أقلام فكرية

أقلام فكرية

خيمينا دي لا بارا

ر.أ. ديلو بونو

ترجمة: د. هاشم نعمة

***

عندما أضطر التوسع الرأسمالي العالمي للتعامل مع فترات الركود المتكررة خلال السبعينيات، جرى نشر استراتيجية جديدة لتوسيع تغلغله في الأسواق الوطنية. وقد أدى هذا إلى مواجهة بين احتياجات رأس المال العابر للحدود واحتياجات تشكيلات أمريكا اللاتينية غير المتكافئة والمتخلفة. ومع استثناءات قليلة، أدت الأزمة التي تلت ذلك في نموذج اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لإحلال الواردات إلى فرض تعديل هيكلي على النحو الذي تمليه القوى الاقتصادية العظمى الأساسية. وتشير هذه الأزمة الناتجة داخل الدولة التنموية والكوربوراتية إلى أن موجة أخرى من الإصلاحات كانت وشيكة.

تشكلت الخلفية الجديدة للتنمية من ظهور تكتل قوي من الشركات الضخمة العابرة للوطنية التي أطلق عليها المنظر الأرجنتيني أتيليو بورون "لوياثانس الجديد" (2000). يُتوقع الآن من الدول ذات السيادة في أمريكا اللاتينية أن تتكيف مع "الحقوق الطبيعية" لرأس المال العالمي. وفي وقت لاحق، كان من الواضح أن إعادة الهيكلة العالمية للتراكم الرأسمالي في السبعينيات قد مثّل بداية لما نعرفه الآن بـ "العولمة" في حين أصبحت السياسات الاقتصادية والسياسية التي دعمتها تُعرف بالليبرالية الجديدة. في ظل الليبرالية الجديدة، اعتبر دعم الدولة بعد إصلاحها مرادفا لوعود التنمية للجميع، وظروف معيشية افضل وزيادة مستويات الاستهلاك الشخصي. وستكون الوسيلة لتحقيق ذلك هي السوق، وسيتم إقصاء الدولة التمثيلية لتأكيد سلبية المجتمع المدني وحرمة حقوق الملكية الخاصة باعتبارها أفضل طريقة لتجربة الحقوق الفردية.

مع استثناءات قليلة، مثل دولة جزيرة كوبا، أصبحت الليبرالية الجديدة بسرعة متوطنة في أمريكا اللاتينية. وفي أعقاب فترتين من حكم المحافظين الجدد في عهد رولاند ريغان، أصدر عضو في الإدارة التي خلفت جورج بوش (الأب) ما أصبح يعرف باسم "إجماع واشنطن"، أي مجموعة من المبادئ التوجيهية للشكل الجديد لحكم الدولة الذي تضمن: الانضباط المالي؛ إعادة تنظيم أولويات الانفاق العام؛ إصلاح الضريبة؛ تحرير معدلات الفائدة؛ أسعار صرف تنافسية؛ تحرير التجارة؛ تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل؛ الخصخصة؛ رفع القيود؛ وتعزيز جميع حقوق الملكية (واشنطن 2002). في الواقع، أصبح التراجع الجذري عن المبادئ اليكنزية يُمثل الشكل الوحيد الممكن للتطور الديمقراطي.

بالطبع، لم تكن عملية قبول إملاءات واشنطن سلمية ومتناسقة. كانت الليبرالية الجديدة قد فُرضت أولا عن طريق التجريب وتحت تهديد السلاح في حالة شيلي في عام 1973. وفي أوائل الثمانينيات، خضعت البلدان المثقلة بالديون للتكيف الهيكلي كشرط للحصول على قروض جديدة من أجل بقائها. وعملت المبادرات الجديدة لواشنطن على توحيد هذه السياسات الليبرالية الجديدة وترسيخها من خلال سياسات التجارة والاستثمار "التفضيلية" التي بلغت ذروتها في مجموعة كاملة من اتفاقيات التجارة الحرة شبه الإقليمية والثنائية التي كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية أولها.

سعت الليبرالية الجديدة إلى خلق الأساطير الخاصة بها بشأن توزيع الثروة، وإحياء الفكرة التي فقدت مصداقيتها فعليا القائلة بأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها وتتطور نحو المزيد من المساواة. ما تم تفسيره على أنه عدم مساواة متأصلة سيظل عند مستوى "مقبول"، كما تقول الخرافة، وسيعمل "سحر السوق" على تسخير التقنيات الجديدة والقوية التي من شأنها تحقيق أفضل عالم ممكن لعدد أكبر من المواطنين. و تحت العبارات الأيديولوجية المتناغمة، سعى إجماع واشنطن لتسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام الرخيصة في المنطقة، مع التركيز المتزايد على الطاقة. كما اقترحت سياسات تجارية مصممة للاستفادة من هيمنة الولايات المتحدة على التكنولوجيا والمعلومات لتعميق هيمنتها على اقتصادات أمريكا اللاتينية الناشئة. ويسعى الجيل الجديد من مبادرات التجارة العالمية إلى تجريد الدول الوطنية من عمليات صنع القرار الأساسية الخاصة بها، ووضعها في أيدي مؤسسات فوق وطنية وغير ديموقراطية مثل مؤسسات التمويل العالمية والشركات فوق الوطنية، وإخضاعها لآليات التحكم التي تعمل خارج نطاق المؤسسات الوطنية. في هذا السيناريو، وبما إن الكثير من الشركات فوق الوطنية لديها ميزانيات أكبر بكثير من معظم دول أمريكا اللاتينية، فستكون التباينات واضحة إلى حد كبير. باختصار، كان هذا بمثابة هجوم رأسمالي عالمي يهدف إلى تكريس "حقوق" رأس المال على حساب الحقوق البشرية والبيئية لشعوب المنطقة وخارجها.

تمثّل التناقض الواضح لهذه العملية بالفصل العالمي لصنع القرار الاقتصادي عن آليات المشاركة الديمقراطية. ويُمنع المواطنون الذين صوتوا في الانتخابات على نحو متزايد من ممارسة تأثيرهم على السوق التي على العكس من ذلك استجابت لإملاءات الشركات الأجنبية الكبيرة. لقد ركزت الليبرالية الجديدة بدقة على تفكيك جميع أنظمة وقدرات التدخل لدى الدول الوطنية، مدعية أن "السوق الحرة" لا يمكن أن تتسامح مع أي شكل من "تدخل الدولة" في الشؤون الاقتصادية. وباسم الحرية، سيحل الاقتصاد محل السياسة. في حين يجادل بورون بأنه كان هناك دائما اهتمام معين بالمساواة في المبادئ الغربية الديمقراطية منذ أفلاطون، لكن الليبرالية الجديدة كانت تطمح لتحقيق حالة من عدم الاكتراث الكامل بالتوزيع الاجتماعي للثروة، وبالتالي خلق التناقض الكامن وراء الادعاءات الديمقراطية المنسوبة للسياسات الليبرالية الجديدة. ومن خلال تجاهل القبول المتزايد للحقوق الأساسية، فقد صادرت الليبرالية الجديدة بشكل أساسي حق ممارسة المواطنة بصورة فعلية لدى قطاعات اجتماعية بأكملها.

لم تتعرض الليبرالية الجديدة الأرثوذكسية للهجوم من قبل المؤسسات العالمية إلا بعد اندلاع أزمات متعددة في عام 2008، وذلك في محاولة لإعادة الاستقرار للرأسمالية. وبدأ معظم القوى الغربية الرئيسة في سياق الأزمة المالية التحمس بشكل انتقائي لأراء الكينزية الجديدة. تكليف الدولة بدور الإنقاذ المالي لتلك الكيانات نفسها التي تسببت في الأزمة في المقام الأول من خلال تكهناتها المتهورة. ولم يكن هذا سوى نصف الصورة، لأنه بدلا من ضمان العمل والأجر المعيشي للتخفيف من الاتجاه المزمن نحو الإنتاج الزائد وتقلص الطلب الكلي، جرت المحاولة لجعل العمال يتحملون عبء خطة الإنقاذ من خلال خفض الأجور، وتراجع الإنفاق الاجتماعي، والسياسة المالية التراجعية والبطالة والقمع. وقد أبقى هذا الإحياء الجزئي للتفكير الكينزي السليم الاقتصاد العالمي في وضع صعب، في حين أظهر إلى أي مدى باتت الدولة بعيدة عن المبادئ الديمقراطية لتمثيل مصالح الأغلبية.

***

.................

الترجمة من كتاب: Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict (Leiden/ Boston: Brill, 2017).

 

صِناعةُ الثقافةِ انعكاسٌ لفلسفةِ البناءِ الاجتماعي التي تُفَسِّر مصادرَ المعرفةِ، وتُوَظِّفها في السُّلوكِ الحياتي والتاريخِ الشخصي والوَعْيِ الجَمَاعي، مِن أجل تَكوين أفكار إبداعيَّة تَمتاز بالحُرِّيةِ والحيويةِ، وتُفَكِّك الظروفَ التاريخية اعتمادًا على النقد الثقافي، ثُمَّ تُركِّبها استنادًا إلى الرمزية اللغوية المُتَحَرِّرَة مِن الأدلجةِ المُغْرِضَةِ والمِثَالِيَّةِ الوهميَّة. وهذا يَكشِف نِقَاطَ الاتِّصالِ والانفصالِ في المسار التاريخي، كما يَكشِف معالمَ القطيعةِ المعرفية بين الماضي والحاضرِ. وإذا كانت الظروفُ التاريخية لا يُمكِن تَكثيفُها ثقافيًّا ومعرفيًّا إلا بتفكيكِها وتركيبِها، فإنَّ الأحداث اليومية لا يُمكِن تَأصيلُها اجتماعيًّا ولُغويًّا إلا بتشخيصِها ونَقْدِها، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكوينِ ظواهر ثقافية جديدة في بُنية التاريخ الذي يُعَاد تَشكيلُه باستمرار، وإبرازِ إمكانيات تَوليدية في بناءِ اللغة التي يُعَاد تَأويلُها دائمًا. وإعادةُ تشكيلِ التاريخِ وتَأويلِ اللغةِ تُمثِّل خُطوةً أساسية على طريق تطويرِ الفِكْر الإنساني الحضاري، وتحريرِه مِن الضُّغُوطاتِ الماديَّة والتناقضاتِ الشُّعوريَّة التي يُمْلِيها سِيَاقُ الفِعْل الاجتماعي المُتَشَظِّي بسبب تَكَاثُر زوايا الرُّؤية المُحيطة بشخصية الفرد الإنسانية. ومِن أجْلِ حمايةِ الفردِ والمُجتمعِ مِن التَّشَظِّي والفَوْضَى وتَضَارُبِ المصالحِ،لا بُدَّ مِن إنشاء هُوِيَّة ثقافية مُتماسكة تَحتضِنُ الأحلامَ المَقموعة في الوقائع التاريخية المَسكوت عَنها، وتَستعيدُ الأفكارَ الكامنة في أعماق التاريخ السحيقة، وتُخَلِّصُ الذكرياتِ الغامضة مِن الغُربةِ في المكانِ، والاغترابِ عن الزمان. وكُلُّ هُوِيَّةٍ ثقافيةٍ هي سُلْطَةٌ معرفية تتجاوز القوالبَ الفِكريةَ الجاهزةَ، والأنماطَ الحياتيةَ السائدةَ، وتُؤَسِّس قواعدَ الخَيَالِ الاجتماعي لانتشالِ الحُلْمِ الإنساني الحضاري من قاعِ الواقع المادي الاستهلاكي. والخَيَالُ الاجتماعيُّ لا يَكُون شرعيًّا وفَعَّالًا إلا إذا سَيْطَرَ على الانفجاراتِ الفِكرية في طاقة اللغة، وَنَقَلَ فلسفةَ البناءِ الاجتماعي مِن الكِيَانِ المَحْدُودِ إلى الكَينونة العابرةِ للحُدُودِ.

2

صِناعةُ الثقافةِ لَيْسَتْ نَسَقًا اجتماعيًّا قائمًا على وَضْعِ دَلالات اللغة في أقْصَى مَدَاها المعنوي والماديِّ فَحَسْب، بَلْ هي أيضًا نَسَقٌ وُجودي قائم على الربط بين العلاقات الاجتماعية، باعتبارها مَنظومة أخلاقية حَيَّة وحيوية، ذات أبعادٍ نَفْسِيَّة، ودَلالاتٍ واعية، ومضامين إنسانية، حَيث تَتداخل فيها الأزمنةُ والأمكنةُ، بحيث يُصبح الماضي قُوَّةً دافعةً للحَاضِر، ويُصبح الحاضرُ فلسفةً للمُستقبَل، ويُصبح المُستقبَل تأويلًا مُسْتَمِرًّا للماضي، مِن أجلِ فَتْحِه على كافَّة الاحتمالات، وتَكْرِيسِه كَبُنية حضارية مُتَجَدِّدَة لا كُتلة زمنية جامدة. وهكذا يَتَحَرَّر الفردُ مِن العُقَد التاريخية التي تُشَكِّل عَقَبَةً في طَرِيقِه الوجودي وطَرِيقَتِه المعرفية. وإذا نَجَحَت العلاقاتُ الاجتماعية في صِيَاغة فلسفة جديدة للزمانِ والمكانِ، فإنَّ اللغة سَوْفَ تَتَحَرَّر مِن التَّصَوُّرِ الجَمَالي الهُلامي، لِتُصبح مَصْنَعًا لإنتاجِ الفِعْل الاجتماعي، وتوظيفِه في مَصَادِرِ المَعرفةِ لِمُوَاكَبَةِ تَطَوُّر الوَعْي الإنساني، الذي يُبْرِز دَوْرَ الثقافة التحريري لشخصيةِ الفرد وسُلطةِ المجتمع، ويَمْنَح العَقْلَ الجَمْعي القُدرةَ على الاستفادةِ مِن رُمُوز اللغة للتَّنقيب عن حُلْم الفرد في تفاصيل السُّلوك الحياتي، وَمَنْعِ استخدام الوَعْي الزائف كَبُنية اجتماعية لِقَمْعِ حُرِّية التعبير، والسَّيطرةِ على أشكال تأويل التاريخ، والاستحواذِ على أنماط التنظيم الاجتماعي.

3

صِناعةُ الثقافةِ تُقَدِّم للمُجتمعِ مَشروعًا وُجوديًّا لتحريرِ الإنسان مِن الخَوف، وَجَعْلِه قادرًا على التفاعل الإيجابي معَ الأحداث اليومية، بحيث يُصبح الشُّعورُ والوَعْيُ والإرادةُ مَنظومةً واحدةً لتأويلِ التاريخِ وتفسيرِ الواقعِ داخلَ كِيَانِ الإنسانِ، بِوَصْفِه فَاعِلًا أساسيًّا في السُّلوكِ الحياتي على الصَّعِيدَيْن المعرفي والوجودي، وصَانِعًا لِجَوْهَرِ الفِعْل الاجتماعي على المُسْتَوَيَيْن اللغوي والثقافي، مِمَّا يَحْمِي الهُوِيَّةَ الشخصية للإنسانِ مِن الوَعْيِ الزائفِ والاغترابِ عَن الذات، وَيَحْمِي السُّلطةَ الاعتبارية للمُجتمعِ مِن المُسَلَّمَاتِ الافتراضية وانكسارِ الحُلْمِ الجَمَاعي. وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي مُحَصِّلَةَ تَصَوُّرَاتِ الإنسانِ عَن كِيَانِه وبيئته، فإنَّ الهُوِيَّةَ الشخصيةَ للإنسانِ هي مَجْمُوعُ زوايا الرؤية لطبيعة الأشياءِ وَعَالَمِ الأفكارِ، وهذا الترابطُ المصيري يُحَدِّد أشكالَ الظواهرِ الثقافيةِ وإشكالاتها، ويُكَوِّن المعاييرَ الأخلاقية الحاكمة على فلسفة البناء الاجتماعي، التي تَجعل صِناعةَ الثقافةِ شَبَكَةً معرفيةً مُتَجَانِسَةً، وفلسفةً جديدةً للواقعِ والتاريخِ، ومَرجعيةً نَقْدِيَّةً تُوَازِن بين الرَّمْزِ اللغوي وَمَا يَرْمُز إلَيه، وتُسَاوِي بين الفِعْلِ الاجتماعي وحُرِّيةِ التعبير في ضَوْءِ تَعقيدات الحياة المُعَاصِرَة. وكما أنَّ تحرير الإنسانِ لا يُصبح واقعًا حيويًّا إلا عَن طريق الفِعْل الاجتماعي، كذلك تحرير الثقافة لا يُصبح تاريخًا مُتَجَدِّدًا إلا عَن طريق الرمز اللغوي. والفِعْلُ الاجتماعيُّ والرمزُ اللغويُّ يَتَجَسَّدَان في الفِكْرِ كَنِظَام إبداعي عُضْوِي يُؤَسِّس مركزيةَ الإنسانِ في الحضارة، ولا يَستعير مَسَارَاتِ الوَعْي الزائف لتحقيق مصالح شخصية، ولا يَستعيد مَصَائِرَ الآخرين في المَاضِي لأدلجة العُقَد التاريخية في الحَاضِر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

"الخوفُ من الفلسفة هو خوفٌ من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع"

مقولة الخوف (الفوبيا) phobia مقولةٌ ذات أبعادٍ نفسية وإنسانية ٍبأشكالها المختلفة، وتعبر عن مخاوف الفرد من أشياء معينةٍ: فوبيا الأماكن المرتفعة، فوبيا الموت، فوبيا المرض، فوبيا الآخر، فوبيا الحيوانات، فوبيا الغرف المغلقة. وصور الخوف لدى الأفراد مسألة معروفةٌ، لأنَّه خوف يتجلى عبر البنية النفسية لفردٍ أو آخر. ولكن أنْ يتجلى الخوف من النشاط الفكري بصورة عمومية أو أنْ يصبح ظاهرةً ثقافيةً، فذلك شأن آخر يحتاجُ تحليلاً مغايراً. وحده الخوف الجماعي بإمكانه أنْ يقول لنا بأي معنى يفكر هؤلاء الخائفون؟! ولماذا يشيرون بأصابع الاتهام نحو ما يرتعبون منه؟!

بصدد الحذر من الفلسفة، تعدُّ الفوبيا ذات صبغةٍ عامة نتيجة انتشار الثقافة الطاردة للفكر. ويمثل الأفراد أحجاراً على رقعة الشطرنج، مجرد (أوعية ثقافية) تنطق بشكل مجاني دون إرادةٍ للتفكير الحر. وتصل المطاردة إلى أغلب جوانب الحياة، من الشعبي إلى التعليمي، ومن السياسي إلى الاجتماعي، ومن الأخلاقي إلى المعرفي، ومن الديني إلى الشعري، ومن الجمعي إلى الفردي. وقد تلتف كل تلك المستويات معبرة عن عقدة الخوف من الفلسفة، حتى في غير مجالها. كحال بيت الشاعر أبي نواس المتداول (فقل لمنْ يدّعي في العلمِ فلسفةً، حَفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءٌ).

ورغم أنَّ أبا نواس يستعملُّ كلمةَ فلسفةٍ في موضع المعرفة والعلم، وهي تُطرح كمقابل للإحاطة الشاملة إزاء الأشياء والمعارف، غير أنها – فيما يقول البيت الشعري-مفردة ترتبط بالإدعاء والتظاهر الأجوف، وفي الوقت نفسه لا تتلاشي من دال الكلمة نبرة السخرية. فكأنَّ الذين يتفلسفون يدَّعون معرفة مطلقةً لا تُبقي ولا تذر، بصرف النظر عن إنكار ذلك أم لا. وحتى بمجرد علاقة الكلمة (فلسفة) بهذا المعنى، فلا يصح أن تكون هناك دلالة مقبولة لها، ناهيك عن الإعتراف بها أصلاً.

ولذلك تعدُّ مناقشة فوبيا الفلسفة ضرباً من الإستفهام حول ماهية الفكر، حول كيفية تأثيره ذاتياً وعمومياً على نطاقٍ واسعٍ، ولماذا يخاف الناس من الفلسفة تحديداً؟ وليس هذا فقط، بل هناك – أحياناً - فوبيا نتيجة الإقتراب من آثار الفلسفة تأليفاً واشتغالاً. لأن الخوف لا يكون إلاَّ بتصورات سابقة المعنى، ولا يغدو أي خوف مؤثراً دون حمولات ثقافيةٍ تستحوذ على الخائف. الـ" فوبيا سوفيا "- sophia   phobia(لو صح ذلك الاستعمال) مصطلح يعبر عن هكذا حالة، أي قلق وارتعاب إزاء الحكمة التي تكشف المواقف وتعطي الأشياء والأشخاص حقائق ما لا زيادة ولا نقصان فيها. إنَّ الرُهاب المصاحب للتفكير المُحب سيكون مُؤثراً، متى طالَ كلَّ المناطق المعتمة من مجتمعاتنا البشرية.

ورُهاب الفلسفة نمطٌ من العيش تحت سقف قهر الأشياء والعالم المحيط بالإنسان، إنه بمثابة عدم التكيف والمعقولية التي تعطينا فسحةً لكل جوانب الحياة. أنْ تخاف معناه أنْ تتوهم أشياء وتخلقها في الواقع، ثم تظل رهيناً لها طوال الوقت، وترتعب من مجرد الإقتراب منها أو النظر إليها عن كثبٍ. الرهاب إحساس شديد بالضآلة والإنزواء والحصر الذاتي أمام شيء نعتقد كونه مخيفاً. ونعجز تمام العجز عن الكلام، عُقدت ألسنتنا عن النطق ولو ببنت شفة، كأننا ننظر إلى أشياء غامضة لا تستجيب لنا أو أن هناك كلمات وإشارات تأتينا من العالم المحيط بنا ولا تجد إلاَّ كل آذان صماء. الخوف من طرف واحد، يأتي كاسحاً ولا راد له ودوماً يقع على الطرف الآخر الذي يجب أنْ يخاف.

وهذا بخلاف "محبة الحكمة" فيلو- سوفيا φιλοσοφία‏،philo-sophia التي تعطي الإنسان قدرةً العيش وفقاً للحب لا الرعب، وأن تمنحه الملجأ الروحي والخيالي، وأن يجد العزاء النفسي فيما يمارس ويفكر. الفيلوسوفيا إشباع عقلي وخيالي لحياة ملؤها التأمل والتحرر حتى لا يهاب الإنسان شيئاً. دوماً المقارنة بين النمطين موجودة طالما أن هذا حب وذاك خوفٌ، فلماذا هناك محبة الحكمة بخلاف الرعب منها؟! إنَّ ذلك الوضع الثنائي يكشف تطور المجتمعات ويظهر جانبين من الثقافات التي تتعامل مع الفلسفة والتفلسف. فالمحبة دعوةٌ لأن يعيش الإنسان وفقاً لقانون الأشياء والطبيعة وتبعاً لما يعقله من أفكار ورؤى. وتلك المحبة تشحذ عقله وتملأ نفسه تناغماً وانسجاماً. وهي لحظة التقاء إنساني بين الرغبة والحقيقة، بين العاطفة والتفكر، بين المعنى والصورة، بين المنطق والتخيل، بين العرض والجوهر، بين الحرية والتحرر. إنَّ محبة الحكمة تجيب عن مسألة: كيف يشعر الإنسان بعقله ويعقل بمشاعره دون انفصال؟!

