدم التوافق في إنتاج المعنى (سلبية الظهور للعالم).

في المثال الثاني قد تكون عملية تشكيل الوعي فيها الكثير من عدم الوضوح، أو عدم التطابق في الرؤية تجاه الشيء، مما يولد عملية غير منتظمة في العلاقة بين الوعي والشيء المراد تقصده والانزياح إليه، ومن الممكن أن نطلق على هذه العملية (عدم التوافق في انتاج المعنى)، وهذا المفهوم (سلبية الظهور) هو عدم إنتاج وجود ظاهر من الممكن أن يؤدي إلى معنى نتيجة محددة وبناء مسافة واضحة بين الوعي والشيء ذاته، وهنا المسافة لا تؤدي إلى الشيء ذاته؛ بل تؤدي إلى عدة طرق متباعدة عن المعنى المحدد، والإطار العام هنا لا يحدد المسافة والعلاقة بين الوعي والشيء للوصول إلى ظهور واضح في الطريقة التي يمكن أن تنتج عن مسافة واضحة الدلالة في المعنى عند الظهور، من خلال بلورة صيغة كائن لديه انزياح نحو الشيء في صيغته التي تعطي للظهور حدوده، من دون الابتعاد عن المعنى المراد تحقيقه في بناء هذه المسافة الدالة عن الرؤية المتقصدة للشيء ذاته وللكائن بوعيه المتقصد، تكون العملية التي تربط بينهما قابلة للإفادة من الجهد المتقصد في طبيعة التوجه نحو الشيء . وهنا هل أن هذه العملية هي من أجل الوصل في قصدية الوعي إلى الشيء ذاته، من دون أن نحدد ما لهذه القصدية من تخطيط مسبق على العملية التي انطلقت بقصديتها من لحظتها الآنية ؟. وهل نعتقد أن لكل وعي في لحظة الانطلاقة من أجل ظهورة معينة، هي لحظة انتباه من دون أن يكون فيها التخطيط مسبق لحاجة قد تدفع هذا الوعي إلى البحث في مدياته عن شيء ما؟، أو كائن ما خارج ما هو متوفر من تصورات في داخل حدوده الفعلية التي شكلت بعده في المساحة المعرفية التي من الممكن أن تكون بحاجة إلى بعض الفضاءات والأفق الأخرى؛ من أجل الوصول إلى غايات معينة هو بحاجة لها ؟. وهل أن هذه المسافة هي تضاف الى الوعي في لحظة تقصده ؟، أم إلى الشيء ؟، أم لكليهما معاً ؟. ومن يحدد المستفيد في هذه الحالة؟، هل هي لحظة تكاملية كما يرى (هيدجر)، أي أن العملية هي (من أجلي / من أجله)؟، أم أن العملية هي في إطار ظهور الأشياء في الوعي (الوعي بالشيء)؟ كما عند (هوسرل)، أم أن العملية مقتصرة في حرية وجودية الكائن وخياراته (الحرية في الوجود)؟ كما هي عند الفيلسوف الفرنسي (سارتر)، أم هي في تأكيد وجود الأشياء التي تؤكد ذواتنا ولولا الأشياء ما كانت لذواتنا وجود (الشيء موجود وذواتنا تتقصده)؟، كما هي عند الفيلسوف الفرنسي (ميرلوبونتي). وهل أن العملية تكمن في التحديد والتأطير لهذه الحدود المعرفية ذات الأبعاد الفكرية والجدل في (أينية) الحدود ومبتدأها الفعلي؟، وما منطلقها في الرسم المعرفي؟، ومن أين يبدأ؟، وأين ينتهي؟. وهل هذه المسافة المعرفية هي نفسها التي تجادل عليها (أفلاطون ) و(أرسطو) في أيهما يتبع الثاني في تأكيد الأصالة ؟، وأيهما ظل الآخر في تأكيد الوجود ؟ .

إنَّ التحديد في أسبقية كل طرف على الآخر تقع كلها في هذه المسافة التي تشكل في الكائن الباحث عن مراحل تكامليته الآنية والمتغيرة حسب الفهم الصحيح والادراك والوعي، وأيضا الخبرة المتولدة من ممارسة اختبار هذه المسافة في تكوين مدلولات جمالية ذات أطر معرفية شكلت معيار عند من عرفها وخبرها، لذلك فالشخص الذي يعتقد بمثالية الأشياء في تحديد أطر فهمه لها والوصول إلى معانٍ كامنة في وعيه المتأني في فهم الأشياء، يكون قادراً على الانزياح في إطار (هوسرلي) يحدد طبيعة هذا المسافة في تعاليه للفهم . أما من ينزاح إلى أن من يحدد له طبيعة هذه المسافة في إطار حدود معينة يرجع في تحديدها المعرفي للأشياء، بوصفها ظهور للوعي في توجهه القصدي لها، في حال ظهورها يكون في الطرف الآخر من المعادلة ألا وهي مادية الأشياء في مفهومها (الميرلوبونتي) في تحديد أسبقية المحدد لهذه المسافة . وأما من هو باحث في وجود هذه المسافة التي تعد في قياسها هي من تعطي لكلا الطرفين وجوداً ظاهراً في المعرفة الإنسانية يجعل من (الدازاين الهيدجري) هو محل انطلاقة في مسك المعرفة من الوسط، من دون الركون إلى أحدهما على حساب الآخر، وأخيراً في الحرية التي تؤكد منبع وجود الإنسان في الاختيار على أي صورة يكون، في هذا المسافة المعرفية هي من تجعل من هذا الإنسان خارج أطر الصراع المعرفي بين الطرفين ووجودهما معنى، لأن هذا الاختيار هو من يحدد حقيقة (سارترية) الانتماء في شكل الظهور وتشكيل المعنى في هذا التكوين المعرفي.

إنَّ الذات والموضوع (الوعي/ الشيء) والمسافة المعرفية، وأسبقية الظهور في سلبيته وإيجابيته، والمعنى المتشكل، وتحديد الاختيار (لمن الأسبقية)، وغيرها من المرتكزات المعرفية كلها توضح مدى الاختلاف في تشكيل هذه الأطر، التي توضح حجم وطبيعة الفهم والإدراك في هذه الجدلية الكبرى، التي انطلقت معها أفكار وفلسفات حاولت إثبات أحقية وأسبقية ظهور (وجود مَن / معنى مَن) على الآخر في هذه الاشكالية الكبرى، لكن بعضهم يراها تنطلق في إطار المتعة القائمة على اختلاف التفكير حتى في الاتجاه الواحد كما هو في الوعي والشيء بين كبار فلاسفة الفينومينولوجيا وانزياحاتها الوجودية . فهذه المتعة تؤكد على التأرجح بين الوعي والشيء، أو الذات والموضوع، وهنا يرى (روبرت ياوس) الباحث في مجال الخبرة الجمالية في هذه المسافة المعرفية بين الوعي والشيء إن" التأكيد ليس فقط على الحركة التقدمية والتراجعية بين الذات والموضوع، ولكن أيضاً على الوحدة الاساسية للاستمتاع بالفهم وفهم المتعة . وللمتعة كلمات أخرى يجب ألا تنفصل عن وظيفتها العملية الموجهة للإدراك (...) إدراك يعتمد على ما يمكن للمرء أن ينجزه بشكل من العمل يحاول ويفحص لغرض جعل الفهم والانتاج متوحدين" (4).

إنَّ عملية المتعة في فهم وإدراك هذه المعضلة في التحديد من حيث الأولويات والمسارات في هذه الرؤى المختلفة وكيفية الظهور، تجعل من هذه العملية محركاً أساسياً في إنتاج حركة الصراع الفكرية حول الموضوع ذاته، كون هذا الحركة مستمرة في خلق شكل المفاهيم المستقبلية التي يكون عليها شكل حركة المستقبل المعرفية وما هي طرائق انتاج المعرفة، كون أن كل تيار يخلق في داخله حراك آخر يطور من أساليب إنتاج معرفة متقدمة داخله على حساب الرؤى المتصارع في الدفاع عن الآراء في تأكيد أحقية الظهور في الوجود والمعنى في هذه المسافة المعرفية .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

........................

الهوامش

1. تيري أيغلتن: مقدمة في النظرية الادبية، ترجمة، أبراهيم جاسم العلي، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1992، ص70- 71.

2. غسان يعقوب، وجوزيف طبش: سيكولوجية الاتصال والعلاقات الانسانية، بيروت: دار النهار للنشر، 1979، ص145.

3. نفسه، ص 143.

4. روبرت سي هول: نظرية الاستقبال، مقدمة نقدية، ترجمة: رعد عبد الجليل جواد، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1992، ص94.

لمفردة التحول النوعي معنى محدد في العلوم والفلسفة. لطالما سمعنا عبارة "تحول نوعي" paradigm shift، ليس فقط في مجال الفلسفة، بل ان الناس يتحدثون عن التحولات النوعية في جميع المجالات وفي مختلف الأنواع: الطب، السياسة، علم النفس، والرياضة. ولكن ماهو المقصود بالضبط بالتحول النوعي؟ ومن أين جاء المصطلح؟

أول من صاغ عبارة "تحول نوعي" هو الفيلسوف الامريكي توماس كوهن (1922-1996). انها واحدة من المفاهيم المركزية في عمله الشهير "بنية الثورات العلمية" الذي نُشر عام 1962. لكي نفهم معنى العبارة،علينا اولا ان نفهم فكرة نظرية النموذج.

نظرية النموذج

نظرية النموذج هي نظرية عامة تساعد في تزويد العلماء العاملين في حقل معين باطار نظري واسع – وهو ما يسميه كوهن "مخطط مفاهيمي". انه يزودهم بالافتراضات الأساسية والمفاهيم الرئيسية والمنهجية. النظرية تعطي لبحثهم أهدافه واتجاهه العام. انها تمثل نموذجا مثاليا للعلم الجيد ضمن حقل معين.

أمثلة على نظريات النموذج

نموذج مركزية الارض في الكون لبطليموس (حيث الارض هي مركز الكون).

علم الفلك لكوبرنيكوس في مركزية الشمس (حيث الشمس هي المركز).

فيزياء ارسطو.

ميكانيك غاليلو.

نظرية القرون الوسطى في "الأخلاط" الأربعة في الطب.

نظرية اسحق نيوتن في الجاذبية.

نظرية الذرة لجون دالتون.

نظرية دارون في التطور العضوي.

نظرية البرت اينشتاين في النسبية.

ميكانيكا الكوانتم.

نظرية الصفائح التكتونية في الجيولوجيا.

نظرية الجرثوم في الطب.

نظرية الجين في البايولوجي.

تعريف التحول النوعي

يحدث التحول النوعي عندما تُستبدل نظرية النموذج بنظرية اخرى. هنا بعض الأمثلة:

1- علم بطليموس في الفلك مهد الطريق لعلم كوبرنيكوس.

2- فيزياء ارسطو (التي تؤمن ان الاشياء المادية لها صفات ضرورية تقرر سلوكها) مهدت الطريق لفيزياء غاليلو و نيوتن (التي نظرت لسلوك الأشياء المادية باعتبارها محكومة بقوانين الطبيعة).

3- فيزياء نيوتن (التي تؤمن ان الزمان والمكان هما ذاتهما في كل مكان، لجميع المراقبين) فتحت الطريق لفيزياء اينشتاين (التي تؤمن ان المكان والزمان هما نسبيان للمراقب).

أسباب التحول النوعي

كان كوهن مهتما بالطريقة التي ينجز بها العلم التقدم. من وجهة نظره، ان العلم لايمكنه حقا ان يستمر حتى يتفق معظم الذين يعملون ضمن حقل معين على نموذج. قبل ان يحدث هذا، سيبقى كل شخص يقوم بعمله بطريقته الخاصة، ولم يحصل التعاون ولا فريق العمل الذي يتميز به العلم المهني اليوم. حالما توضع نظرية للنموذج، يبدأ اولئك الذين يعملون ضمنه القيام بما يسميه كوهن "العلم الطبيعي". هذا يغطي معظم الفعاليات العلمية. العلم الطبيعي هو عملية حل ألغاز معينة،جمع بيانات،عمل حسابات. العلم الطبيعي يتضمن التالي:

1- معرفة كم يبعد كل كوكب في النظام الشمسي عن الشمس.

2- إكمال خارطة الجين البشري.

3- تأسيس أصل تطوري لأنواع معينة.

ولكن بين الحين والآخر في تاريخ العلوم، يطرح العلم الطبيعي نتائج شاذة لا يمكن توضيحها بسهولة ضمن النموذج السائد. القليل من الاستنتاجات المحيرة لا تبرر بذاتها التخلي عن نظرية النموذج التي كانت ناجحة. لكن احيانا تبدأ النتائج التي يتعذر تفسيرها تتراكم، وهذا يقود بالنتيجة الى ما يسميه كوهن بـ "الأزمة".

أمثلة عن الأزمات التي تقود الى تحولات نوعية

في نهاية القرن التاسع عشر، قاد العجز عن كشف الأثير – وسيط لا مرئي مفترض لتوضيح كيفية سير الضوء وكيفية عمل الجاذبية – بالنهاية الى نظرية النسبية.

في القرن الثامن عشر، كانت حقيقة ان بعض المعادن اكتسبت كتلة عند إحراقها في تضاد مع نظرية فلوجستون. هذه النظرية تؤمن ان المواد القابلة للاشتعال احتوت على مادة الفلوجستون التي اُطلقت أثناء الاحتراق. وبالتالي،جرى استبدال النظرية بنظرية لافوازيه في ان الاحتراق يتطلب اوكسجين.

ماهي التغيرات التي تحدث أثناء التحول النوعي؟

الجواب الواضح على هذا السؤال هو ان ما يتغير هو ببساطة الأفكار النظرية للعلماء العاملين في الحقل. لكن رؤية كوهين هي اكثر راديكالية واثارة للجدل من ذلك. هو يرى ان العالم او الواقع، لايمكن وصفه بشكل مستقل عن مخطط مفاهيمي. لذا عندما يحدث التحول النوعي، فان العالم يتغير بشكل ما . او بكلمة اخرى، العلماء الذي يعملون في  نماذج مختلفة  يدرسون عوالم مختلفة.

فمثلا، لو لاحظ ارسطو حصاة تتمايل كالبندول مربوطة بحبل، هو سيرى الحصاة تحاول الوصول الى حالتها الثابتة وهي حالة الاستقرار على الارض. لكن نيوتن سوف لن يرى هذا، هو سيرى الصخرة تطيع قوانين الجاذبية وتحوّل الطاقة. او لنأخذ مثالاً آخر: قبل دارون، سيندهش كل من يقارن وجه الانسان مع وجه القرد بالاختلاف بينهما، ولكن دارون سيندهش بالتشابهات.

تقدّم العلوم من خلال التحولات النوعية

يدّعي كوهن ان الحقيقة التي تُدرس  في التحول النوعي هي شائكة جدا. نقاده يرون ان وجهة النظر هذه "الغير واقعية" تقود الى نوع من النسبية، ومن ثم، الى استنتاج بان التقدم العلمي لا علاقة له بالتقرّب من الحقيقة. كوهن يبدو يقبل بهذا. لكنه يقول هو لايزال يعتقد بالتقدم العلمي طالما هو يؤمن ان النظريات اللاحقة عادة أفضل من النظريات المبكرة كونها أكثر دقة وتعطي تنبؤات قوية وتقدم برامج بحث مثمرة، وهي ايضا أكثر أناقة.

نتيجة اخرى لنظرية كوهن في التحولات النوعية هي ان العلم لا يتقدم بطريقة متساوية، بحيث يراكم المعرفة تدريجيا ويعمق توضيحاته. بدلا من ذلك، تشهد الحقول فترات من العلم الطبيعي الحاصل ضمن نموذج مهيمن، وفترات من العلم الثوري عندما تبرز أزمات تتطلب نموذجا جديدا. هذا ما يعنيه "التحول النوعي" في الأصل، والذي مازال يعني نفس الشيء في فلسفة العلوم. عندما يُستعمل خارج الفلسفة، فهو يعني فقط تغيير هام في النظرية او التطبيق. لذا فان أحداثا مثل إختراع تلفزيون عالي الجودة، او قبول زواج المثليين،يمكن وصفها بانها تنطوي على نقلة نوعية.

***

حاتم حميد محسن

الأفكارُ الكامنةُ في العلاقات الاجتماعية تُولِّد مَعْنَاها الوجودي وشرعيتها الحياتيَّة اعتمادًا على سُلطةِ مَصَادر المَعرفة، واستنادًا إلى هُوِيَّة المعايير الأخلاقية. وهذه الأفكارُ لا يُمكن تطبيقُها على أرض الواقع لِتُصبح تاريخًا حَيًّا للفردِ ووُجُودًا حُرًّا للجماعة، إلا في ظِلِّ صناعة مُستمرة لمفاهيم الوَعْي الحضاري الذي يُوَازِن بَين منظومةِ (الخِبْرَة / المَصلحة) ومنظومةِ (الفِطْرَة / البَرَاءة). وكُلُّ مُوَازَنَةٍ في تاريخ الأفكار تُؤَدِّي إلى تَوَازُن في البُنية الوظيفية لفلسفة المُجتمع كَآلِيَّة للتأقلم مع الواقع، وإعادةِ تَكوين أنساقه بما يَضمن تحقيقَ المَنفعةِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ . وإذا كان المُجتمعُ يَقُوم على التسلسل الهَرَمي لمصادرِ المعرفة والمعاييرِ الأخلاقية، فإنَّ الأفكار تَقُوم على التَّرَاتُب الثقافي للتجاربِ الحياتيَّة والوَعْيِ الحضاري، وهذا مِن شأنه ضَمان استمرارية البناء الاجتماعي، ومُواصلة تَتَبُّع آثاره المعرفية في المَعنى اللغوي، والسُّلوكِ اليَومي، والحقيقةِ الوجودية، والإدراكِ الذهني، والمُمَارَسَةِ الوِجدانيَّة . والبناءُ الاجتماعي لَيس موقفًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الحياة، وبعيدًا عَن مُشكلات الواقع، ولكنَّه تَكوينٌ لحياة جديدة، وإنتاجٌ مُستمر للعناصر الفكرية القادرة على اكتشاف الطبيعةِ الإنسانية والعقلِ الجَمْعي، وتفسيرٌ دائمٌ للنسيج الاجتماعي لتحريره مِن الخَوف تُجَاه المُستقبل، وتحويلٌ للتجربة الفردية الذاتية إلى منهجٌ لقواعد التحليل اللغوي للتاريخ والحضارة معًا.

