أقلام فكرية

أقلام فكرية

تشتمل النسوية العديد من النزاعات حول الدين: الزواج القسري، استئصال البظر، قوانين الطلاق والميراث، حقوق الأطفال والتعليم، الرموز الدينية (الحجاب، البرقع، النقاب)، الإجهاض، الحقوق الجنسية والإنجابية، تعدد الزوجات، المساواة في الوصول إلى المنظمات الدينية، وما إلى ذلك. نجد أن الدين من منظور المساواة بين الجنسين مثير للانقسام بشدة  رغم أنه، من الناحية الإحصائية، عدد الذين يمارسون طقوس الإيمان بين النساء أكثر من الرجال.1[1] ونظرًا للاختلاف بين الجنسين من حيث التدين، فمن المفارقات إلى حد ما أن الممارسات والمعتقدات الدينية غالبًا ما تتشابك المعتقدات مع النظام الأبوي، ومع أنظمة الخطاب والسلطة المعقدة القائمة على التمييز والسيطرة على الفتيات والنساء في المجالين الخاص والعام.

لقد تطور إجماع عام متزايد حول حظر بعض هذه الممارسات، مثل استئصال البظر، والزواج القسري وزواج الأطفال، والتمييز على أساس الجنس، بشكل عام في الديمقراطيات الغربية وغير الغربية2.[2] ومع ذلك، لا تزال قضايا عديدة مثيرة للجدل بشدة. تقر المملكة المتحدة وكندا وتركيا بأن المعلمين أو التلاميذ أو الطلاب يمكنهم ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات العامة، بينما تبنت فرنسا موقفًا تحريميًا تتغاضى عنه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبالمثل، أعادت المملكة المتحدة إنشاء محاكم شرعية ذات اختصاص محدود في قضايا مثل الزواج والطلاق والميراث؛ على الجانب الآخر، غالبًا ما اتخذت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان موقفًا استبعاديًا حصريًا فيما يتعلق بالإسلام، وتقدمت بأحكام شاملة. فخلصت، عن سبيل المثال، إلى أن الشريعة تتعارض مع الديمقراطية. تطرح هذه المجموعة من القضايا المتنوعة أسئلة ذات صلة: هل يضع الدين النساء في مرتبة أدنى بشكل لا مفر منه أم أنه يمكن أن يساهم بشكل كبير في هويتهن وخبراتهن في الحرية فيظل  ديمقراطية  قائمىة على مساواة ؟ ما هو دور السلطة السياسية في تحقيق المزيد من المساواة بين الرجل والمرأة داخل المؤسسات والجماعات المختلفة (الأسرة، "المجتمع، إلخ)؟

أثار التوتر بين الدين والمساواة بين الجنسين، من الناحية التاريخية، أهتمام المفكرين والناشطين من حركات مختلفة من النسوية، من أوليمب دي جوج (مؤلف 1791 "إعلان حقوق المرأة والمواطنات") وجون ستيوارت ميل (إخضاع النساء) لسيمون دي بوفوار (الجنس الثاني). أما البانوراما الحالية للنظريات النسوية  متنوعة بشكل ملحوظ: فبعض النسويات يعتبرن الحجاب مظهرًا شرعيًا ورمزًا للتحرر، بينما يرى آخرون أنه علامة على الأضطهاد. يدافع بعض النسويات عن الحقوق الجماعية والتعددية القضائية3،[3] و يرى البعض الآخر أن هذه الترتيبات القانونية تديم الهيمنة على المرأة4.[4] يمكن تحليل هذه البانوراما المعقدة كنقاش ثلاثي الزوايا. تشير النسوية العلمانية أو الحصرية إلى مجموعة من المفاهيم التي تدرك وجود توتر جوهري أو شبه اساسي بين الدين والمساواة بين الجنسين5[5] وتركز على الدين باعتباره هيمنة على تعدد أبعاد الظواهر الدينية (انظر المقدمة)6.[6] تسود العلمانية بين العديد من النسويات، وخاصة في الأوساط الأكاديمية الغربية حيث  يشاع بما يعرف بالعلمانية الانسانوية. تشترك النسويات العلمانيات من مختلف المشارب (الماركسية الراديكالية، الاشتراكية، الليبرالية، الجمهورية، حركات البيئة، إلخ) عمومًا في فهم شامل للحرية باعتبارها تقرير المصير والاستقلال.  تنظر النسوية العلمانية إلى الدين باعتباره عقبة رئيسية في بناء مجتمع قائم على المساواة  حتى في صيغتها أو شكلها "الأضعف  التي لا تتعرض فيهاممارسات دينية معينة مع أجندة تحررية.

على الطرف المقابل، ترفض النسوية الجماعاتية أحيانًا كل ما هو غربي - أي مناشدة القيم الغربية والحقوق الفردية الحديثة- باعتبارها قيمًا وتقاليدًا محلية بدائية ومفسدة. تأتي النسوية الجماعاتية في أشكال مختلفة، من المتغيرات العقائدية الدينية إلى المتغيرات النسبية (لا يُنظر إلى القيم الغربية على أنها سلبية، بل مختلفة جذريًا في الصيغة الأخيرة). إن جزء من الصعوبة المستعصية للمواقف الجماعية النسوية هو اعتمادها على أسطورة نقاء التقاليد والسياق المتجانس. فتتجاهل هذه المواقف في الغالب عمليات الاتصال والتبادلات التفاعلية والتثاقف بين التقاليد ؛ علاوة على ذلك، إنها تركز من جانب واحد على الدين بينما تقلل من النضالات من أجل السلطة والشرعية والهيمنة داخل التقاليد نفسها وصراعها على المعنى ايضًا.

ثالثًا، هناك فضاء متوسط لمقاربات المساواة التي تأخذ على محمل الجد المساواة بين الجنسين والاعتراف الديني.[7] تقر النسوية الشاملة بأهمية البحث الروحي والديني في التنمية البشرية ودور الدين في عمليات التحرر. ليس النظام الأبوي، من هذا المنظور، الذي يعترف بتعددية الظواهر الدينية سمة لا مفر منها للدين، لكنه راسخ بما يكفي لإحداث توترات عميقة بين الاعتراف الديني والمساواة بين الجنسين.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

[1] Trzebiatowska, M. and Bruce, S. (2012) Why are Women More Religious Than Men? Oxford: Oxford University Press.

[1] ومع ذلك، يجادل بعض الكتاب الليبراليين لصالح التسامح مع الزواج القسري كجزء من أسلوب الحياة الليبرالي.

Kukathas, C. (1992) "Are There any Cultural Rights?", Political Theory 20: 105-139.

[1] Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge, UK: Polity Press.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law. London: The British Academy.

Shachar, A. (2001) Multicultural Jurisdictions: C11ltural Differences and Women's Rights. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[1] Okin, S.M. (1999) "Is Multiculturalism Bad for Women?", in  Okine,  S.M., Cohen, J., Howard, M., and Nussbaum, M.C. (eds) Is Multiculturalism Bad for Women? Princeton, NJ: Princeton

University Press: 9-24.

[1] Becker, M. (1992) "The Politics of Women's Wrongs and the Bill of ‘Rights': A Bicentennial Perspective", The University of Chicago Law Review 59: 453-517.

[1] هناك اختلافات في الخطاب النسوي المعاصر . أحدها هو الانقسام "الكونتنتالي" / التحليلي.تهتم ما يسمى بالنسويات القارية في عناصر التجربة الدينية ويسترجعانها من خلال الاعتماد على المدارس الفكرية مثل الظواهر، والتفكيك، والتحليل النفسي ( عن سبيل المثال، لوس إيريجاراي، وماريا كريستيفا، وجوديث بتلر). هذه المساهمات ذات قيمة غير متساوية. من وجهة نظرنا،من المثير للاهتمام أنتفكير بتلر ببناء قيم على اليهودية والنظرية السياسية. على النقيض من ذلك، يفترض منظور إيريجاراي اختلافًا جذريًا بين الرجال والنساء ويتكون مناراء لافته خاصة ومتفائلة لا نرى مساهمات مثلها في الفلسفة (السياسية).

[1]  أنظر:

[1] Trzebiatowska, M. and Bruce, S. (2012) Why are Women More Religious Than Men? Oxford: Oxford University Press.

[2] ومع ذلك، يجادل بعض الكتاب الليبراليين لصالح التسامح مع الزواج القسري كجزء من أسلوب الحياة الليبرالي.

Kukathas, C. (1992) "Are There any Cultural Rights?", Political Theory 20: 105-139.

[3] Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge, UK: Polity Press.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law. London: The British Academy.

Shachar, A. (2001) Multicultural Jurisdictions: C11ltural Differences and Women's Rights. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[4] Okin, S.M. (1999) "Is Multiculturalism Bad for Women?", in  Okine,  S.M., Cohen, J., Howard, M., and Nussbaum, M.C. (eds) Is Multiculturalism Bad for Women? Princeton, NJ: Princeton

University Press: 9-24.

[5] Becker, M. (1992) "The Politics of Women's Wrongs and the Bill of ‘Rights': A Bicentennial Perspective", The University of Chicago Law Review 59: 453-517.

[6] هناك اختلافات في الخطاب النسوي المعاصر . أحدها هو الانقسام "الكونتنتالي" / التحليلي.تهتم ما يسمى بالنسويات القارية في عناصر التجربة الدينية ويسترجعانها من خلال الاعتماد على المدارس الفكرية مثل الظواهر، والتفكيك، والتحليل النفسي ( عن سبيل المثال، لوس إيريجاراي، وماريا كريستيفا، وجوديث بتلر). هذه المساهمات ذات قيمة غير متساوية. من وجهة نظرنا،من المثير للاهتمام أنتفكير بتلر ببناء قيم على اليهودية والنظرية السياسية. على النقيض من ذلك، يفترض منظور إيريجاراي اختلافًا جذريًا بين الرجال والنساء ويتكون مناراء لافته خاصة ومتفائلة لا نرى مساهمات مثلها في الفلسفة (السياسية).

[7]  أنظر:

Nussbaum, M. (2000). Women and Human Development: The Capabilities A pproach. Cambridge, UK, New York: Cambridge University Press.

Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law.

 

الأنساقُ الفلسفية في البناء الاجتماعي نابعةٌ مِن الهُوِيَّة الوُجودية للفرد في رحلة بَحْثِه عن ذاته وحياته. ورحلةُ البحثِ لَيْسَتْ انتقالًا ميكانيكيًّا في الزمان والمكان، بَلْ هي انتقالٌ ديناميكي في تأثيرات سُلطة العقل الجَمْعي في مَصادرِ التاريخ وقَواعدِ المعرفة. وهذه التأثيراتُ مُرتبطة بجذور المشروع الحضاري للمُجتمع، وقُدرته على تَوحيد الذاتِ والمَوضوعِ في مَنطِق اللغة الرمزي الذي يتحكَّم بالعلاقاتِ الاجتماعية، وانعكاساتِها على الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية. وسُلطةُ المُجتمعِ المَعرفيةُ لا تتجذَّر في الإدراكِ الحِسِّي والوَعْيِ الفَعَّال، إلا باعتمادِ التفكير النَّقْدِي في الواقع المُعَاش، وتحريرِ الظواهر الثقافية مِن قُيود الأحكامِ المُسْبَقَة والقوالبِ الجاهزة. وإذا كانت المعرفةُ تَكتسِب شرعيتها مِن صَيرورةِ التاريخ ومَركزيةِ الوُجود، فإنَّ الهُوِيَّة تَستمد سُلطتها مِن الترابط المصيري بين مَنطِقِ اللغة الرمزي وأشكالِ الحياة اليومية. ولا يُمكِن أن تتحوَّل صَيرورةُ التاريخ إلى حالةِ خَلاصٍ مُستمرة في المُجتمع إلا بِصَهْرِ المعرفة في الهُوِيَّة، وتَذويبِ التجارب الشخصية في الأفكار الإبداعية الجَمَاعية. وهذا مِن شَأنه تَطهيرُ البناءِ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وتحقيقُ التجانسِ بين المضمونِ العميق لشخصية الفرد الإنسانية، والبُنيةِ الجَذرية لعملية صِناعة الثقافة.

2

العقلُ الجَمْعي لا يَقْدِر على تَحويل مَنطِق اللغة الرمزي إلى هُوِيَّة مَعرفية للمُجتمعِ والتاريخِ، إلا بتوظيف الوَعْي الواقعي في بُنية الفِعْل الاجتماعي، لأنَّ الوَعْي هو القُوَّة الدافعة للفِعْل. والوَعْيُ والفِعْلُ مُرتبطان بالتَّغَيُّرات النَّفْسِيَّة التي تَطْرَأ على حياة الفرد الداخلية والخارجية. وجميعُ هذه العناصر مُجتمعةً تُشَكِّل النسيجَ المعرفي، والتكوينَ الشُّعوري، والتطبيقَ العملي. وبالتالي، يُصبح المُجتمعُ شَبَكَةً مِن زوايا الرؤية المُتَنَوِّعَة والمُتكامِلة، وحاضنةً للظواهر الثقافية، والآلِيَّاتِ اللغوية القادرة على تفسيرها وتَوظيفها. وإذا صَارَ الواقعُ المُعَاش أداةً فِكرية للنهضة والإبداع، فإنَّ التاريخ سَيُصبح رافعةً للوَعْي بِكُلِّ أشكاله وانعكاساته، وهذا يُسَاهِم في السَّيطرة على المَعْنَى الوُجودي المُتَشَظِّي في العلاقاتِ الاجتماعية، والمعاييرِ الأخلاقية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحرير الإنسان مِن ضَغطِ الاغترابِ الذاتي، ومَأزِقِ الخَلاص الفَرْدي، وقُيودِ الاستهلاكية المادية، وهَيمنةِ الآلَة على الطبيعة.

3

تحريرُ الإنسانِ تَجسيدٌ للهُوِيَّة الوجودية في السُّلطة المعرفية، التي تُمثِّل مَنظومةً مِن الشُّروط الضرورية لإعادة إنتاج الإنساق الفلسفية في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الثقافية، مِن أجل بناء ماهيَّة الإنسانية على السِّيَاقات التاريخية القائمة على النَّقْد البَنَّاء، ولَيس التقديس المَصْلَحي. والتاريخُ الحقيقي هو الكِيَان الواقعي الذي يَستطيع الصُّمُودَ في رُوحِ الزمانِ وجَسَدِ المكانِ اعتمادًا على قُوَّته الذاتية بلا إسناد خارجي ومصالح مُغْرِضَة. وكُلُّ تاريخٍ يَستمد وُجوده مِن عوامل خارجية دخيلة، وأنماط تفكير استبدادية، سَوْفَ يَتفكَّك ويَنهار بسبب التناقضِ بين الإدراك الحِسِّي والوَعْي الفَعَّال، والتعارضِ بين الواقع المادي والتأويل اللغوي. ويجب أن يَكُون التاريخُ تَطَهُّرًا دائمًا مِن الأحلامِ المَكبوتة والأفكارِ المَقموعة، وتَطهيرًا مُستمرًّا للعلاقات الاجتماعية مِن الوَعْيِ الزائف والوَهْمِ النَّفْعِي المَصْلَحي الذي يُكَرِّر ذَاتَه، ويُعيد نَفْسَه وَفْق أشكال استهلاكية مادية تَضغط على ذاكرة الفرد، وتُضعِف شخصيته، وتَسْلُب حُرِّيته وإنسانيته، وتُحَطِّم مَركزيته في الطبيعة والوُجود.

4

البناءُ الاجتماعي لَيس كُتلةً أسمنتية جامدة، وإنَّما هو كَينونةٌ مُتماهية معَ مَنطِق اللغة الرمزي، ومنظومةٌ مُتفاعلة معَ السِّيَاق التاريخي للفرد والمُجتمع، ومنهجيةٌ مُندمِجة معَ عملية صناعة الوَعْي الفَعَّال. والبناءُ الاجتماعي يَمْزُج التجاربَ الشخصية بمصادر المعرفة،ويُحَوِّل العواملَ النَّفْسِيَّة إلى معايير أخلاقية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، مِمَّا يُنتج بيئةً خِصْبَةً مُلائمة للأفكار الإبداعية، ويَدفَع باتِّجاه توليد ظواهر ثقافية مُلتصقة بتفاصيل الحياة، وغَير مُنفصلة عنها، ولا مُتعالية عليها، فَتَصِير الثقافةُ _ الشَّعْبِيَّة والنُّخْبَوِيَّة _ حَلًّا عمليًّا للواقع الإنساني المأزوم، ولَيْسَتْ جُزْءًا مِنه. وهذا يَستلزم أن يَكُون البناءُ الاجتماعي قادرًا على تجاوُز ذاته، وتَجَاوُز عناصر البيئة المُحيطة به. وهذا التَّجَاوُزُ الدائم للذاتِ والمُحِيطِ يُؤَدِّي إلى تَوليد الأفكار الإبداعية بشكل مُستمر، وكُلَّمَا تَوَلَّدَتْ أفكارٌ إبداعية، انبثقتْ تأويلاتٌ جديدة للتاريخ، مُستقلة بذاتها، وغَير خَاضعة للأدلجة السِّيَاسية. وهذه التأويلاتُ لا تَخترع تاريخيًّا ذهنيًّا بعيدًا عن الواقع، وإنَّما تَقُوم بدمج الهوامش معَ المركز، لِتَكوين صُورة شاملة بكل الزوايا والأبعاد، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل دور الفرد في التاريخ باعتباره إنسانًا فاعلًا في الزمان والمكان، وصانعًا للحَدَثِ، ومُكْتَشِفًا للحُلْم، ولَيْسَ شخصًا مَجهولًا بلا هُوِيَّة، وَمُسْتَلَبًا بلا شرعية، ومنسيًّا بلا ذاكرة. إنَّ الفردَ مِثْلُ التاريخ، كِلاهما يُجسِّد فلسفةَ الوجود في رحلة البحث عن المَعْنَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لا أجادل  بخصوص راي هابرماس بأن المؤسسات والإجراءات القانونية تهدف إلى توفير مساحة لعمليات المحاججة التي تخضع لمنطق مثالي خاص بها. فقد يكون هذا التوجه للخطاب هو العامل الأكثر أهمية في شرعية القانون. ويمثل القانون والسياسة أشكالًا من الخطاب المؤسسي إلى هذا الحد. ما أريد أن أصل إليه هنا، هو التعديل او التغيير الطفيف للخطاب في هذه المعادلة "ذات الطابع المؤسسي" على وجه التحديد . يمكن للإجراءات أن تعزز الخطاب إلى حد معين فقط، وبعد ذلك يكون القرار مطلوبًا. السؤال إذن هو ما إذا كان اتخاذ القرار نفسه يمكن أن يكون عادلاً بطرق لم يُعبر عنها في مفاهيم هابرماس للخطاب أو التسوية.

نجد دليلاً على طبيعة عقلانية اتخاذ القرار في إجراءات الصدفة. يمكننا  توضيح ما نقصد بمثال بسيط. لنفترض أن طفلين، صادفًا لوحة على الأرض في وقت واحد تقريبًا، بدأ الجدال بينهما حول من رأى اللوحة أولاً، وبالتالي له حق المطالبة بها. يعتقد كل منهم أن مطالبته باللوحة عادلة ويدافع عن ادعائه، بحيث تظهر القضية كمسألة أخلاقية تنطوي على حجة على الأقل. في حالة عدم تمكن أي من الطرفين من إقناع الآخر، فمن المنطقي أن يتفق الطفلين على إجراء مثل رمي عملة معدنية من أجل تسوية نزاعهم (على افتراض أنهم يريدون الحفاظ على علاقات جيدة). لا يبدو أن إجراء القرار هذا قابل للتفسير في حد ذاته سواء من حيث الخطاب أو الاجابة الصحيحة الواحدة. وبالمثل، ينطوي التوصل إلى توافق في الإجماع في خطاب أخلاقي مبرر على أن الاعتبارات المستقبلية لنفس القضية لن تبطل الإجماع الأول او الموجود اصلا.  على النقيض من ذلك ، فإن رمي العملة- الذي يمكن القول إنه إجراء عادل – لايدعي التوصل  إلى نتيجة  تؤكدها عمليات القذف المستقبلية، كما لو أن القرعة الأولى أنتجت نتيجة "صحيحة" أو "عادلة". في الوقت نفسه، نحن لا نتعامل مع حل وسط كما حدده هابرماس: فمن ناحية، سيخسر طرف ويفوز آخر؛ من ناحية أخرى، وقد نكتشف بعد رمي العملة مزيدًا من المعلومات- حجج جديدة- تظهر فجأة مما يجعل الأمر واضحا من الذي يستحق اللوحة حقًا. تظل القضية مسألة عدالة من حيث المبدأ.[1]

لا أقصد مساواة الإجراءات القانونية بإلقاء العملات المعدنية، على الرغم من أن العاب اليانصيب كانت وما زالت مستخدمة في القانون والسياسة.[2] ولكني اخترت هذا المثال فقط لأنه يبرز- بشكل واضح - الاختلاف بين الخطاب وصنع القرار.وهذا يعني أن  إن إجراءات أتخاذ القرار نفسها، التي تبدو عادلة، ليس لها في هذه الحالة سوى الحد الأدنى من العلاقة بمتطلبات الخطاب العقلاني. فمن المسلم به أن إجراءات اتخاذ القرار القانوني السياسي الأخرى مثل حكم الأغلبية أو إجراءات المحكمة تتمتع بعلاقة أوثق مع الخطاب. ومع ذلك، مايزال هناك اختلاف مماثل بين متابعة الخطاب حتى يصل كل مشارك إلى البصيرة نفسها، ووبين الإجراءات المنصوص عليه الذي يدعو إلى التصويت، أو قرارًا قضائيًا موثوقًا بعد أن يكون لكل حزب أو ممثله فرصة متساوية ليعرض قضيته. إن رمي العملة ليس سوى مثال متطرف للنقطة المنصوص عليها حيث يقطع الإجراء الحقيقي المناقشة العقلانية ويتطلب قرارًا.

هناك رد سهل وسريع على الملاحظة أعلاه: لن يكون الإجراء الذي يتم من خلاله التوصل إلى قرار عادلًا إلا إذا كان هو نفسه موضوعًا خاضعا لنوع من الميتا- خطاب الذي يناقش  فيه المشاركون بعقلانية أفضل طريقة للوصول الى قرار في القضية المعنية. وبهذا المعنى، حتى إجراءات الصدفة لها علاقة غير مباشرة بالخطاب، وهي نقطة أثارها هابرماس بالفعل فيما يتعلق بالتنازلات.[3] تنطوي مثل هذه الخطابات الوصفية على اعتبارات معقدة كما يتضح من المناقشات حول كل من إجراءات الأحتمال أو الصدفة وقاعدة الأغلبية. سوف يسأل المشاركون، عند التفكير في احتمالات الفرصة، أنفسهم عما إذا كان رمي عملة معدنية يمكن أن يلحق الضرر بواحد منهم بشكل ثابت على الأقل. من المفترض لن تقبل الأطراف مثل هذا الإجراء إلا إذا أعطت كل منهما فرصة متساوية في الفوز. إذا كان هذا ليس هو الاعتبار الوحيد فإن قرعة العملة المعدنية تنجح في "حماية القيم المهمة المتمثلة في المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص".[4] لا شك أن الميتا- خطابات حول حكم الأغلبية أو أشكال صنع القرار الموثوق به في نظام حكم مدني أكثر تعقيدًا. وسوف تركز على مدى جودة الشروط الإجرائية في زيادة فرص أن تتمتع النتيجة بافتراض يتزامن مع النتيجة التي سيصل إليها الخطاب العقلاني، مع إعطاء الوقت الكافي. ولكن تشكل الأفكار التي تركز على المساواة في المعاملة والفرص بعضًا من أهم المبررات هنا أيضًا.[5]

إن ما تعنيه "المساواة" هنا هو مسألة معقدة. فتبدو هناك حاجة إلى قول المزيد عن الشرعية أكثر من الرد السريع أعلاه. يفتح الاختلاف بين الخطاب واتخاذ القرار، ودور المساواة في الأخير، الباب أمام تفسير أكثر تعقيدًا للشرعية الديمقراطية ا في ظل ظروف التعددية. وحتى إذا كان ينبغي مناقشة إجراءات اتخاذ القرار في الميتا- خطابات، فبمجرد أن يتم تأسيس إجراء ما بشكل مؤسسي، يمكن أن تعمل سمات المساواة الجوهرية كمعيار مباشر للشرعية إلى جانب سماتها الخطابية. لا يمكنني في المساحة المتبقية إلا أن اقدم بعض الآثار المحتملة لهذا.[6]

لاحظ أولاً أن استخدام الميتا- خطاب لا يلغي الطابع المميز لإجراء القرار نفسه.  يلتزم المشاركون، من خلال الموافقة على استخدام رمي العملة، على سبيل المثال، بإجراء يمكنهم قبوله على أنه عادل من وجهة نظر المساواة، ولكن لا تتوافق نتيجته بالضرورة مع ما يمكن تبريره بشكل محايد في خطاب عقلاني محض بشكل كافٍ. إذا كان يكشف هذا شيئًا عن جميع الإجراءات القانونية والسياسية، فيمكن للمرءالتمييز بين الإنصاف الجوهري لهذه الإجراءات؛ ما إذا كان رمي العملة يمنح كل جانب فرصًا متساوية للفوز، أو ما إذا كان كل مشارك لديه فرصة متساوية لتقديم الحجج ويدلي بصوته بدرجة تقترب من متطلبات الخطاب العقلاني. لا تتطابق نتيجة رمي العملة أو التصويت أو إجراء قضائي حتى لو تم تنظيمها بشكل عادل  بالضرورة مع النتيجة المثالية التي سيصل إليها الخطاب في وقت كافٍ. وطالما أن جميع المتأثرين في وضع متماثل فيما يتعلق بالقرار، فإننا نميل عادةً إلى تسمية الإجراء "عادل" على الرغم من أنه لا يفي بالمتطلبات المعرفية الإلزامية التي حددها المنطق المثالي للمحاججة.[7]

ينشأ الاختلاف بين الخطاب المحايد وصنع القرار العادل من حقيقة أنه في أي نقطة معينة في معظم الخطابات الواقعية، ليست "الحجة الأفضل"، التي تستحق الموافقة بالإجماع، واضحة. يمكن أن يختلف الأشخاص بشكل معقول، حتى لو، ستثبت إجابة واحدة فقط أنها صحيحة على المدى الطويل. وبالتالي، يكون الحل العقلاني أو العادل لمسألة قانونية أو سياسية غير محدد أو غير مؤكد في أي نقطة زمنية معينة.[8]  يمكن للإجراءات القانونية، في هذه الحالة، أن توفر شيئين على الأقل في الطريق إلى اتخاذ قرار في الوقت المناسب: (1) أنها تفسح المجال لـ "الخطاب"، وبالتالي تزيد من فرص أن تؤثر الحجة الأفضل على الأغلبية أو على السلطة القانونية (اعتمادًا على نوع الإجراء)؛ و(2) تمنح كل طرف في النزاع "فرصة متساوية" للتأثير على النتيجة. ليس تكافؤ الفرص هنا المساواة نفسها بالضبط التي تتطلبها مثالية الخطاب. يفترض الأخير حقًا متساويًا في المشاركة لتكوين قناعة مشتركة، بحيث يمكن لكل فرد أن يوافق بشكل متساوٍ على النتيجة الموضوعية على أساس صحتها من وجهة نظربصيرته الشخصية. ومع ذلك، قد لا يكون، في الخطاب الواقعي، هناك اقتناع مشترك في النهاية، على الرغم من أنه قد يكون هناك تصويت يدلي فيه كل شخص بصوت واحد. يُعرَّف الشكل الأخير من المساواة الذي يحكم اتخاذ القرار المناسب عادةً على أنه "سلطة متساوية على النتائج" (أي فرصة متساوية للتأثير على النتيجة).[9] ومع ذلك، يخضع مفهوم القوة لغموض مرتبط بحالات الطوارئ أو المحتملة المتعلقة بتكوين الجماعة وسياقها.[10] ومن ثم، يجب أن يشير التفصيل المناسب لتكافؤ الفرص في صنع القرار، ليس فقط للتأثير على النتيجة، ولكن إلى فكرة التضامن الشامل المبني على الاحترام المتساوي لكل مواطن أيضًا. إن ما يهم، من هذا المنظور، هو أن تنقل شروط المشاركة في إجراء ما اعترافًا مجتمعيًا بقيمة فردية متساوية.[11]

إذا كان هذا التأكيد على المسار الصحيح، فإن الإجراءات العادلة تُظهر جانبًا فرديًا وإراديًا من القانون. يمكن لهذا الجانب من الإجراءات القانونية أن يفسر جزئياً امتثال الأطراف التي لا تزال تختلف مع العدالة فيما يتعلق بنتيجة جوهرية معينة. وهذا يعني، بما أن الإجراء يعبر عن الاعتراف بالمكانة المتساوية للفرد كمواطن بغض النظر عن مدى حكم الفرد ثاقبًا على قضية معينة، فإن المشاركة في الإجراء يمكن أن تعيد تضامن المجموعة، إلى حد ما على الأقل. وهذا بدوره يمكن أن يعزز الامتثال للنتائج غير المواتية. ويمكن أن يجعل الأحزاب الخاسرة أكثر إحجامًا عن خرق القوانين أو رفض التعاون مع البرامج السياسية القانونية التي تم سنها بشأن معارضتها على الأقل.[12] لا يعني هذا أن النقد والاحتجاج المدني مستحيلان، ولكن فقط للإشارة إلى أن مثل هذه الإجراءات قد ينطوي على تكاليف تضامن بالإضافة إلى تكاليف مواجهة العقوبات القانونية .[13] على أي حال، قد يكون لدى المرء مصدر امتثال أو اذعان يتضمن أكثر من إكراه ومعاقبة ولكنه ليس امتثال بدافع عقلاني  قائم على نظرة ثاقبة للشرعية والصلاحية المعيارية للقانون.

يخاطر هابرماس في تركيز الشرعية على مبدأ الخطاب حصريًا بإهمال الإنصاف الإجرائي الجوهري في القانون ومساهمته المحتملة في التضامن والامتثال. علاوة على ذلك، إذا كان من الممكن اعتبار مثل هذا الإنصاف عاملاً في الشرعية، فإنه يسمح للشخص بتحديد كيف تتداخل الخطابات المثالية والإجراءات القانونية العادلة بطريقة تجعل كل من العقلانية الخطابية والشكل القانوني يسهمان في شرعية قانون. وبما أن القضايا المطروحة في الخطاب القانوني السياسي لها مكونات أخلاقية براغماتية، فإن مناقشتها تخضع للمتطلبات المثالية لعمليات التفكير العقلاني. ويتم إعداد الخطابات القانونية والسياسية للسماح لمثل هذه الجدل بالحدوث من أجل تعزيز حكم المشاركين على المسألة المطروحة. لكن ليس تشكيل الحكم العقلاني كافيًا: حيث يخضع الى أين وكيف يبني إجراء قانوني معين ويقطع الخطاب في النهاية من أجل قرار محدد لمتطلبات التكافؤ للإجراءات العادلة. إن صنع القرار القانوني السياسي، إلى هذا الحد، موجه للوصول إلى قرارات ملزمة بطريقة تحافظ على التضامن من خلال الاعتراف المتبادل بالقيمة المتساوية للفائزين والخاسرين على حد سواء.

يشير هذا إلى أن التفسير المناسب لشرعية القانون يجب أن يشمل كلتا اللحظتين. لذلك، يجب أن يكون الصوغ المناسب للمبدأ الديمقراطي محايدة للتمييز بين التبرير العقلاني واتخاذ القرار العادل. يعني هذا أن المبدأ الديمقراطي لا يمكن صياغته من حيث الإجماع-؛ أيً، لا يمكن لمبدأ الخطاب أن يكتسب شكلاً مؤسسيًا دون أن يتأثر بشكل أساس. يعكس مبدأ هابرماس الديمقراطي تركيزًا مفرطًا على الخطاب. تثير كيفية تصحيح هذه المشكلة أسئلة أخرى بالطبع لا يمكن التطرق إليها هنا. لكن يشير الجانب التضامني للعدالة الإجرائية إلى أن البداية الجيدة ستشمل المزيد من فحص القانون من وجهة نظر التضامن في عمليات اتخاذ القرار وتماسك المجموعة. إذا كانت الملاحظات الموجزة في هذا التأمل صحيحة، فإن حكم القانون الحديث يفترض مسبقًا شيئًا مثل التضامن العقلاني الذي له جانبين خطابية وأرادية. وبينما لم ينكر هابرماس هذا، فقد طور في المقام الأول الجوانب الخطابية للقانون والسياسة، بل إنه أوضح أهمية وتشعبات الخطاب بدرجة ملحوظة بالفعل. بالنظر إلى التحديات المتزايدة التي تواجه الديمقراطيات التعددية اليوم، فإن مساهمته تستحق متابعة متعددة التخصصات بنسب متساوية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................

[1] يميز هابرماس عمليات المفاوضة (التي تهدف إلى التسويات) عن القضايا الآمرة من حيث نوع المصالح المعرضة للخطر: تتضمن الأولى تضارب المصالح الخاصة فقط ، في حين تتضمن الأخيرة مصالح قابلة للتعميم قادرة على إرساء حل يكون معرفيًا صحيحًا. . "يمكن أن تكون الحلول الوسط" عادلة "بقدر ما تستند إلى توازن متساوٍ في السلطة. راجع:

هابرماس، المصدر نفسه, 161- 67.

[2] أنظر:

ELSTER, JON E LSTER, SOMONIC JUDGEMENTS: STUDIES IN THE LIMITATIONS OF RATIONALITY Ch. 3 (1989). supra note 34, at 62- 6 7.

[3]هابرماس، المصدر نفسه, 166-67.

EISTER, المصدر السابق 34. at 99.

[4] EISTER, المصدر نفسه 34, at 170-71.

[5] Thomas Christiano, Social Choice and Democrats, in The Idea of Democracy 173 (David Copp et al. eds., 1993).

[6] للحصول على لمحات عامة عن القضايا المرتبطة بمختلف مفاهيم المساواة ، انظر ، على سبيل المثال ،

9 EQUAUTY (American Society for Political and Legal Philosophy,). Roland Pennock &John W. Chapman eds., 1967).

[7] هذا التمييز بين العدالة الإجرائية والقرار العادل  موجود في:

BRIAN BARRY, POLITICAL ARGUMENT Ch. 6 (1965).

وكذلك:

David Ingram, The Limits and Possibilities of Discourse Ethics in Democratic Theory, 21 POLITICAL THEORY 294 (1993),

[8] أنظر:

Thomas McCarthy, Legitimacy, and Diversity: Dialectical Reflections on Analytical Distinctions, 17 CARDOZO L. REv. 1o83 (1996) .

[9] BEITZمصدر سابق 16, at 4.

[10] Jones, مصدر سابق 16, at 165-72.

[11] RONALD DWORKIN, TAKING RIGHTS SERIOUSLY 266, 278 (1977).

[12] أنظر:

E, ALLAN LIND & TOM R. TYLER, THE SOCIAL PSYCHOLOGY OF PROCEDURAL JUSTICE  230-40 (1988).

[13]    انظر:

Habermas, Legitimation Crisis, Polity,1988.

 

الفلسفة المثاليّة عموماَ، هي مجموعة متنوعة من الآراء الميتافيزيقيّة التي تؤكد جميعها أن الواقع المعيوش بكل قضاياه لا يمكن تمييزه أو فصله عن الإدراك أو الفهم البشري. أي أنه بمعنى ما مبني عقليًا. أو من ناحية أخرى هو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار. فالأفكار هي من يُثبت وجود الواقع وليس العكس. لذلك يأتي الحدس والضمير والوجدان والإرادة الذاتيّة والمنطق الصوريّ، (1) هي الأدوات الأكثر فاعليّة في التعامل مع هذا الواقع.

الفلسفة المثالية المعاصرة – الفلسفة الوجودية أنموذجا:

لقد كان للأزمة العميقة التي مر بها النظام الرأسماليّ منذ نهاية القرن التاسع عشر، نتائج مدمرة تجلت في قيام حربين عالميتين، تركتا آثارهما السلبيّة على حياة شعوب الدول الأوربيّة المتحاربة، ولم تزل هذه الاثار قائمة حتى اليوم، وخاصة على البنى النفسيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشكل عام، وعلى التوجهات الفلسفيّة المشبعة بروح التشاؤم والسقوط والعبث واللامعقول، بشكل خاص.

هذا وإن الفلسفة الوجوديّة موضوع بحثنا هنا، التي أفرزتها ظروف الحربين العالميتين الموضوعيّة منها والذاتيّة، لم تتجل أو تتمظهر في الفلسفة والفن والأدب فحسب، بل وفي نفسيّة المواطن وقيمه الأخلاقيّة وسلوكياته اليوميّة كما أشرنا قبل قليل. أو بتعبير آخر، لقد ظهرت هذه الفلسفة وتجلياتها في حاضنة اجتماعيّة مليئة بالأسى والحقد العام، والذعر، والآمال المبهمة في الانتقام، والمشبعة بالهيجان الهيستري لأجواء الفاشيّة والنازيّة... أجواء ساد فيها الشعور بالهزيمة والذل القوميّ، وذعر الطبقة البرجوازيّة الحاكمة من صعود المد الثوريّ، وخاصة بعد نجاح الثورة البلشفيّة.

ففي هذه الأجواء الموبوءة بالخوف والرعب وفقدان الاستقرار الفرديّ والاجتماعيّ، ظهر العديد من الفلاسفة الذين راحوا يحللون المجتمع ومعنى الحياة الإنسانيّة، ومصير الإنسان ومشكلات الاختيار والمسؤوليّة الذاتيّة للإنسان. (2). محاولين وضع الحلول للخروج من المأزق الذي دخلوا فيه،. فكان ظهور فلاسفة المدرسة المثاليّة الذاتيّة الحديثة أو المعاصرة ومنها الوجودية بشكل خاص، التي عبر عنها سارتر، وهيدجر، وكيركيجور، وكامو، وغيرهم.

ما هي أهم أفكار الفلسفة الوجوديّة:

أولاً - الدعوة إلى الفرديّة:

تشكل الدعوة إلى الفرديّة حجر الزاوية في الأيديولوجيا البرجوازيّة المثاليّة عموما، والوجودية منها على الخصوص، هذه الفلسفة التي وجدت الحل في خروج الإنسان من ظروف الضياع والقهر والألم التي فرضتها عليه الحربين العالميتين والتصدي لها، هو الانطلاق من الفرد، والفرد الوحيد المنطوي على ذاته، هذه الذات المغيبة والمستلبة والمحطمة، التي لا أمل فيها، إلا بتركيز الفرد على اهتماماته ومصالحه.

إن المسائل الوجوديّة التي تشكل المضمون الوحيد للفلسفة الوجوديّة، هي المسائل النابعة من حقيقة وجود الذات الإنسانيّة. أي من مشاكل وجود الإنسان ومحدوديّة هذا الوجود، وانغماسه في العدم... أو انتهاء الوجود و الوصول إلى الموت.

إن الذات الوجوديّة لا تهتم إلا بوجودها الخاص... وبمسيرتها إلى العدم. إي إلى الموت.

ونظراً لكون هذا الوجود، أي وجود الكائن، هو الشغل الشاغل للفلسفة المثاليّة عموماً، وبما أن هذا الوجود واسع للغايّة ولا يمكن إخضاعه للتعريف المنطقي، لذلك نجد الوجوديين يعلنون مفهوماً للوجود غير قابل للتحديد، كونه مستعصيّاً على أي تحليل منطقي. لذلك لا يمكن للفلسفة عندهم أن تصبح علماً عن الوجود، وعليها بالتالي البحث عن سبل أخرى غير علميّة وغير عقلانيّة لسبر أغوار هذا الوجود. ولكون هناك أشياء كثيرة متعذر معرفتها، إلا أن هناك شكلاً واحداً من الوجود يمكن معرفته جيداً هو (وجود الذات المنفردة عن غيرها).

إن الإنسان المنفرد يُمَيًزْ عن بقيّة الأشياء، كونه يستطيع القول بأنه موجود، دون أن يعي بالضرورة معنى الوجود. إن الطريق إلى فهم الوجود المحيط بنا كما هو في ذاته، يمر فقط عبر وجودنا الذاتي، وبالتالي فالوجود عند الوجوديين ماهيّة باطنيّة، لا يعبر عنها بالمفاهيم، ولا يمكن أن تصبح موضوعاً أبداً. فهذا الوجود مستعصي على المعرفة العقليّة، والسبيل الوحيد لإدراكه هو معاناة الفرد المنفرد بذاته ووضعه، كما يتكشف للإحساساته الباطنيّة في معاناته المباشرة. إن معاناة الفرد في هذا الوجود هي مادة هذا الوجود.(3).

ثانياً- الذعر:

يشكل الذعر أو الخوف عند الوجوديين البعد الذي ينكشف في الوجود كاملاً. إن الذعر أساس كل الوجود. إنه الشعور الذي يتجلى عند الوجودي في مواجهته للعالم الخارجي الغريب والعدائيّ لذاته.. أو في مواجهته للقوة التي تدفع بوجوده إلى نهايته ... إلى العدم.. إلى الموت.

إن القيمة المعرفيّة للذعر، هي أن يضع الذات في مواجهة نهايتها جنباً إلى جنب مع اللاوجود.. أي العدم. وفي هذه الحالة يتكشف وجود الذات. وبسبب الذعر يجد الإنسان نفسه وحيداً مع ذاته .. مع وجوده في مواجهة العدم.

يقول هايدجر: في الذعر يتكشف العدم. أي بما أن الوجود البشري محاط بالعدم، فإنه هو عدم أيضاً. إن العدم يولد الإنسان، وإن الذات عندما تعي عدميتها، ينتابها الذعر الذي يضيئ لها وجودها الذي هو العدم ذاته كما يقول سارتر. (4).

إن الجوانب العاطفيّة والنفسيّة، تكسب عند الوجوديين طابعاً انطولوجياً (وجودياً) في أشكال الوجود .. العدم.. الموت. لذلك يغدو الإنسان في فلسفتهم هو الذعر والذعر فقط. أو بتعبير آخر، إن الوجود البشريّ يتكشف في المواقف الحدّية داخل هذا الوجود، أي في المواقف التي تكشف عن قسوة عالمنا وغربته ومواقف الألم والنزاع فيه. بمعنى أن الإنسان يشعر بذاته عندما تصطدم بذات الآخرين، كما يقول سارتر.

ثالثاً- موقع الحريّة في الفلسفة الوجوديّة:

لقد تبين معنا أن الذعر في الفلسفة الوجوديّة يكشف محدوديّة الوجود البشري، ويضع الإنسان أمام ضرورة اختيار موقف بالنسبة للموت، أي العدم، ففي إمكانيّة مثل هذا الاختيار تكمن حريّة الفرد.

إن الفلسفة الوجوديّة بالرغم من اعترافها بأن جوهر الإنسان هو نتاج مجمل علاقات الحياة الاجتماعيّ، لكنها تسبغ على هذه الحقيقة طابعاً ذاتياً وإراديّاً محضاً. على اعتبار أن هذا الإنسان يختار ماهيّة الأشياء كما يشاء، لذلك هو يصنع ذاته بذاته، وأن ما هيته وفق هذا التصور لم تكتمل، كونها إمكانيّة احتياطيّة (وجود بالقوة).. فكرة ... أو مشروع. (5).

إن الوجودي وفق هذا المعطى للفلسفة الوجوديّة، ينزع دوماً نحو المستقبل، وفيه يخطط لنفسه متجاوزاً بذلك حدود ذاته. فالإنسان يختار نفسه بملء الحريّة، ويتحمل كامل المسؤوليّة عن اختياره هذا. إن الحريّة ليست ملازمة للإنسان في الفلسفة الوجوديّة فحسب، بل هي جوهر وجوده أيضاً. فالإنسان هو حريته.

إن أفكار الحريّة، والاختيار الحر، والمسؤوليّة كل هذه القضايا لم تساعد الإنسان في الحقيقة على إيجاد حل صحيح لها كما تدعي الوجوديّة، بقدر ما زادته ارتباكا وتخبطاً. ففي النظرة الوجوديّة عن الذعر، والتي يجد فيها الوجوديون اَلْمَنْفَذَ الوحيد للحريّة. يكمن جوهر الحريّة وأسباب انطلاقتها، إنها الحريّة التي تتجسد في نشاط الفرد الخلاق الذي يهدف إلى تحويل العالم المحيط به أو الموجود فيه.

إن نقدنا العقلانيّ لهذا الفهم المشبع بالوهم عن الحريّة، يأتي من معرفتنا العقلانيّة لحياة الناس، فالنظرة الموضوعيّة من قبلنا لما عاشته أوروبا أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما، لا تنكر وجود الخراب والمرض والعذاب والذعر والموت، وهذه التجليات السلبيّة التي أفرزتها تلك الظروف، أو ظروف الحروب بشكل عام تفرز معها أيضاً حالات نفسيّة وأمزجة عقليّة تشير إلى انحطاط هذه الحياة.

إن الحريّة في الفلسفة الوجوديّة أمر متعذر عن التفسير، ولا يعبر عنه بالمفاهيم، فهو لا عقلاني، لذلك فالوجوديون يعارضون الضرورة بالحريّة، وينفون مشروطيّه الاختيار.. لذلك تأتي الحريّة عندهم خارج المجتمع، أي حريّة الفرد المنطوي على ذاته المنعزلة عن الاخرين.. وبالتالي هي حالة باطنيّة، ومزاج نفسيّ، ومعاناة ذاتيّة. لذلك هي هنا تعارض (الضرورة)، أي الظروف الماديّة والفكريّة التي تساهم في التوجه نحوها، أي المعيقة لتحقيقها، لكونهم عزلوها عن هذه الظروف المحيطة بها. فجاءت حريّة بلا قيمة، ومبدأ شكليّ فارغ، ونداء عقيم لا جدوى منه. إن الوجوديين لا يستطيعون ولا حتى يحاولون الكشف عن مضمونها الحقيقي. إنهم يؤكدون فقط على أن الإنسان يجب ان يختار مستقبله بحريّة، لكنهم لا يشيرون إلى ركيزة يعتمد عليها في هذا الاختيار، وبهذا يبقى الإنسان مسلوب الحريّة، كونه لا يجد شيئاً يختاره، فما يمكن أن يختاره ليس أفضل ولا أسوأ من غيره، ويبقى في نهاية المطاف اختيار بلا مغزى، إلا مغزى واحداً هو ما يُشْعِرُ الفرد بأنه معزولاً عن غيره، وبأن ما يريد تحقيقه بعيداً عن مصالح الآخرين ورغباتهم، وهنا تكمن مواجهة الفرد بالمجتمع.

إن الوجوديّة تطرح جانباً المضمون الحقيقيّ التاريخيّ للحريّة، لأن مسألة الحريّة عندهم ليست مسألة تحرير البشر من قسوة الحياة الطبيعية والاجتماعيّة عليهم.. أي ليس تحريرهم من ظلم الطبقات المستغلة وسيطرة القوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع عليهم، إنها ليست أكثر من نصائح وإرشادات تهيب بالفرد أن يبحث عن حريته في أعماق وجوده الذاتي فقط.

رابعاً - النظرة المثاليّة الذاتيّة للعالم:

يرى الوجوديون أنه، برغم كون الإنسان حراً، فإن حريته تتحدد بأطر حالة معينة يختار فيها موقفه هذا أو ذاك، مع التأكيد هنا بأن الوجود البشري يتميز بأنه وجود بين الناس الآخرين . أي وجود في المجتمع وفي العالم. ومع ذلك فإن الإنسان لا يختار بنفسه ظروفه المعيوشة لأنه اقتيد إلى هذا العالم رغماً عنه، وسيبقى تحت رحمة القدر. إن قدر هذا الإنسان يتحدد عندهم بانتمائه إلى زمن معين، أو شعب معين بطبعه هذا أو ذاك، وبثقافة وقدرات المجتمع العقليّة وغيرها. وهذه جميعها يجدها الإنسان قائمة لا حول له فيها ولا قوة. وحتى أن بداية الوجود الإنسانيّ ونهايته بالنسبة له مستقلان عن إرادته الإنسانيّة. إن هذا كله يدفع بالوجوديين إلى وجود آخر لا واقعي، هو ماهيّة غيبيّة أخرى، بالإضافة إلى الوجود البشري. إن الوجود في العالم حسب رؤيتهم، ليس إلا قلق الإنسان وشعوره بالخطر.

إن العالم الخارجي عندهم يلف الوجود الإنسانيّ كما الضباب الذي يلف الظواهر في علاقة لا تنفصم.

يقول هايدجر: (طالما أن الإنسان موجود، يبقى العالم قائماً، وإذا انتفى وجود الإنسان انتفى وجود العالم.). (6).

نقد النظرة المثاليّة للعالم:

إن من يتفحص هذه النظرة الوجوديّة المثاليّة للعالم، يجد أنها تتجلى بالانفراديّة في جوهرها عند الوجوديين، فهي تنفي لا الطابع الموضوعّي للمكان فحسب، بل وللزمان أيضاً، وَتُحَوُلُهُمَا إلى أشكال لوجود الإنسان المنفرد بذاته. فالزمن هنا ليس إلا معاناة الإنسان لمحدوديّة وجوده أو ديمومته المؤقتة. فالزمن الحقيقي هنا ليس إلا الفترة الممتدة بين ولادة الإنسان وموته. وبذلك فإن أية نظرة أو تصور عن وجود الزمان قبل الوجود الإنساني أو بعده، هو وهم لا أكثر. أو يمكننا أن نقول بتعبير الوجوديين، إن الكلام عما سيكون بعدي هراء فارغ.

هكذا ينفي الوجوديون التاريخ، ليعترفوا باللحظة التي فيها يستيقظ وعي الذات. إن هذه النزعة اللاتاريخيّة ليست إلا صدى للذعر من قوانين التاريخ التي ستودي بالضرورة بالطبقة البرجوازيّة، أو النظام الرأسماليّ إلى نهايته المحتومة.

إن العالم عند الوجوديين المثاليين مليء بالألغاز.. عالم يستحيل فهمه...إن الرموز والاشارات المبهمة تكتنف الوجود من جميع جوانبه.. إنه عالم يمثل صفحة مكتوبة بالشيفرة، يسعى الإنسان دائماً إلى فك رموزها. بيد أن الفشل سيكون حليف هذه المهمة. لذلك لا بد من اللجوء إلى الإيمان وبشكله الدينيّ المبسط المفهوم للجميع، أو إلى الإيمان الفلسفيّ الأكثر تعقيداً، ولكنه لا يختلف عن الأول إلا بالصيغة. إن المواقف الحدّيّة، أو لحظة الاحتضار أو الموت، ستزيح الستار المدلى على الوجود ليلتقي الإنسان بالمتعالي. إن هذا الموقف الوجودي ينطوي على الشموليّة المشبعة بالموت والعدم، وعلى الله قبل كل شيء.

خامساً- الفرد والمجتمع:

إن الوجوديين لا ينكرون بأن الإنسان لا يستطيع العيش إلا بين ناس آخرين.. أي في المجتمع، لكن فهمهم لهذه الحقيقة يظل فهماً فرديّاً متطرفاً. فالمجتمع الذي يهيئ الظروف لحياة أفراده والذي فيه ينمو وعي الفرد وتتفتح شخصيته، ليس في نظر الوجوديين إلا قوة كليّة تضغط على الفرد وتسلبه وجوده وتجعله أسير أذواق وأخلاق ونظرات واعتقادات وعادة معينة، فرضتها الكتلة الاجتماعيّة.

فالوجوديون في حقيقة فلسفتهم يعبرون عن مجتمع أوربا الرأسماليّة، التي يُضطهد فيها الفرد ويشيء ويستلب ويغرب ويجرد من إنسانيته. والمشكلة عندهم أنهم يحاولون تحويل احتجاج المواطنين ضد معاناتهم هذه تحت مظلة الظروف الرأسماليّة إلى احتجاج ضد المجتمع عموماً، وليس ضد القوى التي فرضت عليهم هذه المعاناة.

إن الإنسان حين ينتابه الذعر أمام الموت، يلجأ إلى المجتمع ملتمساً فيه العزاء والسلوى، لا لكونهم سيقفون معه ويحلون معاناته، بل على اعتبار أن الآخرين سيموتون ايضاً وهنا تكمن سلواه. وبهذا يشيح الوجودي بأفكاره بعيداً عن موته الذاتيّ، أي عن موته هو. إن حياة الإنسان وفق هذا التصور عن حياته في المجتمع، ليست حياة حقيقيّة أصيلة، إنها وجود سطحيّ عمليّ لا أكثر. لذلك في أعماق الذات فقط، ينكشف الوجود الإنسانيّ الحق.. الوجود الفردي الأصيل، الذي يتجلى لنفر قليل من الناس أشبه بحالة الصوفي في تفرده مع المطلق. إن الذعر أمام الموت هو السبيل الوحيد لإدراك هذا الوجود، وهو الذي يضيء للإنسان وجوده الفرديّ، فلا أحد يموت بدلاً عن الآخر، وكل يموت بمفرده، بيد أن الموت سيصيب الجميع في النهاهية.

هكذا تتكرر المعرفة الوجوديّة هنا، فالإنسان يعيش لكي يموت، والموت هو الإمكانيّة الأخيرة المتبقّية للإنسان، أو هو نهاية كل الامكانات، وهو أسمى الحقائق، وأن الوجود يأتي من أجل الموت، وهو الهدف الأصيل لحياة البشر.

إن من يتابع أفكار الفلسفة الوجوديّة سيجد أنها تلحق ضرراً فادحاً في حياة الإنسان وبنيته الفكريّة وتوجهاتها، وبالتالي في سلوكه، حيث تزرع في نفسه الايمان بأن الموت هو معنى الوجود الإنسانيّ وغايته، وهذا ما يدفعه إلى الاستهتار بالحياة، وبالنضال من أجل مستقبل أفضل. ثم أن الوجوديّة بدعوتها إلى الفرديّة المتطرفة، تحاول أن تقنع الإنسان بأن لا فائدة ترجى من الحياة الاجتماعيّة، أي من تضامن الجهود الاجتماعيّة المشتركة للخلاص من معاناة الواقع وما تتركه التناقضات القائمة في بناه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من قهر وظلم على الإنسان. إن الوجوديّة بفهمها اللاعقلانيّ للحريّة، فهي تجرد الحريّة من أي مضمون حقيقيّ، وتجعل السلوك الإنسانيّ بمعزل عن أيّة ضرورة (أي أيّة ظروف موضوعيّة تحيط به داخل المجتمع)، ليتحول الإنسان إلى مشيئة (وجود) لا حدود لها وبدون أي معنى.

ملاك القول: إن الوجوديين يعارضون الفرد بالمجتمع، أي بالتنظيم الاجتماعيّ، أو المتحدات الاجتماعيّة. إن الوجوديّة حين تنفي القيمة الكليّة للمبادئ والقيم الأخلاقيّة، إنما تنادي بالنسبيّة الأخلاقيّة المتطرفة، مما يحول الإنسان إلى طريدة.. إلى كائن لا أخلاقي تماماً، فكل شيء عنده يصبح مباحاً.

إن هذه الحياة العبثية التي يمارسها الوجودي في مجتمعه، وصفها خير توصيف الفيلسوف "زيجمونت باومان" في حكاية البطل أوديسيوس، حيث يكتب باومان عن حياة الأوربيين الذين فقدوا سبل الحياة العقلانية بسبب ما خلفته الحربين العالميتين وطبيعة النظام الرأسمالي المتوحش. لقد وصف حياتهم بحياة الخنازير، هذه الحياة التي لم يعد يهمهم التحرر منها، وهي عيشة يجدون فيها كل ما لذ وطاب، يتمرغون بالوحل بلا مسؤوليّة متى يشاؤون، ويشربون ويأكلون بلا هموم أخلاقيّة، ولا التزامات اجتماعيّة، ويتلذذون بعلاقات جنسيّة بلا حب، ولا واجبات ومسؤوليات أسريّة ولا روابط اجتماعيّة، ويعيشون في استقرار لا يحمل هموم الحريّة والكرامة الإنسانيّة، ولا يطيقون صوت الحريّة وهمومها ومسؤولياتها وعواقبها. (7). علماً أن بعض الوجوديين يقفون مع حركة أنصار السلم، ويطالبون بعدد من المطالب التقدميّة، إلا أن فلسفتهم تبقى بطبيعتها معاديّة للأخلاق التقدميّة الاجتماعيّة منها والعلميّة والفلسفيّة، وبذلك هي تلعب دوراً تخريبياً، وتوهن من عزيمة الناس المتأثرين بها.

إن الوجوديّة تنادي بحريّة الإنسان كما بينا أعلاه، ولكن فهمها للذات الإنسانيّة وللحرية معاً، يأتي فهماً متناقضاً ومغلوطاً، ومفعم بنزعات اجتماعيّة وسياسيّة جد متباينة. لذلك لا نستغرب أن الوجوديين هم من منح الفاشيّة والنازيّة والأنظمة الشموليّة الحديثة والمعاصرة سلطات لا محدودة، وبالتالي تبرير استبدادها وقهرها لشعوبها وشعوب العالم. فالفلسفة الوجوديّة إذ تنطلق من اغتراب الفرد في المجتمع البرجوازي باعتباره مبدأ القياس ومعياراً لكل القيم، فهي تنفي أية إمكانيّة للتحليل العلميّ بالنسبة لظواهر الحياة الاجتماعيّة وتقويمها موضوعيّاً. كما تحجب عن الأعين رؤية مجرى الصراع السياسيّ والعقائديّ والطبقيّ داخل المجتمع... إن الفلسفة الوجودية حتى عندما لا تعبر بشكل مباشر عن مصالح اليمين البرجوازي، فهي تبقي معتنقيها في دوامة من الحيرة والضياع، وتدفع بأصحابها إما إلى الاقتراب المؤقت من القوى التقدميّة فعلاً، أو تدفعهم باتجاه معسكر القوى الرجعيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش:

1- المنطق الصوري أو المنطق الشكليّ، وهو علم آلي وضع لصيانة الذهن عن الخطأ في الفكر. فهو الميزان والمعيار الأساس لمعرفة التفكير الصحيح. أي هو النظر في التصورات العقلية والقضايا والقياسات من حيث صورتها لا من حيث مادتها، وأهم مبادئ هذا المنطق هي : آ- مبدأ الهوية: يقضي أن الشيء هو هو ولا يمكن أن يكون إلا هو، أي أن الشيء يكون مطابقا لذاته. ب- مبدأ عدم التناقض: مضمونه أن النقيضين لا يجتمعان، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغير ذاته. ج- مبدأ الثالث المرفوع: مضمونه أن لا وجود لحد وسط بين نقيضين، فالشيء إما أن يكون أو لا يكون.

2- (موقع لماذا؟. بحث بعنوان لماذا ظهرت الفلسفة الوجودية ومعناها.).

3- (الموسوعة الحرة – بحث الوجوديّة).

4- راجع كتاب - موجز تاريخ الفلسفة. مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي - دمشق – بحث الوجوديّة.

5- المرجع نفسه.

6- موجز تاريخ الفلسفة.

7- ( راجع الحداثة السائلة – زيجمونت باومان - ترجمة حجاد أبو جبر – مكتبة بغداد – الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر –ص8و9).

يكمن جزء من الصعوبة في النقاش أعلاه في طبيعة المثالية نفسها. إنها ليست، حتى من حيث المبدأ، وصفًا  قابلة للتحقًيق تجريبيًا لحالة إجماع محتملة، بل هي افتراض على المشاركين في الخطاب تقديمها إذا أرادوا التفكير في أيً إجماع على الأطلاق.[1] قد يكون الحديث عن الإجراءات الديمقراطية بوصفها "تقريب" للإجماع العقلاني مضللاً. ومع ذلك، يبقى هناك جوهرًا صالحًا للأهتمام بشأن الخضوع؛ فيبدو أن الصعوبة الأساسية تكمن في تفسير الشرعية من خلال الإحالة  إلى المثالية الخطابية فقط. إذا كانت هذه تعيًن شرعية إجراء ما وحدها، فإن أي متطلبات مؤسسية تحد من متطلبات الخطاب العقلاني يكون لها دور سلبي يتمثل في تقييد المثل الأعلى أوالنموذج المثالي، فهي تكشف عن عدم قدرتنا على تحقيق خطاب عقلاني بالكامل. إنه من الصعب تجنب نوع من الخضوع في مثل هذا البناء مهما كان دقيقًا. ويثير هذا التساؤول حول ما إذا كان يساهم هذا البعد المؤسسي بشكل إيجابي في الشرعية على وجه التحديد، أي بطريقة لا يمكن تفسيرها بالكامل من ناحية المثالية الخطابية التي تحدد الإجماع العقلاني. إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نكون قادرين على تحديد مكون للشرعية له علاقة بإضفاء الطابع المؤسسي بطريقة ما على هذا النحو، بطريقة لا يمكن اختزالها في الخطاب. أيً، يجب أن نكون قادرين على التمييز، بالنسبة لإجراءات قانونية  أو سياسية معينة، جانب من الإجراءات لا يزيد من كمية ونوعية الخطاب، ومع ذلك فهو مهم للشرعية. وكما سنرى، فإن ما يسميه هابرماس "الوسيط القانوني" أو "الشكل القانوني" مكافئ تقريبًا لهذا المكون المؤسسي على وجه التحديد.[2]

إنه من المهم أن ينظر هابرماس في ظل هذه الصعوبات إلى المبدأ الديمقراطي بوصفه المصدر المباشر لصنع القرار الشرعي. يفترض هذا المبدأ مسبقًا العقلانية الواردة في الخطاب ويخبرنا كيف نؤسسها بوصفها "رأيًا سياسيًا عقلانيًا وتشكيل للإرادة".[3] وبالتالي فهي تمثل تعريفًا للشرعية يرتكز على كل من المثالية الخطابية والمتطلبات المحددة لإضفاء الطابع المؤسسي القانوني. فينجم المبدأ الديمقراطي عن الجمع بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني، على حد تعبير هابرماس. إنه يعرف المبدأ الديمقراطي على النحو التالي:

يجب أن يرسخ مبدأ الديمقراطية إجراءات سن القانون الشرعي. وأن ينص على أن القوانين التي يمكن ان تدعي الشرعية هي فقط تلك التي تحضى بموافقة جميع المواطنين في عملية تشريع خطابية شُكلت بدورها بطريقة قانونية. بعبارة أخرى، يفسر هذا المبدأ المعنى الأدائي ممارسة حرية إرادة مشرعين يعترفون ببعضهم البعض كأعضاء أحرار ومتساوين.[4]

على الرغم من أن هذا التعريف مازال يشير إلى المثل الأعلى الخطابي للإجماع الكامل، وهي نقطة سأعود إليها، إلا أنه يربط  الشرعية بالاعتراف المتبادل بين أشخاص قانونيين أحرار ومتساوين. ولايمكن أختزال  مساهمة الشكل القانوني حول الشرعية في الخطاب فقط. يجب علينا فحص نظام الحقوق الذي يحدد الموضوع القانوني لنرى كيف يلعب الشكل القانوني دورًا إيجابيًا في شرعية القانون.

لايمكن للمبدأ الديمقراطي أن يتخذ شكلًا مؤسسيًا إلا في نظام حقوق إذا أراد المواطنون أن يكونوا مخاطبين ومشرعين لقانون ينظم حياتهم بشكل شرعي معًا.[5] وبشكل أكثر تحديدًا، تطبيق مبدأ الخطاب على الوسيط القانوني على هذا النحو في مجموعة من الحقوق التي تضمن استقلالية المخاطبين من قبل القانون، في حين أن اشتراط أن يكون المرسل لهم أيضًا مؤلفي القانون يولد حقوق المشاركة السياسية وبالتالي الاستقلالية العامة للمواطنين. [6]

يشير هذا إلى أنه يمكننا تحديد مساهمة مؤسسية خاصة للشرعية على مستوى الحريات السلبية التي تحدد الأستقلال الذاتي الخاص،  لأنه هنا يجتمع مبدأ الخطاب والوسط القانوني معًا.  تتضمن استقلالية الفرد ثلاثة فئات أو أنواع من الحقوق حسب هابرماس. الأول هي تلك الحريات السلبية التي تضمن مجالات الفعل الفردي المستقل. الثاني تشمل حقوق العضوية في المجتمع السياسي. والثالث حقوق التقاضي القانونية التي تسمح للأفراد بمقاضاة النوعين الأولين من الحقوق. فيجب على الدولة الدستورية، وفقًا لهابرماس، تفسير وتطوير حقوق وقوانين تقع ضمن هذه الفئات الثلاث. ليست الفئات الثلاث نفسها متطابقة مع أي مجموعة محددة من الحقوق الخاصة؛ فهذه الفئات هي أفكار مجردة تتطلب تطويرًا تاريخيًا وسياسيًا. فعلى سبيل الإيضاح يمكن للمرء ملاحظة أن الحق في الكرامة الشخصية، والحياة، والحرية، والنزاهة الجسدية، وما إلى ذلك، تفسر الفئة الأولى. تشتمل فئة حقوق العضوية مختلف القوانين والحقوق التي تحدد وضع الأعضاء في المجتمع القانوني. يشمل تفسير هابرماس هنا المحظورات ضد تسليم المتهمين، وحقوق اللجوء السياسي، وما إلى ذلك. أخيرًا، تجد الفئة الثالثة تعبيرًا عنها في حقوق الإجراءات القانونية الواجبة مثل: حظر العقوبة بأثر رجعي، وما إلى ذلك.[7]

تُعد مثل هذه الحقوق مركزية في القانون الحديث و مكونة للشكل القانوني. وبهذا الأعتبار فهي تحدد مجالات الفعل التي يمكن للأفراد أن يسعوا فيه بثقة إلى تحقيق غاياتهم الخاصة دون تدخل الآخرين ودون الاضطرار إلى تبرير خياراتهم في خطاب.[8] إذن يكون القانون قادرًا من خلال هذه الحقوق الفردية على تأمين مجالات للفعل يتم فيها إعفاء الأشخاص من الحاجة إلى الوصول إلى إجماع أو توافق في الآراء من خلال الخطاب: لا تتطلب التسوية أو التنسيق القائم على القانون سوى الامتثال الخارجي على عكس أشكال التسوية أو التنسيق الاجتماعي التي تتطلب من المشاركين التوصل إلى اتفاق بناءً على رؤية كل منهم. وبهذا المعنى، ليس الحقوق الفردية مجرد وسائل للخطاب ولكن لها وظيفة تتعلق بالشرعية فيما تضمن من مساواة في الحريات الفردية للمواطنين، رغم انهذه المساواة ليست سمة ضرورية للشكل القانوني نفسه. فوفقا لهابرماس، يمكن للمرء من خلال إدخال مبدأ الخطاب فقط أن يثبت أن لكل شخص الحق في حريات متساوية".[9] لذلك إذا كنا نتطلع إلى مثل هذه الحقوق من أجل الجانب المؤسسي المحدد للشرعية  فلن نجدها بمعزل عن الخطاب - حتى لو كانت الحقوق التي تحدد الاستقلال الذاتي هي نفسها ليست قابلة للاختزال في خطاب ولا مجرد أدوات من أجل خطاب.

حجة هابرماس هنا هي: إذا أريد مأسسة الخطاب، فيجب أن يتخذ الشكل القانوني بنية محددة  قبل بداية أي خطابات سياسية- قانونية. بمعنى، يجب تعريف الأشخاص القانونيين بوصفهم أعضاء أحرار ومتساوون في المجتمع القانوني. لأن الخطاب يفترض مسبقًا أن المشاركين فيه هم أفراد مستقلون، وفقط مدونة قانونية منظمة من حيث الحقوق الفردية  ما يضمن مثل هذا الاستقلالية  والتي يمكن أن تحدد مسبقًا حتى المشاركين المحتملين للخطابات االموجودة بالفعل، حيث يتم تعريف المشاركة من حيث حقوق التصويت، والتمثيل، وما إلى ذلك. وكما يرى هابرماس، ينطوي وضع مجموعة القوانين على هذا النحو على حقوق الحرية التي تولد وضع الأشخاص القانوني وتضمن سلامتهم. وإن هذه الحقوق هي شرط تمكين ضرورية لممارسة الاستقلال السياسي. وبالتالي، فإن محاولة إضفاء الطابع المؤسسي على الخطاب تضع قيودًا على الوسيط القانوني الذي يمكن أن تقوم فيه مثل هذه المؤسسات، وهذه القيود موجودة في الأنواع الثلاثة للحقوق التي تؤسس الاستقلال الذاتي.[10]

ما يهمني هنا ليس كيف يمكن للمرء أن يدافع عن الادعاء بأن الاستقلال الشخصي الخاص هو شرط مسبق ضروري للديمقراطية التداولية.[11] ولكن مهتم في المقام الأول بكيفية فهم هابرماس للمساهمة التي تقدمها حقوق الحرية هذه في إضفاء الشرعية على العملية الديمقراطية. إنه يؤكد، حتى لو لم يستمد الحريات السلبية من المثل الخطابية مباشرة، فأن الخصائص الشرعية لهذه الحقوق تنبع من علاقتها غير المباشرة بالخطاب. وعلى وجه التحديد، تنشئ الحقوق التي الاستقلال الشخصي الخاص لها دور في الشرعية الديمقراطية عندما تكون مرتبطة بالخطاب السياسي فقط. يمكن للأشخاص القانونيين تفسير حقوقهم المدنية وتوضيحها بشكل تلقائي، وبالتالي يصبحون مشرعين للقانون وموجهين له بموجب حقوق المشاركة السياسية فقط، التي تمكّن المواطنين المستقلين من الانخراط في الاستقلال الذاتي الجماعي.[12]

وهذا يعني، باختصار، أن الاستقلال الشخصي الخاص والعام يفترض كل منهما الآخر في تفسير الشرعية.[13] ومن هنا يلعب الشكل القانوني في الشكل المحدد للحرية الفردية المتساوية دورًا إيجابيًا في الشرعية الديمقراطية. ومع ذلك، فإنه يكشف، في اتحاد مبدأ الخطاب والشكل القانوني، أن الأخير هو الذي يتأثر حقًا- أيً أنه مجبر على تبني شكل معين. من ناحية أخرى، يندمج مبدأ الخطاب مع المبدأ الديمقراطي دون تغيير، طالما أن شرط الإجماع يظل كما هو في المبدأ الديمقراطي. قد يبدو هذا غريب الى حد ما، بالنظر إلى أن صنع القرار الديمقراطي يتم تعريفه عادةً من حيث حكم الأغلبية بدلاً من الإجماع. وهكذا يلعب مبدأ الخطاب الدور المهيمن في تفسير الشرعية، مما يشير إلى أن دافع الخضوع مايزال قائمًا في وصف هابرماس للحقوق على الرغم من الدور الإيجابي الذي يلعبه الشكل القانوني. على الرغم من أن هابرماس لا يتبع تفسير كانط الأخلاقي للحريات المتساوية،[14] إلا أنه يفسر الحريات فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسساتي على خطاب يقيس نجاحه مقابل إجماع مثالي من حيث استمرار الخضوع لهذا المعيار المطلوب في المبدأ الديمقراطي.[15]

لا ينطوي إخضاع القانون للخطاب المثالي على دلالات إشكالية تثقل كاهل نظرية كانط القانونية. لذلك حضورها عند هابرماس مفهوم لأنه يريد التأكيد على ضرورة الخطاب من أجل تشريع شرعي في المقام الأول.[16] إذا كان القانون والسياسة  تتمثل في مؤوسسات صنع القرار أولاً وقبل كل شيء ، فإن المداولات والخطاب يمثلان بُعدًا واحدًا فقط. فإلى جانب الحاجة إلى تحويل مبدأ الخطاب إلى قانون، على المرء أن يطرح قرارات عادلة وملزمة في الخطاب أيضًا. فلا يمكن للمبدأ الديمقراطي، مع شرط الإجماع، أن يخبرنا كيف نقرر القضايا المتنازع عليها. وبالتالي، هناك مستوى من المأسسة لا يصل إليه المبدأ الديمقراطي. وبشكل أكثر تحديدًا، ساشير  في القسم الأخير الى أن اعتبارات الإنصاف المعمول بها على مستوى اتخاذ القرار هذا لا يتم استيعابها بالكامل من خلال نموذج التبرير المحايد.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] Habermas, Jürgen, supra note I, at 323:

أنظر ايضا:

Habermas, JUSTIFICATION AND APPLICATION: REMARKS ON DISCOURSE: ETHICS 54-57 (Ciaran Cronin trans., 199 3).

[2] أنظر: هابرماس، المصدر نفسه ، 113-18

حول تفسير هابرماس الاجتماعي للشكل القانوني ؛ أنظر أيضا المصدر نفسه. 178 – 79

ولتجنب مصدر ارتباك محتمل ، لاحظ أن هابرماس أسقط التمييز السابق مكررًا بين "القانون كمؤسسة" و "القانون كوسيط". انظر: 561  .48.

[3] هابرماس، المصدرنفسه: 110

[4] هابرماس، , المصدر نفسه ،110

[5]. هابرماس, المصدر نفسه:, 110

[6]، هابرماس، المصدر نفسه:,  118

[7]- هابرماسن المصدر نفسه:, 26

[8] هابرماسن المصدر نفسه، 115-19.

[9] هابرماس، المصدر نفسه   ، 123 .

[10] هابرماس، المصدر نفسه، . 128

لاحظ أن هابرماس لم يضع سلطة الدولة في الصورة بعد ؛ على الرغم من أن النظام القانوني لا يمكنه تثبيت نفسه دون دعم سلطة الدولة القسرية.

[11]   : لمزيد من المناقشة أو العلاقة بين الحرية السلبية والعملية الديمقراطية ، انظر

Albrecht Wellmer, Models of Freedom in the Modern World, 21 PHL F. 227 (1989-90).

[12] هابرماس، المصدر نفسه  126-27.

[13] هابرماس، المصدر نفسه، 408 .

[14] هابرماس، المصدر نفسه   ،105-06 .

[15] للحصول على نقد لنماذج الاجماع  بشأن الشرعية أنظر:

Bernard Manin, On Legitimacy and Political deliberation, 15 PoL. THEORY 338 (Elly Stein & Jane Mansbridge trans., 1987).

[16] هابرماسن المصدر نفس 304 .

نستكشف هنا الطريقة التي يؤسس بها يورغن هابرماس في كتابه "بين الوقائع والمعايير" العلاقة بين القانون (أو الإجراءات التشريعية للقانون) ومفهوم مثالي للخطاب العملي العقلاني. يوضح الجزء الأول من هذا البحث المشكلة التي تنشأ إذا قام أحدهم بإخضاع القانون لمثالية العقل العملي؛ وسأحاجج هنا بأن خضوع القانون للأخلاق هو جزء من مشكلة أكبر لا يمكن الأفلات منها بمجرد تحليل القانون بواسطة التبرير الخطابي بشكل عام. يتابع الجزء الثاني مسألة ما إذا كانت نظرية هابرماس القانونية تفلت من هذه الصعوبة من خلال تفسيره للمأسسة الديمقراطية للخطاب وعلاقته بالشكل القانوني كنظام للحقوق. ويتناول القسم الثالث مسألة الخضوع أو الأمتثال في تفسير هابرماس للحقوق ويختم بتناول صنع القرار الشرعي بوصفه لا يقتصر على الخطاب فحسب بل يشمل ايضًا شكلاً من أشكال العدالة الإجرائية التي يميل تحليل هابرماس للخطاب النظري إلى إهمالها.