مقولة – فوبياً الفلسفة- بهذا المعنى مبنيةٌ على جوانب ومواقف وموروثات ثقافية. وربما هذا هو السبب وراء العداء الشعبوي للتفلسف والاشتغال به. فالفلسفة لا تعطي نفسها إلاَّ لمن يعطيها كل شيء، ولا ترضى بديلاً عن الإنشغال بإمكانياتها دون محاذير. وتفقد حياتها مع سبق الإصرار والترصد، عندما تجد إهمالاً بعناوين شتى. مرة بضرورة الإهتمام بالمعطيات الملموسة مع شرح أهميتها، وكيف تظهر وتمارس أدوارها الثقافية. ومرة أخرى بتغليب منطق الواقع وممارساته على الأفكار، وهو منطق لا يرى الفكر إلاَّ قزماً بجوار المصالح والمنافع.

إذن يتجدد السؤال: لماذا الخوف من الفلسفة في بعض مجتمعاتنا العربية؟ هل الخوف من التفلسف أمر جدير بالمناقشة في هذا الإطار؟ لماذا تظل الفلسفة غريبة لدينا كأنها صناعة شيطانية، رغم أنها قديمة قدم المعرفة الإنسانية؟! وهل الخوف مبرّر أو بالأحرى أمر منطقي؟ وإذا كان الموضوعُ كذلك، ففي أي سياق وبناءً على أية فكرة؟

الخوف من الفلسفة هو خوف من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع والحياة، لقد غدا الواقع بملابساته وظروفه الثقافية ثقلاً ينوءُ به الفكر. وليس هناك ما عساه أنْ يملأ هذا الثقب الأسود، لأن الأخير يمتص كافة الجهود المبذولة لتحرير العقول. وحتى عندما تأتي الفلسفة لتوقظ فكراً كهذا، فلن تكون النتائج في صالح صورتنا المرجوّه ولا المستقرة. حيث تتطلب الفلسفة وعياً متوهجاً وتفترض وضع الأشياء في إطارٍ غير معهودٍ، والدفاع عن صحة العقل والمنطق وصيانة البحث عن الحقيقة. إن الفلسفة تحرص على الإتيان بشيء مختلف يعيد الإمتلاء بالمعاني الحُرة للوجود. الفلسفة رغبةٌ جامحةٌ لا تسهُل السيطرة عليها، وقد تعصف بما نملك من أشياء قيد اليقين.

الفلسفة تقضُّ مضجعَ التقاليد في حياتنا العامة، لأنها تحرك القاع والرواسب من تلك الحياة. الفلسفة تضع الأعماق أمام النظر والرؤية الثاقبة للعالم والحقائق، وفجأة سنجد أنفسنا في مهب الفحص والتساؤل، بينما نحن نخاف العواصف التي تعري ما هو مدفون ضمن حياتنا المشتركة. وبخاصة أن الحياة في مجتمعاتنا العربية تشكل جداراً سميكاً من العادات والتقاليد التي نلوذ بالاختباء داخلها.

الفلسفة تهدد الوعي الغفل، تقتحم سكينته الهشة، تخلخل ما هو ثابت معبرةً عن إمكانياته سلباً وإيجاباً. وليس هناك شيءٌ يمثل خطراً على الإنسان أكثر من شعوره باقتحام مساحة اليقين لديه، أي مساحة الوعي الذي اطمأن إليه، وظل تكراره ضماناً للتواصل والتفكير بينه والآخرين. والناس يطمئنون إلى ما يهدّيء حياتهم، ويميلون إلى السكينة والدعة. وإذا كانت الفلسفة لا تُحافظ على هذا الهدوء وتلك السكينة التامة، فلتذهب إلى الجحيم من فورها!!

هكذا كان لسان حال مجتمعاتنا العربية ومقالها إزاء الفلسفة. فلم تُعطَ أية مساحة للتحرك بحرية، إنما تزاحمها المعتقدات وتتحرش بها الأفكار والآراء الشائعة إلى أبعد مدى. وقد يكون وضعٌ كهذا مفهوماً، عندما ندرك المحاذير الكثيرة نتيجة أي تفكير فيما يعتقد الناس أو فيما يمارسون. وبخاصة أنَّ أنظمة السلطة تغلغلت في كلٍّ شيء فارضة نوعاً من الوصاية على العقول والأفهام. والفلسفة في المقابل تفتك بألاعيب الوصاية أيا كانت، فلا فلسفة بإمكانها أن تمارس أي دور مع وجود الوصاية. الوصاية هي العدو اللدود للتفلسف، إنها تكبل العقل فكيف يستطيع أن يبدع أو يفكر. في ثقافتنا العربية تعد الوصاية هي الشرط الأول للتفكير. فأيُّ عقل لا بد له من أنْ يلحق بركب الوصاية حتى يقول" أنا أفكر"، وقد يمارس هو ذاته لوناً من الوصاية، على الرغم من زعمه المتواصل بالبعد عنها ورفضه إياها.

***

د. سامي عبد العال

 

 

تمهيد: نبدأ من حيث انتهينا سابقا في الجزء الاول من هذه الورقة برأي الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط قوله في كتابه الشهير نقد العقل المحض الى ان الزمان والمكان ليسا موادا او كيانات بذاتها وانما هما وسيلتا ادراك. بهذا القول لكانط تصبح نظرية الزمكان على انها فراغ استيعابي مطلق لا يجانس المطلق الكوني ولا هو جزءا منه فهو ذو قدرة كبيرة على احتواء كل شيء ولا يحتويه شيء فرضية صائبة لا اقر انا بها لسبب بسيط ان علماء الفيزياء اعتبروا الزمكان مادة محددة باربعة ابعاد(الطول، العرض، الارتفاع، والزمن) لكنه ليس مادة موجودة انطولوجيا يمكن ادراكها ولا موضوعا خياليا للعقل. مفارقة ان تجد في الوجود المادي لشيء يثبته العقل ادراكا حسيّا على انه غير موجود.

صحيح ان وجود المادة موضوعا مدركا للعقل هو تجريد لغوي تعبيري عنها لكن هذا لا ينفي وجود المادة انطولوجيا موضوعا مستقلا عن العقل ماديا.. ويدركها العقل وعيا تجريديا ايضا. حسب الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة كم تعجبني هذه العبارة العبقرية التي تختصر مجلدات من نقاشات معرفية معاصرة تدور حول مركزية فلسفة اللغة.

هذا الخلط بين لامادية الزمكان كونه فراغا استيعابيا وبين كونه (مادة) بابعاد رباعية يمكننا تحديد وجوده الانطولوجي. هذا تناقض غير مسوّغ ولا مقبول وخلط بين صفات المادة وصفات الزمكان.. فايهما الاصح؟

من المرجّح ان الزمكان كما اشار له كانط وسيلة ادراك افتراضية لا يمكن البرهنة التجريبية على ماديتها هي الصحيحة وذكاء كانط يظهر بهذه الاشكالية حينما لم يتورط باضفاء ابعاد المادة الاربعة على الزمكان. لكن الخطأ الاكبر حينما اضفى بعض علماء الفيزياء ابعاد المادة على الزمكان وهو جوهر غير مدرك عقليا كما هي المادة مدركة حسيّا. المهم ان علماء الفيزياء ارادوا اثبات الزمكان فراغا استيعابيا موجودا انطولوجيا خارج العقل في حين اعتبر كانط الزمكان وسيلة الادراك العقلي للاشياء والعالم من حولنا وبغياب تفكير العقل يغيب الزمكان. والاهم من كل ذلك ان كانط كان يعالج ثنائية الزمكان الارضي وليس الكوني كما ذهب له علماء فيزياء الفلك والفضاء.

قياس الزمن

نقع بداية على عبارة اوغسطين قوله الزمن بحاجة الى كائنات يقصد الانسان ليقوم بقياسه الزمن وهذا القياس يترتب عليه ادراكنا الزمن من عدمه.. ونفهم من هذه العبارة السطحية ان الزمن لا يعود موجودا غير مدرك ولا منظور على الارض بغياب من يقيسه من البشر. فالزمن حتى الارضي كتحقيب وقتي له نفس الخصائص من حيث الصفات بالدلالة ومن حيث الجوهر او الماهية مع المطلق الزمان الازلي السرمدي.

والصحيح ان الزمن باستثناء ما توصله العلم قياس الزمن بساعات متطورة صناعية ذرية ذكية تقيس تجريد الزمن الافتراضي الملازم بحيادية للمكان. لكن في حال رغبنا قياس الزمن الذي يستغرقه قطع عداء رياضي مسافة 100 متر فان ذلك يترتب عليه بدء قياس انطلاقة العداء ووصوله خط النهاية على وفق ضبط ساعة توقيت تعمل بالثواني واجزاء من الثانية متطورة.

بمعنى يصبح قياس الزمن هو قياس مقدار حركة جسم في قطعه مسافة معينة وهو مشروط بطاقة العدّاء وسرعة ركضه. اي لا يمكن معرفة مقدار الزمن الا بدلالة حركة جسم داخله. والزمن لا يعرف عنه فيزيائيا انه يمتلك حركة ذاتية خاصة به بمعنى الزمن امتلاء ثابت في ملازمته احتواء الكون والطبيعة الارضية معا..

لكن الزمن يتأثر ويحضر في غالبية المعادلات الفيزيائية والرياضية والكيمياوية وفي ضروب بحثية علمية اخرى كدلالة علائقية ترتبط بغيرها. كما ان قوانين الطبيعة مثل الجاذبية لها تاثير على الزمن كحركة ملازمة لغيرها لا تمتلك استقلالية تلك الحركة زمنية مستقلة. حتى قوانين النسبية العامة في الفيزياء هي بدورها لها ذلك التاثير على رصدها الانثيالات الموحية للزمن بوجود المادة والطاقة لكنها تعجز تلك القوانين وضع هذا الزمن في زاوية الرصد الادراكي المباشر له الغير المستقل لا بالماهية ولا بالصفات من غير ارتباط تلك الصفات بعلاقات مع ظواهر فيزيائية اخرى.

وحين نتصور مع نظريات بعض علماء الفيزياء ان الزمكان فراغا احتوائيا يمتلك ابعاد المادة لكنه ليس بمادة يدركها العقل هنا تحضر مقولة كانط في اننا ندرك الزمكان كثنائية موحدة لا تقبل الانقسام على نفسها هو انهما الزمان والمكان قالبان فطريان مركوزان بالدماغ هما وسيلة ادراكنا الاشياء لكنهما ليسا موضوعي ادراك للعقل حسب مقولة كانط الشهيرة. وبحسب عبارة كانط هذه يتاكد بطلان الزمكان يمتلك ابعاد المادة في نفس وقت ان لا يكون موضوعا للعقل. وهنا علينا الانتباه ان كانط يتكلم فلسفيا وليس علميا تجريبيا حول علاقة العقل المحض السابق على التجربة بالزمكان. الشيء الاختلافي بين كانط وعلماء فيزياء انشتاين وستيفن هوكنج انهم منحوا الزمكان فلكيا ابعادا مادية يدركها العقل ومنعوا امكانية ان يكون الزمكان مادة مدركة خارج العقل بل هي فراغا احتوائيا لكل شيء قابل للادراك الحسي والعقلي.

كانط كما ذكرت في سطور سابقة لم يقع في مطب الزمكان يمتلك ابعاد المادة والا اصبح الزمكان موضوعا يدركه العقل. وهو ما لا يقر به علماء الفيزياء ان الزمكان مادة يدركها العقل.ولا كانط ايضا يقر ان الزمكان موضوعا لادراك عقلي بل هو وسيلة ادراكعقلي فقط.

وهم الزمن

يشهد تاريخ الفلسفة انه جرت مناقشات مستفيضة ليس على صعيد حضارة اليونان وانما يرجع الى الريادة الفلسفية القديمة الى مصر الفرعونية قبل 2500 عام قبل الميلاد وحضارة قبائل الانكا في بيرو الاقدم منها حيث كانوا يعتبرون الزمان والمكان مفهوم واحد اطلقوا عليه باشا pascha.

واعتبر ابو البركات البغدادي الزمن وهم لا وجود واقعي له. وانا كنت في مقالاتي التي يضمها كتابي ( الزمان والفلسفة) والتي نشرت مقالات الكتاب على مواقع عربية محكمة مثل الحوار المتمدن والمثقف ذهبت هذا المنحى متماهيا مع البغدادي الذي لم اكن قد اطلعت على منظوره الفلسفي حول وهم الزمن ولا زلت على هذه القناعة من زاوية نظر فلسفية وليس علمية تخصصية بمباحث الفضاء الكوني... كما ادين بالفضل لمقالة الباحث الفلسفي القديرحاتم حميد محسن نشرها على موقع المثقف استعرض فيها كتابا جديدا صدر بالولايات المتحدة الامريكية تاليف ثلاثة من علماء الفيزياء ذهبوا فيه الى ان الزمن وهم الحقيقة الفلسفية التي تفتقد اثباتها.

وهناك من الفلاسفة ممن اعتبروا الزمن (ذاتيا) كل فرد منا يدركه بقدراته الفكرية باستقلالية غير ملزمة له تجاه الاخرين وكان القديس اوغسطين من اوائل القائلين بذلك. وهناك من ربط الزمن بالنفس مثل جاستون باشلار وجاك لاكان وغيرهما ممن ربطه بالجيولوجيا والاركيولوجيا واخرين ربطه بالانثروبولوجيا وغير ذلك من ضروب بحثية فلسفية.

اما التحقيب الزماني الارضي فهو برأيي تحقيب وقائع وحوداث تاريخية بدلالة زمنية وليس زمنا بدلالة تاريخية. فعلى حد تعبير احد الفلاسفة (فالماضي لم يعد موجودا سوى بالذاكرة) من حيث الماضي كزمن هو عملية استرجاع استذكارية لوقائع الماضي التي حدثت في زمن متعارف عليه.. والزمن بالنسبة للماضي كتاريخ انما هو دلالة تعريفية مخزّنة بالذاكرة ومركزية كتاب باشلار(الزمن والمكان) يشتغل على هذه الاشكالية القائمة بين الماضي كزمن والتاريخ كوقائع ثابتة. وقد عالجها باشلار برومانسية نفسية خاصة به.(تناولت نقد هذا المنحى النفسي لدى باشلار في اكثر من مقال منشور على عدة مواقع عربية وتحتويها مؤلفاتي).

انكر يوحنا النحوي ان يكون للزمن بداية معروفة ولا نهاية متوقعة معللا قوله (لا يمكن ان توجد نهائية فعلية). وهذه المقولة الصائبة يترتب عليها ان نسبية التحقيب الارضي للزمن كماض وحاضر ومستقبل هي من التداخل الفلسفي الافتراضي بما يعطل واقعيته على حساب افتراضيته التي تمليها القوانين الكونية الفضائية التي تنحى منحى العلم التجريبي الفيزيائي في نظامنا الشمسي بضمنها قوانين المجموعة الشمسية التي تجعل من التحقيب الزمني الى ماض وحاضر ومستقبل تقويما صائبا بدايته الثانية والدقيقة والساعة فاليوم والاسبوع والشهر والسنة وهكذا امر مفروغ من صلاحيته التنظيمية للحياة بدلالة صحة تجارب قوانين الفيزياء على الارض في تعالقها مع القوانين الفيزيائية الفلكية المطلقة الفضائية التي تحكم الكون.. وتعالق تلك القوانين مع مجموعتنا الشمسية. لكن تبقى حقيقة ان الماضي ليس زمنا مستقلا بذاته بل هو لازمة دلالية لتحقيب وقائع تاريخية حدثت في زمن ماض لا يدركه العقل خارج تعالقه مع وقائع التاريخ.

وجود الزمكان

الموقف الواقعي من وجود الزمكان كحيّز وجودي مادي احتوائي مستقل عن العقل بموجوديته وليس بعلاقته الارتباطية بين الاثنين كمادة وادراك لها. اي انهم وهنا المفارقة اعتبروا الزمكان مادة لكنها لا تدرك من قبل العقل موضوعا له. رغم ان الزمكان حسب نظريتهم المستمدة من نسبية انشتاين خلعوا ابعاد المادة الطول والعرض والارتفاع والزمن على خصائص الزمكان وانكروا معاملة الزمكان كمادة لها ذات الخصائص الفيزيائية التي تجعل منها مادة يدركها العقل.

الشيء الذي لا يمكن تجاهله ان اكتساب الزمكان خصائص المادة جعل منه كيانا موجوديا خارج العقل رغم ان العقل يعجز ان يعتبره موضوعا له حسب نظرية بعض علماء الفيزياء المعاصرين. وهذا خطأ فادح كبير اذا ما قارناه معياريا فيزيائيا علميا ان الزمكان حيّزا احتوئيا لغيره من مدركات العقل للاشياء..

لقد كان ارسطو اكثر وضوحا منطقيا في رفضه ان يكون للعالم بداية اونهاية وقال الزمن قديم وليس محدثا لا بداية له ولا نهاية وهو لا متناه. وقد اخذ الرواقيين يتقدمهم لاحقا افلوطين ان ارسطو في تناوله الزمن ادخل نفسه في دوران دائري منطقي حين قال الحركة مقياس الزمان والزمان هو مقدار الحركة وليس هو بذاته حركة يمكن رصدها باستقلالية. رغم مضي عشرات القرون على افكار ارسطو حول الزمن الا انه اعطى مفاهيما ليس من المتاح تخطئتها لحد الان منها ان الزمن كجوهر غير مدرك الفات ولا الماهية لن يكون موضوعا للعقل والثانية مقولته الرائعة (الزمن لا يحدّه زمنا) مؤكدا مطلقية الزمن التي لا تنقسم لا على الارض ولا في الفضاء. .

خاتمة

عل حد تعبير دكتور جواد بشارة قوله (تصف النظرية النسبية العامة لانشتاين ان الزمكان بنية منحنية بوجود المادة والطاقة مما يؤدي الى ظهور ظواهر مثل الجاذبية)1.

هنا من المؤكد ان انشتاين يصف الزمكان في الفضاء الكوني وليس الزمكان الارضي وكلاهما محكومان غير توليديان ولا ناتجان عن قانون الجاذبية الذي يحكم كل شيء في الكون وعلى الارض. حين اجمع بعض علماء الفيزياء تماشيا مع نسبية انشتاين العامة ان الزمكان يمتلك خواص المادة المدركة ارضيا وليس فراغا احتوائيا يهضم كل شيء داخله ويمتلك جاذبية عالية جدا. اصبح مسلما ان حقيقة الزمكان ارضيا هي غيرها حقيقة الزمكان الكونية.

وهذا الفهم الجاذبي الاحتوائي لكل شيء في الزمكان يشبه الى حد كبير خصائص مليارات الثقوب السوداء الحلزونية الدودية الفضائية الابتلاعية لاموات مقبرة الفضاء الكوني التي تقوم بابتلاعها هذه الثقوب السوداء الكونية والتي تمتلك جاذبية تسحب حتى اصغر اجزاء مكونات الذرات في السديم الكوني الهائل ولا زالت لغزا محيّرا لعلماء الفيزياء. وتصل سرعة الجاذبية في احتوائها اموات مقابر الفضاء من نجوم وكواكب وكل ما يقع تحت سطوتها الى اسرع من سرعة الضوء بالثانية.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

(التكنولوجيا كظاهرة اجتماعية)

(قد كان في الإمكان أن تكون قوة التكنولوجيا، قوة محررة عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات، ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر عن طريق تحويل البشر إلى أدوات).. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد)([1])

يهدف المقال إلى توضيح ماهية فلسفة التكنولوجيا Technological philosophy باعتبارها نتاج التطور السريع الذي عرفه الإنسان منذ عصر الثورة الصناعية إلى عصر الذكاء الاصطناعي والتقنية، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك بحوث فلسفية تتعلق بالتكنولوجيا بصفة عامة. إلا أنه يمكن القول إن البحث الفلسفي التخصصي في مجال التكنولوجيا لم يظهر على الساحة الأكاديمية إلا في وقت متأخر من تاريخ الفلسفة المعاصرة، بمعنى آخر، إن آثار التكنولوجيا ومدى خطورتها على الحياة الاجتماعية المعاصرة لم تظهر إلا في وقتنا الحالي (عصر الذكاء الاصطناعي).

تكمن أهمية هذا النص في الإشارة إلى تزايد اتخاذ التكنولوجيا موضوعاً للنقد وللجدل، وبالأخص عند معرفة ما إذا كان الإنسان هو مَنْ استغل التكنولوجيا محافظاً على معاييره وقيمه الاجتماعية، أم التكنولوجيا هي التي استغلت الإنسان على حساب قميه وعاداته ومبادئه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا بناءً على ما سبق ما هي فلسفة التكنولوجيا؟

- فلسفة التكنولوجيا، أو فلسفة التقنية: هي فرع من فروع الفلسفة ظهر منذ نصف قرن تقريباً يدرس طبيعة التكنولوجيا وآثارها الاجتماعية، حيث بدأت النقاشات الفلسفية حول مسائل متعلقة بالتكنولوجيا، أو ما سماه الإغريق باليونانية بـ: " تكني "، منذ فجر الفلسفة الغربية.

يعتبر الفيلسوف الألماني وعالم الجغرافيا إرنست كاب* أول من استخدم عبارة " فلسفة التكنولوجيا "، في كتابه تحت عنوان: أسس فلسفة التقنية Foundations of technology philosophy عام 1877. وبصفة عامة يمكننا القول إن فلسفة التكنولوجيا هي محاولة لفهم طبيعة التكنولوجيا، وفهم تأثيرها في البيئة والمجتمع والوجود الإنساني.

ظهرت فلسفة التكنولوجيا كمجال مستقل للبحث الفلسفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتجسد العديد من المناهج مثل التقاليد الفلسفية. بعضها أكثر "نظرية"، والبعض الآخر أكثر " تطبيقية". يركز بعض المفكرين أكثر على تأصيل المفاهيم التي يمكننا من خلالها فهم التكنولوجيا، والبعض الآخر يركز أكثر على التنظير وتقييم الأدوار الاجتماعية والثقافية للتكنولوجيا وأثرها على العلاقات الاجتماعية.

تدرس فلسفة التكنولوجيا طبيعة التكنولوجيا وعلاقاتها بالمجتمع. لها فروع مختلفة، تركز على سبيل المثال على أخلاقيات التكنولوجيا، وعلى العلاقات بين العلم والتكنولوجيا، وعلى العلاقات بين الإنسان والتكنولوجيا، أو الأبعاد السياسية للتكنولوجيا. من أهم الفلاسفة البارزين الذين تطرقوا لفلسفة التقنية في وقت مبكر من القرن العشرين هم: جون ديوي، مارتن هايدغر، هربرت ماركيوز، غونتر أندرس، حنة أرندت. حيث رأوا جميعهم أن للتكنولوجيا دور محوري في الحياة الحديثة. إلا أن كل من هايدغر، أندرس، أرندت وماركيوز كانوا أكثر تردداً وشكاً من ديوي حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، فالمشكلة الأساسية عند هايدغر*، في كتابه " حول المسألة التقنية "، كانت عدم وضوح طبيعة التكنولوجيا في جوهرها مما وصفها بأنها الخطر العظيم، بنفس الوقت ذو إمكانيات ضخمة.