2

صِدَامُ الفردِ معَ ذاته، وصِرَاعُه معَ الحياة، يَنبغي أن يَتِمَّ توظيفُهما مِن أجل إنشاء فلسفة حياتية للتَّكَيُّف معَ مُكَوِّنَاتِ البيئة المُعاشة معرفيًّا واجتماعيًّا . وهذا التَّكَيُّفُ يُشكِّل نَسَقًا عقلانيًّا حاضنًا للظواهر الثقافية، التي تُجَمِّع العواملَ النَّقْدِيَّةَ ذات التأثير الرئيسي على بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي، وكيفيَّةِ صِيَاغته ذهنيًّا وواقعيًّا، لتحديدِ دوافع الفرد في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، وتحليلِ دَور العَقْل الجَمْعِي في نَشْأة التجارب الإنسانية، على الصَّعِيدَيْن المَعنوي والمادي، ونقلِ الفِكْر الإبداعي في المُجتمع مِن المَفهوم التاريخي المَحصور في الماضي إلى الماهيَّة الوُجودية القادرة على اقتحام المُستقبل . وهذه المَاهِيَّةُ الوُجوديةُ لا تَعْني احتلالَ مَوْقِع في الزمان والمكان، وإنَّما تَعْني بناءَ وُجود إنساني مُتكامل فكريًّا وأخلاقيًّا، وقادر على التأثير الإيجابي في مَسَارِ الوَعْي الحضاري، ومَسِيرَةِ الفاعليَّة التاريخية، ومَصِيرِ المُجتمع الإنساني . ولا يَكفي أن يَكُون الفردُ مَوجودًا على خريطة المُجتمع، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يَكُون مُؤَثِّرًا في تاريخ أفكار المُجتمع، ومَالِكًا للبُوصلة في تفاصيل البناء الاجتماعي . ولا يَكْفي أن يَكُون العقلُ الجَمْعي في ثقافة المُجتمع يَمتاز بالنشاط والحيوية، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يمتاز بالقُدرةِ على التأقلم، وتحديدِ أهدافه، والتَّحَرُّرِ مِن التأثيراتِ الشُّعورية، والانعكاساتِ الوِجدانية، والضُّغوطاتِ الذهنية . والخطرُ الحقيقي على العقل الجَمْعي لا يأتي مِن خارجه، وإنَّما يَأتي مِن داخله، لذلك يجب أن يُطهِّر العقلُ الجَمْعي نَفْسَه باستمرار، ويَندمج معَ عَوَالِم صَيرورة التاريخ، ويَتَّحِد معَ شُروط الفِعل الاجتماعي، كَي يُوفِّق بين حقيقة المُجتمع ومَعنى الإنسانية ضِمن السِّيَاق العقلاني الذي يُحقِّق المَنفعةَ للجميع.

3

لا يُوجَد مَفهومٌ فلسفي يَقْدِر على الحركة خارجَ المنهج الاجتماعي، ولا يُوجَد وَعْيٌ حضاري يَستطيع الانتقالَ خارجَ التفاعلات الرمزية في اللغة والمُجتمع . وهاتان الحقيقتان تُعيدان تأسيسَ الفِعْل الاجتماعي لِيُصبح ظاهرةً ثقافيةً فَعَّالَةً، تَدْمُج التِّلقائيَّةَ والبديهيَّةَ معَ التَّجربة والخِبرة، مِن أجل تكريس الإرادة الإنسانية كحالة خَلاص للفرد والجماعة، تَقُوم على اعتبارِ الواقع انعكاسًا للنشاط المعرفي، واعتبارِ اللغة عَالَمًا مُشْتَرَكًا مِن السُّلوكِ الهادف والمِعيارِ النَّقْدِي، وإعادةِ تأويل الثقافةِ والتاريخِ مِن خلال الطاقة الرمزية في اللغة، ولَيْسَ مِن خَلال المَصلحةِ الشخصيَّة أو المَنفعةِ الماديَّة الضَّيقة . والثقافةُ صِنَاعةٌ إنسانيَّةٌ لا يُمكن تحليلُها إلا ضِمن سِيَاقها التاريخي الصحيح، ودورُ الطاقةِ الرمزية في اللغة يتجلَّى في حِمايةِ الثقافة مِن التَّحَوُّل إلى كِيَان مُسْتَلَب، وحمايةِ التاريخ مِن التَّحَوُّل إلى كائن مُغْتَرِب .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

التكنلوجيا هي وسيلة لترسيخ هياكل السلطة التقليدية. في اكتوبر 2011 عرضت خدمة الاذاعة الخاصة SBS الجزء الاول من فيلم وثائقي من ثلاثة أجزاء لـ آدم كيرتس Adam Curtis، لقصيدة (الكل تحت رعاية مكائن الحب) (1). البرنامج أثار نقاشا ساخنا بعد اذاعته في المملكة المتحدة . في الفيلم هناك تألق غامر في الاسلوب، صور مبهرة، فكرة واحدة كبيرة تتحول بسلاسة الى فكرة اخرى، بينما السرد المنوّم لكيرتس يزيل أي مطبات معرفية. ولكن يبقى هناك شعور مزعج في انك ربما تعرضت للخداع، شعور في انك لو توقفت وفكرت في الموضوعات الكبرى،فانها سوف تنهار الى مجموعة من التناقضات او تتحلل الى تفاهة. انت تبدأ بالتساؤل في ما اذا كان كيرتس نوعا من مثقف ما بعد حداثي مشعوذ.

رسالة الفيلم هي اننا وصلنا للاعتقاد اننا نعيش في عالم خُلق بواسطة المكائن، وحيث الجميع مرتبطون وأحرار. ولكن في الحقيقة في عالم الماكنة هذا، نحن جميعا عناصر ضمن نظام. نحن حلمنا بان الانظمة يمكن ان تخلق الاستقرار لذاتها من خلال التغذية العكسية،وتخلق توازن مثالي في المجتمع الانساني وفي نظام الأسواق وفي النظم البيئية الطبيعية، شبكة بدون سياسة وبدون تراتبية السلطة القديمة. لكن كيرتس يقول لنا ان السلطة لم تنسحب من الميدان. وهي لن تفعل ذلك ابدا.

المعلومات ليست قوة

أحد الأهداف الرئيسية لكريتس هو طوباوية الانترنيت، الايمان، كما يقول، بان "التكنلوجيا يمكنها ان تحوّل كل شخص الى فرد بطل ، متحرر كليا في اتّباع افكاره الخاصة ". لكن هذا وهم يعمل على إخفاء حقيقة استمرارية السلطة في ظل الرأسمالية. المدونون، القراصنة، الهويات الزائفة في اون لاين جميعها تجسيدات لهذا النوع من اليوتوبيا. الكومبيوترات تمنح كل شخص شعورا بقوة التعبير عن الرؤية، الهجوم على بيانات البنك، إرسال ايميالات بذيئة، بينما السلطة الحقيقية تستمر تحكم العالم.

لايوجد هناك اختلاف كبير بالرؤية حول مراكز السلطة،او حول فهم ماهية السلطة. نحن أعتدنا الايمان بان سيطرة رأس المال كانت المصدر الرئيسي للسلطة، لكن الان قيل لنا ان المعلومات هي السلطة. سمعنا مرارا وتكرارا الناس يمتدحون الانترنيت باعتباره وفر المزيد من المعلومات، مجادلين ان الوصول لهذه المعلومات هو نوع من التمكين، بما يجعل مجتمعاتنا أكثر ديمقراطية؟ عندما نسمع مثل هذه الادّعاءات نتذكر مسلسلات الطفولة التي يتوصل بها البطل الى ان المعلومات الرديئة تطرد المعلومات الجيدة، بل ويقترح ايضا انه حتى المعلومات الجيدة يمكنها ان تطرد المعرفة. اليوم تبدو يوتوبيا الانترنيت، غير منحازة كليا، وتغمر الناس بافراط بمعلومات عبر إضفاء طابع اسطوري لا تمتلكه حقا. هذا هو سبب انحدار "ثورات الميديا الاجتماعية" من النشوة الى الفوضى. انها تقود بسهولة الى الاستبداد. اولئك الذين انساقوا نحو التضامن من خلال أجهزة الايفون ربما هم أقوياء بما يكفي للاطاحة بالمستبد، ولكن اذا لم تكن هناك خلفية سياسية غير التوق الى الحرية الغربية، واذا لم يكن هناك تنظيم راسخ ومتماسك يعبر عن ايديولوجية معينة، عندئذ سوف لن يوجد هناك تفضيل لنظام جديد.

شبح ويكيليكس

لم يُذكر ويكليكس في قصيدة الكل تحت رعاية مكائن الحب، لكنه ظل يتدخل بشكل ما. جوليانا اسانج اراد الاطاحة بالأقوياء لكنه بنى حملته على مثل هكذا تصور مشوه لمصدر السلطة . حتى الفيديو المقزز بعنوان "قتل جماعي"الذي قتل فيه الجيش الامريكي صحفي لرويتر،لم يغير الحرب ضد العراق. اذا وضع الاقوياء أسرارهم في قاعدة بيانات، فان القراصنة الاذكياء يمكنهم العثور عليها.

بالنسبة لآدم كيرتس ليست الكومبيوترات قاطرة للتحرر وانما هي عامل للقمع. هو يذكّرنا لماذا انهارت مجتمعات الهيبي بسرعة كبيرة. الاسطورة الرومانسية لـ اللامركزية والانظمة الرخوة المفتقرة للتنظيم  التي يمكن ان تحررنا ونعبّر بها عن ذواتنا الحقيقية اصطدمت بالعالم الواقعي للسياسات الشخصية وحب الذات. القصيدة كانت مبكرة لما يمكن مقارنتها به.

غير ان هناك شيء شاذ في عالمي كيرتس واسانج. ربما الاسلوب اللامع الذي يتجاهل صلابة الواقع، كما في محاكاة الواقع التي تتم بالماكنة. انطلاقا من الاحساس بان الحقيقة لايمكن الوثوق بها، فان الاثنين يشتركان بنوع من جنون العظمة الما بعد حداثي. هما كانا نوع من الفرد الذي عليه الاختيار بين عمل خاطئ او المؤامرة، سوف دائما يختار المؤامرة. الفرق هو ان كيرتس يفهم كيف تعمل السلطة، لذا كانت مؤامراته اكثر صدقية.

تكنو رأس المال

في حركة غير متوقعة، القصيدة تربط الايديولوجية الفردية السامة لآين راند بالثقافة المضادة للستينات،وتقوم بهذا في مستوى أعلى من ظاهرة البوهيميين البرجوازيين في التسعينات. كيرتس يتعقب مسار الحياة والافكار الجديدة التي وصلت وادي السليكون وحيث ولادة الشركات التي تحكم العالم الان. هؤلاء هم الناس الذين يدعمون حاليا ذلك النوع الغريب من الرأسمالية الافتراضية التي بها تقوّي المكائن كل شخص على حساب الدولة. كانت الفردية الامريكية التي وُلدت من جديد بدون بدلة وربطة تجسدت بأفضل شكل من جانب ستيف جوبس. الرجل الذي صنع البلايين من المستهلكين المهوسين بالمنتج الرافضين ان يضعوا  ثروتهم في أي هدف جيد. ثقافة وادي السليكون تعرّي الرأسمالية في أفضل اختياراتها.

احدى موضوعات القصيدة هي ان الرأسمالية وصلت الى نقطة حيث الكومبيوترات تقوم بعمل السوق. معظم قرارات المتاجرة في اسواق الاسهم تتم بواسطة مكائن مبرجمة سلفا، مثلما الكومبيوترات تسيطر على مواد خام المصنّعين، وعمليات الانتاج عند الطلب،وانظمة طلبات التجزئة واستراتيجيات استثمار البنوك.

نتذكر نقاشا حادا في الخمسينات حول ما اذا كانت الدولة الاشتراكية مثل الاتحاد السوفيتي يستطيع استعمال الكومبيوترات لمحاكاة مهام التخصيص الكبيرة جدا للسوق الرأسمالي بينما لايزال يتابع الاهداف الاشتراكية. المكائن ستقوم بملايين الحسابات المطلوبة لمقابلة العرض والطلب عبر الاف الاسواق المترابطة داخليا بالطريقة التي تقوم بها آلية الاسعار في ظل الراسمالية.

هناك منْ يرون شيئا شريرا في هذا الانهيار التنظيمي السيبراني لعام 2008،عندما انقلبت التغذية العكسية من كونها عامل استقرار الى كونها مزعزعة للاستقرار. النظام سار متخبطا منذ ذلك الحين.

انت لا تحتاج لقراءة كتاب رأس المال لكارل ماركس لتعرف ان الانهيار كان حتميا. الرأسمالية بطبيعتها غير مستقرة. ثورة الليبرالية الجديدة، بعد شيطنتها للدولة  بدأت بنقل السلطة من الحكومة الى السوق، الذي قيل انه محايدا وفعالا. بينما كل من كان أقل ذكاءً عرف ان السوق عبّر ورسّخ لامساواة عميقة في السلطة، لذا فان تحول السلطة اللليبرالية الجديدة كان من الحكومة الى الأغنياء. والاغنياء هم دائما يسعون لاستغلال السوق للحصول على المزايا. لكن كيرتس وفي حالة من عدم الوضوح يتخذ قفزات غير معقولة لكي يصل الى جدال معقول – ذلك ان فكرة المكائن تحكم بتعاطف عالما منظما فيه الافراد متحررون اصبحت دخانا يخفي الحقيقة الثابتة. السلطة تبقى بأيدي الأقوياء.

القصيدة تعمل على حقيقة كبيرة في كيفية عمل السلطة اليوم، وهي يتردد صداها لدى فكرة فوكو عن الحكوماتية. هذه تعلن ان العملية التي بها المجتمع الحديث يصبح قابلا للحكم من جانب الحكومات تخلق نوعا من المواطن يحدد مصالحه مع اولئك الذين في النظام. كيرتس يوسع هذه الفكرة،ليست الحكومات فقط تشبع رغبة المواطنين بهذه الطريقة، وانما النظام المدار بالمكائن وبـ "تفكير الماكنة" الذي يحل الان محل الايديولوجيات السياسية.

ميديا الماكنة

هناك عنصر اساسي لـ "الحكوماتية الليبرالية الجديدة"، به توصّل المقامرون الى حكم انفسهم من خلال مشاركتهم في السوق، وهو التأثير المخدر للميديا الحديثة. هناك مفارقة معينة في اسلوب القصيدة. كيرتس ذاته قال انه اراد دمج الجدية العالية مع الثقافة الشعبية، وازالة الاشياء الوسطى". الصعوبة هي انه عند  جعل الافكار العليا مسلية جدا، فان الافراط الحسي يوقف الدماغ في مساره. انت عليك ان تتحدث عنه بعد ذلك مباشرة لتفهم ما شاهدت توا، وعند ذلك فقط تقرر كم  ذلك منطقيا. ملاحظة متنافرة في قصة كيرتس الساحرة تكمن في تعامله مع الايكولوجي. هو يحكي قصة فوضوية فيها هندسة مفاهيم الشبكات، التغذيات العكسية والانظمة المعقدة حول الطبيعة  كانت اقتُرحت وخُطط لها من جانب المفكرين المبكرين. الطبيعة جرى تصورها كنظام منظم ذاتيا رغم ان بيئيين اخرين اثبتوا خطأ ذلك،لكنه مع ذلك منحنا رؤى هامة حول التواصل مثل نظرية جايا والافكار الطوباوية المتعلقة بعالم الويب العالمي الواسع" www..

كل من يعرف القليل حول تطور علم البيئة والشمولية holism (2) سوف يتسائل كيف استطاع كيرتس ان يقرأ فيه مثل هذه القصة الشريرة. لو تذكّرنا بعض الاعمال الهامة للبيئية – الربيع الصامت، البلد الرملي، الايكولوجيا العميقة – لاشيء هناك من التصور التكنوقراطي لسيطرة المكائن والتناغم القوي. بالعكس تماما: انها تتحدث عن تعقيدية وراء التنظيم ونزاهة داخلية تراوغ الفهم العلمي. انها تحذر من خطر التدخلات الراديكالية ومحاولات السيطرة، المضاد لما نسبهُ كيرتس للتوازن البيئي. لكن كيرتس يكشف دون قصد حقيقة عميقة حول البيئة. عندما تطورت الى حقل علمي تُدرس في الجامعات، أبقى علم البيئة ما كان يُفترض ان يدمره وهو العلم الآلي.  مفردة "النظم البيئية" تفشي ما يجب ان يبقى سريا، لأنها تقبض على الفكرة الاساسية في فرض انظمة تفكير على الطبيعة تبقى في الاساس نيوتنية. صحيح ان الانظمة تحكم العالم لكن تلك الانظمة ليست محايدة ومنظمة ذاتيا، انها انظمة للسيطرة. هذه هي الفكرة العميقة في القصيدة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) القصيدة بعنوان All watched over by machines of loving Grace لريتشارد براوتيغان، نُشرت اول مرة في عام 1967. تمثل وصفا حماسيا لطوباوية التكنلوجيا التي فيها تتولى المكائن تحسين وحماية حياة الناس. جرى تفسير القصيدة كيوتوبيا وكنقد ساخر لليوتوبيا التي تصفها. تتألف القصيدة من 99 كلمة في ثلاثة مقاطع وتصف الانسان والتكنلوجيا يعملان مع بعض لأجل الخير الأعظم. جاء في مقدمة القصيدة:

انا أحب التفكير في مرج سبريني

حيث تعيش الثدييات والكومبيوتر

مجتمعان في تناغم برامجي متبادل

أحب الماء الصافي

يلامس السماء الصافية ...

 (2) نظرية الشمولية تفيد بان الأجزاء في ترابط صميمي مع الكل وانها لا يمكن ان توجد بشكل مستقل عنه، ولايمكن فهمها بدون الاشارة اليه. الكل يُعتبر أكبر من أجزائه. جرى تطبيق الشمولية على الحالات الذهنية وفي اللغة والبيئة.