I

يمكن للمرء أن يتعامل مع المشكلة من خلال طرح السؤال ابتداءً: كيف يرتبط القانون بالأخلاق؟ حاجج هابرماس في كتابه، (بين الوقائع والمعايير)،[1] بأن شرعية القانون نشأت عن الطريقة التي تتداخل فيها العقلانية الأخلاقية العملية مع و\الإجراءات القانونية المؤسسية.[2] فُسر هذا الجانب الأخلاقي من القانون بمصطلحات إجرائية، فيتحدث هابرماس عن القانون بوصفه يتضمن نوعين من العقلانية الإجرائية، أحدهما أخلاقي-عملي وآخر تشريعي. وجدت العقلانية الإجرائية الملائمة للأخلاق تعبيرها الكامل في مفهوم الحياد الذي يُعبر عنه بمبدأ التعميم: فلكي يكون معيار العمل صحيحًا أخلاقيًا، يجب أن يكون قادرًا على كسب موافقة جميع الخاضعين له بعد أن يأخذوا في الاعتبار التأثيرات المختلفة التي قد تحدثها مراعاة المعيار أو القاعدة العامة على مصالح واحتياجات كل شخص. تُعرف الصلاحية الأخلاقية، إذن، من خلال إجراء مثالي لمنظور يأخذ فيه كل شخص متأثر بالمشكلة أو الصراع الحل المعياري المقترح من وجهة نظر كل شخص آخر متأثر أو متضرر.[3] وبطبيعة الحال نادراً ما يتم التوصل إلى حل حقيقي للصراعات في مثل هذا الاتفاق العقلاني المثالي بالإجماع على قاعدة. ومن هنا جاءت الحاجة إلى النصف الآخر من معادلة هابرماس وهي "التداخل"، أيً الإجراءات القانونية التي تضمن نتائج واضحة ضمن أطر زمنية محدودة".[4] ونظرًا لصعوبة الوصول إلى توافق عقلاني في مواقف الصراع، فإن الإجراءات القانونية المحددة للتوصل إلى قرارات واضحة لا لبس فيها تصبح مكملاً ضروريًا للخطاب الأخلاقي. قد تغري بعض صيغ هابرماس المرء باتخاذ خطوة أخرى وإخضاع القانون ضمنًا للأخلاق- بغض النظر عن استعارة المساواة للإجراءات "المتداخلة". وهذا يعني أنه يمكن إغراء المرء بسهولة لرؤية النتائج القانونية على أنها مشروعة بقدر ما يقترب الإجراء القانوني المؤسسي من سمات المنظور العام الشامل المتضمن في الإجراء الأخلاقي المثالي.[5] لا شك أن هابرماس قد أقر في صيغ أخرى بتعقيد الشرعية القانونية: فلاتمثل الإجراءات المثالية للحجج الأخلاقية سوى جزءًا من الشرعية.[6] ومع ذلك، فإن الإغراء مفيد، لأنه يُظهر مدى سهولة انزلاق استعارة التداخل إلى شكل من التبعية يحمل آثارًا قوية من"الإرث الأفلاطوني" الذي اكتشفه هابرماس في تحليل كانط للقانون، أيً، أن يقيس صلاحية القانون مقابل المعايير التي يقدمها عالم مثالي، كما نجدها عند كانط كقضية أخلاقية.[7]

ما الخطأ في إضفاء الطابع الأخلاقي على القانون بالطريقة التي قام بها كانط؟ تكمن الصعوبة الرئيسة لهذه النظرة في تبسيطيتها. لا ينصف إخضاع القانون للأخلاق تعقيد الاعتبارات والحجج التي تتعلق بشرعية القانون الحديث. يجب أن تكون القرارات القانونية المشروعة، في أعقاب عمليات المفاضلة والتمايز الناتجة عن التبرير المجتمعي الحديث، متوافقة ليس فقط مع الاعتبارات الأخلاقية؛ ولكن عليها الاهتمام أيضًا بالمسائل التقنية الذرائعية أو العملية الممكنة حول اختيار الوسائل والاستراتيجيات الفعالة للتعامل مع مشكلة معينة؛ ويجب أن تكون مقبولة في ضوء فهم المجتمع، وهو ما يسميه هابرماس قضية "أخلاقية - سياسية"؛ ويجب أن تكون منصفة بين كل عناصر التسوية للمصالح الخاصة المتنافسة. [8] إن أيُ تفسير للشرعية لا يعكس هذا التعقيد هو أمر مشكوك فيه من وجهة النظر المعيارية والاجتماعية. علاوة على ذلك، إنه لن يؤدي إلا إلى زيادة الصعوبات في تفسير الشرعية بطريقة تنصف كل من الاستقلال الذاتي الخاص والسيادة العامة، إلى الحريات السلبية للفرد، والقدرة الجماعية للنظام السياسي على تنظيم نفسه وحكم نفسه بالقوانين.[9]

يُعرِّف هابرماس علاقة القانون والأخلاق، في كتابه بين (الوقائع والمعايير)، بطريقة تحاول تجنب مثل هذا الخضوع أو التبعية. يمكن وصف الخطوة الرئيسة على النحو التالي: يؤسس كلا الإجراءين المتداخلين للأخلاق والقانون عقلانية أكثر تجريدية وحيادية يعبر عنها "مبدأ الخطاب"، " أخلاق الخطاب".[10] فقد قدم هابرماس بداية هذا باعتباره المبدأ الرئيس لنظريته الأخلاقية. ثم أعاد لاحقا تصنيف أخلاق الخطاب بحيث يتجاوز القانون والأخلاق بطريقة لا تضر بأي منهما. ياخذ الخطاب في سياق تكوين الحكم الأخلاقي شكل أكثر تحديدًا مع مبدأ التعميم الذي نوقش أعلاه؛ حيث يفترض شكل "المبدأ الديمقراطي" كنظام للحقوق الأساسية في سياق أنظمة الفعل المؤسسية للقانون. يبدو الطريق مفتوح الآن للتعامل مع الطابع الخاص للعقلانية والشرعية القانونية التي تنطوي على أكثر من تقليد للمثالية الأخلاقية.

تسمح إعادة تموضع الخطاب لهابرماس بتحديد موقع الصلاحية القانونية فيما يتعلق بالنطاق الكامل للعقلانية الخطابية وعمليات التسوية. أي أن التعقيد الكامل للشرعية يمكن أن يظهر بشكل أوضح مما كانت عليه في الصوًغ السابق التي قدمه هابرماس. تعتمد شرعية القانون، كما تم التعبير عنه في المبدأ الديمقراطي، على الإجراءات القانونية التي تضفي الطابع المؤسسي، ليس فقط على منطق المحاججة المقابل للتعميم الأخلاقي، ولكن أيضًا على منطق المحاججة المقابل للاختيار البراغماتي التقني للوسائل والاستراتيجيات، والقرارات الأخلاقية السياسية حول السياسات والأهداف، والتسويات بين المصالح الخاصة.[11]

ومع ذلك ، إذا كانت إعادة تموضع الخطاب تعني ببساطة ربط الشرعية القانونية بمجموعة أكثر تعقيدًا من المثالية الخطابية، فستظل مشكلة أخرى مرتبطة بدافع الخضوع قائمة. يأتي حل هذه المشكلة من صوًغ هابرماس للخطاب الأخلاقي: أن تلك المعايير العملية هي فقط التي يمكن أن يتفق عليها جميع الأشخاص المتأثرين الذين يحتمل مشاركتهم في الخطابات العقلانية.[12] يحتوي مبدأ التبرير العقلاني العام هذا على اثنين من النماذج المثالية على الأقل. الأول هو وجوب موافقة جميع الأطراف المتأثرة بالقرار قبل اعتباره صحيحا ساري المفعول. والثاني، يجب أن يأتي مثل هذا الاتفاق على أساس الحجة الأفضل، أي من خلال المشاركة في الخطابات العقلانية.[13] وان يضع المرء في اعتباره هنا الأنواع المختلفة من القرارات والخطابات. تتطلب القضايا الأخلاقية، على سبيل المثال، موافقة جميع الأشخاص، بينما تتطلب مسائل السياسة والأهداف الجماعية موافقة جماعة محددة.[14] ومع ذلك يهدف منطق المحاججة في كلتا الحالتين، إلى اتفاق كامل في دائرة المخاطبين المرسل لهم. المشكلة هنا هي: أن فكرة الإجماع العقلاني تذهب الى نصف الطريق فقط في تفسير شرعية الإجراءات القانونية. وماتزال هذه الفكرة مجردة إلى حد كبير من التعقيد المؤسسي على وجه التحديد لعملية صنع القرار القانوني والسياسي: لا تخبرنا المثالية الخطابية الكثير عن مكان وضع الحدود المؤسسية اللازمة للتوصل إلى قرارات واضحة في ظل قيود زمنية أكثر من الإجراء الأخلاقي المثالي. إن العقلانية الإجرائية المثالية،كما قال بيرنهارد، غير محددة لتعريف مؤسسات صنع القرار المناسبة لقيود للمكان والزمان، والقيود التي تحرمنا من الراحة في مناقشة قضية متنازع عليها حتى يتحقق الإجماع التام.[15]

تبدو المثالية الخطابية مفيدة لإخبارنا لماذا يعتبر المشاركون في نتيجة معينة أكثر أو أقل شرعية- على سبيل المثال، ولماذا يعتبرون القرار الذي أُتخذ على أساس مناقشة طويلة ومفتوحة نسبيًا وإصداره بأغلبية ثلاثة أرباع أكثر شرعية من القرار الذي بالكاد يمر بعد مداولات متسرعة. لكن لا يمكن للمرء أن ينتقل مباشرة من الإجراء الخطابي المثالي إلى الوصفات والتعليمات الملموسة لإجراءات صنع القرار المؤسسية. لا يمكن للمرء أن يستنتج من هذا المثال أن المطلب المؤسسي لأغلبية ثلاثة أرباع هو أكثر عقلانية وبالتالي يولد شرعية أكبر- من شرط الأغلبية البسيطة. [16] المشكلة هي أن الإجراءات القانونية لا تخلق مساحة للخطاب فقط؛ لكنها تحد من فرض قيود على المتطلبات الخطابية الصعبة على الصلاحية الشرعية. ألا يمكن أن يكشف هذا الأختصار أو التقييد الخاص بعملية صنع القرار القانوني عن مزيد من شروط الشرعية غير تلك التي تعبر عنها أفكار الخطاب العقلاني؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن فكرة التبرير المحايد، حتى في شكلها الأكثر تعقيدًا، تفسر جزئياً فقط الشرعية المحددة للمؤسسات الديمقراطية وأشكالها صنع القرار فيها. وهنا يكمن المغزى الأعمق لمبدأ هابرماس الديمقراطي، والذي سأتناوله بمزيد من التفصيل في القسم التالي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.................

[1] Jurgen Habermas, Between Facts and Norms: Contributions to A Discourse Theory of Law and Democracy (William Rehg trans., 1996).

[2] الشرعية ممكنة على أساس الشرعية على الرغم من أن إجراءات إنتاج وتطبيق المعايير القانونية تتم أيضًا بشكل معقول، في الجانب الأخلاقي والعملي والعقلانية الإجرائية. ترجع شرعية الشرعية إلى تشابك نوعين من الإجراءات، وهما الإجراءات القانونية مع عمليات الجدال الأخلاقي التي تخضع لـ. العقلانية الإجرائية الخاصة بهم...

Jurgen Habermas, law and Morality, in 8. The Tanner Lectures on Human Values 217, 230(Sterling M. Mc Murrin ed., 1988).

[3] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action 43-115 (Christian Lenhardt & Shierry W. Nicholsen trans., 1990);

وكذلك

Thomas McCarthy, The Critical Theory of Jurgen Habermas ch.4 (1978).

و:

Willman Right, Insight and Solidarity: A Study in The Discourse Ethics of Jurgen Habermas pt.1 (1994)

[4] Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action, note2, at 230,244,246-57.

[5] يكتب هابرماس، في القانون والأخلاق على سبيل المثال: "يمكن للشرعية أن تنتج شرعية إلى الحد الذي يستجيب فيه النظام القانوني بشكل انعكاسي للحاجة إلى التبرير التي تنبع من إضفاء الطابع الإيجابي على القانون، ويستجيب بطريقة تجعل الخطابات القانونية تنصب على طرق تجعلها سابقة للحجج الأخلاقية". المصدر السابق، 243-44.

[6]. إن ممارسة السلطة السياسية في شكل قانون وضعي تحتاج إلى تبرير تدين بشرعيتها ... - على الأقل جزئيًا - إلى المحتوى الأخلاقي الضمني للروابط الصحيحة للقانون. هابرماس، "االمصدر نفسه 241-42.

[7] هابرماس المصدر نفسه 1, at 05 - 07.

[8] للحصول على تفسير هابرماس للتمايز الاجتماعي الحديث، انظر هابرماس ، المصدر نفسه: 94-99 ، 105- 07 ؛ ولنقده المعياري للخضوع كتبسيط مخل، انظر: . 22-34.

إن مشكلة إيجاد توازن بين الاستقلال الذاتي الخاص والعام تشغل الفصل الثالث ، ولكن انظر بشكل خاص: 83-84 ، 92-94 ، 104 ، 121-122.

[9]  من أجل حساب هابرماس الاجتماعي عن التمايز الحديث ، انظر المصدر نفسه، 94-99, 105- 07

لنقده المعياري للخضوع باعتباره التبسيط المفرط ، انظر المصدر نفسه:، 229-34 . حول مشكلة تحقيق التوازن بين الحكم الذاتي الخاص والعام أنظر الفصل الثالث ، لاسيما ص 83-84 ، 92-94104.

[10] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justification, in Moral consciousness and Communicative Action.

[11] هابرماس، المصدر نفسه، 108, 155- 56

[12]، هابرماس المصدر نفسه، 108 -109

[13] هابرماس، المصدر نفسه، 163-164

[14] هابرماس، المصدر نفسه، 123-124.

[15] Peters, Bernhard Peters, Rationality, supra note 6, at 246- 50.

[16]للحصول على نظرة عامة على التعقيدات التي تحضر قاعدة الأغلبية ، انظر:

Robert. A. Dahl, Democracy and Its Criticise 135-52 (198g).

Charles R. Beitz, Political Quality: An Essay in Democratic Theory chs1-4(1989);

Peter Jones, Political Equality and Majority Rule, in The Nature of political Theoey,1983, 155.

 

 

أطلق السوسيولوجي زيجمونت بومان على ما بعد الحداثة "الحداثة السائلة". ورغم انها متعددة الأوجه ومعقدة، لكن ظروف ما بعد الحداثة يمكن وصفها بخيبة الأمل من التوضيحات الشاملة للعالم، بما في ذلك تلك التي يعرضها الدين والعلم. ما بعد الحداثة ايضا يمكن فهمها من خلال اعراضها الرئيسية مثل مضاعفة الثانوي، الروايات المؤقتة، النسبية (عدم المقدرة على قول أي من الروايات هي أصح او أحسن من غيرها)، والواقع المفرط (المزج بين الواقع والخيال).

في عام 2018، اقتحمت ما بعد الحداثة البرازيليين بقوة بكل ألوانها كأكبر محطم للحقائق التجريبية والأفكار. انها تجسدت في حريق 2 سبتمبر من تلك السنة، الذي دمر أكبر متحف تاريخ طبيعي في البلاد، حيث ملايين الحقائق كانت محفوظة فيه سلفا. لا شيء اكثر رمزية من تلك النيران. هذا التدمير لمتحف الحقائق ايضا قابله قبل سنتين افتتاح متحف بلا أشياء في البرازيل، متحف الغد الذي ركز على استكشاف قصص بُنيت بمساعدة الصور الرقمية.

في الحقيقة، كان المتحف التقليدي بما فيه من مجموعة القطع الأثرية، هو حقا متحف الأمس. يُشار هنا الى ان تحطيم قطع المتحف بدلا من ان تكون حدثا تاريخيا، كانت نتيجة حتمية لظرف ما بعد الحداثة، وان إيقاف هذه النزعة هو ذو أهمية جوهرية للحفاظ على هوية النوع البشري.

انحدار الحقيقة المطلقة

ان الخط الفكري الذي قاد بالنهاية الى ما بعد الحداثة بدأ اثناء التنوير، وتحت تأثير اكتشافات كوبرنيكوس وجيوردانو بونو وكبلر وغاليلو، وفيزياء نيوتن، انتشرت عقيدة واسعة بان العلم يكشف تدريجيا عن الواقع وبالنهاية يكشف حقيقة الأشياء. الفلاسفة الوضعيون في القرن التاسع عشر – خاصة اوكست كومت – اخذوا هذا التفاؤل حول العلوم الى مستوى كلي جديد. هم اعتقدوا مثلا، بانه من خلال المعرفة التامة بالأجزاء نحن سنسيطر على الكل. عندما تعرف خلاياك جيدا، انت تستطيع السيطرة على جسمك. إعرف الانسان جيدا، ستعرف الانسانية. استعمل العلم جيدا، سوف تكون قادرا على بناء نظام أخلاقي سليم. أفكار كومت الأخلاقية – و"دين الانسانية" العلماني الذي أسسه – اصبح ذائع الصيت في البرازيل. "معابد الانسانية" الكومتية تأسست في مختلف أجزاء البلاد، والشعار الذي يظهر في علم البرازيل (النظام والتقدم) مشتق من كتابات كومت. لكن، الفلسفة وبعد وقت قصير فرضت أسئلة مقنعة: هل نحن نستطيع حقا معرفة العالم؟ هل أحاسيسنا تسمح لنا لنتأكد من الواقع؟ او هل سنكون ملعونين الى الأبد بأوهام كهف افلاطون؟

في معالجته لهذه الأسئلة، بيّن لنا عمانوئيل كانط ان الحقائق تصبح فقط حقائق لدينا، كجزء من تمثيل العالم المركب بواسطة أذهاننا. لاحقا سنكتشف انه بالاضافة لفلاتر حواسنا، اصطبغت الحقائق ايضا بالمعرفة وأنظمة القيم لأولئك الذين تصوروها. من هنا اصبحت الحقائق وبشكل متزايد يُنظر اليها كبناء انساني، ذاتي بعيدة عن الانطباع الأصلي في كونها كينونات مطلقة وثابتة.

العبارة القديمة "لا جدال ضد الحقائق " فقدت الكثير والكثير من معانيها. والطريقة التي نتصور بها العالم ستكون دائما متفردة. فريدة من نوعها كالوجه.

حالما جرى تفكيك الحقائق التجريبية والعقائدية، بقي الفلاسفة الوضعيون يأملون بامكانية بناء نظام أخلاقي مرتكز على المعرفة العلمية. ولكن بعدما حدث لاحقا من حربين عالميتين وقنبلتين نوويتين، أثبت العلم انه غير قادر وحده على بناء مثل هكذا صرح أخلاقي.

كان الفيلسوف كارل بوبر قد أغلق الطريق امام الوضعية حين قال ان  الفرضيات تكون علمية فقط عندما يكون بالإمكان تكذيبها. هذا يعني اننا لا يمكننا اعتبار أي فرضية علمية كحقيقة مطلقة. لم تعد هناك أي فرضيات علمية مثبتة. هناك فقط فرضيات مختبرة ومؤيدة. كل الفرضيات قابلة للتفنيد وهي مؤقتة وأكثر تمثيلا للواقع منه الى الواقع نفسه. حكمة سقراط "انا أعرف فقط اني لا أعرف" كانت وعلى نحو حاسم قد اندمجت في العلم.

من المثير، ان العلم الذي نُظر اليه مرة كمتجهم ومتغطرس، أصبح أكثر انظمة المعرفة انفتاحا . راح ينظر لنفسه كترجمة للعالم اكثر مما هو وصف له، كان من الطبيعي ان يسمح بوجود متزامن للنماذج التفسيرية المتنافسة. احيانا، نحتاج الى اكثر من اداة في علاقتنا مع الواقع. وباستعمال القول الكلاسيكي الفرويدي، نماذجنا ونظرياتنا تشبه منارة في الليل تضيء البحر لكي تبحر السفن بأمان. انها تضيء فقط لما يهم، بينما بقية السفن تبقى عائمة في عتمة جزئية .

هناك مثال مفيد نادرا ما يُناقش خارج البايولوجي وهو الأنواع. الانواع هي كائنات يتم تجميعها بالارتكاز على معايير مفاهيمية معينة. ولكن توجد هناك مفاهيم لأنواع مختلفة عديدة، كل واحد يؤدي الى تجمع مختلف. هناك علماء يعتبرون التكاثر باعتباره ذو أهمية اساسية لتعريف الانواع، هناك آخرون يعتبرون علاقات القرابة اكثر أهمية. كذلك، هناك من يعتبر التشابهات والاختلافات الفيزيقية هي الاساسية. هناك من يعتقد ان المسافات الوراثية بين المجموعات السكانية هامة. وبالنتيجة، عالِم ما بعد الحداثة يمكن ان يعيش مع مختلف التصنيفات من الجماعات الحيوانية او النباتية دون اعتبار أي من الافتراضات خاطئة بالضرورة. وبالعكس، هذا التعدد للروايات الصغيرة هو ذو أهمية كبيرة، كونه يوفر للعلماء ذخيرة واسعة من الأدوات لفهم العالم. امام كل سؤال، يمكن للعالِم ان يستعمل النموذج الذي يناسبه بشكل أفضل.

يمكن القول ان البحث عن الحقيقة في ما بعد الحداثة سيكون شيئا يشبه تسلق قمة جبل لكي يمكن النظر الى المشهد. نظريا، كل متسلق يستطيع تسلق الجبل عبر وضع يده وقدمه بالتناوب في شقوق او فجوات متميزة وبعدد لا متناهي من الاختيارات. ولكن طالما هناك احد يتسلق الجدار اولاً، سيكون هو من يضع القاعدة (ربط البراغي) التي تُستعمل من قبل متسلقين آخرين. هذا لا يمنع المتسلقين الآخرين من خلق مسارات اخرى وربط براغي جديدة.

لكن تلك الحرية تفرز معها بعض الفخاخ والمصائد. العلماء الذين لايقولون ابدا ان لديهم الحقيقة هم ليسوا أي شخص. العلماء الممارسون الحقيقيون الذين يجدون من الصعب العيش بتاريخ و روايات متعددة، ينتهون بعرض مشاكل خطيرة مرتبطة بعدم الارتياح النسبي هذا.

الكثير من العدمية والإنكار

من بين أكثر التأثيرات الشائعة غير المرغوب فيها المتصلة بانتشار روايات ما بعد الحداثة هي العدمية والنفي . في العدمية، يفقد الفرد تدريجيا الاتصال بالواقع ولا يعرف كيف يختار بين الروايات المتوفرة، حيث يصل للإعتقاد ان لا شيء له معنى. هذه العملية هي تجسيد قوي لما يسمى "الواقع المفرط" – نوع من فنتازيا تغذيها وسائل الاعلام وتقود لحياة من الأوهام، والوثنية الجنسية والاستهلاكية.

ان مفهوم الواقع المفرط  hyperreality طوره الفيلسوف جينس بودربلارد (1923-2007). هو الفكرة باننا نتوقع استنساخ الواقع من خلال تجسيداتنا الاعلامية له. النسخة تصبح اكثر كمالا في عيوننا من "الواقعي"، حتى بدون امتلاك الصفة الاساسية للواقعي. هذا الموقف جرى تجسيده في الفيلم (Her) (2013)، الذي يصف شغف الممثل في نظام تشغيل يحاكي امرأة متيقظة ومتفانية.

المنطقة الرخوة من الروايات تفضل ايضا ظهور ما سمي "الانكار"، الذي يمكن تعريفه كانكار للروايات العلمية بسبب الجهل او لمجرد الراحة. هناك اولئك الذين ببساطة يتجاهلون المعرفة العلمية، واولئك الذين يستخدمونها لغايات سياسية. هذه العملية تؤدي الى انحرافات مثل الايمان بان الارض مسطحة او انكار الاحتباس الحراري او نظرية التطور، وأخيرا الرؤية السيئة الفهم للعلم التي ادت الى حركة مضادة للتطعيم وانكار الوباء الأخير. لكن الجدال المستخدم من قبل السياسيين المنكرين الذين يدّعون ان العلماء يتصرفون لغايات سياسية هو مدعاة للاثارة. وهنا تأسس ارتداد سريالي ، فيه نرى العلماء غير النزيهين يمارسون السياسة، والشرفاء السياسييبن يمارسون العلم – وهي العقيدة الممكنة فقط في مجتمع سيء ونمطي.

غير ان وجود روايات متعددة لا يعني بالضرورة الفوضى الفكرية. حيث المواطن لديه ادوات فكرية مناسبة، ان امتلاك نطاق من الإمكانات لفهم العالم يمكن ان يكون جيدا، كما لاحظنا بمثال تسلّق الجبل. الجماعة العلمية قادرة تماما للاشارة الى تلك الروايات التي هي صالحة او غير صالحة. ايضا بالامكان التمييز بين النظريات العلمية التي تشكل فرضيات اكثر قوة، ويمكن اثباتها او تكذيبها. التحدي الرئيسي أمامنا هو استعادة ثقة المواطن بالعلماء بدلا من السياسيين.

ان ميدان الروايات العلمية هو الواقع، مصدر دليل يقودنا لتعريف ما هو أقرب للحقيقة. هذا الدليل – مثل ملايين القطع من الدليل التي احترقت في المتحف الوطني – هي قطع اساسية لعلاقاتنا مع الكون. باختصار، قطع المتحف تجعل فرضياتنا عن العالم قابلة للتصديق. بدون هذه الوثائق من التاريخ وبيئاتنا، لايكون هناك ضمان بان أجيال المستقبل ستكون قادرة على التمييز بين الخيال والواقع، او انهم سيكون لديهم أي تقدير أكثر  للديناصورات او النمور او الدب الاسترالي منه الى التنين والجن والبيكومون.

بعد حريق المتحف الوطني، سأل أحد الأصدقاء ما اذا كانت جمجمة "لوزيا" اسم أول انسان وُجد في جنوب امريكا قد استُنسخت قبل ان يحترق المتحف. رغم ان الجواب كان نعم، بالإمكان ايجاد نسخة ثلاثية الأبعاد له، لكن المرء يشعر بعدم الإرتياح الفكري. في زمن الحداثة السائلة، والذكاء الاصطناعي وعرض الروايات، تعمل هذه المتاحف والعلم ذاته كركائز تسمح لنا للإبقاء على اتصال مع العالم الواقعي. غير ان العالم المفرط في الواقعية – العالم الذي خُلق عبر استغلال الانسان وفُرض بواسطة المجتمع الاستهلاكي – لايريدنا بالضرورة ان نمتلك هذا الخيار. الأمر متروك لنا لنفكر في أهمية الواقع ونكافح للابقاء على حقائقنا التاريخية.

***

حاتم حميد محسن

الفِعْلُ الاجتماعي - على الصعيدَيْن التاريخي والرمزي - يُمثِّل توليدًا مُستمرًّا للفِكْرِ والشُّعورِ، وهذا يُؤَدِّي إلى صناعةِ إطار مرجعي يَشتملُ على تفاعلات اللغة معَ شخصية الفرد الإنسانية، ويُسَاهِمُ في تكوين فهم عميق للعلاقة التبادلية بين مَضامينِ الوَعْي الواقعي وتَراكيبِ العوالم الذهنية، التي يَبتكرها الفردُ لإيجاد بناء اجتماعي خيالي يُوَازِي الواقعَ المادي، ويتعالى عليه. والانفصالُ بين الواقعِ الذي يعيش فيه الفردُ، والواقعِ الذي يعيش في الفردِ، هو نتيجة طبيعية لضغط الأنساق الاستهلاكية الخشنة على السُّلوكِ الفردي والطُّموحِ الجماعي. وهذا الضغطُ يَدفع الفردَ والجماعةَ إلى إنشاء تفسيراتٍ مُتَنَوِّعَة للحياة، وتأويلاتٍ مُتَعَدِّدَة لِبُنية اللغة، ضِمْن السِّيَاق الاجتماعي، بحثًا عن مَعنى لِمَركزية الفِكْر وجَوهرِ الشُّعور . وإذا كانَ الدافعُ الإنساني - فرديًّا وجماعيًّا- يُعيد تشكيلَ الواقع المادي استنادًا إلى رمزيةِ اللغة وخصائصِ الفِعْل الاجتماعي، فإنَّ العقل الجَمْعِي يُعيد تَكوينَ مصادر المعرفة اعتمادًا على المصالح الشخصية والمنافع العَامَّة، أي إنَّ المُجتمع - بِكُلِّ هياكله الوجودية وآلِيَّاته اللغوية وأدواته الاجتماعية - يُطَوِّر المعرفةَ كَي تَخدِم شرعيةَ النسقِ الحياتي الذي يَقُوم على البُنيةِ اللغوية والفِعْلِ الاجتماعي . وهذا يَعْني انتقالَ المعرفة مِن القُوَّة الذاتية المُكتمِلة بِنَفْسِها إلى الفاعليَّة المركزية في العلاقات الاجتماعية، وَتَحَوُّلَ هُوِيَّة اللغة (وَسِيط تواصلي) إلى سُلطة اجتماعية (وَسَط إبداعي).

2

فلسفةُ اللغةِ تُحَرِّر الفِعْلَ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وهذا يُكرِّس العقلانيةَ كَنَزعة إنسانية عابرة للحُدود الزمنية والحواجزِ المكانية، ويُجذِّر الثقافةَ كَتَيَّار معرفي مُتَجَاوِز للصِّرَاعات التاريخية، التي تَدفع الفردَ إلى تَكوينِ رؤية أُحَادِيَّة ضَيِّقة، واحتكارِ تفاصيل الحياة اليومية، والسَّيطرةِ عليها، وأدلجتها فكريًّا وعمليًّا، واستغلالها لتثبيت الذات كمرجعية أساسية، وجَعْل الآخرين يَدُورون في فَلَكِها. وهذا يَعْني أنَّ الفرد يَعتبر كِيَانَه هو مركزَ الحقيقة، وكُلَّ العناصرِ الخارجة عن مَسَارات كِيَانِه أطرافًا عابرةً، ويَعتبر كَينونته هي مَتْنَ الوُجود، وكُلَّ العوامل الخارجة عن حدود كَينونته هوامشَ تابعةً . وتكريسُ الفردِ لذاته - كِيَانًا وكَينونةً وهُوِيَّةً وسُلطةً -، وإلغاءُ ما سِوَى ذاته، ونَفْيُ مَا عَدَاها، وإقصاءُ كُلِّ ما يُعارضها، مِن شأنه حَشْر الفرد في الزاوية الضَّيقة، ودَفْعه إلى الانكماش على نَفْسِه، والتَّقَوْقُع عليها، ورفض إنجازات الآخَرِين جُملةً وتفصيلًا، وهذا لا يُؤَدِّي إلى التَّطَرُّف فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَقُود الفردَ إلى تدمير نَفْسِه بِنَفْسِه، لأنَّ قُوَّة الآراء كامنة في تَنَوُّعها، وشرعية الوجود الإنساني مُستمدة مِن تَعَدُّدِ الشخصيات وتَلاقُحِ الأفكار. وجُمُودُ الفردِ ذاتيًّا وفِكريًّا سَيُنتج سُلطةً وهميةً تَحتكر الحقيقةَ، وتتحدَّث باسمِ عناصر الطبيعة. والفردُ إذا ألغى الآخَرين، فهو يُلْغِي نَفْسَه مِن حَيث لا يَشْعُر، وإذا رَفَضَ الحضارةَ فهو يَشْطُب تاريخَه مِن حَيث لا يَدْرِي.وعُذوبةُ الماءِ نابعة مِن جَرَيَانه،وإذا استقرَّ صَارِ آسِنًا.

3

لا يُمكن تحقيق التَّحَرُّر الإنساني إلا ضِمن الإطار الأخلاقي، وهذا مِن شَأنه رَأْب الصَّدْع بين اللغة كَهُوِيَّة وُجودية والثقافةِ كَتَيَّار معرفي . وإذا كانَ الفِعْلُ الاجتماعي يَستمد شرعيته من اللغة والثقافة، فإنَّ التاريخَ يَستمد طاقته مِن عملية البحث الدَّؤُوب عن مَعنى الأشياءِ ومَنطق العلاقات. والمُجتمعُ يَعتمد على القِيَمِ الأخلاقية والرموزِ اللغوية والظواهرِ الثقافية، مِن أجل إعادة صِياغة التأويلات اللغوية في فلسفة الأنساق التاريخية . ولا يُوجَد تاريخ بِدُون فِعْل اجتماعي، ولا تُوجَد فلسفة بِدُون رمزية لُغوية . واللغةُ تعتمد على المَعَاني الإبداعية والصُّوَرِ الذهنية والوَعْي الواقعي، مِن أجل إعادة صناعة شخصية الفرد الإنسانية في البُنية الوظيفية للسُّلوك الفردي والجماعي . ولا يُوجَد سُلوك بِدُون هُوِيَّة اجتماعية، ولا تُوجَد شخصية بِدُون سُلطة اعتبارية .

4

البُعْدُ الاجتماعي لفلسفة اللغة يَحفظ التوازنَ بين النظامِ الواقعي العَمَلي (الموضوع الثقافي والمَضمون الإنساني) والنظامِ الشخصي العِلْمي (الشُّعور النَّفْسِي والإدراك الحِسِّي)، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل أبعاد الوَعْي الواقعي في الفِعْل الاجتماعي، ودَمْجهما معًا في الظواهر الثقافية، مِن أجل تَكوين مُجتمع ديناميكي مُتَحَرِّر مِن الأوهام، ومُنفتِح على التأثيرات الحياتية المُتبادلة بين الفرد وبيئته مِن جِهة، وبين اللغةِ والتاريخِ مِن جِهة أُخْرَى . والتَّحَرُّرُ مِن الأوهام يُؤَدِّي إلى مُسَاءَلَةِ الأنساق الاجتماعية، والبحثِ في كيفيةِ نُشوئها وتَشَكُّلها، وعدم اعتبارها مُسَلَّمَات فوق النقد والنقض، وعدم تصنيفها كأيقونات مُقَدَّسَة، لأنَّ الأنساق الاجتماعية صناعة إنسانية تَختلف باختلاف المَاهِيَّات والهُوِيَّات. وإذا كان العُنصرُ الاجتماعي مُتَغَيِّرًا في الواقعِ المُعَاشِ والأحداثِ اليومية، ولا يَتمتَّع بالثبات والدَّيمومة، فهذا دليلٌ على خُضوعه لِصَيرورة التاريخ، التي تتأثَّر - سلبًا وإيجابًا - بالتأويلات اللغوية المُختلفة . والتاريخُ يَمْلِك أولويةً على اللغةِ في بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي، واللغةُ تَمْلِك أسبقيةً على التاريخ في جَوهر الفِكْر الإنساني .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

أنتج فلاسفة اليونان القديمة عددا كبيرا من الافكار. ومع ان قضايا حول كيفية العيش شغلت معظم تفكيرهم، لكنهم ايضا تسائلوا حول ما الذي يشكل العالم من حولهم. لايهم ان بدت معظم تخميناتهم بعيدة عن الواقع لكنها لاتزال تضيء التجارب المفاهيمية للبشرية  ومحاولات فهم طبيعة الواقع.

طاليس: كل شيء ماء

يرى ارسطو ان طاليس كان أول فيلسوف أصلي. عاش في ميليتيس المدينة اليونانية القديمة في القرن السادس قبل الميلاد  والتي تقع  في تركيا الحالية، عُرف طاليس بعمله في الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات. هو ايضا حاول توضيح أصل جميع المواد معتبراً الماء هو المبدأ الاول الذي خرجت منه كل الاشياء الاخرى. هو اعتقد بان الماء يتحول الى مواد اخرى، وان جميع المواد تعود الى الماء. ارسطو(384-322) في وقت لاحق عرض عدة اسباب دعت طاليس لإختيار الماء، معظمها ملاحظات بسيطة حول ما تتطلبه الحياة من ماء وكيف يمكن تحول المادة من حالة الى اخرى. يُعتقد ان طاليس جادل ايضا بان الارض كانت عائمة في بحر من الماء. التحولات العرضية للكوكب في هذا البحر، كما يرى، كانت سببا للزلازل. ارسطو يخبرنا ان طاليس كان اول فرد في تاريخ اليونان غير مقتنع بالتوضيحات الميثولوجية للعالم الذي حوله لذا حاول تقديم بدائل من خلال التفكير. وبصرف النظر عن فكرته الوهمية بان الارض ربما نشأت من الماء والتي اُبطلت علميا منذ عام 1768، لكن طاليس يستحق الإعجاب الدائم لبدئه اولى تقاليد التوضيح العقلاني للعالم، مستعملا فقط الدليل الملاحظ.

اناكسيماندر: اللامحدود aperion

كان اناكسيماندر معاصرا وتلميذا لطاليس، عاش في ميليتس وهو اول فيلسوف يوناني كتب افكاره على الورق. هو ايضا طور ما اعتُبر اول نقاش فلسفي لموقفه مقابل ملاحظات طاليس التجريبية. هو ايضا قيل اول من وضع خارطة للعالم المعروف باليونان.

نظر اناكسيماندر بأربعة عناصر كلاسيكية – الماء والهواء والنار والارض وجادل بان لا أحد من هذه العناصر يمكن ان يكون المبدأ الاول. هذه العناصر كانت محدودة ومتناهية وتميل لإلغاء تأثير بعضها على البعض الآخر. بدلا من ذلك، هو اقترح مادة جديدة تسمى ابيرون apeiron ترجمتها "اللامحدود" وافترض ان تكون لا متناهية.

هو ايضا نظّر حول الكون. كان اول من جادل بان الأجرام السماوية خلقت دوائر كاملة عندما تحركت في سماء الليل، وهي الخطوة الكبرى الى الامام في علم الفلك. كذلك، هو جادل بان الارض كانت طافية في فضاء فارغ وان الاجسام السماوية التي نراها لم تكن متساوية المسافات وهو اختراع لمفهوم الفضاء الخارجي. واذا كانت هذه الافكار استنفذت فائدتها، فان حالات التقدم الكبرى بدرجة او بأقل نشأت من حجج فلسفية نقحها الفلاسفة اللاحقون مثل افلاطون وارسطو.

اناكسيمين: كل شيء هواء

وهو آخر الفلاسفة الكبار في ميليتيس وقيل انه عمل او درس تحت اشراف اناكسيماندر. هو انتقل بعيدا عن فكرة معلمه في المادة المجزأة التي اصبحت عناصر نتفاعل معها، واقترح ان الهواء هو المبدأ الاول. هو كان يعني ضمنا ان الهواء كان شبيه بالاله وهو غير متناهي في الحجم.

خلافا لأسلافه، هو ايضا وضع نظرية في كيفية عمل هذا. اولا، هو اقترح ان الهواء الكثيف يبرد ويصبح ماءً وارض. وعندما يمتزج بالماء، يسخن الهواء ويصبح نارا. هو ايضا اشار بان هذا يمكن اختباره عبر النفخ على اليد بهواء أقل كثافة بينما الرطوبة وقلة درجات الحرارة ارتبطت بتكثيف الهواء. بعد ذلك، وفي موضوع الكون هو اقترح ان الهواء كان ايضا اساس النجوم والذي عمل تماما مثل احتراق الاشياء على الارض. بهذا الاقتراح أدخل اناكسيمين للفكر الغربي فكرة نظرية التحول المدعومة تجريبيا التي يمكن مناقشتها واختبارها. فكرته قبل 2000 سنة بان قوانين الطبيعة تنطبق على الكون مثلما تنطبق على الأرض جرى إثباتها من قبل اسحق نيوتن في بداية القرن الثامن عشر.

هيراقليطس: التدفق والنار

كان هيرقليطس فيلسوفا من مدينة أفسس Ephesus الواقعة في تركيا الحالية. عاش في القرن السادس قبل الميلاد. وبينما عمله كان استجابة لفلاسفة ميليسان، لكنه لا يُعتقد  انه درس معهم. بقي من كتاباته فقط جزءا بسيطا منها ، هو قال ان العالم وُجد دائما وهو مرتكزا على نار أزلية، وان كل شيء يتغير باستمرار. أدخل هيرقليطس نظاما تتحول به العناصر الى عناصر اخرى وان بدت التفاصيل غامضة للعقل المعاصر. فمثلا، هو يوضح : "تحول النار: اولاً بحر، ومن البحر نصف هو ارض، ونصف رياح نارية". كذلك، هو اكد على ان هذه العملية ايضا تعمل رجوعا مع الحفاظ على تناسب المادة.

جادل هيراقليطس بان الكون هو في تدفق مستمر،ولاشيء يبقى ذاته اكثر من لحظة واحدة. قوله الشهير (لا احد يستطيع النزول في نفس النهر مرتين) يبدو في الظاهر عميقا وله مضامين هامة تجاه المعرفة التجريبية.

بارمنديس: عالم الوحدة

وهو فيلسوف من ايليا (مستوطنة يونانية في ايطاليا الحديثة) عاش حوالي سنة 500 قبل الميلاد. كان بارمنديس ربما أعظم فلاسفة ما قبل سقراط. تقليديا كان من أهم أعماله كتاب "حول الطبيعة" وهو تحفة فنية ضم حوالي 800 قصيدة شعرية حول طبيعة الواقع، فيه يجادل ان العالم الذي نراه ليس الاّ وهما. الطبيعة الحقيقية للعالم غير متاحة لأحاسيسنا لكن يمكن الوصول اليها عبر العقل. كذلك، هذا العالم "الواقعي:" هو لا يتغير، وموحد وبلا زمن. حجته تبدأ بفكرة اننا لا نستطيع امتلاك مفهوم عقلاني لـ "العدم". طالما العدم لا يمكن ان يوجد، هو اعتقد بعدم وجود مكان فارغ. (ميكانيكا الكوانتم اثبتت صحة هذا). بدون مكان فارغ يتم التحرك نحوه، تكون الحركة مستحيلة. هو استمر في هذه الطريقة حتى دحض فكرة التغيير والاختلاف والنهاية. بعد ذلك هو التفت الى العالم الذي نتفاعل معه، موضحا اياه كظهور فقط.

تأثيره على الفكر الغربي كان هاما، خاصة من خلال افلاطون.  زينوس صاحب المفارقات الشهيرة دعم افكار بارمنديس التي استمرت بالتأثير على الفلسفة انذاك. اقتراحه بان أحاسيسنا هي بلا فائدة عند النظر للحقيقة اثبت نجاحه. (عمانوئيل كانط طرح حجة مشابهة). فلاسفة ما قبل سقراط الآخرون اعترفوا بجدية وأهمية افكاره.

ديموقريطس: الذرات

وُلد في ابديرا (المستوطنة الايونية) عام 460 ق.م. كان ديموقريطس مؤلفا غزير الانتاج كتب حول كل شيء من الاخلاق الى علم النبات. كان ديموقريطس من بين اوائل المفكرين الذين اقترحوا فكرة الذرة. هو او ربما تلميذه ليوسيبوس وضعا نظرية سميت "الذرية". هو جادل بان من المستحيل تجزئة المادة الى مالانهاية، لأنه يجب الوصول الى نقطة فيها لم يعد ممكنا تجزئة الشيء الى نصفين. وبهذا، انت لديك ذرات، وتعني "لا تتجزا".

الذرات التي تتحرك من خلال الفراغ حسب قوله، تبني كل العالم بالارتكاز على شكلها، ترتيبها، موقعها في زمن معين. السمات النوعية للعالم ليست متأصلة في ذرات وانما نتجت بواسطة التفاعل بين الذرات التي تصنع الاشياء الخارجية وتلك التي تشكل أجسامنا. الذرية اليونانية كانت تأملية بالكامل – لم يتم ابراز دليل مادي الاّ في بداية القرن التاسع عشر – وديموقريطس نال احترام اولئك الذين لم يتفقوا معه. من بينهم كان ارسطو الذي مدحه لقدرته الفكرية بينما رفض الذرية. الفكرة اعيد مراجعتها بعد قرون عندما قام مفكرون مثل غاليلو وديكارت باستطلاع قضية فلسفية مشابهة.

افلاطون: الأشكال

عمل افلاطون بشكل رئيسي في أثينا في القرن الرابع ق.م، وبقي قمة شاهقة بين الفلاسفة. تفكيره ذهب الى ما وراء فكرة معلمه سقراط، وأثّر بشكل جوهري على كل فلسفة الغرب والشرق الاوسط اللاحقة. كذلك، هو اسس اكاديمية اثينا حيث درس فيها كبار العقول بمن فيهم ارسطو. كتب افلاطون عدة موضوعات من ضمنها الميتافيزيقا. نظريته في الأشكال كانت مرتكزة عل افكار ما قبل سقراط. هو جادل ان العالم الذي نعيش به هو نسخة غير تامة لعالم "الاشكال": اللامتغير، الغير مادي، الجوهر المستمر لكل الاشياء. الاشياء اليومية مثل الكرسي هو اعادة انتاج ناقصة لـ "شكل الكرسي". ونفس الشيء ينطبق على كل شيء يوجد في العالم المادي.

يجادل افلاطون (مثل بارمنديس لدرجة ما) ان العنصر المؤسس للواقع هو رياضي ومثالي وهو يتفق مع هيرقليطس بان العالم الذي نتفاعل معه هو دائما يتغير ،وهو يستعير من فلاسفة ميليتس افكارا حول الكيفية التي تتحول بها العناصر الى عنصر آخر.

فتح افلاطون  نظريته للتساؤل. حوار بارمنديس الذي يصور اجتماعا وهميا بين سقراط وبرمنديس يناقش الاشكال، يبدو يبيّن اما رفضه للنظرية لاحقا في حياته او الحاجة الى اجراء تنقيح عليها.

تراث افلاطون يبقى عصيا على المقارنة. الفريد نورث وايتهد ذكر ان كل الفلسفة الغربية ليست الى سلسلة من حواشي افلاطون.

***

حاتم حميد محسن

إنَّ أول الفلاسفة الإغريق الفيلسوف (طاليس) الذي ينسب الى المدرسة الطبيعية القديمة الذي وضع لبناتها مع  فلاسفة ثلاثة يرجعون الى مدرسة (ملطيا)، إذ يرى (طاليس)  بإن كل شيء يرجع الى ماء،أو أن كل شيء يأتي من الماء والذي عد الماء هو سبب وجود الموجودات وهو العنصر الأصلي الذي تتألف منه عناصر الأشياء في الأرض، وأن الأرض أصلاً هي مرتكزة على الماء، ويرى  الفيلسوف الإنكليزي (برتراند رسل) بأن (طاليس) في تفكيره هذا هو رجل علم أكثر منه فيلسوفاً على اعتبارات أن بحثه كان منطقياً من فرضية علمية بحتة(1)، على الرغم من أن هذه النظرة العلمية كانت مؤطرة بشكل فلسفي مكّن من خلالها نظرته الى ما هو أبعد من الماء في بعده الوجودي،  بل ذهب في رؤيته هذه الى أن الارض هي وجود أبعد من أن تحضر في العين المجردة وهي بحاجة الى تقنيات حديثة حتى يتم التأكد من أن هذا الفرض الذي يجعل من الأرض مرتكزة على الماء،  لذا فإن النظرتين العلمية والفلسفية شكلت رؤية (طاليس) الأولى الى شيئين في آن واحد هما الوجود والموجود .

إنَّ (طاليس) عندما يُرجع كل العناصر الى الماء والأرض مرتكزة عليه يرى بأن الماء مادة حية ولها روح وأن حركة الأشياء منطلقة من الحياة التي يوفرها هذا العنصر كما أن حركة الموجودات تأتي بالدرجة الأولى من هذه الحياة التي أوجدها عنصر الماء وهذه النظرة الى حركة الاشياء والى أصل الحياة في الماء التي تستمد منه هذه الموجودات في تشّكل وجودها وما يتكون من ماهيات نتيجة لهذه التشكيل يتطابق معه في النظرة الفيلسوف (لتاوي) الصيني (ليه تز) في القرن الخامس قبل الميلاد في أن الماء هو المادة الأولية التي ترجع اليها الموجودات(2) .

إنَّ طبيعة الموجودات التي يرجع أصلها الى الماء بحسب نظرة (طاليس) في المدرسة المالطية تأتي من مبدأ الذهاب والنظرة الى ما هو موجود وليس الى نظرة تأملية بعيدة عن الموجودات وتشكيلاتها في داخل هذه الطبيعة، لذا فأن النظرة هذه حتى وأن كانت أولية ولا ترتقي بنظر البعض ممن يبتعدون بنظرتهم الى الأشياء ويركزون فقط على الأفكار المسبقة تبقى نظرة بحاجة الى تأمل أكثر قبل أن ينطلق بالحكم على نوع الأسلوب والطريقة المتبعة في الوصول الى الحقيقة،لذا فإن المدرسة الطبيعية المالطية تعد هي من أول المدارس الفلسفية التي طبقت شرطية البحث في ما هو موجود والتفكير به حتى وأن كان الرأي الفلسفي متعارض بين أفرادها في من هو أصل الأشياء سواء أكان الماء حسب رأي (طاليس)،أو رأي  (انكسمندرس) الذي يرى بأن الموجودات وطبيعتها ترجع الى عنصر آخر لا نهائي ولا يحده الزمان،ويقول في هذا المجال حسب ما ينقله لنا (رسل) بأن " الاشياء تعود فترتد الى العنصر الذي نشأت منه كما جري بذلك القضاء لأنها تعوض بعضها بعضاً لما وقع منها من إجحاف كما يقضي بذلك أمر الزمان "(3) وهذه النظرة في الطبيعة هي من الهمت (انكسمندرس) في أن الأشياء توجد من عنصر لا متناهي موجود في داخلها وكأنه المصنع الذي لا ينضب من عملية خلق وإيجاد مستمر،هذا يجري بحكم القضاء الذي أوجدها لأول مرة . أما الرأي الثالث في هذه المدرسة عند (أناكسمانس) الذي يرى بأن الهواء هو أصل الأشياء ويرجعه الى عملية التخلخل والتكاثف المصاحب للهواء في تكوين الأشياء والموجودات في هذا المجال(4).

وهنا يمكن أن نوجه نقدنا الى نظرة الانتقاص التي يقدمها (ولتر ستيس) في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) اذ يرى الأخير أن هذه " المذاهب الفكرية كانت فجة نظراً الى كونها لا يمكن أن تتبين فيها بذور التفكير الفلسفي إلا في عتامة "(5) وكذلك الى آراء أخرى في نفس الموضوع ترى بإن هذه المدرسة تعذر فيها التمييز بين ما هو (ذهني) وما هو موضوعي (وجود)، وتركيز فلاسفة هذه المدرسة فقط على ما هو مادي أو أشياء مادية فقط،(6) على عكس من هذه النظرة التي قدمها فلاسفة المدرسة المالطية كانت مبنية على بعد آخر اكثر منه اشياء مادية مباشرة وإذا أعدنا طرح أفكار هذه المدرسة التي انطلقت من الموجودات ذاتها في تشكيل أفكارها فهي ابتعدت الى ما هو أبعد من النظرة القاصرة، أو الفجة كما في النقود السابقة، فالذي يرى بأن الماء هو أصل الأشياء يتطابق مع القول القرآن الكريم (وجعلنا من الماء كل شيء حي)،  والحياة التي ركز عليها(طاليس) وإنَّ أختلفت في التفاصيل مع الآية القرآنية لكنها تطابقت معها في الأصل في أن الماء هو أصل الحياة وهو أصل تشكيل الحياة على الأرض، كذلك ترجع الى نظرة (انكسمندرس) الذي رأى بأن الأشياء ترجع الى عنصر لا متناهي مستمر في عملية الهدم والبناء على وفق قانون الوجود هي ايضاً نظرة تكررت في آراء اخرى مثل نظرية الخلق المستمر عند (ابن عربي) الذي اثار اعجاب (برتراند رسل) كما أثار أعجابه بالفيلسوف (انكسمندرس)، إذ يرى فيهما بأنهما يثيران الأهتمام والمتابع لما طرحاه من آراء مهم مهدت الى جدلية فلسفية مع من أتى من بعدهما من الفلاسفة(7).

إنَّ ما قدمته المدرسة المالطية من آراء فلسفية حول الوجودات والموجودات جاءت بعدها آراء مناقضة تارّة ومكملة تارّة أخرى، ومن الذين هاجموا أفكار المدرسة الطبيعية هو الفيلسوف الأيلي (بارمينيدس) الذي أعتمد على العقل وحده دون الحواس في معرفة الوجود،أي أنه لم يتجه بشكل مباشر الى الحقيقة المتمثلة بالموجودات وكيفية تشكلها وبناء حركتها وإعطاءها البعد الحضوري الفعلي، بل اقتصر على ما يوفره العقل من أفكار في هذا المجال الحسي لكنه أعتمد في تفسيرها على ما قدمته المعطيات العقلية في إنتاج المعنى دون إشراك الجانب الموضوعي في ذلك، لذا كانت الجدلية التي اطلقها في مهاجمة الفيلسوف الآخر(هيراقليطس) أن الجدلية بين الطرفين تجسدت في اعتقاد " بارمينيدس أن الإنسان يجب أن يتبع العقل وحده إلا أن عقله أوصله الى نتيجة هي عكس ما وصل اليه (هيراقليطس) تماماً، قال (هيراقليط): كل شيء يتغير وقال (بارمينيدس): لا شيء يتغير ؛ قال (هيراقليط): ليست الحكمة سوى تفهم الطريقة التي يدور بها العالم وقال (بارمينيدس) أن الكون لا يدور حقاً على الإطلاق وإنما هو ساكن سكوناً مطلقاً أن التغير والحركة والتبدل لم تكن في نظرة سوى أوهام مصدرها الحواس "(8).

إنَّ النتيجة لهذا السكون الذي يراه (بارمينيدس) في الكون والذي وصفه بالإطلاق جاء نتيجة لتبني أفكار قد لا تكون مستندة على قواعد حسية،أو أدلة قائمة على أن يكون هذا العالم ثابت ولا يتغير وأن الحواس هي مجرد مصدر غير مقبول يؤدي الى الوهم الذي يبعد العقل عن الحقيقة التي يتبناها العقل والتي أوجدها العقل وحده دون أدوات مهمة مثل الحواس،لذا فقد كانت نتيجة ذلك معارضة لما سبقه من الفلاسفة الطبيعيين، وكذلك لمعاصره (هيراقليط) .ودخل فيلسوف آخر قد دخل في جدلية انطولوجية مع (بارمينيدس) وهو (أمبذوقليس) من أصل (صقلي) الذي اعتبر فلسفة (بارمينيدس) راكدة، اذ يرى من خلال معارضة لمبدأ (بارمينيدس) الأعتماد على العقل وحده في إصدار الأحكام وعلى الرغم من القبول بمبدأ أن الحواس لوحدها غير كافية في إنتاج الأحكام النهائية لكنه دافع عنها باعتبارها تقدم من الشواهد التي تفيد في الوصول الى الأحكام،وهي قابلة للنقد والتمحيص في آن واحد(9)، لذا فقد عمل على إيجاد غاية محددة من اتباع الحواس ونقدها وتمحيص ما تقدمه من شواهد، هذه الغاية تتجسد في اتباع طريقة لتوضيح هذه الشواهد حتى لا تكون قاصرة فقط على الحواس وقد صاغ ذلك النقد في قالب شعري يقول فيه " والآن أدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه بكافة حواسك، لا تعط لما ترى أهمية اكثر مما تعطي لما تسمع، وبالمثل لا تقّدر أذنك المرددة للأصوات أكثر من تقدير ما ينطق به لسانك من بيان فصيح ولا تحجب ثقتك عن أي جزء آخر من الجسم يمكن أن يوصلك الى تفهم شيء من الأشياء وعليك أن تدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه ".

إنَّ عملية الفهم للأشياء هي ما تقع بين الحواس والعقل من عملية لا بد أن تكون تواصلية مستمرة في تبني الأشياء ودراستها مع ما تقدمه من دلائل كامنة في آليات هضمها عقلياً من بعد أن تقدمها الحواس بشكلها الأولي،لذا  فإن التخلي من جزء من عملية تلقي وتقبل الأشياء هو بعين وفكر (امبذوقليس) غير سليم في تلقي المعرفة وبذلك فإن الجدلية مع (بارمينيدس) هي في أصل استخدام (العقل والحواس) معاً في الوصول الى المعارف وإطلاق الأحكام في ذلك المجال .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. ينظر: رسل، برتراند: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 61-63.

2. ينظر: العلوي، هادي، نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، ط 2، 2007، ص 7-8.

3. رسل، برتراند، المصدر السابق، ص64 .

4. ينظر: العلوي، هادي، المصدر نفسه، ص 8 .

5. الشلبي، كمال عبد الكريم حسين، أصالة الوجود عند الشيرازي، دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2009، ص 44.

6. ينظر: المصدر نفسه، ص 44 .

7. ينظر: رسل، برتراند، المصدر السابق، ص 64-66.

8. فارنتن، بنيامين: العلم الاغريقي ج 1، ترجمة: احمد شكري سالم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2011، ص 66.

9. ينظر: المصدر نفسه، ص 68 .

10. المصدر نفسه، ص 821 .

هل هي مصادفة ثقافية: أنْ يحمل المتطرفون ألقاباً أبويةً، بينما يحمل العلماءُ والمفكرون ألقاب البنوّة؟!

في جميع مراحل تكوين التنظيمات الدينية، كان معنى الأبوةِ حاضراً بشكل أو بآخر. والأبوة هنا ليست بالمضمون البيولوجي (أب، ابن، أحفاد، عائلة، عشيرة، قبيلة ...)، وإنما بمعناها الثقافي القائم على دلالتي (السلطة والاعتقاد) في رأسٍ واحد. وبالطبع، لا تأتي هذه المفردات مستقلةً كنوعٍ من التناسل الحسي الإجتماعي، لكنها تطرح دلالتها عبر الثقافة، حين تُعطيها هيمنةُ الاعتقاد وجوداً متحولاً أثناء التداول. وهو وجود ثقافي مُتحول من بيولوجيا المعاني إلى إشكالٍّ رمزيةٍ وشفافةٍ، لكنها مُؤثرة وأكثر قوةً في الوقت نفسه.

المفارقة الدالة

معاني الأبوة ومشتقاتها هي الألصق بالثقافة العربية الإسلامية إلى درجةٍ أعمق من سواها، فتلك الثقافة تنتج مفاهيم أبويةً وتشخصها واقعياً. على سبيل التوضيح، كان ثمة انتشارٌ واسع لألفاظ الأبوة بين أعضاء الجماعات المتطرفة، حتى أضحت ماركةً مسجلةً لشيوخهم وجهادييهم على السواء. إذْ بدا الارهابُ سِكيْناً أبويّاً بحدِّهِ الدموي تجاه المجتمع لا الأفراد فحسب، وهو استعمالٌ للأسماءِ التي تُطلق على أكثرهم بقطعية الدلالةِ والثبوتِ.

التساؤل المنطقي إذن: لماذا تُفرز الأسماءُ معانيها العنيفةَ حين تنقل فكر تلك الجماعات؟ وبأي منطقٍ تشير الكلماتُ إلى واقعِ الحال لديهم؟ التفسير المبدئي أنَّها أسماء قاتلةٌ بحسب الأدوار المنوطةِ بأصحابها، فلم تكن الأبوةُ سوى ذروةٍ انتحارية يمتطيها الشخصُ ليهبط على رقابِ خصومه. إنَّه يقف على تأويلاتٍ وأخيلةٍ ونماذج جهاديةٍ أساسها اقصائي، فيكون" أقنومُ الأبِ" مُعبراً (بخلفيته الأخلاقية والدينية والمعرفية والتاريخية) عن سلوكٍ متطرفٍ.

لكّمْ سمعنا وقرأنا - على سبيل المثال - ألقابَ الأبوة: أبو عبد الله (أسامة بن لادن)، أبو مصعب الزرقاوي، أبو بكر البغدادي، أبو دجانة الخرساني، أبو صالح المصري، أبو حمزة المهاجر، أبو يحيي الليبي، أبو قتادة الفلسطيني، أبو جندل الأزدي، أبو هاجر المهاجر، أبو مصعب السوري، أبو عمر المصري، أبو طلحة الألماني ... وغيرهم كثيرون، بينما المفارقة الدالة أنَّه كان لفلاسفة ومفكري وأدباء ومتصوفي العرب والمسلمين ألقاب الابن: ابن سينا، ابن الهيثم، ابن رشد، ابن باجة، ابن طفيل، ابن عطاء الله السكندري، ابن عربي، ابن سبعين، ابن طباطبا، ابن خلدون، ابن حوقل ... كانت البنوةُ علاقةً تاريخيةً ثرية كضربٍ من التفوقِ الفكري والروحي.

ماذا يوضح هذا الفارقُ الخاص بالتسمية؟ كيف نفهم هذا التحولَ الثقافي؟ من خلال الارهاب ينال كلُّ من يعتنق فكراً متطرفاً مرتبةَ الأبوة دون ترددٍ. وأخذت الأبواتُ تتوزع على الخريطة العربية الاسلامية كأنَّها ألفاظ حاملةٌ للإيمان بالفكر التكفيري. الأبوة القاتلةٌ ألقابٌ حركية تُعطِي حاملها تجاوزاً لحدود الدين وانتهاكاً لوجود الآخر، ذلك باعتقاده أنَّه لا يفعل إلاَّ الحقَّ ولا يُمارس دوراً إلاَّ ما أعطاه إياه الشرعُ الحنيفُ!!، وإذا اطلعنا على ألقابِ هؤلاء سندرك هذا التدثر بمضامين الكلمة، لكننا سندرك أيضاً أنها ليست مظلةً رحيمةً بحالٍ من الأحوالِ. هي أبوةٌ عنيفةٌ عنف المضمون، ومسمّمة قدر ما يتوغل السُمُ في جسم الفريسةِ. فالشخص كان يُعدُّ ويُدرّب على إفراغ الأبوة - نصاً وفعلاً- مع متفجرات يحملها لإيقاع الضحايا كما شاهدنا مراراً.

الأبوة والدين

عندما ترتبط النصُوص الدينية بصورة دلاليةٍ واحدة لا تتغير، وكذلك عندما تكون " للداعية " عباءة ثقافية وتاريخية متطرفة، فإنَّ المعتنقين للفكر ذاته هم تجسيدٌ لسياجٍ فكري أبوي مغلقٍ. وهؤلاء الخلف عن سلفٍ لا مناص لهم من جز رقابِ مخالفيهم في الرأي مهما اتسعت الأمورُ. باختصار كان " النص والداعية والعنف" يتماهى مثلّثهم في رأسٍ أبويٍّ غير قابل للانفلاق. هذا الرأس- فرداً أو جماعةً- مركّبٌ على جسدٍ تنظيمي يتولى رعايته شيوخ الجهاد ومدربوهم لأجل التضحية والقتل الفاجع باسم الله. إنَّه الانحراف التكويني للجماعة من دلالة الأب father إلى شكل بطريركي patriarchy بتوسط النص وتأويله المتطرف.

وتكوينُ الأبوة لا يعبرُ عن تسلسلٍ هرميٍّ، إنما ينقل جيناتَ النصوص المغلقة والقراءات العنيفة[1]. وفوق هذا وذاك، يعتبر الأبُ مصدراً لدماءٍ تُراق بمنطق الوكالة عن الله في أرضه. لقد يظن الأب الجهادي مسئوليته المباشرة عما يقع من أفعالٍ يراها منافيةً لجوهر النص المؤول من وجهة نظر جماعتهِ. ولذلك، فالأب نوع من الكسْر المضاعف في مفاصل التواصل الإنساني الحُر مع المجتمع وعناصره المتنوعة.

فتبعاً لبنيةِ الجماعات المتطرفةِ، تعتبر اللغة بمثابة لغة الأب / الداعية الوارث عن السماء. الأب الذي يعْلم كل شيء وأي شيء في مقام متعالٍ غير قابل للمنازعة. والنص كما يذهبون هو لسان الأبوة التي تعرف ولا نعرف نحن، وتدرك بينما نحن معشر العميان، أبوة تخبر الماضي والمستقبل ولا نملك إلاَّ زمنَ الخنوع لها. النص كان يلاصق اللام، فكان نصلاً لحد السيفِ في بعض عهود المسلمين، ثم جاء نصلاً لحد الرصاص بعد اختراع الأدوات الأخرى ولحد الموت بعد قيام أدوات التفجير بالمهام. كيف كانت المسافة صفراً بين" النص" و" النّصْل " في تاريخ الإسلام السياسي؟![2]

حقاً أصبح التداخلُ بين النصِ والنصْل عصيّاً على الفهم وممتنعاً على المساءلة. كيف نسائل ما ينتج فهمنا للحياة والعالم والزمن؟! لأنَّه تداخل يضعنا أمام الأمر الواقع بحكم استغلال الفرصة لإرهاب الآخرين وقتلهم. ومنْ بإمكانه إدراك الخيط الرفيع بينهما منذ رفع الخوارجُ المصاحف على أسنةِ الرماح؟! عندئذ غدا المصحفُ نصْلاً وله معالم السيف، حتى قيل أخيراً مع الدواعش: إنَّ نبي الإسلام بُعِث بالسيف رحمة للعالمين، وإنَّه لا شيء أحب إلى اللهِ من قطع رؤوس الكفار والمرتدين. كيف عُرِفنا الأمرُ المحبوبُ بخلاف المكروه إلى الله؟!

إنَّ كل نزعة نصية مطلقة textualism absolute نوعٌ من الأبُوة مقطوعة النسب بغيرها مقابل النسب مع الله. هي ظاهرة العلُّو بلا نسلٍ إلاَّ إليها رأساً في عملية استبدال لا تنتهي. أقصد أنَّها نواة حول أب مؤسَّس على اليقين الكامل بوجوده في ذاته ولغيره. فالأبُ يتوّحد مع نفسه معطياً إياها درجة الصفر في المرتبة والتسلسل. من هنا ذكرها القرآن كمقدمةٍ غامضة الملابسات لادعاء الأصل الموثوق به: " إنا وجدنا آباءنا على ملةٍ وإنّا على آثارهم لمهتدون " .. لماذا الآباء هكذا ذوو مكانة قصداً في تاريخ الاعتقاد؟ وهل ذلك استباق توثيقي لمعنى الارهاب مؤخراً باسم الدين؟

المثلث السابق (النص والداعية والعنف) يتأسس على الموقع من الله، ومن النصِ الأصلي (القرآن)، فيكتسبُ عناصره ذات المكانة الملتمسة من الموقع نفسه. ليغدو النصُ البديل (المؤول- أو التأويل ذاته) نصاً أصلياً. إنَّ نصوص ابن تيمية وابن القيم الجوزية وأضرابهما وصولاً إلى نصوص شيوخ الجهاد لا تقل قداسة عن القرآن!!.. هكذا يزعُم أتباع الجماعات الدينية هذا القول ضمنياً وصراحةً مهما كان إنكارهم لذلك. فلعبة اللغة التي يصوغها الأبُ خطاباً دينياً تُزحْزح مكانَ النص الأصل وتأخذ بنيته تدريجياً. طالما كان الخطابُ خارج التاريخ أو يعلوه رأساً، فلن تكون الرسالةُ إلاَّ ابتلاع النص الأصلي (القرآن) وانتهاك آلياته الإنسانية. إنَّ الأيديولوجيات الإرهابية تنسج معانيها على غرار الدين الصادق صدقاً ايمانياً لا معرفياً، على غرار أحد عناوين كتب ابن القيم" اعلام الموقعين عن رب العالمين"[3].

هناك حديثٌ يتداول عن رسولِ الإسلام يخاطب علياً بن أبي طالب: " يا على أنا وأنت أبوا هذه الأمة ". وليست المشكلة في الحديث وإشارته إلى الأبوة، ولكن كثيراً ما فهم الناس هذا الحديث خطأ. وإذا كان الحديث يدلل على شيء فإنما يدلل على الفراغ لا الامتلاء، على الغياب لا الحضور. يبدو أن نمطُ الأب إندرج – مع اختلاف العصور- في مساحة الفراغ التاريخي الذي تبحث الفرق والملل والنحل والجماعات عن ملئه بأية صورة من الصور. فراغٌ كان عند بعض الشيعةِ موالاةً عنيفة للإمام على، بينما حاولت السلفية الوقوف في مجري التاريخ لدي سلفٍ صالحٍ بدايةً ونهايةً. وظلت الأيديولوجيات الدينية تصع فقدان الأب نصب أعينها.

الأبوة - تكملةً لنموذج الحديث السابق- نوعٌ من التراتب الذي يعيد بناءَ التاريخ على هذا الأب الغائب، بل يعيد بناءَ الدين بحسب المآرب والمصالح. لم يكن أيُّ أبٍ في الجماعات المتطرفة إلاَّ عارفاً بالفراغ التاريخي هذا مؤولاً إيَّاه لصالح التطرف. وهو بذلك يعطِي لنفسه حقاً مزيفاً في أخذ مكانة الرسول، الأب النبوي...، إنَّه تكرار انحرافي لأصلٍ مقدسٍ يحتاجُ إلى فهمٍ جديدٍ يواكب العصر لا ليتحول إلى نصلٍ قاتلٍ.

أبوة الجماعة

تحتل الأبوةُ الدينية مكانةً خطيرةً في تاريخ الفكر الإسلامي، لم تكد تختفي حتى تظهر في شكل تنظيمات نتيجة الثقب الأسود (الفراغ الأبوي) في جسد المجتمع الإسلامي. يتجلى هذا الثقب مرةً بإسم الخلافة، وأخري بدعاوى تطبيق الشريعة، وغيرهما بأنظمة المراقبة الدينية والهوس بتتبع الآخرين. إنَّ الأبوة جزءٌ لا يتجزأ من حركةِ المجتمع الإسلامي و رمزيته، بفضل اعتماده على نموذجِ الأبوة النبوي والقبلي والعشائري والعائلي بعد ذلك. وكادت مراحلُ التاريخ الاجتماعي تبحث صراحةً عن أبوةٍ في شكلِ الحاكم والسلطان والأمراء والملوك والأنظمة والمؤسسات.

جاءت الأبوةُ الدينية المعاصرة مؤشراً عائلياً- لاهوتياً، إذ تستعمل أبناءها عبر انفجار قاتل لا نتائج وراءه إلاَّ الأشلاء المتناثرة. إنها مرحلة راهنة من نصية حرفية قديمةٍ ليست إلاَّ عدماً متواصلاً في تاريخ الإسلام السياسي، وهي نقش جسدي حتى الموت، كتابة الموت. ومن ثمَّ، كانت النزعة الأبوية تفسيراً متطرفاً للنص الديني وتكفيراً للآخرين. ونظراً لأنَّ الأبوةَ الإرهابية متعديةٌ عضوياً، فلن ترضى بديلاً عن سلطة القتل. ألم يذهب الجهاديون إلى تطبيق كلام الله بلا انفتاحٍ فكري ولا ابداع معرفي؟!

الأبُ هنا عبارة عن "نص بيولوجي وديني" يكتب دلالاتَه بالأنماط السائدة في الجماعة التي تتبناها. تبدو الجماعة المتطرفةُ مبرمجةً بهذا الاعتقاد، حتى إذا طُلبَ من أحدِ أفرادها تفجير نفسه يذهب فوراً كأبٍ يتصرف كيفما شاء. لكن لماذا يغيب وعيه؟ التغييب ليس لنقص الوعي، بل يزعم– كما يُروج بين أقرانه- أنَّه يتلقى الأمر من الله. فالأب يخلِّق جماعته، يخلق فضاءَ تأثيرها كحال علاقات القرابة. إنَّ مسيرته في ثقافتنا العربية الاسلامية لا تُقطع إلاَّ وتُعاد مجدداً نتيجة التألُّه الماثل خلف فكرة الجماعة المؤمنة. ويقف هذا الأبُ بادعاء الألوهية خفاءً في تفاصيل وصايته على الآخرين من جهةٍ، وفي ولاء الجماعة لصورتهِ من جهةٍ أخرى.

إنَّ أيّ أب تنظيمي هو لوحةٍ مشفرةٍ من الوصايا الموسوية (كألواح موسى) التي أخذت أنماطاً ولهجات فكرية عدةً. وإذا كان الأبُ يبيح لنفسه انتزاع الحياة من الآخرين، فلن يكون إنساناً عادياً. إنَّه بعض إله الجماعة باعتباره ينتزع حقاً وجودياً لله (حق التصرف في حياة مخلوقاته). على أنَّ الشرع الإسلامي نقيض ذلك كله، فقد أوكل هذه المهمة في القصاص للمجتمع، للقانون وليس للأفراد (ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب). لقد تكلم القرآن بإرجاع القصاصِ إلى ما يرتئيه المجتمع مشروطاً بالحياةِ لجميع الناس. معنى هذا أنه قد يتم إلغاء القصاصُ أو إهماله في حالةٍ لو أدى إلى انتهاك تلك القيمة. لأنَّ الحياةَ ليست جزئيةً إنما تعدُّ هدفاً كلياً خلال هذه اللحظة أو تلك. وما يأخذه شخصٌ منها يخصُ جميع الناس قاطبةً وما يضيفه إليها إنما يُضيفه إلى جميع هؤلاء دون استثناءٍ.

بينما الأب المتطرف يأخذ بالسبب الجزئي في انتزاع حياة الآخرين، ليتصور أنَّه المهيمن على حياة الجماعة والقادر على انزال العقاب بهم. تقول البصمة اللغوية كما يذهب الراغب الأصفهاني "يُسمى كل من كان سبباً في ايجاد شيء أو صلاحه أو ظهوره أباً، ولذلك يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أب المؤمنين ...."[4]. فحوى هذا أنَّ الإرهابي يهيمن على الآخرين بمبرر سببي من غير فهم منفتحٍ لقضايا الحياه ككل ولمغزى الدين فيها. هذا المبرر تمتدُّ داخله نواة بيولوجية عضوية، فكما أنَّ الابن مولود بالتناسل، فكذلك الأب مرفوع بذات الوضع، غير أنَّ التحول يتم بخطوة تنظيمية ارهابية فيغدو السبب المقتنع به هؤلاء في صلاح الناسِ هو السبب البيولوجي والروحي ذاته للإضرار بهم!!

وبما أنَّ نبي الإسلام ليس والداً بيولوجيا للمؤمنين بالمعنى الحرفي، فإنَّه يأخذ تلك المكانة روحياً ودينياً. أمَّا ضمن حدود الإرهاب، فيكون الشخص المتطرف قد جمع بين مكانة الأب التناسلي والأب الروحي على قاعدة الأب - الإله. لأنَّه حريص على التنظيم العضوي للجماعة والتنظيم الإيديولوجي لها. وهذا يفسر القتل العشوائي لمخالفيه في الآراء والاعتقاد، ويوضح معاداته لمؤسسات الدولة الحديثة لمجرد أنَّها دولة. فالدولة لا تعترف بروابط الأبوة، وليست منضوية تحت الأب المؤمن ولا الأب الحاكم، لكنها في كل توثيق قانوني وإجراء تنظيمي تنفي أيَّة تقنيات أبوية من هذه الأصناف[5].

ولذلك لا تلتئم الدولة كفكرة حداثية وتشريعية مع الجماعات المتطرفةِ، وستظل الدولة بمثابة المضاد الحيوي التكويني لأفكار الجماعات الدينية. وليست الأنظمة التي صعدت فيها الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم إلاَّ دليلاً على هذا التصور. بسبب أنَّ نمط التفكير الأبوي يتعارض مع التفكير المُؤسسي ابتداءً.

الأصل والأبناء

لن تكون أيةُ جماعة دينية سوى جماعةٍ بمنوال التفكُّك لا الجمع، فكل عنصر فيها قابل لحمل تأسيسها وانهيارها بالتوازي. أي أنَّها تخضع لمفاهيم الخلخلة بسهولةٍ لأن كل فرد فيها يشعر أنه الأولى بمكانة الأب ويحمل وصاياه على كتفيه. وذلك يلقي الضوء على انشاق قيادات الجماعات التكفيرية بعد الخلافات التي قد تنشب بينهم. فمع كل انشقاق تخرج جماعةٌ أخرى بمفهوم مختلف للتكفير وآليات للخطاب وتأويل للنص الديني. ثم سرعان ما يُعاد هيكلتها بأبويةٍ مماثلةٍ للأبوات السالفة، مع هذا تزعم الاتصال بالمصادر النقيةِ لفهم الدين وامتلاك حقيقته النهائية.