كما أنتج الفكر المعاصر العديد من الأنساق المعرفية على مدى العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث حققت مجالات البحث " منعطفاً تجريبيا ً"، فحوّلت تركيزها من دراسة التكنولوجيا كظاهرة واسعة إلى دراسة التقنيات الفعلية في علاقاتها التفصيلية مع العلوم، ومع البشر، ومع المجتمع. وبدلاً من تطوير النظريات حول التكنولوجيا بشكل عام، بدأت تأخذ التقنيات الفعلية كنقطة انطلاق للتفكير الفلسفي، ومن أهم الفلاسفة المعاصرين المهتمين بفلسفة التكنولوجيا جان بودريار، ألبرت بورجمان، جورج غران، يورغن هابرماس. وعلى مدى العقود الماضي، نشرت مجموعة من الكتب والدوريات حول مواضيع الفلسفة التكنولوجية منها: بحوث في الفلسفة والتكنولوجيا (مجلة جمعية الفلسفة والتكنولوجيا، نشر فلسفة مركز التوثيق) والفلسفة والتكنولوجيا (سبرنجر). من الجدير بالذكر لم تكن فلسفة التكنولوجيا أبداً مجالاً موحداً للبحث، حيث تتضمن تفاعل مجالات المعرفة المتنوعة كالفلسفة البراغماتية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.

إلا أن فلسفة التكنولوجيا لا تزال مجالاً في طور التكوين، وعلى هذا النحو تتميز بالتعايش بين عدد من الأساليب المختلفة لممارسة فعل التفلسف. حيث يسعى علماء هذا الحقل المعرفي إلى تسليط الضوء على منهجية وموضوع ووظيفة " فلسفة التكنولوجيا " كتخصص أكاديمي لأنها غير واضحة ومحددة باتفاق جميع العلماء. والدليل على ذلك، أن "فلسفة التكنولوجيا" تشير إلى مجموعة المساعي الفلسفية التي تنعكس جميعها بطريقة ما على مفهوم التكنولوجيا، أي أن الفلاسفة والمفكرين لم يفعلوا ذلك بهدف فهم التكنولوجيا وعلاقتها بالإنسان والأخلاقيات والآثار المترتبة عليها، بل قاموا بفحص التكنولوجيا في سياق مشاريع فلسفية أكثر عمومية تهدف إلى توضيح القضايا الفلسفية التقليدية لمفهوم التكنولوجيا.

بناءً على ما سبق، تسعى فلسفة البحث العامة لهذا التخصص إلى فهم وتحليل طبيعة العلاقة الارتباطية القائمة بين الإنسان والتكنولوجيا عبر تتبع تأثير التكنولوجيا على كل مفاصل حياة الإنسان والمجتمع. أي أنها تحاول بشكل أساسي معرفة طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والتكنولوجيا وكيفية التأثير عليه ككائن أخلاقي، من خلال طرح ثلاثة تساؤلات أساسية، وهي كالآتي:

- الوسائط التكنولوجية: كيف تلعب التقنيات التكنولوجية دوراً محورياً كوسيط للعلاقات بين الإنسان والعالم، مع التركيز على الوسائط التكنولوجية للممارسة العلمية والأخلاق والدين؟

- التكنولوجيا والهوية: كيف (تعيد) التقنيات التكنولوجية صياغة جوانب مهمة من هويتنا الثقافية والاجتماعية، مثل الاستقلالية والحرية والأصالة والفردية والعادات والتقاليد؟

- التكنولوجيا والمدينة: كيف يمكننا فهم وتقييم الدور الاجتماعي والسياسي للتقنيات التكنولوجية في البيئات الحضرية؟ إلا أننا بدورنا نطرح التساؤلات المحورية التالية: هل القيم التكنولوجية التي نتجت عن تطور التقنية، لها دور في تغير القيم الاجتماعية لدى الإنسان البشري في المجتمع؟ ما الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في التجربة البشرية اليومية؟ كيف تؤثر مفرزات الأدوات التكنولوجية على وجود الناس وعلاقتهم بالعالم؟

إن القيم التي أفرزتها التكنولوجيا في الواقع الاجتماعي أصبحت تنافس دور الإنسان في مجتمعه، بل هناك من يتنبأ بسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشري. ولم تعد المنتجات الإلكترونية الحديثة مجرد أدوات أو ملحقات ثانوية في حياتنا، بل أصبحت الأساس المعتمد عليه في تحديد خطتنا اليومية، بدءاً من ضبط ساعة المنبه وحتى إتمام الأعمال وصياغة الأخبار العالمية بأقل وقت وجهد ممكن، ولا شك أن التقدم الملحوظ في المزايا التقنية للأجهزة الإلكترونية ساعد على منح العالم أفضل مستوى من الخدمات الإلكترونية التي لا غنى عنها في أي مجال، والسبب يعود لارتباط هذه التكنولوجيا الحديثة بأصغر الإنجازات اليومية في الحياة الاجتماعية للفرد.

ويرى ماركيوز أن القدرة التكنولوجية الهائلة التي توصل إليها المجتمع الصناعي المتقدم حققت هيمنة كبرى على الفرد، ذات صورة عقلانية على خلاف اللا عقلانية التي تستخدم في المجتمعات المتأخرة للحفاظ على سيطرة الطبقة الحاكمة، حيث تكمن عقلانية هذا المجتمع في القدرة التي يمتلكها بفضل التطور التقني على استباق كل مطالبه بالتغيير الاجتماعي وعلى تحقيقه تلقائياً. بذلك يصبح التطور التكنولوجي الراهن حسب ماركيوز هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحوله إلى أداة لا واقع تحرره، فالتكنولوجيا سياسة قبل أن تكون أي شيء آخر، لأن منطقها هو منطق السيطرة والهيمنة، ولأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن، فإن فلسفة التكنولوجيا هي استعلاء القيم التكنولوجية على حساب القيم الاجتماعية لدى الإنسان البشري.

ويذهب مارشال ماكلوهان إلى أن التقدم التكنولوجي أوجد معطيات جديدة دفعت بكل قوة إلى نشأة فلسفة التكنولوجيا والقيم التكنولوجية، حيث ساهمت تكنولوجيا المعلومات بدورها في بلورة مفهوم العولمة، أي أن العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة تجاوزت الحدود الزمانية والمكانية. كما ساهمت في بناء قيم اجتماعية وإطلاق العنان لخيال الإنسان وجعله فرداً اجتماعياً داخل الدوائر الإلكترونية، وذلك لأنها (التكنولوجيا) تعمل على توسيع وتقليد عمل العقل البشري وإدماجه في النظم الاجتماعية حتى لو كانت الإلكترونية فقط (مواقع التواصل الاجتماعي بكل أنماطها وأشكالها)، بذلك يمكننا القول إن للاختراعات التكنولوجية تأثير واضح على حياتنا، والوسائل التي يستخدمها المجتمع أو يضطر لاستخدامها تحدد طبيعته وكيفية معالجته لمشاكله وخلق الظروف التي تؤثر على تكوين قناعاته ونظرته للأمور كذلك الأسلوب الذي يفكر به أفراد المجتمع تجاه علاقاتهم وسيطرتهم على البيئة المحيطة، فطبيعة الوسائل المستخدمة في كل مرحلة من المراحل تساعد على تشكيل المجتمع أكثر مما يساعد مضمون تلك الرسائل على تشكيله.

والدليل على ذلك، أنه عندما يُطرح اختراع تكنولوجي جديد، يستقبل المجتمع هذا التطور بنوع من الغرابة والدهشة، حتى يبدأ الأفراد بتعلم والتمرن على هذه الوسيلة، حتى تصبح ظاهرة اعتيادية منخرطة ضمن عادات المجتمع وجزءاً من تركيبته وتنميته لها قيمها الخاصة بها عند استخدامها من قِبل أفراد المجتمع (الواتس آب نموذجاً)، بل تمتد إلى صياغة أشكال وأنماط العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، أي صياغة وعي جمعي حول استخدامها. وهكذا تصبح الاكتشافات التكنولوجية لها علاقة وثيقة بالتغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع ليس على الصعيد المادي فقط بل على صعيد الأحاسيس والقيم الاجتماعية والثقافية أيضاً.

خلاصة القول، إن التكنولوجيا نفسها لم يتضح تأثيرها ومدى خطورتها على الحياة المعاصرة، إلا في الآونة الأخيرة مع الاعتماد المتزايد عليها في كل مفاصل ومناحي الحياة، كما أنها فرضت تحديات على الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس وجب عليهم التصدي لها للحد من آثارها السلبية على الحياة الاجتماعية والثقافية للإنسان المعاصر بعد أن أضحت القيم الإنسانية في المجتمع الحالي ترتسم خطوطها العريضة من خلال فلسفة التكنولوجيا وقيمها، بسبب منافسة هذه التقنيات في فاعليها مردودية الإنسان بل إنها أصبح لديها القدرة على تتجاوزه في بعض الأحيان، فهناك من يتخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، حيث بات الإنسان فريسة مشروعة له وبإرادته، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل نحن بصدد انبثاق أخلاق تكنولوجية تحاول فرض نفسها على المجتمع البشري بعيداً عن الأخلاق الإنسانية وتوجهاتها؟

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

...................

- المراجع المعتمدة:

1. دون إد: المدخل إلى فلسفة التكنولوجيا، ترجمة: فريال حسن خليفة، مراجعة: محمد مصطفى الشعبيني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2، 2006.

2. بن راشد رشيد وبلحاج حسنية: تاريخ فلسفة التكنولوجيا: القيم الاجتماعية والقيم التكنولوجيا، مجلة الحكمة للدراسات التاريخية، المجلد: 9، العدد: 2، الجزائر، 2021.

3. يورغن هابرماس: العلم والتقنية (كإيديولوجيا)، ترجمة: حسن صقر، منشورات الجمل، ألمانيا، كولونيا، ط1، 2003.

4. مارتن هيدجر: التقنية – الحقيقة – الوجود، ترجمة: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1995.

5. جان كير برج أولسن، إيفان سلنجر، سورين ريس: موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا، ترجمة: شوقي جلال، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2018.

6. إبراهيم بعزيز: تكنولوجيا الاتصال الحديثة وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، دار الكتاب الحديث، القاهرة، ط2، 2012.

7. علي رحومة: علم الاجتماع الآلي (مقاربة في علم الاجتماع العربي والاتصال والحاسوب)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 347، يناير- كانون الثاني 2008.

8. هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988.

9. أحمد حسن البرعي: الثورة الصناعية - وآثارها الاجتماعية والقانونية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1982.

10. جمال عبد ربه الزعانين: التغيرات العلمية والتكنولوجية المتوقعة في مطلع القرن الواحد والعشرين في المجتمع الفلسطيني ودور التربية العلمية في مواجهتها، مجلة الجامعة الإسلامية، غزة، المجلد: 10، العدد:2، 2002.

11. أماني أحمد مشهور هندي وبسمة صالح الدين الرفاعي: تأثير استخدام التكنولوجيا الحديثة على سلوك الإنسان في الفراغات الداخلية، مؤتمر الفنون التطبيقية الدولي الخامس – دمياط – رأس البر " الفنون التطبيقية والتوقعات المستقبلية " (5) 21 - 23 مارس 2017.

د. حسام الدين فياض

([1]) هربرت ماركيوز: برز هربرت ماركيوز كفيلسوف ومُنظّر سوسيولوجي وعالم اجتماع نقدي، انتشرت أفكاره في الكثير من الدوائر الفكرية والسياسية في العالم الغربي، من أهم مؤلفاته "العقل والثورة"1941، "الحب والحضارة" 1951، " الإنسان ذو البعد الواحد " 1960، " فلسفة النفي" 1968، " الثورة والثورة المـضادة " 1972 "الماركسية السوفيتية" 1958. ينتمي ماركيوز إلى الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية، حيث أنتج أفكار نقدية بالغة الأهمية سعى من خلالها إلى كشف ممارسات ومفرزات العقل الأداتي (العقلانية التقنية) في المجتمع الصناعي المتقدم وانعكاساتها السلبية على الإنسان داخل ذلك المجتمع من خلال كتابه الشهير " الإنسان ذو البعد الواحد- دراسة عن إيديولوجية المجتمع المتقدم " الذي نقد فيه العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل شيء حتى الإنسان.

اعتمد ماركيوز على المنهج النقدي في نقده للمجتمع الصناعي المتقدم، الذي أسسه في كتابه " العقل والثورة "، حيث أعاد فيه تفسير آراء وأفكار هيجل الفلسفية، خاصةً فيما يتعلق بمفهوم " السلب " الذي اتخذ منه منهجاً أساسياً بكل دراساته التي بحثها فيما بعد. أما في كـتابه " إيروس الحضارة " فقد قام ماركيوز من خلال هذا النتاج الفكري الهام بإعادة قراءة النصوص الفرويدية على ضوء تحولات المجتمع الصناعي، متسائلاً عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري، وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب ضمن العلاقات الاجتماعية بالمجتمع الصناعي المتقدم. تمثل الاتجاه النظري والمنهجي عند ماركيوز في رفضه السلبي للمجتمع القمعي القائم، من خلال الثورة عليه للتأكيد على الدور الثوري والحاسم للعقل في حياة الإنسان الاجتماعية، ولتجنب النظر إلى المجتمع الإنساني نظرة ذات بعد واحد. لمزيد من القراءة والاطلاع حول ذات الموضوع انظر: حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر( دراسة في النظرية السوسيولوجية المعاصر)، مرجع سبق ذكره، ص(122 وما بعدها).

* إرنست كاب (بالألمانية: Ernst Kapp)‏ هو جغرافي وفيلسوف وتربوي ألماني، ولد في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1808 في لودفيغسشتادت في ألمانيا، وتوفي في 30 يناير/ كانون الثاني 1896 في دوسلدورف في ألمانيا.

* مارتن هايدغر (بالألمانية: Martin Heidegger)‏ (26 سبتمبر/ أيلول 1889 - 26 مايو/ أيار 1976) فيلسوف ألماني. ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات (الفينومينولوجيا)، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928. وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927)، دروب مُوصَدة (1950) ؛ ما الذي يسمى فكراً (1954)، المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961) نداء الحقيقة، في ماهية الحرية الإنسانية (1982)، نيتشه (1983).

تميز هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الابستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

يحدد آلان باديو Alain Badiou (1) خيارا بديلا مستلهما من تاريخ الفلسفة. في هذا الخيار هاجم المفكرون نشاط الفلسفة واقترحوا شيئا آخرا بدلا عنها. مناهضة الفلسفة Antiphilosophy مصطلح استعارهُ آلن باديو من لاكان، يصف فيه أفكار عدد مبعثر (وموحّد) من الكتّاب في تاريخ الفلسفة . المصطلح يشير لكراهية هؤلاء الكتاب لفعالية الفلسفة، بالقدر الذي عُرّفت فيه الفلسفة كـ "بحث ميتافيزيقي عن الحقيقة" (بوستيل، مدخل لمناهضة فيتجنشتاين للفلسفة، 2019).

بالإضافة لهذه الكراهية، يقترح باديو ان مناهضة الفلسفة عُرّفت بافتراضها بديلا ونشاطا أسمى من الفلسفة، شيء يمكن ان ننفق به وقتنا بشكل أفضل من مطاردة تلك الأنواع من الحقائق التي انشغلت بها الفلسفة تقليديا، حقائق متعلقة بالوجود، الهوية، التجربة وغيرها. هذا المزيج من النقد وإعادة التوجيه يختار سلسلة من المفكرين كل واحد منهم تولّى منفردا مهاجمة اسس التفكير الفلسفي مستنتجا - بنقد لاذع وغير منافق – ان الفلاسفة على اختلاف انواعهم مقموعين، سخفاء، حمقى، وأشرار.

آلان باديو حول مناهضة الفلسفة والواجب الجديد للفلسفة

في تقييم باديو لهذه الظاهرة، يجب ملاحظة، انه يأتي من فيلسوف صريح – شخص مهتم بالنشاط الذي كان محل سخرية من قبل مناهضي الفلسفة. هذا لا يعني ان موقفه يعكس السخرية والرفض. بدلا من ذلك، يجد باديو في الخط المضاد للفلسفة سلسلة من الاختبارات الهامة والصعبة للفلاسفة يجب اجتيازها. العلاقة توصف كديالكتيك سقراطي مقصود. مناهضة الفلسفة تثير الإهانات وأسئلة تتطلب من الفيلسوف ليس فقط الدفاع عن موقفه وانما تمديده ليأخذ بالاعتبار المعارضات والمقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة.

المقترحات المضادة هي ضرورية لمناهضة الفلسفة كما يصفها باديو. وبينما يخلق باديو تشبيها واضحا بين معارضة افلاطون والسوفسطائئن، ومجموعة فلاسفة ومعاصرين لهم من المضادين للفلسفة، هو صريح حول الفرق بين السفسطة والمضاد للفلسفة. الفرق يكمن في سخرية الاولى والكراهية العلنية للاخيرة، ولكن الاكثر أهمية هو مقترح المضاد للفلسفة بنشاط بديل: شيء اكثر قيمة من الفلسفة. هذا النشاط البديل والذي يدّعي انه مفيد وجميل وقوي وصادق بينما الفلسفة عاجزة وقبيحة ومعبّرة عن خداع ذاتي هو السبب المحفز لكتابة المضاد للفلسفة، الاقتراح الذي يستدعي هجوما واسع النطاق يجده باديو في كلمات نيتشة ولاكان وفيتجنشتاين.

بالنسبة لباديو، النشاط البديل المقترح من جانب مناهضي الفلسفة هو عادة خلاق وتقدمي جدا. المضاد للفيلسوف يقدم خياره ليس فقط كشيء يمكّننا من استخدام وقتنا بشكل أفضل، وانما ايضا كنقد للفلسفة: وسيلة لتسليط الضوء على ما لا تستطيع الفلسفة تفسيره او تتعامل معه. وسواء كانت في مجال الفن، العلوم السياسية، او العلوم، يقترح باديو، ان الخيار المقترح للمضاد للفيلسوف هو دائما معاصر – بديل جديد يتّهم الفلسفة بالفشل في معالجة العالم من حولنا. لذلك يرحّب باديو بالمضاد للفلسفة لتحدّيها الفلسفة في تبرير ذاتها ولإجبار الفلسفة على مواكبة عالمها، ولتجعل ذاتها منسجمة بالضبط مع تلك الفعاليات المُبجّلة من قبل الفلسفة، دون التخلّي عن كفاحها نحو الحقيقة. بهذا المعنى، يكتب باديو، ان المضاد للفلسفة "يحدد الواجب الجديد للفلسفة" – الأشياء التي يجب ان تجعل نفسها على وعي بها وتفكر بها والاّ فانها ستسقط في اللاّصلة والعجز التي هي موضع اتّهامات المضادون للفلسفة. من هذا التحدّي والرد الذي يتطلبه من الفلسفة، يراقب باديو بدقة ظهور فلسفة جديدة أكثر كفاءة، تأخذ على محمل الجد اتّهامات المضاد للفلسفة مهما كانت لاذعة. "الفلسفة" حسب قوله، "هي دائما الوريث للمضاد للفلسفة". (مناهضة فتجنشتاين للفلسفة، 2008).

منْ هم المضادون للفلسفة؟

فيتجنشتاين ليس وحده في قائمة باديو للمضادين للفلسفة. في الحقيقة، التفاعل بين المضاد للفيلسوف والفيلسوف هو – حسب تقييم باديو – ربما قديم قدم الفلسفة ذاتها، يعود الى بروتوغوراس وجورجياس، في موقفهما السوفسطائي المعارض لسقراط.

القديس بول Saint paul، شخصية دائمة الإعجاب لباديو، يظهر في سلسلة من الندوات يديرها باديو في باريس، كل واحدة تعالج احد مناهضي الفلسفة البارزين. وكما يفصل باديو في كتابه حول موضوع (القديس بول: اسس العالمية، 1997)، يرفض بول كل من النبوءة اليهودية "خطاب الاشارة"، والخطاب اليوناني في الفلسفة والحكمة، مفضلا الايمان الخالص. اشارة بول المضادة للفلسفة تتجسد في تأسيس مسافة مطلقة لا يمكن اختزالها بين حكمة الانسان والله، رافضا ادّعاءات الاولى في التحقق من الحقائق المطلقة. يصرح بول:

"ألم يجعل الله الحكمة في العالم شيء من الغباء؟ لأن غباء الله اكثر حكمة من الناس، وضعف الله اكثر قوة من الناس"

(1 cor.1:20-25) (2).

فلسفة فتجنشتاين المضادة للفلسفة، تهتم بشكل رئيسي بالخط الحديث المضاد للفلسفة، الذي جسّده مفكرون رئيسيون مثل نيتشة وفتجنشتاين ولاكان. ومع ان هذه القائمة تشير للمضادين للفلسفة الذين جرى التعامل معهم مطولا في ندوات باديو، لكن هناك ايضا يوجد في كتابات باديو ما يتضمن آخرين (بمن فيهم السوفسطائيين بالاضافة للمضادين الملائمين للفلسفة) مثل دريدا ويوتارد ورورتي وأي عدد من فلاسفة اللغة الذين يتخذون من التحقيقات الفلسفية لفتجنشتاين نقطة انطلاق لهم.

وبينما يصر باديو على ان المضادين للفلسفة يشتركون بهيكل هام، فان الاختلافات والارتباطات الداخلية بينهم احيانا تجعل ادّعاء باديو يبدو أكثر غموضا.

في الكتابة ضد "الانعطاف اللغوي" في الفلسفة، وايضا حتى بالنقد اللاذع حول "فلسفة اللغة العادية"، باديو ينزلق احيانا الى استياء غير واضح حول النسبية وحول فكرة ايلاء اهتمام للّغة بما يحقق تقدما (او اختفاء) للفلسفة، كأنه منزعج من الحاجة للتعامل مع اللغة تحت أي ظرف كان .

مع ذلك، في نيتشة، فيتجنشتاين، لاكان، يحدد باديوهيكلا اكثر شيوعا يربط كل واحد منهم بنوع رئيسي من المقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة. باديو يلاحظ ان الفعالية المقترحة من جانب المضادين للفلسفة كاستبدال للفلسفة هي دائما تُطرح كشيء اما يعطي الكثير من الفائدة (نيتشة)، او الكثير من الروحانية divinty (القديس بول وربما فيتجنشتاين) او الكثير من الحقيقة (لاكان) قياسا بما أنجزته الفلسفة في أي وقت مضى. مع ذلك، الفعالية، لا تحتاج امتلاك أي علاقة صريحة مع مجال الفلسفة العرضة للنقد.

وهكذا، يقول باديو، ان بديل نيتشة المقترح هو سياسي، وبالنسبة لفيتجنشتاين هو جمالي، وبالنسبة للاكان هو علمي. كذلك، يدّعي باديو ان الفيلسوف المناهض يتقدم دائما بصيغة من الفعالية مفرطة في التشبّع، فيها تجريد يتجاوز أي ممارسة قائمة. وهكذا، هو يقول، فيتجنشتاين يقترح اننا ننخرط في فعالية جمالية أكثر جمالا وأدبية من أي فن حقيقي: فعل يسميه باديو الأعلى جمالا archiaesthetic، ولدى نيتشة الأعلى سياسيا archipolitical ولدى لاكان الأعلى علميا archiscientific.