تُعد اللّغة عنصرا رئيسا في إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع، وهي آلية السّيطرة في نظم الإدارة بما تُشكّل من مجال عامّ للخطاب السّياسيّ، فهي الوسط الذي يصبح فيه الصّراع واضحا، وهي وسيلة بناء الهوّيّة كما أشارت إلى ذلك نانسي فريزر (Nancy Fraser): "تشتمل هوّيّات النّاس الاجتماعيّة على معانٍ معقّدةٍ وشبكاتِ تفسيرٍ، وللحصول على هوّيّة اجتماعيّة في مجتمعات معيّنة (...) لا بدّ من العيش والعمل تحت مجموعة من الأوصاف التي لا تفرزها أجساد النّاس ببساطة ولكنّها تنضح من نفسيّاتهم، وتُستمدّ بالأحرى من مخزون الإمكانات التّفسيريّة المتاحة ومن رأسمالهم الثّقافيّ.[1]

يُشير ظهور الهوّيّة المهيمنة في مواقع محدّدة زمانيًّا ومكانيًّا إلى نقطة تقاطع بين بُنى الهيمنة وبين التّرتيبات الرّمزيّة والشّرعيّة التي يمليها عدم التّماثل بين خطاب التّحكّم وبين تشكيلات الهوّيّة الاجتماعيّة. ومن ثمّة "يحيل مفهوم "الهيمنة الخطابيّة" إلى الوضع المتميّز الذي تحتفظ به الجماعات المهيمنة، والذي يفترض مسبقًا أن يصبح المجتمع منصّة لتعدّد الخطابات والمواقع الخطابيّة".[2] لذلك لا تنتج الهيمنة الخطابيّة تلقائيّا ولا عن رغبة المواطنين في استيعاب بيانات الهوّيّة بوصفهم مرشحين تمّ فرزهم من قبل قيادة خطابيّة متميّزة، بل تُعدّ رائزا للاختبار والاختيار والتّنافس على حدٍّ سواء، ومعيارا لتشكيل الهوّيّة بدلالة البنى المهيمنة وعبر سيطرة الخطاب المهيمن. إنّ اللّغة هي المكوّن لكلّ ما هو عامّ وسياسيّ، وبحسب ما أشارت إليه آن نورتون فإنّ "اللّغة بما هي وعاء للفكر تجعل الفضاء الخاصّ والعامّ وبمساعدة مجموع الخبرات الفرديّة والجماعيّة داخل مفاهيم وتصنيفات الخصوصيّة الثّقافيّة والنّظام السّياسيّ". [3] فليست بنية النّظام الرّمزيّ الذي يعامل اللّغة أو "اللسان" كشيفرة لتوليد الذّاتية وفقًا للغويّات دي سوسير (Saussure) هي المهمّ هنا، لكن المهمّ بالأحرى هو اعتبار ذلك النّظام أسلوبا للممارسة التّواصليّة أو طريقة في "الحديث"[4] تُميّز طبيعة الفعل التّواصليّ. إنّ الهوّيّة الاجتماعيّة هي محصّلة ما هو موجود في المجتمع من سياقات تواصليّة وعلاقات قوّة، من منازعات وممارسات خطابيّة ومؤسّسيّة مهيمنة.

تأتي الأمّة (The Nation) كإسناد مألوف للهوّيّة في مركز الممارسة الخطابيّة والمؤسّساتيّة لتمنح الشّرعيّة أو تنزعها في الوقت نفسه، إنّها مفهوم ملتبس، ومستودع  للرّموز والذّكريات الجمعيّة، ووسيلة مثلى للتّعبئة في أيّ صراع. لقد ارتكزت نزاعات العصر بعد الحرب الباردة حول خطاب الأصول الذي أطلق الحروب المعاصرة والمستقبليّة باسمه مسترجعا ماض بعيد لأجل تعبئة حاضر مترابط وإقصائيّ، ومن هذه الحروب عن سبيل المثال: الحرب الإسلاميّة المسيحيّة، الحرب العربيّة الإسرائيليّة، الحرب البوسنيّة الصّربيّة، الحرب التّركيّة الكرديّة، حرب الهوتو والتّودسي، حرب الكاثوليك والبروتستانت... إنّها عمليّة فرز تُبرِز هوّيّة مهيمنة على حساب هوّيّات أخرى سعيا إلى إنكار ونفي الاختلاف، وطمسا لكلّ معارضة قائمة أو محتملة باسم كيان موحّد أسطوريّ وقوّة قتاليّة فعّالة. فبهذا يقع خطاب الأصول في صميم صراع يصبح قائمًا في الواقع عندما تغرق الفردانيّة في انتماء جماعيّ مُقيّد بالذّاكرة الجماعيّة، ومحدّد بخطاب إقصائيّ ولغة سياسويّة حمائيّة موجّهة لدرء خطر عدوٍّ شيطانيّ يستحقّ أي عنف يُرتَكب ضدّه. فالعدوّ ليس مجرّد قيادة هجوميّة مذنبة تلام على خلق ظروف غير مرغوب فيها، وتستحق لأجله العقاب، إنّما العدوّ هو كيان آخر قائم، هو مجتمع بأكمله أعيد بناء تاريخه بطريقة مقصودة وفقا لعمليّات الإقصاء والتّصنيف والتّعريف، واستنادا إلى صفات محدّدة، إنّه صراع تتمّ باسمه قمع أيّ معارضة داخل المجتمع.

تُعدّ الهوّيّة الوطنيّة مكوّنا هامّا لإدارة النّظم الاجتماعيّة وتصوّرا ذاتيّا يعتمد على الثّقافة، أي على التّاريخ والأساطير، على اللّغة والتّقاليد في بناء هوّيّة واحدة ترتكز على عمليّة التّصنيف التي تسمح ببسط سلطة الدّولة على جميع المناطق والجماعات والطّبقات. فهي تُؤسّس العلاقة بين الهوّيّة الجماعيّة وبين السّلطة "لتضفي عليها خصائص النّظام المؤسّساتيّ العقلانيّ"[5] لتعزّز من خلالها توسيع نطاق السّيطرة على توجيه عمليّات التّواصل وأشكال التّفسير، وأنماط الإدارة والحكم.

يتقلّب الأفراد في استمراريّة خطابيّة ومؤسّسية تربط خصوصيّة الجماعات بعضها ببعض لتشارك في ضبط التّحوّلات وإعادة إنتاج النّظم القائمة عبر هذه الممارسة المستمرّة،[6] وحتى يتمّ بناء هوّيّة مشتركة موحّدة وعابرة لدورة حياة أولئك الأفراد. فبالسّيطرة الخطابيّة والمؤسّسية على الحياة اليوميّة يندمج الفرد في المجتمع باعتباره مستهلكا للرّموز الثّقافيّة، غير أنّ الهوّيّة الوطنیّة لا تُشكّل بالضّرورة جانبًا من الوعي الخطابيّ الذي قد ينشأ عند کلّ لقاء اجتماعيّ، بل هي عنوان رئيس يشمل مجمل الصّفات المتعدّدة بما فيها تلك التي تُشكّل خلفيّة غير معترف بها أوقات السّلم لكنّها تغدو مدمجة على التّعميم باسم الانتماء للأمّة واستنادا إلى تحديد القضايا، المصالح، والشّرعيّة المستهدفة في فترات الصّراع مع العدوّ سواء كان من خارج المجتمع أو من داخله.

تُعدّ "الأمّة" و"المصلحة الوطنيّة"، "الأمن القوميّ"، "الرّفاه الوطنيّ"، "السّيادة الوطنيّة" و"تقرير المصير" تصنيفات مفاهيميّة تعتمد على الإحساس بالهوّيّة الجماعيّة للمشاركة في استلهام ماضٍ متخيّلٍ يربط الأفراد ربطا يعبر الطّبقة الاجتماعيّة والجنس ومستويات الدّخل وجميع أشكال الفرز والتّقسيم. وعلى هذا الأساس يُعِّرف بنديكت أندرسون (Benedict Anderson) الأمّة بأنّها "مجتمع سياسيّ متخيّل ومحدود بطبيعته، لكنّه متصوّر ككيان له سيادة".[7] فمفهوم الأمّة تصوّر لمجتمع يقوم على الذّاكرة يسعى لبعث التّاريخ واستثماره كحاوية زمنيّة تجمع ذكريات مجيدة لإنجاز ثقافيّ وسياسيّ وعسكريّ.[8] فمع مفهوم الأمّة تصبح هذه الذّكريات والأمجاد المتخيّلة راسخة بمرور الوقت في صميم التّرتيبات الرّمزيّة والمعايير الاجتماعيّة "المنقولة" من جيل إلى جيل لتُشكّل على العموم ركيزة للمعاني التي تتكاثر ويُعاد تشكيلها من خلال الأحاديث اليوميّة التي تشير إلى كلّ ما هو "وطنيّ" أو قوميّ "كلّما تشارك أفراد الشّعب المفاهيم المكوّنة لسيادة الدّولة القوميّة أو لطابعها متعدّد الأركان، وهو ما يرتّب هذه المفاهيم رأسا في الوعي العمليّ بدل إتاحته  في تشكيل خطابيّ  كسبب للعمل"[9] بحسب غيدنز.

إنّ المفهوم الذي قامت عليه الأمّة والهوّيّة الوطنيّة هو مفهوم متجذّر بعمق ومنتشر على مرّ العصور في كلّ مكان عبر العالم، بحيث يبدو أنّ تقسيم البشريّة إلى دول قوميّة مستقلّة هو النّظام الطّبيعيّ للأمور. إنّ القوميّة كعقيدة ترى في الأمّة شكلًا طبيعيًّا من أشكال تطوّر المجتمع البشريّ يصلح أن يكون معيار الحكم، وبذلك ينفي الخطاب القوميّ الأسس التّاريخيّة والثّقافيّة للأمّة ككيان اجتماعيّ يعتمد عليه في الوقت نفسه لإضفاء الشّرعيّة على ذكريات سابقة.[10] تتجسّد "الأمّة" ككيان محدّد باعتبار ما هو قائم سياسيًّا على حساب أنماط التّمثيل الأخرى، بحيث تصبح العلاقات الاقتصاديّة التي تنتج بطرق غير مسيّسة مجرّدة من شرعيّتها تماما، ويتمّ تعريف المصالح الخاصّة للفئات المهيمنة في المجتمع عامّة بالمصالح "الوطنيّة" ليصبح هذا التّوصيف الذي تطلقه البنى السّياسيّة القائمة على "مصالحها القطاعيّة" مضلّلا ومتحيّزا خصوصا إذا اعْتُبِرَ حافزًا موجّهًا للعمل الحكوميّ. وفي ساحة الفعل السّياسيّ وبنفس التّمثّل يتمّ تصوّر الحكومة والأمّة والدّولة كيانات متجانسة في تفاعلها مع الحكومات والأمم والدّول "الموحّدة" الأخرى.[11]

لقد اعتبر إيلي خدّوري أنّ ظهور العلاقة بين القوميّة والسّيادة والمواطنة في الثّورة الفرنسيّة حدث يؤسّس العلاقة بين السّلطة الشّرعيّة والمواطنة فيتماثلها أو يطابقها مع الأمّة.[12] من ناحيته يرى غيدنز السّيادة والمواطنة والقوميّة ظاهرة مترابطة، ويرفض التّفسير النّفسيّ للقوميّة الذي يرى أساسها في الحاجة إلى الهوّيّة معتبرا أنّه تفسير محدود جدًّا ولا يساعد على تطوير فهم الرّابط الاجماعيّة. فالقوميّة بما هي صيغة أيديولوجيّة لسياسة الدّولة لا تماثل السّلطة، ولكنّها تأخذ أشكالا مترابطة مثل علاقة السّياسة القوميّة ببناء السّيادة، وعلاقة طابعها الأيديولوجيّ بالسّيطرة الطّبقيّة، وعلاقة القوّة النّفسيّة وحسن السّلوك بالمواطنيّة الصّالحة والارتباط بالدّولة؛ وكحاوية للقوى الرّمزيّة الجبّارة تخلق القوميّة مجتمعا متخيّلا.[13] إذن، تنشأ الأمّة في مخيال مجتمع يرى نفسه كيانا كلّيّا مبنيّا على تاريخ مجيد وثقافة مميّزة تتضمّن نظاما رمزيّا يُسْتَخْدَمُ في أوقات الشدّة لتعبئة جماعات بأكملها ضدّ مجتمعات أخرى تُنَصَّبُ عدوّةً.

ليست اللّغة بتلك الأهمّيّة التي توفّر قوّة توحّد أفراد المجتمع، بل هي وسيط أو وسيلة يتمّ عبرها نعت "السّياسيّ" ب "الوطنيّ" بنحو ما أشار إليه إريك هوبسباوم (Eric Hobsbawm): "اللّغات الوطنيّة هي بُنًى شبه اصطناعيّة تقريبًا ودائمًا، وهي النّقيض لما تفترضه الأساطير القوميّة باعتبارها أسسا ابتدائيّة للثّقافة الوطنيّة وقوالب للعقل الوطنيّ. كانت هناك محاولات لوضع صيغ توحّد تعدّد التّعابير المنطوقة للألسن التي تمّ تخفيضها إلى لهجات، فأصبحت المشكلة الرّئيسة هي أيّ  لهجة سيتمّ اختيارها كأساس للّغة الموحّدة والمتجانسة؟.[14]

تنهض اللّغة الموحّدة بدور مركزيّ في حياة الدّولة الأمّة بما تكتنف من رموز قويّة تتغلغل في وجدان المواطنين وحياتهم اليوميّة، فالأعلام الوطنيّة المنتشرة في زوايا الشّوارع أو على لوحات السّيارات أو فوق أسطح البنايات تظهر الانتماء بوضوح يؤكّد قوّة التّمييز والفصل سواء في المناسبات الرّياضيّة أو في الاحتفالات العسكريّة. وتُمثّل النّصب التّذكاريّة "للجنود المجهولين" إشارة قويّة تستوجب ضمان الاستمراريّة لبقاء الأمّة بصرف النّظر عن تضحياتها الجديدة، إذ تُخلّد التّركيبات اللّغويّة فضلًا عن المضمون الرّمزيّ للثّقافة مجمل النّضالات والتّضحيّات التي تضفي على حياة المجتمع معنًى يعتبر الشّرط الأساس للإدارة الكلّيّة في الدّولة القوميّة.

استثمارًا للمعامل البنيويّ يعتمد تصوّر الصّراع كخطاب إقصاء على صياغة روايات وبناء أحداث اعتمادا على مجموعة متنوّعة من المصادر اللّغويّة الموجودة سلفًا، وأيضا على عوالم المعاني المشتركة المستمدّة من بنية الواقع. فنهاية الحرب الباردة بين "القوى العظمى" لم تفض إلى زوال الحرب، إذ شهد العالم نشوب صراعات عرقيّة وقوميّة ارتكبت فيها مذابح وصور عنيفة للإبادة الموجّهة ضدّ جماعات معيّنة، وظهرت معسكرات الاعتقال من جديد، وارتكبت حالات الاغتصاب الممنهج للنّساء والأطفال كتكتيك للحرب القذرة والصّراع المنفلت من كلّ قيد أخلاقيّ أو إنسانيّ.[15] فإحصاء بيتر والينستين (Peter Wallensteen) وكارين أكسيل (Karen Axell) يشير إلى 82 صراعًا مسلّحًا بعد انتهاء الحرب الباردة شاركت فيه 64 دولة في سنوات قليلة تجاوز عدد ضحاياها ما يفوق المليون إنسان، وقد تمحورت تلك الصّراعات في جزء كبير منها حول "مسائل داخلية" تتعلّق بمطالب الاستقلال الذّاتي وتقرير المصير.[16] ويحيل انتشار مجمل هذه النزاعات الطّائفيّة والعرقيّة إلى هيمنة الخطاب الإقصائيّ الذي يوفر الدّعم للصّراعات المسلّحة العنيفة.

في مقال لها بعنوان "ماذا عن أمّة الغد؟" تحدثت جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) عن توسّع خطاب إقصائيّ يقوم على "كراهيّة دفاعيّة" "ينزلق معها تقديس الأصول إلى الاضطهاد".[17] والواقع أنّه إلى مثل هذا الخطاب يتّجه العنف ضدّ "الأجنبيّ"،[18] إنّه خطاب يُشرعن سياسيًّا ليولّد تصنيفًا يطلقه من يُعرفون بامتلاك "الشّرعيّة" من داخل الجماعة ضدّ جميع الآخرين  الذين يعتبرون خارجها أو خارجين عنها، والذين يفضي بهم الاختلاف إلى أن يصبحوا أهدافا للعنف المباشر أو للتّمييز الممأسس. إنّ العنصريّة "انحطاط بفكرة الوطنيّة"[19] بحسب كريستيفا، فهي عنف منتشر أعيد تشكيله من خلال الميز والفصل العنصريّ إن بالقول أو بالفعل. فما تنطوي عليه صلة هذا النّوع من العنف اللّفظيّ بالصّراعات المسلّحة من خطاب إقصائيّ يعمد بوضوح إلى تصنيف مجموعة من الأفراد كأعداء ليُشكّل بُنًى للعنف تقوم على التّفرقة وعلى معنًى اعتباطيّ وهدف هو في الأساس غير معروف.

تُظهر الهوّيّة الجماعيّة في جميع تشكيلاتها طرقا لعنف رسميّ تتّسم بمؤسّسات منظّمة ومحدّدة بقواعد على درجة عالية من السّيطرة، كما تُظهر أساليب أخرى لعنف غير رسميّ تضمّ كيانات غير منظّمة وتجمّعات سياسيّة فضفاضة. وترتبط الأساليب الرّسميّة للعنف الجماعيّ بالدّولة وبمؤسّستها العسكريّة، في حين ترتبط نظيرتها غير الرّسميّة بالجهات غير الحكوميّة المشاركة في الصّراع، وتترتّب عن كلتا الطّريقتين وعبر أشكال الصّراع المتنوّعة علاقة بين الهوّيّة الاجتماعيّة وبين العنف الجماعيّ.