ذكر الجرجاني في كتابه التعريفات " الأب، حيوان يتولد من نطفته شخصٌ آخر من نوعه"[6]. وهذا كان هو مصدر هشاشة الجماعات الدينية، فإذا كانت تنبني على أبٍ بخلفية التوالد، فلن يكون إلا تلك الإمكانية (الهشاشة). فلم يكن هناك شيءٌ متوقعٌ قدر ما ينفرط عقدها، لأنَّ أي تصور أومفهوم يحمل في ثناياه بذورَ الأب، سواء أكان قائداً للتنظيم أم مجاهداً أم داعيةً أم أباً زعيماً أو انتحارياً. جميعهم نقطة ضعف من حيث كونهم نقطةَ قوة. فلا شيء أخطر على الأبوة الدينية من ذاتها. وستتحقق قابلية الانهيار من خلال التصلُّب والاستحواذ والعنف. أين قوة تنظيم القاعدة بعد اختفاء أسامه بن لادن؟ فعلى الرغم من أنَّه نموذج للأبوة كما كان يعتبره أتباع القاعدة، بيد أنَّه لم يدرك في حياته أنَّ ضعفَ تكوين القاعدة في هذا الإطار تحديداً.

أولاً: تشكلت الأبوة الدينية ميتافيزيقياً بناء على الاستخلاف (إني جاعل في الأرض خليفة). وبالتالي يمكن لأي فردٍ القول بكونه خليفةً بالقدرِ ذاته من المعنى. لقد وصل الأمرُ إلى أنْ عُدَّ الاستخلاف حِكْراً على تلك الجماعة أو غيرها، وأصبح مبرراً لأبوتها إزاء أبناء لا حصر لهم.

ثانياً: تم طرح نمط الأب- ضمنياً- دون أبناء، رغم أنّه يوجد لكل أبٍ أبناء وإلاَّ لما سُمِّي بالأب. تحديداً قُيّضَ غيابُ الأبناء باعتبار الأفراد الآخرين أبناءً له بواسطة التنظيم. وهذا جانب الوعظ والوصاية حين يواجِه آباء الجماعات الدينية أقرانهم ومخالفيهم معاً. يُعزَز ذلك الصاق صفات الشهادة والجهاد والعلم بهم.

ثالثاً: الأبوة نمطٌ أخلاقي تربوي على أساس سيكولوجي[7]، وفي نطاق الدين بمثابة العمل بنموذج لاهوتي سابق التكوين يستثمر هذا النمط كما أشرت. صوت أبوة الارهابي ذو أزيز عقابي في المقام الأول، سواء أكان مرتبطاً بخطابٍ صارمٍ التوجه أم مرتهناً بشخصيه ذات سمات جسديةٍ وشكليةٍ.

استناداً إلى هذه النقاط تعدُّ الأبوة كما يمارسها المتطرفون نزعةً مسيحية مقلوبةً. إنَّها عكس عنيف لمعالم الآب وآلياته العقيدية في الديانة المسيحيةِ. فإذا كان آباء الجماعات الإسلامية يعادون المسيحيين ويتبنون تفجيرهم وذبحهم، فهم يمارسون (أبوة اسلامية) تزعم لنفسها منزلةَ الأب معتبرين الله حالَّاً فيها. وهم بهذا (أي آباء الجماعات الإسلامية) يزورُون الإسلام الذي قال بوضوح (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد).

أمَّا في المسيحيةِ، فالأبوة واضحةٌ بموجب الاعتقاد بصلب الابن (المسيح). فارتضى بعض المسيحيين الآب الإله في مقابل التعويض ببنوةٍ كان هذا مصيرُها المحتوم. فالابن المصلوب كلمة لآبٍ وَضَعَه لخلاص رعاياه الأرضيين. وثلاثية" الآب والابن والروح القدس" هي ثلاثية الحقيقة التي هي مصدر العلاقة كما يؤمن أتباع المسيحية. فالأبوة –على ألوهيتها- وقفت عارفةً بصلب الابن، لأنَّ ذلك لهدف أسمَّى. ولئن كانت الأبوة لا تعلم، فهذا قدح في قداستها الإلهية.

أمَّا والأبوة عارفة بذلك، فلقد تركت الابن معلقاً هكذا على صليبه مقابل غفران الخطايا. وتلك الفكرة لهاصدى بعيد: أنَّ كل أبوة لا تخلو من منطق تضحيةٍ بالأبناء، بالبنوة ولو عن طريق الخلاصِ. كانت الخطيئةُ هي المذبح الفعلي لجريان السرد التاريخي لهذه الحبكة اللاهوتية. وتلك فكرةٌ ليست الجماعات الاسلامية بعيدةً عنها، لكن في شكل مذابح ونصوص تكفيريةٍ مازالت تشتغل حتى اللحظة.

من تلك الزاوية، تعد الأبوة حيواناً ميتافيزيقياً ينتظر التهام غيره، ولا يكف عن ملاحقة الآخرين. وبالمثل عندما يتحول الشخص إلى أب، إنما تعطيه الجماعة الدينية عمراً زمنياً للتخلص منه. فكل أب مصيره إلى تدمير وجوده ووجود الآخرين. وهذه كانت علة أن ارهابيا يفجر نفسه بحزام ناسف وسط الناس الأبرياء.

ربما يسأل الأب في الجماعات الدينية: ما الخلاص من خطايا البشر؟ لا لكي يساعدهم على الخلاص، لكنه يجيب بحتمية الموت الذي يراه استشهاداً أو اغتيالاً أو تفجيراً أو سحقاً للرأس أو إغراقاً أو إحراقاً للضحايا مثلما كان يتفنن الدواعش. إنه حين يصدر صاحب الأبوة فتاوى اهدار الدم أو حين يدفع اعضاءَ التنظيم إلى ذلك إنما يترجم النص إلى حالةٍ مدمرةٍ. وليس ذلك انقطاعاً عن هذا المفهوم المقدّس للأبوة عندما تتجسد في أشخاص.

***

د. سامي عبد العال

.......................

[1]- لأنَّ مفهوم الأبوة يمثل استعارة توظف المشاعر وثقافة السلطة داخل نسيج مجازي أبويparental imagery في إطار الدين، وهذا مفهوم قديم قدم الديانات الوثنية والابراهيمية ولعب في تاريخها دوراً كبيراً.

Sarah J. Dille, Mixing Metaphors, God as Mother and Father in Deutero- Isaiah, T&T International A continuum imprint, London, New York, 2004. PP.2-5.

[2]- ليس النص هو النص المؤسس فقط، المتون، كالقرآن والسنة وكتب الأئمة والفقهاء الكبار، فحتى لو أطلق عليها هذا المعنى، فإنه ذو نطاق أوسع، لأنَّ كلَّ نص حدثٌ ثقافيٌّ واجتماعيٌّ. يشارك في انتاجه المؤوِلُ بمقدار ما لا يستطيع الافلات من اللغة التي يحيا داخلها.

[3]- فضلاً عما يدل علية العنوان من اتصال طبقة الفقهاء بالله وتوقيعهم عنه، يذكر ابن القيم أنهم "في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء".

ابن القيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، الجزء الأول، دراسة وتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1986، ص8.

[4]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وإعداد مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، بدون مكان ولا تاريخ للنشر، ص7.

[5]- Carol Gilligan, David A .J. Richards, The Deepening Darkness, Patriarchy, Resistance, Democracy future, Cambridge University Press, New York, 2009 وP. 225.

[6]- الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1985، ص 5.

[7]-Ron Spielman, The Father in the Mind, Focus on Fathering, Edited by Robin Sullivan, Acer Press, Melbourne, 2003. PP 95- 100.

الرَّمزيةُ اللغوية في العلاقاتِ الاجتماعية تُمثِّل شبكةً مِن الأفكارِ الإبداعية والتجاربِ الوجودية والظواهرِ الثقافية،وهذه الشبكةُ تُسَاهِم في إعادةِ تعريف مصادر الوَعْي في حقول المعرفة، ونقلِ شخصية الفرد مِن البَرَاءة إلى الخِبرة،وتحويلِ التفاعل الاجتماعي مِن تراكيب الفِطْرَة الإنسانية إلى عناصرِ المَنهج العِلْمِي والعَمَلِي، الذي يقوم على تحليل دَور المُجتمع في فلسفةِ حركة التاريخ ومَنطقِ العقل الجَمْعي. وكُلُّ مَنهجٍ فَعَّال هو بالضَّرورة ثَورةٌ لُغوية تُغيِّر طريقةَ تفكير الفرد،بِحَيث يَندمج الوَعْي معَ الأحداث اليومية، ولا يَتَعالى عليها، ولا يَنفصل عن السِّيَاقات الحضارية الموجودة في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الوظيفية للواقع المُعَاش. والثَّورةُ اللغويةُ غَير مَحصورة في نِطَاقِ طبيعةِ الألفاظ ومركزيةِ المَعَاني، وغَير مَحدودة في إطارِ إشاراتِ التفاهم وَدَلالاتِ التواصل. إنَّ الثَّورةَ اللغوية حياةٌ قائمة بذاتها، ومُكتملة بِنَفْسِها، وهي هَيكلٌ مَعرفي عابر للحواجز الزمنية، ونظامٌ اجتماعي مُتجاوز للحُدود المَكَانية. والمُجتمعُ القائمُ على ثنائية (الرَّمزية اللغوية / الثَّورة اللغوية) لا يُولَد في الفَرَاغ، ولا يُؤَسِّس للعَدَم، لأنَّ اللغةَ هي القُوَّةُ الدافعة للعلاقات الاجتماعية، والمُحَرِّكُ الأساسي للفِكْرِ والإبداعِ، والرافعةُ الحقيقية للمعايير الأخلاقية.وهذه الحركةُ الدَّؤُوبةُ_اجتماعيًّا وفِكريًّا وأخلاقيًّا_ تَجعل هُوِيَّةَ المُجتمعِ مُتماسكةً، ولا تُحِيل إلى غائب، وإنَّما تستعيد التجاربَ الحياتية مِن الغِيَاب، وتسترجع أحلامَ الفردِ مِن الاستلاب.

2

تاريخُ العلاقاتِ الاجتماعية لَيس رُجُوعًا إلى الزمن الماضي أوْ هُروبًا مِن المكان الحاضر، وإنَّما هو خِطَابٌ وُجودي يُعاد تشكيلُه باستمرار كواقع مَحسوس يُنقِّب عن سُلطة المُجتمع في ماهيَّةِ الفرد، ويَكشِف حقيقةَ اللغة في عملية إعادة إنتاج المعرفة، باعتبارها تأسيسًا للمَعنى الإنساني في مُوَاجَهَة قَسوةِ الأحداث اليومية، وخُشونةِ الوقائع التاريخية. وهذا التأسيسُ يُؤَدِّي إلى تحويل مصادر الوَعْي إلى منظومة مِن الأسئلة المصيرية، مِن أجل اختبارِ الماضي لا تَقْدِيسِه، وتفسيرِ الحاضرِ لا تَحنيطِه. وبالتالي، تنتقل العلاقاتُ الاجتماعية مِن حالة الأُسطورة إلى بُنية المُسَاءَلَة، وتنتقل الظواهرُ الثقافية مِن وَضْعِيَّة الأيقونة إلى مشروعية التأويل، مِمَّا يَكسِر وِصَايةَ الماديَّة الاستهلاكية على اللغةِ والمُجتمعِ، ويَصنع هُوِيَّةً مَعرفية خالية مِن التناقض، وذات طبيعة إنسانية بعيدة عن المصالحِ الشخصية الضَّيقة، والتفسيرِ المُغْرِض لمسارات التاريخ في العقل الجَمْعي والتجارب الوجودية والتفكير الأخلاقي. وإذا كانَ الكِيَانُ الإنساني هو النظامَ الجامع لِبُنيةِ الفِعْل الاجتماعي ومَضمونِها وتأويلِها، فإنَّ الكَينونةَ المُجتمعية هي المَنظومةُ الجامعة للظروفِ المادية زمنيًّا ومكانيًّا، والرُّؤيةِ الفلسفية لهذه الظروف ضِمن شُروطِ بناء التاريخ في الحضارة، وعواملِ قِيَام الحضارة في فلسفة حركة التاريخ. وهذا التداخلُ مِن شأنه إعادة تَفسير مُحاولات سَيطرةِ الفرد على ذاته ومُحيطه، وهَيمنةِ المُجتمع على مساره ومصيره. والتَّحَدِّي الأبرزُ في هذا السِّيَاق يتجلَّى في كيفيةِ مَنعِ الآلة مِن السَّيطرة على الفرد (حماية الشُّعور الإنساني مِن التَّحَوُّل إلى نظام ميكانيكي)، ومَنْعِ المُجتمع مِن استنزاف موارد الطبيعة لتحقيق رفاهيته، وتكريسِ سُلطته، وتعزيزِ سَطْوته.

3

اللغةُ تَمْنَع العَقْلَ الجَمْعي مِن التَّحَوُّل إلى أداةٍ لقمع أحلام الفرد، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة نظام اجتماعي قائم على القِيَم العقلانية والوَعْي النَّقْدِي. واللغةُ تُحَافِظ على التوازن بين المُجتمع والطبيعة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكوين بيئة إبداعية قائمة على المعايير الأخلاقية والتعابير الجَمَالية. وإذا كانَ الهدفُ مِن النظام الاجتماعي هو دَمْجَ هُوِيَّةِ الفرد معَ سُلطة اللغة، فإنَّ الهدفَ مِن الوَعْي النَّقْدِي هو تحريرُ إنسانيةِ الفَرْد مِن الخَوْفِ، وإعادةُ تشكيل ملامح شخصيته الوجودية بحيث تُصبح آلِيَّةً مَعرفية للانعتاقِ مِن تَسليع الكِيَان الإنساني (تَحَوُّله إلى سِلعة ضِمن ثنائية العَرْض والطَّلَب)، والتَّحَرُّرِ من الرابطة النَّفْعِيَّة المادية التي تَجعل البناءَ الاجتماعي شيئًا قابلًا للبيع والشراء. ولا يُمكن للمُجتمع أن يَترك بصمةً مُؤثِّرة في فلسفة حركة التاريخ إلا إذا تَمَّ بناءُ العلاقات الاجتماعية وَفْق مَنطِق اللغة،ولَيس مَنطِق السُّوق، وهذا يَتَطَلَّب حمايةَ شخصية الفرد الإنسانية مِن أثرِ الاغتراب وتأثيرِ الاستلاب، وتحليلَ البُنية الوظيفية الجوهرية في الأنساقِ اللغوية والسِّيَاقاتِ الواقعية، مِمَّا يَمنح الفردَ القُدرةَ على تجاوز الواقع، مِن أجل صِناعة واقع جديد قائم على الوَعْي الحقيقي لا الزائف. والوَعْيُ الحقيقي لا يتكرَّس كَهُوِيَّةٍ وسُلطةٍ وشرعيةٍ، إلا إذا نَجَحَ في انتشال الأفكارِ الإبداعية المقموعة في أعماق الذاكرة الوجودية للفرد والمُجتمع. وهذا يُحقِّق التجانسَ في الحراكِ المُجتمعي وحركةِ التاريخ معًا، وَيَحْمِي المَعنى مِن الغِيَاب، ويَحْرُس العقلَ الجَمْعِي مِن الغَيبوبة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

- الخيال جوهر لغوي صامت يلازم جوهر العقل بالتفكيرفي تمثّله شكل اللغة في ادراكه اشياء وموجودات العالم الخارجي.

- اللغة خيار الانسان الوحيد في ترسيمه ظواهر الطبيعة والحياة تجريديا.

-  الحياة تكتسب مدركاتها المادية بتعبير اللغة في تمثلاتها الواقع ومظاهر الحياة.

- ادراكات العقل للاشياء تسبق وعيه المعرفي بها. الادراك استلام الاحساسات الخارجية بواسطة الحواس. والوعي استرجاع عقلي رد فعل يعبر عن تلك المدركات وإحتوائه فهمها.

-  القلق النفسي ارجوحة خطأ اتخاذ قرار بلا معنى في افتقاده الواقع.

-  وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يتوزعه الدين والطبيعة.

- يقول ياسبرز (حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان ). الاخفاق بالحياة هي مرتكز مفترق طرق تجعل اهمية مراجعة الانسان ليس لماذا اخفق فقط. بل المطلوب مراجعة مجمل معتقداته وسلوكياته التي تحكمها بالتعامل مع مظاهر الحياة الخاطئة والصائبة معا بنفس منهج كيفية الخلاص من الاخفاقات المتكررة..

- الانانية غريزة فطرية انسانية ليست مكتسبة تنمو وتسود تحت وصاية انتشار تضليل العقل الجمعي.

- الطبيعة ألزمت الانسان التكيّف معها من دون ارادتها ووعيها بخلاف وعي الانسان تكيفه بالطبيعة قصديا غائيا في مسار يحقق اهدافه.

- دارون اعتمد تطور الانسان بالطبيعة بايولوجيا في حين كان خلاف الماركسية معها انها درست تطور الانسان جدليا انثروبولوجيا تاريخيا.

- الطبيعة تملي على الانسان التكيف في بقاء الاصلح لكن ارادة وقوة الاصلح بالبقاء جعلت من تكيف الانسان مع الطبيعة ظاهرة وقتية زائلة بزوال اسبابها الطبيعية.

- نظرية مالثوس في معادلته العكسية كلما زاد عدد السكان قلت موارد معيشتهم على الارض معادلة ستحكم وجود ومصير حياة الانسان مستقبلا.

- الفلسفة تحتوي لغة التعبير عن كل الاشياء ولا يحتويها شيء.

- اللغة (صوت ومعنى) حين ينعدم الصوت الصائت خارجيا او الصامت داخليا لا يبقى هناك معنى. وفي انعدام معنى اصوات دلالة ابجدية اللغة لا يعد هناك تواصل جمعي مفهوم.

- قالها احدهم بوجهي مستفزا اياي : إنك استفزازي فاجبته نعم لاننا انت وامثالك من جهة وانا وامثالي من جهة اخرى نختلف بالعقل والتفكير.

- كل خارق للطبيعة يعلو قوانين الطبيعة والحياة لذا يكون وجوده مستعصيا قبول محدودية ادراك العقل به.

- ليس مهما ان تسعى تحقيق ان يفكر الناس مثلك بل الاهم ان لا تفكر مثلهم.

- اعتزال او اغتراب المثقف للمجتمع الضال ليس اتقاء شر فوضى الازدواجية وسماجة التعامل الثقافي المنافق بالمجاملات الرخيصة. بل كي لا يكون شاهد زهور على ادعاء امجاد زائفة لمن لا اهلية ولا كفاءة لهم..

- لكل مرحلة تاريخية معرفة غير معلنة هذا ما يذهب له بعض الفلاسفة. ولا وجود لروابط تجعل ما نستقبله لاحقا لا علاقة معرفية له بالماضي. تعقيبي ان المستقبل لا يحدد للانسان ما ينبغي الوصول له بل الاهداف التي تعيش في احشاء المستقبل هي مدركات عقلية معروفة لعقل الانسان وسلوكه وحاجته لها صوب الوصول لتحقيقها. بمعنى الادراك الحقيقي يعقب تفكير العقل ولا يسبقه.

- لا يوجد ما يدعيه بعض الفلاسفة ان هناك شروطا لا يدركها العقل ولا تعمل بارادته .سببها المسلمات المنطقية المعرفية القارة التي تفسر مرحلتها وتقاطع ما سبقها. اعتقد ان المقصود بهذه الاشتراطات هي القوانين الطبيعية التي تحكم الطبيعة والانسان. الشيء الاهم ان قوانين الطبيعة لا تدرك الزمن الذي يحتويها في فاعليتها كي تقاطع ما قبلها. قوانين الطبيعة نسق كلي منّظم لا تخضع لرغائب الانسان ولا لتحقيب الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل.

- قرات لفلاسفة منهم اسبينوزا ان ماهية الانسان تسبق كينونته الوجودية. اذا تماشينا مع مقولة ان الانسان صفات خارجية يدركها العقل, وماهية مصنوعة من قبل الانسان لا يدركها العقل. نجد انفسنا امام حقيقة ان الماهية او الجوهر ليس صفات وخصائص داخلية محجوبة عن ادراك العقل لها وانما هي جوهر متداخل مع الصفات الخارجية ولا يمكننا فصل الماهية المحتوى عن الصفات او الشكل لكننا نفشل بمعرفة الماهية بدلالة الصفات..

- خاصية اللغة بمعنى هي ابجدية حروف لها صوت ومعنى تكون قبلية على خاصية قواعد اللغة من نحو وصرف وبلاغة ومجاز وتجريد التي لاتكون قبلية على وجود وتعلم اللغة لمجتمع معيّن. فالفرد والمجتمع يتعلم ويتكلم ويكتب بعض رموز لغته الابجدية قبل ان يضع له علماء مختصين قواعد وضوابط تلك اللغة المختلفة عن غيرها من اللغات.

- فقدت تسليط الاضواء على كتاباتي الفلسفية بفعل فاعل تاكله الانانية والغيرة.

- كلما تحوز الاخلاق والضمير والمعرفة كلما زاد اعداؤك.

- اجمل عبارة تحمل ايمانا عميقا رددها باسكال قوله( لا يكون الايمان خاطئا بالمعنى الحرفي في وقت يكون صادقا بالمعنى الروحي).

- بداية كل حركة بالحياة ينتظرها نهاية دائرية من الفناء المتجدد.

- تعابير وافصاحات الايمان الفطري الديني للفرد كحاجة تعبدية ذاتية لا تشكل حمولة متقاطعة مع جوهر الدين. كعلاقة ثنائية تربط العابد بالمعبود. كما الايمان الديني السليم لا يقاطع وضعية الفرد اجتماعيا مع سريان تدفق الحياة وجريانها الدائم وهو ما يمثّل جوهر التدين في فطريته قبل تناول الايديولوجيا له لاغراض تعبوية باسم الدين.

- يعرف ليفي شتراوس البنيوية اللغوية في اصلها انما هي محاولة علمية من اجل القيام بحفريات جيولوجية بدلا من الاقتصار على تقديم وصف جغرافي سطحي لبعض ربوع الثقافة البشرية.

- يؤيد محمد اركون قول بارت ( يرى رولان بارت احد اهم رواد الفلسفة البنيوية ان اللغة اصبحت شارحة لكل حضارتنا المعاصرة .وعلينا اكتشاف عالم اللغة على نحو ما نستكشف اليوم الفضاء).

- الافكار الديكارتية والكانطية اذا قيست بمعيارية المنفعة البراجماتية تكونان خارج قوس الفهم البراجماتي التجريبي في تحقيق المنفعة. وما يقوله ديكارت العقل ماهيته الفكر. وما يقوله كانط العقل من غير الاحساسات يبقى فارغا. كلاهما من وجهة نظر معيارية عملانية انما يقومان بتوصيف آلية الادراك الحقيقي للاشياء ان كل شيء يتم بالذهن فقط متجاهلين الواقع والحياة.

- اشار كانط الى ان العقل يدرك الزمكان بقالبي فطريتهما الموروثة.

- قرات خبرا لم اتاكد من صحته ان علماء اميركان توصلوا الى خلق شيء من لا شيء وهذا في حال البرهنة على صحته نكون بحاجة لمراجعة كل معارفنا العلمية ووضعها على المحك.

- يقول اوستن احد رواد الفلسفة التحليلية (انه قد اذهله حقيقة ان قول شيءلا يعني ببساطة ان ذاك التعبير اللغوي يفصح عن الشيء). وفي هذا المعنى نفهم اما ان تكون اللغة مخاتلة ومراوغة في عدم المامها الصادق في التعبيرعن الاشياء. واما ان يكون العقل عاجزا تماما عن مطابقة مدركاته ذهنيا في تضليل اللغة له في نقص المعنى المطابق. وخطأ الفكر يجب ان لا يعلق على مشجب اللغة بماهي لغة, فاللغة حسب تعريف سوسير هي وعاء الفكر الذي يملأ محتوى تعبير اللغة قبل الافصاح عن شكل اللغة بحروفها الابجدية التي هي (صوت ومعنى). عليه نكون مطمئنين ان تفكير اللغة الصامت داخليا هو ابجدية لغوية ذات معنى قبل ان تكون تجريدا معبّرا عن معنى مدركات العقل الداخلية والخارجية للجسم.

- اثقل من تصحيح الخطأ بحقك الاعتذار انك كنت سببا فيه وليس نتيجة عليك وزرها.

- تنفرد المسلمة الانثروبولوجية باليقين ان الانسان كائن اجتماعي ناطق. صحيح ادراك العالم الخارجي والداخلي هو تعبير لغوي في حالتي التعبير الافصاحي عن العالم الخارجي وصمتا لغويا في حال عدم توفر الارادة والرغبة في التعبير لغويا عن ظواهر عالم الانسان الداخلي. والاهم اننا نخطأ في اعتبارنا الانسان كائن تتحدد كينونته الموجودية باللغة فقط.

- الدين الحق ضرورة مجتمعية بغيرها لا تغتني حياة الانسان بالاستقامة الاخلاقية التي يضمنها القانون..

- اثقل هموم النفس عدم رد الجميل بمثله وليس الاساءة بمثلها.

- حين تعلو كلمة الحق بي وقتها لا اندم على اخراج المنافقين من حياتي.

- الزمن ادراك معرفي دلالي محايد بواسطته ندرك الاشياء والجدل الديالكتيكي محايد لا يساعدنا على الادراك المعرفي ولا يتداخل تموضعيا معها في تكوينها. الجدل بهذه الحالة هو زمن محايد ولا يحضر خارج تضاد حالة من جدل سوى انه احد العوامل الموضوعية المساعدة.

- الفيلسوف كاردينال العصور الوسطى دي سوكا قال (الله اوجد العالم عن قصد لا عن ضرورة. وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق.).الفرق بين القصدية والضرورة يعني ان القصد يعفي العقل من ضرورة انتساب الخالق للمخلوق في كل اشكال النزعات الصوفية. اما خلق القصدية الالهية بالعالم تجعل من الوجود الانساني كمخلوق مركزي بقصدية الحياة ولا ضروري في خلق الله للعالم.

- اورد فيلسوف القرون الوسطى الاوربية الكاردينال دي سوكا ( كمال التفكير في وقف التفكير). ربما يمكننا القول بضوء العبارة ان اللغة وصلت عجز التفكير عندما يكون الصمت اللغوي اكثر تعبيرا عن اللغة المنطوقة. واوصى دي سوكا بالابتعاد عن ان الله (متعيّن) فوجود العالم حسب قوله بالقياس الى وجود الله الذي يحتوي كل شيء. كما ان النقص يلازم كل متعيّن يدركه العقل.

- الزمان ادراك معرفي محايد لذا لا تربطه علاقة جدلية مع الاشياء.

- من اقوال كانط قوله (الدين ليس عقيدة بل هو عبادة روحية).

- اعتذار الكلمات لا تشفي جروحها النفسية.

- لا تثق من اعتاد خيانة صاحب ضمير فهو يبقى بداية مزبلة ونهاية عار..

- لا تدين احدا بسوء انت مدان باكثر منه.

- لا اعتب على جاهل يعاديني بل على مثقف يحاول النيل مني.

- العقل صمام امان انزلاقات العواطف نحو كل ما هو بلا نتيجة محسوبة سلفا.

- كلما ذكر احدهم متغنيا بالزمن الماضي الجميل امامي اتعاطف معه حينما اتذكر كيف وضعنا العربة امام الحصان لثمانية عقود من التراجع المجتمعي على كافة الصعد.

- ادراك المكان يتم بدلالة وهم احتواء الزمن له.

- اجمل عبارتين قراتهما الاولى لسارتر (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) والثانية لبراتراند رسل (ما اعرفه هو العلم وما لا اعرفه هو الفلسفة).

- جوهر الطبيعة هو الانسان في ادراكه سيروراتها التغييرية بتخارج معرفي تكاملي نفعي معها.

- كل ارادة يحكمها الوعي القصدي هي العامل الاول في تفعيل قوانين الطبيعة بما توفره له من فهم افضل للحياة.

- النقص يلازم اللامتناهي الذي هو صيرورة غير محدودة ولا يلازم المتناهي الذي هو نقص يلازم تكوينه في حال تعيّنه.

- كل ظاهرة في حال من السيرورة في عالمنا هي نقص في طور بلوغ الاكتمال.

- كل شيء يصنعه او يخترعه الانسان لسد حاجته له يكون فيه الماهية تسبق وجود ذلك الشيء على العكس من المادية التي ترى فهمنا ماهية او جوهر الشيء يكون بدلالة اسبقية وجوده كينونة مدركة متعينة.

- كل امنية يصبو الانسان تحقيقها بحياته يجدها انها وعي قصدي يخترعه العقل وتحاول تحقيقه الارادة.

- الوعي جوهر تجريدي في مرجعيته للعقل. ويكون وعيا قصديا حين يكون موضوعه ملازما له.

- لن اندم على خطأ لم اكن سببا فيه بل كنت نتيجة تحملت وزرها.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

- أسئلة مفتوحة: إفراط تايلور في الشمولية؟

يدعو تفسير تايلور للحداثة إلى إنسانية حساسة لـ "حياة الروح" (هيجل)، وشاملة لتعددية الخيارات الدينية وغير الدينية). يركز في نظريته الأنطولوجية المبكرة على أهمية التقييمات القوية والمطالب المقابلة أو الممماثلة للأعتراف. يطور تايلور، على هذا الأساس، فكرة سياسة الاعتراف التي تتمثل ميزتها في تصحيح العمى عن الاختلاف في التنظير السياسي التقليدي.

لكن مايزال نموذج تايلور للإندماج يردد صدى حلم روسو بالتوفيق والمصالحة من خلال الاعتراف المتبادل. تتطلب صورة تايلور للمجتمع القائمة على الاعتراف الإيجابي والمتبادل باختلاف الآخرين نموذجًا أخلاقيًا وسياسيًا للديمقراطيات التعددية التي تتميز بخلافات عميقة وصراعات على السلطة.[1] إن سياسة الاعتراف، في سياق النضالات الديمقراطية، هي سيف ذو حدين، اذ يمكن أن تضمن ادعاءات الهوية/ الاختلاف في المجال السياسي صعوبات مختلفة ومترابطة. أولا، يمكن أن يؤدي إلى استخدام الأدوات والوسائل الاستراتيجية التي تفسح مجالًا وتقدم فرصًا لأصحاب المشاريع العرقية والدينية. وتستعمل نخبا السلطة لغة الاعتراف والهوية والحقوق فقط من أجل الحصول على الحماية والامتيازات. وهذا يقوي أو يخلق بدوره أشكالًا من الهيمنة والإقصاء. ثانيًا، قد يؤدي تسييس الاختلاف إلى استقطاب اجتماعي سياسي وعدم استقرار وليس مصالحة (وفقًا لأفضل نوايا تايلور). فمن المرجح أن تؤدي سياسات الاختلاف إلى تقنين متضارببين مطالبها وحدودها.[2] ويمكن أن تنطوي ديناميكية التقنين على أنغلاق وتحجر" للجماعات الدينية، مما يؤدي – مثلًا- الى استمرار الهيمنة على النساء[3] واستبعاد الأصوات المعارضة.

تخلى تايلور، في سياق طروحاته المتأخرة بخصوص تسييس الادعاءات الدينية والقومية، عن شكل أو صيغة سياسة الاعتراف التي طورها في أوائل التسعينيات. فشدد لاحقا على أهمية التفاعل الحواري والتبادلات بين الثقافات على تسييس الاختلاف؛ وكذلك، أكد على أهمية- ما يطلق عليه- مسار المواطن على المسار القانوني في التفاوض بشأن مطالب الهوية.[4] ومع ذلك، تظل مسألة الاعتراف/ سوء االأعتراف محورية في الرؤية الأنطولوجية والفلسفة السياسية التي يطرحها،[5] وتقوده إلى مقاربة توافقية تكيفية قوية مع الادعاءات الدينية.

ما مدى إقناع اقتراح تايلور الأخير بنموذج الإندماج القائم على الاعتراف؟ نرى أن اقتراحه يثير صعوبات أنطولوجية (وجودية) ومعيارية- سياسية تتعلق بالدين. فأولاً، رأينا تايلور يشدد على أهمية التعالي بما يتجاوز الأزدهار البشري.[6] ومع ذلك، فإن تعدد معاني وغموض مصطلح "التعالي" يجعل الدور الذي يلعبه في تصور تايلور غير واضح، فضلاً عن آثاره السياسية. ( ستجد تفصيله في (أ) أدناه. ثانيًا، أن تايلور محق في موقفه ضد المدافعين عن الحياد المطلق في الاعتراف بأن يجب أن تأخذ الدولة في الاعتبار الضرر المعنوي الذي يلحق بالمواطنين المتدينين من خلال القواعد التمايزية ضد معتقداتهم وممارساتهم الأساسية ومع ذلك، فإن الإشارة إلى صدق الاعتقاد كسبب مقنع لمنح الاعتراف يؤدي إلى نموذج شامل للغاية للاعتراف والتكيف. إن اقتراح تايلور الأخير شامل للغاية على عكس تصوره السياسي السابق للأعتراف، ويمكن أن يقوض عدالة واستقرار الإطار القانوني السياسي. قد يخفف اعتماد معايير أكثر تطلبًا للاعتراف من هذه المشاكل، لكنه لا يحلها بالكامل. نرى أننا تُركنا مع لغز: فيمكن أن يؤدي الموقف المحايد (مثل موفقف براين باري) إلى أشكال غير مباشرة من التمييز، كما يجادل تايلور وكيمليكا؛ ومع ذلك، قد يؤدي حتى النهج المعتدل أو المحدود للتكيف في عصر التعددية المفرطة إلى منح مكانة مميزة لمعتقدات معينة وتقويض الحياد والاستقرار القانوني (سأتناوله في ب و ج).

أ- انطولوجيا الأخلاق: مسألة التعالي:

يتسم استخدام تايلور لـ "التعالي" بالتناقض والغموض، حيث يدعي أنه يدرك قواسم مشتركة لمجموعة متنوعة محيرة من الظواهر كالإيمان المسيحي، والطريقة البوذية إلى النيرفانا، والسمو الجوهري لبنيامين وبلوخ، وأفكار كانط التنظيمية، وموقف فوكو ودريدا المضاد للتنوير، وحتى الفاشية. فيمكن أن يشير "تعالي تايلور" إلى "الرغبة في الخلود"، أو "حياة ما بعد الحياة"،[7] أو "واقع روحي خارج الإنسان"،[8] ولكن أيضًا إلى مُثُل إنسانية أكثر وضوحًا مثل "جمهورية المساواة" أو السلام الدائم نفسه.[9] وتشير كل هذه الإشارات إلى "التعالي" بشكل مفترض إلى أهداف أو ادعاءات تتجاوز الازدهار البشري،[10] والتي يؤدي السعي نحوها إلى تحولات جذرية. يثير هذا التعدد في المراجع مسألة فائدة التعالي عند تايلور، وتحوله إلى مفهوم شامل. ليس من الواضح أيضًا لماذا تهدف المُثُل التنظيمية مثل "جمهورية المساواة" إلى شيء يتجاوز ازدهار الإنسان وحتى الحياة؛ كما أنه ليس من الواضح متى تتوقف الرغبة أو الطموح عن كونه محايثًا ويصبح متعاليًا. يشير تايلور في إحدى الفقرات إلى معيار هو: "عندما يكون معيار السلوك الطبيعي مرتفعًا بدرجة كافية، قد لا يبدو مصطلح" المحايثة "هو المصطلح الصحيح".[11] ليس هذا الاقتراح لتحديد المساحة المحايثة / التعالي مفيدًا جدًا: أنه "مرتفع بما يكفي" يختلف عن "ما وراء الحياة" ويمكن أن يشير إلى أفكار الخير البشري؛ فالصياغة التي يقدمها هي مثال على لغة تايلور الغامضة عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين المحايثة و التعالي. ليس محتوى التعالي غير واضح فقط ولكن مكانة حجة تايلور ليس لصالحها أيضًا.[12] لا يشرح تايلور، في كتابه عصرعلماني، حالة حجته فيما يتعلق بأهمية" التعالي".[13] يعترف في بعض الأحيان بما إذا كان "التعالي" وثيق الصلة بأزدهار الأنسان أم لا يعتمد على مجرد قفزة في الإيمان: ما يدفعنا بطريقة أو بأخرى هو ما يمكن أن نصفه بأنه يأخذنا في الحياة البشرية، ومحيطها الكوني والروحي (إن وجد). فعادة ما ينبثق موقف الناس من مسألة الإيمان بالله، أو الفهم المفتوح مقابل الفهم المغلق للإطار المحايث، من هذا المعنى العام للأشياء.[14]

يمكن تفسير هذه الحجة من التعالي على أنها ذات أهمية سلبية، أي أنها تشير إلى قيد أو حد وافتتاح. وكما يقترح برنشتاين، يمكن تفسير إطار تايلورالمحايث بأنه مغلق أو منفتح على التعالي ولا يمكن التعبير عن موقف قاطع في هذا الصدد.[15] إن إدراك هذا الحد والانفتاح من شأنه أن يقود تايلور إلى منظور تعددي ينتقد بنفس القدر الملحد المتشدد والمؤمن العقائدي، لأنهم يرتكبون الخطأ نفسه في تقديم ادعاءات حصرية لا مبرر لها.

ومع ذلك، يعطي تايلور أهمية إيجابية للتعالي. ويجادل بأن كتابه عصر علماني بأكمله هو محاولة لدراسة مصير الغرب الحديث ازاء الإيمان الديني بمعنى قوي. هذا المعنى القوي يعرِّفه بمعيار مزدوج: الإيمان بواقع متعالي من ناحية، والطموح المرتبط بتحويل يتجاوز الازدهار العادي من ناحية أخرى.[16]

يضيق هذا التوصيف الغربي المسيحي القوي للتعالي غموض المفهوم؛ ومع ذلك، فإنه يتعارض مع الفهم المنفتح والتعددي الذي يتبعه تايلور في أماكن أخرى أيضًا.[17] وكما يلاحظ كازانوفا، إذا كانت تكشف الأجزاء الأولى من كتاب اصر علماني عن المواهب التحليلية والتأويلية والسردية لفيلسوف يمكنه مساعدتنا لفهم تخيلاتنا الاجتماعية العلمانية"، فإن الأجزاء الأخيرة تكشف عن ضيق ومحدودية في تساؤل وتحقيق تايلورفي حديثه عن: "الروح الرومانسية للحب المسيحي، وإرادة الإيمان التي ترافق أمل الخلود، والعطش الطوباوي للتألوه المتجسد والتعالي وراء مجرد ازدهار الإنسان".[18] أنه صحيح وجود هذه الرغبة في الخلود أو "حياة ما بعد الحياة" وهي تميز المهام الدينية كما في المسيحية والهندوسية والإسلام،[19] لكن هذه الرغبة ليست مطلبا بشريًا بشكل مطلق، وأن الحياة الخالية منها ليست بالضرورة "مكبوتة".[20] بل على العكس من ذلك، رفض مثل هذا التوق إلى التعالي هو، بالنسبة للبعض، فعل ضروري للتحرر من التطلع الوهمي.[21]

على الرغم من غموض مصطلح التعالي عند تايلور، فإن اهتمامه بتجارب التحول أو التغيير وتفكيك الهوية يظل وثيق الصلة بفلسفة سياسية حساسة للاختلاف.[22] فيلفت تحليله الانتباه إلى تعددية المعتقدات، وخيارات الحياة، والتجارب الهادفة للحرية التي لا يمكن اختزالها في وجهات النظر الليبرالية أو الجمهورية التي تتمحور حول الموضوع السيادي (سواء كان فرديًا أو جماعيًا). حتى لو لم نتمسك بمصطلحات "التعالي"، فإن حساسية تايلور الهيرمينوطيقية للتجارب التي تنطوي على عدم التمركز (الراديكالي)، أو التنازل، أو عدم التجانس يمكن أن تكون تصحيحية لوجهات النظر الليبرالية والجمهورية المألوفة في الأوساط الأكاديمية الغربية التي تركز على مفاهيم الحرية غير القابلة للتعميم. يرى تايلورإن وجهات النظر هذه "محايثة"، لأنها تستند إلى مفاهيم الحرية باعتبارها ازدهارًا فرديًا وجماعيًا، أو الحرية باعتبارها تعظيم الاختيار والرفاهية، أو الحرية كاستقلالية. وأنه يمكن للتجارب الدينية والروحية للحرية غير القابلة للاختزال لوجهات النظر المحايثة أن تقود التغيير المجتمعي ويضرب أمثلة باللاعنف الراديكالي (غاندي، مارتن لوثر كينغ)، الترابط الإيكولوجي العميق (آرني نريس)، وفي ماقامت به من تغيير تجاه العدو وذلك بحب هذا العدو، وكذلك كما في التضحية والتفاني في خدمة الآخرين (بي آر أمبيدكار، آرثر شنيتزلر، دوروثي داي). يجادل تايلور بأن الأديان التاريخية قد جمعت بين الاهتمام بالازدهار والتعالي في ممارساتها المعتادة. لقد كانت القاعدة هي أن الإنجازات العليا لأولئك الذين تجاوزوا الحياة عملت على تغذية الحياة الكاملة لأولئك الذين بقوا على هذا الجانب من الحاجز. [23]

ب-الأذى المعنوي واختبار الصدق والإفراط في الشمول:

هناك، كما أشرنا، استمرارية في عمل تايلور فيما يتعلق بدور التقييمات القوية، والاعتراف، والضرر الأخلاقي على مستوى الأنطولوجيا والفلسفة السياسية. تحدد التقييمات القوية أو المعتقدات الأساسية الشعور بالأستقامة أو النزاهة الأخلاقية؛[24] وغالبًا ما يستند سوء فهم المعتقدات الأساسية إلى اختزالها الزائف إلى "مجرد تفضيل يمكن نسيانه أو استبداله بسهولة"،[25] ويمكن أن يتعارض مع حرية الضمير والاحترام المتساوي، و يؤدي، بالتالي، إلى "إلحاق الضرر". يشير تايلور إلى أنه، في الديمقراطية الدستورية، يجب الاعتراف بالمعتقدات الأساسية، وتعديل القوانين والقواعد (عن طريق توسيع القواعد، والإعفاءات، وما إلى ذلك) من أجل استيعابها. [26]

لقد اعترض المحايدون الليبراليون بشدة على المنطق التوافقي. فبالنسبة لبريان باري، إذا كان القانون شرعيًا وله قابلية للتطبيق بشكل عام، فإن تعديله لتصحيح تأثيره المختلف على جماعات أو أفراد معينين لا يمكن إلًا أن يؤدي إلى التعسف وعدم الاستقرار القانوني وتقويض حياد الدولة. لا تستطيع الدولة ولا ينبغي لها أن تصحح آثار قانون عام شرعي، ولكن تأكد فقط من أنه لا يستهدف جماعات معينة من الأشخاص. وفقًا لموقفه الحيادي، ينبغي على الليبراليين بدلاً من ذلك أن يهتموا بجميع حالات الإكراه، التي يجب أن تكون مبررة بمصالح عامة مناسبة، وليس بالاعتراف بقيمة المعتقدات والهويات الدينية الثقافية وتعزيزها. إذا كان هناك ما يبرر قاعدة قسرية، فيجب أن تطبق بشكل منفرد على جميع المواطنين بغض النظر عن عواقبها على جماعات أو أفراد معينين.[27] وهي قواعد موحدة لجميع أعضاء المجتمع السياسي بغض النظر عن معتقداتهم الأساسية.

نحن نجادل بأن القانون لا يستطيع ولا ينبغي أن يصحح جميع آثاره غير المتكافئة. وليست الآثار غير المتكافئة غير عادلة تلقائيًا: فيمكن، على سبيل المثال، أن تنشأ من الخيارات الشخصية التي نتحمل مسؤوليتها.[28] يجب على الدولة - كلما كان ذلك ممكنًا ومرغوبًا فيه - أن تضمنليس للقوانين العامة طابع تمييزي فيما يتعلق بأفراد وجماعات محددة بموجب مبادئ حرية الضمير والاحترام المتساوي. علاوة على ذلك، تُظهر حجة باري حول الإكراه أنه في بعض الحالات يكون مبدأ عدم التدخل كافيًا لتبرير إلغاء أو تعديل قاعدة عندما يتبين أنها غير عادلة. إذا كان ارتداء الحجاب الإسلامي لا يعيق المرأة عن أداء وظيفتها في متجر بيع بالتجزئة، على سبيل المثال، فيجب أن يحمي القانون حقها في القيام بذلك ليس بالضرورة لأن الدولة بحاجة إلى الاعتراف بقيمة هويتها الدينية أو معتقداتها الأساسية ولكن، يمكنها أن تفعل ذلك لأن التدخل في حريتها الدينة والضمير سيكون غير مبرر.

ومع ذلك، فإن تكيف تايلور يلتقط رؤية معيارية يغفلها المحايدون والتي لها صلة بالتوصل إلى قرارات عادلة ومفيدة في الخلافات المتعلقة بالدين. فكما يشير، على الدولة أن تكون محايدة لأن القوانين والمؤسسات العامة يجب ألا تمنح أي مجتمع ديني امتيازًا؛ ولكن التجاهل التام للتأثير التفاضلي للقوانين واللوائح يؤدي إلى تقييم غير لائق لدور الحياد والمعاملة العادلة. يمكن أن تؤدي القوانين واللوائح إلى ضرر معنوي وتمييز غير مباشر حتى لو كانت صحيحة بشكل عام ولا تستهدف بشكل مباشر أي مجموعة محددة.[29] الاعتراف بهذا التأثير التمييزي التفاضلي ومعالجته هو مسألة عدالة، علاوة على ذلك، يمكن أن يكون مفيدًا للتعاون الاجتماعي والعيش معا. عموما، لا يمكن التعامل مع قضايا تقع تحت هذه الحال من خلال تقييم الإكراه بشكل مجردة (وفقًا لاقتراح باري). فأولاً، يعتبر تقييم الإكراه سياقيًا، ويعتمد على تقييم مدى ملاءمة وقيمة أسلوب حياتهم ومعتقداتهم. ثانيًا، يؤدي تطبيق الاختبار السلبي للقسر فقط إلى إهمال الدور الذي يمكن أن يلعبه الاعتراف الإيجابي في بناء علاقات عادلة ومثمرة ومستقرة بين الجماعات أحيانًا. يحول موقف باري مبدأ الحياد إلى هدف في حد ذاته حيث يجب السعي وراءه بغض النظر عن السياق والتأثير، ويخلط بين المعاملة المتساوية ومبدأ القاعدة الواحدة للجميع.[30] ينتهي هذا الحياد الليبرالي بالعمى[31]عن الثقل الذي يمكن أن يؤديه تجنب الأذى الأخلاقي ومنح الاعتراف الرمزي في بناء علاقات تعاون اجتماعي عادل واستقرار سياسي.

ومع ذلك، يبقى السؤال الشائك عن تكيف تايلور هو التأسيس عندما يصبح سوء التعرف على معتقد ما أمرًا أخلاقيًا وسببًا لإجراء تعديل. بالنسبة لتايلور وماكلور، لفهم الضرر الأخلاقي بشكل صحيح، نحتاج إلى اعتباره معادلاً للضرر الجسدي الناتج عن سوء التعرف على حالة خاصة.[32].....

لكن التكافؤ بين نوعي الضرر بعيد كل البعد عن كونه بديهيًا.[33] يمكن التحقق من الأذى الجسدي بشكل موضوعي. لا يوجد اختبار مكافئ للمشكلة المثيرة للجدل المتمثلة في تقييم ما هو في الواقع معتقد أساسي، وما إذا كان يمكن أن يكون الاعتقاد الجوهري سببًا لمنح تكييف أو متى يمكن ذلك. يختلف الفلاسفة والمحاكم بشكل كبير حول هذه القضايا الحاسمة المتعلقة بمجال التفسير الفلسفي / القانوني، وليس بمجال الاختبارات العلمية الروتينية.

ج- معضلة االتوفيق:

يتمثل أحد الحلول البديلة للتكيف القوي عند تايلور في اعتماد معايير مختلفة وأكثر صرامة للاعتراف. ليس هذا النهج المتعدد المعايير غير مألوف في الممارسة القانونية.[34] عموما، لا يمكننا متابع المهمة المعقدة المتمثلة في إنشاء إطار عمل تقييمي لتصفية المعتقدات الأساسية التي تستحق الاعتراف وتبرير استيعاب الممارسات الدينية هنا بالتفصيل. فإذا كانت معايير التقييم هذه مقنعة فالواجب أن تتجنب ضيق الأفق بتفضيل نوعًا معينًا من المعتقدات والممارسات (الدينية). ويعتمد تعريفها على السياق وذلك لتنوع الترتيبات القانونية الموجودة مسبقًا والمكانة المختلفة للدين في كل مجتمع سياسي.

يشير معيار الملاءمة إلى المعتقدات والممارسات التي تلعب دورًا مهمًا في مجتمع المعتقدات تلك - أي المجتمع القادر على التعبير عن قصة أو سرد حدث ذي مغزى وموقف أمام الوجود والعالم. يستلزم التحقيق في أهمية المعتقدات والممارسات الأساسية تقييم مدى اتساقها وقيمتها الأخلاقية. ويتطلب تبرير الادعاءات التي يرفعها الأفراد بناءً على مجموعة متماسكة من المعتقدات التي يُعبًر عنها من خلال تقليد خاص بها من الاستقصاء الديني والأخلاقي. يوفر التقليد الداخلي للمجتمع خلفية من المناقشات وأساليب الحياة التي يمكن على أساسها تقييم القيمة الأخلاقية والوجودية للمعتقدات وممارساتها بشكل مناسب.

هل يخفف شكل من التكيف المحدود مخاوف المحايدين الليبراليين؟ لا توجد، كما نقترح، حجة كضربة قاضية لصالح أو ضد الحياد الليبرالي أو التكيف. يكمن ضعف الموقف الحيادي في أنه يمكن أن يؤدي إلى أشكال غير مباشرة من التمييز. من ناحية أخرى، ينطوي الشكل المحدود من التكييف في عصر التعددية المفرطة على خطر منح اعتراف خاص بمعتقدات محددة وتقويض الحياد والأندماج والاستقرار القانوني. فحتى التكيف المحدود أو المقيًد وغير الضيق لا يمكن أن يتعامل بشكل صحيح مع جميع مشاكل الانتشار والاستغلال. قامت العديد من مجتمعات المعتقدات الجديدة بالضغط على حدود المقاربة التوفيقية ؛ في حالة زيادة الفردية وتعدد المعتقدات، يصبح تحديد عتبة الملاءمة أمرًا صعبًا بشكل متزايد.. ...

وهناك صعوبة أخرى تتعلق في إن التكيف يحول المحاكم إلى مقيِّمين، مما قد يقوض حيادهم وثباتهم. تنطوي عملية التمييز النوعي على مخاطر التعسف واستبعاد المعتقدات والممارسات الأصلية وغير التقليدية ؛ علاوة على ذلك، لا سيما في الديمقراطيات التعددية والمعقدة، فإن إجراء التقييمات وفقًا لمعايير عامة ومستقرة يمثل تحديًا وطعنًا في جوهره. بينما أن الاستقرار المعياري والاتساق مرغوب فيهما، نجد النهج التوافقي يميل إلى توليد نهج يتعامل مع كل حالة على حدة مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والتعسف.

استنتاج

بينما تقوم رؤية راولز وهابرماس للدين والسياسة على مفهوم كانط الإجرائي للعقلانية، تعيد تأويلات تايلور النقدية للحداثة صياغة مفهوم هيجل القائم على الاعتراف الأكثر حساسية لتضمين العقلانية والسياق التاريخي. إن "الواقع الروحي" و"التعالي" و"الرغبة في الخلود" مفاهيم غامضة في كتابات تايلور، ومع ذلك تحتل مكانة بارزة في الجدل ضد الأشكال المبتورة للعقلانية والدوغمائية الدينية. تأتي قوة الشكل الذي يقدمه من الليبرالية من عدم اختزاله الحرية في أي مفهوم محدد سائد في التقاليد الغربية (الفردية أو تحقيق الذات أو تقرير المصير) فهي منفتحة على أنواع مختلفة من البحث عن الامتلاء متمحورًا حول الذات الفردية أم لا. ولكن مع ذلك، آثار تكيف تايلور الشامل للغاية إشكالية لأنه يفتقر إلى معايير لتصفية وتمييز المطالبات ذات الصلة بالاعتراف ويمكن أن يؤدي إلى محاكم معطلة غير قادرة على التعامل مع التعددية المتزايدة للمعتقدات الصادقة.

تهدف رؤية تايلور إلى المساهمة في الفهم النظري والمصالحة العملية؛ ولكنه أيضًا نداء لاستعادة البعد الروحي الذي يميل إلى الخنق في الممارسة الفعلية للدين المؤسسي والفلسفة من خلال التركيز على الرموز والإجراءات على حساب تجارب التحول. إن الفلسفة السياسية، من هذا المنظور، ليست مجرد مسألة فهم على كرسي بذراعين؛ أن جزء اساس من أخلاق مشروع تايلور هو ضرورة تجنب اختزال الفلسفة الى مجرد حقل أكاديمي، واستعادتها كممارسة تحدث تغيير ملحوظ في المجتمع. ترتبط الأهمية المركزية للدين والروحانية في نقد تايلور للحداثة ارتباطًا وثيقًا بهذا الفهم للفلسفة كمعرفة ذاتية عملية ومشاركة نشطة. تعد مصائر مارتن لوثر كينج وغاندي نموذجًا يحتذى به للأحداث التغييرية التحويلية ونقطة تقاطع بين الدين والأخلاق والسياسة التحررية. تحتفي نصوص تايلور بالتعددية والتواصل المتبادل والدعوة - وإن كانت ضمنية - من أجل التجديد والتحول.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..........................

[1] للأطلاع على نقد نموذج الأعتراف بالأحترام أنظر:

Forst, R . (2014) Justification and Critique: Towards a Critical theory of Politics. Cambridge, UK: Polity Press.

[2] Habermas, J. (1987) The Theory of Communicative Action: Lifeworld and system. A Critique of Functionalist Reason, Vol. II. Boston, MA: Beacon Press.

[3] Okin, S.M. (2002) " ' Mistresses of their Own Destiny': Group Rights, Gender, and Realistic Rights of Exit", Ethics 112: 205-230.

[4] يوصي تقرير بوشار - تايلور بمتابعة التسويات التعاونية بين المواطنين في معظم الحالات، واستخدام المسار القانوني كاستثناء. لكن لا يخلو مسار المواطنين من الصعوبات. فقد يؤدي مسار المواطن في الواقع إلى تقوية الأغلبية على حساب حرية الضمير والحرية.

Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation. Report". The full Report is available online at: www.mce.gouv.qc.ca/publications/CCPARDC/ rapport-final-integral-en pelf (last accessed 29 March 2017).

[5] هناك اشكال أو صيغ أخرى قوية من التكيف والتوفيقغير صيغة تايلور التعددية، بالبعض الآخر محافظ ويتمحور حول تفضيل مؤسسة دينية معينة أو جماعة معينة.

[6]لا يمكننا الدخول هنا في نقاش تاريخي حول إعادة بناء تايلور للعلمنة في الغرب.

[7] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.726.

[8] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.404.

[9] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.769.

[10] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.21.

[11] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.

[12] يعترف تايلور في الواقع بهذا الغموض فيقول : بالطبع، أريد الاحتفاظ بمفهوم التعالي، على غرار تمييزي الأصلي بين النزعات الإنسانية الحصرية والشاملة، لأغراض أطروحتي الرئيسية. لكني هنا أريد أن أوضح إلى أي مدى تبدو فكرة التعالي غير واضحة وغير مرضية. Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.

[13] بدأ الحجة المتعالية من سمة من سمات تجربتنا غير قابلة للشك، ثم تنتقل إلى استنتاج أقوى يتعلق بطبيعة الموضوع وموقعه في العالم. يتم إجراء هذه الخطوة عن طريق الانحدار "إلى أن النتيجة الأقوى يجب أن تكون كذلك إذا كانت الحقيقة غير القابلة للشك حول التجربة ممكنة (وكونها كذلك، يجب أن يكون ذلك ممكنًا)". بعبارة أخرى، فإن الحجج المتعالية هي "تراجع من سمة لا جدال فيها للتجربة إلى أطروحة أقوى كشرط لإمكانية حدوثها". إنها تصوغ إنهم يصوغون "شروطًا حدودية يمكننا جميعًا التعرف عليها". فهي ليست "قائمة على أسس تجريبية، بل قبلية. فهي ليست مجرد احتمالية، ولكنها ثابته بشكل واضح لا خلاف عليه.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?".20.21.27. 32.

إنه خارج  هذه الدراسة مناقشة صحة خط محاججة تايلور بشأن التعالي. ومع ذلك، يمكننا أن نفسر ذلك على أنه شكل ضعيف من استراتيجية محاججة التي لا تؤدي إلى بيان واضح ومفصل.

[14] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.331.

[15] Bernstein, R. (2008) "The Uneasy Tensions of Immanence and Transcendence", International

Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 11-16.13-14.

[16] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.510

[17] Fraser, I. (2003) "Charles Taylor on Transcendence: Benjamin, Bloch and Beyond”, Philosophy and Social Criticism 29(3): 297- 314.

-Fraser, I. (2015) Dialectics of the Self: Transcending Charles Taylor. Exeter: Andrews UK Limited

[18] Casanova, J. (2008) "Secular Imaginaries: Introduction", International Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 1---4.2.

[19] انظر على سبيل المثال تحقيق جون جراي الرائع في كتابه:

John Gray, (2011)The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death.

[20] أنظر:

John Gray's fascinating inquiry in his The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death (2011).621.

[21] يقول تايلور: سوف يفترض المنظور الروحي أنه في مكان ما، في أعماقنا، سنشعر بالانجذاب للاعتراف والعيش فيما يتعلق بما يعرفه على أنه واقع روحي. قد نشعر بالانجذاب إليه، وقد نتحمس له، ونشعر بعدم الرضا وعدم اكتمالها بدونه. يتحدث الناس عن "السخط الإلهي"، عن "الرغبة في الحياة". قد يكون هذا مدفونًا في الأعماق، لكنه إمكانات بشرية دائمة. لذلك حتى الأشخاص الناجحين جدًا في مجال الازدهار البشري الطبيعي (ربما على وجه الخصوص هؤلاء الأشخاص) يمكن أن يشعروا بعدم الارتياح، وربما الندم، وبعض الإحساس بأن إنجازاتهم جوفاء.، فإن هذا القلق من وجهة نظر أولئك الذين ينكرون هذه الحقيقة الروحية المفترضة لا يمكن إلا أن يكون مرضيًا؛ إنها غير وظيفية تمامًا؛ يمكن أن تعيقنا فقط.

Taylor, C.(2007a) A Secular Age.620--621.

[22] لحجة مماثلة، انظر:

Abbey, R. (2014) T11e Return of Liberal Feminism. New York: Routledge.

[23] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",13-38.12..

[24] هناك اختلاف في التركيز بين "التقييمات القوية" و "المعتقدات الأساسية" المرتبط بالتحول من عمل تايلور المبكر إلى عمله اللاحق. يتم تضمين التقييمات القوية في الحياة المجتمعية، في حين أن المعتقدات الأساسية يمكن أن ترتبط فقط بنزاهة الفرد.

[25] Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. Cambridge, MA: Harvard University Press.91.

[26]يجب استيعابهم طالما أنهم لا يدخلون في تضارب مع القيم الدستورية الأساسية.

[27] Barry, B. (2001 Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism). Cambridge, MA: Harvard University Press.119.

[28] Nagel, T. (2012b) Mortal Questions. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[29] تحدث ماكليور وتايلور، لتأطير هذا الشكل من الأذى الأخلاقي، عن "الأهمية التي يحملها البعد الروحاني للوجود لبعض الناس، ونتيجة لذلك، أهمية حماية حرية الضمير للأفراد"

Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. 58.

[30] Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights. Princeton, NJ: Princeton University Press.

كما يشير آلان باتن، "هناك ما هو أكثر من المعاملة العادلة من التطبيق الموحد لقانون واحد" 117, n. 23.

وبالنظر الى حالة المؤسسة ؛ يشير باري إلى أنه لا يوجد اعتراض شرعي قائم على الحياد للمؤسسة الدينية طالما أن القواعد والسياسات التي تشكل المؤسسة يتم تطبيقها بشكل موحد على جميع المواطنين. يعترض باتن على أنه، في ظل حياد المعاملة، فإن المؤسسة غير عادلة لأن الدولة تمنح شكلاً من أشكال الامتياز لدين معين لا توفره للآخرين.

[31] يقترح باتن أن المنظور الليبرالي الذي يركز على الحياد ليس بالضرورة معاديًا لحقوق الأقليات والتسويات الدينية. وهو يجادل بأن الحقوق الثقافية يتم تبريرها في الواقع من خلال مفهوم محدد للحياد الليبرالي يركز على حيادية المعاملة بدلاً من حيادية التبرير والآثار.

Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights.

[32] Maclure J. and Dumont I. (2017) "Selling Conscience Shore: A Response to Schuklenk and Smalling on Conscientious Objections by Medical Professionals", Journal of Medical Ethics 43 : 241-244.

[33] للمزيد من التفصيل عن هذا الموقف الليبرالي وفي ما يطلق علي فيشر : " التطوع السحري" أنظر:

Fisher, M. (2016) The Weird and the Eerie. London: Watkins Media Limited.

[34] على سبيل المثال، طبقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أحيانًا، كجزء من تفسيرها القانوني، "اختبار كامبل"، الذي تنص المادة 9 من الاتفاقية الأوروبية على أنه لا يعترف إلا بالمعتقدات والمظاهر التي تصل إلى مستوى معين من "الحجة والجدية والتماسك والأهمية

Arguelles, E.E.V.I. (2016) "The Adjudication of Beliefs Before the European Court of Human Rights: Some Observations Against the Campbell Threshold", MA Thesis (unpublished).

 

الرابطةُ الوجوديةُ بين الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة تُمثِّل منظومةً اجتماعية حاضنة للتفاعلات الرمزية المُسيطرة على علاقة الفرد بِنَفْسِه وبيئته ومُجتمعه. والتفاعلاتُ الرمزيةُ جَوْهَرٌ أخلاقي مُتجانِس،ونَسِيجٌ مُتشابِك مِن الصُّوَرِ الذهنية والأحداثِ الواقعية، يُؤَدِّي إلى إنتاج آلِيَّات لُغوية قائمة على تأويلِ تفاصيل الواقع المُعاش، وتفكيكِ أدوات الهَيمنة السُّلْطَوِيَّة على الوقائع التاريخية، واستنباطِ المعاني الكامنة في السلوكياتِ الفردية والمصالحِ الجماعية، وصناعةِ عوالم فكرية قادرة على صهر الماضي والحاضر والمُستقبَل في بَوْتقة واحدة، وفتحِ الزمن على جميع التفسيرات للمَعْنَى الحَاكمِ على السِّيَاق الاجتماعي،والمَحكومِ بطبيعة السُّلوك الإنساني، والمُتَحَكِّمِ بشروط إنتاج المعرفة في العناصر التاريخية المُحيطة بشخصية الفرد الإنسانية، باعتبارها كِيَانًا حياتيًّا مركزيًّا، وكَينونةً لُغوية مُتجدِّدة. وإذا كانَ التاريخُ -كَوَعْيٍ خَلاصِي وإدراكٍ رُؤْيَوِي وإرادةٍ إنسانية - تَوليدًا مُستمرًّا لفلسفة السُّلطة في المعرفة حِسِّيًّا ومَعنويًّا، فإنَّ اللغةَ - كَسُلوكٍ مُجتمعي ومَضمونٍ إبداعي ومشروعٍ تَحَرُّري - إعادةُ صناعةٍ للنَّوَاة الأساسية لِهُوِيَّةِ المُجتمع روحيًّا وماديًّا. وعندما يتحرَّك التاريخُ باتِّجاه اللغة، فإنَّ تفاصيل الحياة المَلموسة تُصبح مَركزًا مُتَجَذِّرًا يَستعيد الهوامشَ، ومنهجًا عقلانيًّا يُحرِّر السِّيَاقَ الاجتماعي مِن الكَبْت، وزمنًا مُتَشَعِّبًا يُعِيد العناصرَ المنسيَّة إلى ذاكرة المجتمع، بِوَصْفِهَا فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا. وعندما تتحرَّك اللغةُ باتِّجاه التاريخ، فإنَّ تعقيدات المشاعر الإنسانية تُصبح جَوْهَرًا فلسفيًّا يُولِّد الأسئلةَ المصيرية في التُّرَاث، ومنظومةً معرفية تُكرِّس مركزيةَ الذات في الذكريات، ومَرجعيةً رمزية تُحلِّل الدَّوْرَ الحضاري للمنطقِ اللغوي والعقلِ التاريخي.

2

الوجودُ صِناعةٌ مُستمرة للخِبرات العملية، والثقافةُ إنتاجٌ دائم للأسئلة المصيرية، والمعرفةُ تشييدٌ مُتواصِل للبناء الاجتماعي. وهذه الأركانُ الثلاثة (الوجود والثقافة والمعرفة)، تُمثِّل نِظَامًا مِحوريًّا لا يَتَعالى على التاريخ، ولا يُقِيم قَطِيعةً مع أنساقه، وإنَّما يُؤَسِّس مناهجَ اجتماعية للكشف عن الشروط الضرورية لتوظيف الأفكار الإبداعية في عملية تفسير مصادر المعرفة، من أجل دَمْجها معَ الآلِيَّات اللغوية التي تُسَاعِد العقلَ الجَمْعي على تحويل الوَعْي الحضاري إلى تاريخ مُشْتَرَك بين مَاهِيَّةِ الوُجود الحَي والحُر (طبيعة الفردِ وهُوِيَّة المُجتمع) ومَاهِيَّةِ النشاط الواقعي والعَقْلي (دِينَامِيَّة الحياةِ اليومية والصَّيرورة الزمنية المكانية). وإذا كانت الظُّرُوفُ المعيشية تُؤَثِّر في تراكيبِ الهُوِيَّةِ والماهيَّةِ سَلْبًا وإيجابًا، فإنَّ العقل الجَمْعي يُؤَثِّر في تفاصيل الحياة اليومية، ويَستطيع مَنْحَ الشرعية لها أوْ نَزْعها عَنها. والامتحانُ الحقيقي لا يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير مُجتمعه، وإنَّما يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير نَفْسِه، مِن أجل إعادة بناء مُجتمعه، باعتباره هُوِيَّةً وُجوديةً قائمةً بذاتها، ومُتَفَاعِلةً معَ العناصر المُحيطة بها، ومُتَجَانِسَةً على صَعيد البُنية التحتية والبُنية الفَوقية، ومُنْدَمِجَةً معَ عملية تَحويل الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة مِن الكِيَان إلى الكَينونة، ومِن الذات إلى الطبيعة، ومِن النظرية إلى التطبيق. والمُجتمعُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً عابرةً، وإنَّما هو زمنٌ مُتَجَدِّدٌ ومُتَكَاثِرٌ يَلِدُ نَفْسَه بِنَفْسِه، لذلك كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ حاضنةً للأزمنة المُختلفة. وكما أنَّ الروابطَ بين الأشياء أَهَمُّ مِن الأشياء ذاتها، كذلك العلاقات بين الأزمنة أَهَمُّ مِن الأزمنة ذاتها.

3

الثقافةُ تُطهِّر الوُجودَ مِن الوَعْي الزائف، والمعرفةُ تُنقِّي الوُجودَ مِن الإدراك الوهمي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْعِ العلاقات الاجتماعية مِن إنتاج ذاتها ضِمْن المُسَلَّمَاتِ الافتراضية المُغْرِضَة، والمصالحِ الشخصية الضَّيقة. وكُلُّ تَطهيرٍ للوُجود ثقافيًّا ومعرفيًّا يُؤَدِّي - بالضَّرورة - إلى تَطَهُّر في العلاقات الاجتماعية شكلًا ومُحتوى، وهذه العمليةُ لا تَقُوم على الآلِيَّة الميكانيكية، بَلْ تقوم على القَصْدِيَّة الواعية، التي تَستطيع تحريرَ الفرد مِن المَأزِق الوجودي في بيئةٍ مُعقَّدة وعَالَمٍ مُركَّب. والمأزقُ الوجودي هو النتيجة الحتمية لِخَوْفِ الفرد مِن نَفْسِه ومُستقبَله، وعدمِ رِضَاه عن أدائه الحياتي. وهذا يَعْني انفصالَ الفِعْل الاجتماعي عن فاعليته المعرفية، فَتُصبح حياةُ الفردِ حركةً مَحصورةً بين الحُدود الزمنية والمكانية بلا أثر ولا تأثير، وتُصبح السُّلطةُ الاعتباريةُ للفرد مُجرَّد دَوَرَان في حَلْقَة مُفْرَغة، وعِندئذ يَعْجِز عن الانطلاق مِن تغيير نَفْسِه إلى تغيير مُجتمعه. لذلك، يجب على الفرد - إذا أرادَ أن يَكُون فاعلًا في الأحداث اليومية - أن يُحَوِّل عَقْلَه إلى أداة لصناعة المفاهيم الجديدة، التي تَقْدِر على توليدِ المَعْنَى لا نَسْخِه، وإبداعِ المفاهيم لا تقليدِها، ومُواجهةِ الواقع لا الهُروب مِنه.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

- عمل تايلور المتأخر: العلمانية والإطار الجوهري والليبرالية الشاملة

أعرب تايلور من حين لآخر عن وجهات نظر قوية حول صلة الدين في السياسة، لكنه لم يوضح أثر وعواقب سياسات الاعتراف على مكانة الدين في الديمقراطية قبل تسعينيات القرن الماضي. بقيت الأسئلة الخلافية فيما يتعلق بالدين دون إجابة: ما هي أهمية العلمانية والحياد في الدولة الحديثة؟ إلى أي مدى يجب أن تمضي الدولة العلمانية في الاعتراف بالمطالب الدينية؟

أصبحت هذه الأسئلة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى بدءًا من تسعينيات القرن الماضي، عندما أفسح الطريق للدين في سياق نقاشه لمسألة الوطنية. يطور تايلور التفسير النقدي للحداثة في سياق الصعوبات التي تواجه فرضية العلمنة من خلال التركيز على معنى العلمانية في الغرب. لقد أوضح وجهة نظره على ثلاثة مستويات متداخلة: أولاً، يضيف مفاهيم جديدة (الامتلاء، التعالي) على مستوى الأنطولوجيا الأخلاقية الخاصة به؛ ثانيًا، يستعرض المسار الدقيق لظهور الحداثة العلمانية. ثالثًا، يرفض وجهة النظر القائلة بأن الدين خاص ويقترح سياسة موضوعية لها أساس متين في الواقع للاعتراف بالفوارق والاختلاف  الديني وغير الديني. سننظر أولاً إلى الجوانب الأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية لتفسير تايلور ثم ننتقل إلى ليبراليته الشاملة.

أ- عنصر انطولوجي جديد: الامتلاء والتعالي

تكتسب الأنطولوجيا الحوارية لتايلور، في كتاباته المتأخرة، بُعدًا "روحيًا" مميزًا، يوضح بشكل  منهجي فكرة "اللحظات الخاطفة" أو العابرة  في  كتابه "مصادر الذات".[1] وأشار- في كتابه عصر علماني- إلى أن "كل شخص وكل مجتمع يعيش من خلال بعض التصورات حول ما هوالازدهار البشري، أيً: ما الذي يشكل حياة مكتملة؟ ما الذي يجعل الحياة تستحق أن نعيشها حقًا؟ وما أكثر شيء نقدًر الناس عليه؟"[2] يرتبط البشر، في السعي وراء تجارب ازدهار الحياة والامتلاء، بمعتقدات حول معنى الواقع البشري، والخير والشر- أي المعتقدات و التقييمات الأساسية. فإذا كنا نرغب في فهم أنفسنا، لا يمكننا، اذن، التجرد من تلك المعتقدات القوية من أجل الوصول إلى منظور محايد أو غير متحيز مفترض. نحن نلبي حاجتنا الحيوية للازدهاركبشر ونكون في كامل طاقتتنا عندما نكون قادرين على متابعة خطتنا الخاصة في الحياة، ونعيش بشكل أو بآخر وفقًا لمعتقداتنا الأساسية وإحساسنا بالنزاهة والأستقامة الأخلاقية. يشير "الامتلاء" هنا إلى الشعور بأن جزءًا أو جانبًا من وجودنا أعمق وأغنى وأكثر أهمية لنا، وبالتالي يمكن أن يوفر شكلاً من أشكال التوجه الأخلاقي و / أو الروحي.[3] يأتي اختبار الامتلاء بأشكال مختلفة وهو مفتوح للمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء.

يرى تايلور إنه من الأهمية بمكان ألا تقتصر هذه التجربة على الأزدهار الفردي / الجماعي. وأن التمييز بين الأزدهار والامتلاء مناسب من وجهة نظره المبكرة. ويجادل بأنه أصبح من الشائع في الغرب الحديث المساواة بين الاثنين، أي النظر إلى الامتلاء  على وجه الحصر بأنه تأكيد على الحياة وجوهرها؛ وينشأ هذا التكافؤ من الأهتمام بالحفاظ على الحياة، وتحقيق الازدهار المادي والرفاهية، وبالتالي تقليل المعاناة.[4] يُنظر إلى الجهود المبذولة لدفع "حدود الموت والمعاناة" إلى الوراء  بوصفها "ذات قيمة عليًا" لأزدهار الحياة.[5] وتتحول المعاناة والحزن والشر إلى أمور تقنية تُدار بالوسائل العلاجية عندما تختزل الحياة في محايثتها – الداخلية أو ذاتيتها. تفقد المعاناة والشر أهميتهما الأخلاقية والروحية المحتملة للفرد أو الجماعة.