فيتجنشتاين ومناهضة الفلسفة

يركز باديو أغلب نقاشه عن فيتجنشتاين فقط حول الرسالة المنطقية Tractatus ليجد فيها (بدلا من التحقيقات الفلسفية، او الكتابات اللاحقة الاخرى) التعبير الأكثر قوة عن تحدّي فيتجنشتاين للفلسفة. هنا نحن مرة اخرى نرى باديو يتعامل مع المضاد للفلسفة بقدر ما هي اداة او اختبار للفلسفة الصحيحة: الرسالة المنطقية تعرض اتهام فيتجنشتاين القوي للفلسفة التقليدية التي تتاجر دائما في الهراء – وهي لذلك تُعتبر الاهتمام الأكثر إلحاحا للفيلسوف.

لكن باديو هو ايضا مفتون بالحافز الفلسفي المستمر في الرسالة المنطقية، وفي مراوغة النصوص حول امكانية بيان الحقائق. من بين ما نبذه فيتجنشتاين من اسئلة فلسفية وأجوبة ( لميلها لحشر حقائق مزعومة في افتراضات ليس لها معنى)، هناك بديل صوفي يتهرب من اللغة لكنه يبدو يستمد الجاذبية والخلود الذي تبحث عنه الفلسفة بشأن الحقيقة.

هذا "العنصر الصوفي"، اذا اريد كشفه او التقرب منه، لايتم ذلك بواسطة الفلسفة حسب قول فيتجنشتاين. . باديو وضع موقف فيتجنشتاين المضاد للفلسفة كاستبدال لمفهوم الحقيقة بذلك الخاص بالمعنى. ما ينتج هو مجموعة كاملة من الفلسفة تتعامل بافتراضات لا معنى لها، اشكال من فكر مزعوم ثبت انه مستحيل حتى في الميدان الواسع للواقعي (جميع تلك الحالات الراهنة التي يمكن ان تكون صحيحة)، وبعض الحشو الفارغ:

" 6.1: افتراضات المنطق هي حشو.

6.11: لذلك فان افتراضات المنطق لا تقول شيئا".

(الرسالة المنطقية، 1921)

عندما يحاول باديو تلخيص موقف فيتجنشتاينش المضاد للفلسفة في الصفحات الاخيرة من كتابه، هو يتعقبه رجوعا للعنصر الصوفي، والى أفكار فيتجنشتاين حول الطريقة الصحيحة لمحاولة بيان ذلك. الطريقة الخاطئة بالطبع، هي الفلسفة.

مقتبسا من رسالة من فيتشجنتاين الى فون فليكر Von flicker، يسلط باديو الضوء على وجود نوعين من المعنى في الرسالة المنطقية. فمن جهة هناك معنى ضمن العالم: معنى الافتراضات. هذا المعنى بُني من الذرات والقواعد المنطقية والصارمة المقيّدة بالإمكانية. ومن جهة اخرى، هناك معنى العالم، معناه، الذي يكمن خارج اللغة. عندما تنتهك الافتراضات في اللغة قواعد الاول في محاولة تمديد نفسها باتجاه الأخير، نحن امام ثرثرة او هذيان: "الهذيان هو فلسفة بمعناه الميتافيزيقي".

مشروع آلن باديو

فعالية الفلسفة بالنسبة لباديو هي شيء ضيق جدا. في الحقيقة، جزء من قيمة قراءة المضاد للفلسفة والاشتباك معه، حسب قوله، هو انه يذكّر الفيلسوف بالضبط بمدى خصوصية نشاطه . المضاد للفلسفة، يذكّر الفيلسوف عبر التجسيد اللغوي للسياسة، الفن، العلوم، انها بالضبط ليست هذه الاشياء، وانه لا يجب ان يسعى لإنتاج "الحقائق" بالطريقة التي يقوم بها. على طول عمل فتجنشتاين المضاد للفلسفة، يضع باديو المتشابهات بين المضادين للفلاسفة مع السوفسطائيين القدماء في جانب، ويضع نفسه مع افلاطون وسقراط في الجانب الآخر. بمقدار ما يضع نفسه في مصاف الفلسفة الافلاطونية، يصف باديو مشروعه كـ "شيء صعب":"ان اللاوجود يشكل القاعدة للوجود هو شيء يتباهى به السوفسطائيون. لكن الشيء الذي يصعب عمله هو ليس قول هذا والاستنتاج منه بمرح الشرعية "الديمقراطية" البليغة، انه ان تدير وجود بعض الحقائق". (مراجعة باديو لكتاب بربرا كاسين "الثيولوجي ضد الانطولوجي"، 2012).

الشيء الصعب هو ان الفلسفة والعمل الذي تقوم به، يُقارن مع الشيء السهل والذي هو السفسطة – والى مدى أقل – مع المضاد للفلسفة.

الاستنتاج السوفسطائي هو سهل لأنه لا يتطلب منا ان نؤدي العمل الرياضي والمنطقي للفلسفة لأنه يختزل عمق الفعالية الفلسفية الى تمرين لغوي خالص، متحرر من أي علاقة خاصة مع العالم او ما يكمن خلفه. غير ان هذا لا يمتد الى المضاد للفلسفة، حين يتم رفضها بسهولة باعتبارها متناقضة، لا أخلاقية، او خاطئة. اذاً مرتكزات الفلسفة هي غريبة: هل نحن نتفلسف فقط لأنها صعبة؟

Thecollector.com, March 5, 2023

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) آلان باديو فيلسوف فرنسي، وسابقا كان رئيسا لقسم الفلسفة في المدرسة العليا للاساتذة ومؤسسا لكلية الفلسفة في جامعة باريس الثامنة مع جيل دولوز، وميشال فوكو وجان فرانسوا ليوتار. كتب باديو حول مفاهيم الكينونة والحقيقة والحدث والموضوع بطريقة كما يدّعي ليست ما بعد حداثوية ولا مجرد تكرار للحداثة. ولد باديو في المغرب عام 1937، اشترك في عدد من التنظيمات السياسية وجادل بعودة الشيوعية كقوة سياسية.

(2) عندما يتحدث القديس بول عن "حماقة الله" فهو لا يعني ان الله أحمق. بل، هو يقول انه طالما طريقة الله في التفكير هي في توافق مع أشياء الروح، هذا يربك التفكير بالعالم. انه اكثر حكمة من تفكير الانسان لأن الاشياء الروحية هي اكثر حكمة من الأشياء الغير روحية.

(إننا لسنا مجرد ما نراه في المرآة، بل نحن ما يراه الآخرون فينا)... إريك أرين

1- مقدمة:

الإنسان كائن رمزي يتفاعل مع الكون ويتشكل في الوقت نفسه على نحو رمزي، وإذا كانت الهوية تتشكل فعليا على نحو رمزي فإن تدمير الهويات يمكن أن يتم بفعاليات رمزية. وهذا يعني أيضا أن الهوية تبنى رمزيا وتهزم رمزيا أيضا، أي: أنها تتصدع ثم تنكسر على وقع الصدمات الرمزية، بالدرجة نفسها التي تتشكل فيها على ترجيعات العنف الرمزي بتنويعاته وتجلياته المختلفة. فالرموز في حقيقة الأمر تعمل على تشكيل الهوية بطريقة تؤكدها كذات مفترضة أو كهوية ثابتة من جهة ومن ثم يمكنها أن تعمل على تفكيكها وتدميرها عبر إخراجها من الشعور بالقيمة الذاتية والوجودية من جهة أخرى.

فالعلاقة التي تربط بين العنف الرمزي والهوية علاقات تتجاوز حدود المألوف في طبيعة العلاقة بين الأشياء، إذ يتغلغل العنف الرمزي بأدواته السحرية إلى العمق الوجودي للهوية فيعمل على تشكيلها أو تدميرها وفقا لنسق من الآليات والديناميات التي تحكم العلاقة بين الهوية في الصميم وبين الرموز في القاع والأعماق. فالهوية لا تعدو أن تكون في نهاية الأمر أكثر من تشبعات رمزية أسقطتها الفعاليات الثقافية في بوتقة العلاقة بين الأنا والآخر بين الذات والوجود المتكاثف في تشكيلات رمزية.

فالرمز ينطوي في ذاته على قوة ويحمل في ثناياه عنفا، إذ يمتلك القدرة على التغلغل في أعماق النفس الإنسانية فيعمل على هندستها وتشكيلها. ولا يمكن الرمز أن ينفصل عن جوهر القوة بوصفه طاقة تمتلك القدرة على التأثير والفعل والتشكيل. ويكاد السلوك الإنساني يكون تجسيدا لصيرورات رمزية تشبعت بها الهوية والأنا والذوات الاجتماعية بكيفيات تأخذ طابعا الحتميات السلوكية الراسخة في الطباع البشرية.

فسلوك الأفراد لا يعدو حدود الأنساق الرمزية التي تشبعت بها عقولهم وهذه الأنساق تأخذ صورة حتميات وجدانية تفرض على الناس ما هم عليه من استجابات تتعلق بالكون والعالم والوجود. لقد أضفى الإنسان الكون طابعا رمزيا ثم ارتسم على صورة الطاقة الرمزية لهذه الأنساق الرمزية التي تشكله وتهبه صورته الذاتية وتمنحه قدرته على استكناه العالم رمزيا وفقا للصورة الرمزية التي تشكل بها وتعيّن في حدودها.

2- الهيمنة الرمزية وانكسار الهوية:

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن العنف ضد الآخر يتحدد بالاعتداء الفيزيائي على الأشخاص والأشياء مثل الضرب والتدمير والقصف الجوي والتمرد والمذابح وعنف الجماهير فحسب، فهذه الأنماط من العنف لا تقف نتائجها عند حدود الموت والآلام الجسدية أو عند حدود التدمير وإحداث الفوضى المادية، بل تؤدي أيضا إلى توليد آلام وخسائر وأحزان نفسية، وهذه الآثار النفسية تتكشف على صورة نتائج شديدة الوقع والتأثير: الاضطهاد، فقدان الإحساس بالأمن، الحقد والكراهية، ومن ثم تدمير المرجعيات الأخلاقية. هذه الظواهر تبدو من حيث المظهر متباعدة ولكنها في جوهرها تشير إلى عنف من نوع آخر وثيق الصلة بالعنف الفيزيائي وهو ما يسمى بالعنف الرمزي وهي تسمية تطرح بذاتها إشكالية معرفية لأنها غالبا ما توظف في أدبيات علم الاجتماع بمعاني ودلالات مختلفة.

دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي في أغلب كتاباته الأدبية والتربوية كما في أعماله التي تحمل طابعا اجتماعيا وذلك لتفسير ما يطلق عليه الهيمنة الذكورية. ويلاحظ في هذا السياق أن بورديو قد استخدم هذا المفهوم كنقيض للعنف الاقتصادي ولاسيما في دراسته لأوضاع طبقة الفلاحين في منطقة القبائل الجزائرية كما أنه قد وظفه نقيضا للعنف المادي.

يعرف بورديو العنف الرمزي (الهيمنة الرمزية) بأنه: "عنف ناعم خفي غير مرئي وأنه فوق ذلك كله مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية حيث يتجسد في قيم الثقة والواجب والإخلاص الشخصي والكرم والعطاء والدين والعرفان والشفقة والرحمة وهذا التجلي يشمل جميع الفضائل التي يعبر عنها بالشرف والأخلاق والسعادة". فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على دونية الهوية وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية وازدراء الأنا عبر عملية تمويه تعتمد الفعاليات الرمزية في تحقيق أهدافها وغاياتها.

فالعنف الفيزيائي يؤدي إلى توليد آثار نفسيه عند ضحاياه: الشعور بالضعف، الشعور بالحيرة والضياع، ومن ثم الشعور بالدونية. إن إحراق سيارة أو تفجير منزل عمل عدائي ضد الممتلكات، وهو في الوقت نفسه اعتداء ضد مشاعر المالكين أي ضحايا هذا العنف. وكذلك فإن تعرض الفرد إلى الضرب في مظاهرة من قبل مجهولين أمر سيشعره بأنه غير قادر على حماية نفسه. وهذا يعني بالضرورة أن أي اعتداء فيزيائي جسدي سيولد مشاعر المهانة والدونية لدى هؤلاء الذين يتعرضون له. فالآلام الناجمة عن الإحساس بالضعف والدونية والهامشية تشكل عوامل أساسية في عملية تشويه الهوية وتدمير مكوناتها.

ولكن العنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أو لم يكن، يولد جروحا نرجسية كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية والكينونة. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من التصورات والإيماءات والإشارات والتنبيهات والذكريات والفعاليات اللاشعورية التي يستبطنها الفرد ويعتمدها في عملية فهم العالم وإدراك دوره وتحديد وضعياته، وهي نفسها التي تسمح لأفراد جماعة ما أن تأخذ مكانها بالمقارنة مع الجماعات الأخرى التي تجاورها في الوسط الجغرافي والاجتماعي. ومثل هذه التصورات والمحددات الرمزية التي يستبطنها الفرد رمزيا تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وغالبا ما تكون هذه الأنساق والتصورات نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية لاشعورية يستبطنها الفرد خلال عملية التنشئة أو التفاعل الاجتماعي وتمارس هذه الفعاليات الرمزية دورا حيويا وحاسما في بناء نواة الهوية.

3- العنف الرمزي وجروح الهوية:

تستمد الفعالية الرمزية المُشَكِّلة للهوية وجودها من الحاجة إلى تأكيد وحدة الشخصية واستمراريتها وصيرورتها الإنسانية. وهذه الحاجة ضرورية وذلك لأن وحدة الهوية معرضة للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement). فالفرد رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده ليس واحدا على مرّ الزمن، فقد لا تكون أفعاله في لحظة ما من لحظات حياته تعبيرا خالصا للشعور بالأنا ووحدة الهوية وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار.

فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في دائرة هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية: من أكون أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي وولاءاتي الأساسية؟ حيث يرتسم في هذا النسق من الأسئلة الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا.

فاسم الفرد يشكل فعالية رمزية مؤثرة لأن الاسم غالبا يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعوريا في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي، وهذا ما يعبر عنه القول الدارج في الثقافة الشعبية: (لكل من اسمه نصيب). وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزيا في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه ويحددها عبر تجاربه الحية في الحياة كعلامات راسخة ونقاط علاّم أساسية توجه مسار حياته نفسيا ورمزيا، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محورا أساسيا للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم.

فالفرد عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية تشكل مصدرا للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهريا بالعقائد الدينية والفلسفية كأن يكون المرء مسلما أو مسيحيا أو عقلانيا أو ملحدا.

4- التبخيس عنفاً رمزياً:

فالعنف الرمزي القائم لا يأخذ صورة سلوك متعمد مقصود، وإذا كانت هناك أفعال ومقولات تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته فهذه الأفعال والأعمال هي من نمط آخر مختلف تماما أي ليست رمزية أو لا تحمل طابعا رمزيا. ويمكن للعنف الرمزي هذا أن يؤدي إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وتنميها وترسم أبعادها. ويمكن لنا في هذا السياق الاستفادة من النماذج الشعرية التي أوضحت عفويا هذا النوع من العنف الرمزي أو الهيمنة الرمزية إذ يقول الشاعر أحمد شوقي:

قد تعيش النفوس على الضيم حتى

لترى في الضيم أنها لا تضام

وفي هذا البيت من الشعر مثال واضح وصريح عن تأثير الهيمنة الرمزية في تشكيل الهوية واستلابها أيضا، فالتبخيس المستمر المذل قد يؤدي إلى تدمير المكون الأخلاقي للهوية وتحويل الذات إلى صورة مبتذلة تغتذي بنسغ المذلة والمهانة والقبول بالضيم على أنه هوية ووجود.

وجاء في بيت شعري آخر نموذج آخر للتأثير الرمزي في تشكيل الهوية حيث يقول عنترة في وصف حي لقوة الرمز والتصورات التي تحيط بالفرد في تدمير الهوية بيتا خالدا من الشعر فحواه:

وَمَنْ يَكنْ عَبْدَ قوْمٍ لا يُخَالِفُهُمْ

إذا جَفَوْهُ وَيَسْتَرْضي إذا عَتِبُوا

وفي هذا تكمن عبقرية عنترة الشعرية في إدراك أهمية التصورات الرمزية في تشكيل هوية الفرد حيث عانى بنفسه من جروح ساحقة للهوية في القبيلة (قبيلة عبس) التي رسمت حوله تصورات تبخيسية دونية بوصفه عبدا لا فارسا يحمي حماها وشاعرا يذود عن حياضها.

وفي هذا المقام يرى جورج ميد George Mead كل تأكيد للذات في الحياة يتضمن أحكاما قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر فإن عملية بناء الهوية تتم عبر العلاقة بالآخر. فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم، وهو يمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية في عملية توازن المجتمعات الإنسانية ولاسيما في المجتمعات الديمقراطية. فالتبخيس والتهميش يأخذ صورة إهانات وتحقير وتصغير وتشهير وتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية. وهذا الأمر يشمل السلوك العدواني ضد الآخرين تحت ذريعة أصولهم الدنيا وانحدارهم في مستوى التطور.

لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات النمو وبلدان العالم الثالث والبلدان النامية تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها التي أطلقت على الشعوب المغلوبة تمثل أحكاما قيمية غامضة بذاتها ترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها قياسا إلى تخلف الآخر. حتى أن الحملة الكريمة التي أعلنت من أجل المثل الديمقراطية وحقوق الإنسان التي وظفت في عملية التدخل الإنساني كانت تنطوي على أحكام قيمية تبخيسية ضد الأنظمة الاجتماعية والثقافات الإنسانية لهذه البلدان.

فالسياسات الاجتماعية التي رسمت لتقديم العون والمساعدة إلى الفئات المهمشة والضعيفة مثل العاطلين عن العمل والمعوقين والمهجرين والفقراء كانت وما زالت متشبعة بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة حيث تغيب الخدمات الاجتماعية تشكل شاهدا على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية وفقدان القيمة الإنسانية وعدم الأهلية.

فالنزعة القومية الأصولية، وهذه المضادة للفكر الديني، والاشتراكية الثورية، تيارات وقوى سياسية وجدت نفسها في زحمة التنافس الانتخابي وعملت على نشر أيديولوجيات عمياء ترتكز إلى ثقافة تعصبية مهينة ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية. وفي هذا الثقافة السياسية الجديد يجد الخطاب التبخيسي مصادره ويأخذ مداه ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم.

لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا في القرن العشرين إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات والجماعات والأقليات في هذه البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة بناء نمط من التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعا لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقا لهذا المقياس كان يتم الحكم على فئات المهاجرين الذي تدفقوا في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبحكم الظروف السائدة آنذاك وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء وشكلوا موضوعا للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين.

5- العنف الرمزي وتدمير المرجعيات الثقافية:

نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن يتشكل وأن يشعر بتماسك هويته وأن يتخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية التي تمكن الفرد من أن يرسم نسقا من المسارات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه ذاتا وهوية مع مختلف مثيرات وفعاليات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا حيوية ترتبط به في علاقاته بالوسط والآخر حيث يفرض المرء بالاستناد إلى شروط وجوده مخططا واضح المعالم للحياة والوجود يرسم من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه حيث تكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود من مثل: ما الأشياء التي تخصني وما التي تخصك أنت؟ من خصومي ومن أعدائي؟ كيف أفرض نوعا من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة والمرفوضة التي يمكن أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة؟ ما الأمور التي يمكن أن ثمن عاليا وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز والتكوين.

وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل أو ضرر أو تدمير يصيب هذه المرجعيات سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها. وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة التي تشكل نوعا من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية وأية أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية يمكنها أن تشكل خطرا على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية.

ويمكن القول أيضا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا يمكن ملاحظته في هذا الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي أدت إلى تناول المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية بصورة عفوية مستقلة عن أية دعاية "بروباغاندا" مضادة للدين، ويشكل هذا الانقلاب الرمزي مرتعا لعملية تدمير الهوية الدينية التقليدية مرجعياتها القائمة على أنساق من التصورات الدينية المثقلة بالرموز.

إن قوة الرفض التي تبديها هذه الجماعات المهمشة من أجل الحفاظ على هويتها تعمل على معاقبة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها ووصمهم بالخيانة والعار، ومع ذلك فإن هذه الجماعات والأقليات تبدي قلقها وخوفها بصورة واضحة. فالعقائد المنغلقة تعزز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظا على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفا لهذا النمط من العنف الرمزي عملية تدمير الرموز والأيقونات الدينية أو عملية تدمير ورفض لكل المعاني والرموز التي تتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية.

ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعا من التبشير الكلاسيكي الذي يتصف بالعدوانية ويفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية.

وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تتميز بالأهمية والحضور والتواتر. ومن المناسب هنا التركيز على مختلف وجهات النظر فيما يتعلق بطريقة معالجة هذه الوضعيات الرمزية ومنها: التراجع إلى ثقافة المتاريس التي تؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي وفقا لمفهوم "الأنومية" (Anomie= الفوضى الأخلاقية والقيمية لدى دوركهايم)، أي استبطان مشاعر الدونية واستصغار الذات والهوية وأحيانا توليد مشاعر النقمة والتعويض للضحية عبر العنف من خلال التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد، ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمنة.

6- خلاصة: انشطارات الهوية:

يتكاثف الاستلاب الرمزي للهوية في المجتمعات التقليدية المعاصرة ولاسيما في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ويأخذ هذا الانكسار صيغا متعددة في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع. وما نراه اليوم يكشف عن انفجارات متواترة في الهويات الوطنية في عدد كبير من الدول العربية. فالهويات الوطنية تتشظى إلى هويات طائفية وإثنية وعرقية مغلقة ومتصادمة أيضا في سوريا والعراق ومصر والسودان وغيرها من البلدان العربية. وفي دائرة هذا الانشطار نجد هوسا تدميريا للرمز في معارك التصادم بين الهويات المنشطرة. فكل هوية طائفية أو عرقية وليدة أو مستقرة تنطلق من أنساق رمزية في تثبيت هويتها وفي كسر الهويات المجاورة: التصورات السلبية التي ترسخها كل هوية طائفية أو عرقية ضد الأخرى والتصورات الإيجابية التي ترسمها كل طائفة عن ذاتها في تداعيات إثبات الهوية وترسيم حدودها. وغالبا ما نواجه هويات منكسرة جزئيا أو كليا مستلبة بهذا القدر أو ذاك وهذا الاستلاب يشمل الأبعاد العالمية والإقليمية والمحلية.

ومن الضرورة بمكان أيضا الإشارة في هذا السياق إلى الاستلاب الفردي للهوية فالتربية السائدة تشكل بوتقة من التصورات السلبية التي يتنمذج عليها افراد المجتمع ولاسيما من الطبقات الفقيرة والمهمشة في مختلف جوانب الحياة التربوية والسياسية والاجتماعية. ويمكن القول في النهاية إن هذه المقالة يمكنها أن تشكل منطلقا لدراسات أمبيرقية حول فاعلية الطاقة الرمزية في انتهاك الهويات الفردية والجمعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة واستلابها.