تُنَفَّذُ الحروب الرّسميّة المرتبطة بالدّولة باسمها لكي تكتسب شرعيّة تستند إلى الهوّيّة الجماعيّة للأمّة، وبحسب ما أشارت إليه آن نورتون "فإنّ الجيش يمثّل الأمّة بشكل رسميّ كما يمثّل الإرادة العامّة بالوكالة، ويرتبط هذا الطّابع التّمثيليّ بالزّيّ الرّسميّ الذي يخفي الفرديّة وينكرها علنًا، كما يرتبط باستخدام العلم الوطنيّ وبالشّعارات الأخرى التي تعلن وحدة القوّة ودورها في تمثيل الأمة".[20]

يُعتبر العنف الذي يمارسه الجيش المتورّط في الحرب شرعيًّا من حيث إنّه "تنفيذ للإرادة العامّة" فهو الرّمز الخارجيّ للسّيادة الوطنيّة، أمّا المواطنون الذين لم يشاركوا مباشرة في شنّ الحرب فيتمّ دمجهم في آلة القتال من خلال الولاء، والمساهمة في المجهود الحربيّ برفع الإنتاج الاقتصاديّ على الجبهة الدّاخليّة. ويعتمد هذا الإدماج على التّعبئة العامّة التي تستند في دعم الصّراع العنيف على ما للأمّة من معنًى وشرعيّة، فالتّعبئة كعمليّة واضحة في الأوقات الاستثنائيّة وزمن الصّراع مع العدوّ تُعزى إلى قيادات كفوءة تستثمر المخيال الجماعيّ لتستلهم حمولته الوجدانيّة المتغلغلة في ثقافة المجتمع، وتوظّف ما تزخر به الذّاكرة الجمعيّة من صور البطولة لكي يُعاد إنتاجها معتمدة على خطابات تمجّد الأمّة والجيش.[21] فبهذه التّعبئة، وبتجنيد وسائل الإعلام الجماهيريّ كمصدر وحيد للمعلومات، ومنبر لترويج الخطاب السّياسيّ يتمّ بناء صورة تشيد بمؤازرة الجيش للأمة وتنوّه بدفاعه عن ثوابتها.[22]

يرتبط الفرد بالعنف الجماعيّ إذن من خلال الهوّيّة الجماعيّة، سواء كان هذا العنف صادرا عن أجهزة الدّولة أو ناجما عن احتجاج فئات متمرّدة تطمح إلى إزالة الدّولة أو الحلول محلّها. فبهذا التّعريف تغدو الحرب عنصرًا رئيسا في الهوّيّة الجماعيّة التي تشكّل شرارتها في الذّاكرة الجماعيّة من خلال "السّرديّات"،[23] والتي تحتمي بالماضي لتحتفي بأمجاد الأسلاف، ولكي تستمدّ القدرة على مواجهة ما تعتقد تهديدا لوجودها وبقائها على قيد الحياة لأنّ الصّور الذّاتيّة التي تقوم على مفاهيم البطولة والقيم والعدل تستند في مجملها إلى الذّكريات الجماعيّة التي يعاد إنتاجها فعليًّا زمن احتدام الصّراع. يقدّم الخطاب الوطنيّ "القوميّ" القتال في الحروب بوصفه نيابة عن "الأمّة" ودفاعا عن قضيّة عادلة، فسرديّات الحروب التي تمجّد "الأبطال" تلهم الأمم بمخزونها الرّمزيّ فتوفّر لها ما يسعف في إعادة إنتاج هوّيّة تقوم على الحرب بحسب ما أشار إليه هديتوفت (Hedetoft): "البطل هو عبارة عن معاني الوطنيّة التي يُعزى بها إلى أشخاص استثنائيّين يقدّمون صورا ملهمة للشّجاعة الوطنيّة والتّضحيّة والدّفاع عن الوحدة. ويُنظر إلى البطل أيضًا كشخص حقّق هوّيّته الدّاخليّة العميقة عبر التّضحيّة الشّخصيّة والتّفاني الدّينيّ في أداء الواجب تُجاه قضيّة نبيلة جديرة بالاهتمام والتّضحيّة (...) يُشكّل الأبطال البُنى الاجتماعيّة والثّقافيّة للأمم، ومن المفارقات الغريبة فعلا أنّ الموت بالنّسبة للوطنيّة القوميّة هو أكثر قدسيّة من الحياة".[24]

فالحرب إذن هي حاصل الخطاب الوطنيّ القوميّ، وهي رمزٌ لسيادة الدّولة، وهي مظهرٌ لهوّيّة الفرد والأمّة والدّولة، وهي أيضًا خطاب صراع يبني عبر هوّيّة خطابيّة استمراريّة مؤسّساتيّة تمنحه الشّرعيّة.

واعترافًا بالعنصر البَّناء للّغة يذهب تحليل الخطاب إلى حدٍّ ما باتّجاه المساهمة في فهم الصّراع كخطاب إقصائيّ يتوسّل طريقة وحيدة للمعرفة، ويتموقع ضمن سياق اجتماعيّ سياسيّ وتاريخيّ معيّن. وبما أنّ لكلّ مراقب أو محلّل أو طرف في الصّراع زاوية نظر تخصّه، فإنّه وعلى هذا النّحو لا يمكن أن تكون هناك قراءة أحاديّة لرواية، أو نصّ تشريعيّ، أو سرد تاريخيّ، وبالتّالي لا يوجد في الواقع تفسير "موحّد" ولا طريقة وحيدة للمعرفة.[25] إنّ إدراك تعدّديّة الاحتمالات للتّفسير يفترض الاعتراف بوفرة القراءات، التّمثيل، الهوّيّات والشّرعيّة التي تشكّل فرديّة يجب أن تقع في صميم الخطابات التّحويليّة والحاسمة حول السّلام.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] Fraser, N., “The Uses and Abuses of French Discourse Theories for Feminist Politics” Theory, Culture   and Society, Vol. 9 (1992), p. 52

[2] Ibid  p. 54

[3] Norton, op. cit., p. 46

[4] Saussure, F. De., Course in General Linguistics (Fontana, London, 1974).

لمراجعة التمييز بين "اللسان" و " الكلام"، انظر:

Giddens, A.  Central Problems in Social Theory (Macmillan, London, 1979), pp. 10-18

[5] Norton, op. cit., p. 47

[6] Giddens (1984), op. cit. p. 171; Bhaskar, R.., The Possibility of Naturalism (Harvester Wheatsheaf  Hemstead, 1989), p. 42  Hemel

[7]  Anderson,M., Imagined Communities (Verso, London, 1991), p. 6

[8] حدد Anthony Smith التاريخية بوصفها العنصر  المحدد الأساسي للقومية العرقية انظر:

Smith, A, .D.,  The Ethnic Revival in the Modern World (Cambridge University Press, Cambridge, 1981); National Identity (Penguin Books, Harmondsworth, 1991).

[9]. Giddens, A.,The Nation-State and Violence (Polity Press, Cambridge, 1985), p. 211

[10] Kedourie, ., . Nationalism (Hutchinson University Library, London, 1966), pp. 9-20

[11] إن الواقعية بوصفها مدرسة لفكرة انضباط  العلاقات الدّوليّة تعتبر الدّولة وحدة للتّحليل دائمًا، وأنّ لها مجموعتها البنائية المفاهيمية مثل " المصلحة الوطنيّة" و " السّيادة" انظر

Morgenthau, H.J., Politics Among Nations (Alfred Knopf, New York, 1985); James, A., Sovereign Statehood: The Basis of International Society (Allen and Unwin, London and Boston, 1986).

[12] Kedourie, op. cit., p. 12-13

[13] Giddens (1985), op. cit., pp. 215-217

[14] Hobsbawm, E.J., Nations and Nationalism since 1780 (Cambridge University Press, Cambridge,1990), p. 54

[15] انظر:

Mearsheimer, J.J., “Back to the Future: Instability in Europe after the Cold War” International Security, Vol. 15, No. 1 (1990), pp. 5-57.

[16] Wallensteen, P., and Axell, L., “Armed Conflict at the End of the Cold War, 1989-92”, Journal of Peace Research, Vol. 30, No. 3 (1993), pp. 331-346.

[17] Kristeva, J., Nations without Nationalism (Columbia University Press, New York, 1993), p. 3

[18] يشير Richmond إلى أن المصطلحات هي مثل: الافعال، الهياكل والمؤسسات المرتبطة  مع عزلة قسريّة للناس المختلفين انظر:

Richmond. A.H., Global Apartheid: Refugees, Racism, and the New World Order (Oxford University Press, Oxford and New York, 1994), p. 296.

[19] Kristeva, op. cit., p. 13

[20] Norton, op. cit., p. 146

[21] في بحثه لتأسيس علاقة تجريبية إحصائية صحيحة بين دعم الحرب وبيع ألعاب الحرب وافلام الحرب، أشار Patrick Regan إلى إستعمال الرموز القومية والوطنية في " أشكال ترفيهية واسعة الإنتشار" لخلق  دعم شعبي للجيش. انظر

Reagan, P., “War Toys, War Movies, and the Militarization of the United States, 1900-85”, Journal of Peace Research, Vol. 31, No. 1 (1994), pp.45-58.

انظر أيضًا

Virilio,P., War and Cinema (Verso, London and New York, 1989).

[22] Chaffee, S.H., “Mass Communication in Political Socialization”, in S.A. Renshon (ed.) Handbook of Political Socialization: Theory and Research (Free Press, New York, 1997), p. 227

[23] . Bhabha, H.K.,(ed.), Nation and Narration (Routledge, London, 1990).

[24]  Hedetoft,U., “National Identity and Mentalities of War in Three EC Countries”,Journal of Peace     Research, Vol. 30, No. 3 (1993), pp. 281-300.

[25]  Hawkesworthm, M.E., “Knowers, knowing, known: Feminist Theory and Claims of Truth”, Signs, Vol. 14. No. 3 (1989), pp. 553-547.

 

طبيعةُ المجتمعِ مُندمجةٌ معَ فلسفة اللغة، باعتبارها منظومةً عقلانيةً تتحقَّق في داخل السُّلوكِ والوَعْي به، وكَينونةً منطقيةً تتكرَّس في الفِعل الاجتماعي، الذي يتعامل معَ التاريخ ككائن حَيٍّ، يَنبعث في أنساق الحياة المُعَاصِرَة، ويَنمو في العقل الجَمْعِي، ويُفَعِّل دَوْرَ القواعد الأخلاقية في الأحداث اليومية، ويُؤَكِّد على علاقة الوَعْي بالآلِيَّات المعرفية التي تُحلِّل مَضمونَ الأنظمةِ المادية الاستهلاكية المُسيطرة على الإنسان والطبيعة معًا، مِن أجل تَكوين ظواهر ثقافية تَنبع مِن تفاصيل الواقع الإنساني المُعَاش، ولا تتمركز حَوْلَ عَقْلِ الآلة الميكانيكية كبديل لعقل الإنسان المُبدِع.وهذا مِن شأنه تَكوين نظام فلسفي جديد لرؤيةِ العَالَمِ الكامن في داخل الإنسان، ورؤيةِ العَالَمِ الخارجي المُحيطِ بالإنسان، والضاغطِ عليه، والمُؤثِّرِ في شُعوره ووَعْيِه وإدراكه. وهاتان الرُّؤْيَتَان تُساهِمان في استخراجِ الأحلام المنسيَّة مِن أعماق المُجتمع. وحركةُ الوَعْي (الحقيقي لا الزائف) في الزمان والمكان يُعاد تشكيلُها وَفْقَ كَيْفِيَّة رؤية العَالَم (الداخلي والخارجي)، وهذه الكيفيةُ تتأثَّر بطريقة مُمارسة الإنسان لِسُلطته على تراكيبِ البناء الاجتماعي، وتقاطعاتِ التاريخ، والقيمةِ الوجودية للظواهر الثقافية في البيئة، وشُروطِ الثورة الصناعية في الطبيعة. وهذه السُّلطةُ مُرتبطةٌ بالبُعْدِ الأخلاقي في التجارب الحياتيَّة، بِوَصْفِهَا طريقًا إلى بناء المَنْطِق في العلاقات الاجتماعية، ومُرتبطةٌ كذلك بالبُعْدِ التعبيري في اللغة، بِوَصْفِهَا وسيلةً للتفاهم والحِوَار، وقاعدةً معرفيةً لعقلانية المُجتمع. والسُّلطةُ على الأشياءِ تُمثِّل فلسفةً خَاصَّةً لفهم ماهيَّة الأشياء. وإذا نَجَحَ المُجتمعُ في إزالة التناقضات بين سُلطةِ الإنسان وماهيَّةِ العلاقات الاجتماعية، فإنَّه سَيَنجح في إعادة تَوظيف دَور المَعرفة في السُّلوكِ الفردي والمُمَارَسَةِ اللغوية.وهذه المعرفةُ لَيْسَتْ تجميعًا للمعلومات، ولا أرشيفًا للوثائق، وإنَّما هي عملية تَوليد مُستمرة لفلسفة التاريخ العابر للمراحل الزمنية والتجنيسِ المكاني. وفلسفةُ التاريخِ لَيْسَتْ ماضيًا مضى وانقضى، أوْ شيئًا يتمُّ الرُّجُوع إلَيه، أوْ هُوَّةً سحيقةً يتمُّ الهُرُوبُ إلَيها والاختباءُ فيها. إنَّ فلسفةَ التاريخ نَسَقٌ فِكري يُولَد في شُعورِ الإنسان وإدراكِه، ويُسيطر على طريقة رؤيته للأشياء، وأسلوبِ تَعَامُلِه معَ العناصر. وكُلُّ نَسَقٍ فِكري هو بالضَّرورة فاعليَّةٌ اجتماعيةٌ في بُنية شخصية الفرد الإنسانية، وتفاعُلٌ إنساني معَ سُلطةِ المُجتمع الاعتبارية، وهُوِيَّتِه الحضارية المَتمركزة حَول الوَعْي بالذات والمُحِيطِ، وكَيْنُونَتِهِ الوجودية القادرة على صناعة حُقول معرفية جديدة، تُسَاهِم في إعادة بناء الواقع على أُسُس عقلانية إبداعيَّة، مِن أجل إيجادِ كِيَان للإنسان في التاريخ، وتَكوينِ مَعنى للتاريخ في قواعد المنهج الاجتماعي.

2

مركزيةُ اللغةِ في المُجتمع تُعيد تشكيلَ الهُوِيَّات الإنسانية (الفَرْعِيَّة والرئيسيَّة) في السِّياق الثقافي، وتَكشِف الخلفيَّةَ الفلسفية الكامنة وراء العلاقات الاجتماعية، وتَفْصِل بين حُرِّية الإرادة والواقع المُقيَّد. وهذا الفصلُ ضروري مِن أجل تحديدِ جَوْهَر الشخصيَّة العَامَّة المُتَمَثِّلَة في مَصِير المُجتمع، وتحديدِ ماهيَّة الشخصية الخَاصَّة المُتَمَثِّلَة في مَسَار الإنسان. وإذا كان مصيرُ المُجتمعِ ومَسَارُ الإنسانِ يَرتبطان بالعواملِ النَّفْسِيَّة والمعاييرِ الأخلاقية، فإنَّ قِيمةَ التاريخِ ورمزيةَ اللغةِ تَرتبطان بالظواهرِ الثقافية والتجاربِ الحياتية. وهذا الارتباطُ الوثيق بَين كُلِّ هذه المُكَوِّنَات الوُجودية يَدْمِج الخِبْرَةَ العمليَّةَ بالفِطْرَةِ الذاتية، ويُشيِّد البناءَ الروحي على البناء الاجتماعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة تَمَوْضُع الذات الإنسانية المُبْدِعَة في تاريخِ الأفكار الحَيَّة والحُرَّة، وطبيعةِ الزمانِ والمكان،بِوَصْفهما عمليةَ تحرير مُزْدَوَجَة للإنسان مِن صُورةِ الضَّحِيَّةِ وبُنيةِ المأساة.وهكذا، يَجِد الإنسانُ نَفْسَه صانعًا للتاريخ، وفاعلًا في أنساقه، ولَيْسَ مَفعولًا به، أوْ سِلْعَةً مَصنوعةً ضِمن قانون العَرْض والطَّلَب.

3

العقلانيةُ في المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ لا تَعْني تقديسَ العَقْل، أوْ جَعْلَ الإنسانِ حَاكِمًا على عناصر البيئة والطبيعة، ولا يَحْكُمُه شيء، وإنَّما تَعْني إنشاءَ نظام فلسفي يُحرِّر المُجتمعَ مِنَ الأوهام المُكرَّسة بِفِعْل سياسة الأمر الواقع، ويُحرِّر اللغةَ مِن الوَعْي الزائف الناتج عن التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية، ويُحرِّر التاريخَ مِن الحضارة الاستهلاكية التي تُمثِّل قَفَصًا حديديًّا يَمنع رؤيةَ مصادر المعرفة مِن كُلِّ الزوايا. وكُلُّ نظام فلسفي لا يُصبح شرعيًّا ذا جَدْوَى إلا إذا قامَ على ثنائية التَّحَرُّر والتحرير، أي إنَّهُ يُحرِّر نَفْسَه بِنَفْسِه مِن الصِّدَام بين الوسيلة والغاية، تمهيدًا لتحريرِ العناصرِ التي يَحْتَوِي عَلَيها، والأشياءِ التي تُحيط به. وكما أنَّه لا يُوجَد نظام فلسفي خارج الظواهر الثقافية، كذلك لا يُوجَد جَوهر إنساني خارج المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

للهوية الجمالية تاريخ من الابتكار يؤسس له في شتى أنواع الفعل والقول والنتاج الصوري في العقل الجمعي في الحضارة الإنسانية،لذا فإن (فريدريك نيتشه) يضع في كتابه (مولد التراجيديا) أشارة لذلك من خلال شخصية (هوميروس) (1) وهو محور هذا المقال الذي يبحث في هذا الجانب الجمالي ومعطياته الفكرية في صناعة مفهوم البطل وجماليات الظهور وتأسيس الهوية في الحضارة الإغريقية، وما أسس عليه في الحضارة الغربية عامة . وبالعود الى (نيتشه) الذي يرى الآتي: (هوميروس ... يبدو وهو مندهشاً وهو ينظر الى الرأس الرائع لآلهة الفن (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية). وهذه الرؤية المندهشة الملهمة تصنع فعلتها في خيال (هوميروس) في نتاجاته الملحمية المؤسسة للتاريخ الإغريقي البكر، حسب رؤية نيتشه لـ (هوميروس) المؤسس الأول والمبتكر لأحد روافد الهوية الجمالية الإغريقية.