إن أزدهار الحياة الفردية / الجماعية داخل "فضاء المحايثة" ما هو إلًا شكل من أشكال تحقيق الامتلاء. يمكن للأفراد البحث عن امتلاء يتجاوز ما تؤكد عليه الحياة المحايثة، سواء كان ذلك رفاهية الفرد المادية أو الأزدهار الجماعي. يفترض تايلور "توجهاً نحو التعالي"- أي الشوق الذي لا يمكن اختزال أهميته في السعي من أجل الخير. وحجته هي أننا لا نستطيع أن نفهم الوجود المستمر والمنتشر للظواهر الروحية الدينية ما لم نعترف بالتوق إلى "شيء ما ورائي" والحاجة إلى "االإجابة عن شئ ما في مابعد الحياة".[6] وهو يدعي أن هناك "نزعة لايمكن استئصالها" للإجابة عن "حقيقة روحية" أو دعوة يكون إنكارها خانقًا.[7] إن هذه النزعة منتشرة في العصر العلماني، ويمكن أن تتخذ أشكالًا دينية وغير دينية، وقد تكون واضحة أو غامضة: فــ"الشوق الديني"، على سبيل المثال، هو أكثر من " التوق والاستجابة لمنظور تحول من محايثة الى تعالي، هو ما تسميه شانتال ميلون- ديلسول "الرغبة الدائمة"، حيث يظل مصدرًا قويًا ومستقلاً للتحفيز في الحداثة".[8]

يوضح تايلور التوجه نحو التعالي بطريقتين. (i) يستدعي، أولاً، الحدس القائل بأن الغاية من الأشياء لاتستنفدها الحياة أو أمتلائها، أو حتى خير الحياة"؛[9] بل يمكن أن يتطور هذا الحدس إلى اعتقاد بأن المعاناة والموت ليسا مجرد نفي للحياة "، ولكن لتأكيد شيء ما بعد الحياة أيضًا، أنه شيء ذو أهمية ليس فقط لأنه يحافظ على الحياة".[10] إنه شئ قد يأخذ أشكالًا مختلفة كما يظهر في: بالمصطلحات الدينية، "يريد الله ازدهار الإنسان.[11] و كما ايضًا الدعوة إلى الخضوع لله في الإسلام التي تمكن وتقوي الإنسان بشكل لا يتوفر بأي شكل آخر .. وهكذا.[12] لا يناقش تايلورما إذا كان هذا التوجه أو "الرغبة في الخلود" له الأهمية نفسها بالنسبة للجميع - مثل ضرورة تناول الطعام أو التنفس أو اكتساب الكفاءة اللغوية. ولكن يرى أنه غالبًا ما يُظهر البشر حاجة حيوية  دائمة إلى  التعالي. ويلاحظ في كتابه "عصر علماني"، أن الناس يتحثدون عن "السخط الإلهي"، و"الرغبة الشديدة في البقاء". قد يكون هذا مدفونًا في الأعماق، لكنه يعبر عن إمكانات بشرية دائمة. لذلك يمكن أن يشعر حتى الأشخاص الناجحين جدًا في مجال الازدهار البشري الطبيعي بعدم الارتياح، وربما الندم، وبعض الإحساس بأن إنجازاتهم جوفاء.[13]

(ii) يمكن أن يعني الانفتاح على التعالي أيضًا "الدعوة لتغيير الهوية"،[14] والتوق إلى التغيير أو التحول الروحي.ويظهر ذلك جليًا في الأديان كما في التصوف الإسلامي والدعوة الى الأتحاد مع الله أو في البوذية حيث  يكون التحول الناتج عن التنوير هو التحول من الذات إلى "اللاذات" بينما تدعو المسيحية إلى تفكيك شامل لـ "أنا" في العلاقة مع الله. أو يمكن أن تلهم الإيكولوجيا العميقة التحول إلى طريقة جديدة للحياة يتشكل من الشعور بوحدة جميع الكائنات الحية. لا يمكن متابعة تحليل تجارب التحول الواسعة هذه بشكل مرضٍ من المنظور محايث لتأكيد حياة الإنسان ورفاهه. نظرًا لأن "معظم مفاهيم الحياة المزدهرة تفترض هوية مستقرة، فيمكن تحديد الذات التي يمكن أن تزدهر"،[15] وأن الاعتراف بأهمية التعالي يعني السعي وراء الحياة أو الانفتاح على تغيير في الهوية.

إن التحول الروحي والديني في علاقة توتر مع السعي وراء الخير العام أو الصالح العام  الفردي/ المشترك، ولكنه يمكن أن يغذي ويجدد فهمنا له.. أنظر مثلا الدور المركزي للجمعيات الخيرية في الإسلام ( دفع الزكات ، بوصفها  "ما يطهر"  الروح او الحياة، وهي واحدة من أركان الإسلام الخمسة) أو في المسيحية  "أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" حيث هناك عدد لا يحصى من المنظمات المشاركة في التعليم والرعاية الصحية. أو كما في حياة غاندي التي تخاطر "بتجارب مع الحقيقة"، التي الهمت إصلاحات عميقة في الهند.[16]يربط تايلور تجربة التعالي بعدم المعاملة بالمثل، مما يشير إلى وجود صلة وثيقة بين الدين والتضامن، لكنه لا يطور هذا الارتباط. إن التوتر بين الازدهار والتعالي مع محاولة التوسط بينهما أمر شائع في الأديان الكبرى حيث جمعت بينهما في ممارستها الموروثة العادية.  فيرى تايلور أن الإنجازات العليا لأولئك الذين ذهبوا في نظرهم وعملهم الى ماهو مابعد الحياة الدنيًا  قدعملت على تغذية الحياة الكاملة  حتى لأولئك الذين بقوا على هذا الجانب من الحاجز، أيً محصورين في الحياة المحايثة.[17]

(ب) العلمانية والإطار المحايث والإنسانية الشاملة

يتعلق البعد الثاني لمفهوم تايلور للدين بتفسيره للحداثة العلمانية. نحتاج للحصول على فهم جيد للوضع الحديث إلى تجاوز التعريفات التقليدية للعلمانية والبحث عن شروط الإيمان بالحداثة الغربية العلمانية.[18] يقدم تفسير تايلور الاجتماعي والتاريخي لهذه الظروف الإطار الأوسع لليبرالية الشمولية.

يسأل تايلور في كتابه "عصر علماني": ماذا يعني الإيمان في سياق الحداثة؟ ما هي الافتراضات الخلفية لتكوين المعتقدات في العصر الحديث، وكيف ظهرت؟ ما هو مكان المعتقدات الدينية في الدولة العلمانية؟ تستند هذه الأسئلة إلى تحقيق تايلور السابق في الهويات الحديثة والتقييمات القوية: بينما يستجوب  كتابه "مصادر الذات " شروط تشكيل الهوية في الحداثة، يركز كتابه "عصر علماني" على الظروف الجديدة لإمكانية تكوين الإيمان في الغرب. فيرى من أجل فهم ظهور العصر العلماني بشكل صحيح، يجب أن نفسر الفجوة بين تجربة الإيمان عام 1500 واليوم. باختصار، تشير الحداثة العلمانية إلى تحول غير مسبوق تاريخيًا في "التجربة الحية"،[19] من التعالي إلى المحايث وتأكيد على ما يتعلق بهذه الحياة.  لقد حدث أنتقال في الغرب" من مجتمع يكون فيه الإيمان بالله بلا منازع، وبلا إشكال، إلى مجتمع يُفهم فيه الإيمان كأحد الخيارات من بين أخرى، بل وفي كثير الأحيان ليس من السهل أعتناقه".[20]  تقوم رؤية تايلور بخصوص ظهور العصر العلماني على فكرة المصادفة والظرفية التاريخية، في حين  يعتمد نموذج العلمنة – في تفسير ظهوره- على نظرة غائية وخطية للتاريخ. لم تنشأ ظروف الاعتقاد الحديثة عن طريق الطرح التدريجي للدين وإزالته ولكن من خلال عملية معقدة من التحولات التي لعب فيها الدين دورًا جوهريًا. وبذلك اكتسب الغرب الحديث سماته الخاصة في الأمور الدينية - أي ظهور وتعميم إطار مرجعي محايث يشكل تكوين المعتقدات. ليس الإطار المحايث " مجموعة من المعتقدات التي نفكر فيها بشأن محنتنا، مهما كانت بدايتها؛ بل هو السياق المحسوس الذي نطور فيه معتقداتنا".[21] يشير الإطار المحايث إلى ما يسميه فيتجنشتاين صورة ((Bild)، تعبر عن خلفية تفكيرنا، و غالبًا ما تكون غير مصاغة إلى حد كبير، وجزء من منها هو تأكيد على هذه  الحياة  الدنيًا على وجه التحديد ، وهي -طبقا لراي تايلور- نتيجة غير مقصودة للإصلاح البروتستانتي والثورة ضد النخبوية الدينية، مع ما يرتبط بها من تأكيد وتقديس "للحياة العادية إلى حد كبير. علاوة على ذلك، يرتبط التحول الأخلاقي والروحي نحو خيبة الأمل من العالم ارتباطًا وثيقًا بالثورة العلمية الحديثة. ويلعب ظهور الذات القائمة على الاكتفاء الذاتي دورًا حاسمًا؛ حيث يشكل العلم الحديث، جنبًا إلى جنب مع العديد من الأوجه الأخرى- مثل الهوية العازلة،[22] والفردية الحديثة، مع اعتمادها على العقل الأداتي والعمل في الزمن العلماني - الإطار المحايث.[23]

لا يُولًد الظهور التدريجي للإطار المحايث فضاءًا متجانسًا من الإيمان، ولكنه فضاءً متعدد الأركان ومليء بالتوتر. يميز تايلور ثلاثة خيارات أو نطاقات رئيسة من المعتقدات: (1) الإنسانية الحصرية-الخاصة، (2) مناهضة النزعة الإنسانية، و(3) النزعة الإنسانية الشاملة أو المفتوحة.

(1) يُعطى النطاق الأول من خلال النزعة الإنسانية الحصرية-الخاصة، حيث تصبح أسبقية الحياة والمحايثة الخيار الوحيد المتاح. تميل هذه النزعة الإنسانية إلى الاعتماد على شكل أو صيغة مبتورة من العقلانية الإجرائية. هناك العديد من الأشكال والأوجه للإنسانية الخاصة- من نفعية جيريمي بنثام، الليبرالية الفردية، الماركسية، والى المعتقدات الشعبية المنتشرة على نطاق واسع والتي تتغلغل في الثقافة والنزعة الاستهلاكية الرأسمالية. إن القاسم المشترك بينهم هو الاعتقاد بأن "لا يوجد هدف صحيح وصالح ماعدا" الحياة المحايثة. فمن وجهة نظرهم، إن الإحساس القوي الذي ينشأ باستمرار بأن هناك شيئًا آخر، وأن الحياة البشرية تهدف إلى ما وراءها، تعبيرعن وهم ويُحكم عليه بأنه خطر لأن التعايش السلمي للناس بحرية هو ثمرة تلاشي الرؤى المتعالية.[24]

يتطابق تطور فكرة الكونية الحديثة عن الحرية والحقوق العالمية مع ظهور النزعة الإنسانية الحصرية-الخاصة في تأكيدها العلماني على الحياة العادية  لكنها غير المعترفة بجذورها التي تعود الى تلك الحقوق الشاملة وغير المشروطة التي نادت بها المسيحية، مما بدا محيرًا إنكارها التعالي.[25] ومع ذلك، على الرغم من أن تايلور ينتقد النزعة الأحادية الجانب للإنسانية الحصرية وما ينتج عنها من عداء للبحث الروحي والاحتياجات الدينية، إلا أنه يرى  أن التركيز على الحياة والرفاهية العامة والازدهار يُعد مكسبًا كبيرًا  آزاء المجتمع النخبوي السابق.

(2) تمثل مناهضة  النزعة الإنسانية نطاق ثاني من المعتقدات. يعتبر رفض النزعة المناهضة  للإنسانية للأفكار العالمية لحقوق الإنسان والازدهارخطرًا ولّدته الإنسانية الحصرية- الخاصة نفسها، بالنسبة لتايلور،؛ إنه ينشأ من عدم الرضا والاغتراب  الناتج عن الرؤية المبتورة للحياة الحديثة (مثل البرجوازية، والرأسمالية، وما إلى ذلك).  إن النيتشوية[26]  ونسلها المثقف الحالي - كما الاقتصاد العام لباتاي، وتفكيك دريدا،  وجينالوجيا فوكو - هي أمثلة على الموقف المناهض  للنزعة الإنسانية. يكشف  الموقف المناهض للنزعة الإنسانية  عن زيف العقل الأداتي للحضارة البرجوازية الرأسمالية للتنوير  بوصفه عرض من أعراض الانحلال والتفاهة الروحية؛ و خلاف ذلك يُحتفل بالعنف الفوضوي والأخلاق البطولية  كما عند نيتشه. فيرى تايلور أن أمراض الحداثة هذه تقوم على الانبهار بإنكار الحياة[27] والهروب إلى التعالي السلبي.[28] وإن مناهضة  النزعة الإنسانية هي الجانب المظلم والصورة المرآوية للعقل التي تم اختصارها في طريقة أو نظام حساب أو استنتاج معين: وتمثل الفاشية، في أكثر أشكالها السياسية راديكالية، وكذلك الخيار المناهض للإنسانية بتبجيله للعنف والفضائل البطولية ورفض  الحرية الفردية "البرجوازية".

(3) تقع الإنسانية الشاملة أو المفتوحة بين هذين القطبين المتقابلين. يمثل الفضاء الوسيط للمعتقدات شكل أو صيغة من التنوير لا تضع العقل في مواجهة البحث الروحي والديني، وتتجنب العلموية والمادية الاختزالية والميل إلى قصر العقلانية العملية على مجرد مسألة حساب أو قياس أو إجراءات. تهدف وجهة نظر تايلور الخاصة إلى التوفيق بين التراث الإنساني للتنوير والبحث عن الخيرات الروحية التي تجسدها التقاليد الدينية. إن المشهد الأخلاقي والروحي للحياة البشرية، وفقًا لهذا المنظور، ثلاثي الأبعاد: هناك، أولاً، الشعور بالامتلاء الذي يتجاوز خبرتنا العادية إلى عمق الوجود أو القوة التي فيه ويمكن أن يتخذ شكل تجارب محايثة أو متعالية. ثانيًا، هناك لحظات من النفي والأغتراب أو الانكسارفي هذا الامتلاء؛ وثالثًا، هناك نوع من الفراغ المتوسط ​​بين الامتلاء والنفي أو الأغتراب. أحد الأسئلة الحاسمة، بالنسبة لتايلور، كيف يتصور المرء ويسكن هذه الأرض الوسطى (حيث يعيش معظم أجزاء البشر): بين حقيقة توقنا إلى التحول وحالتنا المحدودة وأغترابنا. لكن لا تعترف النزعة الإنسانية الحصرية بتعقيد هذا الفضاء الأخلاقي والروحي، لأنها تعمل مع فكرة مجردة عن الامتلاء داخل الإطار المحايث.

يرى تايلور أن الإنسانية الحصرية تطالب بالهيمنة في حين أن مساحة الاعتقاد الحالية تعددية. وكذلك يحاجج بأن تبجيل المحايثة القائمة على إضفاء الطابع المطلق على العلم والعقلانية الأداتية والمادية  حصلت على جاذبيتها الهائلة لأنها تتغذى إلى حد كبير النجاح الاستثنائي للعلوم الطبيعية والتكنولوجيا وثقافة الجسد مع تركيزها على الاهتمامات المادية والملذات. فيصبح العلم، بالنسبة للإنسانيين الحصريين، هو الطريق الملكي للمعرفة والحقيقة على حساب أشكال أخرى من الاستقصاء والتحقيق. ويشير الى أن العلم والفردية الحديثة والعقل الأداتي والزمن العلماني كلها تستعمل كأدلة أخرى على المحايثة. حيث لم يُنظر الى العلم الطبيعي، على سبيل المثال، مجرد طريق واحد إلى الحقيقة، ولكنه أصبح نموذجًا لجميع الطرق.[29] تمثل الهيمنة الحالية للنزعة الإنسانية الحصرية انعكاسًا لظروف الإيمان الموجودة سابقًا في الغرب "لقد انتقلنا من عالم تم فيه فهم الامتلاء بشكل غير مشكوك فيه بوصفه خارج أو" ما بعد "الحياة البشرية، إلى عصر متضارب يتم فيه تحدي هذا التفسير من قبل الذين يضعونه داخل هذه" الحياة".[30] ومن ثم فإن التحول الحاسم  الذي حصل في الغرب هو أن النزعة الإنسانية الحصرية القائمة على الإيمان بإطار محايث مغلق للتجربة والرفض المقابل لأي لجوء الى التعالي الروحي والديني قد تحول إلى خيار ومرموق للغاية يمكن الوصول إليه.

يلفت تشخيص تايلور للعصر الحديث الانتباه إلى التكلفة الأخلاقية والسياسية للنزعة الإنسانية الحصرية.[31] إنه مهتم كما في كتاباته المبكرة بتعديل ما يعتبره وجهة نظر مبتورة وذاتية للحداثة وكذلك حسابات للعقل الأداتي من أجل بناء وجهة نظر أكثر ثراءً للحرية والعقلانية والمجتمع الحديث. تتجاهل شبه هيمنة النزعة الإنسانية الحصرية في الغرب تعددية المعتقدات الدينية وأهمية البحث الروحي عن الخير الذي تجسده؛ ونتيجة لذلك، فإنها تؤدي إلى حياة أخلاقية وسياسية فقيرة، ومبعثرة المصادر الأخلاقية والروحية والدينية، وتفتقر إلى التماسك. إن اختزال الفهم البشري إلى الجوانب الحسابية والإجرائية للعقلانية يسيء الى تمثيل العلاقات الجماعية التي تقوم على على التضامن وعدم المعاملة بالمثل،[32] ويميل إلى تقويضها، فضلاً عن تجربة اكتشاف الذات والتحول والتطلع إلى الامتلاء. فكتاب "عصر علماني" إذن هو نداء لاستعادة حياة الروح (هيجل) من نفوذ الحساب والعقلانية الأداتية وإعادة الاتصال بالمصادر الروحية الأخلاقية للخيال والتضامن الدينيين .[33]

ج- الليبرالية الشاملة

كان رد تايلور على النزعة الإنسانية الحصرية هو "تعددية الحياة الروحية"؛ فتؤسس مقاربته الجينالوجية التشخيصية للحداثة النهج السياسي للنزاعات الجارية المتعلقة بالدين، ويهدف إلى المساهمة في التفاعل المفتوح والمصالحة بين الخيارات المختلفة في أوقات "الحروب" الثقافية والدينية.[34] يرى أن "أسطورة التنوير" قد أسست تحيزًا سياسيًا وإبستمولوجيًا يرى الدين كتهديد اجتماعي وتوجه وهمي. ويحاجج بأننا بحاجة إلى تجاوز هذه الرواية الإقصائية لتبني فهم مفتوح للعلمانية السياسية هدفه الرئيس "إدارة التنوع الديني والميتافيزيقي الفلسفي للآراء (بما في ذلك وجهات النظر غير الدينية والمعادية للدين) بشكل عادل وديمقراطي".[35] يعتقد تايلور، على عكس راولز وهابرماس، أن اللغات الدينية يجب أن تكون موضع ترحيب على قدم المساواة في العمليات التداولية للمواطنين والممثلين المنتخبين. واذا كان يتطلب حياد الدولة ألا تعطي اللغة الرسمية التي تُصاغ بها القوانين والقرارات اعترافًا خاصًا لأيً رؤية شاملة  كتلك التي تحمله "الكتب المقدس"؛ فسيكون من غير المناسب أيضًا وجود بند تشريعي ينص مثلا على قول " ماركس، الدين أفيون الشعوب"، أوقول كانط "أن الشيء الوحيد الجيد بدون شروط هو الإرادة الخيرة".[36] ياتي هذا الخط من الجدل في فكر تايلورفي سياق معين؛ كرد فعل على النزاعات التي تقسم سكان مقاطعة كيبيك الكندية حول دور الدين في المجال العام وقضايا الهوية الجماعية، والعلاقات بين الكنيسة والدولة، وإجراءات إدارة طلبات التكامل الثقافي والديني.[37] فبينما موقف الجمهورية الفرنسية في كيبيك ضد المظاهر الدينية في المجال العام، تعترف الليبرالية التعددية بالدين كعنصر حيوي للحياة الديمقراطية. كان على مشروع تايلور للمصالحة في كيبيك  أن يقدم توضيحًا لأهمية علمانية الدولة. وكان على تحليله ان يعالج  السؤال الاجتماعي التاريخي "كيف نشأت ظروف الإيمان الجديدة؟" ولا يتوقف فقط عند السؤال السياسي "ما هي أهمية علمانية الدولة في الظروف الجديدة لتعددية المعتقدات؟"

تجيب الجمهورية العلمانية على السؤال السياسي من خلال السعي النشط للفصل بين السياسة والدين كهدف مركزي للدولة. يشير تايلور إلى أن علمانية الدولة غير قابلة للاختزال  في مبدأ الفصل: فليس هذا الفصل سوى بُعد واحد من أبعاد العلمانية، ولكن تحويله الى هدف أو غاية أمر مشكوك فيه معياريًا وضار عمليًا. أولاً، إن إضفاء الطابع المطلق على الفصل النموذجي للجمهورية الفرنسية ليس محايدًا من الناحية المعيارية: تقوض العلمانية، أبعاد الهويات والخصوصيات من نشاط الدولة، والمبادئ العقلية الأساسية لحرية الضمير والدين. ثانيًا، يولد النموذج العلماني مزيدًا من الإحباط والانقسام من خلال تجاهل حقيقة أن التكامل الاجتماعي يتحقق عن طريق المعرفة والتبادلات بين المواطنين وليس عن طريق تهميش الآخر أو تقييده.

يحاجج تايلور بأن علمانية الدولة هي ممارسة متعددة المستويات تتسم بالتوترات والمعضلات الداخلية.[38] فغالبًا ما يتم الخلط بين مستويين: مستوى المبدا الأساسي الأخلاقي الذي يتشكل من خلال أهداف الدولة العلمانية؛ والمستوى المؤسسي المكون من وسائل تحقيق هذه الأهداف. تتضمن العلمانية، على المستوى المؤسسي، مبدأين أخلاقيين يتعلقان بمجال القيم التأسيسية والأخلاق الأساسية، ويرددان وجهة نظر تايلور المبكرة عن السياسة المتشعبة للأعتراف بالاحترام المتساوي وبالاختلاف. فالمبدأن الأخلاقيان اللذان يشكلان غايات الدولة العلمانية هما الاحترام المتساوي لحرية الضمير والدين. ليست هذه المبادئ في وئام دائمًا؛ فيمكن أن تنطوي حماية حرية الضمير على الاعتراف بالاختلاف وبالتالي تتجاوز مجرد احترام  المساواة في الكرامة.

تتحقق الغايات الأخلاقية للدولة العلمانية من خلال مبدأين أو ترتيبات مؤسسية: الفصل بين الدولة والدين وحياد الدولة فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والعلمانية. الانفصال والحياد هما وسيلتان تسعى من خلالهما الدولة العلمانية إلى تحقيق أهدافها، ويمكن أن يكونا في حالة توتر أيضًا. لا يعني المزيد من الحياد مزيدًا من الانفصال بالضرورة: لا تتطلب المعاملة المحايدة للأشخاص من معتقدات مختلفة الفصل دائمًا ولكنها تتضمن اعترافًا عامًا نشطًا بالأعباء المحددة الناتجة عن وجود معتقدات محددة أحيانًا. كحالة المسلمين على سبيل المثال في فرنسا الذين، وفقًا للدراسات التجريبية، يواجهون عوائق كبيرة في سوق العمل.[39] لا تقوم سياسات الدولة العادلة لمعالجة هذا الوضع التمييزي على زيادة فصل الدولة عن الدين ولكن على مشاركته النشطة. يجب استخدام المبادئ المؤسساتية اعتمادًا على فائدتها وعدالتها في تحقيق الغايات الأخلاقية للدولة العلمانية، وليس العكس. إن العيب الرئيس في النموذج العلماني هو تحويل الوسائل إلى أهداف. فكانت نتيجة بالعكس حيث اصبح الانفصال والحياد كآليات مؤسسية فتنة على حساب الغايات الأساسية للدولة العلمانية.

يتصور تايلور، أن هذا الإطار الليبرالي التعددي يتضمن نوعين من التكييف يتوافقان مع المواطن والطريق القانوني الذي يٌتخذ.[40] يهدف مسار التكييف مع المواطن إلى نزع الشرعية عن الدين ومنح السلطة للمواطنين وتمكينهم. ويعتمد مسار التعديلات غير القانونية على التفاوض والحوار والبحث عن حل وسط. وهدف ذلك إيجاد حل يرضي الطرفين. بينما يكون المسار القانوني هو الحل الوحيد المتاح أحيانًا، إلا أنه يكون طريق المواطن إلى التفاوض والتسوية هو الأفضل في جميع الحالات الأخرى.[41] ومع ذلك ليس من الممكن تجنب المحاكم دائمًا.  يجب أن تتوافق مطالبات الاعتراف مع الإجراءات الرسمية المقننة التي تحدد الفائز والخاسر بموجب المسار القانوني للتسهيلات المعقولة. إن "التسهيلات المعقولة" مصطلح قانوني ظهر بداية مع قوانين العمل، وينطبق على مجالات مختلفة، بما في ذلك الدين.

يوفر تايلور أساسًا فلسفيًا لهذا الفهم فيما يتعلق بالمعتقدات الأساسية. وتعكس  حجته هذه  سياسات الأعتراف المبكرة التي قال بها إلى حد كبير. وتهدف وجهة نظره إلى مواجهة بعض أشكال التمييز التي اعتبرتها المحاكم غير ذات تأثيرمباشر؛ فتشير إلى قواعد عامة (الأوضاع والقوانين وما إلى ذلك) التي لا تستبعد مسبقًا أو تهمش أو تتكبد مشقة أو تكلفة لا داعي لها على أي فرد أو مجموعة ومع ذلك لها آثار تمييزية غير مباشرة تجاه الأفراد بسبب سمات معينة مثل الإعاقة الجسدية أو العمر أو المعتقد الديني. تتطلب هذه الحالات علاجات تفاضلية وليست تفضيلية.[42]

تنشا تدابير المواءمة أو الأنسجام لأسباب دينية من نفس المنطق المتعلق بالتمييز غير المباشر. لكن هل تقف الادعاءات الدينية بالاعتراف على قدم المساواة مع الادعاءات  التي تستند إلى أسباب متعلقة بالصحة؟ تم تطوير إجابة تايلور الإيجابية بشكل معاكس: إن عدم الاعتراف بالاختلاف الديني يمثل نوعًا من الأذى.[43]

ليس الدافع وراء هذا الموقف هو يجب أن تمنح الدولة اعترافًا خاصًا بالدين، ولكن يجب أن تعترف بالمعتقدات الأساسية باعتبارها حيوية لتطوير الهوية والحياة المتكاملة. ويشير تايلور إلى أن المعتقدات الدينية ليست خاصة في حد ذاتها، لكنها تمثل نوعًا من المعتقدات الأساس. إذا كان لابد من استيعاب الادعاءات الدينية والاعتراف بها، فهذا ليس بسبب كونها دينية، ولكن كونها معتقدات أساسية- أي معتقدات مكونة للهوية، والشعور بالكمال، وإدراك الحرية وتحققها. تختلف المعتقدات الأساس بشكل قاطع عن المعتقدات والتفضيلات الذاتية بسبب الدور الحيوي الذي تلعبه في الهوية الأخلاقية للأفراد ونزاهتهم وكمالهم؛ إنها تسمح للناس ببناء هويتهم الأخلاقية وممارسة قدرتهم على الحكم في عالم القيم فيه محتملة وخطط الحياة متعددة وغالبًا ما تتنافس مع بعضها البعض. تعتمد النزاهة الأخلاقية، بالنسبة إلى تايلور وماكلور، على درجة التطابق بين أفعال شخص واحد وما تعتبره واجباته والتزاماته الأكسيولوجية. نظرًا إلى الأهمية الحاسمة للاعتراف "كلما زاد ارتباط الاعتقاد بإحساس الفرد بالنزاهة الأخلاقية، كلما كان شرطًا لاحترامه لذاته، ويجب أن تكون الحماية القانونية التي يتمتع بها أقوى".[44] إذا كان الاعتقاد مبنيًا على تقييمات قوية ويساهم في "إعطاء معنى وتوجيه لحياتي" باعتباره "شرطًا لأحترام الذات"،[45] عندئذٍ يمكن أن يولد التزامًا بالتكيف إما من خلال توسيع القاعدة القائمة، أو من خلال الإعفاء منها. لذلك يمكن أن يكون التكييف مطلوبًا من أجل تجنب الأذى، أي لتعزيز النزاهة الأخلاقية والامتلاء والحرية الفردية. قد يشمل هذا الفضاء من الإدراك الذاتي والامتلاء احترام الخيارات الدينية التي تقصر تطوير بعض القدرات الشخصية، حيث تدعو بعض الأديان إلى التحول الجذري والتغلب على الذات.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

........................

[1] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of tl1e Modem Identity. Cambridge, MA: Harvard University Press.335-336.

[2] Taylor, C. (2007a) A Secular Age.16.

[3] لا يعرِّف تايلور "الروحانية" ، حتى لو كان ذلك مركزيًا في تشخيصه للحداثة ولسياسة الحداثة . ويبدو أنه يشير ضمنيًا إلى أنه مثلما لا تحتاج الحياة الروحية إلى أن تكون دينية ، فإن الحياة الدينية يمكن أن تكون خالية من الروحانية (كما هو الحال في التطبيق الميكانيكي للقواعد والإجراءات الدينية). يميز تايلور بين الفهم السطحي والعميق للروحانية.

Taylor, C. (2007a) A Secular Age.38-40

لتحليل أكثر منهجية للروحانية أنظر:

Comte-Sponville, A. (2012) The Little Book ef Atheist Spirituality. London: Penguin.

[4] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?" 22-23

وهذا ما يسمى في مصادر الذات وكتابات أخرى "تأكيد الحياة العادية". يقول تايلور: إن ما كنت أحاول أن أشير إليه بهذا المصطلح هو الثورة الثقافية في الفترة الحديثة المبكرة ، والتي أزاحت الأنشطة العليا للتأمل من حياة المواطن ووضعت مركز ثقل على الخير في الحياة العادية والإنتاج و الأسرة. وينتمي إلى هذه النظرة الروحية إلى أن اهتمامنا الأول يجب أن يكون زيادة الحياة وتخفيف المعاناة وتعزيز الازدهار. هذا الارتباط ، الذي يشكل مكونًا رئيسيًا في نظرتنا الأخلاقية الحديثة.

[5] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?23.

[6] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?27.

[7] يقول تايلور: "المنظور الروحي سوف يفترض أنه في مكان ما ، في أعماقنا ، سنشعر بالانجذاب للاعتراف والعيش فيما يتعلق بما يعرفه على أنه واقع روحي". ما يعنيه تايلور بعبارة "الواقع الروحي" يبقى ، مع ذلك ، غير محدد انظر:

Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 620.

[8] Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 530

يمكن للتركيز على التعالي وخير ما وراء الحياة أن ينفصل عن أحد الجذور الدينية ، ألا وهو الافتتان بالعنف والموت. يقول تايلور: إنني أميل إلى التكهن أكثر وأقترح أن قابلية الإنسان الدائمة للفتن بالموت والعنف هي في الأساس مظهر من مظاهر طبيعتنا كدينيين. من وجهة نظر الشخص الذي يعترف بالتعالي ، فهو أحد الأماكن التي يذهب إليها هذا الطموح بسهولة أكبر عندما يكون ممتلئًا ليأخذنا إلى هناك. هذا لا يعني أن الدين والعنف مجرد بدائل. على العكس من ذلك ، فقد عنى أن معظم الأديان التاريخية كانت شديدة التعقيد مع العنف ، من التضحية البشرية إلى المذابح الطائفية. يبقى معظم الدين التاريخي موجهًا بشكل ناقص للغاية إلى ما بعده. إن الصلات الدينية لعبادة العنف بأشكاله المختلفة واضحة بالفعل. ما قد يعنيه ذلك ، مع ذلك ، هو أن الطريقة الوحيدة للهروب تمامًا من الانجذاب نحو العنف تكمن في مكان ما من الورم إلى التعالي - أي من خلال الحب الخالص لبعض الخير ما بعد الحياة.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?28-29.

[9] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “, 20.

[10] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 21.

[11] Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 430.

[12] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.818, n. 23.

[13]Taylor, C.(2007a) A Secular Age.143.

[14] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 21.

[15] Taylor, C. (2011f) Dilemmas and Connections: Selected Essays. Cambridge, MA: Harvard University Press.17.

[16] Gandhi, M. (1993) An Autobiography: The Story of my Experiments with Truth. Boston, MA:

Beacon Press.

[17] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 21.

[18] يرى تايلور  أن هذه الرؤية تتجاهل أيضًا مساهمة الإرث اليهودي المسيحي في تكوين الحداثة السياسية - على سبيل المثال. الفكرة الرئيسية للحقوق غير المشروطة كـ "إطالة أمد الإنجيل".

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 56.

[19] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.7.

[20] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.3.

[21] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.3

[22] وهي التي تمنع الأشخاص  غير المتوافقين  أو العدائين من الأتصال أو الأضرار ببعضهم البعض.

[23]Taylor, C.(2007a) A Secular Age.566.

[24] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 19.

[25] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?

[26] تمرد نيتشه على فكرة أن هدفنا الأسمى هو الحفاظ على الحياة وتحسينها، لمنع المعاناة. إن فهم نيتشه للحياة المعززة، والذي يمكن أن يؤكد نفسه تمامًا، يأخذنا إلى ما وراء الحياة أيضًا، ويشبه في هذا المفاهيم الدينية الأخرى للحياة المعززة (مثل "الحياة الأبدية" في الأديان  ذات التقليد الإبراهيمي). لكنه يأخذنا إلى أبعد من ذلك بدمج الافتتان بإنكار الحياة والموت والمعاناة. إنه لا يعترف ببعض الخير الأسمى وراء الحياة، فيرى نفسه بهذا المعنى أنه مناقض للدين تمامًا.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? 27-28.

[27] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 28.

[28] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.455.

[29] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.566.

[30] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.15.

[31] طور تايلور فكرته القائلة بأن الفهم المبتور للحداثة والعقلانية (التي تعتبر الليبرالية السائدة فيها عمومًا) يهدد جوهر المشروع الديمقراطي الليبرالي ، أي الحرية الشخصية. كما يجادل تايلور ، "الأسبقية الميتافيزيقية للحياة خاطئة وخانقة. استمرار هيمنتها يعرض الأولوية العملية للخطر".  Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",29.

[32]   يشير تايلور  في كتابه " عصر علماني" إلى أن الدين وحده هو القادر على "توفير" تجارب عدم المعاملة بالمثل هذه. لكن تجارب العطاء والتسامح والصدقة ليست بالضرورة تجارب دينية. بشكل عام ، يشير تايلور فقط إلى أهمية عدم المعاملة بالمثل بالنسبة للممارسة الأخلاقية ، وهي فكرة تتناقض مع نماذج الأخلاق والسياسة القائمة على المعاملة بالمثل عند راولز وهابرماس.

[33] Gagnon, B. (2014) "Reconciling Diversity and Solidarity? A Critical Look at Charles Taylor's Conception of Secularism", in Requejo, F. and Ungureanu, C. (eds) Law,  Religion  and  the State. London and New York: Routledge: 106-120.

[34] Bouchard, G., and Taylor , C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences , Building the Future : A Time for reconciliation. R eport".www.mce.gouv.qc.ca/publications/CCPARDC/ rapport-final-integral-en.pelf (last accessed 29 March 2017).

-Stepan, A. and Taylor, C. (eds) (2014) The Bo1mdaries of Toleration. New York: Columbia Uni­versity Press.

يظل التضامن والتماسك محوريين في مشروعه: فهما لا ينبثقان من إجبار الخصوصيات (الدينية) على المجال الخاص ، ولكن من تفاعلهما المتبادل وتعلمهما وحوارهما في المجال العام.

Gagnon, B. (2014) "Reconciling Diversity and Solidarity? A Critical Look at Charles Taylor's Conception of Secularism"

[35] Taylor, C. (2014) "How to Define Secularism", in Stepan, A. and Taylor, C. (eds) Bo,mdaries of

Toleration. New York: Columbia University Press: 59- 78.59.

[36] Taylor, C. (2014) "How to Define Secularism",72.

[37] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.

[38] Taylor, C. (2011f) Dilemmas and Connections: Selected Essays.

[39] Connor, P. and Koenig , M. (2015) "Explaining the Muslim Employment Gap in We stern Europe: Individual-level Effects and Ethno-Religious Penalties", Soda/ Science Research 49: 191-201.

Silberman, R., Alba, R., Fournier, I. (2007) "Segmented Assimilation in France Discrimination in the Labour Market Against the Second Generation", Ethnic and Radal Studies 30(1): 1- 27.

[40] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.

[41] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.19.

هذا جيد لأسباب مبدئية وعملية: من الجيد أن يتعلم المواطنون أنفسهم كيفية إدارة خلافاتهم واختلافاتهم وتجنب ازدحام المحاكم. إن "الروح" والقيم التي يقوم عليها طريق المواطن (التبادل والتفاوض والاعتراف المتبادل) تعزز المجتمع السياسي. يتيح هذا المسار للشركاء "الانخراط في مفاوضات تؤكد في نفس الوقت على نهج سياقي وتداولي" للقضايا الخلافية. يعد السياق ملائمًا لأنه يأخذ في الاعتبار "الطبيعة الفريدة للحالات الفردية". يمكن للمشاركة المتبادلة أن تغذي التفكير والحوار ، في حين أن المنطق القانوني الثنائي للفوز / الخسارة يمكن أن يولد الاستقطاب ويؤدي إلى الانهيارات التواصلية.

. Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices

Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.168.

[42] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.161.

[43]  مثال ذلك النظر في قضية تحريم ارتداء اللحى على ضباط الشرطة. يبدو أنه من غير المقبول أن يتمتع شخص ما بإعفاء من القاعدة العامة إذا كان يعاني من حالة صحية تتطلب منه إطلاق لحيته لتجنب الأذى الجسدي. لكن هل المزاعم الدينية لإطلاق اللحية تتساوى مع الادعاءات التي تنطوي على مشاكل صحية؟ هذا هو السؤال في القضية الأمريكية الأخوية للشرطة ضد مدينة نيوارك (1999) ، حيث اعترض ضابطان مسلمان سنيان على القاعدة ، مستشهدين بمعتقداتهم الدينية كمبرر. حكم قاضي المحكمة العليا صموئيل أليتو ، الذي كان قاضي استئناف فيدرالي في ذلك الوقت ، لصالح الضابطين ، مشيرًا إلى إعفاءات مماثلة تم تقديمها في الماضي لأولئك الذين يعانون من أمراض جلدية. يتفق تايلور وماكلور مع هذا الموقف حيث : يمكن أن يؤدي سوء التعرف على الادعاءات الدينية ذات الصلة إلى ضرر متساوٍ.  قد تختلف طبيعة الضرر- رمزي أو معنوي - ومع ذلك فالضرر هو ضرر.

Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of conscience. Cambridge, MA: Harvard University Press,77.

[44] Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of C onscience,76-77.

[45] يتناسب مفهوم تايلور مع إجماع راولز المتداخل ، إلا أنه يصل إليه من خلال مسار اجتماعي تاريخي مختلف.

إنَّ النظرة التاريخية في اطار تحديد ملامح الهوية لشعب ما هو قائم على صيغ من الحفر المعرفي في نتاجات الشعوب التي تميزها عن غيرها في ضوء علل حدوث الوقائع التاريخية وأسباب نشوئها، من أجل التعرف على هذه المسببات ودراستها، أي أرجاع كل حدث الى أسبابه في طور بحث المحركات المعرفية لهذه الأحداث والوقائع وصمودها لفترات طويلة على الرغم من عمل الآخر المغاير على محاولة محوها أو تغيير مسارها لصالحة، لكن ثباتها يعني أنها تمتلك مقومات البقاء تاريخياً، كونها حية في أنتاجها المعاصر لها،والهوية الجمالية في تفوقها التاريخي لا تأتي من كون أن في الحضارات الأخرى لا يوجد منافس لها، لكنها أكثر ثراء في مرتكزاتها المعرفية، التي انتجت مفاهيم قادرة على الاستمرارية في قابل الأزمان، وأنتجت سلطة معرفية واعية بحقيقة معاصرتها للمفاهيم الأخرى، لذا عملت على تشكيل وعي جمالي في أطاره التاريخي مما جعل غائيتها التاريخية قائمة على رغبتها في الأستمرار . وتعد الهوية الجمالية الإغريقية في أطارها التاريخي مشروع وعي قائم على مرتكزات سلطة معرفية واعية بحقيقة ما أنتجته من مفاهيم على وفق تكاملها مع النتاجات الفنية المختلفة وأطرها النافدة في الوعي الجمالي المؤسس لهذه الهوية الجمالية.

لقد تجسدت الأبعاد الثلاثة في مقومات للهوية الجمالية في الفكر الإغريقي على وفق الرؤية للغائية التاريخية التي أصبحت معها الهوية الجمالية الإغريقية هي المعيار الذي يعد صورة من صور التفوق في المجال التاريخي . أنَّ هذه الأبعاد التي تجسدت في الجسد الجمالي للهوية في بعدها الثقافي للفرد والجماعة، والكوجيطو الفكري الذي أنتج ثقافة ذات دلالات معرفية جمالية في أطار الفنون الجميلة، والبعد الوضعي في أنتاج مجتمعات قادرة على هضم نتاجات الفنون في أطارها الجمالي الذي رافقه التمركز حول الذات القادرة على بناء بيئات فكرية أنتجت رؤية جمالية لتلك الهوية في بعدها التاريخي، مما جعل الهوية الجمالية هي التاريخ وهي الثقافة وهي السلوكيات الأجتماعية لوضع الجماعات في ذلك الزمن المنتج للفن والجمال، كون الفن المنتج في تلك الحقبة هو من جعل الممارسة الجمالية قابلة للتطور على وفق الرؤى المتعددة في ظاهرها والمتوحدة في مضمونها عند الإغريق .

إنَّ فعل التمركز حول الذات العارفة بالمنتج الفني والثقافي قائم على فعل البحث في أنتاج هوية ذات ملامح تاريخية قادرة على تبيان هذا التمركز وأهدافه القارة في الذات، من خلال خطابات بعيدة المدى الفكري والثقافي والجمالي، فهي تؤسس لمعطى جمالي بعيد الآفاق والرؤى لتكوين وعي فكري جمالي يدخل في تأسيس وتثبيت الهوية الجمالية، لذا فإن قراءة الأفكار الجمالية الإغريقية في فلسفاتها المختلفة تعد من الروافد الداعمة للوجود الكلي للمعطى الجمالي الذي يؤسس للهوية في أطارها الفكري والثقافي، وما يسور ويجمل فكرة الذات المؤسسة لهذه الهوية في تكوينها الكلي الداعم لفكرة التفوق الثقافي على الآخر، ليس في آنية زمنية ضيقة، لا بل في صراعات ثقافية مستمرة مع الآخر الذي تتعدد صورة وأمكنته تبعاً لمراحل الصراع التاريخية.

إنَّ من مميزات الهوية الجمالية في أطارها التاريخي الذي يترتب عليه مجالات البحث في تاريخ النظرية الجمالية بحثاً في مكونات الوعي الجمالي عند الانسان ومظاهره المختلفة. وهذا الوعي المعرفي بما هو جميل يعطي للفن والتاريخ مقارنة تدخل في كون أحدهما قد توازى معرفياً مع الآخر في تبيان الهوية الجمالية في أطارها الثقافي ، كون أن الفن هو جزء من تاريخ الأمم وجزء من ثقافتها، والأفكار التي رافقت الفن في أنتاج الهوية الجمالية، قد قيدت تفاصيل مهمة للتاريخ والفن مما أصبحت هذه الأفكار هي الوسط الناقل للطرفين على الرغم عدم تواصلهما زمانياً في لحظة أنتاج الفن والتاريخ، فالتاريخ يدرس الوقائع، ولفن يرسم ما هو واقع في بعض أعماله، وما هو متخيل في أعمال أخرى، والرؤية الجمالية تقع ما بين الواقع في أطاره التاريخي والمتخيل في أطاره الفني، وهنا تكون الهوية الجمالية مرتبطة بالطرفين ومتحررة من كل واحد منهما بما يفقده لدى الأخر، فالتاريخ لا يؤمن بالخيال، هو يعتمد على الوقائع وما يحدث فيها، والفن لا يؤمن بكل ما هو في الواقع والوقائع، بل هو يبحث عن المستقبل في تجسيد الاشياء، والكن الهوية الجمالية هي قراءة متحررة من الأرتباط الكلي للطرفين معاً، ويقع الأختلاف في الرؤية الجمالية لدى فلاسفة الإغريق الذين تعددوا في طرحهم الجمالي قياساً للواقع، أو الوقائع، وتطوير الحياة من جهة، وبين ما هو عكس ذلك، فجمالية التناسب الهارموني عند فيثاغورس عمل في تقديم رؤية لموضوعات حول قضايا الفن في اليونان القديمة على وفق الرؤية المثالية، على خلاف نسبية هيرقليطس المادية في رؤيته للفنون على وفق التراتبية بين الموجودات، وكذلك الرؤية الأفلاطونية التي ترى في المحاكاة رؤية تختلف عن الرؤية الارسطوطالية التي وضحناها في الفصل السابق . والهوية الجمالية تمتلك مسافة بين طرفين الفن والتاريخ تكون فيها قادرة على أن تكون رؤية متحركة غير جامدة من الممكن أن تهيمن في بعدها التاريخي على حقب زمنية وتاريخية متقدمة ومتعددة، أعطتها سيطرة مطلقة على دارسي الجمال وتاريخه، والمشتغلين في تاريخية المنجز الفني في أكبر المحافل الفنية الى الوقت الحاضر، بل حتى أنها أثرت على عدد كبير من الفلاسفة الذين اعتمدوا الرؤية الجمالية الإغريقية، أو بنوا نظرياتهم الجمالية على وفق الفنون الإغريقية والهوية الجمالية لهذه الفنون، وما رؤية (هيغل) ببعيدة عن روحه المطلقة وميزات الفن الكلاسيكي في تجليات هذه الروح .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

مقدمة: الليبرالية والتأويل النقدي للحداثة الغربية

يهدف دفاع تشارلز تيلور عن الليبرالية إلى تقديم تصحيح منهجي وموضوعي لشكل مؤثر من الليبرالية يركز على منهجية فردية، حقوق الفردية، حياد صارم، ومفهوم تجريدي للعقل. إن هدف تايلور هو استعادة أهمية ودورالمجتمع، والخير العام أوالصالح العام، والاعتراف بالأختلاف من أجل تطوير نظري لليبرالية التأويلية تهدف الى حل النزاعات الفعلية التي تنطوي على مطالب الأعتراف القومية والدينية والثقافية وغيرها.[1]

يمكن فهم ليبرالية تايلور بوصفها أحد ابعاد مقاربته الشاملة للمشاكل الفلسفية. وتقوم ليبراليته على أرضية الأستنطاقات الأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية فيما يتعلق بالهوية والمعنى واللغة والإيمان والعمل البشري والعلمنة و الحداثة. يرى تايلور أنه لا يمكن تطوير التعامل مع القضايا الفلسفية بشكل مجرد، ولكن يجب القيام بذلك من خلال وضعها في سياقها الاجتماعي والتاريخي؛ وعليه، تعتمد الفلسفة على مجموعة من التخصصات والمصادر،أي: النظرية الاجتماعية والتاريخ وعلم اللغة وعلم الاجتماع والدراسات الدينية والأنثروبولوجيا. يتسع نطاق الأستنطاقات السياسية-الفلسفية، ويتغذى من الأفكار الوجودية والاجتماعية والتاريخية حول الأوضاع الحديثة. فيصبح الفهم الصحيح للأهمية السياسية لأسئلة مثل "ما هو مكان الدين في الديمقراطية؟" و"إلى أي مدى يجب أن نعترف بالمؤمنين ونمنحهم التسهيلات؟" جزءًا من تأويل الحداثة.

يقدم اثنان من أوائل كتب تايلور التاريخية، هيجل (1977) وهيجل والمجتمع الحديث (1979)، دليلًا حاسمًا على أن تأويلات هيجل للحداثة ذات أهمية حتى يومنا هذا. ينطبق قول هيجل الشهير فيما يتعلق بالفرد بأنه أبن عصره على الفلسفة باعتبارها بنت عصرها، العصر الذي أنتج به هذا الفكر.[2] يستوحي تايلور هذه الرؤية، فيقدم تفسيرًا تاريخيًا يهدف إلى استعادة "حياة الروح" من الرؤية المبتورة للحداثة، ومتخليًا في الوقت نفسه عن الزخارف الميتافيزيقية للهيجلية. لأنه يعتبر هذه الرؤية للحداثة مبنية على مفاهيم اختزالية للعقلانية والمجتمع السياسي فتولد الانحلال والسخط والعزلة. ينتقد تايلور، على خطى هيجل، أي محاولة حديثة لبناء نظرية مجردة للعقلانية منفصلة عن السياق والتاريخية- أي، كما هي العقلانية الإجرائية للكانطيين الجدد، أو التركيز على التفضيلات الفردية في نظرية الاختيار العقلاني، أو العقلانية الأداتية للنفعية. ويقدم بدلاً من ذلك وجهة نظر تأويلية للعقل العملي لا تختزل هذا العقل إلى قواعد عامة أو تفضيلات فردية أو حسابات نفعية بل: تُشكيل العقلانية العملية- وفقا لمقاربته الما بعد هيغلية والشاملة- بشكل حواري، ومُتضمنة في العلاقات الاجتماعية والتاريخية، وفي التفاعل مع التقاليد الأخلاقية والدينية. يتمثل الهدف السياسي المركزي لمشروع تايلور ما بعد الهيجلي في التخفيف من الأشكال الحديثة من الاغتراب وبناء ديمقراطية نابضة بالحياة وشاملة لكل المجتمع من خلال الدعوة إلى الليبرالية المضيافة لتعددية الخيارات الروحية والدينية في التفاعل والتواصل المتبادل.

طور تايلور ليبراليته البديلة على مرحلتين كإجابة تفسيرية عن الصراعات العملية والمتعلقة بالتغيرات المهمة في السياق الفكري/ السياسي. أولاً، طورعمله المبكر، الذي بلغ ذروته مع "مصادر الذات": صنع الهوية الحديثة (1989) و"سياسة الاعتراف" (1994)، ليبرالية تراعي المجتمع وتؤكد على أهمية الصالح العام والوطنية، من ناحية، و"سياسة الاعتراف" بالجماعات وحقوقها من ناحية أخرى. وبهذه الطريقة،ي قدم تايلور حلًا للنزاعات الناتجة عن طلب الاعتراف، ويأخذ اقليم الكيبيك في كندا كمجتمع وطني متميز يسعى لتحقيق مصلحته كمثال على ذلك. ويهدف هذا الحل الذي قدمه تايلور كما في هذا المثال إلى شكل من أشكال المصالحة يتجنب إجابتين متعارضتين: إما انفصال كيبيك أو مجتمع كندي غير حساس لخصوصية كيبيك. طور تايلور في مرحلة ثانية بدأت في منتصف التسعينيات وبلغت ذروتها مع كتاب "عصر علماني" (2007) ليبرالية التوفيق والمصالحة كإجابة عن سياق يتميز بالصراعات المتعلقة بالدين في كندا والديمقراطيات الغربية الأخرى ويركز على إضفاء الطابع الفردي على الحياة الروحية والدينية.

سوف نتعامل في ما يلي مع مرحلتين من ليبرالية تايلور (1-2) مع الأخذ في الاعتبار ثلاث مستويات مختلفة لمقاربته الشاملة للقضايا الأنطولوجية- السياسية والاجتماعية- التاريخية. يحدد تايلور في الفترة المبكرة من أعماله العناصر الأساسية لنهجه تجاه الدين والديمقراطية وأن لم يكن الدين قضية مركزية في المرحلة. يضع تايلور في المستوى الأول من مقاربته الشاملة الخطوط العريضة لأنطولوجيا الأخلاق التي يكون فيها البشر "حيوانات ذاتية التفسير"-كما يطلق عليه- حيث تُبنى هوية كل فرد بشكل حواري مع الآخرين في المجتمع.[3] يتسم تكوين الهوية بالتوجه نحو الخير القائم على تقييمات قوية؛[4] ويتميز تكوينها في عمله اللاحق الذي يلعب فيه الدين دورًا رئيسيًا أيضًا بالحاجة الحيوية لتجارب الامتلاء والتعالي.[5]

يقدم تايلور في المستوى الثاني من مقاربته تفسيرًا لظهور العلمانية في الغرب فيرى أنها: لا تظهر كنتيجة للانحدار التدريجي للدين ولكن للتحول التاريخي الذي يلعب فيه الدين دورًا مهمًا.[6] يعالج تايلور في المستوى الثالث، المسائل القانونية والسياسية المتعلقة بمعنى العلمانية في الغرب، وأسباب منح الاعتراف والتوافق مع المعتقدات الدينية. تتمحور الليبرالية الهيرمينوطيقية (التاويلية) لتايلور[7]على الاعتراف[8] بالأختلاف الديني وتكييفه المعقول.[9] سوف ندرس العواقب القانونية والسياسية لليبرالية الشاملة لتايلور مع التركيز على الدين. وسنقوم بتحليل تكيفه بشكل نقدي من خلال مقارنته بالموقف الليبرالي الحيادي المؤثر الرافض عمومًا للتكيف الديني.

1 عمل تايلور المبكر: من الأنطولوجيا الأخلاقية إلى الليبرالية الحساسة للمجتمع

تركزهيرمينوطيقيا (التأويل) تايلور على الحداثة، ومبنية على سياق أنطولوجي أخلاقي مستقل أو أنثروبولوجيا فلسفية.[10]إن انطولوجيا تايلور شاملة بطبيعتها، أيً تتميز بفهم الأجزاء بوصفها مترابطة بشكل وثيق وقابلة للتفسير بالرجوع إلى الكل فقط. وقد تم تطويرها في مجموعة متنوعة من الأعمال منذ السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، بما في ذلك عمله الأكثر طموحًا مصادر الذات (1989)؛ وهو مزيج من التحليل المتعالي للهوية وإعادة بناء المراحل التاريخية لتشكيل الهوية الحديثة لدعم تفكيره في السياسة.

ا- الأنطولوجيا الأخلاقية: تكوين الهوية، والتقييمات القوية، والخير

ترتبط الأنطولوجيا الأخلاقية، بالنسبة لتايلور، ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي نتفلسف بها حول السياسة. يرى بأن موقف المرء من القضايا الأنطولوجية لا يحدد موقفًه بشأن قضايا سياسية معينة. و"يمكن الجمع بين أي من موقفين في النقاش حول الذرية أو الكلية[11]( الشمولية) مع أي موقفين بشأن مسألة الجماعي - الفردي" والانقسام الليبرالي / غير الليبرالي.[12] لكنه يلفت الانتباه الى طريقة وصول القضايا أنطولوجية الصحيحة إلى المسائل الحيوية التي يتم تجاهلها من قبل الليبرالية الإجرائية والذرية السائدة.[13] فغالبًا ما يمكن إرجاع الميل الليبرالي لتقليل أهمية الجماعة والخير العام إلى مفاهيم أنطولوجية مسبقة؛ وهذا ميل يعكس نزعة فردية للحداثة الغربية توهن وتقطع المجتمع السياسي من الداخل.[14]

تُعالج مشاكل الهوية والسياسة بشكل أكثر ملاءمة من خلال البناء على الأنطولوجيا الحوارية التي تأخذ في الاعتبار الأهمية الحيوية للمجتمع، والاعتراف المتبادل والتواصل لتشكيل الهوية. تحدد الهوية " فهم الشخص لنفسه مَنْ يكون، وخصائصه الأساس المُعينه له كإنسان".[15] لا تشير كلمة "حواري" إلى تبادل الحجج المجردة (كما طرحها هابرماس)، بل إلى عمليات مجسدة للتفاعل التواصلي والاعتراف. غالبًا ما يتم التوسط في هذه العمليات من خلال اللغة، وأحيانًا من خلال المحاججة.[16] اننا "نعبر/ ونشكل علاقات مختلفة قد نقف فيها مع بعضنا البعض في: حميمة، رسمية وظيفية، عفوية، مزاح، جديًة، وما إلى ذلك" من خلال الانخراط في العلاقات الحوارية كأعضاء في المجتمع.[17] تُبنى هذه الأشكال الشائعة من التواصل على الحاجة الحيوية للأعتراف من الآخرين - أفراد الأسرة والأصدقاء والعشاق والمواطنين. حتى النساك الذين يبدو أنهم يتخلون عن الحاجة إلى الاعتراف هم في علاقة حوارية مع الله وكذلك في حوار داخلي دائم مع أنفسهم.[18]

تتضمن عملية تشكيل الهوية التوجه نحو الخير؛ يقوم هذا التوجه على التمييز بين القيم العليًا / الدنيًا والأفضل / الأسوأ. فبالنسبة الى تايلور، "جزء حيوي من معرفة من أنا هو معرفة موقفي".[19]ويشير إلى هذه الفروق على أنها تقييمات قوية؛ تتجاوز نطاق التفضيلات الفردية ولا يمكن تفسيرها على أنها مجرد تعبير عن الرغبات الشخصية.[20] التقييمات القوية هي تمثيل للتقييمات من الدرجة الثانية التي تعطي مضمون لمفاهيم الخير: نختبر رغباتنا وأغراضنا بوصفها تمييز أو اختيار نوعي، مثل أعلى أو أدنى، نبيل أو أساسي، موحدة أو مجزأة، مهمة أو تافه، جيدة أوسيئة. وهذا يعني أننا نختبر بعض رغباتنا وأهدافنا باعتبارها أكثر أهمية وجوهرية من غيرها.[21]

ترتبط مفاهيم الخير هذه بالتمييز بين نوعين من ردود الفعل البشرية، أي الطبيعي والأخلاقي: فالغثيان، على سبيل المثال، هو رد فعل سلبي مباشر لشيء مثير للاشمئزاز؛ على العكس من ذلك، يتم التوسط في رد الفعل الأخلاقي من خلال مفردات تفسيرية أو إطار أخلاقي يشكل تجربتنا ويرتب قيمنا. إن هذه الأطر ضرورية لما يعنيه أن تكون إنسانًا، وغير قابلة للاختزال في ردود الفعل العادية أو الطبيعية. مثلما نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد طريقنا في الفضاء المادي، نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد توجهنا في "فضاء من الأسئلة"،[22] وأكثر من ذلك ، لبناء سرد حدثي متماسك لحياتنا: "لأننا لا نستطيع إلا نوجه أنفسنا نحو الخير، ومن ثم نحدد مكاننا بالنسبة إليه، وبالتالي نحدد اتجاه حياتنا، فلا مفر من فهم حياتنا في شكل قصصي سردي، على أنه "بحث وتقصي".[23] ترتبط أطر الهوية والذات الفاعلة والقيم بعلاقة ضمنية؛ فنحن نعمل من خلال "مفردات لغة أخلاقية، ونبني حكاية للتواصل مع الآخرين"؛ وهذه "متطلبات بنيوية لا مفر منها للفاعلية البشرية".[24]

لا يمكن اختزال تكوين الهوية في الأنطولوجيا الحوارية لتايلور إلى مجرد مجموعة من الاختيارات الطوعية أو التفضيلات الذاتية ("أريد أن أذهب إلى السوق"؛ "أنا أفضل الفانيليا على آيس كريم الشوكولاتة"). نحن نعتمد باستمرار على مجموعات محددة من التقييمات القوية (إسلامية، بوذية، مسيحية، ماركسية) التي نرثها ونستوعبها كأعضاء في المجتمع. ليست هذه المجموعات من التقييمات جميعها ثايته؛ يمكننا تغيير الأطر بوصفنا كائنات قادرة على التفسير، ومع ذلك فإن ابتكاراتها لا معنى لها إلا فيما يتعلق بالمفردات والممارسات الموجودة والمعارضة لها ايضًا. لا يُقصد من حجة الأهمية الحيوية للأطر مجرد حقيقة نفسية طارئة عن البشر. ولكن القصد هو الادعاء بأن العيش ضمن هذه الآفاق المؤهلة هو أحد مكونات الذات البشرية، وأن الخروج من هذه الحدود سيكون بمثابة الخروج عما نعتبره جزءًا لا يتجزأ من الشخصية السليمة.[25]

الليبرالية المراعية للمجتمع وسياسة الاعتراف

تُعد الأنطولوجيا الحوارية أرضية دفاع تايلورعن الأهمية الحيوية للاعتراف ومطالب الهوية والخير العام. يقدم مفهوم تايلور إجابة ومبررًا للعدد المتزايد من المطالبات بالاعتراف من قبل جماعات مختلفة (قومية ودينية وجنسية، إلخ)؛ وهذه الأرضية وثيقة ذات صلة بالهوية والاعتراف والخير لما بينهم من أرتباط. لا تعود اهمية هذا الأرتباط الى مسألة تشكيل هوية المرء فقط؛ ولكن الى مسألة العدالة أيضًا.

نظرًا لأن الهوية تتشكل جزئيًا من خلال الاعتراف أو غيابه، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب سوء التعرف على الآخرين، وبالتالي يمكن أن يعاني شخص أو مجموعة من الأشخاص من ضرر حقيقي، أو تشويه حقيقي، إذا كان يعكس عليهم الناس الآخرين أو المجتمع الذي من حولهم صورة مهينة أو مزرية عن أنفسهم. يمكن أن يؤدي عدم الاعتراف نتيجة لسوء التعرف إلى إلحاق الأذى بالأشخاص، ويمكن أن يكون شكلاً من أشكال اضطهادهم، وسجنهم في وضع زائف ومشوه ومختزل.[26]

إن إنعام النظر في عدم الاعتراف مهم من الناحية المعيارية لأنه يمكن أن يسبب "جرحًا مؤلمًا يثقل كاهل ضحاياه بكراهية ذاتية مدمرة".[27] ويترتب على ذلك أن مجرد التسامح مع أولئك الذين يدعون الاعتراف لا يكفي لتجنب إلحاق الضرر؛ فالاعتراف الواجب أن يكون اعترافًا إيجابيًا بمطالب الهوية الأساسية "ليس مجرد مجاملة ندين بها للناس. إنها حاجة إنسانية حيوية".[28]

يدعم تايلور حجته من أجل الاعتراف عن طريق التفكير التاريخي أيضًا. إن أسباب الاعتراف أكثر إلحاحًا اليوم بسبب الانتقال التاريخي من مجتمع هرمي تقليدي إلى مجتمع ديمقراطي. يتم تحديد الهوية، في المجتمع الهرمي، من خلال الوضع الاجتماعي. ويفسح ضعف هرمية المجتمع المجال للكرامة ومُثل الأصالة - أي أن يعيش الشخص حياته بطريقته ويمكنه أن يكون صادق مع نفسه دون اتباع نموذج خارجي مفروض لتحقيق الحرية.[29] تعتمد الهوية الفردية في كل من المجتمعات التقليدية والديمقراطية على الاعتراف. تم بناء الاعتراف العام في الهوية المشتقة من المجتمع بحكم أنها قائمة على تصنيفات اجتماعية يعتبرها الجميع أمرًا مفروغًا منه. وعلى كل حال، لا تتمتع الهوية الأصيلة بالاعتراف بشكل مسبق، ولكن يجب أن تكتسب.[30]

أدى تطور المجتمع الديمقراطي إلى انقسام بين مطلبين لكسب الاعتراف. جاء الأول مع الانتقال من شرف المكانة إلى الكرامة، فظهر نموذج ليبرالي لسياسة المساواة في الكرامة. وهذه بوصفها "سياسة عامة وذات صلاحية كونية تؤكد على المساواة في الكرامة بين جميع المواطنين، مضمونها المساواة في الحقوق والاستحقاقات".[31] ونشأ نوع ثان من سياسات الاعتراف عن النوع الأول، وهو سياسة الاختلاف، التي تركز على تفرد الفرد / التفرد الجماعي: هناك أساس عام-عالمي لهذا أيضًا، مما قد يجعل تداخل وألتباس بين الاثنين. قد بكون المطلوب أن يتم التعرف على كل شخص من خلال هويته الخاصة التي يتفرد بها. لكن الاعتراف هنا يعني شيئًا آخر. فما يتم تأسيسه مع سياسات الكرامة المتساوية يُقصد به أن يكون هو نفسه عالميًا، وسلة متطابقة من الحقوق والحصانات؛ أن ما يُطلب منا التعرف عليه مع سياسة الاختلاف، هو الهوية الفريدة لهذا الفرد أوالجماعة، وتميزهم عن أي شخص آخر. إن الفكرة هي هذا التمييز هو بالضبط ما تم تجاهله، أوالتستر عليه، أو استيعابه في هوية مسيطرة أو أغلبية. وهذا الاستيعاب هو الخطيئة الأساسية ضد مبدأ الأصالة.[32]

يتوافق التمييز بين معنيً الاعتراف مع أشكال أو صيغ مختلفة من الليبرالية، يقوم أحدهما على الاعتراف بالاحترام المتساوي حصريًا، ويضيف الآخر اهتمامًا بالاختلاف، الأول هو الليبرالية الإجرائية القائمة على الحقوق. الدولة الليبرالية محايدة تمامًا فيما يتعلق بمفاهيم الخير، ويتمثل دورها في توفير إجراءات عامة تضمن أن يتمتع كل مواطن بالحرية نفسها في متابعة تصوره عن الخير. لقد حارب هذا الشكل من الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أشكالًا مختلفة من التمييز، إلا أنه كان أعمى عن الطرق التي يختلف بها المواطنون. تنكر وتنفي هذه الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أختلاف" الهوية من خلال إجبار الناس على قالب متجانس غيرحقيقي بالنسبة لهم"؛ فالادعاء بأن القواعد والمبادئ الليبرالية محايدة هو مجرد انعكاس لثقافة مهيمنة، وانه " ليس غير إنساني (بسبب قمع الهويات) فقط ولكن أيضًا بطريقة خفية وغير واعية، هو نفسه تمييزي للغاية ".[33]

تتفاعل، في المقابل، سياسات الاختلاف التي دعا إليها تايلور ضد أنواع من التمييز تؤثر، بشكل غير مباشر، على جماعات محددة. لا تظهر صياغة تايلور لهذا الموقف الليبرالي الثاني الحساس للاختلاف والصالح العام كنقد نظري لليبرالية السائدة فقط، ولكن كإجابة عن صراع سياسي ومشكلة عملية تتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، اي بمقاطعة كيبيك والشعوب الأصلية في كندا أيضًا. فيطبق نظريته على الخلاف الذي ظهر في الثمانينيات مع تبني الميثاق الكندي للحقوق. تتتعلق المسألة- بالنسبة له- بإمكانية التوفيق بين أقرار حقوق متساوية لجميع المواطنين ومطالب التميز التي يطرحها الكيبيكيون والشعوب الأصلية وهي: إلى أي مدى مطالبتهم بالاعتراف وبشرعية الأختلاف متوافقة مع الليبرالية؟ هل مطالب السعي وراء الأهداف الجماعية والمصالح المشتركة متوافقة مع المجتمع الليبرالي؟

يجادل تايلور بأن الحكومات الليبرالية في كيبيك وكندا لا يمكن أن تكون محايدة في عديد قضايا، وعليها أن تدرك أنه لايمكن أختزال أهداف وخيرات جماعية معينة من خلال الإجراءات أو الحقوق الفردية مثل بقاء الجماعة السياسية؛ والحفاظ على التفرد الثقافي واللغوي في كيبيك. إن بقاء وازدهار الثقافة الفرنسية في كيبيك يعد أمرًامهمًا بالنسبة لحكومة كيبيك. ليس المجتمع السياسي محايدًا بين أولئك الذين يقدرون الوفاء وأن يظلوا صادقين لثقافة الأسلاف وأولئك الذين قد يرغبون في الانفصال باسم بعض الأهداف الفردية. لا يتعارض السعي من اجل الأختلاف بواسطة التشريع وصنع السياسات بهدف البقاء والنزاهة والازدهار لجماعة الكيبيك الفرنسي مع الليبرالية.[34]

لكن تعتبر سياسة الاختلاف، بالنسبة لتايلور، شرعية تمامًا فقط عندما يتم احترام الحقوق الأساسية- الحق في الحياة، والحرية، والإجراءات القانونية الواجبة، وحرية التعبير، وممارسة الدين، وما إلى ذلك.[35] هناك حد اساس بين هذه الحقوق كحرية كتابة اللافتات التجارية باللغة التي يختارها الفرد مثلًا. [36] لا يمكن اتباع أيً مفهوم للخير العام بشكل شرعي إذا كان يمس جوهر الحريات والحقوق؛ ومع ذلك، تختلف الحقوق والحريات الأساسية عن "الامتيازات والحصانات ذات الأهمية التي يمكن إلغاؤها أو تقييدها لأسباب تتعلق بالسياسة العامة على الرغم من أن المرء يحتاج إلى سبب قوي للقيام بذلك".[37]

إن صيغة تايلور الثانية من الليبرالية لها عواقب مهمة تتصل بالدين على مستويين: أولاً، إن سياسة الاعتراف ملائمة في الظاهر لمطالب الأقليات الدينية. ومع ذلك، لم يطور تايلور هذه الفكرة في عمله المبكر. لكنه يدافع عن شرط منح الاعتراف بالتقييمات القوية التي تشكل الهوية شريطة ألا يقوض ذلك الحقوق والحريات الأساسية.

ثانيًا، لا يمكن لدولة أن تتبنى بشكل شرعي تصورًا دينيًا أو مستوحى من الدين للخير العام أوالصالح العام. يتفق تايلور هنا مع راولز ودوركين على أن الدولة التي تدعم مفهوم ديني للخير سيكون لها موقف تمييزي ضد أولئك الذين لا يؤيدون هذا المفهوم. ولكن هناك فرق حاسم بين دعم الدولة لمفهوم ديني للخير ودعم الدولة وولائها لجماعة تاريخية معينة واستمراريتها، أي لمفهوم الخير أو الصالح العام. هناك تمييز قاطع بين الصالح العام (موضوع الوطنية) وخير خاص (ديني أو غير ديني): يجب أن تكون الدولة الليبرالية محايدة تجاه المؤمنين وغير المؤمنين، لكنها لا يمكن أن تكون محايدًا بين الوطنيين والمناهضيين لهم او المعادين للوطنية.[38] تنطوي الوطنية على أكثر من مجرد الالتقاء حول المبادئ الأخلاقية والدستورية الأساسية، من ناحية، وهي تختلف عن الولاء لمفهوم ديني معين عن الخير من ناحية أخرى. الوطنية هي "حب خاص" ينطوي على "ولاء اجتماعي واسع النطاق لمجتمع تاريخي محدد"، يعتز به المرء ويحافظ عليه كصالح مشترك وهدف مشترك.[39]

أصبحت تعقيدات العلاقة بين الدولة والدين واضحة بشكل متزايد مع التغيير في المناخ السياسي ابتداءً من التسعينيات.[40] طور تايلور، في عمله المتأخر المكرس للدين، أنطولوجياة السابقة وتشخيصه السابق للحداثة ثم طور بالتفصيل نهجا قائمًا على الأعتراف بالدين. وهذا ما سنتناوله لاحقا.

***

1-3

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] يدمج تايلور في وجهة نظره الاهتمامات الليبرالية التي تقع في صميم الجمهورية (أي الصالح العام ، والوطنية ، والمشاركة) ويعبد الطريق نحو التعددية الثقافية.

[2] Hegel, G.W.F. (1991) Elements of the Philosophy of Right. Wood, A.W. (ed.), Nisbet, H.B. (trans.). Cambridge: Cambridge University Press, 21.

[3] أنظر:

-Taylor, C. (1985b) Philosophical Papers II. Philosopl1y and H11man Sciences. Cam bridge, UK: Cam­ bridge University Press.

-Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of tl1e Modem Identity. Cambridge, MA: Harvard University Press.

- Taylor, C. (1989b) "Cross-purposes: The Liberal-Communitarian Debate", in Rosenblum, N.

L. (ed.) Liberalism and the Moral Life. Cambridge, MA: Harvard University Press: 159-183.

-Taylor, C. (2007a) A Secular Age. Cambridge MA: Harvard University Press.

[4] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.

[5] -Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?", in Heft, J.L. (ed.) A Catholic Modernity? Charles

Taylor's Marianist Award Lecture. Oxford: Oxford University Press: 13-38.

-Taylor, C. (2007a) A Secular Age. Cambridge MA: Harvard University Press.

-Taylor, C. (2007b) '.'C cultures of Democracy and Citizen Efficacy", Public Culture 19 (1): 117-150.

-Taylor, C. (201la) "Why We Need a Radical Redefinition of Secularism”, in Butler, J., Haber¬ mas, J., Taylor, C., and West, C. (eds) The Power of Religion in the Public Sphere. New York: Columbia University Press: 34-59.

[6] تركز جينالوجيا تايلور في كتابه عصر علماني على الغرب. حدثت في فضاءات حضارية أخرى. ظهور وتعميم الاطار كعلامة مميزة للغرب.

[7] التأويل هو نهج فلسفي يتعامل بشكل عام مع مشكلة تفسير الأفعال البشرية ذات المعنى ومنتجاتها الثقافية.

Mantzavinos, C. (2016) " Hermeneutics”, in Zalta, E.N. (ed.), The Stanford Encyclopaedia of Philo­sophy. https:/ / plato.stanford.edu/ archives/ win2016/ entries/ hermeneutics/ (last accessed 8 May 2017).

يهتم نهج تايلور في التأويل في الغالب بالعلاقة بين الفهم السائد للذاتية البشرية التي تطورت خلال العصر الحديث والترتيبات الأخلاقية السياسية للديمقراطيات الليبرالية المعاصرة.

[8] يعيد تايلور صياغة نظرة هيجل الشاملة حول الاعتراف (Anerkennung).

-Taylor, C. (1979) Hegel and the Modem Society. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

-Taylor, C. (1977) Hegel. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[9] يتبع تايلور تقليد فيلهلم هومبولت في الجمع بين الأنطولوجيا الشاملة والليبرالية.

Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press Cambridge.

لقد أدى هذا المزيج الى سوء فهم واسع النطاق لتايلور باعتباره جماعاتيًا، أنظر:

Mulhall, S. and Swift, A. (1996) Liberals and Communitarians. Oxford: Blackwell.

لكن تايلور مهتم بالمجتمع لأنه يضع الحرية الشخصية في مركز وجهة نظره. لذلك ، نفضل التحدث عن ليبرالية تايلور الحساسة للجماعة بدلاً من جماعاتيته، فقد رفض الجماعاتية صراحة بوصفها تسمية فلسفية باعتبارها مضللة فيقول: أنا غير سعيد بمصطلح "الجماعاتية". يبدو الأمر كما لو أن منتقدي هذه الليبرالية أرادوا استبدال بعض المبادئ الأخرى الشاملة ، والتي يمكن بطريقة متساوية ومعاكسة تمجيد حياة الجماعة فوق كل شيء. في الحقيقة ، أن الهدف أكثر تواضعًا: أريد فقط أن أقول إن الليبرالية الحيادية أحادية المبدأ لا تكفي.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism. Princeton, NJ: Princeton University Press: 25--73.: 250.

[10] لا ينبغي فهم السياق المستقل "بعبارات مطلقة. لا يدعي تايلور من خلال أنطولوجيته الأخلاقية أنه قادر على الخروج من اللعبة التأويلية المتمثلة في تبادل الأسباب في سياق تاريخي محدد ؛ يفشارك في اقتراح غير معصوم لتفسير الخصائص العامة لظروف الإنسان وهويته ، والاعتماد على السياق هو أحد هذه الخصائص. لمزيد من التفاصيل حول حالة الحجج المتعالية التي تشكل أنطولوجيا تايلور ، انظر:

Taylor, C.(1989b) Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press.

[11] النظرية القائلة بأن أجزاء من الكل في حالة ترابط وثيق ، بحيث لا يمكن أن توجد بشكل مستقل عن الكل ، أو لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى الكل ، والذي يعتبر بالتالي أكبر من مجموع أجزائه.

[12] Taylor, C. Philosophical Arguments.185.

[13] يجادل تايلور بخصوص ذلك في "الأغراض المتقاطعة: النقاش الليبرالي والمجتمعي" ، الأ أن أطروحاته حول الهوية إلى مستوى الدفاع عن أي شيء. إن ما يدعون القيام به ، مثل التفكير في الانطولوجيا جيدة ، هيكلة مجال الاحتمالات بشكل أكثر وضوحاً. البحث عن الخيارات التي تساعد في دعمها.

Taylor, C. Philosophical Arguments.183.

[14] Taylor, C. Philosophical Arguments.187.

[15] Taylor, C. The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism: 25--73. 25.