***

علي أسعد وطفة - جامعة الكويت

تمهيد: حسب التعريف الفيزيائي العلمي بضوء نسبية انشتاين لفظة زمكان بالانجليزية (spacetime) او الزمان المكاني هو مصطلح دمج لمفهومي الزمان والمكان، وينتج عن ذلك فضاء استيعابي بابعاده المادية الاربعة التي تشمل الطول، العرض، الارتفاع، واضاف انشتاين البعد الرابع الزمن. هذا الفضاء او النسيج الاحتوائي يحمل كل شيء بهذا الكون. وكل جسم مهما كان حجمه وكل حدث يخضع لها فلا وجود للاشياء ولا للاحداث خارج نطاقي الزمان والمكان.. (ويكيبيديا الموسوعة).

طبعا بضوء هذا التعريف العلمي فيزيائيا الذي ساتناوله تفصيلا لاحقا بمفهوم فلسفي نقول الزمكان مفهوم افتراضي لامادي رغم تحديده بابعاد المادة الاربعة المدركة عقليا التي مررنا عليها. هذا التحديد المادي رباعي الابعاد يصبح باطلا حينما جرى اعتبار الزمكان فضاءا او حيّزا فارغا من مطلق مكاني- زماني اذا صح مثل هذا التعبير يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيئا يدركه العقل. اما اذا اخذنا المصطلح ضمن محدداته المادية الاربع كما هي محددات المادة فانه بذلك التعيّن يصبح مادة خارج العقل انطولوجيا يدركها العقل موضوعا له..

يوجد ارباك واضح بين اعتبار الزمكان مطلق لانهائي بابعاد مادية ارضية يحتوي كل شيء قابل للادراك العقلي. اذن ما موقعه من الفضاء الكوني المطلق اللانهائي الذي لا يمكن تحديده بابعاد مادية او غير مادية يمكن ان يدركها العقل؟ لا اعتقد يوجد فضاء مطلق رباعي الابعاد يحتوي كل شيء ولا يدركه العقل موضوعا له هو وجود خارج مطلق الفضاء كأن يكون في عالم الطبيعة والانسان. السؤال الاشكالي طالما جعل علماء الفيزياء الزمكان تحده حدود المادة التي يدركها العقل فلماذا لا يدرك العقل الزمكان كما يدرك المادة؟.

للخروج من هذا التقاطع المزدوج علينا الذهاب الى ان الزمكان بالمعنى خارج تعينّه بالابعاد المادية الاربعة هو مفهوم افتراضي ارضي لا يدركه العقل. الى جانبه بل يحتويه مطلق فضائي كوني لانهائي اشمل منه ولا ابعاد رباعية تحده هو ما يطلق عليه الفضاء السرمدي الازلي اللانهائي.

ولفظة الزمكان تعني بداهة ما يتعالق مع الارض والطبيعة من مكان.أما أن فيزياء الفضاء إعتبرته حيّزا إحتوائيا هو الاخر منفتحا على استيعاب كل شيء فهي عبارة تحتاج الكثير من التوضيح المقارن مع خاصية الاحتواء اللامحدود للفضاء الكوني. من المفروغ منه بغياب ادراك العقل للاشياء لا يبقى هناك مايسمى زمكانا استيعابيا مستقلا ككيان انطولوجي ندركه ارضيا. ليس كافيا القول الزمكان مفهوم مطلقه نسبي في تعالقه مع ادراك العقل للاشياء. ومطلقا في اعتبار علماء الفيزياء له فضاء منفتحا استيعابيا لكل شيء ندركه خارج العقل وهو غير متعيّن وجودا.

ما هو الزمكان فلسفيا؟

الزمكان وحدة ثنائية افتراضية مستحدثة علميا مستقلة ندركها وعيا وجوديا افتراضيا وليس ادراكا وجودا ماديا انطولوجيا. وعي الزمكان وليس ادراكه العقلي كحيّز احتوائي هو تجريد صوري لغوي. الزمكان حسب علماء الفيزياء وجود انطولوجي، بينما الصحيح هو ما اشار له كانط الزمكان قالبي ادراك فطريان هما وسيلة ادراك الاشياء وليسا موضوعين مستقلين للعقل.

الحقيقة التي يجري الخلط بها اننا بامكاننا ادراك المكان بدلالة زمنية ولا يمكننا ادراك الزمان مستقلا بدلالة مكانية. بمعنى ان وعينا الزمن يقوم على دلالة مكانية معرفية تفترض عدم امكانية ادراك مكان من دون ملازمة زمنية. وهو شرط غير مستوف صحة اثباته. الزمن مطلق يحتوي المكان ولا يحتويه الادراك كموضوع مستقل.

اذا حاولنا تناول ثنائية الزمكان كوحدة مستقلة تم اعتبارها علميا حيّزا احتوائيا مطلقا لكل شيء يدركه العقل رغم اننا نفتقد اثبات ملازمة الزمن لكل مدرك مكاني باستثناء اذا ما نحن اردنا توثيق ادراكنا لشيء زمانيا. بالتوقيت العادي بدءا من الساعة وانتهاءا بالفصول الاربعة.

من هنا يبدو التساؤل منطقيا مطلوبا، هل ملازمة الزمن للمكان هي فقط في حال ادراكنا وحدة الدمج الثنائي بين المكان والزمن؟ ومع هذا الدمج الافتراضي لا يتوفر الزمكان على محدودية تجعل منه موضوعا للعقل الا فقط على مستوى الخيال الادراكي.

ام ان الزمكان هو المكان في وجوده المادي المستقل كما ذهبنا له سابقا؟ لا نتوفر على اثبات علمي فيزيائي ولا على اثبات فلسفي تجريدي يقول ادراكنا المكان هو ادراك زمني له ايضا. الا اذا كنا نرغب توثيق وقت قيامنا بفعالية ادراكية لمكان. كل هذا وربما غيره اكثر واقعية تجعلنا التمسك بحقيقة الزمان مفهوم مطلق او حتى دلالة ادراكية فهو – اي الزمان - لا يكون موضوعا مستقلا لادراك عقلي.

اشارة اجدها مهمة هي ان المكان يغادر خاصيته الوجودية انه موضوعا ماديا يدركه العقل ويصبح حيّزا استيعابيا لكل شيء في حال اقترانه بالزمن لتشكيل الزمكان الحيّز الاحتوائي كما يذهب له علماء فيزياء معاصرين.

اعتقد امام هذا التداخل كان لبرجسون اشارة عرضية تهكمية قوله اننا ندعي ادراكنا الزمن بدلالة ادراكنا المكان. والجواب الجاهز بالرد عليه يكون اننا ندرك الزمكان كثنائية غير قابلة للتجزئة والانقسام. وان حقيقة ما ندركه هو المكان مجردا عن زمانيته الافتراضية. ونظرية اننا لا ندرك مكانا من غير ملازمة زمنية له ليست واقعية ولا حقيقية ولا جرى اثباتها علميا.

الافتراض الاقبح مما مررنا عليه هو ما ينسب حديثا لعلماء الفيزياء الكونية ان الزمن يمكنه الانفصال عن المكان ليصبح مدركا مستقلا بذاته . ادراك الزمن نسبيا بدلالة المكان على الارض لا يجعل من مطلق الزمان امكانية يدركها العقل. نسبية الزمان الارضي لا تلغي انه جزء من مطلق زماني فضائي كوني لا يمكن تجزءته.

ما ينسب لعلماء الفيزياء الكوني ان انفصال ثنائية الزمكان الى زمن ومكان يحتفظ كل منهما باستقلالية يتيح ان يصبح الزمن مكانا كما يبيح ان يصبح المكان زمانا اجدها لعبة فيزيائية تحتاج اثباتا تجريبيا. في نفس الوقت الذي نادوا به ان ثنائية الزمكان لا انفصال يطالها والسبب انهم اعتبروا الزمكان فراغا احتوائيا لكل شيء ممكن يدركه العقل. بينما الزمكان ليس موضوعا مستقلا لادراك عقلي بل هو وعي تجريدي خاضع للعقل. هو حسب تعبير كانط وسيلة ادراك وليس موضوعا لادراك.

ربما نجد تخريجا تلفيقيا في تمرير الزمكان ثنائية يمكن ان يتبادل الادوار في تجزئتها الى مكان كي يصبح زمنا او الى زمن يصبح مكانا. هذه الفرضية في محاولة تفكيكنا لها نصطدم بحقيقة لا يمكن التلاعب فيها هي ان الزمن جوهر حيادي في ملازمته ادراكات العقل للمكان. والزمن جوهر مطلق الصفات ومطلق الماهية لا يتقبل التجزئة لا على نفسه ولا على غيره لذا يتعذر علينا ان يصبح الزمن موضوعا بلا دلالة علائقية تربطه بغيره.

من المحال ان يكون للزمن ابعادا مادية مثل المكان. السائد معرفيا فلسفيا اننا بدلالة حركة المكان ندرك محدودية الزمن النسبية على الارض على انها تحقيب تاريخي وتوقيت زمني ضمن علاقته بالاشياء.

واختلاف المكان الارضي عن زمانيته الملازمة له هو الابعاد المادية التي يمكن التحقق منها التي تجعل من مكان ما متعيّنا موجوديا. اما الزمان فهو مطلق نسبي على الارض كدلالة مصاحبة لادراكاتنا الاشياء والعالم من حولنا. لكنه في حقيقته مطلقا فضائيا بلا ماهية ولا صفات قابلة لادراكنا العقلي المحدود ان يجعل من هذا المطلق الزماني موضوعا مستقلا بذاته للعقل. كما هناك اشارة لارسطو حول مطلقية الزمن انه ليس حركة فالحركة خاصية الاجسام المتحركة وليس خاصية زمانية.

إذن امام هذا التعقيد الفلسفي المتداخل مع العلم ما علينا سوى الذهاب الى نوع من التلفيق التخريجي قولنا ادراك الزمكان هو كما ادراكنا المكان انهما تجريد لوعي العقل ولا يلزمنا هذا البرهنة المستحيلة على ان من الممكن ان يكون المكان زمنا مستقلا وفي هذه الحالة ايضا من المحال ان يكون الزمن موضوعا للعقل.

متاهة الزمن فلسفيا

ورد في الكتاب الحادي عشر (مدينة الله) من اعترافات القديس اوغسطين تأملا في طبيعة الزمن تساؤلا على لسانه قوله: ما هو الزمن؟ اذا لم يسالني احد فانا اعلم واذا رغبت شرح ما اعلم فانا لا اعلم. وقدم اوغسطين الحجة الفلسفية الاولى ضد ارسطو – هنا نشير ان كتابات ارسطو عن الزمن من اروع الكتابات الفلسفية التي لم يجر دحض بعضها لحد الان واحيل القاريء الى كتابنا الصادر حديثا عن دار غيداء بالاردن 2022 بعنوان (الزمان والفلسفة) – قائلا اقصد اوغسطين تكراره لما سبق لارسطو ان قال به باستثناء نهاية العبارة (معرفة الوقت – شيء جدير بالتقدير انه لم يقل الزمن- تعتمد على معرفة حركة الاشياء، وبالتالي لا يمكن ان يكون الوقت حيث لا توجد مخلوقات لقياس مروره). هذا التفريق بين الزمن الارضي (الوقت) والزمن الفضائي المطلق الكوني يحسب لاغسطين كحقيقة فلسفية.

اولا بالرد على العبارة الاخيرة لاغسطين فالزمن موجود سواء ادركته مخلوقات ام لا تدركه فهو جوهر وجودي. ومن ناحية منطقية فلسفية وعلمية في تفريق اوغسطين بين الوقت الذي هو الزمن الارضي وبين مطلق الزمان الكوني فهذه تحسب له ولم ينتبه لها ارسطو بكتاباته السابقة على عصر اوغسطين بقرون. من المرجح ان نيوتن في اكتشافه قانون الجاذبية وضع هذا التفريق الاختلافي موضع التنفيذ الواقعي.

الشيء الاكثر اهمية برايي هو طالما حقيقة الزمان الجوهرية هو بلا ماهية ولا صفات خارجية تجعل منه موضوعا للعقل لذا تكون نسبية الزمان ليست قطوعة مدركة منفصلة عن مطلقية الزمان الكونية. فالزمن ليس قطوعات متتالية من حزم يكمل بعضها البعض الاخر. الجاذبية لها تاثير على الزمن ضمن شروط فيزيائية خاصة.

خاتمة

الموقف الذي يتبناه الفلاسفة وعلماء الفيزياء المثاليين انهم ينكرون منذ القرن الثامن عشر كما فعل ديفيد هيوم، جون لوك، بيركلي وغيرهم، ويشكون في وجود اشياء لها صفات مادية لا يطالها العقل. كما (ان بعض مناهضي الواقعية موقفهم من علم الوجود هو ان "بعض" الاشياء توجد خارج العقل ومع ذلك يشّكون في استقلالية الزمن والمكان) عن ويكيبيديا الموسوعة.

كما سبق لي ذكره في بداية ومتن المقال رغم التزامي التام بالمنهج المادي الماركسي فانا مع هؤلاء المثاليين الذين يرون عدم وجود (زمكان) مستقلا عن العقل. بخلاف وجود اشياء مستقلة في وجودها الانطولوجي الواقعي عن ادراك العقل. والسبب المباشر ان الزمكان ليس مادة بل هو مفهوم تجريدي لا يخضع لمنطق العقل المادي الذي يدرك كل شيء كمتعيّن بابعاد رباعية او في بعدين على الاقل الظواهر او الصفات والبعد الثاني الماهية او الجوهر.

تفكير العقل بالزمكان على انه ليس مادة بل حيّزا فراغيا يستوعب كل اشكال وانواع المادة هو يشبه الى حد بعيد تفكير العقل بمواضيع الخيال التي يتارجح ادراك الوعي العقلي لها بين التصديق بواقعيتها الوجودية وبين عدم امكانية اثبات وجودها خارج محدودية الادراك العقلي احتواءها.

اختم براي الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط قوله في كتابه الشهير نقد العقل المحض الى ان الزمان والمكان ليسا موادا او كيانات بذاتها. بهذا القول لكانط تصبح نظرية الزمكان على انها فراغ استيعابي مطلق لا يجانس المطلق الكوني فهو ذو قدرة كبيرة على احتواء كل شيء ولا يحتويه شيء فرضية صائبة لا اقر انا بها لسبب بسيط ان علماء الفيزياء اعتبروا الزمكان مادة محددة باربعة ابعاد لكنه ليس مادة موجودة انطولوجيا. هذا الخلط بين لامادية الزمكان كونه فراغا استيعابيا وبين كونه يمكن تحديد وجوده الانطولوجي بابعاد المادة الثلاث الطول والعرض والارتفاع مضافا لها الزمن. هذا تناقض غير مسوّغ ولا مقبول وخلط بين صفات المادة وصفات الزمكان.. فايهما الصح؟

يتبع لاحقا

***

علي محمد اليوسف /الموصل

مدخل: يعد حقل فلسفة العلم ضمن مجال الفلسفة في الأبستمولوجيا، والذي يهتم بطبيعة العلوم وخصائصها النظرية عبر رؤية مكثفة من خارج العلم تتناول تاريخ العلم ومصادر معرفته وطبيعة نظرياته وخصائص اصطلاحاته وطبيعة البناءات المنهجية التي تحكمه..

والعلوم الانسانية لم تحظَ منذ البدء بفلسفة تبحث في بنيتها، بل تأثرت بفلسفة العلم في العلوم الطبيعية، اذ كانت فلسفة العلم تعنى بالعلوم الطبيعية، ومن ثم وبعد ظهور العلوم الانسانية، تأثرت الأخيرة بفلسفة العلم، وقد واجهت فلسفة العلوم الانسانية بعض الصعوبات، بسبب كونها تدرس ظواهر متفردة وخفية، بمعنى ان موضوعات العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا من الموضوعات غير المشاهدة بالحس، ولا تخضع إلى الإحاطة المختبرية، وانما موصوفة من خلال الملاحظة المجملة لسلوك الفرد والجماعة، مما يتعسر الوقوف على الظاهرة كما يقف العلم التجريبي على الظاهرة في المختبر، ومن ناحية أخرى تمتاز موضوعات العلوم الانسانية بالتعقيد، لكونها متداخلة، ومتغيرة، وفق الاطار الزمكاني، حتى علوم اللغة منها، عصية على مناهج العلم التجريبي، اذن ثمة تأثر وتفاعل بين العلوم الانسانية وفلسفة العلم من جهة، وثمة تعقيد وابهام في اصل تكون فلسفة العلوم الانسانية، لأننا تارة ندرس علم الطبيعة أو علم الانسان، او علم الفيزياء، او علم الاجتماع..، وتارة أخرى ندرس علم العلم، وهو مساحة للتفكير من خارج العلم، وفي مناهج العلم وظواهره ومشكلاته العامة، والأهم من ذلك التفكير في قيمته..

وقد تطورت فلسفة العلم من الوصف الى النقد من خلال تحول تعريفات فلسفة العلم وتطور مفهومها، فبعد أن كانت فلسفة العلم تنحو منحى وصفيا، فقد أصبحت تمارس النقد والتحليل، وهو ما يفضي إلى أن تكون مؤثرة في تطور العلوم وتصحيح بعض مساراتها.

وفي معرض تناول فلسفة العلوم الدينية، ينبغي ملاحظة المحاولات التي ركزت على بعض من تلك العلوم، كما في (فلسفة الفقه) و(فلسفة أصول الفقه)، وفلسفة الدين كمجال أوسع قد يتداخل بنسبة عالية مع ما تتم المحاولة اليه من اكتشاف ملامح لفلسفة العلوم الدينية، اذ تعد فلسفة الدين مجالا واسعا ومفتوحا على فروع الفلسفة (اللاهوت، الابستمولوجيا، الوجود، القيم والجمال)، في حين تكاد تقتصر فلسفة العلوم الدينية على (المجال المعرفي الابستيمي)، من دون التركيز على تناول المجال الوجودي الانطولوجي او القيمي الاكسيولوجي، ومن هنا تبرز الجدة في تناول فلسفة العلوم الدينية بنحو من الاستقلال عن الفروع الاخرى للفلسفة من جهة، والشمول لجل تخصصات العلوم الدينية من جهة أخرى.

لذا يمكن –بنحو أولي- تحديد أهداف عدة لفلسفة العلوم الدينية على وفق الفقرات:

1- تحديد طبيعة مصادر المعرفة في العلوم الدينية.

2- تحديد أسس بناء النظرية العلمية في حقل الاختصاص الديني.

3- تحديد طبيعة مناهج المعرفة والفهم في العلوم الدينية، وثمة خلاف حول هذا الهدف، وهل يعد علم المناهج علما مستقلا، أم ممكن أن ينضوي تحت فلسفة العلم..

4- محاولة تحليل اشكالية الذاتي والموضوعي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

5- تحديد الذاتي والعرضي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

6- تحديد أسس التعاطي مع المعارف الغيبية وتقنين توظيفها في المسارات البحثية بما يتناسب مع مقتضيات البحث العلمي.

7- محاولة اكتشاف وتحديد المرجعيات المعرفية والبرادايم المعرفي من خلال تحديد النماذج الارشادية في مختلف تخصصات المعرفة الدينية.

8- محاولة تحديد قيمة المعرفة التي ينتجها العقل الديني، ومدى ثباتها أو اطلاقها، وتحديد مديات التفاوت فيها.

وهذه الفقرات يمكن عدّها أهداف أولية لفلسفة العلوم الدينية، الى حين الاكتمال والنضج حتى تتم معالجة التداخل فيما بينها، أو الاضافة والحذف لبعض منها، لأن مجال الفلسفة أوسع من مجال العلم، ومديات البحث والتفكير في الفلسفة أبعد منها في العلوم، فغالبا ما يكون العلم محددا بأسيجة من النظريات والقواعد التي تشكل نسقا منسجما له اصطلاحاته وحدوده المنهجية، في حين تطرق الفلسفة جميع أبواب المعرفة فيما يخض العلم، فهي تثير التساؤلات وتقترح الإجابات حول كل علم من العلوم الطبيعة أو الإنسانية.

الخصوصية المعرفية للعلوم الدينية

ربما لا يحظى عدّ (العلوم الدينية من جملة العلوم الانسانية) بمقبولية لدى كثير من الدارسين والمتخصصين، إذ تمثل المعارف الدينية حقلا مفارقا في بعض جوانبه، لما يختص به من عناصر تتصل بالغيب، مما يشكل عائقا أمام التفكير المنهجي الذي يفترض التعاطي مع المعارف على أساس كونها معارف بشرية تتسم بطابع من النسبية والتحول وتخضع أيضا للنقد والتغيير..، لذا فإن تناول فلسفة العلوم الدينية يحيل بالضرورة الى تحديد الفاصل المنهجي بين المعارف الغيبية من جهة، وتجليات الفهم البشري من جهة أخرى، وهذا ما يؤول الى إعمال نظر دقيق في فرز ما هو مقدس عما هو أدنى منه، لتتم عملية التنظيم المنهجي بما لا يتداخل مع المعطى الغيبي يؤدي الى مفارقات معرفية غير منتجة.

ويمكن إجمال خصائص العلوم الدينية بالفقرات:

1- وجود معاني مقدسة ومفارقة، غير قابلة لأن تكون محلا للتفكير والتعقل، مثل البحث في حقيقة الذات الإلهية.

2- وجود نص ديني قطعي الصدور، غير قابل للبحث في صدق صدوره عن جهة غيبية عليا، والا سوف يكون البحث حينئذ في مجال فلسفة الدين.

3- وجود تفاوت في النماذج التي تفسر النص الديني، فمرتبة السنة المبينة أعلى من مرتبة فهم العلماء، ولكل منهما طريقة مختلفة في التعامل.

4- مديات التحول والتغير في المعارف الدينية طويلة الأمد، قد تحتاج الى قرن من الزمن لكي تبين وتنكشف.

5- التردد في طرح الرؤى بسبب ضغط العامل الإيماني على عامل التفكر والتأمل العقلي، مما يفضي إلى التأني في الفهم وطرح الأفكار.

6- ثنائية التنظير والتطبيق، العلم والعمل، في جل المعارف الدينية، مما يؤدي إلى تعدد مناهج الفهم بين ما هو نظري وما هو مرتبط بالواقع العملي.

7- ثنائية الموضوع في العلوم الدينية التي تدور حول محور المقدس من جهة، والانسان من جهة أخرى، مما يؤثر في صياغة التصورات التي تحاول أن تكون في حالة توازن بين مقتضيات وجود المقدس من جهة، ومقتضيات وجود الإنسان من جهة أخرى.

8- وجود علوم آلية تمثل وسائل وأدوات في العلوم الدينية كعلم المنطق والفلسفة والنحو والتاريخ وغيرها من الحقول المعرفية التي يمكن أن تؤدي وظيفة العلوم الخادمة.

من فلسفة الدين إلى فلسفة علوم الدين:

تتناول فلسفة الدين كل ما يرتبط بالدين من خلال رؤية من خارج الدين، تحاول أن تسلط النظر في مديات فهم الدين، من ناحية أصل ونشوء الدين، إلى قيمة عناصر التدين، والهدف من الدين، مما يشير إلى ارتباط خفي مع موضوعات علم الكلام الجديد، وبالتالي فإن فلسفة الدين أرحب وأوسع من أي علم ديني، ويكون البحث في فلسفة الدين ضمن مختلف فروع الفلسفة سواء الوجود أو المعرفة او الجمال والقيم، في حين تعنى فلسفة العلوم الدينية بالجانب المعرفي فقط.