إنَّ من أولويات البحث في التاريخ القديم الذي أصبح من علامات الابتكار في الفكر الغربي الجمالي، وما صنعه وأبدعه شاعر رسم خطى التجربة الأولى لتصبح بعد ذلك من علامات التمركز وقصديات السياق العام في صورة البطل في الذاكرة الغربية وغائيته التاريخية، فـ(هوميروس)، الذي أبدع (الإلياذة) (2)، وأختها (الأوديسا)، وجعلهما " مصدر هام لمعرفة الأسطورة اليونانية، ونرى الأسطورة فيهما وكأنها قد تكونت وترعرعت وتكاملت أو تكاد في خطوطها الكبرى الجوهرية . وما يضاف إليهما فيما بعد بمثابة التنميق والتوشية والزخرف على ثوب من دمقس فاخر . أما جو هاتين الملحمتين فهو جو حضارة مزدهرة، جو بذخ وعظمة واقتدار يتجلى لنا عند عظماء وأمراء الإغريق " (3)، صوّر من خلالهما (هوميروس) صورة هذه الحضارة النواة لمفهوم الهوية الجمالية التي عظّمت من صورة البطولة لديهم، وخاصة في (الإلياذة) التي جعل فيها البذرة الأولى لصورة البطل المخلّص في البناءات الأولى للهوية الجمالية، إذ عمل على بناء معطى جمالي أولي في البدايات الشعرية الأولى في ملاحمه على أعتبار أنه عمل على " التقاط الحساسية الأسطورية البدائية، حيث كانت أحداث الوجود الإنساني تُرى وثيقة الارتباط بالملكوت الأبدي للآلهة ومغتنية به. فالرؤية الإغريقية القديمة كانت تعكس نوعاً من الوحدة الحقيقة بين الإدراك الحسي المباشر والمعنى الأزلي، بين الظرف الخاص والدراما الكونية، بين نشاط الإنسان ودفع السماء. ثمة أشخاص تاريخيون كانوا يعيشون بطولات أسطورية في الحرب" (4) وأصبحت هذه الصورة جزء مهم من التجربة التاريخية التي تحكم العلاقات بين المتصارعين من منطلقات التبرير التاريخي لتأسيس الفكر الكوني في أنتاج هذه التجربة التاريخية وابتكار الهوية الجمالية في الفكر اليوناني القديم، إذ " ظهرت المصطلحات الأولى لعلم الجمال عند الإغريق القدماء وفي أشعار (هوميروس) على وجه التحديد . فقد أستعمل (هوميروس) أم التعبيرات الجمالية مثل: الرائع، والجمال، والتناسق . فكل ما هو رائع متناسق بالنسبة لهوميروس هو موضوعي واقعي، يمكن أن يفهمه الأنسان ويلمسه بحواسه " (5)، والصيغ الجمالية التي حددها هوميروس تعد البداية الاولى في تحديد هوية فكرية جمالية في التاريخ اليوناني القديم، على أعتبار أن المصطلحات التي أطلقها أسست للفهم الحقيقي الذي يتردد في المستقبل صداه عند فلاسفة إغريق، فالرائع، والجمال، والتناسق من المعطيات التي تحدد المعايير الجمالية في تشكيل صورة البطل في ملاحم (هوميروس) .

إنَّ هذه الملاحم قد رسم فيها (هوميروس) صورة البطل التي ترتبط في أدائيات جمالية أخرى في الملحمة،إذ "أستعمل هوميروس عبارة (أن أثينا سكبت الجمال على أوليس) . فالفن عند هوميروس هو حرفة، فهو عندما يتكلم عن الأبداع الفني يفهمه كأنه عمل جسماني منتج، كحرفة" (6)، وهذا الابداع الفني قد يفهم بمروره بمراحل هي:

* الأولى: الحرفة الجمالية التي عمل (هوميروس) على صياغة أفكاره على وفق الرائع، والجميل، والمتناسق في فكره الذي أبدع ملاحم كبيرة صمدت على مر التاريخ أمام كل القبح الذي انتجه العالم على مر السنين، وأصبح هذا الرائع هو التصور الجمالي عنده من خلال صياغاته الفنية والجمالية في الملحمة .

* الثانية: عمل على صياغة المصطلحات الجمالية في شخصياته البطلة التي انتجت صور جمالية متناسقة بين الشكل والمضمون في الملحمة، كما في الشخصية التي نتناولها بعد قليل في التحليل الجمالي عند (هوميروس).

* الثالثة: عمل على اضافات مكملة في ملحمته تظهر الجانب الجمالي الذي ركز عليه في الملاحم من خلال الوصف الذي قدمه والذي وصف الأداء الطقسي في " الألياذة والأوديسا، وتكلم عن تأثير الغناء والموسيقى في حياة الإغريق . فهو يقص لنا عن المعني (ديمودوك) الذي أثر بأغانيه على حرب طروادة في نفس أوليس فأبكاه " (7).

* الرابعة: في المعطى الجمالي لدى (هوميروس) وإعادة البناء الجمالي في المخيال الإغريقي من خلال صياغة البطولة في هذه الشخصيات التي تحمل معها التناسب في الصياغة الجمالية في البناء الملحمي . ولو أستعرنا تشبيهات (أرلوند توينبي) في كتابه (بحث في التاريخ) عن أسلوبه الثالث من أساليبه في البحث في التاريخ، وهذا الاسلوب الثالث الذي يركز فيه على مفهوم (إعادة الخلق) من خلال إعادة خلق صورة البطولة  في رسم النظام في اليونان القديمة، وإعادة أسلوب الرائع والجميل في صناعة شكل الهوية التاريخية والجمالية التي أسهمت فيها صور فنية وشعرية من خلال تشكيل الوعي اليوناني بملاحمه التي من بينها (الإلياذة)، التي ابدع فيها (هوميروس) البطل المخلّص والذي جعل منه المنقذ في الحرب ضد طروادة، إذ جعلت من التجربة التاريخية التي يرى فيها المؤرخ أنها قد وقعت في الفترات الاولى من تكوين الدويلات اليونانية، وقد أعاد (هوميروس) أنتاجها في ملحمة لنسج العلاقات بين الكوائن البشرية .

إنَّ الحرب مع طروادة هي من أجل الزعامة والإخضاع، والصورة  من الصراع الأولي أوجد في الفكر الغربي تجربة متقصدة أبدعها شاعر إغريقي في ملحمته الشعرية، ولكن المهم فيها البطل المخلّص وصورته التي اصبحت الدائرة الأبرز في هذه التجربة المستمدة من أحداث التاريخ، ويرى (والتر كاوفمان) في كتابه (التراجيديا والفلسفة): "إنَ هوميروس لم يسرد أحداث السنوات العشر التي استغرقتها الحرب، ولا حتى أبرز أحداث حرب طروادة، بل هو يختار موضوعاً وحداً، هو غضب (آخيل)، ويقصر قصيدته على زمن محدود بصورة مدهشة . أما الأحداث الواقعة خارج هذا المدى الزمني، والتي يرغب في طرح فإنه يقدمها من خلال الأحاديث . وكان مبدأ الترتيب الذي نظم به قصته هو الصراع وعلى أوضح المستويات، فقد تصور الحرب باعتبارها سلاسل من الصراعات" (8) تؤدي الى بناء صور لعملية بناء الشكل الرائع في صورة البطل الذي يؤول اليه الأمور فيما بعد وصولاً الى أنتاج عملية محكمة في شكل وهيئة البطل المخلّص، ويعمل على جعل الأحداث كلها تدور حول ما يقوم به، أو ما يريد القيام به تجاه من يعارض مواقفه . ولكن يبقى موقف البطل وفياً لصالح المرجعيات العليا التي تتحكم بالصيغ العليا للدولة وليس تجاه مقتضيات المعايير أخرى خارج هذا الفكر، بل إنَّ توجهات (أخيل ) عند (هوميروس) من أجل المصالح العليا لليونان، والذي سيصبح فيما بعد المتمركز الأساسي والمهم في إنتاج وإعادة خلق صورة لتجربة تاريخية متقصدة في الوعي الغربي وهويته الجمالية في هذا المجال . ويمكن أن نؤشر أن (هوميروس) هو صورة للفنان الباصر ومن المساهمين في إنتاج هوية مبتكرة في تجربته الملحمية ذات البعد القصدي في تأسيس وعي جمالي غربي يعمل من أجل المصالح العليا للدولة ولكن على وفق المبدأ وبناء ميتافيزيقيا قائمة على مرجعيات التمركز الجمالي في الثقافة الغربية، قد الهمها قراء هذه التجربة في إيجاد البعد في الذات الغربية . فالفنان في هذه المسألة أصبح من الذين ابتكروا واجتهدوا في إعادة خلق التجربة بطريقة تفعّل النواة الأولى للذات المتمركزة حول البعد التاريخي للهوية الثقافية والجمالية الغربية وللغائية التاريخية من ورائها . وهذه التجربة التاريخية في الصراع مع (طروادة) وإعادة خلق الصراع في (الإلياذة) جعلت من هذا الفكر يركز في صياغة الهوية ذات البعد المعياري القائم على صورة التكامل في انتاج البطل وفي ابتكار الذات المتمركزة على صورة البطل المخلّص، الذي يظهر في وقت  يراد منه أظهار الانتصار والقوة والسيطرة على الآخر المهزوم .

إنَّ التركيز على إعادة خلق البطل المخلّص في الملاحم اليونانية القديمة، تعد عملية تتمحور حول فكرة إنتاج ذات قوية تعيد للماضي أمجاده في صياغات جديدة تشكل النواة الأساسية للبعد المفاهيمي للمعطى الجمالي، وبناء صورة مكملة تنطلق من بطولات الماضي ذات البعد الحضوري في دلالة تعمل على إعادة أنتاج الوعي بذلك التاريخ والتذكير به متى ما ضعف في الذاكرة الجمعية اليونانية، أو بث ظهوره المتكرر للماضي في صورة البطل الفردي القاهر الذي أصبح ملهماً للجماعة في ظهور ثاني وبروز هذه الجماعة التي استمدت من البطل حضورها . ويعني إعادة خلق (آخيل) على مستوى الذات الجمالية المؤسسة، هو ذات بعد دلالي في البناء القصدي في الفكر الغربي وميتافيزيقياه المتمركزة في الذاكرة ذات البعد التوليدي للبطل والبطولة في مراحل أخرى متقدمة . بحث (هوميروس) عن معاني معينه في بطله وفي ما يقدمه للإغريق في ذلك العصر ليشكل من خلالها هوية خاصة لصورة البطل من خلال معايير خاصة بالصورة الملحمة لديه " فقد أستخدم تعبير الرائع، التناسق، الجمال، ففي رأيه كل ما هو جميل ومتناسق ورائع هو واقعي يستطيع الإنسان أن يفهمه ويلمسه بحواسه، فالفن عنده حرفة  " (9)، توظف لهذا الفهم في التكوين الجمالي للهوية في بعدها التاريخي وغائيتها في المقصد لمراد اظهاره فيما بعد في التمركز الغربي .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. (هوميروس) ابن (كريثيس) ابنة (ميلانوفوس)، ولدته أمه على ضفة نهر (ميليس) في ضاحية (أزمير) ودعته ميليسا (جينيس) أي: ابن النهر (ميليس)، رباه (فيميوس) زوج أمه وتعهد بتعليمه حتى كبر وبعد موت (فيميوس) ورث (هوميروس) المدرسة التي كان يملكها (فيموس) فأصبح معلمها الأول، حتى ذاع صيته بين أهاليها وأصبح من المعروفين فيها، ومن مؤلفاته ملحمتي (الإلياذة والأوديسة). ينظر: سليمان البستاني: مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس: الإلياذة، ترجمة: سليمان البستاني، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر،2011،ص14.

2. (الإلياذة) أو (الإلياس) تنسب الى (إليون) عاصمة بلاد (الطرواد)، وهي ملحمة وضعها (هوميروس) تناولت  موضوع واحد هو (غيظ آخيل)، وفي مجمل القصة كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم (آخيل) فانتزعها منه (أغاممنون) وهو ملكهم وأستخلصها لنفسه فعظم الأمر على (آخيل) وكاد يبطش بـ(أغاممنون) لولا أن (أثينا) إلهة الحكمة هبطت من السماء وصدَّته قسراً، وأعتزل (آخيل) القتال هو ومجموعته، بالحرب الدائرة بين الإغريق والطرواد، فاشتدت المعارك بين الطرفين حتى كاد الطرواد ينتصرون على الإغريق، فأرسل الإغريق وفودهم لاسترضاء (آخيل) فما زاد إلا عتواً وكبراً، فوقعت هيبة (هكتور) زعيم الطرواد وابن ملكهم (بريام) في قلوب الإغريق، ومازال الغلبة للطرواد عليهم . فكان لـ(آخيل) صديق حميم هو (فترقل) فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب (آخيل) في معتزله، فألح على (آخيل) من أجل الإشتراك في المعارك، ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد (هكتور) ورجاله يقضون عليهم، وافق (آخيل) على أشتراك صديقه في الحرب وبعد أن نصرهم وكاد يهزم الطرواد أستطاع (هكتور) من قتل (فترقل)، فعلم (آخيل) بموت صديقه فأزداد حزناً وقرر أن يشترك في الحرب، حتى قتل (هكتور) وأذل الطرواد وملكهم (بريام) وأنتصر لدم صديقه وللإغريق منهم . ينظر: سليمان البستاني: مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس:  المصدر نفسه، ص 30،ص32.

3. الأب فؤاد جرجي بربارة: الأسطورة اليونانية، دمشق:الهيئة العامة السورية للكتاب، 2014، ص 12.

4. ريتشارد تارناس: آلام العقل الغربي / فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا الى العالم، ترجمة: فاضل جتكر، أبو ظبي: كلمة، 2010، ص40.

5. م. أوفسيانيكوف، ز. سميرنوفا: موجز تاريخ النظريات الجمالية ، تعريب: باسم السقا، بيروت: دار الفارابي، 1975، ص11.

6. نفسه، ص 11.

7. نفسه، ص 11، ص12.

8. والتر كاوفمان: التراجيديا والفلسفة، ترجمة: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، ص159،ص160.

9. الدكتورة غادة المقدم عذره: فلسفة النظريات الجمالية، بيروت:جروس برس، 1996، ص39.

 

ج) المواطنة الحديثة وصلتها بتقاليد المدنيّة الجمهوريّ

سنقيًم ونقوّم ابتداء من هذا الفصل صلة المفهوم الحديث للمواطنة بتقاليده المدنيّة الجمهوريّة، وسنفحص مساهمته في النّظريّة الدّيمقراطيّة لنتعرّف سويّا مدى توجيهه للقضايا التي تتعلّق بممارسة المواطنة في المجتمع السّياسيّ، لذلك سيتمّ التّركيز على التّفكير المدنيّ الجمهوريّ في هذا الفصل على أن يتمّ تناول النّظريّة الدّيمقراطيّة الحديثة في فصل لاحق.

كموضوعة مؤسّسة لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة أنّه لكي يصبح المواطن فعّالاً يتعيّن إكسابه المهارات اللاّزمة كالمعرفة والوقت، ومنحه الوسائل الضّروريّة للتّنفيذ كالسّلطة والتّفويض، ثمّ تنميّة الدّافعيّة المطلوبة لديه ليتسنّى له أخذ دور في ممارسة المواطنة بشكل جدّيّ سواء من حيث الانتفاع بالحقوق أو من حيث أداء واجبات العضويّة في المجتمع، فالتّأهيل شرط رئيس ولازمة من لوازم تأسيس الفعّاليّة في المشاركة. وممّا هو مطلوب أيضاً في هذا الصّدد العمل بنزاهة وبما يلزم من انسجام مع التّوجّهات الحديثة على إرساء النّمط الحديث في تدبير الشّأن العامّ بتقعيد "لامركزة"، "لاتركيز" و"لاتركّز" السّلطة السّياسيّة والاقتصاديّة ..

حقيقة الاختلاف ثابتة والمدنيّة هي احترام المغايرة

تكتسب المدنيّة بممارسة المواطنة التي تستمدّ زخمها من قوّة الدافعيّة وتأثير حوافز المواطنيّة لدى الأفراد، ولعمري فإنّ الجمهوريّة المدنيّة تبدو أقرب إلى الفلسفة الجماعاتيّة بتأكيدها على ما يختلف به الأفراد بعضهم عن بعض وعن المجتمع، وبما يشتركون فيه ويدمجهم في ذلك المجتمع. وقد تحدّث كل من ميكافيلّي، روسّو ودي توكفيل عن روابط الولاء والالتزام بالمشروع المجتمعيّ المشترك بين مواطني الجمهوريّة، كما تحدّث هيغل عن تحقّقه بالفهم العميق للحياة الأخلاقيّة بمفهومها الحديث حيث يعتبر الاختلاف بين الأفراد في هوّيّاتهم الشّخصيّة وصفاتهم ومصالحهم حقيقة تجريبيّة تخلق الأشكال العليًا للحياة في وجهيها الضّروريّ والممكن في الوعي أو الذّات، وفي أبعادها المتراوحة بين الخاصّ والعامّ. فميكافيلّي قاده إدراك الاختلاف في الموهبة والمقدرة والمهارة بين الأفراد إلى استخلاص حقيقة أنّ الحكومة الجمهوريّة أكثر قوّة ومتانة من الإمارة لأنّ بتلك المهارات يكون الأفراد أكثر مرونة في التّعامل مع أي مشكلة تواجههم. ومن جهته أثنى دي تو كفيل على النّزعة "الفرديّة" معتبرا أنّها أكثر تعبيراً عن الحرّيّة الإنسانيّة التي تتجلّى أرقى أشكالها في اللّيبراليّة السّياسيّة. بينما اعتبر روسّو الاختلاف خطرا كامناً يهدّد الحرّيّة المدنيّة التي لا يمكن ضمانها بنظره إلاّ من خلال الإجماع السّياسيّ مؤكّدا في الوقت نفسه على أنّ إرادة الفرد دليل على قوّة موقفه الأخلاقيّ حينما يُخضِع خصوصيّته للإرادة العامّة التي هي إرادته كمواطن، وأنّ أقوى تحقّق لاستقلاليّتها لديه يكون في ظلّ الجمهوريّة المدنيّة.