[16] إن السمة الحاسمة للحياة البشرية، بالنسبة لتايلور، هي طابعها الحواري في الأساس. نصبح واشخاص قادرين على فهم أنفسنا، وبالتالي تحديد هويتنا، من خلال اكتسابنا للغات غنية للتعبير. أريد، من أجل أغراضي هنا، أن آخذ اللغة بمعناها الواسع، بحيث لا تغطي فقط الكلمات التي نتحدثها، ولكن أيضًا أنماط التعبير الأخرى التي نعرّف أنفسنا بها، بما في ذلك "لغات" الفن، والإيماءات، والحب، وهكذا. لكننا نتعلم طرق التعبير هذه من خلال التفاعلات مع الآخرين. لا يكتسب الناس اللغات اللازمة لتعريف الذات بمفردهم، ولكن خلال التفاعل مع الآخرين الذين يهموننا - ما أسماه جورج هيربرت ميد "الآخرين المهمين". وبهذا المعنى، فإن نشأة العقل البشري ليست أحادية، وليست شيئًا ينجزه كل شخص بمفرده، بل هو أمر حواري.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism. Princeton, NJ: Princeton University Press: 25--73.25.

[17] Taylor, C. (1985a) Philosophical Papers I. Human Agency and LAnguage. Cambridge, UK: Cambridge University Press, : 234.

[18] Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge.

[19] Mulhall, S. and Swift, A. (1996) Liberals and Communitarians.106.

[20] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.34.

[21] Taylor, C. (1985b) Philosophical Papers II. Philosophy and Human Sciences. Cam bridge, UK: Cam­ bridge University Press. 220.

[22] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.29.

[23] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.51-52.

[24] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.51-52.

[25] "إن الأطر الأخلاقية ليست اختيارية ، والوجه الأخلاقي لا مفر منه ، لتكوين الفاعل الإنساني الحر: بديل عن طريقه. أن تكون أسئمة الأسئلة التي تمثل الأسئلة التي تمثل الأسئلة التي تمثل إطار العمل الخاص بـ A3s ، الإصدار الأول من الأسئلة والأشكال التي تمثلها ، وذلك من خلال طرح الأصدار الأول منها ، نعرف من أين نقف ، وما هي المعاني التي تحملها الأشياء بالنسبة لنا ".

Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.29.

[26] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",25.

[27] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",26.

[28] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",26.

[29] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",20.

[30] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",35.

[31] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",41.

[32] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",41.

[33] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",43.

- Kymlicka, W. (1995a) Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights. Oxford: Oxford University Press.

[34] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",58.

[35] يشير تايلور إلى الحريات المدنية والسياسية الأساسية التي تشكل، بشكل عام، جوهر مبادئ راولز للعدالة. في كتاباته اللاحقة ، يؤيد صراحة وجهة نظر راولز حول القيم التأسيسية والإجماع أو التوافق المتداخل. ولكن على عكس راولز ، يتبنى تايلور وجهة نظر تأويلية للعقل، ويهتم بالخير العام (في قلب الجمهورية) والاعتراف بالاختلاف (في قلب التعددية الثقافية والتعددية الثقافية).

أنظر: Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of C conscience. Cambridge, MA

: Harvard University Press.

[36] تعتبر وجهة نظر تايلور الحساسة تجاه المجتمع ليبرالية من حيث أنها تهدف إلى احترام ومعاملة الأقليات التي لا تشترك في التعريف العام للخير أو للصالح العام.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",59.

[37] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",59.

[38] أنظر:

Taylor, C. (1995) "Cross-purpose: The Liberal-Communitarian Debate “in Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press Cambridge, M-A: Harvard University Press

[39] Taylor, C. (1995) " Philosophical Arguments.p.198.

[40] نعم أصبح الفصل بين القضايا الثقافية واللغوية والقضايا الدينية ممكنًا إلى حد كبير في كيبيك العلمانية اليوم. ولكننا نسأل هل هذا هو الحال دائما؟ من الصعب للغاية إخراج القومية من الدين في دول مثل الهند أو إسرائيل في دمجهما وسياساتها التميزية التي يشكو منها العرب، وكذلك اخراج القضايا الثقافية من القضايا الدينية. ويبقى السؤال الشائك أيضًا ما إذا كان السعي وراء الخير العام أوالصالح العام جنبًا إلى جنب مع ترسيخ القيم التأسيسية للسياسة يجب أن يكون منفصلاً بشكل قاطع عن التقاليد والممارسات الدينية.

تبدو الفلسفة أحيانا مجردة وكأنها تنتمي الى عالم آخر، خاصة عند مقارنتها بالتكنلوجيا التطبيقية في حياتنا اليومية. ولكن هناك الكثير يمكن ان نتعلّمه من الفلسفة وبالعكس.

السوفتوير صُمم بالأساس بهدف زيادة فاعلية الاتصال سواء الاتصال ضمن السوفتوير او من خلال سوفتوير يسمح بالاتصال بين الناس. لكن الاتصال هو اكثر من مجرد تبادل المعلومات. الناس يتحدثون او يكتبون لمختلف الأسباب، عادة ليبقوا على اتصال او فقط لأنهم أصدقاء.

ان تاريخ الفلسفة وعلم النفس مليء بمحاولات اختزال كل الحافز الانساني الى دافع او مبدأ نهائي واحد – كأن يكون البقاء، الجنس، السلطة، او الرغبة او القناعة. اتجاهات مشابهة استُخدمت في الاتصالات: فيلسوف القرن السادس عشر جون لوك اقترح اننا نتصل من أجل الحصول على المعلومات حول كل واحد منا، وهذا بدوره يساعدنا لإشباع رغباتنا. رؤية لوك لازالت سائدة في الطريقة التي تُصمم بها تكنلوجيا اتصال المعلومات اليوم. لكننا سنكون أفضل لو استبدلنا هذه الرؤية ومعها التوضيحات الاختزالية الاخرى برؤية اخرى أكثر تعددية في سبب قيامنا بالأشياء التي نفعلها. ربما الفلاسفة سيقومون بعمل أفضل لو انتبهوا جيدا لسلوك الانسان.

كيفية الاتصال هي بنفس أهمية لماذا الاتصال

تكنلوجيا الاتصالات الموجّهة لحاجات الانسان بحاجة للتقدير والاعجاب. من خلال التواصل الاجتماعي نحن نحب ونشارك ونعيد التغريد ونعلق على أفعال الآخرين التي ليست موجّهة في الغالب نحو نقل المعلومات. البيانات الثمينة تصبح متاحة بالطبع، وهي بيانات يبحث عنها المعلنون لأجل المعلومات، ولكن من الخطأ مساواة البيانات مع المعلومات. عندما أعمل نكتة، انا في الاساس لا أحاول ابلاغ اي شخص عن أي شيء، مع اني ربما بلا قصد أكشف عن إحساسي بالفكاهة.

صناعة بطاقات الأعياد كلها - مهما كان الشيء الذي نفعله بها – بُنيت على فهم اننا عادة نريد التعبير (او يُنظر الينا نعبّر) عن تمنيات طيبة في المناسبات الخاصة. الفيلسوف اللساني لودفيج فيتجنشتاين أعلن ان التعبير العام عن الرغبة، التمني، العاطفة او العقيدة هو ليس وصفا لحياتنا العاطفية. هذا يفسر لماذا عبارة "هذا التطبيق معيب لكني لا اعتقد انه معيب" هو قول صحيح عن الحقيقة حتى عندما ينطوي على مفارقة.

لماذا كل هذا يجب ان يهم المصممين والمصنعين ومستعملي التكنلوجيا؟ الرؤية الضيقة لسبب قيامنا بالاتصال بالتأكيد تقيّد انواع الاتصالات التكنلوجية التي نقوم ببنائها. من الملفت، ان العديد من الاشياء التي ننجزها بالتكنلوجيا هي عرضية لما صُممت له بالأصل (مثلا، الانترنيت نشأ كنتيجة لخطة وزارة الدفاع الامريكية في امكانية البحث عن وحدات صغيرة من البيانات ونقلها عبر الكومبيوتر). حالما نتخلى عن تصورنا المسبق بان نقل المعلومات هو هدفنا الوحيد – وهو افتراض قصير النظر – فان إمكانية ماذا يمكن ان نخلق هي إمكانية غير محدودة.

من الإتصالات الى الفهم

ان سوء تصوّر الاتصالات هو ايضا ينطبق على إحساسنا بالفهم. لا الفهم ولا الاتصالات يمكن اختزالهما الى مجرد اكتساب حقائق جديدة. هناك فرق بين فهم كلمات المتحدث وفهم المتحدث ذاته – فهم "لماذا" بالاضافة الى "ماذا".

فيتجنشتاين ذكر مرة: "لو استطاع الأسد التكلم، لما استطعنا فهمه". ليس بسبب عوائق لغة لا تُقهر، وانما بسبب اننا لا نعرف ماذا كان يهدف بكلماته. شركة ابل سري ومايكروسوفت كورتانا اللذان يسعيان الى تفعيل الصوت وتنشيط التفاعل، يستفيدان من الذكاء الاصطناعي. مثل هكذا سوفتوير يبرز من الأمل بخلق تكنلوجيا يمكن ان تفهمنا، ويمكن ان تُفهم من جانبنا. لافائدة هناك من السؤال ما اذا كانت مثل هذه المكائن يمكنها حاليا او دائما ان تفهمنا بدون ان نسأل اولاً أنفسنا ماذا نريد ان تفعله هذه المكائن. لماذا يجب علينا الاتصال بها بالمقام الاول؟ الجواب من غير المحتمل انها تحتاج لفهمنا بأي شيء الاً بالمعنى الفضفاض. المكنسة الكهربائية الجيدة لا تحتاج تفهم لماذا نحتاج شفاط اكثر قوة لكي يمكن التحوّل الى توربين عندما نضغط على الزر المناسب. ونفس الشيء يصح على خدمة خرائط الويب، الفهم يُحتمل ان يقف عائقا في طريق منفعتي.

يحتاج الناس ان يحرروا انفسهم من التعامل مع الاتصالات كشيء موجّه نحو نقل المعلومات التي هي اما تمكّن الفهم بين الانسان والماكنة، او انها تتطلب ذلك. الطريقة التي نصمم ونستعمل بها التكنلوجيا الواسعة الانتشار لغرض الاتصال سوف تستفيد من اتجاه لا ينطلق من هذا الافتراض غير المعترف به.

Philosophy’s influence on technology design and why it needs to change, The conversation.com, Feb12, 2016

***

حاتم حميد محسن

 

- تمهيد: يسعى هذا المقال إلى توضيح كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية من خلال التعرّف على الدور الهام الذي يلعبه في حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية بعد أن نجح العلماء في تطوير ذكاء اصطناعي يحاكي الذكاء البشري من حيث المبدأ. في حقيقة الأمر، يعتبر هذا التطور أكبر حدث في تاريخ البشرية جمعاء بعد أن أصبح موجوداً في كل مكان ليغزو كل مفاصل حياتنا اليومية، ويتسلل إلى بيوتنا وسياراتنا وهواتفنا وأجهزة الحاسوب وأنظمة النقل، كما بات يتطور بوتيرة سريعة ملفتة للنظر ليمتلك القدرة على تغيير عاداتنا اليومية ونظرتنا للواقع الاجتماعي مع عدم قدرتنا على مقاومته. لذلك يجب علينا أن نجعله حليفاً لنا لتحقيق أقصى استفادة منه في مستقبلنا من خلال الاستعداد لاكتساب المهارات اللازمة لمعرفة كيفية استخدامه والعمل معه بأمان. لكن السؤال المفصلي الذي يطرح نفسه علينا ما هو مصطلح الذكاء الاصطناعي؟ وما هي مميزاته؟ وكيف سيؤثر على مستقبل حياتنا الاجتماعية؟

1- مفهوم الذكاء الاصطناعي: ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence) إلى الساحة الأكاديمية في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وبالتحديد في عام 1950، عندما قام العالم آلان ماتيسون تورينج· بتقديم اختبار تورينج الذي يقوم بتقييم الذكاء لجهاز الحاسب (الكمبيوتر)، ويقوم بتصنيفه ذكياً في حال قدرته على محاكاة العقل البشري. إلا أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ رسمياً كنظام علمي في عام 1956 في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين: جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، نجح مصطلح  " الذكاء الاصطناعي " - الذي من المحتمل أن يكون قد اخترع في البداية لإثارة انتباه الجمهور - بما أنه أصبح شائعاً لدرجة أن لا أحد يجهله اليوم، وأن هذا الفرع من المعلوماتية أخذ في الانتشار أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبما أن التقنيات التي انبثقت عنه ساهمت بقدر كبير في تغيير العالم على مدى الستين سنة الماضية.

يُعرف الذكاء الاصطناعي: بأنه مفهوم يصف التعلم الآلي، والتفكير المنطقي، والتفكير، والذكاء، والإبداع الذي كان من المفترض أن يكون فريداً بالنسبة للبشر، ولكن يتم الآن إعادة تصميمه ونشره بواسطة التكنولوجيا (الصناعة). كما يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي في الآلات على قدرة هذه الآلات على التعلم من خلال التجارب التي تقوم بها. فضلاً عن ذلك، يمكن لهذه الآلات أن تقوم بمحاكاة الذكاء البشري الطبيعي. وذلك من خلال التطور والتقدم في تنفيذ المهام المتشابهة لأكثر من مرة.

بعبارات أبسط، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) إلى الأنظمة أو الأجهزة التي تحاكي الذكاء البشري لأداء المهام والتي يمكنها أن تحسن من نفسها استناداً إلى المعلومات التي تجمعها.

وهذا يعني أن مصطلح الذكاء الاصطناعي يتعلق بالقدرة الفائقة على تحليل البيانات أكثر من تعلقه بشكل معين أو وظيفة معينة. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يقدم صوراً عن الروبوتات العالية الأداء الشبيهة بالإنسان التي تسيطر على العالم، فإنه لا يهدف إلى أن يحل محل البشر. إنه يهدف إلى تعزيز القدرات والمساهمات البشرية بشكل كبير. مما يجعله أصلاً ذا قيمة كبيرة من أصول الأعمال. كما أن الغرض الأساسي من تحفيز الذكاء الاصطناعي أو الذكاء السلوكي هو تمكين أجهزة الكمبيوتر من أداء المهام، مثل تقرير وحل المشكلات وفهم المعلومات البشرية في أي لغة وترجمتها.

2- مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي:

وفي هذا السياق نستعرض المجالات التالية:

أ- القطاع الصناعي: ففي قطاع التصنيع، تعمل الروبوتات الآلية ذات الذكاء الاصطناعي مع الأشخاص لأداء مهام مختلفة، مثل التجميع، وفحص المعدات للتأكد من أن الجهاز يعمل بشكل جيد، حيث تتيح إضافة الذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات التعاونية نشرها بشكل أسرع ومراقبة مساحات العمل الخاصة بهم لتغير الظروف والتكيف معها، وفيما يتعلق بالروبوتات الصناعية بشكل عام يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين دقة الروبوت وموثوقيته، بالإضافة إلى تمكين أشكال أكثر تقدماً من التنقل. ولعل الأهم من ذلك كله أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دوراً رئيسياً في تقليل جهود البرمجة والهندسة المطلوبة لإنشاء وتنفيذ الأتمتة الصناعية.

تتنوع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصناعة من أبسطها إلى أعقدها خاصةً في ظل ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة··، حيث يكون للذكاء الاصطناعي والحاسوب دوراً كبيراً في تطور الصناعات المختلفة. على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي كان موجوداً باعتباره تخصصاً أكاديمياً وعلمياً منذ عقد الخمسينيات في القرن العشرين - كما ذكرنا سابقاً -، إلا أن تقنية الذكاء الاصطناعي اكتسبت الكثير من الزخم في السنوات القليلة الماضية.

ب- القطاع الصحي: ما زالت عمليات الرعاية الصحية، سواء كانت مستشفى أو عيادة فردية، سلسلة معقدة ومتعددة الأوجه من العمليات. من العمليات الداخلية مثل الموارد البشرية للتعامل مع مطالبات التأمين لأخذ بيانات المريض من موفري الخدمات الآخرين، دائماً ما تتدفق البيانات للداخل والخارج لعمليات الرعاية الصحية. منذ عقود مضت كان هناك الكثير من الصفحات الورقية والمكالمات الهاتفية. وفي الأوقات الأخيرة، اندمجت في رسائل البريد الإلكتروني والملفات، وفي السنوات القليلة الماضية، دفع الكثير من صناعة الرعاية الصحية نحو قواعد البيانات السحابية والتطبيقات المخصصة.

كما أدى استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في الرعاية الصحية إلى إنشاء عدد من ميزات إدارة البيانات. ومن خلال تطبيق هذه الأدوات على البيانات في الوقت الفعلي، يمكن إنشاء التقارير والقياسات الخاصة باستخدام الموارد تلقائياً، مما يوفر الكثير من وقت العمليات ووقت التفاعل. كما أن النمذجة التنبؤية* على كلا النطاقين الجزئي والكلي تضمن أيضاً توازناً أفضل في استخدام الموارد، فضلاً عن تحديد الحالات والمواسم عندما تحتاج المؤسسات إلى زيادة حجمها ومواردها. ومع النمذجة التنبؤية المستندة إلى البيانات، يمكن للمؤسسات التخطيط للمستقبل، وضمان حصول مجتمعاتها على رعاية أفضل.

ج- القطاع التعليمي: يعتبر الذكاء الاصطناعي من أهم التكنولوجيات الناشئة التي لها تأثير كبير على المنظومة التعليمية، حيث أعطى التعليم إمكانات هائلة للصالح الاجتماعي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة ويتطلب ذلك إجراءات في السياسة على مستوى النظام وكيفية وضع السياسات لدعم التعليم المعزز بتقنيات الذكاء الاصطناعي. تتيح الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي إمكانية الوصول إلى التعلم لجميع الطلاب في أي وقت وفي أي مكان. ليتعلم كل طالب وفقاً لسرعته الخاصة، ويسهل الوصول على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع على الطلاب استكشاف ما يناسبهم دون انتظار معلم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للطلاب من جميع أنحاء العالم الوصول إلى تعليم عالي الجودة بواسطة الانترنت دون تكبد نفقات السفر والمعيشة. يعد التعليم على المستوى الوطني جزءاً مهماً من تنفيذ الذكاء الاصطناعي.

ويعد تعليم الذكاء الاصطناعي أمراً ضرورياً لتحويل المعرفة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي من المعامل إلى السوق وعامة الناس. يلامس الذكاء الاصطناعي جميع القطاعات في وقت واحد. يجب أن يكون تعليم الذكاء الاصطناعي متاحاً على الصعيد المجتمعي.

ومن عيوب عمل الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم أنه يلغي استخدام الذكاء الاصطناعي الحاجة إلى التدريس وجهاً لوجه، حيث يمكن للمتعلمين اكتساب المعرفة بشكل مستقل عن الزمان والمكان. نتيجة هذا التعلم المستقل هي أن يكتسب التلاميذ المعرفة من المنزل وبالتالي يتم فقد الاتصالات الشخصية والمدرسية، وهو ما يؤدي إلى إهمال الاتصالات والعلاقات الاجتماعية والعزلة وبالتالي غياب الشعور الجمعي والتضامن في أوساط المجتمع على المدى البعيد مما يفقد الإنسان إنسانيته باعتباره كائناً اجتماعياً.

د- القطاع الإعلامي: وفي مجال وسائل الإعلام نجد أن بعض الصحف تستفيد من الخبرات الفنية وستستمر في الاستفادة منها. فعلى سبيل المثال، تستخدم Bloomberg تقنية Cyborg لتحليل القصص المالية الصعبة بسرعة. تستخدم وكالة أسوشيتد برس المهارات اللغوية آلياً لتجميع 3700 تقرير إيرادات سنوية - ما يقرب من أربعة أضعاف ما كان عليه مؤخراً. وفي حال أردنا أن نتعمق أكثر في عالم المهام والتطبيقات التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي في الإعلام سنجد الكثير والكثير منها. ومن أبرز تلك التطبيقات:

- إمكانية التعلم الآلي: يمكن للآلات التي تحتوي على تقنية الذكاء الاصطناعي أن تتعلم بشكل تلقائي وسريع. مما يسمح لها بأن تقوم بتنفيذ المهام المختلفة بشكل أسرع وأسهل مرة بعد مرة.

- الوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها: بفضل ميزات هذه التقنية الرائعة، يمكن للإعلاميين أن يقوموا بزيارة أماكن لا يمكنهم أن يقوموا بزيارتها بأنفسهم. على سبيل المثال، يمكن للأجهزة الذكية أن تمكنك من زيارة الأماكن الخطيرة وميادين الحروب لتغطية الأخبار هناك بسهولة.

- إمكانية توليد ومعالجة اللغة الطبيعية (الحية): بفضل التطورات الكبيرة التي شهدها حقل الذكاء الاصطناعي في الآليات، يمكن لهذه الآليات أن تقوم بتوليد نصوص مشابهة بشكل كبير للنصوص التي نقوم نحن كبشر بكتابتها. فضلاً عن ذلك، يمكن لهذه الآليات أيضاً أن تقوم بقراءة وفهم المحتوى المكتوب من قبل البشر بسهولة.

- القدرة على التلخيص التلقائي: باستخدام هذه الميزة، يمكن للآليات التي تحتوي على قدرات الذكاء الاصطناعي أن تقوم بتلخيص الأفكار المفتاحية المهمة من بين مجموعة كبيرة من المعلومات والبيانات بسهولة.

- تنقيب البيانات واستخراجها وتدقيقها: بفضل التقنيات الحديثة، يمكن للأجهزة المدعمة بميزة الذكاء الاصطناعي أن تقوم بالتنقيب عن المعلومات والبيانات واستخراجها بسرعة كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الآلات أن تقوم بتدقيق مراجع هذه المعلومات وتدقيقها لغوياً ونحوياً أيضاً.

تعتبر تقنية الذكاء الاصطناعي كغيرها من التقنيات الأخرى سلاحاً ذو حدين. فعلى الرغم من الإيجابيات الكثيرة والتسهيلات الكبيرة التي يمكن أن تقدمها هذه التقنية في مجال الإعلام، لا يمكننا أن نقول بأنها تعتبر تقنية مثالية وخالية من الأخطاء. ولكن الأمر الأكيد هو أن تقنية الذكاء الاصطناعي وعملية استخدامها في مجال الإعلام لا تزال في مرحلة تطور مستمر. ونحن نطمح إلى مستقبل نتمكن في الآليات الذكية من مساعدة البشر في هذا المجال لفتح آفاق ورؤى.

وأخيراً وليس آخراً، نجد أن الذكاء الاصطناعي يعمل في خدمة الزبائن على تغيير طريقة عملنا بشكل أساسي في العديد من الصناعات المختلفة. حيث شكلت خدمة العملاء جزءاً من هذه القطاعات لسنوات عديدة، حيث كانت في البيع بالتجزئة أو التمويل أو التصنيع أو القانون. يعتقد الخبراء أنه في السنوات القادمة، قد نصل إلى نقطة سيكون من المستحيل فيها التمييز بين العامل البشري وعامل الذكاء الاصطناعي. وقد أصبحت الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي مثل CommBox معياراً لإدارة مركز الاتصال حيث تتطلع الشركات إلى تبسيط العمليات. إنها تتيح للبشر أن يتم دعمهم بالتكنولوجيا بطريقة فعالة من حيث التكلفة تعزز أفضل تجربة ممكنة للعملاء. أدى الاستثمار المتزايد من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل Google و Microsoft و Facebook في هذا المجال إلى تسريع ثورة خدمة العملاء.

كما أظهرت التطبيقات المبكرة للذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء قدرتها على تقليل التكاليف، وتحسين الاحتفاظ بالموظفين وولائهم، وزيادة الإيرادات وزيادة رضا العملاء. بالنظر إلى كل هذه الفوائد المذهلة، يبدو أن الاعتماد الكامل للتكنولوجيا على مستوى الصناعة أمر لا مفر منه تقريباً. ويجب أن نعترف ونقر أن قطاع خدمة العملاء يمر بفترة تغيير متسارع نحو الأفضل بفضل الذكاء الاصطناعي.

هـ - قطاع التجارة الإلكترونية: نجد أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية علاقة وثيقة جداً، لأن مجال التجارة الإلكترونية أصبح اليوم ينمو بسرعة قياسية يوماً بعد يوم وتزايدت تحدياته مع تطور البرمجيات والمواقع الإلكترونية وتعدد التقنيات المتداخلة في عمليات البيع والشراء أونلاين والدفع الإلكتروني، وذلك من خلال التنبؤ بسلوك المستخدم ليمنحك ملف شامل عن السلوك الشرائي للعميل ليقدم لك توقعات على أسس علمية، للمنتجات التي يهتم بها العميل بناءً على الاطلاع على تاريخه الشرائي السابق وتاريخ تصفحه وأكثر ما يبحث عنه بفضل ملفات تعريف الارتباط كوكيز cookies من أجل تطبيق إعادة الاستهداف.

بالإضافة إلى ميزة جمع وتحليل البيانات تلقائياً حيث تعتبر من أهم النقاط في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية هي الاستفادة في التسويق الإلكتروني من خلال إتاحة جمع بيانات عملائك المُحتملين وجمهورك المستهدف، لبناء حملات إعلانية ناجحة لاحقاً، فتطبيقات الحملات الإعلانية سواء على فيس بوك أو إنستغرام أو جوجل تتعلم من الحملات الإعلانية السابقة وتحاول سد الثغرات والأخطاء التي حصلت وتدارك النقائص وتغيير استراتيجية الحملة وفهم أفضل للجمهور المستهدف وتحديث البيانات تلقائياً.

3- آثار ومخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية: صحيح أن للذكاء الاصطناعي فوائد جمّة وأهمية بالغة في الحياة البشرية لا يمكن لنا إنكارها، فهو يساهم في تحسين وتطوير المجالات الحياتية كافة وذلك من خلال تطوير الأنظمة الحاسوبية، لتعمل بكفاءة فائقة تشبه كفاءة الإنسان الخبير، وفي المحافظة على الخبرات البشرية المتراكمة بنقلها إلى الآلات الذكية، كما يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في كثير من الميادين الحساسة مثل: المساعدة في تشخيص الأمراض ووصف الأدوية، والاستشارات القانونية والمهنية، والتعليم التفاعلي، والمجالات الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى المجالات الحياتية الأخرى التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسياً فيها، ناهيك عن تخفف الآلات الذكية عن الإنسان الكثير من المخاطر والضغوطات النفسية، وتجعله يركز على أشياء أكثر أهمية وأكثر إنسانية، وذلك بتوظيف الآلات للقيام بالأعمال الشاقة والخطرة، والمشاركة في عمليات الإنقاذ في أثناء الكوارث الطبيعية، كما وسيكون لهذه الآلات دور فعال في الميادين التي تتضمن تفاصيل كثيرة تتسم بالتعقيد، والتي تحتاج الى تركيز عقلي متعب وحضور ذهني متواصل وقرارات حساسة وسريعة لا تحتمل التأخير أو الخطأ. وفي ميدان البحوث العلمية قد يكون الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على إجراء تلك البحوث، حيث يسهل الوصول إلى مزيد من الاكتشافات، وبالتالي يعد عاملاً مهماً في زيادة تسارع النمو والتطور في الميادين العلمية كافة. لكن هذا الأمر لا يعفي الذكاء الاصطناعي من وجود مجموعة من المخاطر بالغة الخطورة على مستقبل السلوك الإنساني جراء الاستخدام المتزايد لمفرزاته في شتى مجالات الحياة.

في حقيقة الأمر باتت تقنيات الذكاء الاصطناعي تؤثر على حياتنا أكثر من أي وقت مضى، وربما تتدخل فيها أيضاً، ولذا يرى فريق من الخبراء أن الوقت قد حان لأن يتدخل مفكرو علم الاجتماع وعلم الأخلاق وفلاسفته لضبط هذا الأمر.

يمثل الذكاء الاصطناعي أحد أهم وأخطر إفرازات الثورة التكنولوجية المعاصرة في العصر الرقمي نتيجةً لما انبثق عنها من تطبيقات ذكية أثرت على مختلف مناحي الحياة، وأسهمت في خدمة البشرية والارتقاء بها، من خلال علم هندسة الآلات الذكية التي تقوم على إنشاء أجهزة وبرامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، والتي مكنت الذكاء الاصطناعي من تقديم نسخة إلكترونية مشابهة للإنسان ولديها القدرة على التعلم باكتساب المعلومات والقدرة على تحليل البيانات والمعلومات والقدرة على إيجاد العلاقات، وبالتالي يكون لديها القدرة على اتخاذ القرار السليم لإظهار ردود الفعل المناسبة للمواقف التي تتعرض لها الآلة الإلكترونية، واستغلالها في تحقيق المهمة التي تُكلف بها. إلا أن لهذه الطفرة النوعية في تاريخ البشرية جمعاء مجموعة من الآثار والمخاطر، أهمها ما يلي:

أ- انتهاك الخصوصية: تعتبر الخصوصية حق من حقوق الإنسان، فخرق الخصوصية للفرد والمجتمع، باستغلال قدرات الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسبب ضرراً شخصياً واجتماعياً دون وعي لحجم الكارثة التي تحيط بنا. ففي معظم الأوقات نكشف عن غير قصد عن بياناتنا الخاصة مثل العمر، والموقع، والتفضيلات وما إلى ذلك. وتقوم شركات التتبع بجمع هذه البيانات، وتحليلها ثم توظيفها لتخصيص تجربتنا عبر الإنترنت، كما يمكن لشركات التتبع بيع بياناتنا الخاصة إلى مؤسسات وكيانات أخرى دون علمنا أو موافقتنا، حيث بات من السهل جداً معرفة جميع اهتمامات وأنشطة المستخدمين من محادثاتهم أثناء الجلوس في المنزل، أو البحث عن منتج لزيارة مطعم وما شابه ذلك. وإلى جانب هذا الكشف اللا واعي عن البيانات الشخصية، هناك نوع من البيانات التي نقوم بتحميلها بأنفسنا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتم نقل هذه البيانات إلى أجهزة الحواسيب السحابية التي عززت بشكلٍ كبيرٍ احتمال تتبع هذه المعلومات الشخصية ومعالجتها، ثم بيعها للذي يدفع أكثر.

كما يمكن للتقنيات الجديدة، مثل بصمة الوجه التعرف على جميع الأشخاص في التجمعات الكبير، وجمع البيانات من الذكاء الاصطناعي حيث تستطيع معرفة أنشطتك اليومية وميولك النفسية والاجتماعية والسياسية من خلال تصفح مواقع الويب على الانترنت. وفي سياق متصل، تعمل الصين حالياً على تطوير نظام ائتمان اجتماعي يجبر الذكاء الاصطناعي على منح جميع المواطنين الصينيين نقاطاً بناءً على سلوكهم. قد يكون ذلك من خلال: عدم دفع القروض، أو الوقوف في أماكن غير مصرح بها، أو التدخين في أماكن لغير المدخنين، أو اللعب بصوت عالٍ في القطارات، وما إلى ذلك، أو في وسائل النقل، أو المعايير الاجتماعية.

ب- تطوير أسلحة مستقلة: تعتبر الأسلحة المستقلة أو الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل، المعروفة باسم " الروبوتات القاتلة"، هي الثورة الثالثة في مجال الحروب بعد البارود والأسلحة النووية. فالتطور الذي حدث، بدايةً من الألغام الأرضية وصولاً إلى الصواريخ الموجهة عبر الأقمار الصناعية، كان مجرد مقدمة لاستقلال حقيقي لمجال الذكاء الاصطناعي، وإدماجه في عمليات القتل من خلال البحث عن أشخاص معينين، واتخاذ قرارات بالاشتباك معهم، ثم القضاء عليهم تماماً دون أدنى تدخل بشري. وهذه الأسلحة عبارة عن روبوتات عسكرية وطائرات بدون طيار (طائرات الدرون) يمكنها دراسة الأهداف وتنفيذ مهامها بشكل مستقل وفقاً لتعليمات مبرمجة مسبقاً. كما تسعى جميع الدول المتقدمة تقنياً في العالم إلى تطوير تلك الروبوتات لاستخدامها في حروبها ومنازعاتها السياسية. وتشير الدراسات المستقبلية إلى أن الحروب في السنوات القادمة لن يكون فيها الإنسان العامل الحاسم في حدوثها، بل إن استخدام الأسلحة المستقلة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ماذا يحدث إذا فشل هذا السلاح في التمييز بين الهدف والرجل البريء؟

ج- فقدان الوظائف البشرية: مع نمو وتيرة استخدام الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات، سيتولى بالتأكيد العمل الذي يقوم به العمال والموظفين. ووفقاً لتقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي، من المحتمل أن تفقد قطاعات العمل 800 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030. ومرد ذلك إلى أن الروبوتات لا تحتاج إلى دفع الرواتب أو التأمين الصحي والاجتماعي، لذلك سيحصد أباطرة الذكاء الاصطناعي في العالم كل الأموال، مما يوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

هـ - إرهاب الذكاء الاصطناعي (أسلحة ذاتية، وجريمة سيبرانية، وتحويل المعلومات إلى أسلحة): ينحصر في احتمالات التسبب في أضرار غير متعمدة للمدنيين، حيث يمكن للطائرات بدون طيار المستخدمة في الهجمات المميتة والمركبات المستقلة إطلاق القنابل أو الطلقات التي يمكنها اكتشاف الحركة دون تدخل بشري. وتُعد طائرة التشغيل الذاتي (بدون طيار)، أحد الأسلحة ذاتية التشغيل التي بُرمِجت للطيران إلى منطقة معينة للبحث عن أهداف محددة، ومن ثم تدميرها باستخدام رأس حربي شديد الانفجار عن طريق خاصية تسمى أطلق وانس Fire & Forget، حيث يمكن لسرب من الطائرات المسيرة بحجم الطيور البحث عن شخص معين وقتله، بإطلاق كمية صغيرة من الديناميت نحو جمجمته، ولأن هذه الطائرات صغيرة جداً، وتتمتع بخفة وذكاء، فلا يمكن القبض عليها أو إيقافها أو تدميرها بسهولة. كما أن المشكلة الأعمق التي نواجهها اليوم هي قدرة الهواة المتمرسين على صناعة هذه الطائرات بسهولة، وبتكلفة أقل من ألف دولار، وذلك لأن جميع أجزاء الطائرة أصبحت الآن متاحة للشراء عبر الإنترنت، وباتت التقنيات ذات المصادر المفتوحة متاحة للتحميل. كانت تلك نتيجة غير مقصودة بعد أن أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات أسهل وأرخص. تخيل معنا أن يصبح لدينا قاتل سياسي تكلفته أقل ألف دولار بالمتوسط. ما نتحدث عنه ليس خطراً مستبعداً قد يحدث في المستقبل، وإنما هو في حقيقة الأمر خطر واضح يهددنا استقرارنا في الوقت الحالي.

و- احتمالية تحليل البيانات بشكل خاطئ: كما نعلم أن للذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في تحليل البيانات، ويعود الفضل في ذلك إلى تعلّم الأجهزة الإلكترونية إلى بعض برامج التدريب التي طُورت لكي تُعلم تلك الأجهزة كيف تكتشف نمطاً معيناً وسط مجموعة ضخمة من البيانات. لكن عندما يتعلم الجهاز إنجاز تلك المهمة، فإنه يوضع قيد العمل لتحليل مزيد من البيانات الجديدة التي لم يعمل عليها قبل ذلك. وعندما يعطينا الكمبيوتر إجابة معينة، فلن نكون قادرين في العادة على معرفة كيفية وصوله إلى تلك الإجابة أو الاستنتاج على وجه التحديد. وهنا تظهر بعض المشكلات الجلية. إذ تقاس جودة أي جهاز أو نظام الكتروني بجودة البيانات التي تقدم له ليتعلم منها. لكن هناك تجربة مختلفة يمكن أن نتعلم منها درساً مهماً. فقد كان هناك نظام إلكتروني في أحد المستشفيات يعمل بشكل آلي بهدف تحديد المرضى المصابين بمرض الالتهاب الرئوي ليعرف مَنْ منهم في حالة خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة، حتى يتم إدخاله إلى المستشفى بصورة عاجلة. لكن ذلك النظام الآلي جاء بنتيجة مختلفة تماماً، إذ صنف المصابين بمرض الربو على أنهم أقل عرضة للموت، ولا يحتاجون لتلقي العلاج بصورة عاجلة في المستشفى. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه في المواقف العادية، ينقل المصابون بمرض الالتهاب الرئوي ويُعرف من التاريخ المرضي أنهم يعانون أيضاً من الربو مباشرةً إلى قسم العناية المركزة. وبذلك يحصلون على العلاج الذي يقلل بشكل كبير من مخاطر الوفاة. لكن الجهاز استنتج من ذلك أن المصابين بالربو ويعانون في نفس الوقت من الالتهاب الرئوي هم أشخاص أقل عرضة للموت.

وبما أن أجهزة الذكاء الاصطناعي تُصمم لتقييم أمور كثيرة في حياتنا، بداية من تصنيفك الائتماني، إلى جدارتك لشغل وظيفة ما، وحتى احتمالات عودة بعض المجرمين لارتكاب جرائم معينة، فإن مخاطر وقوع هذه الأجهزة في خطأ في بعض الأحيان ودون علمنا بذلك، يزيد الوضع سوءاً. ونظراً لأن الكثير من المعطيات التي نغذي بها أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست كاملة أو شاملة، لا ينبغي علينا أن نتوقع منها إجابات أو استنتاجات مثالية في جميع الأوقات.

فإدراك هذه الحقيقة يمثل الخطوة الأولى في التعامل مع مثل هذه الأخطار. وكذلك ينبغي لعمليات اتخاذ القرار التي تستند إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي أن تكون أكثر تدقيقاً وأكثر حرصاً. وبما أننا نصنع منظومات الذكاء الاصطناعي لتكون نسخة أخرى منّا نحن، فمن المرجح أن تكون مثلنا تماماً، بارعة وبها بعض العيوب أيضاً.

- خلاصة القول، يشهد العالم طفرات وثورات تقنية في العديد من المجالات بمساعدة الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى فهم أفضل لكيفية تطور الذكاء الاصطناعي، لأن هذه التقنيات لها تأثير عميق على الفرد والمجتمع ومخاطرها لا تقل أهمية عن فوائدها. وهذا يعني أن عملية سيطرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على كافة القطاع سيكون لها تأثير كبير على العالم بشكل لا مثيل له. لذا يجب علينا مناقشة المبادئ والمشكلات المتضاربة والحلول الحقيقية ومقدار الوضوح المطلوب في حلول الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. كما تؤثر اختيارات الأشخاص حول حزمة البرامج على عملية اتخاذ القرار ودمجها في المنظمة ككل. لذلك، فهناك حاجة ماسة إلى فهم جيد للطريقة الصحيحة لتنفيذ هذه الإجراءات، لأنها ليست بعيدة ولكنها ستؤثر قريباً على عامة الناس.

وفي النهاية، نعتقد أن السلبيات الكارثية الناتجة عن سوء استخدام وتوظيف الذكاء الصناعي يُلقى على عاتق البشر بالمقام الأول، وبالأخص مع غياب الحامل الأخلاقي إذا تم استخدامها بطرق غير شرعية لتحقيق مكاسب مادية دنيئة، فسلب حياة الإنسان وحريته وخصوصيته هو أمر بغيض ومرفوض أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً، مما يضع مستقبل البشرية مع الثورة الهائلة للذكاء الاصطناعي موضع تساؤل؟!

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.......................

- المراجع المعتمدة:

محرم صالح الحداد ومحمد إبراهيم محمد: الثورة الصناعية الرابعة (الذكاء الاصطناعي – التحول الرقمي) تحديات وفرص الاستحواذ على القوة الرقمية الجديدة، معهد التخطيط القومي، القاهرة، ط1، 2021.

ربحي مصطفى عليان وإيمان السامرائي: تسويق المعلومات وخدمات المعلومات، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 2015.

مجموعة مؤلفين: الإنسان في مهب التقنية (من الإنسان إلى ما بعده)، ترجمة: محمد أسليم، فاس، ط1، 2019.

عبد الرؤوف محمد إسماعيل: تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي " وتطبيقاته في التعليم "، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2017.

عادل عبد النور: مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، الرياض (السعودية)، ط1، 2005.

أشرف شهاب: الذكاء الاصطناعي ( يهاجم الذكاء الاصطناعي!)، مجلة الأهرام، القاهرة، العدد: 213، سبتمبر 2018.

آلان بونيه: الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله، ترجمة: علي صبري فرغلي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد:172، إبريل- نيسان 1993.

وفاء ضيف الله العبدالالت: أثر تنوع الموارد البشرية على الذكاء الاصطناعي، المجلة العربية للنشر العلمي، عمان، العدد: 24، الإصدار:2 – تشرين الأول 2020.

إبراهيم محمد حسن عجام: الذكاء الاصطناعي وانعكاساته على المنظمات عالية الأداء - دراسة استطلاعية في وزارة العلوم والتكنولوجيا، مجلة الإدارة والاقتصاد، العراق، السنة:41، العدد: 115، 2018.

ساعد ساعد: العلاقات العامة في عصر الذكاء الصناعي التحولات والاستخدامات، مجلة الرسالة للدراسات الإعلامية، الجزائر، المجلد:4، العدد:2، 2020.

منظمة اليونسكو: الذكاء الاصطناعي: بين الأسطورة والواقع، 3/ 2018.

https://ar.unesco.org/courier/2018-3/ldhk-lstny-byn-stwr-wlwq

د. حسام الدين فياض

آلان ماتيسون تورينج (23 حزيران/ يونيو 1912 – 7 حزيران/ يونيو 1954) كان عالم رياضيات وحاسوب وعالم منطق إنكليزي فضلاً عن كونه محلّل شفراتٍ وفيلسوف وعالم أحياء رياضي. كان تورينج مؤثراً بشكل كبير في تطوير علم الحاسوب النظري، حيث قدم صياغة رسمية لمفهومي الخوارزمية والحوسبة باستخدام آلة تورينج، والتي يمكن اعتبارها من ببين النماذج الأولى للحواسيب مثلما هي عليه اليوم. يُنظر إلى تورينج على نطاق واسع على أنه " أبو علوم الكمبيوتر النظرية والذكاء الاصطناعي ".

* الثورة الصناعية الرابعة (Industrial Revolution 4.0): تعرف بالاختصار الإنكليزي (4IR) ويقصد بها الموجة الصناعية الجديدة التي تستند علة الصناعة في طورها الرابع من حيث استخدامها للتقنية، لاسيما التكنولوجيا الحديثة في مجالات جديدة مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد وانترنت الأشياء وغيرها، واستخدام هذه التكنولوجيا في الحياة اليومية. بدأت الثورة الصناعية الرابعة لأول مرة عام 2011 من قبل الحكومة الألمانية التي ذكرت المصطلح " الصناعة في طورها الرابع " ضمن خطتها، واستخدم على نطاق دولي من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2016.

* النمذجة التنبؤية: هي عملية استخدام النتائج المعروفة لإنشاء ومعالجة والتحقق من صحة نموذج يمكن استخدامه للتنبؤ بالنتائج المستقبلية. إنها أداة تستخدم في التحليلات التنبؤية، وهي تقنية لاستخراج البيانات تحاول الإجابة على السؤال " ما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل " ؟

ما نتعلمه من التحليل النفسي

نتعلم من التحليل النفسي الكثير من مداخل النفس وما يدور بين ثناياها، هي فينا ولكن لا ندركها، تُعرض في حياتنا اليومية، ولا نعرفها، ولا نعرف قصدها، والانكى من ذلك تواجهنا كل يوم بشتى المظاهر في تعاملنا، كل يوم تداهمنا بفكرة نحاول قمعها بإرادتنا، ننجح أحيانًا ونحن بكامل وعينا، وأحيانًا نفشل فَتكبتْ  ولكنها لا تغادرنا تعود كسلوك يومي محور في أحيان كثيرة، نتضايق منها نحاول التحايل عليها لكنها تؤرقنا ليس في الوعي فحسب، بل في المنام، تقض المضجع ليلًا، يكون الحلم هو الملطف لتلك الأجواء العاصفه، وكما يقول سيجموند فرويد الحلم حارس النوم، يبحث معنا عن السبب في كل تلك التآوهات المحبوسة بإرادتنا ولكننا ذهبنا بها بعيدًا إلى تلك القارة المجهولة غير المكتشفة، وهي قارة النفس وما أحتوت من دهاليز وغارات وجبال وسهول ووديان، نتساءل في الكثير من الأحيان هل هذه الفكرة، أو هذه الأخيولة هي حقًا تحقيق مقنع عن رغبة مكبوتة؟؟!! ويكثر التساؤل الخفي، يستحي البعض منا عن نوايا عمقه، وحقيقته، هل هي رغبات متوحشة، "أمنيات" فظيعة، هل النفس بهذا الإغواء غدرت بالعقل، وذهب الدماغ إلى خزنها في عالم اللاشعور" اللاوعي" خجلًا من الذات لكي لا تنشطر بين القبول والرفض؟ هناك أسئلة لا إجابات لها!!

أنها أفكار تدور في مخيلتنا، ربما تضايقنا وتخنقنا في حالة الوعي، ونهرب من مواجهتها ولا ندري إلى أين ذهبت، وأين غاصت في أعماقنا ونكاد ننساها، ولكنها تعود إلينا حتمًا.. حتمًا بشكل آخر محور لا كما خزنت، أو كما رغبنا رغم أننا لا ندري ما هي أساسًا، لكن لاوعينا يعرف تماما ما هي؟ وما كنهها؟ وماذا تريد .. أنها أمنيات ليست مقبولة حتمًا، ليست مني وليست من الآخرين، ذهبت ونحتت في مكان ما  في نفوسنا نحت حجري، لا.. ربما توقظنا فجأة، أو خاطرة ونحن نقود سيارة "تَعنُ" على حين غفلة، بكلمات ونحن في حالة سعيدة من يومنا المشمس الجميل، أو نحن نسوق في سيارة وتأتي على بالنا أغنية ربما دثرت في ذاكرتنا ونكتشف أن لها دلالة عن تلك الأفكار المخزونة، أو نستقل الباص، أو القطار فتظهر على حين غرة بلا سابق إنذار أو مقدمات للتهيئة لشيء ما سيكون، أو ربما  ونحن في عمق النوم كادت أن تكون رسوم متداخله في أعماقنا، وصور مشوهة لأشخاص متداخلين مع بعضهم البعض، حقًا أنه تركيب مزعج وقلق، يقتحمنا ويجعل الآرق هو السائد في داخلنا، ويحدثنا سيجموند فرويد عن ظواهر نفسية عديدة ومنها فقدان الأشياء، وكذلك في حالة الوعي قوله أن الدوافع البعيدة العميقة التي تستتر وراء النزعة إلى التخلص من الأشياء بفقدها لا يمكن حصرها وتعدادها بسهولة، ونقول متفقين مع فرويد أن أفكارنا في حالة اليقظة والوعي وهي تضايقنا لن تزول حينما نهرب من مواجهتها، أو قمعها، أو التغافل عنها وأغفالها، لابد أنها تعود إلينا حتمًا، لأن كل شيء فينا يخضع للحتمية النفسية، وبما أنه تَكونَ " وخلق" كفكرة، أو خاطرة، لابد من أنها تَعنُ وتعود، مهما هربنا منها، حتى وإن واجهناها، يا الله أنها تدور في داخلنا وأزاء ذلك يقول سيجموند فرويد في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، وقوله وإذا شئتم أن نعبر عن هذا بعبارة ديناميكية، قلنا إنها تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد، فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما.

نتعلم من التحليل النفسي ما يضيفه لنا "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي ومجدد فكر سيجموند فرويد في رؤيته حينما يربط "الخيالي" بمجالات مقيدة مختصة بالوعي والوعي الذاتي، وهو النظام الأكثر ارتباطًا بما يحس به الناس في واقعهم اليومي الروتيني، حيث يتخيل أحدٌ أشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم، أو من يكونون، يعني من ثم ما "يتخيله" هو عن نفسه عما هي صفاته أو من يكون هو، ذلك عند التواصل والتفاعل، ويندرج من ضمن هذا النظام الزوايا المتُخيلة التي من خلالها ينظر إلى الآخرين وما يتصل بذلك كما ذكره "أدريان جونستون" (في)  لاكان فلسفته الكاملة المنشورة في موسوعة ستانفورد الفلسفية.

يعلمنا التحليل النفسي أيضًا أن اللاشعور "اللاوعي" هو محك أساس في الحياة النفسية للأسوياء، أو غير الأسوياء وهو ما عبر عنه "جاك لاكان" تحت مسمى " Nemo " ويعني به الذات خارج الذات تلك التي ترسم بناء الحلم بجله فهي خارج الأنا أنها في الذات ولكنها ليست بالذات وليست من الذات هي اللاشعور "اللاوعي" كما أوردته نيفين زيور، والقول الحق أن الأهمية الأساسية لجاك لاكان تكمن في أنه أتجه بالتحليل النفسي إلى وجهته الأساسية حيث اللغة والحاجة إلى علم شمولي ينظر إلى الإنسان في إطار من اللغويات والترميز وحقل الرموز عبر سلسلة الدلالات المكونة له، وقول "لاكان" الدال هو الذي يحدد دور الذات ووظيفتها ومكانها بالنسبة للآخرين وقد وضع أهمية هذا الدال في بنية الإنسان كما أورده في مقاله الشهير "الرسالة المسروقة".

يعلمنا التحليل النفسي بثورة فرويد حينما فجر قنبلة دوت في عالم الوجود الإنساني ليس في خارجه" أعني خارج النفس"  بل في داخله " داخل النفس" وسميت آنذاك بسريالية النفس البشرية،" عالم اللاشعور – اللاوعي"  في عالم غريب ليس عالمنا في الواقع المعاش، أنه عالم مشوه، لا يُدرك، ولا يترك، فإن أُدرك تم تفكيك خباياه بفنيات تخصص بها التحليل النفسي وهي التداعي الحر- الطليق، وإن تُرك عبث وحطم حياة الإنسان من داخلها، يبدو أنه بشع، ويقول "بيير داكو" لايبدو أن ثمة شيئًا يطابق الواقع أكثر من هذا، حيث ملأ الخوف نفوس الناس، بعد أن كشف كنه الإنسان ووجده محيط مترامي الأطراف، مجهول، زاخر بالمغاور اللاشعورية "اللاواعية"..  يعلمنا التحليل النفسي أن صراعات طفولتنا وصدماته الانفعالية تستمر في وجودها خفية، مستترة إلى البلوغ، ويرى فرويد أن الإنسان الذي كان يعتقد بأنه يقهر نفسه ويسيطر عليها ويهتدي في الطريق الذي رسمه له الأخ الكبير أصبح فريسة لوعيه، لأن هذا اللاوعي " اللاشعور" يحدد أكثر أفعاله، وتصرفاته، لا بل يقض مضجعه في الوعي وفي حياته اليومية.

يعلمنا التحليل النفسي مدخل ظل مستورًا محرمًا عبر التاريخ منذ الأزل، فتح لنا أبواب المحارم الخفية والمستورة حيث لا يتحدث الناس عنها إلا بصوت خفيض، وفي الظلمة أكثر مما هو في العلن، هو عالم الجنسية الخفي وَحولهُ  إلى عالم العلم والمعرفة، عالم الواقع العلمي، وضعه على سطح التشريح للنفس البشرية فكشف بحر ذي مياه وسخه، متلاطم الامواج،  ويضيف "داكو" إن المهانة التي أصابت غرور البشرية هي شبيهة بتلك التي أصابته عندما تناهى إلى مسمعهم بأن الأرض ليست مركز الكون. ويجادل التحليل النفسي هذا العالم الخفي من الرغبات في النفس البشرية وهي رغبات متناقضة هي قبول ممن يشابهه في الجنس ويدعوه للممارسه  بفعل جنسي، وهي لا تقل عن فكرة البهيمية  وإن كانت البهيمية هي ممارسة الفعل الجنسي مع بعض الحيوانات، لكنها تتفق في التفسير النفسي فهي مرتبطة أحيانًا بالوسواس، أو مقترنة بانحرافات جنسية أخرى كالسادية والمازوخية كما يراها "بيير داكو". وهناك الكثير مما نعيشه وربما نعاني منه،  نعترف بوجوده فينا،  منها وساوسنا، أو مخاوفنا، أو نوبات الاكتئاب النفسية أو حالات الوهن التي تسببها لنا أفكارنا لشدتها وقوتها وتأثيرها في داخلنا، والكثير الكثير من الحالات النفسية "العصابية" ندركها ونعاني منها ونبحث عمن يساعدنا في التخلص منها بطريقة جذرية، وإقتلاعها من اللاشعور"اللاوعي" الذي ترسخت بين شعابه وربما على سطحه، لم تنغرس بالعمق فيكون التحليل النفسي هو العلاج لها.

وللتحليل النفسي مداخل نفسية لا يدركها الإنسان عدة وهي تثبيت بعض المواقف في الطفولة، تترك أثرًا  في البلوغ أو الرشد ونتساءل دائمًا كيف يحدث تثبيت المواقف الطفلية المؤلمة،  أو غير السارة، وكيف نعود إليها ونحو بالغين؟ هي أسئلة نفسية عميقة، ومعرفتها يمكن الاستدلال له حينما يستطيع الفرد أن يمسك بواحد من العمليات النفسية غير المنظورة ولكن وجودها يفرض نفسه وهو اللاشعور "اللاوعي" وسنحاول في المرات القادمة أن ندخل في هذه العوالم الخفية في النفس البشرية  والتي تتميز بلغة خاصة.   

***

د. اسعد الامارة

 

اكتشافُ المعنى الوجودي في العلاقات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين آلِيَّات لُغوية لتحليلِ بُنية التاريخ، ونَقْلِها مِن الإطار الزمني التجريدي إلى المنهج المعرفي التوليدي، لأنَّ الزمن لَيس مَقصودًا لذاته، بَلْ هو جِسْر نَحْو الحقائقِ الشُّعورية، والتفاعلاتِ الرمزية، والثقافةِ الواعية، ومصادرِ المعرفة. والزمنُ - كَجَوْهَرٍ فِكري وجِسْرٍ حياتي - هو التَّجَلِّي الحقيقي لعلاقة الإنسانِ بِنَفْسِه العميقة، والانعكاسُ المنطقي لعناصر المكان التي تتجدَّد في صَيرورة التاريخ، لِتُصبح زمنًا داخلَ الزمن. وهذا التداخلُ ضروري لِجَعْلِ المعنى الوجودي حاضرًا في كِيَانِ الإنسان، وكَينونة المُجتمعِ، وجسدِ التاريخِ، ورُوحِ الحضارة. وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي الحاجزَ الفلسفي بين الذاكرةِ الإبداعيةِ والتجربةِ الواقعيةِ، فإنَّ الآلِيَّات اللغوية هي الوَعْي المركزي الذي يَستعيد الإنسانَ مِن مَتاهة الغِيَاب، ويَمْنَع فَصْلَ هُوِيَّةِ المُجتمع عن ماهيَّة الثقافة. وغِيَابُ الإنسانِ تَغييبٌ لمفهوم الحُرِّية عن الذات والموضوع، لأنَّ الإنسانَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأ، وحياةُ الإنسانِ لا تَنفصل عن مفهوم الحُرِّية وقيمةِ التَّحَرُّر، ومصادرُ المعرفة لا تَنفصل عن شروطها الواقعية وخصائصها الوجودية، وإذا ثَبَتَ الشيءُ ثَبَتَتْ لوازمُه.

2

المعنى الوجوديُّ - فلسفيًّا واجتماعيًّا - هو الطريقُ إلى تأسيس منهج نَقْدِي فَعَّال في حُقول المعرفة، وهذا مِن شأنه عِلاجُ إشكاليَّةِ غُربة الإنسانِ في منظومة المجتمع الاستهلاكية، وحَلُّ مُشكلة التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية، وَسّدُّ الفَجْوَةِ بين واقعيةِ الفِكْر ورمزيةِ اللغة. وإذا صارت حُقُولُ المعرفةِ أحداثًا يومية مُعَاشة يتمُّ التفاعل معها والانفعال بها، فإنَّ فلسفةً عميقةً سَتَظهر في العلاقات الاجتماعية، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً لامُتناهية مِن الدَّلالات النظرية والمُمَارَسَات العملية. وشرعيةُ الفلسفةِ مُستمدة مِن تفاصيل الواقع اليومي، ولَيس مِن تقليد الفلسفات الأُخْرَى، وهذا يدل على أهمية نقل المَعنى الوجودي مِن المُحَاوَلات التأويلية إلى المنهج النَّقْدي، ومِن المنهج النَّقْدِي إلى الرُّؤية الشُّمولية القادرة على تحويل المنظورِ الذهني إلى نظرية واقعية، والماهيَّةِ الثقافية إلى هُوِيَّة وجودية، والكَينونةِ الحياتية إلى سُلطة معرفية، والبناءِ اللغوي إلى بُنية وظيفية.

3

المعنى الوجودي مُرتبط بالأنظمةِ الاجتماعية والظواهرِ الثقافية، وهذا الارتباطُ يُقَدِّم تفسيرات منطقية لرمزية اللغة في الروابط بين عواملِ تَكوين أنسجة المُجتمع وشُروطِ تكريس مصادر المعرفة. والمُجتمعُ كَينونةٌ وُجودية، والمعرفةُ سُلطةٌ نَقْدِيَّة، والتلاحمُ بين المُجتمعِ والمعرفةِ يُولِّد نسقًا زمنيًّا عابرًا لحدود المكان، وقادرًا على تحويلِ دَور الفلسفة مِن رمزية اللغة إلى التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية، مِمَّا يُسَاهِم في إنشاء قاعدة أخلاقية يقوم عليها الفِعْلُ الاجتماعي باعتباره القُوَّةَ الضاربة للعقل الجَمْعي، وأيضًا، تحويل وظيفة التُّرَاثِ مِن الفاعلية التاريخية إلى الفاعلية الحضارية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة الوَعْي الذي يُوازِن بين المِعْيَارِ الأخلاقي وشخصيةِ الفرد الإنسانية، ويَمنع تَحَوُّلَ الإنسانيةِ إلى شَيْءٍ زائد عن الحَاجَة، أوْ سِلْعَةٍ في منظومة العَرْض والطَّلَب. وكُلَّمَا تَكَرَّسَ التَّمَاهي بين العَقْلِ الجَمْعي والآلِيَّاتِ اللغوية الناقدة له، انتشرتْ إفرازاتُ الذاكرةِ الإبداعية في الوَعْي التاريخي والحضاري، كإطارٍ جامع لفلسفةِ الماضي المُنعكِسة على سِيَاقات الواقع الراهن. وتأويلُ الوَعْيِ التاريخي والحضاري لغويًّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا في غاية الأهمية، لأنَّه الضَّمَانة الأكيدة لمنعِ تَحَوُّلِ الشُّعورِ الإنساني إلى أداة ميكانيكية، ومَنْعِ تَحَوُّلِ الإنسانِ إلى آلَةٍ، ومَنْعِ هَيمنة الآلَةِ على الإنسانِ والطبيعة.

4

المعنى الوجودي لَيْسَ شكلًا ثابتًا أوْ بُنيةً مُتَحَجِّرَةً، وإنَّما هو جَسَدٌ سائلٌ يحتاج إلى تجسيد في المنهج النَّقْدِي والعقلِ الجَمْعي، لحمايةِ العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّحَوُّل إلى أوهام تائهة بين الهُوِيَّة والماهيَّة. ومعَ أنَّ الهُوِيَّة والماهيَّة مَحكومتان بِسِيَاقٍ تاريخي ونسقٍ حضاري، إلا أنَّهما حاكمتان على الوسائلِ والغايات، وهذا يَعْني أنَّ لهما تأثيرًا كبيرًا في المَضمونِ الإنساني للظواهر الثقافية، وطريقةِ تكوين المعايير الأخلاقية في البناء الاجتماعي، مِمَّا يُؤَسِّس حالةَ توازن ديناميكي بين النسقِ الفِكري (الحقيقة والمنهج)، والنسقِ الواقعي (النظرية والمُمَارَسَة)، والنسقِ الاجتماعي (المعرفة والمصلحة)، والنسقِ الثقافي (الذات والموضوع)، مِمَّا يُنَقِّي الوقائعَ التاريخية مِن الوَعْي الزائف، ويُطهِّر التُّراثَ مِن التأويل المَصْلَحِي المُغْرِض. وإذا كانت الهُوِيَّةُ لا تَنفصل عن التُّرَاث الرُّوحي والمادي، فإنَّ الماهيَّة لا تنفصل عن الرمزية اللغوية والاجتماعية، وهذا يَعْني استحالةَ اخترال الوجود الإنساني في المُسلَّماتِ الافتراضية، والأحكامِ المُسْبَقَة، والقوالبِ الجاهزة. فالوجودُ الإنساني نهرٌ دائمُ الجَرَيان، ولَيس كُتلةً أسمنتية محصورة في الأُطُرِ الزمنية والحُدودِ المكانية. وكُلُّ وُجودٍ يَشُقُّ مَعْنَاه، كما يَشُقُّ النهرُ مَجْرَاه. وهذا يُولِّد نقدًا مُستمرًّا للتاريخِ، ويَمنعه مِن التَّحَوُّلِ إلى أُسْطُورَةٍ مُتعالية، كما يُولِّد نقدًا مُستمرًّا للحضارة، ويَمنعها مِن التَّحَوُّل إلى أيقونة مُقدَّسة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في العدد 44 من (الفلسفة الآن)، ادّعى بيتر ويليمز في مقال له انه وجد العديد من المغالطات المنطقية في نظرية العالم البريطاني البايولوجي ريتشارد دوكنز. مقاله هذا أثار عدد من الردود المتلاحقة المبيّنة ادناه من الأساتذة البايولوجيين والمختصين وهم كل من ماسيمو بيجليوتش وجوشوا بانتا وكرستين بوسو وباولا كراوس وتروي دكستر وكيري هانسكنخت ونوريس موث.

نظرية التطور الدارونية الجديدة هي النموذج المقبول حاليا في توضيح تاريخ وتنوّع الحياة على الارض. ولكن منذ ان نشر دارون كتابه أصل الأنواع تعرضت النظرية للهجوم من مختلف الجبهات. بعض هذه الانتقادات تم طرحها في الميدان الفلسفي، حيث اتُهمت نظرية التطور بكونها غير متماسكة او متناقضة منطقيا.

ربما أشهر نقد فلسفي لنظرية التطور طرحه كارل بوبر الذي اتّهم الدارونية بالقول "الدارونية ليست نظرية علمية قابلة للاختبار، وانما هي برنامج بحث ميتافيزيقي" (السعي غير المنتهي، 1976). غير ان بوبر تراجع عن نقده بعدما اتضح له ان هناك في نظرية التطور اكثر مما فهمه من الفحص السريع لها: "انا غيّرت رأيي حول المكانة المنطقية والاختبارية لنظرية الاختيار الطبيعي، وانا مسرور لتكون لدي الفرصة للإنكار" (ديالكتيك، 32: 344-346 ).

في عدد المجلة الفلسفية أعلاه، طرح بيتر وليمز قائمة باحدى عشرة مغالطة منطقية يدّعي فيها ان البايولوجي ريتشارد دوكنز Richard Dawkins قد ارتكبها في مختلف كتاباته. فيما يلي سنفحص كل واحدة من هذه المغالطات والتعليق على مدى تبنّيها من جانب دوكنز. المقال لا يعني دفاعا عن دوكنز وانما كتمرين تحفيزي في معالجة الاطار المنطقي لنظرية التطور الحديث ومضامينها الفلسفية الواقعية او المتخيلة.

المغالطات:

1- التناقض الذاتي self-contradiction

وهو ادّعاء الشيء ونفي الادّعاء ذاته. يقتبس وليمز من رسالة مفتوحة لدوكنز الى ابنته، ينصحها فيها للتفكير بنفسها، وان تقرر ما اذا كان الادّعاء تمّ بناءً على الدليل او السلطة، وان تسأل عن دليل متى ما ادّعى شخص ما معرفته بالحقيقة. المشكلة هي ان دوكنز يخلط بين الدليل والدليل التجريبي، هو يبدو انه استنتج ان دوكنز ايضا يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية. اذا كان موقف المعرفة العلمية ذاته ليس مرتكزا على الدليل التجريبي، يتبع ذلك ان دوكنز يناقض ذاته باقتراح خطة عمل لبنته لم تُسند بالطرق المقترحة من جانب دوكنز.

من الملاحظ ان وليمز بالغ كثيرا في أهمية نصيحة دوكنز. يبدأ دوكنز باقتراح خطة عمل معقولة لبنته اذا ارادت تقييم ادّعاء شخص ما بالحقيقة، هو لا يقول ان نصيحته علمية، ولا انه يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية.

وحول ما يُعتبر دليلا، يعرّف قاموس التراث الامريكي المعرفة العلمية بـ: "الحقائق المتوفرة، الظروف، وغيرها، التي تشير الى ما اذا كان الشيء حقيقيا وسليما ام لا ". من هذا المنظور، معظم الدليل هو في الحقيقة تجريبي. الاستثناء الوحيد سيكون التفكير المنطقي اوالرياضي، رغم ان معظم الناس لا يعتقدون بهذا كـ "دليل" بقدر ما هو "سبب" لتفضيل استنتاج معين.

 اخيرا، الدليل التجريبي (وهو ليس بالضرورة علميا) لإدّعاء دوكنز يمكن توفيره: المرء يحتاج فقط لمقارنة عدد القرارات الناجحة التي يتخذها الناس حول امورهم المالية مثلا على اساس قراءة أبراجهم مقابل اتّباع نصيحة الخبير المالي (اذا كانت نصيحة الاخير مدعومة بالدليل التجريبي على آداء مختلف المحفظات المالية).

2- المصادرة على المطلوب Begging the question

وهي استعمال الاستنتاج من حجة معينة كأحد المقدمات المُستخدمة لتأسيس ذلك الاستنتاج، أي ان المقدمة تفترض صحة الاستنتاج بدلا من دعمه. المشكلة هنا هي ان دوكنز يفترض توضيحا طبيعيا ومتدرجا لتنوّع الحياة على الارض. هو يدّعي ان هذا يجب ان يكون صحيحا للمرء بدون مغادرة كرسيه (تبرير فلسفي وليس علمي)، لأن أي من التوضيحات الاخرى يمكن استبعادها كون الافتراض الاساسي (المبدأ الاول) لايمكن ان يأتي من أي افتراض آخر. يستنتج وليمز ان دوكنز اتخذ هذا الموقف الفلسفي (الغير علمي) لأنه يريد استبعاد المصمم الذكي القبلي.

في الحقيقة، ما كان يجب لدوكنز القول ان المرء يستطيع ان يرى حقيقة التطور الداروني بدون مغادرة كرسيه. البايولوجيا التطورية هي علم تجريبي، وهي فقط لأننا بعد اكثر من قرن ونصف من التحقيق استنتجنا انها احسن التوضيحات المتوفرة لتاريخ الحياة على الارض. لكن هناك تمييزات حاسمة فشل وليمز في عملها: 1- التدرج الداروني هو فقط واحد من مجموعة واسعة من التوضيحات الطبيعية للتطور(اخرى تتضمن لاماركية، وorthogenesis، وsaltationism)(1). وبينما هو في الحقيقة التفسير المقبول حاليا على نطاق واسع من جانب العلماء، لكن من الخطأ اعتباره اللعبة الوحيدة في المدينة بسبب مقبوليته) كل من دوكنز ووليمز يجب ان يأخذا بالاعتبار اهمية التمييز بين الطبيعية الفلسفية والطبيعية المنهجية.(2) الطبيعية الفلسفية هي الموقف بان كل ما هو واقعي هو طبيعي، لا مكان هناك لما فوق الطبيعة . ولكن ما يتبنّاه كل العلماء هو الطبيعية المنهجية، الموقف العملي بان احسن طريقة للعثور على توضيح قابل للاختبار للظاهرة هو ان نفترض بان القوانين الطبيعية فقط هي التي تعمل. وبينما اصحاب نظرية الخلق يولون اهمية كبيرة لهذا "التحيز" المزعوم، في الحقيقة كل واحد منا يتصرف كطبيعي منهجي في معظم الأوقات. نحن نرغب المراهنة على ان سيارة ويلمز لو تعطلت في المرة القادمة هو سوف لن يذهب للكنيسة ويطلب من القس اصلاحها، بدلا من ذلك هو سوف يأخذها الى الميكانيكي، يبحث عن حل طبيعي للمشكلة. وحتى لو لم يجد الميكانيكي أي علاج، فان وليمز سوف لن يلجأ الى الله، ولكن سوف يتخلى عن السيارة مفترضا ان الحقائق هي ببساطة غير كافية للعثور على العلاج الطبيعي الصحيح، وانه من الأفضل استعمال وسيلة اخرى للنقل.

3- المأزق الكاذب The false Dilemma

خياران اثنان فقط يُطرحان عندما تكون هناك خيارات ممكنة اخرى . يقتبس وليمز من دوكنز قوله ان تفسير وليم بالي الخارق للطبيعة في تعقيدية الحياة وخيار دارون الطبيعي هما يمكن ان يحدثا في وقت واحد دون اعتماد احدهما على الاخر. وليمز يقتبس من ميكائيل بول Michael pool في توضيح الاختلاف بين التوضيحات بالنسبة لوكالة وتلك المتعلقة بالآليات. لايجب ان يكون الاثنان متناقضين طالما ان وكيل معين (لنقل الله) يمكنه استعمال آلية معينة (لنقل اختيار طبيعي) لتحقيق أي هدف يريده.

نحن نرى مشكلتين في موقف وليم: الاولى انه يراوغ حول بالي. بالي لم يكن يتحدث حول الله فقط كوكيل يقرر التعقيدية البايولوجية، هو اعتقد في الله ايضا كونه آلية. وبكلمة اخرى، من المفارقة التاريخية ان نرى بالي كتطوري مؤمن طالما هو كان يدافع عن العقيدة المسيحية التقليدية بان الله خلق الانسان وكل شيء اخر مباشرة، وليس من خلال فعل القوانين الطبيعية. ثانيا، بينما على المستوى الاكثر عمومية بول هو صحيح في ان الوكالة والآلية ليستا معتمدتين على بعضهما بالضرورة، لكن فكرة"الله فعل ذلك" ببساطة لاترقى الى مستوى التوضيح العلمي (او، في الحقيقة، كأي نوع من التوضيح)، لأنها لاتضيف أي شيء للمخطط التوضيحي.

4- مغالطة المراوغة The fallacy of Equivocation

المراوغة هي كلمة تُستعمل في سياقين مختلفين ويُفترض ان يكون لها نفس المعنى في كلا السياقين، بينما يتم تفضيل معنى معين. وليمز هنا يرى دوكنز غيّر معنى كلمة "تصميم"، صاغها لتوضيح لماذا ظهور التصميم في الكائنات البايولوجية هو فقط ذلك الظهور. يقول دوكنز ان هناك اشياء طبيعية كأنها في الظاهر نتيجة تصميم، مثلا صخرة معينة تبدو على شكل وجه الرئيس الامريكي. هو يدّعي ان هذا نفس نوع الظاهرة التي تغري الناس للاعتقاد ان عين الفقريات مصممة. المشكلة هي ان النوع الاول من "التصميم" هو واضح (أي، الناس مباشرة يدركون ان الوجه لم يكن منحوتا)، بينما الثاني اكثر دقة ووليم يدّعي انها لذلك تعود لصنف مختلف.

يرى البعض ان وليم كان صائبا جزئيا هنا: دوكنز اختار فعلا مثالا سيئا ولأسباب خاطئة جوهريا. التشابه بين النتوء الصخري ووجه الانسان هو نتيجة سبب عشوائي بالكامل (اشكال الرياح، استمرارية الصخرة وغيرها)، بينما الكائنات البايولوجية هي محصلة لعمليتين اثنين: تغيير في الـ DNA (الذي هو عشوائي) والاختيار الطبيعي (الذي هو كل شيء الاّ عشوائي). هذا يفسر لماذا دوكنز كان غير قادر على التعامل مع المشكلة. غير ان النقطة الاساسية لدى دوكنز يمكن انقاذها عبر استعمال مقارنة أفضل. هناك عمليات طبيعية غير بايولوجية تعطي انطباع المصمم الذكي وتزودنا بموازي اكثر قربا الى التطور. فمثلا، في العديد من السواحل الصخرية هناك حصى مرتبة حسب الحجم تشغل حيزا بدءاً من خط الماء باتجاه الداخل بشكل غير عشوائي تماما. هذا ليس بسبب ان شخصا ما جمع كل الحصى من المحيط ووزنها بعناية وبنى الساحل. بل ان الشكل خُلق بفعل عمل مشترك لعمليتين اثنين: الفعل (العشوائي) للامواج وتأثير الجاذبية (غير العشوائي).

5- اللاتتابع The Non Sequitur

هو تعليق او ادّعاء لا ينطلق منطقيا مما قيل سلفا، بل يُعرض كما لو كان كذلك.

وليمز هنا يترك الساحة تماما لإقتباس من ستيفن بار الذي يتّهم دوكنز بمحاولة الدفاع عن العلم ضد ادّعاءات كونه "كئيب" و"جاف"، بينما لايعترف بان "الجمهور" يثير تلك المعارضات لـ الإلحاد، وليس للعلم ذاته. ظاهرا، يبدو دوكنز انه لا يرى الاختلاف بين العلم والالحاد.

من الصعب فهم بالضبط ماهي التهمة هنا، وخصوصا لماذا هذا سيكون مثالا لعدم التتابع. نحن نأخذ هدف وليمز المقصود من النقد هو الانتقال من اكتشافات العلوم الى الموقف الفلسفي من الالحاد. دوكنز يعلن احيانا ان إلحاده تعزز بالفهم العلمي للعالم: كلما اكتشف العلم الكثير عن الطبيعة كلما قلّت مساحة التدخل الماورائي المباشر. الان، اذا كان دوكنز يعني بالالحاد ما تضمّنه التطور منطقيا، عندئذ هو بالتأكيد خاطئ. ومن جهة اخرى، لإشتقاق استنتاج فلسفي (اخلاقي، وجودي وما شابه) من افضل ما موجود من المعرفة في العالم هو بالتأكيد ليس غير منطقي، وعمله سيكون شيئا عقلانيا. لذلك، فان التمييز الهام هو بين الالحاد المبلغ عنه بالعلم (والذي هو معقول)، وذلك الالحاد الذي جُعل ضروري منطقيا بواسطة العلم (والذي هو غير منطقي).

6- المعايير المزدوجة Special Pleading

هي المغالطة بأن ينتقد احد آخرين لعدم مراعاة معايير وقواعد معينة بينما يعفي نفسه من ذلك دون تبريرات كافية. المغالطة هنا تكمن في حقيقة ان دوكنز من جهة يرفض "الله" كتوضيح، على اساس لا وجود هناك لطريقة تخبرنا من أين جاء الله ذاته.

نحن نرى ثلاث مشاكل في موقف وليمز:

1- الاختيار الطبيعي لم يُقصد به ابدا كنظرية في أصل الحياة، بينما نظرية "الله فعل ذلك" واضحة .

2- دوكنز سينشغل في معايير مزدوجة خاصة اذا لم يعرض تفسيرا لكيفية بدء الاختيار الطبيعي (ليس الحياة)، طالما ان المبدأ التوضيحي الموازي لـ "الله" هنا هو الاختيار، وليس الحياة (الحياة هي ما مطلوب توضيحه من جانب أي "فرضية"). لكن البايولوجيا التطورية فعلا لديها توضيح لكيفية مجيء الاختيار الطبيعي للوجود: انه حدث حالما كان هناك سكان من استنساخ ذاتي، متغير، جزيئات. لا وجود لمثل هذا التوضيح في الله.

3- مرة اخرى، "الله فعلها" ليس توضيحا وانما طريقة خيالية للاعتراف بالجهل: التوضيح هو تفسير لآلية (مثل الاختيار الطبيعي)، وليس تسمية توضع على الحقائق.

7- التفكير الرغبوي Wishful Thinking

وفيه يتم عرض عقيدة لأنها او لأن نتائجها يُراد ان تكون صحيحة.