وثمة تداخل بين علم المناهج (ميثودولوجيا) وفلسفة العلم، وفيه اتجاهان، يميل أحدهما إلى عدم التفريق بينهما فيما يميل الآخر إلى التفريق واعتبار أن المناهج علم مستقل تتناوله فلسفة العلم كما تتناول العلوم الأخرى، وهو ما نرجحه، لأن علم المناهج قد يجيب عن ماهية المنهج المتبع في أي حقل أو مجال، لكن فلسفة العلم قد تجيب عن قيمة ذلك المنهج الذي حدده مسبقا علم المناهج، لذا فإن رؤية فلسفة العلم لعلم المناهج توافق رؤيتها لبقية العلوم.

وفيما نعتقد أن فلسفة العلوم الدينية لم يتم الاشتغال عليها بنحو جاد، سوى ما يتعلق بفلسفة الفقه، أو فلسفة أصول الفقه، وأما السعي إلى اكتشاف أو تأسيس فلسفة العلوم الدينية بنحو عام سوف يؤدي وظيفتين في آن واحد:

الأولى: سوف تتشكل لدى من يتناول فلسفة العلوم الدينية رؤية جاهزة عن علم المناهج الدينية، إذ لا يمكن التفكير في فلسفة العلوم الدينية من دون تحديد عناصر العلوم الدينية من الناحية المنهجية وكيف يتكون المصطلح، وتحديد مديات النقد، وأصوله، والمتغيرات المنهجية والمفاهيمية التي تتضمنها العلوم الدينية.

الثانية: تتمثل في وظيفة فلسفة العلم في ذاتها، من خلال تقييم التصورات العلمية والمعرفية التي تم بناؤها، وممارسة النقد في بعض نواحيها، وإعادة انتاج المعارف في العلوم الدينية من خلال ما توفره فلسفة العلم من إضاءات حول المنتج البشري في المعارف والعلوم.

ان الفائدة التي يمكن أن تشكل محورا أساسا في فلسفة العلوم الدينية هي عملية ادراك الأنموذج العلمي (البرادايم)، وهي عملية لا يوفرها العلم، بل فلسفة العلم، ولا يمكن التجديد في أي علم ما لم يتم إدراك البرادايم الذي يحدد المعرفة ويوجهها من دون أن تتم ملاحظته في الغالب، فانسحاب قدسية الوحي على التفسيرات والتأويلات التي يقدمها البشر لمضامين الوحي هو نوع من سلطة الأنموذج العلمي، فما نطلع عليه من تأويل متداخل مع المضمون المتعالي، وفك التداخل لا يتم إلا من خلال إدراك أن المعرفة الوحيانية تمثل أنموذج يحكم الفهم.

على أنه تجدر الإشارة إلى أن حقل أصول الفقه يعد من أهم الحقول في العلوم الدينية التي من شأنها أن تعين على اكتشاف الخرائط المنهجية للعلوم الدينية، وربما يصح أن نطلق على أصول الفقه بـ(علم منهج العلوم الدينية)، لكونه يؤسس إلى قواعد قراءة النص الديني من جهة، وترتيب أولويات الأخذ بالأدلة النصية عبر منظومة (القطع والظن)، وهو بهذه الحال ممكن أن يكون مؤهلا للتفاعل مع القضايا العقدية أيضا، إذا ما تمت ملاحظة الجانب التنظيمي فيه، من ناحية الاختزال الاصطلاحي، والقواعد التي تنظم عملية فهم النصوص الدينية، لذا يمكن البدء فيه لتأسيس أرضية مناسبة للبحث في فلسفة العلوم الدينية، لأن من اجلى وظائف العلم الديني هو فهم معطيات الوحي، أذ يتعامل العقل العلمي الديني مع ثلاثية: (النص، الواقع، الانسان)، وهو ما يحيل إلى ضرورة منهجة التفكير في ذلك الحيز، ومن ثم تشتغل فلسفة العلم الديني على تقييم الممارسة برمتها، بعد إثارة التساؤلات واقتراح الإجابات.

هذه ورقة أولية عن محاولة جادة في مجال فلسفة العلم الديني عسى أن تنتهي إلى بحث أوسع بعون الله تعالى وتوفيقه.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

 

خلال قراءاتنا المتواضعة للتاريخ البشرية -ابتداء بالحضارة السومرية وانتهاء بوقتنا الحاضر- لمسنا ان هناك ثقافة اجتماعية مثيلوجية كوزمولوجية ابستمولوجية دوغمائية تابوهاتية، مورست ضد المرأة كآخر مقصي معني مُبعد دوني فقير ضعيف فاشل غير عاقل غير منتج، لا يصلح الا للإنجاب والعمل في المنزل ولتربية الأطفال او الاعمال الحرفية كالزراعة او نسج الاصواف ورعي الحيوانات وهكذا... وكانت ردّةُ فعل الذكورية ومنذ الميثولوجيا الأسطورية العالمية والفلسفة اليونانية، التي اسس لها سقراط وافلاطون وارسطو مرورا بـ (لاكان، وجون سيتورات، وهيغل، ف فرويد ويونغ، وجان جاك روسو، صعودا الى البطرياكية المسيحية المستمدة من اليهودية في تعاملها مع المرأة -باستثناء قصة السيدة مريم العذراء (ع)- ومحاكم التفتيش، وحركات التنوير او الاستنارة الفكرية، حتى بدايات نشوء الحركات النسوية في الغرب وفي منتصف القرن الثامن عشر ومطلع ومنتصف القرن التاسع عشر وظهور الحركات النسوية، التي اعقبت العصر الفكتوري الانجليزي والثورة الفرنسية، والبلشفية الروسية، وبزوغ الليبرالية الامريكية، والحداثة وما بعد الحداثة، اذ تبنت بعض الناشطات المدنيان النسويات نظرية المساواة والعدالة والعمل والحرية للمرأة، ووقف كل عمال التهميش والعنف والاقصاء للمرأة إرضاءً وطاعة للرجل، ووقفت موقفا معارضا وندّا وحازما تجاه الذكورية التي اقصت المرأة منذ التأسيس المثيلوجي على الرغم من الدور الكبير الذي ادّته المرأة في كافة العصور التاريخية القديمة، اذ كانت المرأة زوجة عظيم او ملكة والهة تُعبد في الديانة السومرية والاكادية والبابلية والامورية والفرعونية والاغريقية والمسيحية، (إنانا، نينهور ساغا، وارشكي جال، وباو، نانايا، نبتليل، نيصابا، عشتار وسيبيل وبلقيس، واللاة والعزى ومناة، وافروديت وهيرا، وايروس، سارة، هاجر، بلقيس، مريم العذراء، خديجة، عائشة، فاطمة، زنوبيا، زرقاء اليمامة، رابعة العدوية،.....) الا إن الذكورية تصرّ على ضعف وفشل ونقص وشرانية المرأة مستندة في ذلك على قصّة الخلق لادم وحوا وقضية التقرّب من الشجرة المنهي عنها واكل التفاحة، وعقوبة الانزال الى الأرض، وتحملت كلَّ نساء الكون جناية اغواء حواء لأدم وآكل التفاحة، وهذا خطاب يتناقض مع كل التعاليم الرسالية السامية والأعراف والأخلاق والمنطق كما جاء في قوله تعالى (ولا تزر وزارة وزرة أخرى). (فاطر/ 18). ثانيا اذا كانت المرأة عورة وفاشلة وعاطلة وغير منتجة وضعيفة وسهلة الاغواء والخداع.. فلماذا خُلِقت ولماذا مَلكت ومُلِّكت وزُّوجت وعُظّمت من قبل انبياء ورسل وملوك والهة. ولماذ عُبِدت؟! ولماذا لا ينطبق هذا التصور او هذه الرؤية على الرجال كذلك فلا توجد عصمة بشرية اطلاقا الا في مراحل ولحظات نزول الرسالات فقط. اذا الرجل كذلك غير معصوم من الزلل والخطأ والشهوة والغريزة والخداع والخيانة والضعف والشر.. فلماذا نمارس هذا الخطاب السلطوي الذي وصفه فوكو بانه يجير كل شيء لصالحه بوسائل اقناعية مغالطة لجهل الوعي الجمعي ووديماغوجية المرسل؟! علينا ان نفكك ونشرح كافة الخطابات المثيلوجية وحتى الرسالية التي تنتقص من هذا الكيان الرقيق وليس الضعيف بل فيه عوامل قوة، كما جاء في القران الكريم (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ). (يوسف/33)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)). (يوسف/24).وقوله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم)). (يوسف /53). كيف يكون كيان المرأة ضعيفا، وان معظم الشعر الجاهلي تغنى وتغزل، بل بكى على اطلال المرأة وليس على المرأة نفسها؟ بل ان كثير من الشعراء مات بسب شغفه وهيامه وحبّه للمرأة؟؟!! كيف ضعيفة وانا هناك الكثير من العظماء والملوك والشعراء والعلماء قد تزوجوا بأكثر من امرأة لفتنتهن وجمالهم او ظرافتهن...؟! فلماذا لا نقول حينئذ ان الرجل كان ضعيفا في مثل تلك المواقف؟! اذا نرى ان القوة والضعف متساوية بين الرجال والنساء ولكن الخطابات المثيلوجية حاولت ان تغلب الذكورية على الانثوية بحكم القوة الجسدية وليست العقلية او الفكرية او الجمالية او الجنسية. فمن الغباء ان نحكم على المرأة بالضعف، نحن كرجال نتناسى اننا لا نستطيع العيش شهرا كاملا من دون هذا الكيان اللطيف الظريف الذي يزيل كل اعبائنا وهمومنا وسمومنا.من منا ينكر كم مِن مِلك او عالم او رجل دين عظيم ضعف امام المرأة وما زال؟! اذن نحن اليوم بحاجة الى إعادة صياغة الخطاب الذكوري المُقصِي للمرأة، والمبني على خرافات وترهات اسطورية، تتغافل عن دور المرأة العظيم في بعض المواقف والاحداث والازمان وتنال وتنتقص من المرأة بشكل عام وهذا تناقض سلوكي وفكري وعقدي نفسي بالرجل.

واذا كانت رؤية وادعاءات هذه الميثولوجيا صحيحة وحقيقية ومنطقية فكيف تنظر او نفسر الحركات النسوية العالمية اليوم التي تبلورت بنشاط ثوري فكري كفاحي سلمي، من قبل نخبة من النساء الثوريات والمفكرات والفيلسوفات والمثقفات والاديبات والمتعلمات والناقدات... امثال: (سيمون دي بفوفار، وسوزان مللر ومارغريت كافديش، اليزابيث كادي ستانتونت بيتي فرايدان، وماري ولستون كرافت، شارلوت بيرونتي، اليس شفارترز، لويزا اتو بيتراز، وجوليا كرستيفا ونناسي، ميلي دافسون، وليندا جيل شفرد، باربارا، والهندية شاندرا موهانتي ونافرمان وتاراباي وايغاري..والنسوية العربية أمثال مي زيادة، وهند نوفل وانيسة نجار، وسحر خليفة، ونازك العابد، وهدى شعراوي، ونوال السعداوي، ونازك الملائكة وفدوة طوقان ويمنى العيد، وغادة السمان وحميدة نعنع ولطيفة الدليمي وانعام كججي... الا انها اصطدمت بعدّة معوقات أولها: انها اصطدمت بمعارضة شديدة من النساء الملونات (السود) في الغرب وفي بادىء الامر، كون المرأة البيضاء (الغربية) شاركت الرجل الابيض الغربي في اقصاء وتعنيف المرأة الملونة، وكذلك اصطدمت بالمرأة الاسيوية المعارضة لها بشكل عام (الصينية والهندية والباكستانية والعربية والإسلامية..) وغيرهن ممَن يجدن ان الحركة النسوية الغربية ماهي الا هيمنة اخرى ومن نوع اخر بوصفها ثقافة غربية وغريبة عليهن تتناقض وتتعارض مع الثقافة النسوية الشرقية. كذلك اصطدمت الحركة النسوية الغربية في الحركة النسوية الاشتراكية الماركسية المادية التي نظرت الى المرآة من جانب مادي ايضا... وتعارضت مع تفاوت المستوى الطبقي والفكري واللغوي والثقافي والديموغرافي العالمي النسوي. اذا المراة ككيان بشري هي تعاني من المخاضر الفكري والثقافي البيئيى والثقافي والجغرافي والطبقي والعقائدي الذي يختلف من بلد الى اخر او منش عب الى اخر فالمجتمعات والأديان المغلقة تضع تابوهات خطرة وشديدة على المرأة يصعب على الحركات النسوية اختراقها وتفليش بناها التحتية العميقة والمتجذرة في وعي شعوبها المنغلقة، لذلك وجدت صعوبة بالغة في توحيد وجمع كل نساء العالم تحت مظلة نسوية واحدة موحدة ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف حين تؤسس النسوية وعيا نسويا علميا ثقافيا واعيا، يستوعب كل مخاضات الاحداث التي تتعرض لها النسوية يوميا، وان يقف على ارض قوية ويناضل من اجل ترسيخ النظرية النسوية ودعم الحركة الثورية السلمية الثقافية وانتزاع الحقوق. مايهمنا اليوم هو ان تأخذ الحركة النسوية العراقية على عاتقها تشكيل اجتماعي محلي وعربي وحتى دولي نسوي حركي فكري، يأخذ بنظره الاعتبارات والدروس والتجارب النسوية السابقة، لتلافي الوقوع في نفس الأخطاء او كماشة التشريق والتغريب والبطرياكية.. وكذلك يغذّي نفسه تغذية فكرية وعلمية وثقافية وادبية شاملة ومعمقة، ويحذر شديد الحذر من الالغام التي وقعت بها النسويات الشرقية والغربية على حد سواء، (الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والراديكالية) وان تشق المرأة العراقية لنفسها طريقا يلاءم ظروفها وطبيعة وثقافة مجتمعها وخصوصيتها داخل هذه المساحة المتاحة. بعيدا ان الانبهار بثقافة الاخر والاستسلام والتبعية له وبعيدا عن ثقافة التقليد الببغاوية او الإباحية التي جعلت من المرأة سلعة تجارية تحط من قدرها وتزعزع ثقة الرجل بها، وان تنخلع من ثقافة التهميش والاقصاء التسطيحية المحلية. وهذا يتطلب تعبئة وتوعية المرآة ثقافيا وعلميا، لتعيد ثقتها بنفسها وكرامتها المجروحة اولا، ثم التركيز على نتاجها وعطائها الفكري والعلمي والادبي والثقافي وتسويقه بصورة مهذبة ومؤدبة، ضمن خطاب متين رصين حصين لا يدخله الشك لا من شماله او يمينه، لتكسب ثقة الرجل المهزوزة بها منذ بداية الخلق، وتكسر حاجز الخوف والقلق الذي انتاب الذكور جراء السلوكيات المنفلتة لبعض النساء اللواتي استغلن طيبة او عطف الرجال لارتكاب بعض الجرائم المخيبة لهم، وبعض النساء اللواتي وجدن الحرية المنفلتة والمفرطة نوع من انواع التحرر من الذكورية والأعراف الاجتماعي كصاحبات المحتويات الهابطة والاعلانات التجارية الماجنة التي تحطّ من كيان المرآة -ككيان ظريف وجميل وانيق وحميمي ولطيف ورقيق- لتبرر استخدام العنف ضدّ الرّجال والانفصال النهائي. وهذا ما لا يليق بها كآخر صنو وشريك وصانع لهذه الحياة، اذ بلا وجودها لا حياة ولا سعادة ولا نسل ولا ديمومة ولا أطفال ولا تربية ولا رفقة ولا صداقة ولا حميمية ولا جمال ولا نشوة...

لا نريد للمرأة ان تندفع بقوّة من دون تخطيط مسبق يضمن لها الخطوات الواثقة والحاسمة والقانونية، وهذا لا يتم الا عبر سنين من التوعية المتنوعة العلوم والثقافات واللغات. علينا ان نعيد ثقة المرآة بنفسها وانوثتها وفكرها اولا بخاصة نساء القرى والارياف الامّيات. ثم دمجها للعمل في كافة مؤسسات الدولة وفي مختلف الاختصاصات والمجالات، والتركيز على دورها الانتاجي الفكري المعرفي الذي يقلّل من عمليات التعامل معها كسلعة وتوسيع عملية فهم وتفهم وتحاور المرآة مع الاخر، ودعمها اقتصاديا وقانونيا لتكون قوية وحرّة وصاحبة قرار مستقل قوي وجريء وشجاع، يخدم وجودها وكيانها وحريتها واستقلالها. لذلك تُقاس اليوم المجتمعات المتطورة والمتحررة بمدى تطور المرأة وحريتها وانتاجه. فالمسالةُ مسالةُ ازمة ثقة بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة علينا ان نعيد الثقة بين الجنسين (ادم وحواء) بأبعاد النظرة الدونية للمرأة ومنحها فرصة التعبير عن نفسها وممارسة حرية عملها، ولنرى ولنلمس انتاجها قد تتغير وجهة نظرنا التي اسستها الميثولوجيا الأسطورية في غابر الازمان، فليس من المعقول ان نعشقها ونتزوجها ونعاشرها ونعتبرها أمّا حبيبة وعشيقة وزوجة وجارية وابنة واخت، وفي نفس الوقت نقتلها حيّة ونعتبرها عارا وعورة، ونتهمها بالعطل والفشل من دون ان نعطيها فرصة التعلم والعلم والعمل والتحرر والمساواة معنا، ونأتي بعد هذا كلّه ونحملّها تبعات ووزر واخطاء لا ذنب لها؟!.

***

دكتور واثق الحسناوي

العراق جامعة المثنى

الحَرَاكُ الاجتماعي هو النَّوَاةُ المركزية لوجود الإنسان، التي تُمثِّل منظومةً معرفيةً قائمةً على العقلانيةِ والوَعْيِ بالتَّغَيُّرات الجَذرية في الواقع المُعاش، وتحقيقِ مصالح المُجتمع أفرادًا وجَمَاعَات . وهذه المصالحُ لا تنفصل عن النَّزعة الإنسانية التي تُحَرِّر العقلَ الجَمْعِي مِن الخَوف، وتُخَلِّص الفِعْلَ الاجتماعي مِن التناقض بين الخَيَالِ والحقيقةِ . وإذا كانَ المُجتمعُ يَستمد شرعيته مِن كَوْنِ الإنسان فاعلًا للأحداث، وصانعًا للأشياء، فإنَّ الوَعْي يَستمد فلسفته مِن كَوْنِ المُجتمع مصدرًا للمَعرفة، وطريقةً لاستعادةِ التاريخ كَكِيَان فِكري لا أيديولوجية استهلاكية، مِمَّا يُبْرِز قيمةَ الحياةِ - على الصَّعِيدَيْن الشَّخْصِي والجَمَاعِي _ بِوَصْفِهَا سلسلةً منطقيةً مِن التفاعلات الاجتماعية الرمزية التي تَرْمِي إلى ابتكارِ حُلول إبداعية للمُشكلات اليومية، وتغييرِ أُسلوب التعامل معَ موارد الطبيعة، بحيث يتم الاستفادة مِنها لا استنزافها . وهذا لا يَتَأتَّى إلا بِدَمْجِ إفرازاتِ العقل الجَمْعِي مع انعكاساتِ الفِعْل الاجتماعي ضِمْن سِيَاق عقلاني يُعيد الاعتبارَ لوجودِ الإنسانِ كشخصيةٍ فاعلةٍ وهُوِيَّةٍ فَعَّالةٍ، ويُعيد الاعتبارَ لمركزيةِ المُجتمع ِكَسُلطةٍ حُرَّةٍ وكَينونةٍ مالكةٍ لِمَسَارِها ومَصِيرِها .

2

اكتمالُ الوَعْي في الحَرَاك الاجتماعي يَمنح الإنسانَ القُدرةَ على تأسيسِ المعايير الأخلاقية في الأحداث اليومية، وصناعةِ الأنساق الحياتية في مصادر المعرفة، مِمَّا يَدْفَع باتِّجاه تَكوين حالة من التكامل بين الحياةِ والمعرفةِ، تُخرِج الواقعَ المُعَاشَ مِن السَّلْبِيَّة، وتُعيد بِنَاءَهُ على قاعدة وجودية صُلبة تتكوَّن مِن الفِعْلِ الاجتماعي العقلاني، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأشياء، وأنْسَنَةِ النظامِ الاستهلاكي المادي الذي وَضَعَ قُيودًا على الإنسان، وَشَلَّ قُدْرَتَه على الفِعْلِ والتغييرِ . وإذا تَحَرَّرَ الإنسانُ مِن قُيوده، فَسَوْفَ يُصبح قادرًا على تحقيق التوازن بين الرَّغبةِ والإرادةِ، مِمَّا يَحْمِيه مِن الوَعْيِ الزائف،والشُّعُورِ بالغُربة_نفسيًّا واجتماعيًّا_، الذي يَنتُج عن غَرَقِ الإنسان في قوالب الفِكْر التاريخي المُؤَدْلَجِ سياسيًّا، والعاجزِ عن تأويلِ الماضي، ومُوَاكَبَةِ الحاضر، واقتحامِ المُستقبل. وهذا يُوضِّح أهميةَ تكريسِ الفِكْر التاريخي داخل البُنيةِ الوظيفية للإنسان في المُجتمعِ والطبيعةِ، كَي يُصبح التاريخُ جسدًا للفِعْلِ الاجتماعي، وتجسيدًا للحُلْمِ الواقعي، وَوَعْيًا مُتَجَدِّدًا يُؤَدِّي إلى مَعرفةِ الإنسانِ بِذَاتِهِ ومُجْتَمَعِهِ وكيفيةِ تحليل وُجوده المعنويِّ والماديِّ، وهذا يُسَاهِم في دَمْجِ الزمانِ والمكانِ معًا في الفِكْر التاريخي، وتحويلِ التاريخ إلى بَوَّابَةِ للمُستقبَل، ولَيْسَ عَقَبَةً في طريق المُستقبَل .

3

قواعدُ البناءِ الاجتماعي المُتَحَكِّمَةُ في مَسَارِ الإنسانِ تاريخيًّا وحضاريًّا، تُحَدِّد آلِيَّاتِ التأويل اللغوي للمعرفةِ والمصلحةِ، وتُحَدِّد ماهيَّةَ العلاقةِ بَين التاريخِ المَنسي في داخل الإنسان، والتاريخِ المُهَمَّش في داخل المُجتمع، وإذا كانَ المَعنى الحَيَاتي يَظْهَر ويَختفي تَبَعًا لإفرازات العقل الجَمْعي، واعتمادًا على مَصَادِر المعرفة، واستنادًا إلى شبكة العلاقات الاجتماعية، فإنَّ التأويل اللغوي يَظْهَر وَيَخْتَفي تَبَعًا لأنساقِ الوَعْي، واعتمادًا على التُّرَاث الحضاري، واستنادًا إلى الأفكار المَقموعة . والظُّهُورُ والاختفاءُ في ثُنائية ( المَعنى الحياتي / التأويل اللغوي ) لا يُمكن السَّيطرة عليهما إلا بإعادةِ الوُجود إلى الوَعْي، وإعادةِ الوعي إلى التاريخ . وإذا كانَ التاريخُ حَلَقَاتٍ مُتَّصِلَة لُغويًّا، باعتبار أنَّ اللغة هي التي تَمْنَح التاريخَ مَعْنَاه وجَدْوَاه، وتَحْمِي وُجودَ الإنسانِ من القطيعة المعرفية، فإنَّ الحضارةَ دوائر مُتشابِكة معرفيًّا، باعتبار أنَّ المعرفة هي التي تَمْنَح الحضارةَ هُوِيَّتَهَا وسُلْطَتَهَا، وتَحْمِي الحَرَاكَ الاجتماعي مِن الانفصال اللغوي .