الوطنيّة وواجبات المواطنة

يتعيّن بالنّسبة لميكافيلّي ترسيخ الفضائل المدنيّة، وبالنّسبة لروسّو فإنّ تلك الفضائل تعني الحرّيّة المدنيّة، أمّا بالنّسبة لهيغل فهي حرّيّة الذّات. يرى دي تو كفيل أنّ المصالح الشّخصيّة التي تفضي إلى اختلاف الأفراد باختلافها بين كلّ واحد منهم تنمو وتتجذّر بتطوّر الحياة الاقتصاديّة وأنماط العيش، لذلك لم يألُ جهداً في تمييز مصطلحه "تسليط الضّوء على المصالح الذّاتيّة" عمّا يدعوه مونتسكيو الفضائل المدنيّة للتّعبير عن نكران الذّات والولاء لغايات وأهداف المجتمع، ليصبح معناها بحسبه هو نشر الفضائل المدنيّة المعبّرة عن إرادة المشاركة في قضايا الشّأن العامّ التي تجعل الفرد يحدّد مصالحه الحقّة عند الانخراط في خدمة أهداف الجمهوريّة والدفّاع عنها بوصفها ضمانا لمكانته في النّظام السّياسيّ، ووسيلة تمكّن من الوصول إلى حماية المصالح الشّخصيّة. هكذا ينكبّ مواطن روسّو عند ممارسة الحرّيّة المدنيّة على تعزيز مصالحه الشّخصيّة من حيث هي جزء من المصالح التي يشترك بها مع الآخرين، والتي تجد تعبيرها في القانون من خلال إرادة عامة تأتي من الكلّ لتطبق بالتّساوي على الكلّ، بينما يعبّر مواطن هيغل عن الحرّيّة الذّاتيّة عبر الوعي بوحدة الغايات الخاصّة والغايات العامّة للدّولة فلا تتطلّب منه فضيلة المواطنة في الجمهوريّة المدنيّة أيّ نكران للذّات.

واجب المواطنة الجوهريّ

ـ يكتسب مواطنو الجمهوريّة المدنيّة صفة المواطنة عبر الممارسة، أي من خلال النّهوض بمسؤوليّات تحدّد ميزة تلك المواطنة وعبر القيام بواجبات ترتبط أساساً بالدّفاع وبـإبداء الرّأي حول القضايا المشتركة. فالخدمة العسكريّة هي واجب المواطنة الجوهريّ عند ميكافيلّي لأنّها ضمان وحدة واستقلال الجمهوريّة وسلامتها ممّا قد تواجه من تهديد، أيضا لأنّها مساهمة تحمي الحرّيّة، تدعم الجهد التّنمويّ، وتساعد على الاستقرار فتمنح الدّولة قوّة وهيبة.

- ويأخذ مواطنو العقد الاجتماعيّ واجباتهم بجدّيّةِ يشاركون بالرّأي في مشاورات الجمعيّة التّشريعيّة كمواطنِين فيُقدّمون هذا الجزء العموميَّ على مصالحهم الخاصّة، فإن تخلّوا عن أداء هذه الواجبات أو أنابوا عنهم الغير للقيام بها فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى نهاية ممارسة المواطنة فقطّ، ولكن إلى موت الجمهوريّة أيضاً. فبإدراك هذه الحقيقة يكون أداؤهم للواجب لمصلحتهم فيكونون أحراراً باعتبار أنّ إنجاز الواجب من قبل الفرد حرّيّة أخلاقيّة وسلوك فاضل يجعله سيّدا يمكنه الحصول على السّعادة، وبذلك يكون أداء الواجب لا يدعم الجمهوريّة فقطّ ولكن سلوكا ينشد بصدق مصلحة المواطن وهي السعادة.

- أمّا بالنّسبة لهيغل فإنّ إدراك الفرد لما عليه تتوقّف حرّيّة الذّات يُلزِمُه بمطابقة الفعل للبنية المؤسّسيّة للدّولة، ومع ذلك فإنّ المواطنين الذين ينجزون أنشطتهم السّياسيّة من خلال النّقابات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ أو المجلس التّشريعيّ يقومون في الواقع وبأكبر قدر ممكن من النّيابة عن غيرهم ولحساب أنفسهم أيضا بدور الوسيط بين الخصوصيّة الفرديّة والرّوح العموميّة. ومن المعقول جدّا أن يُعتَبَرَ نشاطهم هذا أداء لواجب المواطنة وإن لم يكن هذا متضمّنا في وصف هيغل للنّشاط السّياسيّ.

ويبدو واضحا أنّ واجب المواطنة بحسب ميكافيلّي هو الخدمة العسكريّة التي يعبّر المواطنون من خلالها عن رغبتهم في المخاطرة بحياتهم من أجل الدّفاع عن الدّولة التي أقاموها لبلوغ حرّيّة الذّات عبر إدماج كامل خصوصيّاتهم في الحياة الأخلاقيّة العامّة للدّولة. كما يبدو من تحليل دي توكفيل للحياة السّياسيّة الأمريكيّة أنّ إحدى واجبات المواطنة هي الدّفاع عن الوحدة. فالمواطنون يؤدّون واجباتهم بشكل اعتياديّ طبقاً لما يحملون في وعيهم من أحكام عن قضايا الشّأن العامّ في منطقتهم، ويعتبر هذا دليلا على اهتمامهم بمصالح أكبر من مصالحهم الشّخصيّة. ومثال ذلك ما يقدّمون في المجالس التّشريعيّة وفي مختلف الجمعيّات التّطوّعيّة، لذلك يعرب دي توكفيل عن تخوّف مفاده أنّه إذا حرّض المواطنون على الانسحاب من التّنافس حول خدمة قضايا الشّأن العامّ فإنّهم لن يهتمّوا سوى بالسّعي وراء المكاسب المادّيّة فقطّ، وعندئذ لن تعني الحرّيّة السّياسيّة بالنّسبة لهم أكثر من هذا.

الحسّ الوطنيّ والتّضامن

إنّ الحسّ الوطنيّ أو حبّ الوطن الذي ينعته هيغل بالعاطفة السّياسيّة هو الخصّيصة التي تعبّر عن الرّغبة في القيام بالواجبات العامّة في الجمهوريّة المدنيّة، والتي عبرها يظهر الولاء للمجتمع وبممارسة المواطنة تتعزّز. إنّه يقوم كما يرى دي توكفيل على تفكير المواطن بمصالحه الحقّة أي بمعناها الواسع، وفي هذا السّياق تجدر الإشارة إلى مسـألة الحرب في الفكر السّياسيّ لميكافيلّي وهيغل، فالأوّل يعتبر الفضائل العسكريّة والدّفاع عن الدّولة تعزيزا لممارسة المواطنة؛ بينما يعتبر الثّاني المخاطرة بالحياة من أجل الدفاع عن الدّولة دليلا على حرّيّة الذّات. فالحسّ الوطنيّ أو العاطفة السّياسيّة الوطنيّة موجود لدى جميع المواطنين وإن بشكل كامن يظهر للعيان إذا تعرّض المجتمع للتّهديد، وليست الحرب وحدها ما يخلق التّضامن بين المواطنين ولكن أيضا أيّ شكل من أشكال نزع الاستقلاليّة عن المجتمع. ينطبق هذا على الدّولة بأكبر قدر ممكن، كما ينطبق على الوحدات السّياسيّة المحلّيّة داخلها كالجمعيّات التّطوّعيّة عند دي توكفيل أو الهيئات والمؤسّسات عند هيغل.

المواطنة والمشاركة

تشغل المشاركة حيّزا مهمّا من الفكر الجمهوريّ تمثّل وجهة نظره في أيّ نقاش حول ممارسة المواطنة، فهي جزء طبيعيّ من نشاط المواطنين في أداء الواجبات لذلك كان حجم الدّولة محلّ معالجة من قبل هيغل ودي توكفيل على خلاف روسّو الذي رأى ضرورة أن تكون الدّولة صغيرة لكي يكون الفرد مواطنا بالمعنى الكامل للمواطنة. ففي تحليل ميكافيلّي للجمهوريّة الرّومانيّة يساهم المواطنون مع أنّهم أقلّيّة بين رعايا الرّومان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في التّشاور والتّداول حول القضايا العامّة في الجمهوريّة.

لقد أدرك هيغل أنّ فرص الحياة السّياسيّة محدودة لذلك رأى من الضّروريّ أن تساعد الدّولة على تشكيل هيئات ومؤسّسات اجتماعيّة توفّر للمواطنين فرصا أكثر، فهذه الهيئات والمؤسّسات بنظره من المقوّمات الأخلاقيّة للدّولة التي لها مصلحة فيما تقوم به من وظيفة الوساطة تحقّق لها ولأعضائها غايات عامّة. ومع أنّ نقاش دي تو كفيل عند التّطرّق لوظائف المؤسّسات التّطوعيّة المدنيّة كان أقّل صرامة فلسفيّة من هيغل إلاّ أنه لفت الانتباه في تحليل الفيدراليّة الأمريكيّة إلى حقيقة أنّه إذا كان للحرّيّة السّياسيّة معنى في دولة كبيرة فإنّ الواجب السّياسيّ يقتضي منها تفكيك مركزيّتها وتوزيع المسؤوليّات بطريقة محصّنة حتى لو أدّى هذا إلى فقدان فعّاليتها على العموم. إذ لا تـُمارس الحرّيّة السّياسيّة بمعناها الأتمّ إلاّ في المحلّيّات حيث يمكن أن ينتقل المواطن بسهولة من المصالح الخاصّة إلى الوجبات العامّة، لذلك يتعيّن على هذه المحلّيّات ضمان حرّيّة المواطن واستقلاليّته وإلاّ فإنّه لن يحسّ بقيمة مشاركته في المشاورات حول قضايا الشّأن العامّ.

المواطنة والقيادة السّياسيّة

حينما يؤكّد الفكر المدنيّ الجمهوريّ على المواطنة فإنّه لا ينكر أو يستهين بالحاجة إلى القيادة السّياسيّةّ، لأنّ الحكومة الجمهوريّة حكومة مختلطة وليست حكومة الدّيمقراطيّة المباشرة، فعندما تكون الجمعيّة التّشريعيّة هي صاحبة السّيادة تكون الدّيمقراطيّة حقيقيّة، ويكون الاهتمام منصبّا على شكل الحكم وعلى النّظام القانونيّ. لم يحتلّ الحكم سوى مكانة ثانويّة في تفكير روسّو الذي رأى أن لا ضير في أن يكون ملكيّا أو أرستقراطيّا طالما يطبّق القانون الذي به تتحقّق السّياسية الجمهوريّة. ومن غير الحكمة بالنّسبة له أن تطلق صفة الدّيمقراطيّة على حكومة تتعامل مع القانون تعاملا أداتيّا أو بانتقائيّة استجابة لظرفيّة خصوصيّة أو فرديّة.

فوظيفة الحكومة عند روسّو هي الحفاظ على كافّة المؤسّسات مع ضمان أداء المواطنين للواجبات، وهي نفس وظيفة القيادة السّياسيّة في فكر ميكافيلّي متمثّلة في الاستجابة للأزمات ومعالجتها بفعّاليّة عند إلغاء المَلَكِيّة وتأسيس الجمهوريّة. إنّ القادة يقدّمون للمواطن مثلا في الإخلاص وفيما يأمل النّاس رؤيته ساريا بينهم من القيم الجمهوريّة، وبهذا يؤدّون أدواراً بطوليّة يمكن قياسها على دور المشرّع في سنّ التّشريعات.

أمّا عند هيغل فتتجلّى سلطة القيادة السّياسيّة بشكل واضح في الحكومة الملكيّة الدّستوريّة والطّبقة العامّة من موظّفي الخدمة المدنيّة، وهي بالنّسبة للمواطن رمز الوحدة الفعّالة لإرادة الدّولة. فالملكيًة التي تحدّث عنها هيغل في زمنه هي ملكيّة تنفيذيّة مدعومة بطبقة عامّة وظيفتها تطبيق الغايات التي تحدّدها أجهزة الدّولة ومؤسّساتها على الحالات والمصالح الخاصّة للأفراد.

بالمقابل، اعتبر دي توكفيل أنّ القيادة السّياسيّة في الدّستور الأمريكيّ رمز للوحدة فقطّ، لهذا لم يتوقّع للرّئيس دورا أكثر من ذلك، فالضّامن الأسمى للحرّيّة السّياسيّة بنظره هو الاعتقاد الدّينيّ الذي إذا فشل فلن تعادل القيادة السّياسيّة دوره في حماية الأعراف الوطنيّة وغرسها في صميم ممارستها لأن مهمّة تلك القيادة في الجمهوريّة المدنيّة كما يراها هي التّعامل مع الضّعف البشريّ ومع الجهل ليس إلاّ. وبالإشارة إلى الجوانب النّاجمة في مجملها عمّا يفضي إليه الجهل والأنانيّة من إعاقة تحجب رؤية الفرد لمصالحه الحقّة أو تجعله أميل لنسيانها كتب ميكافيلّي وروسّو عن الوجود الملائم والخير وكيفيّة تشكيل الوعي عبر القيام بدور المشرّع الذي له أن يمدّ النّاس بالقرارات المميّزة لكن لا يمكنه قولبتهم بهذه الطّريقة أو تلك رغبة في القضاء على الضّعف الإنسانيّ.

المواطنة والدّين المدنيّ

وفي سياق الحديث عن الدّين المدنيّ كتب روسّو عمّا تحتاج إليه ممارسة المواطنة من مؤازرة وإسناد، فمهمّة الدّين سواء بالنّسبة لميكافيلّي أو روسّو أو دي توكفيل هي مدّ يد العون للضّعف الإنسانيّ بما يدعم الإرادة ويمنحها القدرة والقوّة في أداء الواجب المدنيّ. أمّا بالنّسبة لهيغل فقد كانت مقاربته للدّين مختلفة حينما اعترض على الموقف المسيحيّ الذي يضع التّحرّر والخلاص النّهائيّ للرّوح في العالم الآخر، بينما الحقيقة الموضوعيّة التّاريخيّة للرّوح  تسعى إلى التّحقّق في هذا العالم وليس في غيره. وهو ما دفع إلى اعتبار فلسفته السّياسيّة علمنة للدّين. إنّ التّوفيق الفلسفيّ هذا ضروريّ للتّقدّم التّاريخيّ الذي ينجزه الأفراد بممارسة حرّيّاتهم الذّاتيّة، قد لا يدعم الدّين كثيرا أداء واجب يُعْرَفُ من مصادر أخرى غيره فيلزم التّوفيق الفلسفيّ بطريقة سقراط الذي اعتبر أنّ معرفة الواجب تنشأ عندما ينتفي الجهل.

سؤال تعزيز المواطنة

تمتدّ المطالبة بتعزيز المواطنة إلى ما هو أبعد من الدّين الطّبيعيّ، فقد كتب ميكافيلّي عن القانون، وروسّو عن التّربيّة، وكلاهما عن الأعراف والعادات والقواعد الأخلاقيّة وطرق غرسها في ذهن الفرد المواطن، ويظلّ السّؤال قائما: كيف يمكن تحقيق الانسجام في الاستقلاليّة الأخلاقيّة للمواطن في كافّة مجالات الحياة؟.

***

د. علي رسول الربيعي

جامعة ابيردين

.............................

المصادر

Benhabib, S(ed), Democracy and Difference (Princeton, Princeton University Press, 1996).

Brubaker,R., Citizenship and Nationhood in France and Germany (Cambridge, Mass., Harvard University Press, 1992).

مفتاحُ تفسير كلِّ كتاب هو الكتابُ نفسُه، لأن نصوصَه مُضاءٌ بعضها بالبعض الآخر، سواء كان كتابًا مقدّسًا أو غيره. آياتُ القرآن الكريم تفسِّر إحداها الأخرى، وذلك ما دعا أكثر من مفسِّرٍ لتبنى تفسير القرآن بالقرآن. ويعدّ هذا المنهج من أدق مناهج التفسير الموروثة، غير أن مَن اعتمده لم يكن استثناء، فكان اختيارُه لتفسير آيةٍ بآية وكلمةٍ قرآنية بآية وآيةٍ بكلمة يخضع لرؤيته للعالَم وتكوينِه المعرفي ومعتقده ولغته الأم.

القرآنُ الكريم ليس ديوانًا للشعر، أو كتابًا في الفلسفة، أو التاريخ، أو الجغرافيا، أو العلم، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الرياضيات، أو غير ذلك من أجناس الكتابة. القرآنُ كتابٌ متفرّدٌ ليس كمثله كتابٌ، لا يشبه غيرَه ولا يشبهه غيرُه، حقيقتُه أنه قرآنٌ وكفى. القرآنُ مفتاحُ بوابة الارتواء من منابع النور، وضوءٌ لبصيرة مَنْ ينشد بناءَ صلة وجودية بالله. كان وما يزال وسيظل هذا الكتابُ الكريمُ يوقظ صوتَ الله داخل الانسان. القرآن منجم عظيم، لا يفصح هذا المنجم عن كنوزه إلا بمفاتيح يمتلكها ذوي البصيرة النورانية. القرآنُ الكريم مرآةٌ يتجلى فيها الله، وذلك ما يقرأه كلُّ متدبّر لآياته "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"[1]، ويراه كلُّ مَنْ توقظ قلبَه الأنوارُ الإلهية، وتتذوق روحُه الإشراقاتِ الرحمانيةَ. ذلك ما يشير إليه قولُ الإمام جعفر الصادق "ع": "لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون"[2].

القرآنُ الكريم يركزُ على الغيب بشكل مدهش، وذلك يعني كثافة حضور ما هو ميتافيزيقي في دلالاته، عالَمُ الغيب لا نفقه منه شيئًا إلا بحدود ما تشير إليها لغةُ الغيب الرمزية. لا طريقَ للتعرّف على ما ينتمي إلى عالَم الغيب إلا أن نستنطقَ القرآن، القرآنُ يحدّدُ نوعَ المعنى الذي تنطقُه لغةُ الغيب. القرآنُ يتحدّثُ عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدّث عن الطبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ لغة الغيب وآياته تأويلًا يخضعها لمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. الإصغاء لنداء الوحي هو النافذة الوحيدة للإطلالة على الغيب واكتشاف آفاقه. كلُّ لغة تتحدثُ عن الغيبِ لا تتحدثُ بلغة العلم، لغةُ الغيب ترسمُ صورةً مألوفة لتقريب ما لا صورةَ له إلى ذهن الإنسان. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقية في القرآن فضاءٌ لعالَم الأسرار. في لغة القرآن يمكن تمييزُ نوعين من الدلالات، دلالاتُ آياتٍ تتحدّثُ عن الغيب، لغتُها تمثيلٌ ومجازات وكنايات واستعارات وتشبيهات ورموز تشيرُ لحقيقةٍ لا مرئية ولا محسوسة ولا صورة لها، ودلالاتُ آياتٍ لغتُها تتحدّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطبيعة، هذه اللغةُ تتبادر لنا دلالاتُها الظاهرة، ونتعرفُ على معاني كلماتها عبر الاستعمال، وفي معاجمِ اللغة، وما تكشفُه العلومُ المتنوعة من عناصرها وتركيباتها وخصائها وآثارها[3].

القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنظرِ فيه بتدبّرٍ نلحظ أن حضورَ الله يتفوّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ لله لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيّ كتابٍ مقدّسٍ آخر في الأديان. ورد ذكرُ اسمِ "الله" 2699 مرّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوّعةِ في القرآن لتجاوز هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرّر ذكرُ كلمة "رب" 124 مرّة. الكثافةُ اللافتةُ لحضورِ "الله" وأسمائِه وصفاتِه المتنوّعةِ تدلّل بوضوحٍ على أن القرآنَ يشدّد على الإيمانِ بالله، ويجعله حجرَ الزاوية في بناء الحياة الدينية في الإسلام، ويؤشر إلى ضرورة وصل نظام القيم في الحياة الفردية والمجتمعية بالله، بالمعنى الذي يصير فيه الإيمانُ بالله منبعًا مُلهِمًا للحق والعدل والخير والسلام والمحبة والجمال في العالَم، وخلص الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. وتظهر القيمةُ العظمى للإيمان في تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي. فهذا الاغترابُ يُفضي إلى استلابِ ذات الكائن البشري، لأنه اغترابٌ لكينونة هذا الكائن عن وجودها، ومن هذا الاغتراب يحدث القلقُ الوجودي، إذ بعد أن تنقطعَ صلةُ الإنسان الوجوديةُ بإلهِهِ، تُستلَب ذاتُه ويفتقدها، وعندما يفتقدُ الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال الهشاشة والتشظّي، وربما يتردّى إلى حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانية. ‏

ابتكر القرآنُ نظامَه الدلاليَّ الخاص، فأسّس شبكةَ علاقات دلالية محورهُا الله والرؤيةُ التوحيدية للوجود، وكلُّ المفاهيم الأخرى مشبَعةٌ بدلالتها، لأنها تصدر عنها وتنتمي إليها. لا تحتفظ الكلماتُ العربية المستعملة في معجمِ القرآن بالضرورةِ بدلالاتها السابقة في اللغة، بعد أن وظّفها القرآنُ في حقله الدلالي، ودخلت في شبكة العلاقات الجديدة التي محورها اللهُ والرؤيةُ التوحيدية للوجود. يشرح توشي هيكو إيزوتسو (1914-1993) ذلك بقوله: "إن المفاهيم لا توجد منعزلة وحدها، بل تكون دائمًا منظمة إلى أقصى حد داخل نظام أو أنظمة... هذا يعني أن كلمة (كتاب) البسيطة بمعناها البسيط، حالما أُدخلت في نظام خاص، ومنحت موقعًا محددًا ومعينًا فيه، اكتسبت العديد من العناصر الدلالية الجديدة الناشئة عن هذا الوضع الخاص، وعن العلاقات المتنوعة التي شكلتها لتحملها إلى المفاهيم الرئيسية لذلك النظام. وكما يحدث غالبًا، فإن العناصر الجديدة تميل إلى التأثير بعمق في بنية المعنى الأصلي للكلمة، بل إلى تغييرها جوهريًا"[4].  ويكتب إيزوتسو في موضع آخر: "إن هناك نوعًا من التماسك المفهومي في الرؤية القرآنية للعالَم، وإحساسًا بنظام حقيقي يقوم على مفهوم الله ويتركز حوله، وهو ما لم يكن موجودًا في النظام الجاهلي. من أجل هذا كل الحقول الدلالية وتبعًا لذلك كل المصطلحات المفتاحية في هذا النظام الجديد تقع تحت سلطة هذه الكلمة - المركز العليا. وفي الحقيقة لا يمكن لشيء أن يفلت منها، ليس فقط تلك المفاهيم التي ترتبط مباشرة بالدين والإيمان بل كل الأفكار الأخلاقية، حتى المفاهيم التي تمثل الأوجه الدنيوية، مثل الزواج والطلاق والإرث والمسائل التجارية، كالعقود والديون والربا والمكاييل والمقاييس... إلخ، كلها قد تم إدخالها في علاقة مباشرة مع مفهوم (الله)"[5].

في ضوء ذلك، على مَنْ يريد أن يفسِّرُ القرآنَ أن يكتشف حقلَه الدلالي وشبكةَ علاقات الكلمات في سياق آياته، بوصفها اصطبغت برؤيتِه التوحيدية للوجود. وذلك ما لم يتنبه إليه بعضُ المفسّرين الذين ضاعوا في متاهات المعاني اللغوية للكلمات، أو الدلالات البديلة الغريبة على نظامه الدلالي، التي أسقطتها على الحقل الدلالي للقرآن بيئاتٌ ثقافية وقيمُ ومفاهيم مجتمعات متنوّعة دخلت الدينَ الجديد، بعد امتداد عالَم الإسلام من الأندلس إلى الصين، وتشبّع شيءٌ من كلماته بدلالات الفلسفة اليونانية وغيرها في عصر الترجمة، وبمرور الزمان خضع تفسيرُ آياته لحقل دلالي مشبع برؤية كلامية فقهية. في العصور التالية لعصر البعثة الشريفة تسيّدت الحياةَ الدينية، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقةٌ من رؤية علم الكلام والفقه. تحضرُ الذهنَ غالبًا في عملية التفكير بالدين الكلماتُ المشبعة بدلالات لغة الكلام والفقه، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التعليم الديني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التواصل لا يخرج المتكلمُ عن الحقل الدلالي الكلامي والفقهي إلا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقي إلا المعنى الراسخُ في هذا الحقل الدلالي. في الحياة اليومية للمسلم، حينَ يتحدثُ عن أيِّ شأن يتصلُ بالدين، يتكررُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلامية وفقهية، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتصلُ بالدين يستقي من هذا الحقل الدلالي. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم المتأخرين لا يرون معنًى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدينية خارج أُفق رؤية المتكلمين والفقهاء للعالَم.

اللغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحُّ توصيفُها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأيّ معنى. اللغةُ ترسمُ خارطةً للذهن، وتحدّدُ مساحةَ التفكير ومدياته وكيفيته. اللغةُ بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عملية التفكير. اللغةُ ترسم الرؤية للعالَم، يقول فيلهم فون همبولد (1767-1835): "من خلال الارتباط المتبادل بين الفكر والكلمة يصبح بديهياً أن اللغات ليست وسائل لتمثيل حقيقة معروفة من قبل، بل هي أكثر من ذلك، إنها وسائل للكشف عن الحقيقة غير المعروفة بعد، وإن تنوع اللغات، إذاً، ليس تنوعاً في الأصوات والعلامات فحسب، بل تنوع في رؤى العالم"[6]. مادام مضمونُ لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدين ومفهومه وأدوات قراءة القرآن والسنة قلّما تتجاوز رؤيةَ المتكلم والفقيه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

........................

[1] محمد، 24.

[2]  المجلسي، محمدباقر، بحار الأنوار، ج 89، ص 107، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[3] الرفاعي، عبدالجبار، مناقشة الرؤى الرسولية لعبدالكريم سروش، جريدة الصباح، بغداد، الصادرة في 22-9-2022.

[4] إيزوتسو، توشي هيكو، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالَم، ترجمة، هلال محمد الجهاد، ص 66، ط1 ، 2007، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

[5] المصدر السابق، ص 78.

[6] الزواوي بغوره، اللغة ورؤية العالم، في: كيف تعمل اللغة وتؤثر علينا، اعداد: عبد العزيز العوضي، ص 20، 2019، صوفيا حروف، الكويت.

 

إذا كانت الميكافيليّة (Machiavellianism) كفلسفة وفقاً لتعريف قاموس أوكسفورد الإنجليزي: "هي "توظيف المكر والازدواجيّة (الخداع) في الكفاءة السياسيّة أو في "السلوك العام". فهي أيضاً مصطلح يعبر عن مذهبٍ سياسيّ في إدارة الدولة والمجتمع، يقوم على تطبيق مقولة "الغاية تبرر الوسيلة". وهذا التوظيف السياسيّ لهذه العبارة أو المقولة، راح يتجلى بشكل واضح في مفهوم الدولة التي رسم ملامح قائد هذه الدولة ميكافيلي في كتابه " الأمير"، والتي هي أقرب إلى الدولة الشموليّة التي يقودها فرد بسلطات مطلقة. هذا ويعتبر كتاب "الأمير" من أهم الكتب التي اعتمدت مرجعا في مضمونها عند من امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين، إن كان في الأنظمة الملكيّة، أو الجمهورية لا فرق، فـ (الأمير) هو السيد المطلق، الذي يرسم سياسة الدولة وتطبيقاتها العمليّة في خطوطها الاستراتيجية.

إن الدولة والنظام السياسيّ في المفهوم الميكافيلي، يقومان على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين. والتركيز على أهميّة القهر وعلاقات القوة من قبل الحكام للمحكومين، وتعتبر سيطرة القلة أو النخبة المكوّنة من الأمير وحاشيته، هي التي يجب أن تسود. فـ“البشر (الشعب) عند ميكافيلي غير شاكرين للجميل، وهم متقلبون وكذابون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر أو المسؤولية، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروري للحاكم أن يتعلم بأن لا يكون صالحا معهم”. لذا يقول “مكيافيلي”: على الحاكم أن يتظاهر بالرحمة والوفاء والنزاهة والتدين، وإن كانت فيه هذه الصفات حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهبا للتخلي عن كل هذه الصفات والعمل بضدها إذا اقتضى الأمر، والتحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة. (1).

إن هذا المبدأ الذي تبناه نيكولو مياكافيلي المفكر والفيلسوف والسياسيّ الإيطالي في القرن السادس عشر، جعله يعتقد أن صاحب الهدف، باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها أيا كانت وكيفما كانت دون قيود أو شروط. لذلك كان هو أول من أسس لقاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، حيث اعتبرت هذه القاعدة الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل سياسيّ  أو حاكم يعتقد أو يؤمن بأن الدولة ملكاً له أو هي حق طبيعي له ولأسرته وراثياً. لذلك سمى ميكافيلي كتابه الشهير بـ (الأمير)، وبالتالي فقاعدة الغاية تبرر الوسيلة يضعها (الأمير) نصب عينه ويتبناها لتبرر له الاستبداد وممارسة الطغيان والفساد الأخلاقيّ إن اقتضى الأمر. ويرى ميكافيلي كما بينا في موقع سابق، ضرورة استخدام العنف و القوة من قبل القائد السياسي، مبررا ذلك بأن العنف يولد الخوف، والخوف أساسيّ من أجل السيطرة على الشعوب - حسب اعتقاده - ومن لم يفعل ذلك لا يعتبره قائدا سياسيّاً ناجحاً. (2).

بيد أن السؤال المشروع هنا، يطرح نفسه بالضرورة وهو: أيعقل أن يُترك المرء لاختيار أيّة وسيلة يريدها لفرض سيطرته دون أن يضع لها معايير تحفظ المجتمع من الدمار والقتل والتفكك والفساد.؟. فتصبح الحياة بناء على هذه السلوكيّة مليئة بالفوضى، وبعيدة كل البعد عن النظام الذي يحفظ الأمن والأمان للفرد والمجتمع. فكيف لحياة أن تقوم على قاعدة سياسيّة تبرر للحاكم سلب الأمن والأمان من الحياة اليوميّة لشعبه، ومنحه القدرة على سجن وتعذيب وتشريد وحتى قتل هذا الشعب إذا اقتضت الحاجة.؟!. ومن ثم تبرر للأخ قتل أخيه.؟!.

يعتقد ميكافيلي بالتفصيل في كتابه الشهير ” الأمير ” بأن تلك النظرة اللاأخلاقية للسلطة أمر طبيعيّ. فبالنسبة لـه ليس ثمة أساس أخلاقيّ يمكن أن نفرق به بين الممارسات الشرعيّة وغير الشرعيّة للقوة. ولكن السلطة والقوة يستويان بالضرورة عنده، وكل من يمتلك القوة له الحق أن يقود الدولة والمجتمع، ولكن الخير لوحده برأيه لا يضمن القوة، والشخص الفاضل ليس مميزا بفضل كونه خيّرًا.. وهكذا وفي تضاد مباشر مع النظريّة الأخلاقيّة للسلطة يقول ميكافيلي :إن الهم الوحيد للحاكم السياسيّ هو اكتساب القوة والحفاظ عليها (على الرغم من أنه يتكلم عن ” الحفاظ على الدولة ” أكثر من حديثه عن القوة). بهذا المعنى ينتقد ميكافيلي بشدّة مفهوم السلطة، مجادلاً بأن مفهوم الحقوق الشرعيّة للحاكم لا تضيف شيئًا إلى الامتلاك الفعليّ للقوة. والناس مجبرون على الانصياع المجرد لسلطات الدولة العليا. والإكراه هو ما يجعل الناس تحترم السلطات العليا للدولة. لذلك هو يقول: (لو كنت أظن بأنني لست مجبراً أن أخضع لقانون ما، فما الذي سيحملني حقًا على الخضوع له؟، لا شك أنه الخوف من قوة الدولة أو الممارسة الفعليّة لهذه القوة. فقط القوة هي التي ستحسم أمر تنفيذ الرؤى المتعارضة حول ما يجب علي أن أفعله، سأختار العصيان فقط إذا كنت أمتلك القوة لمقاومة مطالب سلطات الدولة، أو سيكون لدي الاستعداد لتحمل عواقب تميز الدولة بالقوة القسريّة.).(3).  ويتبدى معنى أن يكون الأمير كفؤًاً لدى ميكافيلي، هو أن يكون لدى الأمير قبل كل شيء ” تصرفًا مرنًا”. فالحاكم المناسب للمنصب كما بينا في موقع سابق، هو ذاك القادر على تغيير سلوكه من الخير للشر والعكس بالعكس كلما أملت الظروف والحظ. وبالتركيز على ادعاء ميكافيلي في ”الأمير” أن رئيس الدولة يجب أن يكون خيرا متى استطاع ذلك، ولكنه يجب أن يكون مستعدًا لارتكاب الشر متى توجب عليه ذلك أيضاً. (4).

على العموم، يبقى مفهوم سلطة ” الدولة” عند ميكافيلي إرثا شخصيًا، أو ملكاً، وهو أكثر تماشياً مع مفهوم القرون الوسطى التي عاشت النظام الملكيّ الوراثيّ كأساس للحكم. ففكرة النظام الدستوريّ المستقر الذى يعكس جوهر الفكر السياسيّ الحديث وكذلك ممارسة هذا الفكر، ليس لهما مكاناً  في مفهوم ميكافيلي عند حكومة الأمير، هذا رغم أنه يمدح النظام الجمهوريّ، معتبراً « أن الفضيلة الموجودة لدى الشعب في النظام الجمهوري تفوق ما يوجد منها عند الأمير»، مثلما يرى أن النظام الجمهوري يتصف بحساسيته السياسيّة وقابليته للتطور والتجدد، وهو الأكثر احتراماً للاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة من النظام الملكيّ. ولكن (الأمير) مهما كانت طريقة وصوله إلى العرش، فإنه مضطر إذا أراد البقاء في السلطة، أن يراعي سلوكا ما محددا بدقة، أي أن يخضع لبعض القواعد العمليّة. وهذه القواعد العمليّة، هي استخدام العنف والقسوة وعدم الرأفة وعدم الوفاء بالتعهدات والكذب إذا اقتضى الأمر، ولذلك، رفض ميكافيلي آراء منظري عصره الذين قالوا إن الأمير مطالب بأن يكرس نفسه لحياة الفضيلة من أجل تحقيق الشرف والمجد والشهرة. (5).

لا شك أن ثمة علاقة بين الخير الأخلاقيّ وشرعيّة السلطة. حيث اعتقد العديد من المؤلفين الذين عاشوا عصره (خصوصا الذين كتبوا كتب “مرايا الأمراء / الأداب السلطانية” أو كتب النصائح الملكية خلال العصور الوسطى وعصر النهضة)،(6). حيث تُبَيْنُ هذه الكتب أن استخدام القوة  السياسيّة مشروعًا فقط إذا كان الحاكم يتمتع بشخصيّة فاضلة تمامًا من الناحية الأخلاقيّة. وهكذا كان يتم نصح الحكام من قبلهم إذا ما أرادوا النجاح، لو كانوا يرغبون في حكم طويل وسلمي، ومن ثم تمرير السلطة إلى ذريتهم، فيجب عليهم الالتزام بالمعايير التقليديّة للصلاح الأخلاقيّ. أو بمعنى ما، كانوا يعتقدون أن الحكام الجيدون هم الذين يفعلون الخير، ويكتسبون الحق في الطاعة والاحترام بقدر ما يظهرون أنفسهم فضلاء وأخلاقيين.

تظل هناك مسألة على غاية من الأهميّة يشير إليها ميكافيلي بالنسبة لموقف الأمير إذا ما شعر بأن دولته تتعرض لخطر يهددها من الداخل أو من الخارج، فالأمير الذي يُفرض عليه أن يطلب معونة دولة صديقة للحفاظ على وجوده، عليه أن ينتبه بأن الدولة التي تقدم له المعونة لن تقدمها مجاناً له، حيث يقول : (إذا طلب حاكم من دولة قويّة مجاورة أو صديقة أن تتدخل لمساعدته فهذا أمر جيد، ولكن الأمر سيكون في غاية الخطورة "إذا ذهبت قوة هذه الدولة أو أصابها خلل في استقرارها الداخلي بفعل ظروف داخليّة او خارجية"، لأنها ستجره معها إلى الهاوية، وإذا انتصرت فإنه يصبح تحت رحمتها، وباختصار فإن سلاح الغير إما أن يسقط عن كتفيك، وإما أن يثقل كاهلك ويشل حركتك). (7).