يقتبس وليمز من كتابات دوكنز بان لا احد يعرف كيف نشأت الحياة على الارض، بل انها يجب ان تكون نشأت بفعل أسباب طبيعية. اذا كان دوكنز يصل لهذا الاستنتاج – كما يدّعي وليمز – بسبب موقفه الفلسفي من الطبيعية (مثل الإلحاد)، عندئذ هو في الحقيقة يكون منخرط في تفكير رغبوي (مع انه ليس اكثر من الجانب الآخر عندما يقول ان الحياة يجب ان تكون نشأت بفعل خالق خاص). غير ان هناك تفسير اكثر اعتدالا لإدّعاء دوكنز: هو فقط كونه عالم جيد في قبول منهجي بان الطريقة الوحيدة للعثور على توضيح علمي لأصل الحياة هو الافتراض المبدئي بانه لا يتضمن تدخّل ماورائي. ربما لا يحب احد ما فكرة ان العلم مقيّد بالتوضيحات الطبيعية، لكن من الصعب ان نرى أي نوع من التجارب او الفرضيات القابلة للاختبار تنشأ من إدخال امر ما ورائي الى هذه المسائل. وايضا نحن نشير الى ان إعلان وليمز بان هناك "كمية كبيرة من الدليل العلمي المضاد" لنظرية طبيعية لأصل الحياة هو ببساطة أمر زائف (انظر مثلا ظهور الحياة على الارض: رؤية تاريخية وعلمية، لفراي Fry، مطبعة جامعة روتجرس، 2000).

8- صرف الانتباه عن القضية الأساسية The Red Herring

وفيه ان مقدمة او موضوع غير ملائم يتم ادخاله في النقاش لصرف الانتباه عن الموضوع المراد نقاشه. عادة، اللاملائمة تكون ماكرة ودقيقة جدا كي تبدو ملائمة لمنْ لا يركزون انتباههم جيدا.

هذه في الحقيقة صيغة اخرى للمعارضة التي برزت تحت المغالطة رقم 6، ولكن بحيلة مختلفة. يدّعي وليمز ان المشكلة الحقيقية لنظرية التطور هي في توضيح أصل البروتينات المحفزة (انزيمات) واتّهام دوكنز في صرف انتباه قرائه عنها عبر إدخال الاختيار الطبيعي كتوضيح للكيفية التي اصبحت بها الانزيمات اكثرا تعقيدا بدءاً من جزيء بسيط.

مرة اخرى، التطور عبر الاختيار الطبيعي لم ولن يُقصد به كنظرية لأصل الحياة. من المفارقة، انهم اصحاب نظرية الخلق هم من صرف الانتباه عن هذه القضية طالما هم يستمرون في سوء تفسير نظرية التطور. الاختيار الطبيعي قادر تماما على تغيير وتحسين الأفعال التحفيزية للبروتين، والذي هو كل ما تدّعيه النظرية. من جهة اخرى، صحيح اننا لانزال لا نعرف كيف نشأت بالأصل المستنسخات الاولى، لكن ما نحتاجه لنظرية طبيعية للاصل هو ان المستنسخين الأوائل first replicators كانوا بسيطين جدا لينشأوا عشوائيا، وهو افتراض محتمل. اخيرا، من المثير للانتباه ان وليمز يُدخل مفهوم "التعقيدية اللااختزالية" للبروتينات كما لو انها كانت مقبولة في العلم على نطاق واسع. انها ليست كذلك.

9- حجة رجل القش Straw man argument

وفيها يُعطى انطباع بدحض حجة الخصم في حين ان ما تم دحضه هو حجة لم يعرضها الخصم، وتسمى الحالة مهاجمة رجل القش.  

 انها مغالطة شائعة لأنه من السهل اساءة فهم موقف شخص آخر. ان محل الإشكال هنا هو حين يعلن دوكنز ان الفرق بين العلم والدين هو ان الاول مرتكز على الدليل "والحصول على نتائج" بينما لا ينطبق ذلك على الدين. وليمز، بغرابة، يعتبر هذا كهجوم على المسيحية بالذات ويؤكد بان هناك تقاليد مسيحية قوية في تقييم العقلانية.

اولاً، كان دوكنز يستهدف الدين بشكل عام وليس المسيحية خصيصا. ثانيا، النقد كان ان الدين ليس مرتكزا على الدليل، وهو ليس نفس الشيء في اتّهام الناس المتدينين بعدم تقييم العقلانية. يمكن للمرء بناء جدال عقلاني لمصلحة وجود الله ولكن لا يمكن للمرء إعطاء اي دليل لدعم هكذا بناء. العلم هو مكوّن لا ينفصم من ثنائية العقلانية والدليل: بدون الاخير(الدليل) سوف لن يكون هناك اختلاف عن المنطق او الفلسفة. اخيرا، بينما صحيح ان هناك تقاليد عظيمة للتحقيق العقلاني ضمن المسيحية، لكننا نحتاج لتذكير وليمز بان الكنيسة دائما ما وضعت قيودا قاسية على مثل هكذا "تحقيق حر"، لنتذكر فقط برونو Bruno وكوبرنيكوس وغاليلو.

التقليد العلمي للكنيسة الكاثوليكية هو بالتأكيد تجسّد جيدا باليسوعيين (على سبيل المثال، هم اداروا مرصد الفاتيكان الفلكي في ايطاليا)، ومع ذلك كان اليسوعيون هم من عارض غاليلو ورفضوا الاعتراف بالدليل الملموس الذي كان يعرضه من خلال تلسكوبه. ان أفضل مثال عن الاختلاف في كيفية تعامل الدين والعلم هو في رؤية العلاقة بين العقلانية والايمان.

10- التركيز على الشخص لا على ما يقول Ad Hominem

وفيها يتم مهاجمة الفرد بدلا من الحجة. دوكنز، وفي ضوء شخصيته الفضة، يشبّه الناس الذين يؤمنون بالله بالاطفال الذين يؤمنون ببابا نويل. ويلمز يعتبر هذا كهجوم على الشخص، وعليه فهو مغالطة منطقية. يستمر وليمز بعد ذلك، بغرابة نوع ما، للقول انه حتى الاطفال هم احيانا صائبون ولذلك لايستطيع المرء رفض العقائد الطفولية كليا. نحن نوبخ دوكنز للغته والتي من المؤكد تثير الغضب. من جهة اخرى، هذا لا يرقى الى مغالطة لأن دوكنز لا يستعمل معادلة "الايمان بالله = تفكير طفولي" كحجة ضد وجود الله. بالعكس، هو يبدأ بمقدمة ان الله هو قصة خيالية ومن ثم يستنتج (باسلوب منطقي سليم، اذا قبل المرء المقدمة) بان الايمان بالله هو طفولي كالايمان في قصة خيالية. بالطبع الأطفال (او الكبار الطفوليون) يمكن ان يكونوا صائبين في أشياء معينة، لكن سقراط (في حوار مينو) يجادل بطريقة مقنعة ان العقيدة الصحيحة بدون سبب لا شيء فيها يمكن التفاخر به.

11- تسميم البئر poisoning the well

وهو شكل من الهجوم على الشخصية يحدث قبل الدخول في صلب النقاش مشجعا المشاهدين للوقوف ضد الجانب المعارض قبل ان يعرض موقفه.

دوكنز مرة اخرى استُهدف في لغته. في بعض كتاباته هو يدّعي ان لا عالم مؤهل يشك في حقيقة التطور، وهو ما معناه بان المرء لا يجب ان يولي اهتماما لحجج تُعرض من ناس لا يؤمنون بالتطور، لأنهم ببساطة غير مؤهلين للخوض في هذه المسائل.

كما في حالات اخرى، نحن نتفق مع نقد لغة دوكنز والتي هي بوضوح فيها كثير من المبالغة (لو بحث احد بجد سيجد خبيرا مؤهلا يشك بميكانيكا الكوانتم والتي هي وفق معظم الحسابات أفضل نظرية علمية). دوكنز يمكن اعتباره "يسمم البئر" هنا. مع ذلك، نحن نجد وليمز بدوره غير نزيه نوع ما(ويعتمد على المغالطة في ذاتها عندما يستشهد بثلاثة مختصين ومؤلفين غير منحازين لجانبه: وليم ديمبسكي، جوناثان ويلس، وتوماس وودورد. جميع الافراد الثلاثة هم من المدافعين عن الديانة المسيحية ولذلك لا يمكن اعتبارهم غير منحازين ايديولوجيا (لاحظ بينما دوكنز هو ملحد علني، هناك عدد كبير من الناس المتدينين من مختلف الجماعات الدينية هم من بين العلماء التطوريين). كذلك، ديمبسكي لديه شهادات في الرياضيات والفلسفة، وودورد يدرّس الثيولوجي في مدرسة مسيحية اصولية، ويلس لديه شهادة بالكيمياء البايولوجية وبايولوجيا الجزيئات. لا احد منهم مؤهل للتعليق على التطور لسبب بسيط وهو ان شهاداتهم ليست في العلوم البايولوجية العضوية. مثلا، ماسميو بجلوسي لديه دكتوراه في علم النبات، والذي هو علم بايولوجي عضوي، لكنه لايشعر ابدا انه مؤهل للتعليق على معقولية ميكانيكا الكوانتم. تماما مثلما احد لديه دكتوراه هو غير مؤهل اوتوماتيكيا للخوض في كل الموضوعات.

العلوم الفلسفة وحدود المنطق

هذا النقاش بالكامل مرتكز على مفهوم المغالطات المنطقية. لكن التفكير يمكن ان يكون منطقيا صحيحا في نفس الوقت الذي يكون فيه مضللا وخادعا. فمثلا، احدى المغالطات الكلاسيكية هي (بعد ذلك، لهذا بسبب ذلك)، حيث يستدل المرء ان السبب لنتيجة معينة هو حدث ما باعتبار ان السبب المزعوم سبق النتيجة في وقت قصير(مثل انا استيقظت في الصباح مع ألم في المعدة، انا تناولت مشروبا الليلة الماضية، بالتالي المشروب هو سبب الصداع).

من المهم ادراك المغالطة أعلاه: اذا ربط احد بين حدثين قريبين مؤقتا من بعضهما، وكان الاول يسبب الثاني، هذا بوضوح غير صحيح. لدينا الكثير من الأمثلة عن التسلسل الزمني لا يوجد ترابط سببي بين عناصرها (مثل الليلة الماضية صادف ان يكون القمر كاملا، لكن هذا لا يُحتمل ان تكون له علاقة بالألم لدي هذا الصباح). غير انه من العقلاني تماما بدء التحقيق في أسباب مرتكزة على الارتباطات، والتي هي بالضبط ما يقوم به العلم. لو عرفتُ ان نوعا معينا من الشراب يميل ليسبب ألما في افراد معينين، وكنت باستمرار أرى انه عندما اتناول ذلك النوع من المشروب أشعرعادة بألم في الصباح التالي، عندئذ سيكون لدي تبرير منطقي في استنتاج مؤقت (بانتظار مزيد من الأدلة) بان الألم الذي اشعر به هو حقا ناتج عن تناول ذلك المشروب (لذا يجب ان أتوقف عن تناول مثل هذا المشروب).

يتبع من كل هذا ان العلم هو بالأصل اتجاه يقود فقط الى استنتاج غير مؤكد، بينما لو يرغب احد بالحقيقة فهو مقيّد بعالم المنطق والرياضيات. الفلسفة تشغل منطقة هامة بين هذين الاتجاهين: الفيلسوف يحاول بناء جدال منطقي مضاد للرصاص(أي يسعى لحقيقة منطقية)، المقدمة لتفكيره يمكنها فقط ان تكون من نوعين(شوكة هيوم الشهيرة). اما مقدمة تبدأ بأقوال عشوائية وبلا أساس حيث يكون فيها حتى التفكير المترابط منطقيا لا يقود الى شيء، او مقدمة تبدأ بملاحظات تجريبية حول العالم، والفلسفة لهذا تشترك ببعض قيود العلم. الكثير من الحبر والمشاعر السيئة يمكن تجنبها لو ادرك الناس ان الجنس البشري (باستثناء المنطقيين) لا يمكنه الحصول على الحقيقة، انما فقط أكثر او أقل احتمالا.

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

(1) اللاماركية Lamarckism: هي نظرية في التطور اقترحها الطبيعي الفرنسي جين بابتس لامارك عام 1809 تؤكد على ان التغير المادي في الكائنات الحية والخصائص المكتسبة التي تطورت اثناء حياتها- مثل التطور الكبير للنوع او للعضو- هي استجابة مباشرة لتغيّر خارجي في البيئة او بسبب استعمال او عدم استعمال العضو وهي يمكن ان تنتقل الى الذرية، مثال على ذلك الزرافة التي طورت رقبة طويلة كي تستطيع التقاط اوراق الاشجار. النظرية أثّرت على فكر التطور طوال القرن التاسع عشر.

اما الـ orthogenesis: او التطور التدريجي اول من ادخل المصطلح ولهيلم هيك عام 1893. هو عبارة عن تطور متصاعد او فرضية بايولوجية مطلقة تفيد بان الكائنات الحية لديها ميل فطري للتطور في اتجاه محدد نحو هدف معين (تيلولوجي) بفعل بعض الآليات الداخلية او القوى الدافعة. طبقا للنظرية، ان اكبر نزعات التطور لديها هدف مطلق مثل زيادة التعقيدية البايولوجية. من المؤيدين للنظرية لامارك وهنري برجسون. بعض البايولوجيين مثل ارنست ماير رفض عام 1948 النظرية في مجلة الطبيعة معتبرا انها تنطوي على قوة ماورائية.

 النوع الثالث من فرضيات التطور هو الـ Saltationism وهو الايمان بان التطور يعمل بفعل تطور مفاجئ او طفرات لأنواع جديدة او خصائص بايولوجية من جيل الى الجيل اللاحق ليؤسس على الفور انواعا جديدة .

(2) للتمييز بين الاثنين، الطبيعيون المنهجيون methodological naturalists يقيّدون بحثهم العلمي فقط بدراسة الأسباب الطبيعية لأن اي محاولة لربط العلاقات السببية مع قوة غيبية هي غير مثمرة وتقود الى خلق نهايات ميتة للعلم. ولتجنب هذا الفخ يفترض العلماء ان جميع الاسباب هي تجريبية وطبيعية، يمكن قياسها ودراستها منهجيا. هذا ما يفصل الطبيعية المنهجية عن المذهب الطبيعي الفلسفي philosophical naturalism الذي يطرح ادّعاءً فلسفيا بأن الأسباب الطبيعية هي وحدها موجودة، على عكس الطبيعية المنهجية التي هي فقط وسيلة بحث ولا تدّعي الحقيقة

 

تتشكل المجتمعات الحديثة من خلال القانون، وترى المجتمعات الديمقراطية نفسها على أنها دول دستورية. هذا يعني أن جميع سلطات الدولة ملزمة بالقانون. فاذا كانت الدولة تريد فرض شيء ما، فإنها تفعل ذلك بالوسائل القانونية. القانون اليوم هو الإطار المركزي للناس للعيش معا في المجتمعات الحديثة. ما هو أكثر من ذلك: يتم تفسير القانون من وجهة نظر اجتماعية فلسفية في الغالب بوصفه تعبير عن عقلانية المجتمعات. فحيثما يحكم القانون، يسود العقل أيضًا؛ يخضع المجتمع لمطالب معينة للعقل من خلال الشكل القانوني لتنظيمه الذاتي.[1]

الهدف من القانون كتعبير عن العقل هو في الأساس احتواء العنف غير المشروع وتبرير الأشكال المشروعة للعنف (الدستوري). لذلك غالبًا ما يرتبط القانون والعنف ببعضهما البعض، ولكن ، قبل التمكن من فحص هذه العلاقة عن كثب، نطرح السؤال عما يجب أن يفهم من معنى القانون وما هي الوظيفة الاجتماعية التي يتمتع بها.

أدى التفكير الفلسفي في القانون، كما ذلك في السياسة، إلى ظهور فلسفة القانون.لايقدم هذا الحقل الفهم الفلسفي المقنع للقانون المنشود فقط، ولكن مناقشة العديد من التطورات الحالية في القانون في عصر العولمة فلسفيًا أيضًا. وأنه مهم للفلسفة الإجتماعية، أيً له أهمية كبيرة في العمليات والبنى الاجتماعية والسياسية المتنوعة. لهذا السبب من المهم تناول الجوانب الاجتماعية والفلسفية الأساسية للقانون ايضا، مثل تلك التي عالجها هيجل في محاضراته حول فلسفة القانون.[2]

غالبًا ما تتميز حياة الناس اليومية بمصالح مختلفة. يمكن أن تؤدي هذه المصالح المتباينة إلى نزاعات بينهم. ويمكن أن تكون هذه النزاعات ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. يساعد القانون في مثل هذه الحالات في التعامل أومعالجة مع هذه النزاعات، وإذا أمكن، حلها. يتم التعامل مع اختلافات المصالح بين الناس والجماعات والمؤسسات في الدول الدستورية باستخدام وسائل القانون. إن لها، من وجهة نظر اجتماعية فلسفية، وظيفة تنظيمية وهي تختلف عن الأخلاق كشكل آخر من أشكال التوجه للتعايش الاجتماعي في الوقت نفسه. لأنه ليس كل ما يعتبره الناس حقًا أو ضروريًا من الناحية الأخلاقية يجب أن يكون قانونيًا بشكل تلقائي أو منصوصًا عليه في القانون.

يفسر هابرماس[3] القانون من منظور النظرية الاجتماعية، على أنه غشاء بين العالم المُعيش والسياسة. تعتمد المجتمعات الحديثة على تبرير شرعية القانون دون اللجوء إلى المصادر التقليدية كالأديان مثلا. لذلك تم وضع نموذج قانوني إجرائي في العديد من المقاربات اليوم، حيث تتطلب مشاركة المواطنين في العمليات السياسية وضعهم كأشخاص قانونيين. ومع ذلك، فإن مشكلة المجتمعات في هذا المجال هي أن القانون أصبح أكثر انفصالًا عن عالم الحياة. غالبًا ما لا يظهر الناس كمشرعين ومخاطبين من قبل لقانون في الوقت نفسه. يشكل القانون نظامه الخاص بالمعنى الذي يقول به لومان، ،[4] حيث يكون مستقلاً عن المواطنين غالبا ، وبالتالي بعيدًا عن الحياة. بينما يرى الكثير من الناس أنفسهم في مواجهة تقنين هائل للمجتمعات الحديثة.

ولكن ما هو القانون بالضبط وكيف يمكن تعريفه من منظور اجتماعي وفلسفي قانوني؟ قدمت إجابات مختلفة عبر التاريخ، بعضها أمثلة مهمة.

فمثلا يعد القانون الطبيعي من الناحية التاريخية أحد أقوى نماذج الفلسفة الاجتماعية والقانونية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. يشير القانون الطبيعي إلى القانون والذي يسبق أي تشريع وضعي حيث يشارك فيه الإنسان بوصفه انسان وتقوم عليه كرامته الإنسانية. تتضمن مفاهيم القانون الطبيعي مبررات مختلفة تشير إلى ما وراء القانون المعطى بشكل وضعي. يمكن أن تكون اعتبارات توما الأكويني من العصور الوسطى بمثابة مثال لمفاهيم القانون الطبيعي. إنه يميز ثلاثة مستويات من القانون، وهي القانون الأبدي والقانون الطبيعي والقانون الوضعي. أساس كل حق هو نظام الخلق الذي وهبه الله. يمكن لكل إنسان أن يفهم القانون الذي قدمه الوحي الإلهي (مثل الوصايا العشر) من خلال موهبته الطبيعية في العقل.

أخذ الفلاسفة القانونيون، في الفترة الحديثة المبكرة ،هذه الاعتبارات للقانون الطبيعي، لكنهم فصلوها عن أساسهم الديني ونقلوها إلى مفاهيم قانونية عقلانية. فاصبح ينطبق القانون الطبيعي حتى لو لم يكن الله موجودًا. تسبق القواعد القانونية القائمة على القانون الطبيعي القانون الوضعي  في الاهتمام بأمن المجتمع وممتلكاته.

إذا قارن المرء المناهج المختلفة للقانون الطبيعي ، فيمكن التمييز بين مستويين من المحاججة: من ناحية ، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه يقع فوق النظام الذي تفرضه الدولة. وبالتالي، يتم سحبه من الوصول إلى الهيئة التشريعية ويهدف في نفس الوقت إلى إضفاء الشرعية على نظام الدولة. ومع ذلك، في حالة النظام غير العادل، يمكن أيضًا استخدام القانون الطبيعي لتبرير المقاومة. من ناحية أخرى، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه نظام يتم تحديده من حيث المضمون أيضًا. فيوفر القانون الطبيعي، في هذه الحالة، معايير محددة للتعايش الاجتماعي.

تلعب الحجج القائمة على القانون الطبيعي دورًا مهمًا في المناقشات السياسية حتى يومنا هذا. لقد أشار الفلاسفة الاجتماعيون في النقاش الحالي حول حقوق الإنسان مرارًا وتكرارًا على سبيل المثال إلى أن جميع الناس لديهم هذه الحقوق بسبب إنسانيتهم. فيتم تحديث تفسيرات القانون الطبيعي بهذه الطريقة. ومع ذلك، أصبح العديد من مشاكل القانون الطبيعي واضحًا في السنوات الـ 200 الماضية أيضًا. تُشتق المعايير في القانون الطبيعي على سبيل المثال من نظام طبيعي للوجود وفي الوقت نفسه مفترضة مسبقًا، ولا تبدو معقولة في الدول الدستورية العلمانية.

يتراجع ممثلو المثالية الألمانية في مواجهة مثل هذه النقاط من النقد عن افتراضات القانون الطبيعي ، لكنهم يتشبثون كثيرًا بفهم القانون باعتباره نموذجًا معياريًا. يمكن كشف هذا في اعتبارات كانط وهيجل على سبيل المثال، اللذين - على الرغم من اختلافاتهما- يتفقان على هذه النقطة.

يعتبر كانط ممثلًا للتفكير القانوني العقلاني. تقوم فلسفته العملية على افتراضين مركزيين: أولاً، الفصل بين ماهو كائن وما يجب أن يكون، وثانيًا، التركيز على العقل. فالعقل هو القاضي في توضيح كيفية تصرف الإنسان. يمكن تفسير فهم كانط للقانون على هذه الخلفية. ويمكن، بالنسبة له، التعرف على القانون من العقل العملي أيضًا، حيث يتوافق المطلب القانوني مع الأمر الأخلاقي المطلق. أي أنه في عمل صحيح  يمكن أن توجد حرية الاختيار لكل فرد جنبًا إلى جنب مع حرية الجميع وفقًا لقانون عام" اجباري. وعليه، فإن هذا لا يعني شيئًا سوى" السماح لمفهوم القانون ان يجد تطبيقه في نظام السلطات القسرية المتبادلة. وهذا يفسر أهمية الدولة الدستورية الجمهورية في مفهوم كانط، لأنها وحدها التي تتمتع بالسلطة الشرعية لجعل القانون ملزمًا وبالتالي تنظيم الحياة الاجتماعية.

يلعب هذا المفهوم للتفكير القانوني العقلاني دورًا مركزيًا في اعتبارات كانط من حيث نظرية العقد في هذا العصر أيضًا. تهدف الحجة الأساسية إلى الاعتراف المتبادل بالناس كأشخاص قانونيين. فيصبح القانون هو المبدأ التأسيسي للعدالة. وهذا هو سبب ارتباط سيادة القانون والفصل بين السلطات والمؤسسات الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا فيما بينها.[5] أن التوجه نحو مفهوم العقل والمحاججة الأستدلالية هو من يتولى الفصل بين الكائن والواجب. وعليه يرتبط القانون والعدالة ارتباطًا وثيقًا.

المفهوم الثاني للمثالية الألمانية، والذي له تأثير كبير على الفلسفة القانونية والاجتماعية حتى يومنا هذا، هو مفهوم هيجل. يركز هيجل مثل كانط على العقل كأساس لفلسفته القانونية، وقد عبر عن ذلك في جملته الشهيرة: "ما هو معقول هو واقعي؛ وما هو واقعي هو معقول".[6] إن الحق بالنسبة لهيجل هو وجود الإرادة الحرة  التي يؤكد من خلالها على العلاقة بين الحق والحرية أيضًا. يفسر هيجل هذه العلاقة لا استنتاجيًا ولا خطيًا، ولكن كعملية ديالكتيكية على عكس التقليد الكانطي. إنه مهتم بالتغلغل المتبادل للجانب الفردي والجماعي، أيً، العلاقة الديالكتيكية بين الخاص والعام.

العنصر الأساسي لفلسفة هيجل في القانون هو مجال الأخلاق (الأسرة والمجتمع المدني والدولة)، والتي تم تعريفها على أنها نظرية الاعتراف ولكل منهما تفسيره الخاص. من المهم تفسير هذه الأشكال المحددة للسياق من القانون على أنها تعبير عن الروح في طريقها الاجتماعي نحو الحرية، وهي تقلل من النزعة الفردية الفلسفية القانونية، لأنه لا يمكن تفسير الدولة على أنها مجموع المصالح الفردية من وجهة نظره. هناك نقطة ثانية للنقد عند هيجل وهي  خاصة بالنظر إلى المفاهيم المستوحاة من الكانطية، أي نقده لمبررات النظرية التعاقدية للقانون. أنها تنقل، وفقًا لهيجل، بشكل خاطئ فكرة من الاقتصاد إلى القضايا الاجتماعية، فيتم تفسير القانون بها بطريقة اختزالية.

ما يزال كلا المفهومين لكانط وهيجل نموذجين للأشكال الأساسية من الجدل في الفلسفة الاجتماعية والقانونية. فهناك مفاهيم عقلانية تستمد بشكل استنتاجي معنى القانون من الأخلاق من ناحية. ومن ناحية أخرى، هناك فلسفات اجتماعية استقرائية تبني فهم المعيارية والقانون على اساس إعادة بناء معناها من خلال الممارسات الاجتماعية المتنوعة ومجالات الأخلاق. ومع ذلك هناك علاقة وثيقة، في كلا الجانبين، بين القانون والمعيارية ( عند كانط  وهيجل في الأخلاق). بالإضافة إلى ذلك، يعمل القانون في كلتا الحالتين باعتباره نموذجًا معقولاً، يمكن تبريره بطرق مختلفة، ولكن يجب أن يتيح توجهاً (معياريًا) للحياة الاجتماعية في شكله الاجتماعي.

تم التعبير عن هذا المفهوم للقانون في المتغيرات المختلفة للوضعيات القانونية، والتي تطورت على مدار الـ 200 عام الماضية. يجب أن يرتكز حل النزاعات الاجتماعية على القانون الوضعي فقط من منظور هذا التيار. يشمل القانون الوضعي القواعد القانونية التي تطبق في الدولة من خلال سلطة الدولة لإضفاء الشرعية. وتنجم شرعية معيار قانوني فقط عن وضعه الواقعي أو فعاليته الاجتماعية. نشير هنا مرة أخرى على النقيض من موقف هيجل إلى الفصل بين مستويين من الوجود والوجوب، ولكن من أجل تحرير القانون من أي وظيفة توجيه (معياري).

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........................

[1] Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

[2] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق، ترجمة وتقديم وتعليق د.إمام عب الفتاح إمام، دار التنويرن بيروت،ط2، 2005.

[3] Habermas, J.:Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy.

[4] Luhmann, N., Introduction to Systems Theory, Polity, edition  2012

[5] أنظر:

Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

والربيعي، د. علي رسول:  الحق والعدالة الاجتماعية

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/937886

[6] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق.

يعد (أفلاطون 428 ق.م – 347 ق.م) من أهم تلامذة (سقراط)، وتعلم على يديه الكثير من الممارسات الفلسفية وخاصة بعد أن أفتتن بشخصية أستاذه وهو في العشرين من عمره، لما لـ(سقراط) من تأثير على الشباب في (أثينا)، وفي مقدمتهم (أفلاطون) الذي ينتمي الى أسرة أرستقراطية يونانية .

أوجد (أفلاطون) فلسفة واسعة الملامح نظّر من خلالها في أنواع مختلفة من المعارف الإنسانية،وجاءت أغلب فلسفته على شكل محاورات قدم فيها منهجه الفلسفي الذي حاول الأبتعاد عن الأسلوب المباشر لأستاذه (سقراط) الذي أعدم بسببه.

أراد (أفلاطون) من محاوراته أن يجمع فيها وجهات نظره على مر مراحل حياته، فمحاوراته لم تأتي كلها دفعة واحدة، بل قدمها على ثلاثة مراحل، الأولى في شبابه، والثانية في بلوع، والثالثة في أيام عمره المتقدمة، وتتألف هذه المحاورات " من (28) حواراً يتمتع أثنان منها بمقاييس مؤلف حقيقي (الجمهورية والقوانين) ومن رسائل تروي السابعة والثامنة منها مغامرات (أفلاطون) السياسية في (صقلية) .إنَّ الجمال الأدبي للحوارات التي تعكس شخصية (سقراط) وتتناولها، فضلاً عن تلامذته مثل (فيدون وثيتان، وجنود مثل لاشيه وسفسطائيين مثل جورجياس، حتى فلاسفة كبار مثل بارمنيد، وزينون، الخ ...) يتداخل مع الفكر الفلسفي، حيث أن طريقة الأسئلة والأجوبة هي الطريقة الوحيدة التي من شأنها أن تدفع المرء فعلاً الى التفكير يسمح توجيه الأسئلة للإنسان بأن يلد فكرياً (هذا هو التوليد) ويثير تضارب الآراء للاهتمام بالحقيقة (وهذه هي الجدلية ) " (1). وهذه المحاورات قد تضمنت من المعارف الفلسفية ما هو حافل بتوليد الأفكار وجدليتها مع حقيقة ما يهدف اليه (أفلاطون) في فلسفته، ولم تأتي هذا الممارسات الفلسفية عنده من فراغ، بل من خلال عمل وتجارب خاضها وخبرها في الحياة وأكسبها البعد التأملي الذي تميز به فلسفياً من خلال أفكاره في المعرفة والمثل والطبيعة والوجود والأخلاق وغيرها من النظريات التي حاول جاهداً أن يبحثها ويصل من خلالها الى مفاهيم وتطبيقات على المستويين النظري والعملي، وواحدة من هذه النظريات التي قدم لها (أفلاطون) ملامح فلسفية نظرية على وفق دراسة الأطر التطبيقية هي نظريته في الجمال المنطلقة من نظريته في (المُثل)، والأخيرة حقائق كلية ثابتة موجودة بالفعل وجوداً خارجياً ومفارقاً ومستقلاً عن الإنسان، في الوقت ذاته هي مصدر للمعرفة وعلة لها مثلما هي مصدراً لوجود الأشياء في العالم المحسوس وعلة له . إنَّ العلاقة بين عالم المثل والمحسوسات تتشكل على وفق ترتيب هرمي في قاعدته " توجد الأشياء المحسوسة في مظهرها الخارجي، ثم تعلوها المعرفة العقلية المتصلة بالأفكار المادية، ثم الأفعال وأنواع السلوك والأحداث والحركات، بما لها من سمو عن الجسم، ثم يأتي بعد ذلك النفوس الحقة، وتتلوها ذوات الأجسام، ثم ذوات النفوس ذاتها التي تلي الأفعال، ثم تعلو هذه الذوات المعارف الخالصة النظرية العقلية، المجردة عن كل مضمون أخلاقي، وأخيراً تتربع الصور تتوجها المثل الرئيسية التي يسميها المحدثون بالقيم " (2) .

إنَّ  المُثل الأفلاطونية ليست بظاهرة كالمحسوسات وجزئياتها في الواقع المرئي المسموع مثل نظام حسي اشتغالي يتعامل معه الإنسان يومياً على أساس حاجياته وما يريد أن يكون عليه في ظاهر الأشياء المحسوسة، بل أن المثل هي نظام كلي يحتوي على جميع ما يمكن أن نتصوره لأشكال حسية متعددة في الواقع لنوع واحد مثل الزهرة وصورها المختلفة والمتنوعة والمتعددة، التي تعود الى حقيقة كلية لمفهوم الزهرة على الرغم من اختلافها الوجودي في نظر المشاهد . وهنا نتسائل عن الجمال؟، وما هي المعرفة الجمالية الأفلاطونية في هذا المجال؟، ونعيد الحديث عن الزهرة كما في المثال السابق فنقول الافتراض الآتي: " أن أحد أجاب بإن علة الجمال في الزهرة هو شكلها، أو لونها، أو رائحتها، فإنه لا يعطينا سبباً لهذا الحمال، لأن الشكل،أو اللون، أو الرائحة قد تكون سبب قبح في أشياء أخرى غير الزهرة . إذن،  فعلة الجمال في الاشياء ترجع الى مثال الجمال وماهيته ومن ثم فالحقيقة تكمن في (المُثل) وليس في المحسوسات التي تمثل الظاهر" (3).

إنَّ عالم المثل الأفلاطونية منظومة مفاهيمية مكونة من كليات الأشياء وصورها في الوجود المادي بجزئياته واختلافاته وافراده في الحياة الطبيعية. من هذه النظرة قسم (أفلاطون) (المُثل) الى أنواع يدخل من ضمنها الجمال، فمثلاً تضم (المُثل) الافلاطونية بالإضافة الى الخير، والعدالة، والشجاعة، والعفة، والصبر،والكرم، يأتي الجمال من ضمن هذا النوع من المثل، كما تأتي (مُثل )الاشياء الجسمانية، ومنها الحصان، الإنسان، الشجرة، وغيرها من التجسيمات الظاهرة للعيان من ضمن هذه (المُثل) الجسمانية التي يضاف اليها (مُثل) الصفات التي ترتبط بهذه المثل الجسمانية، كالبياض، والسواد، والثقل، والحلاوة، والطول، والأرتفاع وغيرها . وهكذا يصنف (أفلاطون) (المُثل) في هذه الأنواع وغيرها , ولكنه وضع الجمال من (المُثل) الأخلاقية التي ترتبط بجمال الأشياء وفاعليتها . ونعتقد بأنه يشير الى جمال آخر يرتبط بالقيم الإنسانية . وهذه (المُثل) مجتمعة تميزت بخصائص، ومنها على سبيل المثال خاصية (الجواهر)، أي أنها حقائق مطلقة ووجودها كلي في ذاتها، وأنها كلية، ليست بجزئية، فهي، أي (المُثل) بجواهرها مطلقة، أي أن كل الأشياء تتوقف عليها باعتبارها من مبادئ الكون الأولى . فهي لا تقصد الإنسان بمسمى فردي (زيد مثلاً)، بل تقصد بوصفه مفهوم كلي، وهذه (المُثل) تقوم على خاصية أخرى هي الوحدة في الكثرة، فمجموع الأسماء لأفراد المجتمع عادة ما تطلق على (مثال) واحد هو الإنسان، فكل أفراد المجتمع يرجعون الى هذه الخاصية الإنسانية، وليست هذه التعددية في الأسماء كل منهم يرجع الى مثال إنسان مختلف، بل الى مفهوم الإنسانية الذي يجمع كل أفراد المجتمعات في العالم . وهذا المفهوم ثابت غير فان، ولكن من يفنى هو (زيد وعمر) كأفراد جسمانية خاضعة لطبيعة الفناء . وكل (مثال) هو ماهية للشيء ذاته للوجود الخارجي، وهذا المثال يقع في دائرة الكمال المطلق، أي لا يخضع للزمان والمكان من حيث الفناء والاندثار، وهذه (المُثل) لا تستوعب إلا من خلال العقل الإنساني الذي يدرك عالم المُثل، كون أن العقل عند (أفلاطون) هو المجال الوحيد القادر على هذه الممارسة في استيعاب عالم (المُثل). (4)

أضافة الى عالم (المُثل) الذي شكل الركيزة الأساسية في فلسفة (أفلاطون) ومنها ما أختص بالجمال، وكيفية توجيه الفلسفة الجمالية لديه ورؤيته لهذا العالم، فقد أضاف مفهوم آخر يتصل بالنظرية الجمالية وهو مفهوم المحاكاة وعلاقته بالظاهرة الفنية في مجالاتها المختلفة، ومنها الموسيقى والرسم والنحت والخطابة وغيرها من الفنون على الرغم من تشبه بعض الفنون إلا أنها لا تلبي نظريته في (المُثل)، وأنها محاكاة خادعة، ويشبهها بفكرة السفسطائي في تناول مفهوم الأقناع للأخرين الذين يتأثرون بالأوهام وليس بالحقيقة كما في محاورة (ثنيتتس والغريب) التالية:

" ثنيتتس: كلا فإنك ذكرت صنفاً متشعباً جداً، ويكاد أن يكون أوفر الأصناف تلوناً، ضممت فيه وحده كل الفروع.

الغريب: فنحن نعرف إذن، عمن يعد بأنه قادر بفن واحد أن يصنع كل شيء، هذه الحقيقة وهي أنه يصطنع أشياء تحاكي الموجودات وتقلب باسمها بواسطة فن الرسم، وعندئذ إذ يبدي الرسوم من بعيد، يضحى قادراً أن يستغفل البلهاء من الفتية الأحداث ليوهمهم أنه ينجز ما يشاء وأنه على أتم القدرة أن يحقق ذلك في الواقع"(5). إذن، يصبح الوهم الذي يقدمه فن الرسم يشبه بوهم السفسطائي الذي يوهم الشباب والفتية في جعل الأشياء التي يجمعها الرسام في أطار اللوحة قادر على أن يحققها في الواقع، ومن هنا فإن (أفلاطون) قد جعل من هذا الفن هو مشابه لفكرة السفسطائي في الاقناع، التي يعارضها (أفلاطون) في فلسفته.

يقسم (أفلاطون) المحاكاة الى نوعين في كتاب (السفسطائي) في المحاورة المستمرة ما بين (ثنيتتس والغريب)، يوضحهما في المحاكاة وكيفية النظر الى الفنون من خلالهما، على أعتبار أن (أفلاطون) يعطي أسباب عدم تماشي طبيعة هذه الفنون مع نظريته في المحاكاة، كما في المحاورة التالية:

" الغريب: طبقاً لطريقتنا السالفة في التقسيم، يظهر لي الآن أيضاً أنني أرى نوعين في فن المحاكاة، إلا إنه يبدو لي أنني عاجز بعد، في الوقت الحاضر، عن معرفة النوع الذي تكمن فيه فكرتنا المنشودة .

ثنيتتس: ولكن باشر أولاً، وفصّل لنا أي نوعين تعني .

الغريب: أرى فيه من جهة، فناً أولاً هو فن النسخ . قوامه على الأخص أن ينجز المرء إحداث (النسخة ) المحاكية، طبقاً لأقيسة المثال الملائمة طولاً وعرضاً وعمقاً . بالإضافة الى هذه، أن يؤتي النسخة الألوان اللائقة في كل من تفاصيلها .

ثنيتتس: ما بالك؟ ألا يسعى كل المقتدين الى تحقيق هذا الأمر؟

الغريب: كلا، على الأقل أولئك الذين يصوغون أو يرسمون تماثيل أو لوحات كبيرة . لأنهم لو كانوا يعطون أعمالهم قياس النماذج البهية الحقيقي، لبدت أقسام تلك التماثيل أو اللوحات العليا أدق مما يجب، وظهرت الأقسام السفلى أضخم من اللازم، لأننا نرى الأولى عن بعد، ونرى الثانية عن كثب وأنت تعرف ذلك .

ثنيتتس: فعلاً، الأمر على ما تقول بالضبط .

الغريب: إذن، ألا يدع فنانونا الحقيقة ترتع تاركين إياها وشأنها ليسبغوا على تماثيلهم (المرسومة أو المصوغة والمنحوتة)، لا الأقيسة الحقيقية، بل أقيسه تبدو بهية؟

ثنيتتس: فعلاً قولك في غاية الصحة .

الغريب:إذن ألسنا على حق إذا سمينا جزءاً (من هذا الإنتاج، إنتاج ) نسخة أو صورة لأنه يصور ويماثل .

ثنيتتس: أجل .

الغريب: والشطر من فن المحاكاة القائم على هذا الأمر، ألا يجب أن ندعوه، على ما قلنا من قبل فن النسخ؟

ثنيتتس: يجب أن ندعوه كذلك .

الغريب: وما رأيك؟ ما يُتخيل للمرء أنه يماثل الجميل وينسخه، بسبب مشاهدته من موقع غير مناسب،إذا تمكن المرء أن يراه رؤية وافية، وحينئذ لا يعود لا نسخة ولا مثيلاً لما يقال إنه نسخة عنه، ماذا ندعوه؟ ألا نطلق عليه أسم الخيال، لأنه يظهر هذا المظهر، وهو لا يشبه المثال؟.

ثنيتتس: لم لا؟

الغريب: أليس هذا القسم متفشياً جداً في رسم الأحياء، وجملة في فن المحاكاة؟ .

ثنيتتس: كيف لا؟

الغريب: والفن المنتج خيالاً، لا نسخة مصوّرة، إلا نسميه بكل صواب فن مخايلة؟

ثنيتتس: بكل صواب.

الغريب: هذان إذن النوعان اللذان عنيت في فن المماثلة (أو المحاكاة) فن النسخ وفن المخايلة " (6).

في هذه المحاورة التي أخترناها دون أن نقطع منها شيء، تتضح فكرة (أفلاطون) حول مفهوم المحاكاة والسبب الذي يجعله لا يتوافق مع الرسامين والنحاتين في اختيار قياسات النماذج في الرسم والنحت مما يجعلها تبدو متفاوتة بين أجزائها العليا والسفلى، وتقع مشكلة كل من الرسام والنحات بين الضخامة في التصوير وبين الحقيقة التي هي لها قياساتها المحددة، وتعد الأقيسة التي تبدو عليها أقيسة بهية، وليست حقيقية . وفي الأولى، أي الاقيسة البهية، تقع تحت فن المخايلة، بينما الأقيسة الحقيقة تقع تحت فن النسخ . والجمال على وفق هذه الرؤية الأفلاطونية قد تحدد على وفق المحاكاة بين نوعين منها على حسب هذه الأقيسة، وهما " المحاكاة السطحية،أي المعنى الشائع للمحاكاة . والنوع الثاني فن بصير بمحاكاة مستنيرة، لأنها تنطوي على علم من يمارسها بما يجب عليه أن يحاكيه من (مُثل) للخير والحق والجمال، وهذه المحاكاة لا توجد إلا عند الفنان ذي الثقافة الفلسفية الواسعة " (7). فالجمال على وفق مفهوم النوع الثاني من المحاكاة لا يأتي دون ممارسة جادة واعية ومعمقة للمعنى الخاص بالفن، فالفنان لا يمكن أن يكون ذو عقل واع مالم يكن في محاكاة فنه بطريقة عقلية تنتج الخير والحق والجمال . ولكن تبقى مشكلة مهمة عند الفنان، وعلى حسب الطريقة الأفلاطونية في المحاكاة، هل يستطيع أحد من الفنانين أن يصل الى قيم الخير والحق والجمال ويحاكي المُثل الأفلاطونية بالطريقة التي حددها (أفلاطون) نفسه للفنان؟، أم أنه لا يوجد فنان بهذه المساحة المعرفية العقلية يكون قادر على أن يصل الى المحاكاة الأفلاطونية بفنه؟، وخصوصاً بعد أن جعل (أفلاطون) من المحاكاة في النوع الثاني تعود بطريقة أو أخرى الى النوع الأول من الفن، أي أن (أفلاطون) أعاب على محاكاة المحاكاة بعد أن جعل المحاكاة الأولى التي هي صورة من عالم المُثل الكلي، وأعتبر المحاكاة الثانية التي يقوم بها الفنان للطبيعة هي بالأصل سطحية وتشوه الصورة الأولى التي هي محاكاة لعالم المُثل بالأصل، وعلى الفنان الأفلاطوني أن يمتلك بصيرة عالية ومستنيرة قائمة على البعد الفلسفي الذي يوصل الفنان الى الخير والحق والجمال، حسب الجمال المطلق في عالمه المثالي .

يشرح (أفلاطون) في جمهوريته المثالية في الباب العاشر الفن والمحاكاة وعالم المثل، وينقد كل من يخرج عن سياقاته الجمالية التي تبناها في هذا الباب، و " يتحدث عن محبي النّظر والسّمع كيف يعجبون بالجميل من الأصوات والألوان والصور، ولكن يؤكد على عدم فهمهم كنه الجمال فيضرب مثالاً بالمأساة عند (هوميروس) وينتقده وينتقد سامعيه لأنهم يؤمنون بما يقول، فهو بنظرهم يعرف كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة، بل والاشياء الإلهية الى جانب معرفته لكل الفنون، لكنهم خدعوا لأن ما يقدمه إنما أشباح لا حقائق، وكما نعلم أن الرجال بآثارها العملية، لذلك فإن (هوميروس) وغيره من الشعراء مقلدون نسخوا صور خيالية في كل ما نظموا، فلم يلمسوا الحقيقة ومن جملة ذلك نظمهم في الفضيلة " (8)، وهذا النقد للشعراء ومن ضمنهم الشاعر الملحمي (هوميروس) لم يأتي من طبيعة صياغات العمل الفني الشعري لديهم، بل أن الصيغة التي قدمها (أفلاطون) للفن ومحاكاته لا تنطبق على هذه الإعمال الشعرية بمختلف أنواعها وأجناسها، كالشعر الملحمي، أو التمثيلي، أو الوجداني، كون الشعراء لا يطلبون من وراء أشعارهم الحقيقة، بل هم يبحثون عن الخيال في صورهم الشعرية، والخيال يبعد الشاعر والمتلقي معاً عن الحقيقة التي هي بالأصل نابعة من الحق والخير والجمال، فالجمال لا يأتي الإ من خلال عالم المُثل، وشعر (هوميروس) الملحمي يشبهه (أفلاطون) بالأشباح لا بالحقائق المرجوة التي يطلبها في عالمه المثالي، وهذه الحقيقة التي يسعى اليها (أفلاطون) في فلسفته متوفرة في نوع آخر من الفنون وهي الموسيقى، ونظريته " في الموسيقى مبنية على التراث الفيثاغوري، إذ ترى أن في الموسيقى طريقاً لتطهير النفس وتهذيبها، ويمكن علاجها النفسي. وقد بين (أفلاطون) عناصر مكونات الموسيقى الثلاث وهي: اللفظ، الائتلاف، والايقاع، وربط بينها وبين الحقيقة التي تحاكيها في نفس الأنسان، ويرى أن الموسيقى يجب أن تعبر عن الجمال والحقيقة في صورة سهلة حتى يقنع بها العقل . ويجب أن تكون غايتها وهدفها الجمال لا أن تتجه الى بعث اللذة الاستطيقية . ولها هدف أسمى من ذلك هو التأثير على النفس بحيث تكسبها ائتلافاً من أجل تحقيق الخير " (9).

إنَّ اللذة الجمالية التي تقوم على أمتاع الفرد دون أن تكسب النفس البشرية طاقة من أجل تحقيق الخير، هذه اللذة مرفوضة كون أنها تبعد الأنسان عن الجمال الحقيقي، وهذا الجمال القائم على بعث الخير في النفس لا جذبها نحو متعة حية تنتهي بهذه النفس الى عوالم أخرى غير عالم الجمال المثل الأفلاطونية، ويكون لطبيعة ونوعية الفن علاقة في الأثر النفسي نحو الخير والحق والجمال . ومن جهة ثاني يربط (أفلاطون) في كتابه (الثيئيتتس) بين الأحرف الأبجدية والموسيقى من خلال (برهان اختباري الأحرف الأبجدية والموسيقى) الذي يريد أن يبرهن أن الموسيقى تعبر عن الصدق في الأمور الواقعية على وفق مبدأ أهميتها في التعلم، وهذا المبدأ الجمالي يستخدمه (أفلاطون) في هذا المجال، على حسب المحاورة التي تقع بين (سقراط) و(ثيئيتتس):

" سقراط: فما بالك مرة أخرى؟ ألا تقبل تقبلاً أفضل، قولاً مناقضاً لقول المدّعي هذا، مما تعيه وتشعر به أنت نفسك في تعلّم الأحرف؟

ثيئيتتس: أي قول؟

سقراط: إنك ما فتئت لا تتعلم سوى العناصر، محاولاً أن تتبين كل عنصر في حد ذاته وتتعرف عليه بالبصر والسمع، كي لا يحملك وضعه بين العناصر الأخرى المنطوق بها والمكتوبة، على القلق والاضطراب .

ثيئيتتس: تعبّر عن أصدق الأمور وأكثرها واقعية .

سقراط: وفي تعلم عازف القيثارة تعلماً كاملاً، هل وجد عمل ما آخر سوى قدرته على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر . وكل امرئ قد يعترف أن هذه الأنغام هي عناصر الموسيقى .

ثيئيتتس: لم يقدم على أي عمل آخر .

سقراط: بناء على العناصر إذن والمقاطع هذه، نحن بها خبيرون، إنَّ وجب أن نستدل على الأمور الأخرى، ففي وسعنا أن نصرح أن جنس العناصر قد أحرز قدره تبيان أوضح من المقطع بكثير وأرسخ وأوفر أصالة، لاقتناء كل فرع من المعرفة اقتناء تاماً . وإنَّ ادعى أحد أن المقطع معلوم بالطبع، وأن العنصر من طبعه غير معلوم، ففي إمكاننا الاعتقاد أنه يمزح طائعاً أو مكرهاً .

ثيئيتتس: كلامك دقيق متقن في الواقع . " (10)

يعتقد (أفلاطون ) بمدى أهمية الموسيقى في إثبات البرهان الاختياري كونها  تدخل في تبيان حقائق عن طبيعة النفس في التعلم والتفريق بين الأشياء، كما المثال الذي ضربه في المحاورة بعازف القيثارة والتعلم الكامل من خلال القدرة النفسية على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر، وهذا التتبع يعطي الاعتراف بإن هذه الانغام تعود لعناصر الموسيقى عن غيرها من العناصر للوصول الى المبدأ الجمالي الأفلاطوني المتمثل بمعرفة الحقيقة عن طريق هذا الفن . وهنا نعود الى المقارنة بين الشعر والموسيقى لدى (أفلاطون)، بالتساؤلات الأتية: لماذا أن الشعر لا يوصل النفس الى الخير والحق لدى (أفلاطون)؟: يعتقد (أفلاطون)بأنه يقربها أكثر الى الصور الخيالية الخداعة، ويبعدها عن الجمال الحقيقي . بينما يعتقد أن الموسيقى تأخذ النفس البشرية الى الجمال وتكسبها ائتلاف يقودها اليه . كما يعتقد أن للمحاكاة علاقة أيضاً في إبعاد النفس عن الحق والخير والجمال كما هو في فن التصوير، فالتصوير عند (أفلاطون) " يرمي الى تقليد الطبيعة الظاهرة، وهو مخادع لأنه يصف الواقع ويحاكيه ولا يقدم ابتكاراً، ويأخذ بفن المنظور والخداع البصري والبراعة من استخدام الألوان، فالأشياء كما نعلم تظهر لنا مختلفة الحجم لبعدها عن عيوننا كأنها محدبة، أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرض له العين، وهذا النقص الطبيعي يستخدمه الرسم لمصلحته فينقل الفنان ما يراه هو، وبنظر (أفلاطون) الرسم واقعي يعكس ما يراه ويقلّد دون التعمق بالمعاني الأخلاقية والمثالية "(11) التي من اللازم أن يصل اليها الفنان، فالتصوير عند (أفلاطون) من الفنون التي تبعد المحاكي من حيث الممارسة عن الحق والجمال والخير، بسبب عدم التعمق بالمعاني الأخلاقية المثالية، فالرسم في طبيعته يغالط في طريقة المحاكاة الأفلاطونية للمثل حسب طبيعة المحاكاة الأولى، أي حسب النوع الأول من الفن الذي يكون في طبيعته ينتمي الى الرؤية السطحية، لا الى المحاكاة ذات البصيرة والاستنارة للوصول الى ما هو أعمق من المظاهر الخادعة، فالعين قد تكون من الوسائل المخدوعة بسبب الخطأ اللوني الذي تأخذه من الطبيعة،أو من المشاهدات المتحركة للأشياء، فالخداع قد يكون من ركائز الرؤية عند الرسام الذي ينقل الأشياء دون تعمق حسب المحاكاة السطحية التي لا يريدها (أفلاطون) في مثله، ويبحث عن التعمق بالمعاني للوصول الى عالم المُثل ذات البعد الجمالي والأخلاقي والمثالي، ومن الصعب أن يتوفر في فنون التصوير ومنها الرسم والنحت أيضاً هذا الصدق الجمالي الذي يبتغيه.

إذن، فالجمال الأفلاطوني ما هو إلا فكرة تتكون " بإدراج ما هو مشترك في الأشياء الجميلة واستبعاد النقاط التي تختلف عن الجمال وهذا هو بالضبط ما نعنيه بالمفهوم، ولذلك تقوم نظرية (أفلاطون) على أن المفاهيم هي حقائق موضوعية ويطلق عليها (...) المُثل وتفسر جوابه الفلسفي على أنها تلك الحقيقة المطلقة والقصوى التي يمكن أن تفسر كل الأشياء الأخرى، فهذه النهضة في النفس تحصل بالدرس الذي يرمي الى اجتذاب العقل من الحسيات الى اليقينيات ومن المنظورات الى غير المنظورات والأبديات، وكل ما يثير العقل الى التفكير في طبيعة الأشياء الجوهرية يؤدي الى احراز النتيجة نفسها " (12).

إنَّ عالم المُثل عالم عقلي، وأن الخير والحق والجمال ينتمون الى هذا العالم بوصفهم حقائق يبحث عنها (أفلاطون) في سياقاته المفضلة ودروب العقل التي يجب أن يجعل منها الدروب السالكة لهذه القيم العليا في عالم مثله، وما الفنون سوى أدوات قد تحاكي الاشياء بسطحية وتبعد المحاكي عن الجمال الحقيقي، أو قد تحاكي القيم العليا وتوصل المحاكي والنفس البشرية الى عالم الحقيقة وهو عالم المُثل الأفلاطونية، ولكن ليست كل الفنون تنتمي الى عالم المُثل في محاكاتها، ويتم التعامل مع هذه الفنون على مدى انتمائها الى الجمال الأفلاطوني على وفق مفهوم المُثل والمحاكاة لديه .

***

ا. د. محمد كريم الساعدي

..................

الهوامش

1. ديديه جوليا: معجم الفلاسفة والمصطلحات الفلسفيْة، بيروت: دار المؤلف للنشر والطباعة والتوزيع، 2016، ص 19، ص20.

2. د . راوية عبد المنعم عباس: القيم الجمالية، القاهرة: دار المعرفة الجامعية، 1987، ص 43.

3. محمد جديدي: الفلسفة الإغريقية، الجزائر: منشورات الأختلاف، 2009، ص281.

4. نفسه، ص281.

5. أفلاطون: السفسطائي،  ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب،2014، ص102، ص103.

6. نفسه، ص 105، ص107.

7. د. أنصاف جميل الربضي: علم الجمال بين الفلسفة والأبداع، عمان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995، ص26.

8. نفسه، ص55.

9. نفسه، ص27، ص28.

10. أفلاطون: الثيئيتتس، ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2013، ص 217،ص218.

11. د. غادة المقدم عذره: فلسفة النظريات الجمالية، بيروت:جروس برس، 1996.، ص55، ص56.

12. نفسه، ص 53.

قصص  مثل ارتفاع الاسعار وقلة العرض او ركود متوقع دائما ما تشغل حاليا العناوين الرئيسية للصحف. الأزمة الاقتصادية الحالية عمّقت القضية القائمة منذ زمن طويل وهي اللامساواة الاجتماعية، مما زاد الفجوة بين الفقراء والأغنياء – وهي مشكلة تفاقمت سلفا بفعل الركود الكبير لعام 2008 والصدمة الاقتصادية التي أحدثها كوفيد 19.

الولايات المتحدة وهي البلد الأغنى في العالم من بين الأمثلة الصارخة لهذه النزعة. اليوم، يستلم مدراء الشركات الأمريكيين 940% اكثر مما استلم أقرانهم عام 1978. من جهة اخرى،العامل العادي يذهب الى بيته فقط مع 12% زياده في دخله مقارنة بعام 1978. وكما يشير تقرير لمعهد السياسة الاقتصادية، ان ارتفاع معاشات مدراء الشركات لا يعكس تغييرا في قيمة المهارات، بل هو يمثل تحولا في السلطة. خلال عقود، أضعفت السياسة الامريكية القدرة التفاوضية للعمال من خلال التثبيط وجهود كبح التنظيم النقابي. الثروة المتصاعدة للقلة على حساب الأكثرية يعني تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الناس والذين اكثرهم من الرجال. ليس غريبا ان شخصيات مثل دونالد ترمب و مارك زوكربيرج وإيلون ماسك لهم تأثير غير متوازن على الجاليات في الولايات المتحدة – وأحيانا بنتائج مدمرة تهدد المؤسسات الديمقراطية.

اقتصاد بوجه انساني

من الضروري جدا الآن واكثر من أي وقت مضى ان يُعاد فحص اسس النظام الديمقراطي في الغرب. البحث عن نماذج اقتصادية بديلة اصبح صعبا في ظل أنماط التفكير التقليدية. العديد يعتقدون اننا نواجه خيارا قاسيا بين اقتصاد السوق الرأسمالي من جهة والاقتصاد الاشتراكي المخطط من جهة اخرى. ورغم اننا نعيش في عالم يعرّف النماذج الاقتصادية بعبارات مطلقة،لكننا لا يجب ان نكون بهذه الطريقة. نرى ان الرؤى السايكولوجية والاجتماعية المتعلقة بالاقتصاد التي طُوّرت في القرن التاسع عشر من قبل فلاسفة مثل هيجل وجون ستيوارت مل و جورج سيميل يمكن ان تساعدنا في إعادة تصور اقتصاد بوجه انساني.

هؤلاء المفكرون كانوا مقتنعين ان النظام الاقتصادي الجيد يجب ان يضم عناصر من الرأسمالية الكلاسيكسة (مثل السوق الحرة في السلع والخدمات) ومن الاشتراكية الكلاسيكية (مثل الملكية الجماعية لوسائل الانتاج). هذا ما نطلق عليه التعددية الاقتصادية.

هيجل ومشكلة الثراء

يُعتبرهيجل مثالا جيدا لمفكر اقتصادي تعددي. في كتابه فلسفة الحق (1820)، عرض هيجل تفكيرا مكثفا حول الاقتصاد الحديث. هو ناقش السوق ومبادئه قيد العمل،اللامساواة الاجتماعية، وحتى تكوين الرغبات من خلال الإعلانات وثقافة المستهلك. من بين العديد من الموضوعات التي فحصها كانت مشكلة الثراء. لم يكن هيجل قلقا فقط حول الفقر الذي خلقه الاقتصاد الحديث، وانما ايضا حول التركيز المفرط للثروة بيد القلة. هو كان يكتب قبل مئات السنين قبل وصول البليونيرات الجدد الى المشهد وجادل سلفا ان "كلا هذين الجانبين، الفقر والثراء يمثلان بلاءً للمجتمع المدني".

تحليلات هيجل تنبأت بالأحداث قبل وقوعها. هو اعتقد ان الثراء خلق ميلا مضادا للبديهة بين الأثرياء عندما شعروا انهم ضحية وانهم حُرموا من حقوقهم من جانب المجتمع. وبالنتيجة،اعتبر الاثرياء جميع الدعوات لفرض ضرائب عليهم هي هجمات غير مبررة على حريتهم الشخصية. هيجل اعتقد ان هذا الإحساس بالإيذاء قد يقود لرابطة غير متوقعة بين اولئك الذين في قمة الهرم الاقتصادي واولئك الذين في القعر – وهي رابطة ستزيح الاختلافات في اسلوب الحياة والكراهية المتبادلة لتشكل تحالفا يهاجم المجتمع المدني من كلا الجانبين. ظاهرة تحالف ترامب MAGA (إجعل امريكا عظيمة مرة اخرى) هي مثال هام عن ذلك.

إعادة تصور الاقتصاد

خلافا لبعض الاشتراكيين اللاحقين، لم ير هيجل ان مشاكل الثراء يمكن معالجتها بادخال اقتصاد مخطط يُلزم قسرا تطبيق المساواة في الثروة. بدلا من ذلك، كان اتجاه هيجل تعدديا. هو دافع عن موقف مزدوج فيه الاقتصاد الحر يعمل بالتوازي مع وجود أشكال تعاونية للانتاج – تشبه بشكل ما تعاونيات العمال الحديثة. يرى هيجل، اذا كان معظم الانتاج في المجتمع يُنظّم تعاونيا، فان الافراد الأكثر ثراءً سيكونون جزءاً من عملية صنع القرارات الاقتصادية بالاشتراك مع الآخرين،الامر الذي يستبدل "تحالف الضحايا" الضار السائد بين الغني والفقير بهوية جماعية مرتكزة على وكالة اقتصادية مشتركة.

عند إعادة تصور نظامنا الاقتصادي الحالي، يمكننا ان نستفيد من كتاب هيجل عبر التركيز على تعاونيات العمال، او أصحاب المشاريع الاقتصادية التي يشترك العمال في ملكيتها ويتخذون بشكل جماعي قرارات انتاجية، عادة تتم – وليس دائما- باسلوب ديمقراطي.

تحت أي ظروف تكون الأساليب التعاوية للانتاج ناجحة؟ وكيف يمكن للدولة تحفيز هذه الأشكال من الانتاج ضمن اقتصاد السوق الحالي؟ وهل ان تعاونيات العمال هذه حقا طريقة لتحقيق العدالة الاقتصادية؟ هذه الأسئلة التي أثارها فلاسفة الماضي،ربما تفيدنا في تصور مستقبل لإقتصاد تعددي جديد أكثر عدالة وذو طابع انساني.

***

حاتم حميد محسن

أثرت أعمال هيجل على كل ركن من أركان الحياة الفكرية، في ألمانيا أولاً وخارجها ثانيا. قام بعض الفلاسفة، والأكاديميين، والنقاد في امتداح الفلسفة الجديدة التي أطلقها هيجل لكن أنتقدها بعضهم. يبرز هنا لودفيج فيورباخ (1804-1872) الذي بدا مثل هيجل، كطالب في علم اللاهوت، ثم تحول تحت تأثير وجهات النظر الهيجلية، إلى دراسة الفلسفة. لقد كان في البداية من أتباع هيجل، لكنه تحول إلى أحد منتقديه بعد ذلك. كانت شكواه أن هيجل، على الرغم من أنه يبدو ماديًا (وبالتالي كمفكر ملحد وفي هذا ما يوجب الاتفاق معه) اللا أنه كان في الواقع مدفوعًا بالدين. عبر فيورباخ عن موقفه الفلسفي المادي من خلال تأليف مصنف معادٍ للأديان، وكان من نتائج هذا فقدانه لوظيفته رغم أن الكتاب نُشر بدون الكشف عن هوية المؤلف.

درس كارل ماركس (1818-1883) القانون في بون ثم الفلسفة والتاريخ في برلين. حصل على الدكتوراه في جينا عام 1841 على أساس أطروحته عن أبيقور (342-271 قبل الميلاد) وديموقريطس (460 قبل الميلاد). وقد عرّف نفسه في وقت مبكر من تعليمه على أنه يمثل الجناح اليساري لما كان يعرف باسم "الشباب الهيجليين".  لقد جعل إلحاده العلني عمله الأكاديمي في بروسيا مستحيلًا، فبعد فترة قصيرة من عمله كمحرر لمجلة اقتصادية، ذهب إلى المنفى، الذي لم يعد منه أبدًا، إلى بروكسل، باريس، ثم لندن. كانت منشوراته الأولى الجديرة بالملاحظة هي ما يعرف باسم المخطوطات الاقتصادية والفيزيولوجية لعام 1844.[1] سرعان ما بدأت شراكته مع فريدريش أنجلز (1820-95) التي استمرت مدى الحياة، فتعاونا على اصدار كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" في عام 1845 (التي يبدو أنها لم يُنشر إلا بعد عشرين عامًا لإنقاذه من "قضم الفئران"، كما جاء في المقدمة،).

تبدأ الـ "أطروحات حول فيورباخ" في افتتاح الأيديولوجيا الألمانية بنمطً من الرفض القاسي والساخر أزاء  الهيجليين الشباب، وهو أسلوب سوف يستمر في كتابات الماركسيين التي تنتقد مَنْ يعارض كتاباتهم منذُ عام 1845 حتى الوقت الحاضر. وتمشيا مع الاهتمام الحديث بالعملي مقابل النظري، يتحول هدف الفلسفة مع ماركس وأنجلز من الرغبة في الفهم وأن تكون مفهوما، إما من قبل القلة أو من قبل الكثيرين، إلى الرغبة في النجاح كفاعل سياسي. فتنحل الفلسفة وتعاود الظهور كسياسة. إن أبرز مثال على الجدل الفلسفي السياسي هو لينين (1870-1924)، الأب المؤسس لثورة عام 1917 التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي، والذي كتب في كتابه "الدولة والثورة" (1917): إن جدلًا ساخرًا وشديد القسوة يكاد يكون لذيذًا. لقد عامل كارل كاو تسكي، وهو اشتراكي غير ماركسي، بمثل هذه السخرية القاسية في الفصل السادس من ذلك الكتاب القصير الذي يمكن قراءته مرارًا وتكرارًا بتسلية متزايدة.

ينقد ماركس وأنجلز، في الصفحة الأولى بعد مقدمة الأيديولوجيا الألمانية، هيجل فيما يتعلق بموقفه المُعبر عنه في مصطلح “الروح العامة".  لقد تم رفض الحجة الهيجلية بوصفها تعبر عن "تعفن الروح المطلقة".[2] وبعبارة أخرى، أنهم يرون أن ما توصل إليه هيجل فيما يسميه، روح العالم، كان مفهوم قابل للتلف، وكان من المحتم أن يتعفن هذا المفهوم، وهذا ما حدث بالفعل لـ هذا المفهوم الهيجلي مع بعض أتباعه. أما المفهوم الآخر الذين تناوله وعلينا هنا فحصه وهو مفهوم "الأيديولوجيا". ويُقصدون به ما نسميه "الثقافة". فالأيديولوجيا بالنسبة لهم هي مثل تصور هيجل لـ “روح العصر". أي أنه ما يرمز الى التصور الأخلاقي والفكري للثقافة.  لقد كان يقصد ماركس وأنجلز في استخدمهما هذا المصطلح في الأيديولوجية الألمانية، شيئًا يضع هذا المفهوم في ضوء جديد تمامًا بالنسبة لنا. فتعني "الأيديولوجيا" بالنسبة لماركس وأنجلز، شيئًا مثل "المثالية".

عندما يشبه ماركس وأنجلز الإيديولوجيا بالمثالية، أو يعاملان المفهومين على أنهما قابلان للتبادل، فهذا ليس ثناء منهما ولكن يقصدون أن الأيديولوجية تقوم على " المُثل" الأفكار. بدا أفلاطون أحمق بالنسبة لهم، فقد كانوا يعتبرون المُثل كما تصورها أفلاطون عبارة عن مجرد تخيلات. إنها مثل كل فلسفة، ومثل الدين والشعر تعبير عن أوهام العقل غير المتجذر في الواقع الملموس، وهذا هو المكان الذي أخطأ فيه هيجل وأتباعه. فقد رأى ماركس وأنجلز:

لم يتخلى النقد الألماني، عن عالم الفلسفة أبدًا. فقد انبثقت، وبعيدًا عن المقدمات الفلسفية العامة، بنيًة تحقيقاته من تربة نظام فلسفي محدد ألا وهو نظام هيجل. مما أدى الى أن يلف الغموض ليس فقط إجابات النقاد الألمان ولكن تساؤلاتهم ايضًا.[3]

أيا كان ما يمكن قوله عن آراء ماركس، فإن الحديث عن فلسفة هيجل على أنها " غامضة " أمر حقيقي. يصف ماركس الفلسفة نفسها في هذا السياق بأنها خاطئة، ويجب على النقاد " للكتابة بطريقة منطقية، التخلي عن الفلسفة". إذا كان مكيافيلي هو الفيلسوف الأول الذي يضع الفلسفة في خدمة السياسة، فإن ماركس كان أول فيلسوف ينكر الشرعية أو حتى إمكانية الفلسفة.

قال هيجل أن التاريخ حل محل الفلسفة، ودفن ماركس جثة الفلسفة ودفنها بطريقة غير لائقة، فقد رأى أنه توجد بالفعل أفكار، لكنها ليست، كما فهمها أفلاطون، كيانات تعيش بذاتها في عالم منفصل عن عالم المادة القابلة للتلف والفساد.

يتداخل إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي بشكل مباشر مع النشاط المادي والعلاقات المادية التي هي لغة الحياة الواقعية. يظهر التصور، والتفكير، والعلاقات الفكرية او الروحية بين البشر، كتدفق مباشر لسلوكهم المادي. ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج العقلي كما هو مطبق على السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقيا. إن البشر هم المنتجون لمفاهيمهم وأفكارهم لأنهم مشروطون بتطور محدد لقواهم الإنتاجية، والعلاقات المقابلة لها، حتى في أقصى أشكالها. لا يمكن أن يكون الوعي أي شيء آخر أبدًا غير الوجود الواعي، ووجود البشر هو طريقة أو عملية حياتهم الفعلية ".[4]

إن ما أطلق عليه أفلاطون "المُثل" يسميها هيجل geistes، (الوعي بروح العصر)، ويفسر سير التاريخي على أنه ديالكتيك ذاك روح العصر. كان لروح العصر جوهره الخاص بالنسبة لهيجل، كما فهم أفلاطون المُثل، لكن هيجل أعطى تطورًا حديثًا لهذا الفهم اذ يرى: أن ارسطو أعتبر أن أفضل نظام سياسي عملي في معظم الحالات هو نوع من "النظام المختلط" والذي هو مزيجًا من الأوليغارشية والديمقراطية، وكلاهما من الأنظمة الناقصة بذاتها، لذا قد يُثرى هذا الخليط بمزيج من الأرستقراطية في بعض الحالات. وهذا هو أفضل شكل من النظام ولكن يصعب قيامه في حد ذاته. عدل هوبز تعاليم أرسطو في القرن السابع عشر، فجعل المشاعر بدلاً من العقل أساس كل شيء. أيً النظر إلى الحكم من ناحية الرغبة والحماس. إنً هذه الرغبة عند هوبز هي أساس العقيدة السياسية الحديثة التي تسمى في الاقتصاد "اليد الخفية". إنه، كما يسميه شتراوس، أول سياسي رغبوي؛ يجعل من الأنانية وصراعاتها مؤلفًا للصالح العام. لا يوجد خير مشترك على هذا النحو، فالخير العام هو ببساطة النتيجة الرياضية لسلسلة صراعات الرغبات الخاصة. يتابع هيجل مسار هوبز من خلال رؤية ديالكتيكية لروح العصر بوصفه صراع تاريخي. يحتفظ ماركس بالجدلية والعملية التاريخية والصراع، لكنه يرفض الجانب غير المادي– المثالي لهيجل، " ويبدو أنه يساوي بين هيجل وتاريخ الفلسفة بأكمله أيضًا. إنه يحتفظ بالعملية التاريخية الهيجلية، والجدلية الهيجلية، والصراع الهيجلي، ويجمعها مع صيغة معينة من المادية.  لقد رأى ماركس وأنجلز في "الأيديولوجيا الألمانية":

إذا قلب البشر ظروفهم، في كل ايديولوجيا، رأسًا على عقب كما هو الحال في كاميرا التصوير، تنشأ حقيقة سير حياتهم التاريخية تمامًا مثل انعكاس الأشياء على شبكية العين هي من حياتهم المادية.

في تناقض مباشر مع الأيديولوجية الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض، نصعد هنا من الأرض إلى السماء. أي أننا لا ننطلق مما يقوله البشر ولا مما يتخيلونه أو يتصورونه من أجل الوصول إلى ما هو متجسد فعليًا؛ ولكن ننطلق من بشر موجودين حقيقيين ونشطين فعليًا، وعلى أساس سيرتهم الحياتية الواقعية، فنظهر الانعكاسات الأيديولوجية وأصداء هذه العملية الحياتية في الأخلاق والدين والميتافيزيقيا وكل ما يقابلها من أشكال للوعي.[5]

تنظر كل أيديولوجيا، أي المثالية، أي الفلسفة كلها، بشكل مقلوب الى الواقع، حيث تنظر اليه بوصفه نتاج ثانوي للفكر. إن الحالة الحقيقية للأشياء هي أن الفكر مبني على السير المادي للتاريخ. إنها تعبر عما أطلق عليه الماركسيون فيما بعد "المادية الديالكتيكية". (لم يستخدم ماركس هذا المصطلح أبدًا، لكن استخدام من قبل أتباعه). لقد فهم هيجل والهيجليون، مثل كل الفلاسفة من قبلهم، كل شيء خاطئًا لأنهم بدلاً من الوقوف على أقدامهم على أرض صلبة يقفون على رؤوسهم على سحابة. وكما وصف ماركس وأنجلز في كتابات أخرى، بما في ذلك البيان الشيوعي (1848)، الفلسفة هي بنية فوقية تتراكم فوق الظروف المادية في ذلك الوقت التي أُنتجت هي فيه. "عندما يتم وصف الواقع، تفقد الفلسفة باعتبارها فرعًا مستقلاً من النشاط وسيط وجودها... فإذا نظرنا إلى هذه الأفكار التجريدية بصرف النظر عن التاريخ الحقيقي، فليس لها في حد ذاتها أي قيمة على الإطلاق".[6]

هناك، بالطبع، الكثير مما يمكن قوله عن ماركس وأنجلز والمعرفة الماركسية الصاخبة ككل، لكن يكفي للأغراض المحدودة لهذا المقال تلخيصها بالقول إن ماركس يواصل النزعة التاريخية التي بدأها روسو وطورها هيجل. لقد فعل ذلك بقبوله الجزء الأكبر من هيجل، واستبعاد ما يسميه "صوفية" هيجل، ووضع صيغته الخاصة من المادية مكانها بحيث يؤدي الديالكتيك التاريخي إلى نهاية التاريخ ليس كدولة هيجل البروتستانتية الألمانية، ولكن كعالم جديد ورائع للشيوعية المطلقة.

***

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

.....................

[1] حول فيورباخ وماركس أنظر:

Feuerbach and Marx can be found in The Encyclopedia of Philosophy, 8 vols., New York, 1967, Macmillan (Feuerbach in vol. 3; Marx in vol. 5).

وأنا مدين لهذه المقالة في هذا التفصيل.

[2] Marx and Engels, The German Ideology, R Pascal, ed., New York, 1947, International Pub­lishers, p. 3.

[3] Marx and Engels, The German Ideology, p.4.

[4] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.

[5] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.

[6] Marx and Engels, The German Ideology, p.15.

 

يساعد وصف العقوبة الذي قدمه فريدريك نيتشه في جزء مركزي من كتابه أصل الأخلاق وفصلها (1887) في تفسير سبب استمرار اعتبار هذا الفيلسوف الخبيث والمربك بشدة كمشارك في النقاش الفلسفي المعاصر. 

يقول أن هناك جانبين  فيما يتعلق بمشكلة العقوبة يجب التمييز بينهما: من ناحية، هذا الجانب من العقوبة الذي هو دائم نسبيًا- العادة، الفعل، "الدراما"، تسلسل محدد صارم للإجراءات- ومن ناحية أخر، هذا الجانب المرن- المعنى، الهدف، التوقع المرتبط بتنفيذ هذه الإجراءات. 

وبالتالي، فإن الأشياء ليست  كما افترض علماءالجينالوجيا السذج لدينا من الأخلاق والقانون سابقًا، معتقدين كما يفعلون جميعًا أن الإجراء قد تم اختراعه خصيصًا لغرض العقاب.  بدلاً من ذلك، يجب افتراض أن  الإجراء نفسه سيكون شيئًا أقدم من استخدامه كوسيلة للعقاب.