4

الحَرَاكُ الاجتماعي يَحْمِي وُجودَ الإنسانِ مِن الأحلامِ المَكبوتةِ والذكرياتِ المُتصارعةِ والأحزانِ الكامنةِ، ويُحَلِّل أنظمةَ الفِكر المُهيمنة على مَسَارَاتِ التاريخ . وإذا كانت السُّلطةُ الاجتماعيةُ هي القُوَّةَ المُوَلِّدَةَ لمصادر المعرفة، التي تَحْكُم طبيعةَ التأويل اللغوي القائم على البُرهان، وتَتَحَكَّم بالعقلِ المَوضوعي القائم على الاستدلال، فإنَّ الهُوِيَّة الإنسانية هي الفاعليَّة التنظيمية للعلاقات الاجتماعية، التي تُسَيْطِرُ على سِيَاقَاتِ الوَعْي القائم على التَّحَرُّر، وتُهَيْمِنُ على السُّلوكِ الوظيفي القائم على التاريخ . ومُهِمَّةُ الإنسانِ في المُجتمع أن يَمنع الوَعْيَ مِن العَيش خارج الحرية، ويَمنع التاريخَ مِن العَيش خارج اللغة، وهذا الأمرُ في غاية الأهمية، لأنَّه يُحَوِّل وُجودَ الإنسان مِن فلسفة الاتِّبَاع إلى فلسفة الإبداع، ويَنقُل التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن نمط الاستهلاك المادي إلى نَسَق التوليد الفِكري، فَيَتَأسَّس واقعٌ جديدٌ يُوازن بين السُّلطةِ والهُوِيَّةِ، ويَتَكَرَّس فِكْرٌ جديدٌ يُوازن بين الوَعْيِ واللغةِ .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

نشر د. جواد بشارة وهواستاذ باحث في مجال علوم الفيزياء المعاصرة مقالة بعنوان (مفهوم الزمن) على موقعي المثقف والحوار المتمدن تاريخ 4/4/2023. وطبيعي ان يكون باحثا اكاديميا بعلوم الفيزياء مثله ملتزما جانب المنهج العلمي التخصصي الصرف منهمكا تمرير مغالطات عن مفهوم الزمن لا تتقبلها الفلسفة من جهة وتحتاج مناقشة نقدية تمحيصية من لدن علماء في الفيزياء والفلك لتبيان هل استنتاجات بشارة التي ذكرها بمقالته تقر بها النسبية العامة لانشتاين كما وردت في المقالة؟ وهل بشارة نشر المقال في مجلة بحثية رصينة متخصصة بفيزياء الكون بلغة غير العربية وحتى العربية؟ .

1. لم يعالج بشارة مفهوم الزمن الارضي كتحقيب تاريخي تحده الطبيعة نسبي نطلق عليه الوقت بل اوهم القاريء ان ما يقوله العلم الفيزيائي عن المطلق الكوني وما جاءت به نسبية انشتاين عن الزمن يصادر طواعية كل الاجتهادات الفلسفية والفكرية حول الموضوع لان قوانين الفضاء يجب ان تحكم قوانين الطبيعة والانسان على الارض وهذه مغالطة مدانة. لذا كان الاجدر به نشر سلسلة مقالاته الفيزيائية العلمية في مجلات ومنصات تخصصية لها الكلمة الفصل بحقيقة ما يذكره بمقالاته وينسبه الى النسبية لانشتاين وعلماء فيزياء معاصرين فمثل هؤلاء يستطيعون وضع كل اجتهاد علمي عن عالم فيزياء الفضاء في مكانه الصحيح.

2. ذكر الدكتور بشارة في مطلع مقالته (لا يوجد زمن الهي بالمعنى الحرفي للكلمة) الكاتب لا يخفي في كتاباته عدم ايمانه بالاديان كي ينسجم على الاقل مع منهجه التخصصي العلمي في مواضيع الفيزياء الكونية وهذه مسالة خاصة به. وفي تعقيبي على ماجاء بمقالته لا التزم منهج لاهوت الاديان وميتافيزيقا الخلق بل منهج ما تقوله الفلسفة عن قضايا مشتركة بين العلم والفلسفة... في عبارة بشارة اشارة واضحة ان علوم الفيزياء الحديثة لا تعترف بغير الانفجار الكبير عمره 13/7 مليار سنة ضوئية كفرضية علمية في بداية انخلاق الكون الفضائي بصدفة لا يوجد ما يدحضها. والكون في حالة من التمدد المتسارع التي تصل سرعة الضوء بالثانية.

3. في الفيزياء النسبية لانشتاين كما استشهد صاحب المقال على ان الزمن الكوني هو انثيالات يتدفق فيها الزمن. هذا الاستنتاج لا يصلح ان يكون حقيقة لمفهوم الزمن الارضي كمطلق لا يمكن حده بشيء ولايقبل مطلقه التجزئة كما تذهب الفلسفة على ان الزمن مفهوم لا يصلح ان يكون موضوعا مستقلا للعقل البشري. الزمن فلسفيا هو دلالة معرفية لادراك الاشياء. ان تقول وتعرف لي ما هو الزمن بالعلم الدارج غير التخصصي بالكون والفضاء يقول لك ارجع الى تعريف ارسطو ان الزمن هو مقدار حركة جسم لقطع مسافة محددة بسرعة موضوعة لحركة ذلك الجسم. واضاف ارسطو الزمن ليس حركة فالحركة خاصية المتحرك المادي والزمن غير مادي.

4. قال بشارة وهو يخمط من بحوث علماء فيزياء الفضاء تعقيبا على النسبية لانشتاين ان (الجاذبية تشوه الزمن الكوني) وهذه ماخوذة عن انشتاين كعالم فيزياء ولا تلزم الفلسفة بها فهي تتحدث عن مطلق الزمان بالكون وليس على الارض كما تهتم به الفلسفة. الجاذبية كما ينسب بشارة لانشتاين تشوه زمن كوني لامحدود ولا نهائي وهو في حالة نشطة جدا من التمدد الحركي نتيجة الانفجار العظيم. اما عن علاقة الجاذبية بالزمن الارضي هو ما اردنا الباحث توضيحه فهو غير عاجز عن منهج التلفيق كلما دعت الحاجة خروجه من مازق يدخله ولا يعرف الخروج منه..

5. ذكر عبارة تفوق الكفر قوله (الزمن ينوب عن المكان في الادراك ويمكن للزمن ان يكون مكانا) ما هذا التلاعب اللفظي غير العلمي السقيم؟ اذا كان مثل هذا الافتراض التعجيزي لقوانين الطبيعة والعقل الانساني على الارض متاحا بالنسبة للزمن الكوني حسبما تذكر اقتباسات بشارة الصادمة حينما يحاول تضليل القاريء غير المتخصص ان مثل هذه الفذلكات يمكنها الحدوث طالما هي استنتاجات عن النظرية النسبية. على قدر المامي المحدود بفيزياء الكون فانه باستثناء قانون الجاذبية وبعض العلاقات في فيزياء الطبيعة الارضية مثل السبب والنتيجة، تحول الكم الى كيف وغيرها من قوانين مثل سرعة الصوت وسرعة الضوء فليس كل ما تتوصل له فرضيات ونظريات فيزياء الكون هي صحيحة اكتسبت الدرجة القطعية التسليم بها واسقاطها على القوانين التي تحكم الطبيعة والانسان اذ من المحال وانت تعيش على الارض ان تجد الزمن يتحول مكانا مستقلا يمكن ادراكه موضوعا للعقل. وكذا العكس ان يصبح المكان زمانا مستقلا عن زمانية ادراكه المكانية غير المنظورة. اعتقد اراء كانط حول وحدة الزمكان الادراكية لا زالت تفعل فعلها بالنسبة لانسان يعيش على الارض ويتعامل مع الطبيعة بمدركاته العقلية وليس بمطلق القوانين الكونية.. اذ قال الزمكان مدرك لقالبي فطريين متلازمين مركوزين بالذهن. وقالبي الادراك الفطريان بالدماغ هما وسيلتي ادراك ولا يكونان موضوعين مستقلين لادراك العقل.

6. ذكر دكتور بشارة نقلا عن نسبية انشتاين استحالة فصل ثنائية الزمكان التي بنى عليها انها كانت سببا مباشرا لاكتشاف نيوتن قانون الجاذبية. اعود تذكير بشارة اذا ما وجدت علوم الفيزياء علاقة تربط قانون الجاذبية بالزمكان كونيا فهذا حسب قوانين الطبيعة الارضية هي علاقة ليست موجودة. بامكاننا ان نسال بشارة المتخصص بفيزياء الكون هل ادراكية العقل لوحدة وعدم امكانية انفصال ثنائية الزمكان – اذكر انه في الفقرة اعلاه يقر بشارة ان ينوب الزمن عن المكان ادراكيا وبالعكس بمعنى يجوز الفصل بينهما ادراكيا – تتيح لنا امكانية ان نجد ادراكنا للزمكان يتوقف في حال انعدام الجاذبية ؟ اعتقد من وجهة نظر علمية على الارض وفلسفية ليس هناك علاقة لقانون الجاذبية في عملية ادراك العقل للزمكان بالاشياء. وفي حال الاقرار بخطأ ما اورده بشارة ان مفهوم الزمكان كان الحافز لاكتشاف نوتن قانون الجاذبية فايهما سببا للاخر هل الزمكان سببا للجاذبية ام العكس؟ ثم هناك فرق جوهري كبير بين الجاذبية كقانون فيزيائي يحكم الطبيعة والكون وبين عملية الادراك العقلي كخاصية بيولوجية عند الانسان.

7. اعود ثانية لما ذكره بشارة عن ثنائية الزمكان قوله نقلا عن انشتاين (هو كيان يوجد فيه المكان والزمان في بنية واحدة تتاثر بوجود الطاقة والمادة).كما ويتساءل (هل معنى هذا ان يتحول الزمن الى مكان وبالعكس؟).

لا باس من اعادة التاكيد انه اذا كانت الفيزياء الكونية المعاصرة توصلت لوجود علاقة من نوع ما للزمكان مع الطاقة والمادة، فهذا لا يسقط ان علاقة وحدة ثنائية الزمكان هي مع الادراك العقلي لهذه الوحدة الموجودية وربما يترتب في عصور قادمة ان يتحول هذا الادراك الخارجي للزمكان الى النفاذ نحو ادراك العقل للشيء بذاته اي ان يعرف لاحقا ماهية مدركاته العقلية من حيث وجود تاثير طاقة ومادة في وحدة الزمكان. لا يزال الادراك العقلي للزمكان ينحصر في نقل الاحساسات عن الصفات الخارجية للشيء ولا يتمكن النفاذ الى ماهيات الاشياء ومدركات العقل..

من الناحية التعقيبية العامة فلسفيا يمكن الجزم القاطع بوجود هذه المتعالقات بشان الزمكان. حينما نقول لدينا مفاهيم حول الزمان والمكان في الكوني فمعنى ذلك اننا لم نقع بعد على حقائق ومصطلحات متفق عليها صائبة تفيد واقعنا الارضي. المفهوم غير محدود اصطلاحا لذا من غير المتاح لنا معاملتنا لادراكاتنا المادية في عالمنا والطبيعة بمعايير المفاهيم الكونية.

8. كي نقف على بعض تناقضات بشارة في مقالته عن مفهوم الزمن قوله (ان انشتاين اعتبر تداخل الزمكان كيانا موحدا غير قابل للانفصال – ومن يقول غير ذلك سوى دكتور بشارة كما سبق لنا تثبيته؟ - ويمكن دمجهما بعضهما مع بعض على الرغم – والكلام لبشارة - من انه ليس من الصحيح القول تحول الزمان الى مكان وبالعكس – اذكر القاريء ما قاله سابقا وناقشته عليه انه يمكن للمكان والزمان المناوبة عن احدهما التعبير عن الاخر- حسب الفهم والادراك البشري الكلاسيكي المالوف !!). ياسلام على هذه العبقرية التي وصلت بنا ان الادراك البشري الكلاسيكي المالوف يقول امكانية ان يتناوب الزمان والمكان صفة الوجود المستقل احدهما مستقلا بالنيابة عن الاخر موضوعا ادراكيا للعقل. هل استطاع علماء فيزياء انشتاين القول بحقيقة هذا الهراء الذي اصبح كلاسيكيا مالوفا لدى البشر بلا استثناء.؟ هات لنا دكتور بشارة عالما فيزيائيا فرنسيا في محل اقامتك وفي غير فرنسا اثبت علميا انه بالامكان ان يتحول الزمان الى مكان مستقل ادراكيا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.................

* لي وقفة تعقيبية ثانية اذا ما احتاج الامر

للاطلاع:

جواد بشارة: مفهوم الزمن

أرسطو احد تلامذة (أفلاطون) البارزين، أتخذ من عملية المواجهة مع الواقع والبحث في مادياته وظواهره حلاً فلسفياً جديداً مغاير لتفكير أستاذه، اذ رد " الاعتبار الى العالم ـــ عالم الأشياء الواقعية ـــ الذي أعتبره افلاطون عالماً للأشباح والظلال، وقد فعل (أرسطو) هذا بالفعل عندما أنزل المثل من العالم السماوي العلوي الى الأشياء الواقعية وجعل المثل صوراً، وتصور الصور بوصفها طاقات وقوى كامنة في الموجود تتحرك حركة (سماها أرسطو الانتليخيا) وهي حركة صوب غاية محددة من شأنها أن تصبح الإطار الذي تتجمع فيه حركتا خلق الشيء وإيجاده "(1) وهذا الإطار قد غير من الرؤية نحو الأشياء، أي غير الأتجاه من الباطن الى الظاهر، ومن المثل الى الواقع، ومن العقل الذي يتجه الى العالم العلوي الى العقل العملي الذي يبحث بالأشياء خارج إطار الماورائيات الأفلاطونية التي شكلت قطع مع العالم المادي . عد (أرسطو) هذا العالم الذي يجب أن نبدأ به ونؤسس عليه أفكارنا واعتقاداتنا في إطار البحث وليس الابتعاد والذهاب الى عالم المثل الأفلاطوني الواقع خارج الصورة صورة الأشياء فهو بحث عن التطابق بين الصورة والمادة من أجل الوصول الى الموجود الطبيعي حتى أنه عد الموجود الطبيعي هو الطبيعة بذاتها وليس خارجها، وعندما وضع نظام للأفكار والمعاني وضعها على وفق هذا التصور؛ إذ إن" رأي (أرسطوطاليس) أن الافكار والمعاني المسلمة بالوجود هي الموجودات المحددة والتي تأتي فقط عن طريق العلاقات ومتغيرة الى موجودات أن كل وجود محدد يحمل عناصر منطقية وسليمة التفكير كما يحمل عناصر روحية لا مادية وهو ما يسميه (أرسطوطاليس) (الشكل أو النموذج) هذا الشكل أو النموذج الروحي اللامادي كفكرة إذا ما تحقق بالتحديد يكون متماثلاً ومتوافقاً مع طبيعة الشيء المعطى أو جوهرياته لهذا يصبح الشكل أو النموذج هو الجوهر والأساس والذي لا ينفصل عن الشيء ذاته فهو في داخل الشيء وهو شريك في المادة الاساس التي يعيش عليها "(2) . إنَّ (ارسطو) إذ يؤكد الى عدم الذهاب خارج العالم الواقعي والطبيعة من حولنا فهو يرى بأن ما يمكن أن نسميه الأفكار التي تؤدي الى عالم المثل عند (أفلاطون) هي موجودة في الشيء ذاته في واقعيته على شرط يوجد توافق بين الفكرة والشيء وتحقق التطابق يكون العالم محسوماً ومعاشاً بشكل سليم وهذا التحقق ناتج من كون الأشياء في الوجود هي من تحقق معانيها في داخل الذهن البشري إذا تم الاستبصار بها بشكل سليم وليس البحث في خارجها عما يؤكدها ويؤكد وجودها فكيف نتحقق من وجود صورها في عالم آخر قد لا يصل اليه بعض البشر الى عالم مثالي مبني على انطباعات قد لا تتحقق و تتطابق مع ما هو موجود كما الشيء في الطبيعة .إنَّ " مزاج (أرسطوطاليس) الفكري درج على رقية العالم التجريبي من منطلقاته الخاصة يوصف واقعاً مئة بالمئة لم يستطيع أن يسلم باستنتاج (أفلاطون) القائل: أن اساس الواقع موجود في ملكوت كيانات مثالية متعالٍ ولا مادي كلياً آمن .أن الواقع الحقيقي هو عالم الأشياء الملموسة القابل للإدراك بالحواس لا عالم أفكار سرمدية عصي على الأدراك ونظرية الأفكار بدأت في نظره غير قابلة للإثبات من ناحية، ومثقلة بحشد من الصعوبات المنطقية من ناحية ثانية "(3)، لذا فهي لا تتماشي مع الفكر الأرسطوطالي حتى وأن كان هذا الفكر قد تبناه في مرحلته الأولى للفكر الأفلاطوني، ولكن عملية بناء منظومة معرفية عن الكون والحياة والإنسان يتطلب إيجاد مسلمات منطقية يتعامل معها الفكر الفلسفي مع الواقع المعاش دون البحث فيما وراء الأشياء عن الأشياء ذاتها وفي ذاتها، لذا فقد عمل الفكر الأرسطوطالي بالبحث عن الصورة والمادة وما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل وما هي العلل الأربعة التي يمكن من خلالها يمكن معرفة الوجود والموجود والجزئي المقيد بالزمان والمكان، لذلك جعل العلل أربعة أنواع وهي " العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية، العلتان الأولى والثانية تمثلان الوجود الكوني للشيء والثالثة والرابعة تمثلان الوجود الحركي للشيء أو تمثلان الشيء في حالة التغيير والضرورة (...) وعلى ذلك فأن نقطة البدء في التفكير الواقعي بوجه عام ليست هي الذات العارفة (المثالية الرومانسية) وليست الصيرورة الموجهة التي يسيطر عليها وجود المطلق فيها (الواقعية الروحية)، بل الكون الطبيعي في صيرورته الأصلية (الواقعية والطبيعية) "(4). إنَّ ما بين الوجودين الحركي والكوني للشيء وحركيته هو ما يقع في تشكيل المعرفة الأرسطوطالية الواقعية في فهم الأشياء بكلياتها الكوزمولوجية وحركتها التي تسهم في صنع ماهيتها وتثبيت صورها التي تنتقل من حال الى آخر نتيجة لهذا الوجود الحركي الذي يصاحب الأشياء في مديات وجودها منذ بدايتها وحتى النهايات و" هنا يظهر كل الظهور أن أرسطو يعطي أولوية كبيرة للبحث عن العلل كموضوع أساسي للوعي الفلسفي ويؤكد أن هذا الأمر لم يعط حقه كاملاً، ولذلك فهو يجترح رؤية جديدة أساسها أن الهيولي والصورة علتان ذاتيتان يتكون منهما الشيء ويعلم بهما كما يتكون التمثال من النحاس وصورة (ابولون) علما أن العلة تقال أيضاً على نحوين آخرين الواحد ما تصدر عنه بداية الحركة والسكون والثاني الغاية التي تقصد اليها الحركة فتكون العلل أربعاً: علة مادية وصورية وفاعلية وغائية "(5)، وتتحقق (الانتليخيا)عند (أرسطو) من خلال العلل الأربعة التي تشكل مضمون الحركة التي تحتوي في داخلها حركة خلق الشيء وحركة إيجاده .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

.......................

الهوامش

1. سليمان، جمال محمد احمد: مارتن هيدجر: الوجود والموجود، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، ص 36.

2. توماس، بيتش: انطولوجيا المسرحية، ترجمة: كمال الدين عيد، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص 116 .

3. تارناس، ريتشارد: آلام العقل العربي، ترجمة: فاضل ....، ابو ظبي: كلمة، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، 2010، ص 85.

4. الكومي، محمد شبل: الوجود والحرية، القاهرة: الهية المصرية العامة للكتاب، 2009، ص 105-106.

5. أسبر، علي ممد: ماهية الوعي الفلسفي، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010، ص 40.

- تفكير العقل في اشياء العالم الخارجي ومواضيع العالم الداخلي هو ابجدية لغوية صورية وليست فكرا مجردا متحررا من الابجدية اللغوية في تعبيرها الخارجي الصوتي او في صمتها التعبيري الخيالي فكرا بلا صوت.

هناك تعريف مصطلحي متفق عليه ان اللغة في ابسط تعريف لها هي ابجدية حروفية يمتلك كل حرف فيها صوتا ومعنى. واجد هذا التعريف ناقصا لانه يقتصر على تعبير اللغة عن اشياء وموجودات العالم الخارجي فقط. فاين يكون تفكير الصمت الداخلي المستمدة موضوعاته من عالم الخيال واشباع الغرائز الجسدية؟ الجواب هو تفكير الصمت ايضا تعبير لغوي في ابجدية حروفية لها معنى صوري وتفتقد الافصاح الصوتي خارجيا. خطأ آخر أجده في تعبير اللغة ابجدية حروفية (صوت ومعنى) يعني في حال انعدام الصوت لا يبقى معنى, وفي انعدام المعنى لا يبقى لغة وهذا ما ينكره تفكير الصمت الداخلي بانه لغة تفكيرية صورية تمتلك المعنى والصوت المدّخر في الصمت وفي الحركات الايحائية لاعضاء جسم الانسان كما في ممارسة الطقوس الدينية واليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت.

- تذهب غالبية الفلسفات المثالية الى ان ما لا يدركه العقل لا وجود مستقل له. والحقيقة ان ملايين الموجودات التي نعايشها بعالمنا الخارجي والطبيعة لها وجود مستقل قد يدركه بعضنا او لا يدركه. الوجود الانطولوجي للاشياء المادية لا يتوقف على ادراكنا له ولا على عدم ادراكنا له. انطولوجيا الموجودات في استقلاليتها كينونة لا تاثير للانسان عليها قبل ادراكه العقلي لها.

- الوعي مرحلة ادراكية عقلية متقدمة على ما تنقله الحواس من احساسات. كما ان الوعي تجريد معرفي يتكامل مع مدركات العقل الانطولوجية ولا تربطه علاقة جدلية بها.التكامل المعرفي في وعي الاشياء هو من اجل تغييرها والاستفادة منها على خلاف الجدل فهو تضاد سلبي طارد لكلا النقيضين في تشكيل الظاهرة المستحدثة الجديدة. معرفة الاشياء في عالمنا الخارجي ليست وعيا جدليا معها بل تعريفا عقليا بها من اجل تغييرها. وكل ارادة انسانية يحكمها الوعي القصدي تكون المرتكز الاساس في احراز تقدم افضل في فهم الوجود وتقدم الحياة. ليس هناك وعيا ادراكيا لا يحمل موضوعه معه ولا يحمل هدفه القصدي الذي يسير نحوه.

- ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات :

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله هيرمان سكنر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام., ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل مقولات وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم. شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعي لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة بالنسبة للعربية).

- الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه.