تظل في العموم نظرة ميكافيلي ودولته سيئة الصيت في تاريخنا المعاصر، فالحياة تطورت منذ القرن الخامس عشر حتى اليوم في جملة حياة الناس وقضاياهم ومنها قضيّة الدولة، فالأنظمة الشموليّة سقطت في المفاهيم الدستورية والدولة الحديثة عند الشعوب المتحضرة، فأصبح الشعب هو من يشكل الدولة ونظامها الدستوريّ وشكلها وآليّة عملها، أما الدول التي لم يزل يقودها فرد مستبد في سلطاته فهي تقف اليوم على عتبة النهاية، وقد أثبت التاريخ وأحداثه فشلها حتى ولو كان الحاكم مستبداً عادلاً، فالعدل والاستبداد لا يلتقيان، وإن حاول بعض الحكام العمل على السير على هذا الطريق فهم يعملون على ليّ عنق التاريخ.

يرى بعض النقاد العرب، أن نظريّة الدولة الميكافيليّة لم تعد تنطبق على الحالة العربيّة في تاريخنا المعاصر، فالعرب على ما يبدو وكما تشير ما سميت بثورات "الربيع العربيّ" أنهم يتنفسون السياسة من رئة واحدة، وإذا حصل تحرك سياسيّ في بلد تداعت له معظم البلدان الأخرى بالثورة والحراك، ما يستدعي مثال “أحجار الدومينو” في هذه الحالة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

........................

الهوامش

1- موقع الجزيرة نت - كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف - حسن العدم.

2- صلاح شعبان – موقع الجزيرة نت - 4/1/2017.

3- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا.

4- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا. المرجع السابق.

5- موقع عربي -  وجهان مختلفان لمكيافيلي (2-2) - حسين عبد العزيز.

6- في العمل الفني «مرايا الأمراء»، تمت دراسة عوالم الأمراء وتحديد واجبات الأمير. وهناك أعمال فنية أخرى قدمت مرايا التاريخ أو العقائد أو الأخلاق. راجع حول هذه المسألة بشكل مفصل – ويكيبيديا – أدب المرايا.

7- راجع موقع الجزيرة نت - كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف - حسن العدم.

 

 

ب) أيّ مفهوم للمواطنة نريد؟

يفترض التّصور الكلاسيكيّ للمواطنة الجمهوريّة سيطرة الدّولة على المجتمع السّياسيّ في مرحلة أولى على أنً يوحّد المواطنون أنفسهم مع ذلك المجتمع في مراحل لاحقة، لذلك يرى أرسطو كما روسّو أنّ المواطن معنيّ بأن يكون لديه حافز قويّ للمشاركة بفعّاليّة في الحياة السّياسية ليس فقطّ من أجل تحصيل المصالح الخاصّة وإنّما من أجل  تحقيق النّفع العامّ. 

والحقيقة أنّ هناك ثلاث وجهات نظر مختلفة تناولت مفهوم المواطنة وهي: اللّيبراليّة بما تطرح من شكّ في مدى ملائمة ومعقوليّة المواطنة الجمهوريّة في الدّولة الحديثة، والجماعاتيّة ثمّ الجمهوريّة اللّتان تطرحان أسئلة جدّيّة عن مرغوبيّة هذا التّصوّر، وفيما يلي بعض ما تقدّم هذه الرّؤى الثّلاث من اعتراضات على المواطنة.

1ـ وجهة نظر اللّيبراليّة:

لا تنظر اللّيبراليّة إلى المواطنة أكثر من كونها مجموعة من الحقوق التي تلزم الدّولة بتنميتها والحفاظ عليها، والتي لا تلزم المواطنين بالمشاركة في النّشاط السّياسيّ لأنّ تلك المشاركة من خلال الرّأي ليست ضمانا للصّالح العامّ طالما الحقوق الأساس مكفولة لجميع أفراد المجتمع بالتّساوي، وطالما الأغلبيّة لا تنتهك حقوق الآخرين فلها أنْ تهتمّ بشؤونها.

فالمنظور اللّيبراليّ يعتبر التّصوّر الجمهوريّ للمواطنة ملائما بالأحرى لمجتمعات سياسيّة صغيرة يتقابل أفرادها وجها لوجه كأصدقاء، لكنه غير واقعيّ ولا عمليّ حينما يتعلق الأمر بمجتمعات كبيرة متعدّدة الطبقات متنوّعة الفئات تضمّ طوائف وإثنيّات مختلفة كالمجتمعات الصّناعيّة الحديثة حيث يتعذّر على النّاس أن يتّفقوا مسبقا على معنى محدّد للخير العامّ في ظلّ مصالح متنافسة غاية الطّموح أن يتمّ الوصول بشأنها إلى تفاوض سلس بطريقة منصفة. فمن غير المتوقّع أنً يخصّص النّاس وقتا كثيرا للمشاركة في هذه المجتمعات المعاصرة مع أنّ فضيلة السّياسة المنفتحة للنّظام الدّيمقراطيّ تسمح بتشكيل ائتلافات في أوقات مختلفة تمكّن الخاسر من أن يفوز في فرصة أخرى.

يستفيد التّصوّر الجمهوريّ من المفهوم الليبرالي للمواطنة عندما ينظر إليها هو الآخر باعتبارها مجموعة من الحقوق مضيفا فكرة ممارستها عمليّا لتظهر كسلوك يعطي المواطن هوّيّة توحّده مع المجتمع السّياسيّ الذي ينتمي إليه، فما يقترح من التزام بخدمة الصّالح العامّ عبر المشاركة الفعّالة لا يُفرَض على المواطن بطريق القسر أو الإكراه وإنّما بطريق الحجّة والإقناع. فما يوجد من عناصر ليبراليّة في الفكر الجمهوريّ المعاصر يشجّع على ألاّ تعاقب الدولة من يرفض المشاركة في الشّأن السّياسيّ لأن مؤازرة النّفع العامّ شأن تطوعيّ في المجتمع الحديث، فالحكومة تبني مؤسّسات للتّشاور ولكنّ أمر المشاركة في أشغال المداولات العامّة يعود لاختيار الفرد في النّهاية. ومن ثمّة يأتي الرّدّ الجمهوريّ على الاعتراضات اللّيبراليّة بالإشارة إلى أنّ الدّولة الأمّة تحمي الصّالح العامّ وتوفّر لمواطنيها فرصة المشاركة في تحقيق النّفع العامّ، وأنً الوطنيّة من شأنها صيانة التّكافل بين أعضاء تلك الدّولة مهما كان عددهم، وأنّه ليس ضروريّا اتّفاق هؤلاء النّاس على القيم التّأسيسيّة لكن عليهم في المقابل أن يتطوّعوا للسّعي إلى حلّ النّزاعات عبر مناقشة مفتوحة تمكّن من الوصول إلى مواقف متّفق عليها، وأنّه إذا كان لجماعة معيّنة أن تدافع عن مصالحها الخاصّة فليس لها أن تلجأ إلى تلك المصالح لتبريرها بل عليها أن تعرض أمام أولئك الذين لا يتّفقون معها أسبابا مقنعة فتصوغ حججها بلغة الثّقافة السّياسيّة، وهذا بالضّبط هو ما يمكن اعتباره مطلبا جوهريّا ومثلا عمليّا للنّجاح السّياسيّ في الدّولة المعاصرة.

إنً المشكلة هي ألاّ يترجم الاتّفاق حول مبادئ العدالة الاجتماعيّة إلى اتفاق بشأن عدالة فعليّة لتوزيع الثّروات والمنافع طبقا لمقدار قيمتها في المجتمع. فليس مفاجئاً أن تختلف مدركات أولئك الفقراء الذين هم في أسفل السّلّم الاجتماعيّ عمّن هم في ذروة الهرم الطّبقيّ من الأثرياء، فمع هذا الاختلاف نجد الفقراء والأغنياء يتّفقون سويّا على مبدأ توزيع الوظائف والمناصب طبقا للاستحقاق القائم على الكفاءة والأهليّة. الأسوأ أنً يتّفق النّاس على نظام غير عادل1،  وعندئذ لا يساعد الاتّفاق على مجرّد مبادئ العدالة الاجتماعيّة إذا ما حدث شيء يسمّم الفضاء العامّ.

2ـ وجهة النّظر الجماعاتيّة:

 استند مفكّرو الاتّجاه الجماعاتيّ إلى المواقف الأرسطيّة والهيغليّة في الرّدّ النّقديّ على الدّعوة للحقوق على أساس النّظريّة اللّيبراليّة لما اعتبروه إفراطا في التّأكيد على الفرد كقيمة، وتفريطا ذرائعيّا بالرّوابط الجماعيّة كالرّوابط العائليّة والدّينيّة عند التّأكيد على المنفعة في رسم العلاقات الاجتماعيّة وتعديل المخطّطات الحياتيّة.

يشكّك الجماعاتيّون بقوّة عند الانتقال من "الأنطولوجيا" إلـى السّياسة فيما يفترض اللّيبراليّون للحكومة من مهامّ في ضمان الحرّيّات وما يزعمون للملكيّة الفرديّة من الحاجة إلى حريّة الاختيار. ويجادلون بحجّة ما للمهمّة السّياسيّة الأساس من دور في ترسيخ الوسائط التي تكبح تآكل الحياة الجماعيّة في ظروف ترتفع فيها وثيرة تشظّي العالم، ثمّ بضرورة مساندة وتعزيز أشكال الحياة الجماعيّة التي تضفي على العلاقات والوجود معنى حاسما لاسيما وأنّ الحرّيّات الأساس لا تتحقّق آليّا في المجتمع على الرّغم من ضمانها في الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة. 

إنّ المشكلة الأساس من وجهة نظر الجماعاتيّة هي أن بناء المواطنة باعتماد التّصوّر الجمهوريّ  يمثّل تهديداً قد يسحق كلّ الرّوابط، فالولاء للأمّة وفق منظوره من العمق بحيث لا يمكن أن ينافسه فيه ولاء لجماعة أخرى لأنّه يعتبر الأمّة مجتمع الواجب والالتزام الذي يولد النّاس به ويدينون له بواجب التّضحيّة والتّعاون. ويعني هذا في الممارسة من حيث المبدأ استعداد كلّ فرد للتّضحيّة والفداء في سبيل الوطن، ورغبته الأكيدة في مشاركة الآخرين في صناعة المستقبل وصياغة التّوجّهات السّياسيّة العامّة سواء من خلال المناقشة أو من خلال خدمة النّفع العامّ؛ هكذا وعلى هذا النّحو تعني المواطنة تفكيرا وسلوكا بطريقة تسعى لامتلاك مقياس كافٍ للفضائل العامّة، وهكذا يكون الوطن هو الرّابطة الأكثر أهمّيّة بالنّسبة للشّعب، له كلّ الأولويّة على جميع الرّوابط الأخرى في حال السّلم كما في حالات الصّراع. 

لذلك لا يوافق الجماعاتيّون على هكذا تصوّر يعطي للسّياسة مساحة كبيرة تجعل المواطنة الفعّالة فوق كلّ الرّوابط الاجتماعيّة الأخرى، ومظهرا ضروريّا لحياة جيّدة وخيّرة لتبدو وكأنّها حقيقة شاملة. علما أنّ القليل من النّاس من لديهم النّشاط والوقت الكافيين للمشاركة السّياسيّة وفق هذا المنظور، وعموما فإنّ المبالغة في ربط المواطنة بالمشاركة تعسّف غير ملائم، فهناك مجتمعات كثيرة يميل النّاس فيها إلى تكريس حياتهم تقريبا لأنفسهم أو لشأنهم العائليّ ويتركون صناعة القرار السّياسيّ لنخبة متخصّصة تمثّل الرّوح العامّة للمجتمع، ومع ذلك تبقى تلك المجتمعات مجتمعات ديمقراطيّة تحترم الإرادة العامّة بتطبيق القانون وحماية الحقوق وصيانة الواجبات.

وأخذا بهذه الاعتراضات يبدو المفهوم الجمهوريّ للمواطنة إشكاليّا بالنّظر إلى وضع الأقليات فيه، وباعتبار ميله الواضح والصّريح لصالح الثّقافة السّياسيّة للأغلبيّة المهيمنة على المجتمع خصوصا وأنّه لا يرتّب على هذه الأغلبيّة أيّ التزامات تجاه مطالب الأقلّيّات، كما لا يرتّب أوضاعها ضمن المبادئ والأطر القانونيّة الموجودة. فوضع العلمانيّين في دولة دينيّة عن سبيل المثال يفرض عليهم صوغ مطالبهم السّياسيّة ضمن ثقافة الأغلبيّة والعكس صحيح.

 والخلاصة أنّ الميّالين للمشاركة السّياسيّة يفضّلون هذا الشّكل الضّعيف من المواطنة الجمهوريّة الذي يُعرِض عمّا تفرض المسؤوليّات المشتركة الأخرى من التزامات عند تقرير المسائل الكبرى. بل إنّه يبقى مقبولا من وجهة نظر الجماعاتيّين أنفسهم لتبرير تنافس الالتزامات المشتركة في حالات الصراع.

نحو تأهيل ملائم لبناء الوطنيّة على أساس المواطنة الجمهوريّة

ليس الغرض من هذه الدّراسة هو تقويض بناء مفهوم للشّعب على أساس المواطنة، إنّما القصد هو إعادة صياغة تصوّر للمواطنة في نواح عديدة آمل أن يكون ما سأقدّم في هذه الخلاصة المختصرة مسعفا في الرّدّ على جملة من الاعتراضات والإجابة عن أهمّ التّساؤلات وبالله التّوفيق...

يستند تصوّر الوطنيّة بالاعتماد على مفهوم المواطنة الجمهوريّة إلى عنصرين اثنين:

أوّلا: يستند إلى نزعة سيكولوجيّة يشكّل عبرها روحا عامّة تدفع الفرد إلى تقديم الرّغبات الوضعيّة على مذبح الرّغبات الرّفيعة وإعطاء الأسبقيّة للخير العامّ على حساب المصالح الشّخصيّة بحجج سياسيّةً مطابقة للمفهوم الجمهوريّ تستهدف الوصول إلى صياغة مشتركة لقرارات منسجمة، مسؤولة ومتّفق عليها.

ثانياً: نزعة سلوكيّة تعرض الآليّات التي يتمّ عبرها تكوين مواطن فعّال يُقبِل بإصرار ودون تردّد على المشاركة في الشّأن العامّ وفي تقرير القضايا الكبرى والمصيريّة.

ولعلّ التّصوّر العمليّ المرغوب لبناء وطنيّة على قاعدة المفهوم الجمهوريّ بالنّسبة لي سيحتفظ بالعنصر السّيكولوجيّ ويطرح نظيره السّلوكيّ لانعدام الجدوى مادام أكثر المواطنين يمتلكونه كروح عامة أو نزعة وإن بشكل كامن يجعلهم غير فاعلين في الشّأن السّياسيّ. سيقضي أغلب النّاس أوقاتهم في مواجهة عنف اليوميّ، في الاستجابة لضرورات العيش والسّعي وراء المصالح الخاصّة، أوفي إنجاز ما تفرض الحياة الاجتماعيّة المشتركة في أبعادها غير السّياسيّة من واجبات. في حين ستحصل المشاركة الشّعبيّة في البناء العمليّ لمفهوم الوطنيّة اتّفاقا أو عرضا بواسطة الرّوح العامّة للمواطنة، ويمكن ملاحظة هذه العرضيّة بالملموس في أغلب المجتمعات الحديثة لأنّها تلائم الدّيمقراطيّة في السّياق اللّيبراليّ المعاصر. لذلك تأخذ بها الاتّجاهات الواقعيّة بما فيها الاتّجاه الجماعاتيّ لاسيما وأنّ فكرة المواطنة الجمهوريّة لا تلائم الدّولة الأمّة من وجهة نظر الواقعيّة اللّيبراليّة لأنّ السّياسة اتّفاقات وصفقات بين جماعات مصالح، أكثر منها  تشاور أو تعبير عن روح عامّة.

لذلك تجد الاتّجاهات الواقعيّة لا تعطي أهمّيّة لمسألة الرّوح العموميّة لأنّ اهتمامها الرّئيس متعلّق بالحقوق الأساس وبالدّفاع عنها ومواجهة أيّ تهديد قد يطالها من قبل النّزعات التّسلطيّة أو الدّولة الشّموليّة. ولعلّ الذي شهد ويشهد العالم المعاصر من وقائع وأحداث يثبت أنّ المواطنين يعبّرون تلقائيّا عن الاستعداد للدّفاع عن دولهم والتّضحيّة في سبيل رموزهم الوطنيّة، والحرب العالميّة الثّانية أبرز مثال على ذلك. 

ولذلك أيضا لا تبحث هذه الاتّجاهات مسألة الرّوح العامّة مادام أغلب المواطنين لا يشاركون في قضايا الشأن العامّ بحسب ما جرت به العادة إلاّ من أجل اهتمامات معيّنة، لكنّها لا تستنكف عن استثمار هذه النّزعة السّيكولوجيّة وتوظيفها بقوّة في الظّروف الاستثنائيّة وكلّما دعت الحاجة لذلك. ويعبّر هذا وإن بشكل ضمنيّ عن مرغوبيّة صياغة التّصوّر الجمهوريّ صياغة أكثر عمليّة وواقعيّة على أرضية ليبراليّة محضة.

تستهوي فكرة الدّولة الأمّة الجماعاتيّين لتأكيدها الواضح على الرّوح العامّة للمواطنة باعتبار أنّ الوطنيّة محور ملهم يكسب النّاس هوّيّة تشحذ ولاءهم للدّولة وتدعم لديهم حوافز خدمة الصّالح العامّ في عالم لا مكان فيه للسّلبيّة، وفي لظى عولمة تلزم الحياة السّياسيّة بخوض معارك التّنميّة المستدامة واستحقاقات التّقدّم على أساس المواطنة، ومن خلال تعليم وطنيّ وبرامج للخدمة المدنيّة التي تدعم الرّوابط المشتركة الأخرى بين جميع الفاعلين ومكوّنات المجتمع.  

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

 للمزيد وضرب الأمثلة أنظر:

Lenug, Kwok,’ Social Justice from a Cultural Perspective’, in The Handbook of Culture and Psychology, ed, Matsumoto,D,.(New York: Oxford University Press, forthcoming).

في المثقف اليوم