وهكذالم يعد مفهوم "العقوبة" يمتلك معنى واحدًا، بل توليفة كاملة من "المعاني"، في مرحلة متأخرة جدًا من التطور الثقافي (كما هو الحال، على سبيل المثال، في أوروبا المعاصرة). يتبلور التاريخ الكامل للعقاب حتى هذه النقطة، وتاريخ استغلاله لتحقيق الأهداف الأكثر أختلافا وتنوعًا، أخيرًا في نوع من الوحدة التي يصعب كشفها، ويصعب تحليلها، و- نقطة يجب التأكيد عليها- تتجاوز التعريف تمامًا. (من المستحيل تحديد سبب معاقبة الناس في الوقت الحاضر: كل المفاهيم التي يتم فيها تلخيص عملية كاملة في علامات تهرب من التعريف ؛ فقط ما هو بدون تاريخ يمكن تعريفه). 

يضع نيتشه هنا إصبعه على مشكلة حقيقية للنظرية الاجتماعية، مشكلة تعريف المفاهيم الاجتماعية التاريخي - أو بشكل أكثر دقة، إعطاء أي تفسير نظري وعام لها يتجاوز سرد المصطلحات المختلفة التي تم  تعريفها وتحديدها تاريخيًا (العلامات). يستمر نقاش نيتشه في تقديم قائمة، من أحد عشر "معنى" أو "مقصد" للعقاب: طريقة لإبطال الضرر ومنع المزيد من الضرر؛ تعويض الضحية؛ عزل واحتواء شيء يخل بالتوازن؛ وسيلة لبث الخوف في نفوس الذين يقررونها ويقومون بتنفيذها؛ "شكل من أشكال التنازل [التعويض] المستحق مقابل المزايا التي تمتع بها المجرم سابقًا [حتى تلك النقطة] (على سبيل المثال، عندما يكون مفيدًا كعمل بالسخرة في المناجم)" ؛ القضاء على عنصر أو فرع منحل؛ الاحتفالية وانتهاك العدو وإذلال ؛ وسيلة لإنتاج الذكرى، سواء بالنسبة للشخص الذي تُفرض عليه العقوبة (ما يسمى بإعادة التأهيل) أو لمن يشهدها؛ شكل من أشكال الأجر مقابل الحماية من تجاوزات الانتقام؛ حل وسط مع روح الانتقام. إعلان حرب ضد عدو يُعتبر خطيراً وخائنًا. 

يسعى نيتشة في جينالوجيا الأخلاق وراء معنى أو الوعي بالذنب.  فيرى إن العقوبة نفسها لا تثير عادةً الشعور بالذنب- بل إنها عادة وتاريخياً تعوق تطور الشعور بالذنب، وفي أصولها لا علاقة لها بالتخلي عن المسؤولية. وبدلاً من ذلك، فقد نشأ من تصورات التكافؤ على غرار المقايضة والبيع. كان المجرم مدينًا والدائن المتضرر يحصل على تعويض على شكل متعة أن يكون قادرًا على التنفيس عن سلطته دون تفكير مرة أخرى في شخص عاجز عن متعة الانتهاك [اغتصاب؛ القيام بالعنف]".   ولكن مع ازدياد قوة المجتمع، يتوقف عن النظر إلى الجرائم بجدية شديدة ويبدأ في حماية الجاني من السخط الشعبي وغضب الشخص الذي أصابه الجاني. 

وهكذا نصل إلى "فرضية" نيتشه حول أصول الضمير، "للضمير السيء" أو الشعور بالذنب في المقام الأول، وهي تتعلق بالضمير نفسه في الأساس. نرى في هذه الفرضية سلف الفرويدية،  الاجتماعي -البيولوجي، ومحاولات اختزال أخرى لتفسير الضمير على أنه تسامي أو نتاج للكبت، ورغبات الموت، والغرائز، وما إلى ذلك.

يعتبر نيتشة أن الضمير هو المرض العميق الذي أجبر الإنسان على الخضوع له تحت ضغط تلك التغييرات الأساسية - عندما وجد نفسه محبوسًا بشكل نهائي في تعويذة المجتمع والسلام. كل غريزة لا تنفيس عن نفسها خارجيًا تتحول إلى الداخل- وهذا ما أسميه استبطان الإنسان: في هذه المرحلة يتطور ما يُسمَّى لاحقًا بـ "الروح" أولاً في الإنسان. إنها تلك الحصون المخيفة التي تحمي بواسطتها منظمة الدولة نفسها من الغرائز القديمة للحريةـ والعقاب الذي ينتمي قبل كل شيء إلى هذه الحصون، والتي جعلت كل غرائز الإنسان البدوي الحر والوحشي تنقلب إلى الوراء ضد الإنسان نفسه. العداء، والقسوة، واللذة بالاضطهاد، والاعتداء، والتغيير، والتدمير، وكل ما ينقلب على الانسان الذي يمتلك مثل هذه الغرائز: هذا هو أصل "الضمير السيء". الرجل الذي تم إجباره على أخلاق ضيقة ومنتظمة، والذي بسبب نقص الأعداء الخارجيين والمقاومة بفارغ الصبر، دموع، يضطهد، يقضم، يزعج، يسيء معاملة نفسه، هذا الحيوان الذي يجب `` ترويضه ''، والذي يفرك نفسه ضد القضبان من القفص، هذا الرجل المحروم بالحنين إلى الوطن للصحراء، الذي لم يكن أمامه خيار سوى تحويل نفسه إلى مغامرة، مكان للتعذيب، برية غير مؤكدة وخطيرة - هذا السجين الأحمق، المتلهف واليائس أصبح مخترعًا لـ ' تأنيب الضمير' أو' الضمير السيئ".     

باختصار: الضمير السيئ، أي أن الضمير الذي يصدر حكمًا سيئًا على سلوكه السابق هو`` الرغبة في إساءة معاملة الذات''و''الإرادة لتعذيب الذات، تلك القسوة المضطهدة  للحيوان  داخل الانسان الذي تمت ملاحقته مرة أخرى في نفسه، حالة الانسان  المحبوس في الأصل يد "حشد أو غيره من الحيوانات المفترسة [كالوحوش الأشقر]، جنس من الغزاة والأسياد  (غير مخفي إعجاب نيتشه به) – "لكي يتم ترويضه، الانسان الذي اخترع ضميرًا سيئًا من أجل إلحاق الألم بنفسه بعد أن تم إعاقة المنفذ الأكثر طبيعية لهذه الرغبة في إلحاق الألم ''  وما إلى ذلك. وهكذا، كما يقول نيتشه في نهاية هذا العرض لـ "فرضيته"، فقد ااعتنى "بشكل نهائي" بأصل "الإله القدوس"  والذي يقصد به كل من الضمير (الذي أطلق عليه كانط ربنا القدوس) والله، وإسقاط  الوحش الحزين المعتوه، الانسان". 

إن إرادة الصدق والسعي والتمسك بالحقيقة هي في حد ذاتها نتاج ذلك المرض والضمير. يرى نيتشة  أن الضمير مرض وأن الله، وهو الأساس الوحيد لقيمة الحقيقة، غير موجود، لذلك يجعل إرادة الحقيقة، وقيمة الحقيقة، والصدق موضع تساؤل: يجب التشكيك في قيمة الحقيقة ولو لمرة واحدة بواسطة التجربة.

نقد وتقييم

 تكشف عبارة نيتشه" "بواسطة التجربة'' عن الطابع العابث والمتهور لفكره، أو عمق المأزق الذي دفعته إليه تأكيداته التعسفية وإنكاره. لكنه لا ينكر، في الواقع، هنا، في هذه المرحلة، ويعترف بأن "جوهر الضمير هو، في الواقع، إرادة الحقيقة والصدق. 

اذا أردنا أعتبار  جينالوجيا نيتشه للضمير والأخلاق  كحقيقة وتاريخية  فأنها في الواقع بعيدة كل البعد عن الأثبات والأدلة. ولكن حتى لو كانت تستند إلى أدلة أفضل بكثير مما هي عليه، فعلينا أيضًا أن نضع في اعتبارنا، وأن نتبنى، اعتراف نيتشه نفسه - الذي اعترف به بغض النظر عن تخريبه لمشروعه - أن هناك عالمًا من الاختلاف بين سبب وجود شيء ما في المقام الأول والاستخدام النهائي الذي وُضع من أجله، وتطبيقه الفعلي ودمجه في نظام الأهداف.

يمكن تنظيم وتوجيه ردود افعالنا وميولنا التفاعلية، مثل رغباتنا ونفورنا بشكل عام، بطريقة تتعلق بطبيعتنا  من خلال فهمنا،  ومن خلال قدرتنا على فهم الفرص والمنافع والتفكير بها، وما يقابلها من حالات تقصير وخسائر مشتركة بيننا جميعًا.، وحتى عندما تكون غرائزنا التفاعلية داخل قدراتنا الفكرية، وحتى عندما تكون إرادتنا  من أجل الحقيقة بتلك الطريقة التي تتعلق بطبيعتنا، يجب دمجها في الروح، التي هي مصدر كل طريقة لائقة بين الأشخاص، وكل المجتمع.

القيمة الجوهرية لما يفيدني حقًا لها نفس القيمة في حياة أي شخص آخر يشارك أو يمكن أن يشارك في هذا النوع من الفوائد. هذه الحقيقة وفهمنا الأساس لها هما المصدر الأساسي لكل المجتمع البشري، وهو أكثر حسماً من أي مشاعر تعاطف أو غريزة عقلانية للتضامن. تدعم هذه المشاعر والغرائز بشكل ملائم إدراك المرء الذكي لحقيقة أن كل خير بشري هو خير مشترك، ولكن يجب عليهم أيضًا أن يتعاملوا مع المشاعر المتنافسة أو ميول الانغماس في الذات والفخر، العزيزة على قلب نيتشه. إن معرفتنا العملية وفهمنا للفرص والفوائد الواضحة عندما نفكر بالتحديد في ما يجب أن نختاره ونفعله، يمكن أن يكون وهكذا، من أجل الحقيقة والصداقة، يجب أن يكون حاسمًا. نضع في اعتبارنا الوضع الآمر لهذا الحكم في مداولاتنا، وفي تأملاتنا حول اختياراتنا وأفعالنا أو إغفالاتنا السابقة، عندما نتحدث عن الضمير: الحكم على ما هو جدير حقًا بالاهتمام والذي يجب متابعته أو فعله أو تجنبه.

ادعى نيتشه أن أجيالًا من إنزال العقوبات الشرسة كانت ضرورية لخلق ذاكرة لدى البشر تتطلب أن يأخذ المرء على محمل الجد وعده أو اعترافه بالذنب أو مسؤوليته. لكن ما يؤكده نيتشه على هذا النحو بحرية، بدون دليل، يجب أن يُنكر بحرية. ليس نقص الذاكرة هو الذي يقف في طريق الاعتراف بوجوب الوعود أو واجبات الفرد في التعويض. على الأكثر، كان نوعًا من غمر الذكريات، نوعًا من تجاوز الرغبة المستقرة، والإخلاص، والمسؤولية، والندم، عن طريق موازنة رغبات المرء في الاهتمام بمصالح المرء ومتابعة ميوله من الآن فصاعدًا إلى المستقبل، أو ربما من خلال الاتفاقيات التعويضية التي تشجع على اللامبالاة بمصالح الأشخاص من خارج المجموعة. إن جزء من الوحدة العميقة لطبيعتنا المعقدة كأفراد بشريين هي قدرة المرء على التعرف على نفسه ككائن يستمر، من نهاية هذه الجملة إلى الطرف الآخر، من بداية المداولات مرورا بالاختيار إلى تنفيذ الاختيار والتمتع به. يستفيد المرء أولاً من المتصور (أو يندم على الفشل في تحقيق هدفه). وبنفس القدر، يمكن للمرء أن يتذكر ويتعرف على أنه والديه، والتعهدات التي قدمها الآخرون والتي اعتمد عليها أو فكر في الاعتماد عليها، والأضرار التي ألحقها المرء بالآخرين، والعلاقات التي أقامها، أو حافظ عليها، أو انتهكها، العمل الذي قام به المرء ويسعى الآن للحصول على أجر.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

تعريف اولي: يعتبر كتاب الدكتور الشهيد عامر جميل الراشدي استاذ الفلسفة في جامعة الموصل، بعنوان (النص الصوفي/ دراسة تفكيكية/ ابو يزيد البسطامي نموذجا) من افضل الكتب في فرادة تناول موضوعه الفلسفي وصعوبته، دراسة اكاديمية منهجية عالية الجودة والتمكن والاتقان من ادوات معالجة موضوع فلسفي شائك يعالج موضوعة النص الصوفي في اشكاليته (اللغوية) المتعالقة مع التصوف والتفكيك معا، وعن هذه المهمة الصعبة يقول المؤلف

(ان هذه الدراسة حاولت ان تكون رائدة في مجال تخصصها ولاسيما وهي تتناول نصوص ابو يزيد البسطامي من جهة والتفكيك من جهة  ثانية،لما يعنيه هذا من قلة الدراسات وندرتها التي تناولت هذين الموضوعين مع غياب اي شاخص علمي يمكن الاستهداء به) ص12.

وفعلا اجدها كذلك عن جدارة واستحقاق، اذا ما علمنا اشارة الباحث المؤلف الى صعوبة ربط التصوف بالتفكيك بقوله(وهذا ما يجعل الدراسات التطبيقية للتفكيك تكاد تكون معدومة).ص2،هذا على صعيد تفكيك النص الادبي والسردي،فكيف تكون الصعوبة في تفكيك النص الصوفي.؟ إشكالية لغوية فلسفية متعالقة ليست سهلة.

النص الصوفي الملغّز المكتوب بعامة وليس في خصوصية شطحات نصوص  البسطامي الذي يجده المؤلف متفردا عن غيره من المتصوفة،انه نص متسام متعال فوق الادراك العقلي من جهة، وفي تحرره من عرى الانشداد للطبيعة والوجود الانطولوجي والجمعي من جهة اخرى.كما يرى المؤلف ان البسطامي كان في طريقته العرفانية نموذجا متفردا وقدوة للذين جاؤا من بعده وسلكوا طرق الحال التصوفي وافادوا منه واخذوا عنه،من امثال الحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض والسهروردي وغيرهم.

والنص الصوفي يحمل اشكاليته اللغوية المنطوقة او المكتوبة ليس من اجل توظيف اللغة وسيلة تواصل تداولية تروم تعميم المعنى الاستقبالي لحالة المتصوف،وانما من اجل تعطيل متعّمد ومقصود في اعدام مثل هذا التوظيف الذي درجت عليه اللغة المنطوقة والمكتوبة في تداول تعميمم النص قرائيا سيسيولوجيا  كما في ضروب الادب والسرديات. سردية النص الصوفي من ناحيتي تفكيك المعنى وناحية الدأب المتواصل لاستخراج فائض معنى لغوي قرائي وفق استراتيجية التفكيك اجده انا برأيي حاضرا وجوبا في كلتا الحالتين. الباحث الصوفي المتمكن دكتور عامر جميل في ربط اقتران التفكيك اللغوي مع نص التلغيز اللغوي الصوفي وشطحات البسطامي غاية في ذكاء الاختيار الترابطي غير الافتعالي..

فالتصوف يروم بلغته المتعالية روحيا واشراقيا توكيد نفي ما يريد الاخرون استحضاره انطولوجيا حسيا وعقليا ايضا على صعيد تعبير اللغة عن الواقع.(فالنص الصوفي يشكل ظاهرة في مجمل النشاط البشري اذ تعد مدونته خروجا على انتماء النص الديني والنص  الادبي، فالكتابة الصوفية امكان واحتمال غير قار، وشعرية هذه الكتابة تفصح عن توتر دائم بين امكانية اللغة والعالم المتجلي الصوفي) ص5 من الكتاب.

وبهذا الفهم الاشكالي تكون اللغة الصوفية لغة اغترابية في منحيين فهي مغتربة في عجزها توصيل المعنى الاستقبالي العمومي التداولي المعهود بوظيقة اللغة اولا، ومغتربة ذاتيا في تساميها الروحاني الذي تجد اللغة نفسها فيه من خلال تجربة المتصوف قاصرة في بلوغ مراحل متقدمة في رحلة عبورها مدرجات الحال العرفاني نحو الاقتراب من المطلق الروحي في توازي التجربة الصوفية مع النص اللغوي المنطوق او المكتوب المنفرز عنها والملازم لها ثانيا.

التفكيك اللغوي

نجد من المعاد ان نشير الى ان التفكيكية التي جاء بها دريدا ليست فلسفة قائمة بملامح ثابتة بذاتها،ولا هي منهج في التفكيك والتاويل والاستدلال في البحث الدائب عن (فائض المعنى) الذي تتركه القراءات المتتالية المتعددة للنص وممارسة استراتيجية الهدم والتقويض كيفما اتفق. فهي خارج هذه الانماط الاصطلاحية لتكون كما يشير المؤلف على لسان دريدا ان (التفكيكية استراتيجية) طويلة الامد، او بتعبيرنا هي آلية  نظرية تسعى تقويض ذاتيتها باستمرار في تعالقها بالنص المكتوب تفكيكيا.كون الاستراتيج في المصطلح المتداول محكوم بغائيات بعيدة تجعل منه مركزية محورية ثابتة يرفضها قطعا التفكيك في اعتبارها محور ارتكاز افتراضي وهمي ميتافيزيقي ثابت يتوجب ان يطاله التفكيك ايضا.

فالتفكيكية لا تقر بأية ثوابت او مرجعيات او مرتكزات مثل العقل، الذات، الوجود، الموضوع، السرديات الكبرى وتعتبرها جميعها من صنع مخلفات الميتافيزيقا المتوارثة القارة عبر العصور، لذا يكون التفكيك انحلالات قصدية متعاقبة للنص، تثري نفسها ضمن صيرورة من التاويلات والتحولات غير المنتهية في سعيها  تحقيق (فائض المعنى) الذي تتركه لغة النص دائما بعد كل قراءة، هو الفائض الناتج من اختلاف وتعدد القراءات التداولية للنص التي تتوسم بالقادم من اكتشاف فائض المعنى اللغوي في افضلية مجاوزته الماثل قيد التفكيك والمجاوزة والنفي المطلوب تفكيكيا.

كما ذكرنا ان التفكيك حسب فلسفة دريدا لا يقوم على محورية تمثّل مركزا  استقطابيا مرجعيا حتى لو كان هذا المركز هو الانسان ذاته عقليا فهي لا تؤمن باشياء او موجودات خارج سلطة النص كتفكيك (لغوي) خارج فهم الحياة بالتوازي معها وليس الاحتدام المطلوب معها.، وفي هذه النقطة ربما يبدو التقاء البنيوية مع التفكيكية واردا لاول وهلة لكنه في الحقيقة غير ذلك، اذ  ان البنيوية نادت  ان (لا شيء خارج النص)، وقد تجاوزت التفكيكية هذا الادعاء البنيوي في مفارقة  اختلافية  ان لا شيء ذو اهمية خارج سلطة (اللغة) بعامة في تفسير كل شيء، وفي اعتبار التفكيك يطال كل شيء ولا شيء معا. وفي تصحيح شطحة دريدا هذه قال سيلارز (عالمنا لغة في فهمه وادراكه وتفسيره) الفرق المتزن في تعبير سيلارز انه قال جوهر عالمنا يكمن في ادراكه اللغوي ولم ينفي اية مرجعية يمكن الاحتكام لها مثل العقل او الانسان.

واذا كان رولان بارت قد بشّر بموت المؤلف فان جاك دريدا بشّر بموت النص، من خلال ان التفكيكية لا تقّر بمرجعية ثابتة يمكن الاحتكام لها في مجرى تاويلات وتفكيك النص في استهداف تحقيق فائض المعنى الذي تتركه اللغة المكتوبة تفكيكيا على الدوام .وانكرت التفكيكية على البنيوية انها تفترض سلفا مركز المعنى الذي يتحّكم بالبنية او النسق اللغوي.

وبرأينا هنا ان البنيوية كانت مصيبة في تثبيت حاكمية وسلطة المركز الذي يكون هو صمام الامان الذي يجعل من الحقيقة المنطقية الفلسفية وعيا قصديا وليس انفلاتا فوضويا كما يرغب دريدا. الادراك القصدي للعالم حسب سيلارز امرا مقبولا ليس في المطلق وانما في مثول النص للقراءة التداولية المنتجة على عكس التفكيكية التي تركت مستقبل النص مبهما متواريا لا نهائيا خلف لعبة اللغة المخادعة للمعنى والعقل من دون تحديد مرجعية الاحتكام في فض النزاع بين ان يكون التفكيك يروم خلق معنى اضافي وبين ان يكون عملية هدم وتقويض بلا وعي قصدي.

ولما كانت الدراسات البحثية في اعتبار ان الاستراتيجية الافتراضية الوهمية هي الآلية في التفكيك، لذا يكون من حقنا ان نعتبر هذه الآلية نوعا من الجدل الديالكتيكي الذي يحمل المغايرة مع الجدل الماركسي في استحداث الظاهرة الجديدة عبر قوانين الديالكتيك الماركسي المعروفة في وحدة وصراع الاضداد، وتحول الكم الى كيف، وقانون نفي النفي .

هذه القوانين التي تقوم على نقائض اصطراعها وتضادها ونفي ذاتها باستمرارية في حكمها المادة والتاريخ والوجود الانساني، وهو ما تسعى له استراتيجية التفكيك تطبيقه في الاشتغال على لغة النص خارج مفهوم وآلية تكامل التضاد الماركسي المادي الذي تعتبره التفكيكية من مخلفات الجمود المتوارث القار في الفلسفة والمدونات التاريخية والميتافيزيقا .

ان هذا التفكيك الفوضوي يحمل كل متناقضات اندثاره لاحقا ايضا في تحولات لا نهائية، اي تحولات النص في استمرارية تجاوزه غير المحدودة في تعاقبات التفكيك عليه، ويوجد هناك فرق كبير بين الجدل الماركسي الذي يشمل كونية الوجود الإنساني المادي في الطبيعة والتاريخ وفي كل شيء، وبين تقويضية استراتيجية التفكيك التي تقف عند حدود تقويض النص لغويا فقط وعلى مستوى التجريد الفلسفي غير المنطقي.

واذا كانت البنيوية نادت  لا شيء خارج النص، وان خيانة اللغة متمثلا في عجزها ونقائصها التي تسمها بالمراوغة والخداع، نجد دريدا  يعتبر اللغة اصل كل الفنون  وانه لا شيء خارج (اللغة) وليس خارج (النص) كما تدعو البنيوية، والتفكيك يعتبر النص المكتوب لا يتحدد بوجود انطولوجي مجازي مؤقت لا بمواصفات الثبات ولا بمتغيرات الصيرورة الدائمية في اماتة النص واستحداث احيائه ثانية وهكذا، (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته) . ص 12 (والتفكيك استراتيجية تمتلك صفات المنهج ولكن بخصوصية واعية لمخاطر سكونية المنهج، مما يجعل صفة الاحتمال اهم خصائص المنهج، فالشك يسكن قلب الحقيقة ان لم يكن جزءا منها) . ص 10

أبو يزيد البسطامي والتفكيك

تعتمد نصوص الصوفي البسطامي (على ذاكرة المعجم الصوفي الذي يتتبع أصول الكلمة ودلالاتها حسب أحوال ذائقيها) ص56، وذائقيها هم أصحاب أحوال الشطح الصوفي وليس عامة الناس. (ما يجعله نصا مفارقا لانتمائه باستمرارغير منتسب سوى لنفسه بالرغم انه يفكر بكونه يمتلك وجودا قارا، فوجود الكتابة الصوفية ليس من اجل اثبات وجودها بل من اجل نفيها) ص58. العبارة تلخيص صوفي في منتهى الاتقان. لغة الصوفي متى ما كانت لغة مفهومة تداوليا معناه انتفاء حصول تجربة صوفية حقيقية. الصوفية تجربة متحققة قبل ان تكون نسقا لغويا منتظما يفهمه كل الناس.

ان ذاتية النص الصوفي واستقلاليته هو سيد الموقف في أحوال الشطح التصوفي المتسامي في معارج العرفان والاشراق،فالكتابة الصوفية ذات خصوصية فردانية لا تعبأ بالوجود الانطولوجي ولا الواقع العقلاني الحسّي،فهي تداعيات لا شعورية منجذبة في عاطفة جيّاشة لتجربة حب وانجذاب تتعطل فيها اللغة المنطوقة او المكتوبة في عجزها البوح عن اسرارالتجربة وخفاياها وما تحمله من مشاق لا تخلو من الغبطة الروحانية اللذيذة التي تتلبس المتصوف خارج سطوة العقل ووصاية المدركات الحسية وقيود اللغة المألوفة في انتظام قواعد النحو فيها..

وعندما تكون الكتابة الصوفية قاصرة معطّلة  يصبح من المهم نفيها ومجاوزتها، فهي حتما تلتقي بالتفكيك في سعيه نفي كل ثبات او مركزية مرجعية ضالة تقوم على خيانة وخداع اللغة، وفي هذا ينتفي النص المكتوب متعينا وجوديا لأن اثبات الكتابة الصوفية نفي بالصميم ان تكون التجربة الصوفية لصاحب النص صادقة ورحلته العرفانية مخصّبة منتجة في مسالك الحال والعرفان.

بالمعنى الذي مررنا به يكون معنا التقاء الكتابة الصوفية مع أي نص تفكيكي يسعى نحو نفي الثبات في نشدان التقادم (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى، وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته) ص21بمعنى كما ان نفي التفكيكية لأي ثبات هي غاية معالجة كتابة أي نص في استجلاب تقادم فائض المعاني الجديدة منه التي تخّلفها اللغة وراءها دفينة داخلها على الدوام بنوع من المخاتلة والتضليل المضمر الذي يعبّر عنه فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات بخيانة اللغة،كذلك تكون الكتابة الصوفية او الصوتية الشفاهية هي نفي دائم ليس بتقادم معاني اللغة وانما بتقادم المعنى المتجدد في رحلة الاشراق والعرفان التصوفي دائب السعي والحركة والانجذاب التي تمثل خصوصية وفردانية التجربة الصوفية فقط.

يطرح المؤلف مسألة مهمة بان الكتابة الصوفية تختلف عن النص الديني وعن النص الادبي، اذ لكل من هذين الضربين من فنون القول والكتابة ميزات ومحددات وأساليب وجماليات متواضع عليها لا يتوفر عليها النص الصوفي بل هو ينأى بنفسه عنها ولا تشكل لدى صاحبه المتصوف اهتماما في نقل تجربته الذاتية المتفردة (فالامتاع والتسلية والتاثير علل تفقد مقاصدها في الكتابة الصوفية، لتغدو معها كتابة ابي يزيد البسطامي كائنا لا زمنيا، كتابة تعاني انفصاما مستمرا في كينونتها وتعاليا دؤوبا على كل سكون يدفعها نحو الاكتمال، لان العلاقة بين الكتابة والزمن علاقة اقتصادية) ص58-61،الاقتصاد الذي اشار له الكاتب بين الكتابة والزمن لا تنحصر في محدودية ان تقول كل ما ترغب في اقل زمن ممكن وحسب بل ما قصده هو انتهاء سطوة الزمن على تعبير اللغة لا بما يرغب الزمن بل بما ترغبه اللغة كونها تصبح متعاليا على الزمن لا منقادة له.

ونختم قراءتنا لكتاب عامر الراشدي القيم بهذا الهامش التوضيحي التالي الذي يعرض تعالق النص الصوفي مع كل من الفلسفة والادب والجنون.

لغة التصوف والفلسفة

أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الالهية، هي لغة الخيال التصوفي، فالمتصوف او العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية تعجز اللغة التعبير عنها.

من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة  التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الواعي للعقل، اللغة التصوفية تأتي على شكل مرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا. لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من الخالق والذات الالهية. لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي ليلتقي بهذاءات المجانين الى حد ما مع فارق انه في بعض الحالات الصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم، فهي(اللغة) تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والادراكي بتسجيلها . في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان المجنون، وهذا ينطبق ايضا على الكثير من التجارب التصوفية غير الناضجة .

كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات المجانيين يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج انطولوجيا ماديا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني،وأعدام فرص التواصل بالآخر.لغة التصوف تلغي الفاعالية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج ماعدا استثناءات تجارب تصوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات التصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية واقوال ملغزّة وفي مجال قول الشعر الملغّز ايضا، وأعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا،يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده، بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكير وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال امكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية، بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.

الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب روحيا،في عجز التعبير التصوفي، وفي اللقاء مع هذاءات المجنون في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها،فقط باستثناءات تجارب تصوفية متقدمة يمكن ان يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها اشرنا لها سابقا.

اذن ما الفرق بين غطرفة وهذاءات المجنون، وشطحات المتصوف اللغوية التعبيرية!؟

هذاءات المجنون وهلوسة الانفصامي المرضية تصدر عن غياب تام لتداعيات الشعور التخييلي الحلمي المنتج،  بخلاف ما نجده عند المبدع والفنان من تداعيات الشعور الخلاق، فهي عند المجنون تخيّلات لا شعورية مكبوتة انفصامية تفصح عن نفسها،في تعبيرات مشّفرة ناقصة المعنى المفهومي،سائبة غير منظمة ولا منضبطة سطحية وانفعالية هستيرية،غبر مفهومة ولا متسّقة تعبيريا،طلاسم لغوية مغلقة على عوالم خيالية مرضية انفصامية.

الخيال اللاشعوري عند المتصّوف يطرح لغة مفككة أيضا لا تعطي فهما ومعنى منظّما. ومن هنا تلتقي لغة المتصوف مع هلوسات المجنون،ويفترقان كليهما عن لغة الخيال الابداعية المنتجة كما نجدها عند الفنان او الاديب الذي يعود الى الواقع من رحلة الخيال بحصيلة فكرية او فنية.

يقترب هيدجر في تناوله وظيفة اللغة في التجربة الصوفية،انها لغة رمزية صعبة وعسيرة في التعبير عن تجاربهم ومعاناتهم التصوفية،اذ يعجز المتصوف نقل او تمييز الوجود،عن نسيان الوجود الحقيقي، اذ يقع المتصّوف في حالة من تغييب الوجود عقليا وحسيا،و يعيش حالة من المثالية العرفانية في تجربته الذاتية الصرف.كما يعيب براتراند رسل على المتصوفة عقم وعجز اللغة عندهم،بانها عاجزة ان تقول شيئا يعتد ويؤخذ به.كما ان العلم من وجهة نظره أيضا يسخر من اللغة التصوفية سخرية لاذعة.

وفي المنحى ذاته يذهب جورج باتاي (ان التجربة الايروسية- الشبقية تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبها اللغة). من هنا يمكنني التذكير بأهمية العبارة التي اورد تها سابقا حين أشرت ان المتصوف ينطلق من واقعة أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه.على أعتبار أن التجربة التصوفية هي غوص في مسالك الكشف الاستبطاني المتسامي المتعالي، التي تنعدم معها ان تكون اللغة ذات جدوى تواصلية مع الآخر.هنا بحسب هذا الفهم لانستغرب ربط جورج باتاي بين التجربة الصوفية والتجربة الجنسية والتقائمها في أن اللغة بكلتا التجربتين تتماهى في العجز واستعصائها  تحقيق التواصل بالآخر.

أما الشاعر المفكر ادونيس فيعتبر لغة التصوف (الاسلامي) هي لغة استكشاف معرفي في الدين والفلسفة والوجود.وأن السرياليين أخترعوا الكتابة الاوتوماتيكية— يقصد بذلك كتابة تداعيات اللاشعور--- والغاء العقل واستخدموا لذلك المخدرات. ويضيف ان المتصوف الغى رقابة العقل بالسيطرة الذاتية على الجسد .وسميّ آنذاك الكتابة (الهيا سماويا) وهي ذاتها الكتابة التي نادى بها السورياليون.(اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الرسم والتشكيل،والى حد ما ادب اللامعقول عند صوموئيل بيكيت.).

هنا ادونيس استخدم عبارة الغاء العقل عوضا عن تغييب تداعيات اللاشعور الحلمي المنتج في كتابة الشعر وانتاجية الفنون التشكيلية كما في السريالية والتجريد الفني. وهذا الخيال الانتاجي الخصب عند الفنان او الاديب يختلف جذرياعن المخيال المعّطل غير المنتج عند المتصوف،الذي يتأرجح بين تغييب الرقابة العقلية والحسّية،وبين تداعيات اللاشعور عندما تكون اللغة أقرب الى الهلوسة والهذاءات عند المجنون. بأختلاف بسيط أن المتصوف يعي عجز اللغة عنده في تحقيق التواصل مع الآخر،وقدرته أحيانا على البوح بافصاح تعبيري لغوي يتجاوز هذاءات المجنون المغلقة.بينما هي غير ذلك عند المجنون في هذاءاته بلا معنىى ولا ترابط مفهوم.

اما المفكر محمد عابد الجابري يرى أن الحقيقة في التصوف الاسلامي هي عندهم ليست الحقيقة الدينية،ولا الحقيقة الفلسفية،ولا الحقيقة العلمية،بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الاسطورة.وأن العرفان (التصوف) يلغي العقل، ومن حق العقل الدفاع عن نفسه ليس بالطريقة السحرية بل بالتحليل العقلي.

اود توضيح نقطة مررنا بها سريعا، ما هو الفرق بين لغة الابداع الادبي - الفني ولغة التصوف!؟

أن فرويد تعامل مع الخيال بوصفه مصدر الألهام وخزّان الابداع،وكشف تأثير اللاشعور في السلوكيات المنحرفة والسلوكيات السّوية.

برأينا الفنان كالعصابي المريض او المنفصم الشخصية كلاهما ينسحبان من الواقع المحسوس والمدرك عقلانيا الى دنيا الخيال غير المحدود، بخلاف جوهري مهم جدا ان العصابي المريض لايستطيع العودة من رحلة الخيال الى واقع الحياة والمجتمع ثانية، وأن ما يبتدعه له الخيال من واقع وهمي يتصوره ويتعامل معه انه الواقع الحقيقي والحياة السوّية. في حين ان الفنان المبدع او الاديب صاحب الفعالية الابداعية يستطيع العودة ثانية من رحلة الخيال الى واقع الحياة، وبحصيلة ابداعية فنية مميزة على شكل انتاج ادبي او فني او غيرهما.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

الهوامش:

(1) (لتفصيل اكثر ينظر كتابنا / فلسفة الاغتراب في طبعاته الثلاث الاولى عن دار الشؤون الثقافية بغداد 2011، والثانية دار الموسوعات العربية بيروت 2013. والثالثة عن دار غيداء الاردن 2022 الفصل الخامس: الاغتراب والصوفية./والفصل السادس:الاغتراب في الوجودية الحديثة).

"يمس كلُّ فعلٍ سياسي دلالةً جنسيةً ما من واقع المجتمعات البشرية..."

"لا يفوتنا تجاور الثالوث المحرم: السياسة والجنس والدين دون مبرر إلاَّ من سلطةٍ .."

يتداخل (جذرُ السياسة) مع (جذرِ الجنس) لدى الإنسان من جهة الرغبة في التملُّك والسيطرة وإعلان الغلبة وإخضاع الآخرين. السياسة من سَاسَ يَسُوس كما هو معروف، وهي فنون القيادة الناعمة للجماهير وإدارة الحياة العامة تبعاً لمركزية السلطة، بينما الجنس طاقات شهوية (بيولوجية- نفسية) تعبر عن رغباتنا العميقة في الوجود والحياة. ويأخذ الجنس شكل المؤسسات المرتبطة بالزواج والأسرة والتربية والعلاقات بين الذكور والإناث. وكلُّ ذلك في الجانبين مرتبطٌ بعلاقات (القوة والتحكم) على صعيد المجتمعات البشرية. وإذا كان جذر السياسة جذراً ثقافياً بحكم التاريخ، فإنَّه يعيد إنتاج الجذر الطبيعي للشهوات الحسية ويعطيها مستويات رمزية أخرى. وبخاصة أنَّ السياسة- بهذا المعنى الشائع - مجال يجد فيه الناسُ متنفساً ملتوياً للتعبير عما هو بيولوجي وغرائزي. ولذلك يبدو أنَّ الفصل بين الشأن الجنسي sexual والشأن السياسيpolitical - ضمن الممارسات الحياتية - أمرٌ خادعٌ.

ربما تبدو السياسةُ مأخوذةً بحدة الأحداث وتأثيراتها الطارئة فوق سطح الحياة وتحولاتها. وهو ما يغطي أية مكونات شهوية أخرى ضمن الظواهر العامة ولا يعطيها فرصة للظهور المباشر أمام النظرة العادية. ولكن الإثنين (الشأن الجنسي والشأن السياسي) يعكسان بعضهما البعض كرقائق سرية لرغبات عميقة بعمق حياتنا البشرية. ولو كانت المسألةُ غير ذلك كما قد نظن، ما كانت لأفعالنا الإنسانية أنْ تتمتع بتأثيرها القوي في الواقع. هذا الواقع الإنساني الذي يتراكم كأرصدةٍ غرائزيةٍ نتيجة الشهوات والاحتياجات بين فئات المجتمع. فالحياةُ ليست مادةً حياديةً ولا شفافةً في كلِّ الأحوال، لكنها ممارسة بيولوجية- نفسية لجوانب الرغبات القابلة للتداول، والتي نرى فيها أنفسنا أقوياء وتمثل محط أنظار الجميع.

أفعال السياسة تشبه تماماً إغواءَ العملات النقدية الثمينة، فهذه العملات تحملُ رغبات الناس وتُفسح المجال إلى تداول الغرائز بشكلٍّ متسامٍ، لكنها لا تُخفي تماماً هذا البعد الغرائزي أو ذاك. وتعبر الخطابات السياسيةُ عادةً عن هكذا مضمون، فكلمات القوة والقبضة الحديدية والاحتواء والسيطرة وأثبات الذات كلمات تحتمل أكثر من وجه حسي، وكأنَّها صيغ للتعبير عن الوجود المرغوب لأناس يظهرون بكامل مغرياتهم تجاه الآخرين. ولابد لرجل السياسةِ أنْ يستغل وافر الإغواء والجاذبية في تشكيل القُوة المتاحة له، والتي يطرحها بصيغة الإغواء أيضاً أمام الجماهير الغفيرة المتعطّشة للتعلق بأية قُوى عليا. مثل تفاحة آدم التي لم تنضب صورُها حتى الآن. وليس هذا فقط، إنما بإمكان كلِّ إنسان أنْ يقضم منها قضمةً تكفي لإستدراجه سياسياً ورغبوياً في الوقت نفسه.

إنَّ ما نرغبه نحن يبقى موقعاً لرغبة سوانا من الناس والعكس صحيح بالمثل. لدرجة تكوين شبكة مركبة ومتنوعة بحجم الثقافة الجارية التي تشملنا جميعاً، بحيث يبدو الصراع في مجال السياسة صراعاً على تلك الرغبات ومحاولة تحقيقها. من هنا، تأتي إمكانية كلِّ مستوى سياسي محتمل، فهو مرهون بالتوافق أو التطاحن بين الرغبات المتعارضة. ولأنَّ السياسة آفاق ممكنة (لأنها فن الممكن)، فهي أهداف مؤجلة تأخذ مداراتها مع الآخرين. على سبيل المثال: لماذا يختار الناخبون فرداً معيناً - من بين مرشحين محتملين- هو الرئيس القادم لحكم البلاد؟ ما السر وراء انهماك السياسي في أعماله لدرجة المجازفة كأنه يمارس ألعاباً ممتعة وخطيرة؟!

إنَّ الناخبين كفاعلين إزاء الاختيارات السياسية لا يطرحون إمكانية الإنتخاب فردياً، بل ضمن رغبة أكثر عمومية لاستعادة التحكم في المجتمع. ويرون في تلك الاختيارات تحقيقاً (بيولوجيا- نفسياً) لذواتهم الجمعية، وذلك لا ينفصل عن الإمتلاء الوجودي للإنسان باعتبارات أنه جزء من الحياة المؤثرة. وبالتالي كانت قدرة الفاعلين السياسيين على الإشباع السياسي لا تقل عن الإشباع الجنسي في مداه البعيد، حيث أشكال المبادرة والثقة والقوة والتعاطف والميل والنظر بالكيان والإمتاع والسيطرة في النهاية. وجميع هذه الأشياء تظل متأججةً في زخم السياسة بمعناها الإنساني الشهوي مثلما تلتقي مع أفعال الجنس. وقد ينصرف الناسُ إلى هذه الأشياء، عندما تتقابل رغباتهم خارج الذوات لتصبح ملتقى غايات المنافسين أيضاً. إنَّ الانجذاب إلى النقيض يتأتى في السياسة من التمثيل العام للأفعال والاختلاف بين الناس، حتى ولو كانت مستحيلةً. لأنَّ رجل السياسة يفعل ما يرغب وما لا يرغب، يتجه إلى ما يُريد وما لا يُريد. ويدفع الآخرين أيضاً لإدارة أنفسهم بما يرغبون وبما لا يرغبون. وقمة إثارة السياسي الفعلية عندما ينخرط في ممارسات تلبي احتياجات غيره من الناس. مع أنه يأتي هذه الممارسات كاحتمال لقدرته على التلّون البرجماتي أحياناً أو كإحتمال تالٍ من جانب اعترافه بالتنوع والتغيير.

هذا المظهر هو أساس وصف السياسيين بتعدد الوجوه والأقنعة أمام الجماهير. فهم يتقلّبون كما تتقلّب الحرباء في بيئتها الطبيعية. إذ لا يكف السياسي عن اقتراف التعدد الرغبوي تجاه المناوئين، وأمام الأغيار، وصولاً إلى ما يهدف. وذلك من جانب كون التعدد رغبةَ الآخر وسيكون ممتعاً ومبذولاً لاستغراق ما، لانكشاف ما، لتلصص غريزي ما. والغواية والإغراء أنْ تصبح أنت مفارقاً لذاتك مع آخر هو الشحم الدسم للممارسة السياسية. والأمر المشترك بين الأطرف ليس ترفاً من هذه الزاوية، لكنه بنية حاملة لجميع علامات الرغبة المتبادلة وجذورها التي لا تقف عند أي حد قريب.

إنَّ الإغواء- بكل محمولات هذه الكلمة - حركة سارية في السياسة حتى الثُمالة. هل هناك ما هو أكثر بريقاً من الهيمنة على الجُموع؟! كيف يُقارن السياسي بغيره من الناس إذا احتكمنا إلى أصداء وجوده لدى الحشود؟! ما هذا الإنصات كله والولَّه كله بالسياسيين أثناء الأحداث الجسام؟! لماذا ينتظر الناس من السياسيين ردَ فعلٍّ عام على المستوى ذاته؟ إذ كثيراً ما ينتظر الناسُ رغباتهم المبتغاة في (بطل سياسي) قادم من جوف المستقبل ليحل لهم المشكلات والقضايا. إنَّ الخيال الشعبي يصنع هؤلاء الأبطال السياسيين مع دورات التاريخ والظروف المختلفة. فرجل السياسة باتَ هو المخلِّص الكوني للجموع البشرية بلغة الديانة المسيحية، فالحلم الكامن وراء ذلك الوضع يعمل على منوالها.

بالطبع قد يحس السياسي بالرغبات والآمال والأحلام كما لو كان مأخوذاً بمهام حيّة ومقدّسة. إن السياسي في الوقت عينه: مرآةٌ وراءٍ ومرئي. ويكمن هذا الثلاثي في شخصية واحدة بقدر ما يسيطر صاحبها على المحيطين به. هو عندئذ صورة وكيان، هو واحد ومنقسم، هو ذات وموضوع، هو كلٌّ وفرد. ويعيش ذلك السياسي بصيغة الجمع إلى ما لا نهاية فيما يتصور. إنه يستغرق في لحظة من الحماس والطاقة القصوى انغماراً بروح الحياة. وفوق هذا وذاك ما أبرز أنْ يرى رجل السياسة ذاته متجسداً بشكل عمومي!! وتلك هي المكانة الاجمالية التي لا يبلغها إلاَّ أنصاف الإلهة في الأساطير. حيث تكون ذات الإنسان حاشية المتعة بفضل قدراته على الإيجاد وإصدار الأوامر النافذة وخلق الوجود المشبع بالأسرار والألغاز!!

من تلك الزاوية، لا يخلُّو كلُّ فعل سياسي من أصداء لرغبة جنسيةٍ ما. دلالة شهوية بعيدة تتم بالاستحواذ على الآخر، وتعتبره موضوعاً للانكشاف والتقلب والمخاتلة تحت النظر والمراقبة. ولهذا يكون" السياسي المُحنك" عاشقاً ولّهاً قدر ما ينفذ أعماله وقراراته. والعلة وراء ذلك أن السياسة ليست تقديراً لموقف ولا إدارةً لشأن عام ولا مشاركةً في انجاز مهام الدولة فقط، ولكن هناك تقلُّباً مراوغاً مع المجهول كما لو كان أساس ذلك حساً حيوانياً داخل الإنسان. بالإضافة إلى انجذاب كيان السياسيين نحو رؤية علامات قبول أفعالهم لدى جميع الناس، على أن يتفتق ويتفجر القبول في مراحل الممارسة مع حركة الجماهير. وفي المقابل، فإن معنى كلمة السياسي كصفةٍ يصح إطلاقها بلغة ناعمة تماماً مثل دلالة كلمات الجنس.

وليس أدل على ذلك من المظهر الأوضح بروزاً لدى الأنظمة السياسية الغربية، حين تظهر بعض المشاهد الأنثوية الطاغية خلف رؤساء الدول والمسؤولين هنا أو هناك، سواء بفضل حضور زوجاتهم أو عشيقاتهم اللاتي يكرسن لطفاً غرائزياً بالملابس والأجساد والأشكال والوجوه والعلاقات في محيط السلطة. لدرجة تحويل أنظار الموجودين والمتابعين إلى شحنات نفسية وجسدية لا تخلو من استعراض. ومن ثمَّ، كان يستحق الاحتفاء بالفوز السياسي اطلاقاً لمظاهر الغلبة والاحتواء وكشف القوى والعضلات. ومؤخراً بالأمس القريب، جاءت زوجة ترامب ميلانيا كناوس ترامب Melania Knauss -Trump عارضة أزياء سلوفينية، لا تمتلك شيئاً في عالم السياسة إلا المظهر الجذاب والقوام الرشيق والوجه المتراكم وراء المساحيق!!

وحينما كانت تتكلم زوجة الرئيس ترامب كان يسبقها المظهر الأنثوي قبل الحضور السياسي. كحال جميع رؤساء الدول الغربية، إذ يحرصون عادة على اصطحاب زوجاتهم في اللقاءات والمنتديات العامة. ودونالد ترامب هذا كان يدخل كل فعاليات السياسة بجسده مباشرة، وهو الإنطباع الحسي المبدئي عنه. لأن مظهره العام كان يحمل علامات تجميل لا تخطئها العين. كما أنه كان يتهيأ للكاميرا بشغف حسي مع الشغف السلطوي الذي تركه موظفاً عمومياً بمرتبة رئيس. وحتى عندما أراد خصومه السياسيين محاربته، أظهروا صوراً عارية لزوجته، وكأنَّ هناك استعمالاً لسلاح الغرائز نفسه في إدارة الصراع السياسي. إنَّه الفهم الغرائزي لعالم سياسي معجون بالرغبات التي لا تُفرق بين الممارسات السياسية والحقول الإنسانية المختلفة.

من زاويةٍ أخرى، تعد السلطة السياسية بمثابة التجسد الشهوُي للمهيمنين عليها بشكل ما. دوماً السلطة هي نطاق من الغرائز التي يرغب الناس في دائرتها، ويتمركزون حولها، وتستقطبهم بدورها كلياً إلى درجة الجنون. ولا توجد السلطة هكذا دونما اتصال بجانب الخفاء الممتع للأسرار والعلاقات، إذ تترك آثارها في أجساد أصحابها وأخيلتهم على هيئة رغبة كلية هادرة. السلطة من تلك الجهة غريزة تستمر في الجري وراء أشباحها، وصورها، وماهيتها. ولهذا هي تخلق أثيرها الشفاف والكثيف معاً بين الناس. وتحدد نطاقاً من الحقائق التي تلون تأثيرها كلما كانت ناشطة في تضاعيف الحياة السياسية.

ولئن كانت السلطة تمثل كتلة من اللهب الشهوي الحي بين الناس، فلأنها تنطوي على عدة أشياء مزدوجة:

1- تبقى السلطة مرغوبة كممارسة سادية إزاء أناس يتقبلونها بنفس الإيقاع.

2- تضرب السلطة نطاقاً من المازوخية التي تدفع الجماهير للاستمتاع بالقهر والإكراه، واستعذاب التسلط عليهم من قبل الساديين.

3- تتميز السلطة بدمج الحواس في دلالة الهيمنة والقدرة على الترقب والتتبع. وتلك خاصية تجعلها سلطة غامضة، ضبابية. وتحولها إلى ممارسة غريزية ترتبط بإحساس بدائي سحيق لدى الجنس البشري.

4- ترتبط السلطة بالآثار الراجعة للإشباع النفسي وتفريغ شحنات العنف بآليات تخفيها ولكنها ترتبط ببيولوجيا الحياة والجسد والعقول.

5- تفرز السلطة لدى ممارسيها إحساساً مخدراً بصورة أو أخرى. ذلك نتيجة انعدام الاعتناء بالواقع. كما أنها ترسخ تكذيب الحقائق على نحو تلقائي، أو بالأحرى تضع السلطة على عيون أصحابها عصابة يجعلهم ينكرون الأشياء والزمن دوماً.

6- تؤدي السلطة إلى تضخم اللاوعي بصورة خيالية. لأن اللاوعي ينسخ الأشياء بقدراته الوهمية على نحو مخل بأوزانها النوعية في الحياة. والسلطة هي بالتوازي الوسيط الفضفاض الذي ينكشف بأفعالنا مباشرة وردود هذه الأفعال.

7- تزيد السلطة نسبةَ التحرش السياسي الشهوي بالآخرين. فلا توجد سلطة لا تتحرش بأعدائها ومؤيديها على السواء. لأن السلطة تحمل داخلها عناصر تدميرها وهذا ما يسقط على ممارسيها بصورة دائمة، كأن هناك نوعاً من التدمير الذاتي.

8- تنتج السلطة معالم وقدرات مناسبة لأصحابها ولما يفعلونه تجاه الآخرين. مثل تغيرات الشكل والخشونة والتنطع والتكالب على المصالح والزلاقة اللفظية.

9- تتخفى السلطة على المستوى الاعتيادي المباشر، غير أنها تتراكم عند المواقف الحدية. وتتجلط مثل الدماء كدلالات خارج الزمن كما لو كانت مادة لا تزول إطلاقاً. ولذلك فإن المفقود من السلطة أكثر من المكتسب، ولذلك تسعى دوماً لعملية من التعويض والإبدال المستمرين.

10- لا تشكل السلطة موضوعاً قائماً بذاته مثلها مثل الرغبات الأخرى. ولكنها تحتاج من وقت لآخر موضوعاً جديداً من أجل إظهار قدراتها الشهوية. إنها تأتي خلال ممارسات الناس بصرف النظر عن الحقول الإنسانية التي تجوس خلالها.

ولهذا تعد السلطة السياسية نوعاً من شهوة التكرار الذي لا يُمل. إنها تكرار ينسي نفسه ومحيطيه تدريجياً حتمية هذا التكرار. حتى يكاد أن ذلك يمثل قانوناً فيما وراء الظواهر الناتجة عنها. وهكذا شأن الجنس على الطريق ذاته، فهو تكرار فوق مستوى التكرار (تكرار التكرار) . لأنه يفيض بتفاصيل إنسانية لا تخضع لمعايير ولا مقاييس. ويبقى محكوماً بنقطة بداية تترحل إلى الأمام، إلى انهماك جديدٍ. وإلاَّ لما استمرت الشهوات الجسدية منذ وجود الإنسان حتى الآن. وقد اسفر اشباع الشهوات الجنسية لاحقاً عن هذه الأعداد والحيوات الهائلة بتنوعها وتاريخها.

والتكرار نوع من استغراق السياسة والجنس في العمل. فليس أكثر من السلطة التي تحقق وجودها على هذا الصعيد. ولا توجد تلك الخاصية بعيداً عن علاقة الأنا - الآخر. لأن السلطة كشهوة تفترض، بل تمتد بامتداد هذه العلاقة المتوترة. ولذلك تحتم الشهوة علاقة قاهر ومقهور، غالب ومغلوب. وفي التراث الشعبي المصري يقال" يا بخت من بات مغلوب ولا بات غالب". في اشارة إلى قمع السلطة القائم على شهوة النيل من الآخر. غير أن اللافت هو ترجيج المبيت في وضعية المغلوب عوضاً عن ممارسة الظلم، وهذا وضع لا يستقيم مع إحساس الإنسان العادي وصون كرامته، لكن المازوخية تغلف الأمر برغبة في أنْ يكون بعض الناس موضوعاً للتسلط. من هنا ترتبط المازوخية السياسية بالمازوخية الجنسية.

وعلى أنَّ العبارة السابقة أخلاقية الجانب، بيد أنها تتكتم سراً عن سفالة السلطة التي تدمر كل المعايير الإنسانية. ومن تكرار هذا الظلم يود الفرد العادي المبيت مغلوباً على أمره، مقهوراً دون أي شيء سواه. ولعلنا لاحظنا أثناء الربيع العربي هذه الحشود التي تعتبر أمواجاً جسدية في المقام الأول. إنهم يمثلون نسبة التجلط الحسي لشهوات الجموع سياسياً. لأن هؤلاء الجموع كانوا في حالة استنفار دائم. اتصال جسدي هو القطيع الملتحم كرغبة عامة. إذ ذاك كان يتحرك هذا الكم البشري كحال التفريغ الحسي للمكبوت النفسي وإفرازاته المادية.

و كلمة الأجساد بصدد السلطة ليست مجازاُ، لكنها فعل عمومي قيد الممارسة. ولهذا فإن التجلي غير المباشر للشهوات والغرائز هو التراص الجسدي السياسي. وكانت غرائز الجموع هي المحرك الذي دفعها في بعض الأحيان إلى الانزلاق نحو التدمير والعنف، كما حدث مع الاشتباكات التي جرت آنذاك في كل أحداث الربيع العربي. ونظراً لأن الشهوات الجنسية في المجتمعات العربية مقموعة باستمرار، فإنها تأخذ أبعد الطرق للتعبير عن مكنوناتها المباشرة. بالتالي تنقلب الشهوات وترتفع إلى عمل سياسي مشهدي. ومع ضبابية المشاهد، كنا نسمع كيف تحارب الأنظمة الاستبدادية هذه الجموع لأنها أنظمة كانت تحارب الحياة الكريمة بالأساس.

على سبيل المثال قبل سقوط بعض الأنظمة السياسية أثناء الربيع العربي قيل إن هناك تحرشاً جنسياً داخل المظاهرات. والوصف الجنسي ينضح بالوجه المقابل للقهر السياسي في مجتمعاتنا. وقيل ذلك حينئذ لتفريق المتظاهرين وبث الخوف لدى النساء لمنعهم من المشاركة في الحراك. ثم كانت التهمة نفسها بعد الربيع العربي، حيث قيل إن المتظاهرين ضد الشرعية الجديدة، فأغلبهم من المنحرفين أخلاقياً وراغبي التحرش الجنسي بالفتيات. والسؤال: كيف تجتمع الأنظمة السياسية المختلفة على وصف واحد؟ يصح الوصف باعتبار أنًّ التحرش الجنسي يُساوي التحرش السياسي ويتبادلان الأدوار. فالجسد واحد والرغبة متصلة وقابلة للانقلاب والتحول بين المستويين السياسي والجنسي.

وفي التراث العربي، كانت هناك ظاهرة الخصيان الذين ينتشرون في قصور الملوك والسلاطين، حتى وصل بعضهم إلى مراكز نافذة، وكانوا يحظون بمكانة لدى الأمراء. والدلالة الموضحة لذلك أن الخصاء هو عمل سياسي بالمقام الأول لا بيولوجي ولا غيره. فالملك أو الأمير يسلب قدرات بعض الذكور في إشارةٍ إلى أنَّ كل من يقترب نحو دائرة التأثير سيكون مصيره فقدان ذكورته. وبخاصة أن الذكورة تعني فاعلية سيطرة الذكور على علاقات القوى في ثقافتنا العربية، لأن السلطة لم يتم اسنادها تاريخياً خلال تراثنا العربي إلى أنثى (سواء أكانت ملكة أم أميرة) إلاَّ نادراً وفي إطار من المؤامرات والصراعات السياسية. وبحكم أن السلطة دائماً ذكر في عرف العرب، فإنها لابد أن تكون كذلك بالنسبة لمالكها الأول (الحاكم)، أي أنه الذكر الوحيد المعترف به دون كل الناس، حيث يرفض هذا الأخير بدوره أنْ يكون هناك ذكور غيره في مخدع السلطة الخاص والعام. من ثم توارثنا شعبياً لفظ " الدكر" لمن يحمل مسئولية بها سلطة لإنفاذ القرارات وتحمل التبعات واخضاع الآخرين لتوجهاته.

***

د. سامي عبد العال

"عندما تحصل النبتة على غذائها المناسب فلا شيء يمنعها من النمو، وعندما تفقد غذائها الملائم فلا شيء يمنعها من الذبول والتلاشي" – منسيوس (ترجمة جيمس ليجي).

"المعدن غير الحاد يجب ان ينتظر الشحذ والسن، فقط حينها سيصبح حادا. طالما طبيعة الناس سيئة، يجب ان ينتظروا مجيء معلمين ونماذج مناسبة وحينها فقط سيكونون صحيحين" – زونزي (ترجمة ايرك هوتن).

سنحاول في هذا المقال المقارنة بين رؤية اثنين من كبار الفلاسفة الصينيين، منسيوس Mengzi و زونزي Xunzi، حول أهمية التعليم الاخلاقي.

كلاهما كانا تابعين لكونغزي kongzi (551-479 ق.م) الذي عُرف في الغرب بكونفوشيوس. طريقته ككونفوشيوسية لقيت شعبية لعدة مئات من السنين من خلال المختارات Analects، وهي نصوص كُتبت بواسطة تلامذته احتوت على تعاليمه. طريقة كونغزي تدعو الى عدة أشياء في المجتمع، ولكن في هذا المقال سنركز فقط على غرس الأخلاق.

اعتقد كونغزي ان المجتمع يمكن تحسينه فقط عندما يكون الناس الذين في السلطة فضلاء، وهو قام بتطوير أساليب تعليمية لغرس اللطف والحكمة بالاضافة الى المعرفة. مقولته "اذا انت تتعلم بدون تفكير حول ما تعلمته، سوف تضيع. اذا كنت تفكر بدون تعليم، سوف تسقط في خطر" أثارت المزيد من النقاش بين الاكاديميين الكونفوشيوسيين حول مقدار التأكيد الذي يجب ان يُخصص لكل من التفكير والتعلم على التوالي، هذا ما تكشفه المقارنة بين وجهتي نظر تلميذيه منسيوس و زونزي.

النمو مع منسيوس والشحذ مع زونزي

استعمال منسيوس لكلمة "ينمو" التي ذُكرت آنفا تشير الى عملية التعليم، و"التغذية" لتشير الى الاهمية، مقابل استعمال زونزي لكلمتي "شحذ" و "صحيح"، يحدد الاختلاف الاساسي في فلسفة التعليم الاخلاقي لمنسيوس و زونزي. منسيوس عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وعُرف بـ "الحكيم الثاني" (الثاني لكونزي). هو اعتقد ان الطبيعة الانسانية تميل لتكون خيّرة مثلما الماء يميل للتدفق نزولا. هذا لا يعني ان الانسان لايمكن ان يكون سيئا مثلما الماء يمكن وقفه عند منحدر التل. ايضا عندما يفعل الناس سوءا هذا لا يمكن إلقاء اللوم فيه على طبيعة الناس وانما على ظروفهم. الشر ليس فطريا، لكنه انحراف ناتج عن بيئة سيئة مثل صدمة الطفولة، او نقص الحاجات الاساسية.

كيف يمكن لمنسيوس القول ان طبيعتنا هي عموما خيّرة؟ هو يدّعي انه مثلما كل الناس تقريبا لديهم نفس الأقدام، او نفس الأذواق تقريبا فان قلوبهم ايضا تشترك اساسا في نفس إمكانية الصلاح. هو يبني هذا الادّعاء على دوافع أخلاقية عالمية مثل التعاطف الفوري الذي يشعر به أي شخص عند رؤية سقوط طفل في بئر (ما عدى المختلين عقليا). هو يسمي هذا التعاطف المفاجئ "براعم الخير والنزاهة". هذه البراعم لها امكانية النمو والتطور لو اُعطيت الإرشاد الصحيح – أي التغذية الصحيحة او انها ستتآكل وسيستسلم الفرد للشر.

يريد منسيوس زراعة الحكمة وليس المعرفة بحقائق معينة. الإرشاد الذي يقدمه يأتي على شكل تعليم أخلاقي من خلال التفكير. من خلال التفكير، يفهم المرء خيريته الفطرية ويوسّعها على نحو متساوي في اتجاهات ملائمة. التفكير كغرس أخلاقي ذاتي يقوّي محفزاتنا الرقيقة و الخيّرة عندما نستجيب لها بوعي وقبول.

المعوقات لهذا النمو تتضمن قلة الجهد او رفض قيمة الفضائل. منسيوس يستعمل توضيحات لعبة الشطرنج حين يضع لاعب معين كل ذهنه في اللعبة بينما الآخر يصرف انتباهه الى كيفية اطلاق النارعلى بجعة. ورغم انهما كلاهما يتعلمان سوية ، لكنهما يختلفان في المهارة ليس بسبب اختلاف الذكاء.

الامير زوكو Zuko يبدأ مسلسل الرسوم المتحركة (افتار، 2005) (1) بنفيه من قبل والده، وفي سعي يائس لإستعادة شرفه مجددا، وإنهاء نفيه، يرتكب زيكو أفعالا شنيعة. بعد ذلك يتصرف عمه اروه Iroh كمرشد له، يقدم له غذاء الحب والحكمة التي يحتاجها. حصول زوكو التدريجي على الحكمة من خلال التفكير يتضح طوال الفيلم، وفي النهاية هو يقرر مساعدة افتار لاستعادة التوازن في العالم. الكيفية التي يتعلم بها زيكو من الشفقة توضح جيدا رؤية منسيوس حول أهمية استيعاب التربية الأخلاقية من خلال التفكير .

من جهة اخرى، اعتقد زونزي (في القرن الثالث قبل الميلاد) ان طبيعة الانسان تميل للمصلحة الذاتية، وعليه تكون سيئة. عندما يتبع الناس ميولهم الفطرية ويطيعون طبائعهم، هم سوف يخلقون فوضى واضطراب. هو يقول، اذا كان شخص ما جائعا، سيرغب بالتخمة، وهذه طبيعتنا الفطرية. نحن نعطي الطعام للآخرين فقط عبر اتّباع أعراف اجتماعية مصطنعة. ولذلك يقول زونزي "من الضروري انتظار التأثير التحوّلي للمعلمين، وللنماذج وارشادات الطقوس (أعراف اجتماعية مصطنعة) ومعايير الصلاح: فقط عند ذلك سيعطي التلاميذ نتائجا، هم يتحولون الى نظام وشكل صحيح، وبالنهاية يصبحون تحت السيطرة ". الطقوس التي خلقها الحكماء تقدم الشكل الصحيح الذي يعبّر به المرء عن نفسه بشكل منضبط في مجتمع يعمل بسلاسة. زونزي ايضا يدعو الى الجهود المقصودة المكررة لمطابقة أفعال المرء مع اوامر المختارات، في عملية بطيئة وصعبة تتعارض مع حوافزنا الطبيعية .

منسيوس و زونزي يختلفان بشكل واضح حول الاهمية النسبية للتعليم والتفكير في الغرس الأخلاقي. بما ان منسيوس يعتقد ان طبيعة الانسان تحوز على براعم الخيرية التي نحتاجها للغرس، فهو يؤكد على التفكير الشخصي. بالمقابل، بما ان زونزي يعتقد ان ميولنا الفطرية تميل للمصلحة الذاتية، حتى السيئة، وتحتاج الى جهود مقصودة لتصحيحها، فهو يؤكد على التعلّم من المعلمين.

النظر الى الإختلاف

يمكن فهم التفكير كعملية ذات مصدر داخلي، والتعلم كعملية ذات مصدر خارجي، لتجسيد الفرق بين الحكمة (داخلي) والمعرفة (خارجي). يقول منسيوس "ابحث سوف تجدها. تجاهل سوف تفقدها"، بينما زونزي يقول "الفرد القبيح يتوق ليكون جميلا، اما الفرد الفقير يتوق ليكون غنيا. مايفتقده الفرد فيه سيبحث عنه في الخارج. الناس يرغبون ليكونوا جيدين لأنهم سيئين". لذا يمكن القول ان منسيوس و زونزي يتفقان على الحاجة للبحث عن الحكمة والمعرفة، لكنهما يختلفان حول أين يبحثان. الفرق يعود الى الطبيعة المتصورة للرغبة الداخلية. طبقا لمنسيوس، الناس يجب ان يطوروا رغبتهم الطبيعية للصلاح، بينما زونزي يرى ان الناس ذوي المصلحة الذاتية يجب ان يتعلموا لتجاوز رغباتهم الفطرية. لذا فان فهمهما للصلاح ايضا يختلف طالما بالنسبة لـ منسيوس يعبّر الصلاح عن ميولنا الفطرية ، ولكن بالنسبة لـ زونزي هو اصطناعي، وُضع لتلبية حاجات المجتمع. وكلا الرؤيتين يمكن مقارنتهما مع مدارس اخرى للفكر برزت في الصين في ذلك الوقت. مرشد الطاوية Laozi ينسجم كثيرا مع التفكير الداخلي لـ منسيوس ويرفض القيد الخارجي لـ زونزي كطموح، بينما رائد القانونية ، هان فيزي (تلميذ زونزي) ينسجم كثيرا مع التعليم الخارجي لـ زونزي، والذي يعتمد جدا على المعلم، وبهذا يكون مرتكزا على السلطة.

ربما خلافهما يمكن فهمه بشكل أفضل عبر فحص الاستعارات التي استعملها الاكاديميون. في الاقتباس المذكور في البداية، يقارن منسيوس عملية التعليم بنمو النبتة، عندما تتوفر لها المقادير الضرورية، فان النبتة سوف تنمو بذاتها. هنا تلعب البيئة دورا هاما كما اتضح بواسطة منسيوس في قصته "ام منسيوس انتقلت ثلاث مرات" – لتعيش في أحسن بيئة لغرض النمو الفكري لابنها، الذي تريده ان يكون قريبا من مدرسة.

زونزي ينتقد رؤية منسيوس بان العواطف والرغبات تتطلب تنشئة، بدلا من ان يتم ترسيخها فينا بوسائل أخلاقية بواسطة المعلمين، ولكن هنا زونزي يسيء فهم ما يقوله منسيوس. في الحقيقة، هما كلاهما يدعوان الى التنشئة والإرشاد، أي البيئة الملائمة – لكن بأشكال مختلفة. كلا الاكاديميين يستعملون استعارات للتعليم الاخلاقي والذي هو عملية بطيئة تحدث تدريجيا بمرور الزمن – اما نمو خضري او زيادة حدة المعدن. كلاهما يتضمن تقدم دائمي تدريجي طالما لايوجد هناك تسمم في البيئة، دون الانتكاس الى الظروف السابقة او إعادة التعلم. لكن الطرق تختلف، زونزي يربط عملية التعليم الاخلاقي بشحذ وزيادة حدة المعدن، او جعل الخشب مستقيما – اشياء لا يمكن ان تحدث من تلقاء نفسها، كما يحصل في نمو براعم النبات. زيادة حدة المعدن وشحذه او استقامة الخشب تتم ضد طبيعة الخشب و ضد المقاومة الصلبة للمعدن ، بينما تربية منسيوس في النمو هي في تناغم مع الميول الطبيعية لبراعم النبتة.

هذا بالضبط مكان الاختلاف بينهما في نموذجهما للتعليم الاخلاقي. منسيوس يقترح نموذجا للكشف الذاتي يستعمل اتجاه اكثر ليبرالية: الطفل الذي يتعلم قيم جيدة ينمو في بيئة صحية حيث تنضج تلك القيم فيه عندما يعمل. (هذا الاتجاه يمكن رؤيته في نقاش منسيوس مع الملك زوان حول ذبح ثور). زونزي يقترح نموذج اكثر سلطوية حيث لايمكن اكتشاف الاخلاق بواسطة المرء ولذا يجب ان يُخبر المرء بالصحيح والخطأ. بالنسبة لـ زونزي الاخلاق يجب فرضها من الخارج من خلال التعليم لتصحيحنا والمحافظة علينا، وفقط من خلال الجهد المقصود لنتعلم سنكون قادرين لنصبح خيّرين. هذه الرؤية هي ضمنية عندما يقول زونزي، "انا أمضيت مرة يوما كاملا أتأمل لكنها لم تكن جيدة بنفس مقدار لحظة تعلّم". لكن بالنسبة له التعليم ليس مسألة سارة كما هو لمنسيوس طالما بالنسبة لـ زونزي يستلزم كبحا لرغباتنا الفطرية ونتعلم لننحرف عنها كل يوم.

غير ان منسيوس وزونزي كلاهما يؤكد على التعليم كعملية متدرجة لايمكن اطلاقها بسرعة. يقول زونزي "التعلم يجب ان لا يتوقف. صبغة زرقاء يمكن الحصول عليها من نبتة معينة، ومع ذلك هي اكثر زرقة من النبتة. الثلج يأتي من الماء، ومع ذلك هو أبرد من الماء. الرجل يتعلم ويختبر نفسه ثلاث مرات يوميا، ومن ثم معرفته تكون واضحة وسلوكه سليم". يقول منسيوس "يجب على المرء ان يعمل فيها، لكن لا يهدف لها مباشرة. دع القلب لا ينسى ولكن لا تساعده في النمو". هو يعطي مثالا عن الفلاح الجاهل الذي يسحب نبتة الحنطة ليجعلها تنمو أسرع.

عندما أرغب بفقدان الوزن وأذهب الى الحديقة العامة وأركض مدة ساعة باليوم، ثم أتناول بيتزا كمكافأة لعمل الشاق، فان جميع التمارين التي اقوم بها سوف لن تساعدني. انها فقط تسبب ألما في ساقي في اليوم التالي لتجعلني غير قادر على الركض، بينما البيتزا تجعلني مرة اخرى اكثر وزنا. اذا اردت ان أفقد الوزن، سأحتاج للركض كل يوم وضبط وجباتي الغذائية. نفس الشيء، بالنسبة للانسان لكي يكون خيّرا والمجتمع يصبح منظما، وسواء كانت الخيرية ميلا فطريا ام لا، سنحتاج للسماح بمزيد من التعليم ليأخذ طريقه منذ طفولتنا، وعندما ننضج تدريجيا، كذلك سوف تنضج الخيرية في قلوبنا وفي أفعالنا. وكما يقول فردريك دوغلاس " بناء طفل قوي أسهل من إصلاح انسان محطم".

نستنتج ان منسيوس وزونزي ليسا مختلفين كما يظن البعض، كلاهما كونفوشيوسيان، وفي القراءة المعمقة لهما نجد كلاهما يحرضان على التعليم باعتباره هاما للناس ليكونوا أخلاقيين وجيّدين، وهاما للمجتمع لتحقيق التناغم . نقاط الاختلاف تتعلق بالطريقة التي يؤثر بها التعليم على الغرس الاخلاقي للفرد – سواء كانت طريقة مهيمنة من خلال التفكير او من خلال التعلم.

انه جزء من وظيفة التعليم مساعدتنا في التحرر من المعوقات الفكرية والعاطفية لزماننا. هذه المعوقات نظر فيها وتنبأ بها كل من منسيوس وزونزي.

***

حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) مسلسل افتار(Avatar: The last air bender) اعتُبر أعظم سلسلة تلفزيونية امريكية للاطفال حتى الان، عُرضت في تلفزيون Live-action وبدأت اولى حلقات الفيلم عام 2005. تدور أحداث الفيلم في عالم تتألف فيه الحضارة الانسانية من أربع امم تقترن كل واحدة منها بأحد العناصر الكلاسيكية للطبيعة. قبائل الماء، مملكة الارض، امة النار، بدو الهواء. في كل امة هناك اناس معينين خبراء يُعرفون بـ penders لهم القدرة على استخدام العنصر المطابق لأمتهم والسيطرة عليه. الاله افتار هو الوحيد القادر على التأثير على جميع العناصر الاربعة. افتار هو حاكم دولي واجبه المحافظة على الانسجام بين الامم الاربعة ويعمل كوسيط بين الناس والأرواح. 

 

وظيفةُ رمزيةِ اللغةِ هي إيجادُ الهُوِيَّات المُتَشَظِّيَة في العلاقات الاجتماعية، وتحويلُ التجاربِ الشخصية إلى مفاهيم ثقافية مركزية في البناءِ الشُّعوري للفرد،والسُّلطةِ الاعتبارية للجماعة، والمَنهجِ النَّقْدِي للشرعية التاريخية، والمِعيارِ الإنساني للمشروعية الحضارية. ووظيفةُ رمزيةِ اللغة لا تَنفصل عَن مُهِمَّة الظواهر الثقافية في المجتمع، وهي إيجادُ نِظام أخلاقي مُتكامل يَعْمَل على تطويرِ الأفكار الإبداعية، وتعزيزِ تَأقْلُم الفردِ والجماعةِ معَ تَقَلُّبَاتِ الواقعِ وأَزَمَاتِه، وتفكيكِها معنويًّا وماديًّا، وتأويلِها شكلًا ومَضمونًا، مِن أجل تحديد تأثيراتها على العقل الجَمْعي، الذي يُمثِّل خَلاصًا معرفيًّا قائمًا بذاته، ومُسَيْطِرًا على البُنية الوظيفية للهُوِيَّة الاجتماعية بِوَصْفِهَا مُحاولةً لِتَحَرُّرِ شخصية الفرد الإنسانية مِن قُيودِ البيئة وضُغوطاتِ الطبيعة، ومُهَيْمِنًا على مركزية الوَعْي في الواقع بِوَصْفِهَا صَيرورةً تاريخيةً تَكشِف الأنساقَ الكامنةَ والعناصرَ المَكبوتةَ في الحياة اليومية، على المُسْتَوَيَيْن الفَرْدي والمُجتمعي. وإذا كانت صَيرورةُ التاريخِ تتجسَّد في رمزية اللغة وعيًا وإدراكًا وإرادةً، فإنَّ الحياة اليومية تتجسَّد في بُنية الفِعْل الاجتماعي فِكْرًا ومُمَارَسَةً وتطبيقًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيل الظواهر الثقافية كنظامٍ عقلاني مُتَجَاوِز لِسِيَاقَاتِ التفكير الاستبدادية، وكمنظومةٍ حضارية حاملة لِمَاهِيَّة الإنسانية. واتِّحَادُ النظامِ العقلاني والمنظومةِ الحضارية يَمنع فَصْلَ الوَعْي عن الواقع، ويَرْدِم الفَجْوَةَ بين صِناعةِ الثقافة وتعقيداتِ الحياة اليومية. وكُلُّ نظام عقلاني يَحتاج إلى أدواتِ تنقيبٍ عن آثار سُلطة المعرفة في العلاقات الاجتماعية، وكُلُّ مَنظومة حضارية تحتاج إلى آلِيَّاتِ تفسيرٍ لرمزية اللغة في التجاربِ الشخصية والثقافةِ المُتَجَانِسَة.

2

سَيطرةُ العَقْلِ الجَمْعي على رمزية اللغة شكليًّا ومَوضوعيًّا، وسَيطرةُ الإنسانِ على الطبيعةِ معنويًّا وماديًّا، تُحَدِّدَان المَفهومَ الفلسفي للسَّيطرة، وتُسَاهِمَان في تحليلِ النسيج الاجتماعي، واكتشافِ عناصره الأوَّليَّة، واستخراجِ أنويته الداخليَّة، فَتَتَكَرَّس الإرادةُ الإنسانيةُ كَمِعيار حقيقي للوجود العابرِ للحُدود، وتُصبح الشرعيةُ التاريخيةُ اكتشافًا دائمًا لِسُلطةِ المعرفة، وتحليلًا عميقًا لوظيفةِ الهُوِيَّة، وتجسيدًا منهجيًّا لِمَاهِيَّةِ الحضارة. وإذا كانَ المُجتمعُ يُكَيِّف ذَاتَه معَ إفرازات سُلطة المعرفة لإعادة بناء هُوِيَّته باعتبارها حالةَ خَلاصٍ، ولَيْسَتْ نسقًا استهلاكيًّا، فإنَّ الإنسانَ يُؤَسِّس ثِقَافَتَه على نمطِ التفكيرِ والفِعْلِ الاجتماعي، لربطِ مَصلحته بتفاصيل العَالَم المُتَغَيِّر مِن حَوْلِه. ونمطُ التفكير لا ينفصل عن حُرِّية الذات ضِمن النظام الأخلاقي المُتكامل، والفِعْلُ الاجتماعي لا ينفصل عن التَّحَرُّر مِن ضَغْط اللحظة الآنِيَّة. والتفكيرُ الذي يَستطيع توليدَ الفِعْل، يستطيع إنشاءَ تاريخ جديد للمُجتمع يَقُوم على الأفكار الإبداعية، ولَيس التقسيم الزمني لمراحل الواقع المُعَاش.

3

للإنسانِ تاريخان: تاريخٌ مَعنوي (دِيناميكي) ناتج عن حركة الأفكار في الذهن، وانعكاسها على الظواهر الثقافية في المجتمع، وتاريخٌ مادي (مِيكانيكي) ناتج عن حركة الزمن في الطبيعة، وانعكاسها على مسار الأحداث اليومية. واندماجُ التاريخَيْن معًا هو الطريق إلى اكتشافِ رُوحِ المَكَانِ في الحضارة، والمكانُ هُنا لَيس تُرابًا وحِجَارَةً، وإنَّما مَنظومة فلسفية حاملة لأشواقِ الإنسان وذِكْرَياته. وَرُوحُ المَكَانِ هي السُّلطة والمَاهِيَّة اللتان تَبْقَيَان بعد اندثار المَكَان. وسِحْرُ الزمنِ في التاريخِ والحضارةِ لا يأتي مِن حركة عقارب الساعة، وإنَّما يأتي مِن اكتشافِ الإنسان للأحلام الكامنة في أعماقه، وتَفَاعُلِه مَعَ جَسَدِ المُجتمعِ، وتَجسيدِ رمزية اللغة في المُجتمع.

4

للمُجْتَمَعِ طبيعتان : طبيعةٌ جَمَالِيَّة (فِطْرِيَّة) ناتجة عن الحُرِّية الاجتماعية، وتأثيراتها في الوِجدانِ الشَّعْبي، والمَاضِي المُستعاد، والحُلْمِ المُستعار. وطبيعةٌ ثقافية (مُعقَّدة) ناتجة عن صِناعة الوَعْي في فلسفة البناء الاجتماعي المُمتدة مِن قُوَّةِ الإرادة الإنسانية إلى المعايير الأخلاقية المُوَجِّهَة للسُّلوكِ الفردي والإدراكِ الجَمَاعي. واندماجُ الطبيعتَيْن معًا هو الطريقُ إلى استخراجِ العناصر الجَوهرية مِن الأفكارِ البسيطة والآمالِ المَكبوتة، واكتشافِ الفرد لِتُرَاثِه الشخصي الضائع في ضجيج الحياة اليومية. وهذا التُّرَاثُ لَيس بحثًا عن مَجْدٍ وَهمي في سُلطة الزمن المَاضِي، وإنَّما هو كِيَان وُجودي ومنهج اجتماعي يَجعلان الفردَ يُضِيء ولا يَحترق، ويُضَحِّي مِن أجل المُجتمع، ولكن لا يَكُون ضَحِيَّةً له.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لم يكن الجدلُ حول الثقافةِ ليبلغَ ما بلغهُ لولا أنَّ العرب اليومَ في حاجةٍ ماسة إلى إعادة الاعتبار للرأسمال الثقافي، وجعلهِ أساساً للتفكير في الأوضاع التي آلت إليها أوطاننا. ليس بوسع أحد أن ينكرَ أن هذا التقهقر الثقافي الذي صرنا إليه غير مسبوق، وليس في التاريخ ما يشهدُ بمثله؛ إذ أدَّت الفورة التقانية الحالية إلى تراجع الأدوار الإبداعية والأدبية لصالح القيم الاستهلاكية، واستبدلت القيم الروحية والجماليةُ بالقيم المادية والسطحيةِ، لكنَّ مواجهة مثل هذا الواقعِ لا تستقيمُ إلا إن كانت الذَّات مُتسلِّحة بثقافةٍ تستمدُّ جذورها من التراثِ وتنفتح على المستقبل. لا بدّ من استنهاض القيم الروحية والجمالية والاعتراف بأهميتها للإنسان، ومجاوزة الواقع المرير الذي تفرضُهُ الآلة الاقتصادية الرأسمالية في صورتها المتوحشة، التي أجهزت على القيم جميعها. إنَّ هذا الطور الذي يعيشهُ العربُ شرقاً وغرباً يدعو إلى إعادة التفكير في المشترك الثقافي والحضاريّ، وجعله أساس النهضة المأمولة، وركيزةً لتجاوز الخلافات والصراعات الوهميةِ التي خلَّفها الاستعمارُ ورسّختها التبعيّة. نحنُ اليوم أمام منعطفٍ تاريخيٍّ تلوحُ معه تباشيرٌ بـ"أفول الغرب" الذي لطالما ظلّ جاثماً على صدورنا، فإما أن ننهض الآن، وإمَّا أن نأفل معه إلى الأبد.

لا نهضة من غير الاعتراف بأهمية الثقافة في تأسيس الوعي الجمعي، والثقافة أوسَعُ نطاقاً من الإيديولوجيا المؤسساتية التي تعيدُ إنتاج الفرد الخاضع والانتهازي الذي يرى أنه أولى الناس بالنعم، إنّ دور الثقافة هو إنتاج فرد حرٍّ يتجاوزُ وضعهُ باستمرار، ويستطيعُ رسمَ ذاتهِ على المنوال الذي به يدركُ أهمية وجوده الاجتماعيّ، فلا فرد من غير مجتمع ولا مجتمع من غير فرد، وهو الأمر الذي ينطبق على الدّولة عينها فلا دولة من غير مواطن ولا مواطن من غير دولةٍ، لا يسبق وجود أحدهما الآخر إن الفرد والمواطن قياسا على المجتمع والدّولة، انبثقا في اللحظة عينها. يخفُتُ هذا القياسُ إذا ما نظرنا اليوم إلى علاقات السلطة داخل أوطاننا، أو حاولنا التفكير في علاقة السلطة بالمجتمع، ليس هناك ما يدعو إلى النظر في الشأن الثقافي، خاصةً إذا ما قورن بالشأنين السياسيّ والاقتصاديّ، إننا نتجاهلُ اليوم الثقافة لحساب السياسة والاقتصاد، بل وحتى لحساب الرياضة وغيرها... لكن أنّى لنا أن ننهض من غير ثقافة؟ وكيف يمكن أن نرسخ الاعتراف بالثقافة بوصفه سبيلاً للنهوض؟

يبدو أننّا – شئنا أم أبينا – بصدد إعادة إنتاج نفس الأُطُر التقليدية التي عفا عنها الزّمن، وبالرغم من أننا ندّعي أننا أمام ممارساتٍ حداثية ترومُ التفكير في الثقافةِ بوسائل مبدعة وخلاقة، إلا أننا ما نزالُ رهينيّ التقليد والرؤية المنغلقة التي وضعتنا أمامها الإمبريالية. ما دُمنا غير قادرين على مراجعة المعايير التي توجّهنا في الحُكم على صلاحية النُّظم الاجتماعية والأخلاقية، وغير قادرين على مواجهة الإشكاليات القانونية والحقوقية بموضوعية؛ فإننا نعودُ إلى نقطة الصفر من دون أن نتقدَّم خطوة إلى الأمام. ليس الاعترافُ بالثقافةِ شكلاً من الترف الفكريّ، بل هو أساسُ الحكمة السياسية والاقتصادية، لا سياسة من غير ثقافة، فالسياسيّ الذي تعوزه الثقافة أبكم مهما كان حجم ما يثرثر به من كلام، كما أنَّ رجُل الاقتصادِ إنْ قلت ثقافتُه هلك وأهلك، لا بُدّ من أن نراجِعَ دور الثقافةِ وأهميتها بالنسبة إلى مجتمعاتنا، لما لها من أهمية قصوى.

أساسُ الاعتراف بالثقافة داخل مجتمعاتنا وهو ثقافة الاعتراف؛ إذ لا ثقافة من غير مثقّفين، والاعترافُ بأهميتهم ودورهم هو أساسُ التَّقدمِ والازدهار، وهو شرط النهضة التي يمكنُ أنْ نؤسسَ من خلالها لصيرورة الانفتاح. تعيدُ النّظمُ التقليديةُ إعادةَ إنتاجِ أصواتها الدّاخلية، وترفضُ الأصوات المختلفة، وهي برفضها تقصي إمكانيات التغيير والتقدّم، وذلك بدعوى أنّ الوضع الراهن هو أفضل الأوضاع (=أحسن وضع ممكن)، لكن للأسف ليست لدينا عوالم ممكنة من أجل إدراك أسوء الأوضاع الممكنة، ولم لا يكون وضعنا هو الأسوأ، لنفكر معاً في جعله الأفضل، لا بدّ، إذن، من التفكير بالضد والنقيض من أجل تطوير المجتمع والثقافة، فمتى استوت النقائض والأضداد كان ذلك دليلاً على الركود والأفول.

ومن أسف شديد على أحوال مثقفينا وما يطالهم من إهمال، حتى أنّ الواحد منهم إن مات استحالَ علينا أنْ نجد مثلهُ أو نظريه، لقد انتهينا إلى أهواء ثقافية ليس في وسع أصحابها بناءُ مشروعٍ، فكيف سيضعون نصب أعينهم بناء الإنسان ومواجهة أشكال التقليد؟ إنَّ السعي إلى النهضة لا يمكن إلا أن يكون سعياً تقدّمياً، يبنى على منطق الاحتفاظ والتجاوز، ولا سبيل إلى تحقيق مثل هذا الشرط إلى بالاعتراف بأهمية المثقّف ودوره في رسمِ معالم واقع أفضل، ودوره في نقد الواقع القائم.

لا يمكنُ التَّغافلُ عن النّقد وأهميته في رسم الواقع وتصوُّره، كما لا يمكن مجاوزته كمطلبٍ أساسي في تحقيق الذات العربية اليومَ، إننا نفكرُ في الممارسة النقديةِ بوصفها أداةً ثقافيةً بامتياز، من غير النظر في أهميةِ الذات الناقدة (=الممارسة للنقد)، فلا نقد من غير اعتراف، ولا حرية من غير نقد، إنّها مفاهيم تدور في حلقات يدُّ بعضها بعضاً، وهي الأساسُ في بناء المواطن والفرد.

***

محمّد زكّاري - المغرب

كيف يمكن للانسان اشتقاق المتعة من الحالات غير السارة؟ هذا هو السؤال الذي عالجه هيوم في مقاله (حول التراجيديا) والذي شغل النقاش الفلسفي لفترات طويلة. لو أخذنا افلام الرعب كمثال، نجد بعض الناس يُصابون بالهلع عند مشاهدتها، وربما لاينامون لأيام. اذاً لماذا هم يقومون بهذا؟ لماذا يبقون أمام الشاشة لمشاهدة أفلام الرعب؟

من الواضح ان الناس احيانا يتمتعون في مشاهدة التراجيديا. ورغم ان هذا هو أمر مألوف لكنه يبقى مثيرا للانتباه. في الحقيقة ان رؤية التراجيديا تخلق اشمئزازا ورهبة لدى المشاهد. لكن الإشمئزاز والرعب هما حالات غير سارة. اذاً كيف يمكن الاستمتاع بالحالات غير السارة؟

ليس من باب الصدفة ان هيوم خصص مقالا كاملا للموضوع. ان صعود الجماليات في زمانه حدث جنبا الى جنب مع انتعاش الانجذاب بالرعب. القضية كانت شغلت سلفا عددا من الفلاسفة القدماء. هنا، نرى مثلا ما يقوله الشاعر الروماني لوكريتوس Lucretius والفيلسوف البريطاني توماس هوبز حول الموضوع. "أي متعة تلك، عندما تضرب رياح البحر العاصفة الماء، وحين تنظر من الشاطئ الى ملامح الحزن الثقيل لدى رجل آخر؟ ليست ألام أي شخص هي بذاتها مصدرا للسرور..". (لوكريتوس، حول طبيعة الكون،الكتاب 2).

"من أي عاطفة ،يأخذ الناس المتعة في النظر من الشاطئ الى الخطر المحدق بهم عندما يكون البحر عاصفا ،او الى قتال، او عندما ننظر من قلعة هادئة لجيشين يواجهان بعضهما في ساحة المعركة؟ انها بالتأكيد في مجموع الفرح الكلي. هناك ناس آخرون لن يأتوا ابدا لهكذا مشهد. مع ذلك يبقى في المشهد كل من المرح والحزن. "(هوبز،عناصر القانون، 9-19). اذاً كيف نحل المفارقة؟

متعة أكثر من الألم

اولى المحاولات الواضحة جدا، تقوم على الادّعاء بان المتع المتحصلة في أي مشاهدة للتراجيديا تفوق حجم الآلام. "بالطبع قد نعاني عند مشاهدة أفلام الرعب، لكن التشويق والاثارة المصاحبان للتجربة يستحقان الألم ". بالنهاية، يمكن لأحد القول، ان أجمل المتع تأتي مع بعض التضحية، في هذه الظروف، التضحية هي ان تُصاب بالرعب.

من جهة اخرى، يبدو ان بعض الناس لايجدون متعة معينة في مشاهدة أفلام الرعب. اذا كانت هناك أي متعة، فهي متعة ان تكون في ألم. ولكن كيف يتم ذلك؟

الألم كنوع من التنفيس

الاتجاه الثاني يرى في السعي نحو الألم محاولة لإيجاد متنفس، اي بمعنى شكل من التحرر من تلك العواطف السلبية عبر إلحاق الأذى بانفسنا كشكل من العقوبة نجد بها الراحة من تلك المشاعر السلبية.

هذا بالنهاية، تفسير قديم لقوة وملائمة التراجيديا كشكل اساسي من الترفيه للسمو بأرواحنا عبر السماح لها في تجاوز الصدمات.

الألم أحيانا كتعبيرعن المرح

وهناك اتجاه ثالث لمفارقة الرعب يأتي من الفيلسوف بيريس جوت Berys Gaut. طبقا له، لكي تكون في ألم او لكي تعاني، ذلك يمكن ان يكون في بعض الظروف مصدرا للمتعة. أي ان، الطريق للمتعة هو الألم. وفق هذا المنظور، المتعة والألم ليسا متضادين بل هما وجهان لعملة واحدة . ذلك لأن ما هو سيء في الترجيديا ليس الإحساس وانما المشهد الذي يثير ذلك الإحساس. هذا المشهد مرتبط بمشاعر مرعبة، وهذه بدورها تثير مشاعر نجدها في النهاية سارة.

سواء كان افتراض جوت صائبا ام لا، بالتأكيد تبقى مفارقة الرعب احدى أهم الموضوعات الممتعة في الفلسفة.

***

حاتم حميد محسن

أبدى مؤسس مدرسة التحليل النفسي "سيجموند فرويد" ملاحظة هامة ذات مرة لـ "إريك إريكسون"، أحد مريديه قائلاً: أن تحب وأن تعمل، هما القدرتان التوأمان اللتان تمثلان علامتا النضج الكامل. وإذا كانت هذه هي المسألة، فالنضج إذن محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان.

يُحكى أن يابانياً من محاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: "أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك..".

آهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من غضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول  " سأقتلك لوقاحتك... "، أجابه الراهب بهدوء " هذا تماماً هو (الجحيم)... ". هدأ الساموراي، وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده. وانحى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: " هذه هي (الجنة)..".

هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما. وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل. لا شك أن وصية الفيلسوف اليوناني سقراط التي تقول "اعرف نفسك" تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها.

إن أي نظرة للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوة تأثير العواطف هي نظرة ضيقة الأفق بشكلٍ مؤسف. والواقع أن اسم " الجنس البشري Homo Sapiens " ذاته أي الجنس المفكر، يعد تعبيراً خادعاً في ضوء الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحهما العلم الآن. وكلما علمتنا خبرات الحياة، فإن مشاعرنا غالباً ما تؤثر في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا بأكثر مما يؤثر تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا. ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهمية العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان. وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يحقق الذكاء العقلي شيئاً لو كبح جماح العواطف.

شهدت الأبحاث والدراسات العلمية المتعلقة بعواطف الإنسان نقلة نوعية بما أن العواطف والمشاعر تلعب دوراً كبيراً في التأثير على السلوك الإنساني وإقامة العلاقات والروابط الاجتماعية مع الآخرين، فقد نقوم أحياناً باتخاذ القرارات والإتيان بالتصرفات وتحديد موقفنا من الآخرين بناءً على مشاعرنا أو عواطفنا. لذا سعى علماء النفس إجراء مجموعة من الدراسات والأبحاث لتفسير دور العواطف الإنسانية الإيجابي في الحياة اليومية، وبالأخص فيما يتعلق بالذكاء العاطفي.

تتمثل أهمية الذكاء العاطفي في الصلة بيـن الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية النظرية، وأن المواقف الأخلاقية الأساسية في الحياة إنما تنبع من قدرات الإنسان الانفعالية الأساسية، ذلك أن الانفعال بالنسبة للإنسان هو (واسطة) العاطفة، وهو شعور يتفجر داخل الإنسان للتعبير عن نفسه في فعل ما. وهؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال أي المفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي فالقدرة على السيطرة على الانفعال هـي أساس الإدارة وأساس الشخصية وأساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف مع الآخرين أي القدرة على قراءة عواطفهم، أما العجز عـن الإحساس باحتياج الآخر أو بشعوره بالإحباط فمعناه عدم الاكتراث به.

كما يعد الذكاء العاطفي صفة أساسية في تكوين شخصية القائد الناجح The personality of the successful leader، وذلك أن القدرة على التأثير في الآخرين هي الصفة الأهم في القيادة، لأن هذه الصفة تحدد فيما إذا كانت الصفات الأخرى ستعمل أم لا، فما قيمة صفة الذكاء والقدرة على التخطيط إذا لم يكن القائد قادراً على التأثير في الآخرين؟

أثبتت الدراسات والأبحـاث المعاصرة أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. بناءً على ما سبق يتحتم علينا الإجابة على التساؤلات الرئيسية التالي: ما هو مفهوم الذكاء العاطفي؟ وما هي أسسه؟ وكيف يؤثر في معرفتنا لأنفسنا؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها أصحاب الذكاء العاطفي؟

- مفهوم الذكاء العاطفي: تشير تعريفات الباحثين للذكاء العاطفي على أنـه قدرات ومهارات في فهم مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المضمون. يعرف سالوفي وماير الذكاء العاطفي بأنه القدرة على معرفة الشخص مشاعره وانفعالاتـه الخاصة كما تحدث بالضبط، ومعرفته بمشاعر الآخرين، وقدرته على ضبط مشاعره، وتعاطفه مع الآخرين والإحساس بهم، وتحفيز ذاته لصنع قرارات ذكية.

 ويرى دانييل جولمان مؤلف كتاب "الذكاء العاطفي" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أن الذكاء العاطفي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض صفـات شخصية، لها أهميتها البالغـة في مصيرنا كأفراد. بمعنى آخر، أن تكون قادراً على حث نفسك على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل، إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادراً على التعاطف والشعور بالأمل. ويعرفـه آخرون بأنه القدرة على التعامل مع المعلومات العاطفيـة، من خلال استقبـال هذه العواطف واستيعابهـا وفهمها وإدارتها.

بناءً على ما سبق يمكننا تعريفه بأنه مجموعة من القدرات أو المهارات الشخصية التي تساعد الشخص على معرفة مشاعره وانفعالاته، وسيطرتـه عليها جيداً، وفهم مشاعـر وانفعالات الآخرين، وحسن التعامل معهـم، وقدرته على استثمار طاقته الوجدانية في الأداء الجيد، وعلى إقامـة علاقات طيبة مع المحيطين. باختصـار هو قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله. ووفقاً لمجلة " Psychology today "، فإن الذكاء العاطفيEmotional Intelligence هو القدرة على تحديد وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، وهذا الأمر عادةً ما ينطوي على:

- الوعي العاطفي، ويتضمن القدرة على تحديد مشاعرك ومشاعر الآخرين.

- القدرة على تسخير المشاعر وتطبيقها عملياً في حل مشاكلك في الحياة اليومية.

 - القدرة على إدارة العواطف، مثل التحكم بمشاعر الغضب أو القدرة على الحفاظ على هدوئك عندما تكون مستاءً.

- أسس الذكاء العاطفي: يقوم الذكاء العاطفي على الأسس الآتية:

1- أن يعـرف كل إنسان عواطفه من خلال الوعي بالـذات Self - Awareness فالوعي بالنفس والتعرف على الشعور وقت حدوثه، هو الحجر الأساسي في الذكاء العاطفي، وامتلاك القدرة على رصد المشاعر من لحظة إلى أخرى يعد عاملاً حاسماً في فهم النفس، كما أن عدم القدرة على فهم المشاعر الحقيقية، تجعل الفرد يقع تحت رحمتها، فالأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة أشخاص واثقون في أنفسهم وفيما يتخذونه من قرارات.

وقد صنف " ماير" الناس بالنسبة للوعي بأنفسهم إلى ثلاثة أصناف: الأول الواعون بأنفسهـم: وهم الذيـن يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، وعندهم الحنكـة فيما يخص حياتهم الانفعالية ويمثـل إدراكهم الواضـح لانفعالاتهم أساساً لسماتهـم الشخصية يتمتعون باستقلالية في شخصياتهم، واثقون من أنفسهم ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرةً إيجابية، وهم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن، باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. أما الصنف الثاني الغارقون في انفعالاتهم: العاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية تمتلكهم تماماً، وهم متقلبو المزاج، غير مدركين لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حدٍ ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية، إنهم أناس مغلوبون على أمرهم فاقدو السيطرة على عواطفهم. وأخيراً المتقبلون لمشاعرهم: وهـؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية دون محاولة لتغييرها، وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. أما المجموعة الثانية: تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم، فهم استكانوا لليأس.

2- إدارة العواطف والتحكم بهاEmotion Handling ، إن الوعي بالذات والتعامل مع المشاعر لتكـون ملائمة مع المواقف الحالية، يتم عن طريق القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الجامح، وسرعة الاستثارة. وإن من يفتقر إلى هذه المقدرة، يظل في عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتع بهـا فهو ينهض من كبـوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر.

3- تحفيـز النفس Motivation عبر توجيـه العواطف في خدمة هدف ما، فهذا أمر مهم لتنبيه النفس ودفعها للتفوق والإبداع، فالتحكم في الانفعالات وتأجيل الإشباع، أساس مهم لكل إنجاز ومن يتمتع بهذه المهارة الانفعالية يكون لديه فاعلية في كل ما يناط به من أعمال.

4- معرفـة عواطف الآخرين أو التقمص الوجدانيEmpathy ، وهي مقـدرة تتأسس على الوعـي بالانفعالات، حيث يدفع التقمص الوجداني الإنسان إلى الإيثار والغيرية (الاهتمام بالغير)، ومن لديه هذه الملكة يكون أكثر قدرةً على التقاط الإشارات التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم.

5- توجيه العلاقات الإنسانية أو المهارات الاجتماعية Social Skills عن طريق إدارة انفعالات الآخرين وتطويع عواطفهم، والقدرة على القيـادة الفاعلة والتأثير في الآخرين من خلال مشاعرهم.

خلاصة القول، إنك إذا كنت تتمتع بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي أو تريد تعزيزه من أجل تحقيق النجاح في حياتك الشخصية والاجتماعية والمهنية، نعرض لك في هذا السياق الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي: أولاً: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قدماً بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف. ثانياً: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظراً لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد. ثالثاً: يتقبلون التغيير، بدلاً من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة. رابعاً: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم. خامساً: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، كتابه " ركِّز (المحفز الخفي للتميز) "، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك. سادساً: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضاً كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب. سابعاً: لديهم دوافع ذاتية، إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي. ثامناً: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جداً بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعاً: يركزون على النواحي الإيجابية، يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلاً من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه.

وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليه. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

يعلمنا التحليل النفسي ما إنغرس في أعماقنا ويحرك سلوكنا، يقودنا إلى ما ننطق به إلى أهوال في بعض الأحيان عبر اللسان، وهو منطوق عبر الكلام، وهو مخزون في التفكير، كان تكوين فرضي، فتحول إلى واقع وصار نحن " أنا المتكلم" وقول المحلل النفسي الفرنسي كريستيان هوفمان في محاضرة له بتاريخ 2 / 12 / 2022 في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس "محاضرة غير منشورة" قوله: تحليل السلوك هو تحليل الأنا، وتحليل الكلام هو تحليل الذات، ربما يقول البعض أن هوفمان ذهب بنا بعيدًا إلى فكر الفيلسوف الفرنسي والمحلل النفسي " جاك لاكان" وهي حقيقة واقعة، فما ننطق به هو مخزون في فكرنا، وما نقوله نعبر عنه بشكل جميل، مُحسن، مقبول يرضي السامع، ولكنه ليس هو ما نحمله في دواخلنا، وأفضل دليل على ذلك ما دونه لنا سيجموند فرويد في الهفوات وزلات اللسان والقلم. وقوله "سيجموند فرويد" بأن الفلتة نفسها يكون لها في بعض الأحيان معنى، والفلتة تنطوي على مغزى وقصد. ويضيف فرويد قوله: أن الهفوة قد تكون في بعض الأحيان سلوكًا يتسم بما يتسم به كل سلوك سوي، إلا أنه زج بنفسه مكان السلوك الذي يتوقعه الفرد أو يقصد عليه. وهي أيضًا أقصد الهفوة ليست وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، وما نتعلمه من التحليل النفسي اليوم إمتدادًا لأفكاره في التكوين والتحديث الكثير فما يراه فرويد قوله: وعما إذا كان من الممكن أن تستوعب هذه النظرة شتى أنواع الهفوات الأخرى، كزلات القلم وعثرات القراءة والخطأ في تنفيذ بعض الأفعال، والنسيان، واستحالة العثور على أشياء حفظها الإنسان من قبل، وغير ذلك وما الدور الذي يقوم به التعب وشرود الذهن والاهتياج وتشتت الانتباه حيال الطبيعة النفسية للهفوات .

يؤكد لنا "سيجموند فرويد" بأن النشاط النفسي يخضع لحتمية سيكولوجية، فليس في العالم النفسي مجال للمصادفة الطارئة، ومن ثم فكل ما يصدر عن الفرد من سلوك إنما هو محتم " محتوم- حتمي" مقدر بما سبق أن خَبره في أطوار حياته. فهو يصدر ليس إعتباطًا، أو عشوائيًا، ويضيف "فرويد" الحق أنكم تتوهمون وجود حرية نفسية. إذن الأمر كل ما يصدر عنا له دلالة ومعنى، وإن غاب عن التفسير في الوقت الحاضر.

ما نتعلمه من التحليل النفسي أن نسيان الموعد مع شخص له دلالة ومعنى، وكذلك نسيان  تنفيذ الأوامر الموكلة لك في العمل، أيضًا لها دلالة ومعنى، ونسيان تنفيذ متطلبات الزوجة، أو الابناء، له دلالة ومعنى، وكذلك ضياع الأشياء واستحالة العثور عليها له أيضًا دلالة ومعنى، ويقول " فرويد" نحن نفقد الأشياء متى أختلفنا وتخاصمنا مع من قدموها إلينا، فلا نريد أن نذكرهم أو أن نفكر فيهم بعد، كما نفقدها إن مللناها فالتمسنا عذرًا لكي نتبدل بها خيرًا منها. ويرى فرويد أن كسر الأشياء وإسقاطها وإتلافها يؤدي أغراضًا شبيهة بالأغراض السابقة بطبيعة الحال. ونقول وراء كل سلوك دافع وإن كان خفيا.

ما نتعلمه من التحليل النفسي على حسب قول سيجموند فرويد أن بعض أنواع التفاؤل والتشاؤم لا تخرج عن أن تكون من قبيل الهفوات، من تلك تعثر الفرد أو سقوطه على الأرض، وإن كان لبعضها الآخر طابع الحوادث الموضوعية لا طابع الذاتية، ويضيف فرويد قوله: قد لا تصدقون كيف يصعب علينا أحيانًا أن نقطع بما إذا كان حدث ذو طابع الحوادث الموضوعية، أو إلى طابع الأفعال الذاتية، فالفعل يعرف في كثير من الأحيان كيف يتنكر ويلبس لبوس الحدث السلبي.

ما نتعلمه من التحليل النفسي هو أن للهفوات دلالة ومعنى، وأن لكل هفوة معنى، ويضيف فرويد: أن الهفوات أفعال نفسية تنشأ عن تداخل قصدين، ويمكننا القول إن الهفوات أفعال نفسية، ويفسر فرويد ذلك قوله: حين نصف ظاهرة بأنها عملية نفسية لذا يجدر بنا أن نضع عبارتنا في الصيغة الآتية، للظاهرة معنى، ونقصد بهذا أن لها دلالة، وأنها تصدر عن قصد، عن نزعة، وأنها تحتل مكانًا معينًا في سلسلة من العلاقات النفسية.

يدلنا فرويد في طروحاته العميقة عن فلتات اللسان حينما يؤكد بأن فلتة اللسان قد تكون مظهرًا لنزعة أُعيقت عن التعبير عن نفسها منذ زمن طويل، بل منذ زمن بعيد جدًا، بحيث لا يعود المتكلم يفطن إلى وجودها أصلًا، فيكون مخلصًا كل الإخلاص إن أنكر وجودها، وينهي قوله: أن قمع القصد – القصد إلى قول شيء – هو الشرط الضروري لحدوث فلتة اللسان.

يضيف لنا "فرويد" وللتحليل النفسي كيف أن الهفوات وزلات اللسان والقلم وضياع الأشياء واستحالة العثور عليها هي نتيجة لفعل قوي في النفس، وعلى أنها تعبيرات عن نزعات تعمل متضافرة للوصول إلى غاية. ويضيف  أن الإنسان لايميل إلى أن يعترف عن طيب خاطر بأنه تورط في فلتة لسان، بل يحدث في كثير من الأحيان أن يفوته سماع فلتة زل بها لسانه في حين لايفوته ألبته سماع فلتة وقع فيها غيره.

أما عثرات القراءة فيبين لنا سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي قوله: أختلف الموقف النفسي اختلافا بينًا عنه في فلتات اللسان وزلات القلم ، ذلك أن إحدى النزعتين المتصارعتين يحل محلها في هذه الحال تنبيه حسي قد يكون أقل منها مقاومة وإلحاحًا. ةيضيف قوله: إن ما يقرؤه الإنسان لا يكون غالبًا من نتائج عقله، كما هي الحال فيما يكتب. لذا فالغالبية العظمى من عثرات القراءة تنجم عن عملية " إبدال" تام، فالكلمة المقرؤة تُستبدل بها أخرى دون أن تكون هناك بالضرورة صلة بين مضمون المقروء ومضمون نتيجة الخطأ، بل يحدث الإبدال عادة عن طريق تشابه بين الألفاظ. يبين لنا فرويد ثمة صنف آخر من عثرات القراءة يستثير فيه النص المقروء نفسه نزعة دخيلة تحرفه، وكثيرًا ما تقلبه إلى ضده كما لو طلب إلى أحد أن يقرأ شيئًا لا يستسيغه، لا يحبه، لا يرغب بقراءته فيتضح من التحليل أن المسؤول عن التحريف في هذه الحالة رغبة قوية في نبذ ما يقرأ، ونحن نقول إنها رغبة لاشعورية في الرفض.

يرى فرويد أن النسيان وسيلة دفاعية تقي من الذكريات الأليمة، ويرى أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، ديناميكية، تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما، ويضيف فرويد .. بيت القصيد هنا هو أن نعرف موقف إحدى النزعتين من الأخرى، والاثار التي تترتب على كل واحدة منهما والحديث عن تلك الظواهر النفسية التي تصدر من الإنسان لا ينتهي لأنها ترتبط بموضوعات آخرى منها الأحلام والإضطرابات النفسية والعقلية.

***

د. اسعد الامارة

 

بعد هذه السلسلة التي تتناول المعرفة الأخلاقية من منظور سياقي ادعي أن الصورة السياقية التي قدمتها دقيقة في وصفيتها إلى حد ما، على الأقل إذا ركزنا على الأسئلة التي تدور حول المسؤولية المعرفية في الاعتقاد الأخلاقي. ولكن حتى لو كنت محقًا في ادعائي الوصفي حول كيفية عمل ممارساتنا، فهل لدينا سبب وجيه لتأييد ممارساتنا؟ هل يمكننا تقديم سبب منطقي لوجود معايير وممارسات تشبه تلك التي لدينا؟ ننتقل،هنا، من الأسئلة الوصفية إلى الأسئلة المعيارية.

لا يسمح االمجال هنا بمتابعة القضايا المنهجية بأي تفاصيل، لكنني سأفترض أن الحكم على الملاءمة الكلية للنظرية المعرفية هو مسألة تماسك تلك النظرية بشكل شامل مع الافتراضات والآراء من الحس السليم في الأمور العملية ومجالات البحث الأخرى. هناك على وجه التحديد بعدين لهذا النوع من الكلية أو الشمولية يستحق الفرز. أولاً، قد يرغب المرء في أن تتوافق نظرية المعرفة الأخلاقية مع افتراضات الحس السليم حول الأمور المعرفية مثل الافتراض بأن العديد من الناس (على الأقل في بعض الأحيان) يعتقدون بشكل مبرر ببعض الافتراضات الأخلاقية. ثانيًا، يريد المرء أن تتوافق الالتزامات والآثار المترتبة على نظرية المعرفة مع أي افتراضات ونظريات ونتائج من المجالات التجريبية مثل علم النفس وعلم الأحياء والأنثروبولوجيا.[1] بالطبع، أن تقييم النظريات المعرفية هي مسألة مقارنة. يأمل المرء أن يُظهر أن النظرية المعرفية المفضلة لديه تقوم بعمل أفضل، مقابل أي منافس، في تلبية الرغبات.

على الرغم من أنني لن أجادل في هذه القضية هنا، لكن دعوني فقط أخمن أن وجهة نظري السياقية تتوافق بشكل أفضل من الآراء المتنافسة مع افتراضات الفطرة السليمة مثل أن الأشخاص العاديين غالبًا ما يكونون مسؤولين معرفيًا في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها. أظن أن هذه الآراء المعرفية المتنافسة، بغض النظر عن الفضائل التي تمتلكها، تميل إلى فرض أعباء معرفية على المعتقديين العاديين والتي قد توحي بأنه ليسوا مسؤولين بشكل عام في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها.[2] لذلك أعتقد أن السياقية أكثر منطقية من منافسيها فيما يتعلق بالهدف الأول لأي نظرية المعرفة الأخلاقية.

أعتقد أيضًا أن نظرية المعرفة السياقية التي اعرضها تتوافق بشكل جيد مع معطيات تجريبية معينة حول البشر. إن ما يدور في ذهني، على وجه التحديد، هو نوع من المنطق العملي الذي اشرت إليه في سياق هذا البحث للدفاع عن الشرط "البينية أو الفترات الفاصلة" التي تحكم مسؤوليتنا في التعامل مع الاحتمالات المضادة. لقد أشرت فيما يتعلق بالمتطلب المعني إلى أنه نظرًا "لمأزقنا" أو لوضعنا الصعب، بما في ذلك حقيقة أننا كائنات ذات موارد معرفية محدودة، ووقت محدود، وأهداف أخرى غير معرفية، فإننا نتوقع أن أنواع المعايير المعرفية في الحياة العملية اليومية من شأنه أن تفرض نوعًا من مستوى الرعاية "في الفترات الفاصلة" لفحص القدرات المحتملة التي اكتشفناها سابقًا. علاوة على ذلك، فإن النظر إلى المعايير المعرفية من هذا المنظور البراغماتي يجعل من المنطقي أن معاييرنا المعرفية بشكل عام لها تحيز "بريء حتى تثبت إدانته" تجاهها، وهو نزعة محافظة تذهب إلى صميم السياقية التي اتناولها.[3] إذا كان هذا صحيحًا، فبما أنه لا يبدو أن هناك أي سبب خاص لافتراض أن المتطلبات المعرفية المرتبطة بالمعتقد الأخلاقي تختلف في هذا الصدد عن تلك المرتبطة بالمعتقدات غير الأخلاقية، فإن نوع المنطق البرغماتي- العملي الموصوف سابقًا ينطبق على الحالات الأخلاقية ايضًا.

الخاتمة

لقد حاولت تقديم حجة لمعقولية نظرية المعرفة السياقية في مجال الأعتقاد الأخلاقي. لقد شرعت، بعد فرز وتوضيح العديد من أطروحات السياق المعرفي، في وصف فرد معرفي نموذجي مناسب للتقييم المعرفي اليومي للأشخاص العاديين. و شرعت، على أساس هذا النموذج، في تحديد صيغة من السياقية حول بنية الأعتقاد الأخلاقي المسؤول. اسمحوا لي أن أختم بإعداد قائمة جزئية لبعض المهام التي تنتظرنا إذا أراد المرء أن يدافع عن هذا الرأي بشكل كامل.

أولاً، هناك مفاهيم تلعب دورًا مهمًا من وجهة نظري والتي تركتها دون أن اوضحها. فكان المطلوب أن اقول المزيد عن مفهوم السياق وكيف يتم تحديد السياق الاجتماعي للتقييمات المعرفية المحددة.

ثانيًا، لقد أشرت إلى حيث تتطلب بعض المطالب السياقية الرئيسة دفاعًا أكثر مما قدمته. أظن، كان المفروض أن اقدم المزيد من الشرح لدعم دعم أطروحة المحافظة المعرفية. وينطبق الشيء نفسه على أطروحة الكفاية المعرفية، والتي بموجبها يمكن أن تكون المعتقدات غير القانونية والمسؤولة، بمثابة أساس مناسب للوصول إلى معتقدات أخلاقية أخرى بشكل مبرر.

ثالثًا، هناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن حول هذا النوع من وجهات النظر، وهي أسئلة تصبح أساسًا للاعتراضات: "ألا ترقى وجهة النظر هذه إلى مجرد صيغة من النسبية المعرفية (السياقية المعيارية) وبالتالي تشير ضمناً إلى أنه حتى الأشخاص الذين لديهم معتقدات أخلاقية مجنونة، والذين خضعوا لعملية تعليم" أخلاقي"، سيكونون مسؤولين معرفيًا عن تبني معتقدات أخلاقية شائنة؟" "إذا لم تكن وجهة النظر، بالمعنى الدقيق للكلمة، صيغة من النسبية، ألن تظل لها الآثار المعيارية نفسها مثل صيغة من النسبية المعرفية؟" "علاوة على ذلك، حتى لو تجنبت وجهة النظر المشاكل المذكورة للتو، ألا يعني ذلك أن الرأي يقع بنوع غير مقبول من الدوغماتية المعرفية لأن منظور المرء- الفاعل المعرفي النموذجي يستند إلى حساسيتنا المعرفية (المشتركة إلى حد كبير)، والتي قد ألا تشاركها مجموعات أخرى ولكننا نستخدمها لتقييم معتقدات المجتمعات الأخرى؟ "

أخيرًا، كما ذكرنا في نهاية القسم الأخير، يتطلب الدفاع الكامل عن نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية أن أبين أن وجهات النظر المعرفية البديلة أقل منطقية من وجهات نظري. لقد ألمحت فقط إلى أسباب تقديم مثل هذا التأكيد.

أنا متفائل بشأن الرد على الشكوك وملء الحجج والتفاصيل المهمة. لكن المحاولة الأكثر شمولاً تنتظر مناسبة أخرى.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] إن الادعاء بأن العمل الوصفي في العلوم يجب أن يؤثر على التنظير المعرفي المنطقي يمثل ما يسمى بالنهج المتجنس لنظرية المعرفة، وهو النهج الذي يصر على أن التنظير المعرفي السليم يجب أن يعتمد على العمل ذي الصلة في العلوم. انظر، على سبيل المثال،

Hilary Kornblith, "Introduction: What Is Naturalistic Epistemology?" in Naturalizing Epistemology, 2d ed., ed. Hilary Kornblith (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1994), 1-14.

[2] Gilbert Harman, Change in View (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1986), chapter 2.

[3] لمناقشة نوع الأساس المنطقي لمفهوم المسؤولية المعرفية.، أنظر:

Foley, Working Without a Net, chapter 3

في الوجود لا توجد حقيقة سوى حقيقة الذات وفي الذات لا توجد حقيقة سوى حقيقة الإدراك والشك بما تدرك هذا هو جوهر (الكوجيتو الديكارتي). أنا أشك إذن فأنا أفكر وكل مفكر موجود إذن فأنا موجود.

نعم لا شيء يصمد أمام شكك إلا شكك لأنك مهما شككت فلن تشك في أنك تشك.

والشك تفكير والتفكير دليل قاطع على وجود ذات تفكر . ومن هذا الفكر تتبرعم كل ثمار العلاقة بين الذات والذات وبين الذات والموضوع.

العلاقة بين الذات والذات تجد ثمرتها في أنك تستطيع أن تقف خارج ذاتك فتتأملها وهنا يولد الحوار الذاتي حوار الذات للذات شكا ونقدا وهذا هو قمة الوعي الذاتي.

والعلاقة بين الذات والموضوع تجد ثمرتها في تأكيد إنفصال الذات عن الموضوع حيث تحكم الذات بوجود موضوع خارج عنها وهنا تكتمل علاقة الذاتي بالموضوعي فتبدأ المعرفة المنطقية وتتأسس قوانين الإدراك.

صار واضحا أن الوعي الذاتي له معنيان.

الاول معرفة الإنسان بذاته. والثاني قدرته على الخروج من معرفة الذات إلى معرفة الموضوع.

 الوعي الذاتي إذن هو ما يجعل الإنسان إنسانا أي كائنا واعيا يربط شبكة علاقات خاصة بالعالم وبذاته تميزه عن غيره من الحيوانات.

من هنا نستطيع أن نؤكد أن الوعي الذاتي هو ماهية الفكر الإنساني حصرا دون باقي الأحياء على الأرض.

وفلسفيا نستطيع أن نعرف الذات كجوهر متميز عن الجسد يحدد طبيعة أو ماهية الإنسان.

إذن الإنسان بالتعريف كائن أو جوهر مفكر ومن هذا التفكر أدرك أن الوعي الذاتي ميزته الخاصة التي يتعالى بها عن باقي أحياء الأرض أنه سيد هذا العالم بلا منازع أو غريم.

ومن رحم الوعي بالذات تولد الشخصية وتتوحد مع الأنانية وبفضل وحدة الوعي هذه التي تستمر أمام جميع التغييرات التي يخضع لها تكون الأنا والذات والشخص وحدة واحدة.

هنا تقيم الشخصية فرقا تاما بين الذات والأشياء حسب الترتيب الماهوي فتقول الذات (أنا أولا).

ومن هذا نفهم لماذا لا يستطيع الإنسان أن يخدم غرضا أسمى من تحقيق ذاته.

الموروث والمكتسب

الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض-دون بقية الحيوانات- الذي أمتلك الوعي الذاتي فأين يكمن سبب هذه الميزة؟

يولد الإنسان وهو مزود بأجهزة جسمية تختلف عن الأجهزة الجسمية لأي حيوان راقي حتى ذلك الحيوان القريب منه في سلم التطور البايولوجي ويبلغ الإختلاف أشده في أهم هذه الأجهزة الجسمية وهو الجهاز العصبي وعضوه المهم (الدماغ).

إن هذا الاختلاف يصبح اختلافا نوعيا وفريدا بهذا الكينونة لكنه يظل مشروعا غير مكتمل الإركان فالإنسان يولد مشروع إنسان وإنسانيته لا تكتمل إلا من خلال الهيئة الاجتماعية التي تمنحه هذه الصفة فتكتمل بذلك كينونته.

وبديهي ان هذه الكينونة أو الذات الطبيعية البشرية تظل تشترك مع أي كينونة أو ذات طبيعية حيوانية بحاجات بايولوجية ضرورية للاستمرار في بقاء هذه الذات كذات نامية تمر بمراحل معينة ومتعددة من التطور البايولوجي كالحاجة للطعام أو الحاجة للنوم او الحاجة للجنس ..ألخ.

على هذا الأساس فإن الإنسان كائن طبيعي كأي حيوان آخر سواء بسواء ذو حاجات بايولوجية أما السبب الدافع لهذه الحاجات فهو «الرغبة في البقاء على قيد الحياة». وعلى الرغم من وجود الإختلافات الكبيرة بين البيئة الداخلية للإنسان والبيئة الداخلية للحيوان (الأجهزة الجسمية الداخلية) وخاصة في أعظم أقسام هذه البيئة أي في الجهاز العصبي المركزي الصادر منه والمسيطر على جميع أنماط السلوك سواءا كان هذا السلوك بشريا أو سلوكا حيوانيا فإن الإنسان لا يبلغ أية درجة من الإنسانية التي يتميز بها عن حيوانية الحيوان إذا ظل معزولا عن المجتمع وغير متفاعل معه.

هذا معناه أن المجتمع هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته ومقدار هذه الإنسانية يتوقف على مقدار إنسانية المجتمع الذى يتفاعل معه الانسان وعلى مقدار هذا التفاعل. وبذلك فإن إنسانية أي إنسان ستختلف حتما عن إنسانية أي إنسان آخر تبعا للإختلاف الحاصل في كل من هذين الشرطين وفي النهاية ما الإنسانية إلا مجموعة قيم والقيم هي التي تحدد السلوك.

هذا الاستنتاج يجد صداه فيما أورده (مستر جيسل) في كتابه (طفل الذئاب وطفل الإنسان).

إذ كشف لنا بمزيد من العمق والوضوح الوهم الذي كنا نظنه جزء من موروثنا الجيني إذ تبين إن هو إلا جزء من تراثنا الاجتماعي المكتسب من خلال التفاعل الايجابي المستمر والحاصل بين الإنسان وبيئته الاجتماعية.

ففى حالة الأطفال البشريين الذين اختطفتهم الذئاب لوحظ إن الطفل البشري المختطف يصبح كطفل الذئاب يعوي ويصرخ عند الحاجة إلى ذلك لكونه لا يعرف الكلام وبالتالي لا يجيد التفكير كما أنه يعدو بخفة على أربعة أرجل بدلا من أن يمشي منتصبا على قدميه

وينام في النهار ويستيقظ في الليل ويأكل الرمم بفمه مباشرة.

كان المستر (جيسل) مؤلف كتاب(طفل الذئاب وطفل الانسان).1. يعيش مع زوجته في الهند عام 1920 يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في أحد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق شاهد ذئبة مع (صغيرها). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة ويجري على أربع.

كان المستر (جيسل) قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى حجرها فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ.

يرجح انها ولدت عام 1912 أي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار وتصحو في الليل وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء منتصف الليل نشطت وصارت تمشي على أربع. كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. وإذا اقترب منها احد كشّرت عن أنيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الإغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها وأكلت من الطبق بيديها. بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة(ما). وإذا عطشت وطلبت الماء أو جاعت وطلبت الطعام قالت(هو هو). ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت أكل الفضلات. وعندما بلغت (14) سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحت. بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات :

1-إن السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة لكن بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العقلية التي ينشأ عنها التصرف.

 2-إن ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وتنشئة اجتماعية. حتى بعد

سنوات. فذهن هذه الطفلة لم يتطور الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن. لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه خالية تتقبل التعليم الجديد. لكن هذه المسكينة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب. ومن هنا صعب تعلمها.

3-إن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي والأكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي.

4-إن اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فإن هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة(ما) وبدا ذكائها ينمو. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك. وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة والفكر يتبادلان الفعل والتأثير نحو بناء الفهم وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم. وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني. حين تعلمت بعض الكلمات. وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

الأمر الذي يتضح معه أن التراث الاجتماعي المكتسب وليس التراث الطبيعي الموروث هو الذى يشكل إنسانية الإنسان من حيث كونها ذاتا إنسانية تتفاعل مع ذوات الآخرين من حيث كونهم ذوات إنسانية وعلى قدر إنسانية هذه الذوات وعلى قدر تفاعل ذات الإنسان معها يكون قدر إنسانية هذه الذات. معنى هذا إن العمل الذى تأتي به الذات سواءا كان هذا العمل نبيلا او شائنا يتوقف حسب هذا التصور على جودة أو رداءة ذوات الآخرين وعلى حجم مجال التفاعل الذي يمنح للذات مع ذوات الآخرين.

إن الذات الإنسانية تجد نفسها كاملة كذات إنسانية في التوحد أو التفاعل مع ذوات الاخرين إذ لا يكفي ان تملك الذات الإنسانية التراث الطبيعي الموروث لتحقيق هذا التكامل مالم تملك إزائه التراث الاجتماعي المكتسب الذى يسبغ عليها مسوح الانسانية.

بعد هذا المستوى من الفهم للإنسان لابد وأن يواجهنا السؤال عن فحوى أو مضمون تلك الإنسانية أو بالأحرى عن ماهية هدف تلك الهيئة الاجتماعية التي منحت الإنسان إنسانيته أي عن ذلك الهدف الآخر الذي يكمن وراء هدف "الرغبة في البقاء على قيد الحياة" وهو الهدف الذي قلنا أننا نشترك مع الحيوان في السعي اليه.

لكن ما لا نشترك فيه مع الحيوان وهو ميزة فريدة لنا هو هدف إجتماعي يمنح الانسان إنسانيته إذ من دونه لا يصبح الإنسان إنسانا فلكون الحيوان لا يملك قدرة السعي إليه فهو لن يتعدى طور الحيوانية ولو تربى في حضن الإنسان وعاش في مجتمع إنساني.

أما الإنسان هذا الكائن الفريد الذي يشترك مع الحيوان في البايولوجي ويفترق عنه في الإنساني بفعل الهيئة الاجتماعية التى تفرض عليه هذا الهدف الذي يزيد على هدف الرغبة في البقاء على قيد الحياة.

ومن خلال هذا الادراك يتضح لنا ان الإنسان كائن بايولوجي واجتماعي في آن واحد أي كائن مزدوج فهو كائن ذو حاجات بايولوجية كالحاجة للطعام أو الحاجة للشراب أو الحاجة للجنس .. حيث يكون السبب الدافع لهذه الحاجات هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة وهو كذلك كائن اجتماعي يصبح لرغبته في البقاء هدف أساسي لا يحيد عن تحقيقه اكتسبه من المجتمع الذي يحيا فيه.

الحقيقي والواقعي في الطبيعة البشرية

تبين لنا إن "الانسان كيان ذاتي" بمعنى أن الغاية من وراء مختلف أشكال السلوك هي بناء الذات وتوكيد هذا البناء وبذلك فأن منجزات الإنسان الثقافية والحضارية

ومنذ أن أكتسب الإنسان إنسانيته في الهيئة الاجتماعية هي نتائج للسعي إلى هدفه الخاص أي لهدف "تحقيق بناء الذات وتوكيدها".

إن سعي الإنسان الجاد من أجل البناء الذاتي وتوكيده هو الحقيقة التي تشكل محتوى القانون العام الذى يشترك به جميع البشر فدوافع مختلف أشكال السلوك البشري واحدة لأنها تتجه جميعها نحو غاية مشتركة.

أما الاختلاف الكائن فيما بينها فيكمن في اختلاف الوسائل الموصلة لتحقيق تلك الغاية حيث إن هذا الاختلاف الحاصل في الوسائل الموصلة ناجم عن الاختلاف في الظروف التي يتعرض لها إنسان معين في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية ولا يتعرض لها انسان آخر يعيش في بيئة أخرى مختلفة. إذ يتعرض لظروف أو لمواقف أخرى في تلك البيئة تفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك.

على إننا حينما نقول إنها تختلف فإنما نعني بهذا الاختلاف أنها لا تتشابه إلى حد التطابق إذ إن هناك درجات معينة من التشابه والاختلاف.

ولعل معرفة هذه الحقيقة قادرة على أن توضح لنا سبب الاختلاف الحاصل بين سلوك إنسان ما وسلوك إنسان آخر.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه هنا هو ضرورة التمييز بين ما هو "حقيقي" وبين ما هو "واقعي" فللطبيعة البشرية حقيقة كما أن لها واقع ملاحظ.

فحقيقة الطبيعة البشرية هي إنها تخضع لقانون (الصراع) الذي يعم لا الكائنات الحية فقط وإنما هو قانون كوني عام وشامل وعلى كافة التقديرات فقد تصارع الإنسان مع الحيوان في الغابات في بدايات وجوده الأولى حيث مكنته قوة عقله من البقاء وأضعاف الكائنات الاخرى فدجنها وتسيد عليها.

ثم صارع الإنسان الطبيعة بكل قساوتها وقاوم ظروف البرد القارس والحر اللاهب ببناء البيوت واختراع وسائل التدفئة والتبربد. لكن أقسى أنواع الصراعات كان صراع الإنسان مع الإنسان هي حرب منذ أن وجد وإلى حد الآن حيث الغزو والقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والإبادة الجماعية أحيانا.

ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي شهدته البشرية في جميع مجالات الحياة و في كل مكان من العالم في العصر الحديث وسن القوانين والتشريعات ذات المضمون الإنساني والمؤسسات الدولية والتي تدعو الى احترام حق الانسان بالحياة لازال الإنسان يمارس أنواع مختلفة من الصراعات من أجل التملك والتسيد والسيطرة على حساب حياة و راحة أخيه الإنسان.

ثم أخذ الصراع أبعادا إيديولجية فكانت صراعات وحروب الأديان أقسى الحروب ثم الصراع الأنكى والأمر وهو الصراع الطائفي الذي ليس له نهاية واضحة في الأفق ثم الصراع العشائري في البلدان المتخلفة ثم الصراع الحزبي في مؤسسات السياسة ثم العائلي ثم الفردي ثم الذاتي حيث يتصارع الإنسان مع ذاته.

وإذا كان الصراع بين أفراد المجتمع يشكل جوهر هذه الحقيقة فلا يعني ذلك أنه السبب في الواقع المزري الذي يعيشه أفراد المجتمع متمثلا باستعباد الرجل للمرأة أو في استغلال الرأسمالي للعامل أو في استعمار دولة لدولة اخرى.

وإنما لكون الصراع الذي تتضمنه حقيقة الطبيعة البشرية يتجه من أجل ديمومته نحو علاقات غير عادلة متمثلة بالاستعباد أو الاستغلال أو الاستعمار.

وفي كونه لا يتجه الى علاقات مغايرة في الوفاق الفردي والاجتماعي.

وأظن ان هذه المعرفة -معرفة تشخيص الداء- تشكل نصف وظيفة العلم في عصرنا الراهن أما نصفها الآخر فيكمن في ترشيد ذلك الصراع نحو وفاق يضمن ذوبان التناقض الحاد الكائن بين حقيقة الطبيعة البشرية في الصراع وواقعها المعيب في العلاقات الفردية والاجتماعية غير العادلة على هذا الأساس فإن الإجراء الإيجابي الوحيد يكمن في توجيه ذلك الصراع ما دام إن القضاء عليه يعني القضاء على الطبيعة البشرية نفسها.

وبديهي إن مثل هذا التوجيه لا يتم من خلال أفكار تعتمد على الإيديولوجيا أو على الدين لمعالجة أحوال اجتماعية معينة.

فعلى الرغم من إن حلول الإيديولوجيا أو الدين لا تخدم ذلك التوجيه لانها بصراحة تساهم في تأجيج حدة ذلك الصراع نحو مزيد من التناقض الجائر . إنما الحل يتم عبر أفکار تقدمية تعتمد أسس منهج العلم بعيدا عن مؤثرات الإيديولوجيا والدين والطائفة.

***

سليم جواد الفهد

............

1-أقتبست معلومات عن المستر (جيسل) من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه سلامة موسى.

 

التداخلُ بين الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية يُؤَدِّي إلى تكوين مصادر جديدة للمعرفة، وهذه المصادرُ تُمثِّل تأسيسًا للنَّزعة النَّقْدِيَّة للأنماط الاستهلاكية في المُجتمع، وتُجسِّد وَعْيًا بالصِّراع الدائر بين تفاصيل حياة الإنسان المُتَشَظِّيَة (الحنين إلى المَاضِي الذي لا يَمْضِي، والغرق في الحَاضِر الذي يتمُّ تفريغُه مِن مَعْنَاه وَجَدْوَاه، والخَوف مِن المُستقبَل الذي تتمُّ أدلجته كَمَنفى للرُّوحِ والجسدِ). ولا يُمكن للإنسان أن يَكُون هُوِيَّةً للوَعْي التاريخي إلا بالتخلُّصِ مِن الخَوْفِ الزمني والقَلَقِ المَكَاني، ولا يُمكن للمُجتمع أن يَكُون سُلْطَةً للمَعْنى الحضاري إلا بالتخلُّصِ مِن اغترابِ الكِيَان واستلابِ الكَينونة. وإذا كانَ الإنسانُ يَستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على الانعتاق مِن حُطَامِ الرُّوحِ وأنقاضِ الجسد، فإنَّ المُجتمع يستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على التَّحَرُّر مِن انكسارِ الذات وغُربةِ الشُّعور.وهذا يَعْني أنَّ الإنسانَ والمُجتمعَ يُكوِّنان معًا تاريخًا للأحلام المُشترَكة يَمنع تَحَوُّلَ المَنطِق إلى ضِدِّه، ويَمنع انتقالَ العقلانية إلى نقيضها، تحت ضَغْط تضارُب المصالح الفردية والجماعية، وإفرازاتِ البيئة الحياتيَّة تاريخيًّا وحضاريًّا، وتأثيراتِ الطبيعة الوُجودية للأشياء والعناصر. والخطرُ الحقيقي الذي يُهدِّد البناءَ الاجتماعي هو تَحَوُّلُ مَنطِق التاريخ إلى نَمَط استهلاكي غَير مَنطقي، وتَحَوُّلُ عقلانيَّةِ الحضارة إلى غَريزة شَهَوَانِيَّة غَير عقلانية. والتاريخُ والحضارةُ يُشكِّلان منظومةً فلسفيةً مُوَحَّدَةً في الشُّعور والإدراك الحِسِّي، ومُوَحِّدَةً للانعكاسات الاجتماعية القَصْدِيَّة والعَفْوِيَّة في الزمانِ والمكانِ. وكُلُّ تَوليدٍ للوَعْي الخَلاصِي في التاريخِ والحضارةِ هو بالضَّرورة تأسيسٌ للمَعنى الإنساني في الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية. والثقافةُ هي إعادةُ مُمارَسة التاريخ الإبداعي مِن مَنظور أخلاقي، والمُجتمعُ هو إعادةُ تَكوين الجَوْهَر الوجودي في بُنية العقل الجَمْعي المُسيطِر على تحوُّلات الفِعْل الاجتماعي.

2

إذا صَنَعَ الفِعْلُ الاجتماعي التجانسَ المركزي في شخصية الفرد الإنسانية، فإنَّ بُنية العَقْل الجَمْعي سَوْفَ تَنتقل مِن تأويلِ أنساق التاريخ إلى تغييرِ أنماط المُجتمع، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيلِ وسائل التواصل بين المُحتوى والشَّكْل، وتجسيدِ المشروع الإنساني المُتكامل في الأحداث اليومية القادرة على تكوين تَصَوُّر ثقافي للذاتِ والعَالَمِ، مِن أجل تخليصِ التجارب الحياتيَّة مِن التناقضات الداخليَّة، وتطهيرِ فلسفة التاريخ مِن المُسلَّمات الافتراضية، بِحَيث تُصبح الحياةُ إطارًا معرفيًّا للفِكْر الخَلَّاق والوُجودِ الفَعَّال، ويُصبح التاريخُ هُوِيَّةً جامعةً للسِّيَاقاتِ العقلانية والتَّشَظِّيَاتِ الواقعية. وينبغي الحِفاظُ على الفِعْل الاجتماعي كمشروعٍ للخَلاص يُعرَف بذاته ولَيس بأضداده، وكَفِكْرةٍ مصيرية تتوالد مِن ذاتها، ولَيس كأيديولوجية مُسَيَّسَة يُعاد تشكيلُها مِن أجل إقحام الأفراد والجماعات في الانتماء المصلحي النفعي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس حَدَثًا عابرًا في تفاصيل الواقع المُعاش، وإنَّما هو نَسَقٌ فلسفي عميق يَحْمِل خصائصَ تاريخِ المُجتمع داخليًّا وخارجيًّا، ويُفْرِز مناهجَ لُغوية تَجْمَع بين تشخيصِ الأحلام الإنسانية المَكبوتة، وبين تَكوينِ آلِيَّاتِ تفسيرها وأدواتِ توظيفها.

3

المناهجُ اللغوية لا يَقتصر دَوْرُها على التأثير في الأحلامِ المكبوتة والعناصرِ المُهمَّشة والحَيَوَاتِ المنسيَّة. إنَّ هذه المناهج تَنبُع مِن اللغة كَجَسَدٍ فلسفي، ونظامٍ تواصلي، ومسارٍ رمزي، وتُحوِّل الأحداثَ اليومية إلى ظواهر ثقافية مُتجانسة ومُتكاملة، اعتمادًا على الطبيعة الأخلاقية للفِعْل الاجتماعي، واستنادًا إلى الجُذورِ الحضارية، والسِّيَاساتِ الإنسانية، والهُوِيَّاتِ التاريخية، والماهيَّاتِ الفكرية. واللغةُ هي سُلطة المعرفة. ومعَ أنَّ المعرفة نِسبية وغَير يقينية، إلا أنَّ الطريق إلى المعرفة هو اليقين، والعمل أكثر أهميةً مِن النتيجة، لأنَّ العمل تحت سيطرة الإنسان، لكنَّ النتيجة خارج سَيطرته. وكُلُّ إنسانٍ مُتَأكِّدٌ أنَّه يسير في طريقه، لكنَّه غَير مُتأكِّد مِن الوُصول إلى هَدَفه. وهذا يَعْني أنَّ الطريق الحياتي هو الطريقة الوجودية، وأنَّ الإنسان يُؤَسِّس مَصِيرَه أثناء اختيار مَسَاره.وهذا يَفرِض على الإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرَات صحيحة حَوْلَ نَفْسِه،وطبيعةِ بُنيته الوظيفية في الحياة، لِكَيلا يُمَارِس المَاضِي في الحَاضِر، ولا يَتَقَمَّص أقنعةَ الأمواتِ في حياته، ولا يَلعَب دَوْرَ الضَّحِيَّة في المسرحية، ولا يَبني مَجْدَ أعدائه على حُطَامه، ولا يَترك الآخرين يَصعَدون على ظَهْرِه، لأنَّ الانحناء شديد الخُطورة، فقد لا تأتي الفُرصة للنُّهُوض مَرَّةً أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المفهوم: عصر التنوير المعروف أيضًا باسم «عصر المنطق». هو حركة فكريّة وفلسفيّة هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبيّة خلال القرن الثامن عشر. واعتقد المشاركون في الحركة أنّ من شأنها أن تنير ذكاء الإنسان وثقافته إثر عصور الظلام الوسطى. حيث سيطر على عقول الناس التفكير اللاهوتيّ المشبع بالخرافة والأسطورة، والعقل الميتافيزيقيّ، والذاتيّة. وتشمل خصائص التنوير بزوغ مفاهيم أساسيّة مثل الإيمان بالعقل والحريّة والمساواة والمنهج العلميّ في التفكير. وقد كانت فلسفة التنوير تنتقد الممارسات الدينيّة السائد في عصر الاقطاع، وخاصة ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة، وتدين الأنظمة الملكيّة والأرستقراطيّة الوراثيّة المستبدة. وبالتالي كان لفلسفة التنوير الأثر الكبير في التبشير بتشكيل الدولة المدنيّة ومضامينها كالمواطنة والمؤسسات وحرية الرأي والعقيدة وبصياغة الدساتير النابعة من مصالح الشعب بكل مكوناته وخاصة الطبقيّة منها، مثلما كان لها التأثير الكبير على قيام الثورات الشعبيّة في أوربا وعلى نخب العالم الثالث، وكان في مقدمة أسباب هذا التأثير المنطلقات النظريّة للثورة الفرنسيّة المشبعة بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والعلمانية والدولة المدنيّة. (1).

لقد ساهمت الثورة الصناعيّة على امتداد القرنين السابع عشرة والثامن عشرة، ممثلة بحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة المالكة ومساندة الطبقة العماليّة المنتجة، في  تطوير القوى المنتجة في المجتمع، وخلق حالات جديدة من التناقضات بين أسلوب الإنتاج الرأسماليّ الذي أخذ يشق طريقه داخل العلاقات الاجتماعيّة السائدة، ممثلة بأسلوب الإنتاج الإقطاعيّ وحوامله الاجتماعيّة الرئيسة وهم الملك والكنيسة والنبلاء، وبخلق علاقات وتحولات عميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ظهر للطبقة الرأسماليّة والعماليّة الدور الكبير في وجودها، وخلق بنيّة سياسيّة جديدة تقودها بشكل فعليّ الطبقة الرأسماليّة بشكل خاص. ومن أهم التجليات العمليّة لأفكار عصر التنوير كانت الثورة الفرنسية عام (1789)  التي تعمقت مفاعيلها داخل فرنسة حتى عام (1799)، من جهة، وكان لأفكارها الفلسفيّة وقيمها الثوريّة تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي عموما، والنخب المثقفة في العالم الثالث ومنها عالمنا العربي على وجه الخصوص من جهة ثانية، هذه الثورة التي  انتهت بسيطرة البورجوازية خلال التحالف مع نابليون على السلطة. وتشكيل المرحلة الاستعماريّة معلنة بداية المرحلة الامبرياليّة للطبقة الرأسماليّة ذاتها التي راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن قيم ومبادئ هذه الثورة التقدميّة بعد وصولها غلى السلطة.

لا شك أن أسلوب الإنتاج الرأسماليّ قد ساهم في تطوير العلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة والتكنولوجيّة والبيولوجيّة والرياضيات والعلوم الإنسانيّة بشكل عام وفي مقدمتها الفلسفة وعلم الاجتماع.. الخ. ومع سياق هذا التطور العلمي بدأت الأفكار الفلسفيّة الماديّة تشق طريقها في عالم الفكر بشكل أكثر وضوحاً مما كانت عليه مع بداية الثورة الصناعيّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لتلامس ليس عقول الفلاسفة والمفكرين فحسب، بل وقوى الشعب التي عانت من قهر وظلم النظام الاقطاعيّ والكنيسة. بيد أن هذا التقدم الفلسفيّ جوبه من قبل القوى الرجعيّة آنذاك، وفي مقدمتها الكنيسة وسدنتها من رجال العلم والأدب الذين عملوا مروجين لأفكار الكنيسة وحلفائها من النبلاء.

وعلى الرغم من أن الفكر التنويريّ في بريطانيا كان سباقاً على الفكر التنويريّ في فرنسا، إلا أن الفكر التنويريّ في فرنسا كان له تأثيره الكبير على الفكر التنويريّ للغرب عموما، خاصة بعد قيام الثورة الفرنسيّة وكومونة باريز، (1871). وتأثير أفكارها ومبادئها التي أسس لها مفكرو التنوير الفرنسي أمثال فولتير وروسو وريكاردو ومنتسيكيو. ومع ذلك لم يخبو الفكر التنويريّ في بريطانيا، حيث "ظهر جان لوك" كمفكر تنويريّ ساهم مساهمة فعالة بحركة التنوير الفرنسيّة، فمع فولتير ومنتسيكيو بدا المثقفون التنويريون الفرنسيون يتعرفون على إنكلترا الجديدة وثقافتها وخاصة أفكار جان لوك. (2).

جان لوك والتنوير:

لقد طورت أفكار "جان لوك" -1632 – 1704. أفكار فلسفة التنوير، حيث دعا هذا الفيلسوف أنصار تيار التنوير الواسع إلى مناهضة الأيديولوجية الاقطاعيّة السكولائيّة/ المدرسيّة. أي (الدينيّة الوثوقيّة) التي جعلت الإيمان بديلاً عن العقل، والفضيلة بديلاً عن حل التناقضات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة القائمة، وراحوا يؤكدون على العقل أولاً وتوظيفه لصالح العلم، واعتبار نور العقل وسيلة أساسيّة لإسعاد المجتمع،  كما نادوا بضرورة تحرير الأخلاق من الوصاية الدينيّة، ونشر الثقافة والعلم بين الجماهير باعتبارها القوة المحركة للتطور التاريخ، والشرط الأساس لسلطة العقل. (3).

الدور التاريخي لفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر:

1- محاربة وفضح ركائز الأيديولوجيا الاقطاعيّة والحياة الفكريّة المدرسيّة /السكولائية التي توطت في المجتمع الاقطاعيّ، وكانت عائقاً كبيراً أمام تقدم العلم والمعتقدات العلميّة. ووطدت سيطرة الكنيسة الروحيّة على المواطنين، ودعمت استمرار السلطة السياسيّة للقوى الرجعيّة السائدة، ممثلة بالملك والكنيسة والنبلاء.

2- ضرورة محاربة هذه السيطرة بشقيها الدينيّ والسياسيّ، والدعوة لتحرير عقول الناس فكريّاً وسياسيّاً.

3- النظر إلى علاقة المعرفة بالإيمان. أي توضيح الرؤية العلميّة الحديثة بأحداث الكون، أمام المواقف الفكريّة للأساطير والخرافات التي شكلت عقول الناس بسبب توجهات الكتب الدينيّة اللاعقلانيّة في النظر إلى الكون وتشكله، وخلق الإنسان وغير ذلك. فرجال الدين يعتبرون كل ما ورد في الكتب المقدسة،  حقائق جرت في التاريخ، لا تقبل النقد والتعديل ولا حتى المراجعة، وهي قوانين سنها الله وحدد مثلها القواعد الأخلاقيّة والتنظيم السياسيّ والقانونيّ للمجتمع. أو بتعبير آخر قام التنوير بالدعوة إلى إعلاء شأن العقل والعلم أمام الغيبيات والأساطير والخضوع المطلق لسلطة السلف. أي الانتصار لعقليّة كوبريك وهارفي وسبينوزا، وكل المفكرين والفلاسفة العقلانيين الذين حاربتهم الكنيسة.

4- العمل على إشاعة روح التسامح الدينيّ.

5-  الدعوة إلى حريّة البحث العلميّ والفكر والفلسفة. (4).

نقد أفكار فلاسفة التنوير:

إن مشكلة فلاسفة عصر التنوير تكمن أساساً في كونهم لم يعتبروا التناقضات الاجتماعيّة وما تولده من صراعات بين اَلْمُسْتَغِلْ واَلْمُسْتَغَلْ هي أساس الصراع مع السلطات السياسيّة والدينيّة المتحالفة مع بعضها ضد مصالح الجماهير، بقدر ما اعتبروه صراعاً مع كنائس دينيّة ورجال الكهنوت الذين وقفوا إلى جانب الملك والنبلاء، كما جرى سابقاً للإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر وزنغلي. إن نظرة التنوير للدين ظلت نظرة إيمانيّة إلى حد كبير، فهم يريدون القول بضرورة الاعتراف بالله علة أولى للعالم، وهذا ما قال به معظم فلاسفة التنوير، فهم لم ينكرون الإله والوحي والآخرة، وغيرها من المعطيات الدينيّة التي تنافي العقل أو تناقضه. ولكنهم رفضوا الاعتراف بأن كل شيء مخلوق لله، وكانوا يسخرون كثيراً من رجال الدين كما فعل فولتير في كتابه (قاموس الفلسفة)، وقدموا الكثير من رجالاتهم للمقاصل أثناء قيام الثورة الفرنسية.

لقد حمل التنوير دلالتين ثوريتين، الأولى: كينونة الإنسان العابرة للهويات الوطنيّة والقوميّة والدينيّة، أي وجوده الكونيّ. والثانية: قدرة العقل الإنسانيّ على بناء عالم مضيئ ومتنور، وبالتالي فالإنسان مشروع التنوير وهدفه، ففي الدلالة الأولى أطاح التنوير بالقوالب الدينيّة والطبقيّة والفلسفيّة السائدة في عصر الإقطاع، التي قزم فيها الإنسان، وأعلن القطيعة الجدليّة ولا أقول السكونيّة مع التراث القديم، على اعتبار أن هناك في التراث محطات ايجابيّة وجوهريّة في قيمها الإنسانيّة ولا بد من تبنيها واستلهامها وبالتالي توظيفها لخدمة الإنسان. وفي الدلالة الثانيّة أيقظ التنوير القدرة الفكريّة للفرد لمعارضة دور الدين الإرشادي لرجال الكنيسة في الفكر والعمل. وربطه بالفرد دون وساطة بين الله والناس، مثلما ركز على دور الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على تحقيق مصيره بذاته. (5).

ملاحظة:

أأكد هنا على أن فلسفة عصر التنوير وكل تجلياتها، لم تكن موجودة في الأصل على أرض الواقع لولا قيام الثورة الصناعيّة، وتشكل الطبقة البرجوازيّة والطبقة العماليّة وشريحة الفلاسفة والمفكرين المعبرين عن مصالح هاتين الطبقتين وطموحاتهما. لذلك إن كل دعوة للتنوير في أي مجتمع من المجتمعات لم تتوفر فيها التحولات الموضوعيّة ممثلة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج في الوجود الاجتماعيّ، ولم تتوفر فيها أيضاً التحولات الذاتيّة وفي مقدمتها تشكل طبقة اجتماعيّة واعية لذاتها ولمصالح شعبها، سيظل الفكر التنويري فكراً تبشيرياً رسولياً، تبشر به نخب مثقفة مرتبطة بقضايا شعبها، في الوقت الذي يلاقي فيه هذا الفكر والمبشرون به، الكثير من المعوقات من قبل القوى الحاكمة المستبدة ومشايخها من تنابل السلطان، وجهل الشعوب وتخلفها وسيطرة الفكر الجبريّ والأسطوريّ على عقولها.

***

د. عدنان عويّد

......................

المراجع:

1- موسوعة ستانفورد للفلسفة.

2- (موجز تاريخ الفلسفة، مجموعة من الباحثين السوفييت 0 دارالأهالي، دمشق، 1971). ص 266، وما بعد).

3- المرجع نفسه. 266 وما بعد.

4- للاستزادة أكثر عن أفكار عصر التنوير يراجع: كتاب (فلسفة الأنوار- تأليف ف. فولغين دار الطليعة بيروت 1981 طبعة اولى. ترجمة هنريت عبودي.).

5- موقع مجتمع الأكاديميّة بوست – فلسفة التنوير وتفكيك المقدس.

في المثقف اليوم