الاحتمال الثالث الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع فقط. نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.

- افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

- اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله ( الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

- تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.

- إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها, بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا, وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات, والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده, والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

- اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

- ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له, في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

- كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانيا فقط.

- المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن نفعي. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المراة في العملية الجنسية..

- عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كا لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع.

- لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة برتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

- من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا.

- الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره.

- لا علاقة جدلية بين الوعي والواقع, الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

- من تعابير هيدجر التي لا معنى لها قوله الديزاين هو ركض الموت الى العدم.

- مذهب وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يجمع بين الدين والفلسفة والطبيعة.

- يقول ياسبرز في عبارة فلسفية رشيقة صحيحة " حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان.".

- استوقفني التساؤل التالي : هل اصوات الابجدية الحروفية في اللغة خاصية معنى ام خاصية نحو؟ برايي انها تجمع الخاصيتين معا فهي دلالة عن معنى كما هي خاصية نحوية للغة بعينها.

- ماذا اراد الفيلسوف الاندلسي ابن طفيل في روايته الخالدة حي بن يقظان التاكيد عليه من اهداف؟

1. الانسان بمفرده بالطبيعة قادر عن طريق اعمال العقل المجرد الوصول الى مستوى الانسان الكامل بمجرد ملاحظة الطبيعة والتفكير بها من غير تعليم.

2. الدين والفلسفة والعلم اقانيم ثلاثة تتكامل معرفيا ولا تناقض بينها يلغي معايشة الضرورة للاخر.

3. الوصول الى المعلومات الميتافيزيقية امر فردي بين الخالق والمخلوق.

- محاربة الفلسفة جهلا بها هو مشكلة الجهل وليس الفلسفة.

- الوعي هو نوع من تحرر العقل من الواقع وردت على لسان احد الفلاسفة وكانت صحيحة. ويتعالق مع هذا المعنى الزمن يسبق الوعي الحقيقي والزمن ايضا بعد سببي للزمكان وليس المكان منفردا.

- القانون الفيزيائي المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم سبق وصاغه بارمنيدس بقوله " لا شيء يمكن ان يتحول الى لا شيء ولا شيء يمكن ان ياتي من لا شيء".

يتبع بحلقة اخرى

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

التَّحَوُّلاتُ في التفكيرِ والسُّلوكِ مُرتبطةٌ بطريقةِ التأويل اللغوي لأحداث التاريخ، وزاويةِ الرُّؤية للجَوْهَر الإنساني في البناء الاجتماعي، وأُسلوبِ التعامل مع مصادر المعرفة كَمًّا وكَيْفًا. وإذا استطاعتْ رمزيةُ اللغةِ استيعابَ التَّحَوُّلاتِ في التفكيرِ والسُّلوكِ، والتَّكَيُّفَ معَ أبعادها المعنوية، والتَّأقْلُمَ معَ دَلالاتها المادية، فإنَّ الوَعْي سَيَرْدِم الفَجْوَةَ بين الحُلْمِ الفردي والعقلِ الجَمْعي، والواقعِ المُعَاش والعَالَمِ الافتراضي، والمَعنى الوُجوديِّ والتَّجربةِ الشخصية. وهذه الفَجْوَةُ نتيجةٌ طبيعية لِغِيَابِ اليقين في تعقيدات الحياة المُعَاصِرَة، التي تَضغط على العلاقات الاجتماعية، وتُعيد تشكيلَها في الهُوِيَّات المُتَشَظِّيَة التي تَجعل الإنسانَ عاجزًا عن إدراك حقيقة ذاته في الأحداثِ المُتسارعة، والعوالمِ المُعَقَّدَةِ، والأفكارِ المُتَغَيِّرَة. وإذا كانتْ مَشروعيةُ التواصلِ الاجتماعي تَقُوم على الفَهْمِ المُتَبَادَل والمصالحِ المُشتركة، فَإنَّ شرعية الذات الإنسانية تَقُوم على تَخَطِّي الصُّوَر التاريخية النَّمطية، وكسرِ القوالب الفكرية الجاهزة، وتَجَاوُزِ الأحكام المعرفية المُعَلَّبَة، وهذا يَتَطَلَّب تكريسَ الوَعْي بالذاتِ والعناصرِ المُحيطة بها كأداةٍ لتوليد أنساق المعرفة في المُجتمع، بِوَصْفِه بُنْيَةً إبداعيَّةً مُتَجَدِّدَةً، وقادرة على صناعةِ الأحلام، وتطبيقِها على أرض الواقع، ولَيْسَ بُنيةً جامدةً تُفْرِز الوَعْيَ الزائف لحماية وُجودها الوهمي.

2

الانقطاعاتُ المعرفية في مَسَارِ التاريخِ ناتجةٌ عن حالة اللايقين المُسيطِرة على مُكَوِّنات الظواهر الثقافية، والانقساماتُ الوُجودية في بُنية المُجتمع ناتجةٌ عن تَوظيف العقل كأداةٍ لتكريس الأدلجة السياسية، ولَيْسَ توليد الفِكْر الإبداعي، وبالتالي، تَعْجِز العلاقاتُ الاجتماعية عَن تَكوين شخصية الفرد الإنسانية، وتَعْجِز رمزيةُ اللغةِ عن تكوين مَنظومة القِيَم الحضارية. وهذا العَجْزُ المُزْدَوَجُ يَجعل العقلَ المُتمركز على المُسَلَّمَات الافتراضية، والمُنغلِقَ أمامَ صَيرورةِ التاريخ وحَتميةِ المُوَاجَهَة معَ الوَهْم، مُتَصَادِمًا معَ ذاته، وغَير مُتصالِح معَ كَينونة الفِعْل الاجتماعي. ولا بُدَّ أن يَكُون العقلُ طاقةً توليديَّةً للمناهجِ الفلسفية الاجتماعية القادرة على نقدِ آلِيَّات الهَيمنة في الأنظمة الاستهلاكية، وكشفِ التناقضات في المعرفة التكنولوجية التي تَرْمِي إلى استنزافِ موارد الطبيعة، ولَيس تنظيمها والاستفادة مِنها. والعِلْمُ إذا لَمْ يَقُمْ على قِيَم إنسانية ومعايير أخلاقية، فإنَّه سَيَتَحَوَّل إلى وحش يَفْرِض سَيطرةَ الآلة الميكانيكية على الإنسانِ والطبيعةِ معًا.

3

التجانسُ في العلاقات الاجتماعية مِن شَأنه تَكوين هُوِيَّةٍ سُلوكيَّة إبداعيَّة، عارفةٍ بذاتها، وجامعةٍ لِمُكَوِّنَاتها، وواعيةٍ بأبعادها. والتجانسُ لا يَعْنِي التطابقَ وعدمَ الاختلاف،بَلْ يَعْنِي تَوظيفَ المناهج العقلانية واقعيًّا واجتماعيًّا وتكامليًّا، بحيث لا تَحْدُث فَوضى في سُلطة المُجتمع الاعتبارية، ولا يَحْدُث اضطراب في شخصية الفرد الإنسانية، مِمَّا يُسَاهِم في تفجير الطاقة الرمزية في اللغة كمشروعٍ وُجودي للخَلاصِ مِن الوَعْي الزائف، وتَخليصِ أحلامِ التغيير للأفضل مِن قُيود المصالح الشخصية الضَّيقة. والتجانسُ في العلاقات الاجتماعية يُسَاهِم في تأسيس مَنظومة التفكير بعيدًا عن ضغط اللحظة الآنِيَّة، والتفكيرُ يَقُود المعاييرَ الأخلاقية إلى بناء السُّلوك الذي يُوَازِن بين الشُّعُور والوَعْي ذهنيًّا وواقعيًّا، والسُّلوكُ يُفَعِّل عمليةَ التأويل اللغوي لأحداث التاريخ. وكُلُّ ثَورةٍ في اللغةِ لفظًا ومَعْنًى، سَتُؤَدِّي _ بالضَّرورة _ إلى تحويل المُجتمع إلى طاقة أخلاقية وإنسانية، تَقُوم على التَّحَرُّرِ والتحريرِ، التَّحَرُّرِ مِن هَيمنة الأنساق اللاعقلانية على أحداث التاريخ، وتحريرِ سُلطةِ المُجتمع الاعتبارية وشخصيةِ الفرد الإنسانية من ثنائية الاستلاب والاغتراب.

4

وظيفةُ الظواهرِ الثقافية في المجتمع هي مَنْعُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ (التَّحَوُّل إلى علاقات آلِيَّة ميكانيكية في مَوْضِع العَرْض والطَّلَب)، ومَنْعُ أحداثِ التاريخ مِن التَّسَلُّع (التَّحَوُّل إلى سِلَع خاضعة للبَيع والشِّراء وَفْق مَنْطِق سِيَادَة السُّوق). وهذا المَنْعُ - على المُسْتَوَيَيْن الاجتماعي والتاريخي - في غاية الأهمية، لأنَّه يَكشِف آلِيَّاتِ التَّحَكُّم بمصادر المعرفة، وكيفيةَ توظيفها في أنظمة المُجتمع الداخلية والخارجية، على صعيد النظرية والمُمَارَسَة، مِمَّا يُسَاهِم في تأسيس نقد ثقافي للوَهْم الاجتماعي الذي يَتَجَسَّد في الجَوْهَرِ والمَظْهَرِ على حَدٍّ سَوَاء، ويَجعل المَعنى اللغويَّ انعكاسًا لحالة اللايقين في إرادةِ المعرفة وأنسنةِ الوَعْي. ولا بُدَّ أن يَقُوم المُجتمعُ على اليقينِ لا الشَّك، مِن أجل توليدِ التفكير الإبداعي، وتَحليلِ بُنية السُّلوك، والحَفْرِ في أعماق اللغةِ، للوُصُولِ إلى مَنْطِق التاريخ - ثقافيًّا واجتماعيًّا -، وهذا يُحَدِّد فلسفةَ أحداثِ التاريخ، وطبيعةَ تأثيرِ السُّلطة التي تقف وَرَاءَهَا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

جزيرة كارباثوس أنموذجا

بقلم: بيرنار فينيي*

ترجمة وإعداد: نجاة تميم

***

أود أن أبدأ باقتباس من كتاب بيير بورديو الموسوم "منطق الممارسة": "العنف الرمزي هو ذلك العنف الذي يفرض خضوعا، لا ينظر إليه كخضوع، وذلك لأنه يعتمد على ما تتوقعه الجماعة من خلال معتقدات مغروسة اجتماعيا. كما أن نظرية العنف الرمزي ترتكز على الإيمان أو على نحو أفضل، على نظرية إنتاج المُعتقد، وعلى عملية التنشئة الاجتماعية اللازمة لإنتاج عوامل تتمتع بأنماط الإدراك والتقدير التي ستمكن المهيمَن عليهم من إدراك الأوامر الزجرية المتداولة التي يجب أن يُطيعونها".

يبدو لي أن إحدى الطرق الجيدة لجعل مفهوم العنف الرمزي مفهوما، هو إعطاء، في الوقت نفسه، فكرة عن المدى المحتمل لمجاله التطبيقي، يمكن أن يكون من خلال تقديم سلسلة من أمثلة ملموسة، ومواقف بسيطة ومتنوعة بما فيه الكفاية حيث يمكن تطبيق العنف الرمزي فيها. سآخذ هذه الأمثلة من مجتمع عملت فيه لفترة طويلة كإثنولوجي وسأطبق ما تعلمته من بيير بورديو، خلال دراستي الجامعية في مدينة ليل. هذا سيجعل من الممكن إظهار تنوع الآليات التي يتم التعبير عنها، داخل نفس المجتمع، لممارسة هذا العنف الرمزي والحصول على خضوع، غير مُدرك على هذا النحو، للمهيمَن عليهم ولكن هذا سيوفر أيضا ميزة التأكيد على الطابع التعسفي للحدود الاثنولوجية| الاجتماعية التي تعد واحدة من أهم العقبات التي تعترض تطوير العلوم الاجتماعية من خلال الحد من تنافس الأفكار داخل المجال العلمي.

جزيرة كارباثوس أنموذجا

كان رجال ونساء جزيرة كارباثوس اليونانية، في بحر إيجة، قد نظموا توريث أملاكهم من جيل إلى جيل، حسب مبادئ، تبدو فريدة من نوعها في أوروبا. حتى خمسينيات القرن العشرين، اتسمت العلاقات العائلية بالهيمنة والاستغلال، مفضلين الأبناء البكر من الجنسين على إخوانهم وخصوصا على أخواتهم الأصغر سنا. فهذه العلاقات تجسد عنفا كبيرا، بحسب بورديو. إن نظام القرابة الذي ينظمهم يتميز بوجود أحقية الابن والابنة البكر في الميراث. على عكس ما كان موجودا في جزء كبير من أوروبا في ظل النظام القديم، كان في هذه الجزيرة وريثان لكل أسرة. يرث البكر من الذكور جميع ممتلكات والده (منزل، أرض، طاحونة، مصلى خاص، إلخ) وترث البكر من الإناث من جميع ممتلكات والدتها. كان هذا النظام يسمح لخطين جنسانيين، الذكر والأنثى، منفصلين بوضوح، بالتكاثر من جيل إلى جيل اثناء إعادة إنتاج وضعهما الاجتماعي؛ حيث يتم نقل الميراث الجنساني (من الجنس نفسه) بطريقة متكاملة إلى الطفل من الجنس المقابل. أما الأبناء الآخرون، فيحرمون من الميراث. وتضطر أغلبية الإخوان الأصغر سنا إلى الهجرة. أما أغلبية الأخوات الأصغر سنا فيبقين عازبات مدى الحياة. يعملن كخادمات أو عاملات في الحقول بدون أجر للثنائي البكر (الأخ أو الأخت).

يمكننا وصف علاقات البكر (ذكرا أو أنثى) بالأصغر سنا بالأدوات المفاهيمية الماركسية: يستغل البكر من كلا الجنسين، وهم أصحاب وسائل الإنتاج (الأرض، إلخ) أخواتهم الأصغر سنا، ولأنهن مضطرات من أجل العيش، فإنهن يقدمن مقابل ذلك جهدهن في العمل (كأيدي عاملة). كان هذا الاستغلال شرسا بشكل خاص مقارنة بالاستغلال الذي وصفه ماركس في المجتمعات الرأسمالية. ففي هذه المجتمعات كان الراتب الذي يتقاضاه البروليتاري مقابل قوة عمله يسمح له على الأقل بتأسيس أسرة وإعالتها. كان للبروليتاريا أسلوبها المستقل في التكاثر البيولوجي. أما في مجتمع كارباثوس، فهذه العلاقات الاستغلالية لم تسمح للفتيات الصغيرات ببناء أسرة. هنا كانت المجموعة المهيمِنة من الأبناء البكر الذين، من خلال استنساخ أنفسهم، وازدياد أعدادهم بيولوجيا، ساهموا، في الوقت نفسه، في إعادة إنتاج المهيمَن عليهن، اللواتي هم في حاجة لخدماتهن.

في كلا النوعين من المجتمع، يتم إعادة إنتاج هيمنة المسيطَر عليهم، قبل كل شيء في المجال الاقتصادي. ولكن إذا كانت التبعية القانونية الاقتصادية للفتيات الأصغر سنا كافية لإجبارهن على العمل من أجل إخوانهن وأخواتهن البكر (بنفس الطريقة التي حكمت بها التبعية القانونية الاقتصادية للبروليتاريين، المستبعدين من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لتوظيف قوتهم العاملة)، فهذا لا يفسر سبب موافقة الأخوات الصغيرات على البقاء في القرية في ظل ظروف استغلال قاسية جدا. والسؤال:" لماذا لم يحذون حذو إخوانهن الذين فروا من الهيمنة العائلية وهاجروا القرية؟

لفهم هذا اللغز، يجب أن نترك موقف العالِم الذي يحلل الأشياء بشكل موضوعي وعن بعد، كما يسميها بورديو "موضوعية"، وعلينا أن نهتم بالأخوات الأصغر أنفسهن، ونعتبرهن أشخاصا، لديهن مشاعر وإرادة، ونتوجه إلى تجربتهن الحية. ونتساءل كيف ينظرن إلى أنفسهن وكيف يعشن أوضاعهن. فإذا بقين في القرية ووافقن على العمل في مثل هذه الظروف، يبدو أنهن لم يرين استغلالهن بهذه الطريقة ( فهن، إذا ضحايا ما يسميه الماركسيون ظاهرة الوعي الزائف)، يعشن حياتهن ويعتقدن بأن مصيرهن أمر مسلم به.

العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

يمكننا الآن إعطاء محتوى دقيقا للمفهوم الذي انطلقنا منه. يشير العنف الرمزي إلى كل ما جعل في هذا المجتمع إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال ممكنا على هذا النحو؛ وبشكل أعم، كل ما جعل الفتيات الأصغر سنا (بصرف النظر عن التبعية القانونية والاقتصادية الصارمة) خاضعات، يعشن مصيرهن كأمر طبيعي، أي شرعي.

هناك، أولا، الوزن الهائل للتقاليد. فهذه الأخيرة هي مصدر قوي لإضفاء الشرعية على التعسف في جميع مجتمعات ما قبل الرأسمالية، (وما زالت قوية في مجتمعاتنا التقليدية وتتجلى في زواج أبناء العم مثلا). يكفي أن يكون هذا السلوك موجودا في الذاكرة الحية ليبدو شرعيا. فالفتيات الأصغر سنا يدركن بالكاد تعسف مصيرهن. لأنه، في جميع الأوقات، هو نفس السلوك المتداول والمتعارف عليه وبالتالي كان يبدو لهن كأنه مصير طبيعي. وبتعبير أدق، كن يجدن صعوبة في إدراك استغلالهن على هذا النحو، ولكي يتمكن من أن يقلن لأنفسهن "أنا مستغلَّة"، يجب عليهن أولا التفكير في مقارنة الأجر الذي يتلقيانه مع العمل المقدَّم. من الضروري أن يكن قادرات على الحساب بمنطق اقتصادي صارم. كان الأمر مستحيلا هنا، لأن الفتيات لم يتلقين أي أجر على عملهن. وغياب دفع الأجور مقابل أعمالهن منعهن من التفكير من منظور اقتصادي بحت، وبالتالي منعهن من إدراك استغلالهن.

لقد أدركت النّسَويات أن مؤسسة الأسرة تخفي كفاءة غامضة ورائعة؛ فالعمل الذي تنفذه هؤلاء الفتيات لا يُدرك أبدا وفقا لمنطق اقتصادي بحت. فهذه الخدمات التي هي اقتصادية بشكل موضوعي وتتم داخل هذه القرية (هنا عمل الفتيات)، تخضع تلقائيا لعملية تحويل حقيقية؛ فإنها تتحول إلى إشارات وإثباتات على الإخلاص أو المودة أو الحب. فإذا كانت مؤسسة الأسرة قد لعبت دورا أساسيا في هذا العنف الرمزي تجاه الفتيات الأصغر سنا، فإن عدم تقدير عملهن اقتصاديا هو إنكار اقتصادي بحد ذاته وهو الذي ساهم في عدم وعيهن بالاستغلال الاقتصادي الذي كن ضحاياه.

أما التأثير الأكثر تطرفا لاستغلالهن هو بقاؤهن عازبات. حُكم عليهن باستثمار كل المودة في خدمة الأخ أو الأخت البكر وأولادهم، لدرجة أنهن يهدين المال، في حالة حصلنا عليه من خلال عملهن عند أسر أخرى إلى أطفال إخوانهن البكر وذلك بكل عفوية وسرور. وهذا يعني مدى تهميشهن الاقتصادي وكذلك العاطفي.

وإذا كانت الأخوات الأصغر ينظرن إلى خضوعهن على أنه أمر بديهي وليس قيدا مفروضا، فذلك يرجع إلى أن نظام القرابة، الذي نظم علاقات القرابة العملية، قد نقش في ذهنهن وبعمق فكرة دونيتهن. كما أن القرية بكاملها تمارس هذا العنف الرمزي في الحياة اليومية. فالفتيات يلقين نفس المصير في كل العائلات، ويمكنهن التحقق من أن مصيرهن مصيرا طبيعيا، وأنه يتوافق مع ترتيب الأشياء في الواقع المعاش. يمكنهن أن يرون أن مصطلح "دولا" ويعني عبدة، كان يُستخدم وبسهولة للإشارة إلى الأخوات الأصغر سنا؛" i doula tis Ernia” " أي عبدة إرنيا.

من المفهوم، لاستئناف الاقتباس المقدم في البداية، أن الأخوات الأصغر سنا "مزودات بأنماط الإدراك والتقدير التي ستسمح لهن بإدراك الأوامر (تلك الخاصة بالأخت البكر على سبيل المثال) مدونة في موقف أو في خطاب وذلك لطاعتها". هذه الأنماط من الإدراك والتقدير، التي تم اكتسابها تدريجيا خلال عملية التنشئة الاجتماعية متعددة الأوجه، هي التي تجعل الأخت الصغرى في كل لحظة وفي كل موقف تعرف ما يجب عليها فعله لأختها البكر، حتى قبل ان تتفوه هذه الأخيرة بذلك.

وكما يقول الكثيرون وبورديو ايضا، فإن جميع المجتمعات التي تمر بعلاقات الهيمنة تميل إلى إضفاء الشرعية عليها من خلال تطبيعها وتأسيسها في الطبيعة. وكان هذا هو الحال أيضا في كارباثوس. كان يُعتقد ان الأخوات والإخوان الأصغر سنا هم (apospori) ؛ منتج السائل المنوي الجنسي ذي النوعية الرديئة.

في حالة العنف الرمزي، بحسب بورديو، كانت المشكلة الاجتماعية (ولكن السياسية أيضا) التي يتعين حلها هي: لماذا يوجد تمرد قليل في عالم ما زال يتسم بالكثير من عدم المساواة والظلم، كما يتضح من علاقات الهيمنة و| أو الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية، بين الرجال والنساء، بين الأبناء البكر والأبناء الأصغر منهم سنا (في المجتمعات ذات الحقوق المكتسبة للأبناء البكر)، بين سكان الحضر والفلاحين، بين الملك والشعب، إلخ.

الجواب الأول على هذا السؤال: يمكن لمن هم في موقع مهيمِن استخدام القوة الجسدية البسيطة أو المسلحة لمنع أي تمرد. فإن الدولة في مجتمعاتنا (Weber) تحتكر الممارسة المشروعة للعنف الجسدي. نحن نعلم أنه ليس من غير المألوف أن تستخدمه لإخماد التمردات الاجتماعية وبالدم.

***

* أستاذ بجامعة ليون

المصدر

Bernard Vernier, «Violence Symbolique, Pierre Bourdieu», les champs de la critique, Colloque organisé par la BPI en actes, Bibliothèque Centre Pompidou, Paris, 2004. pp. 21-42

عصرنا الحالي هو عصر التعددية، لا توجد هناك طريقة واحدة لعمل الأشياء، وانما هناك عدة طرق، لاعقيدة واحدة وانما تنوّع، لا دين واحد صحيح وانما عدة أشكال من الايمان كلها ذات مشروعية متساوية. نحن نستطيع، ويجب ان نعيش حياتنا كما نرغب طبقا لأهدافنا وقيمنا الشخصية وضمن حدود واسعة.

هذه هي عقيدة العديد من الناس. لكن حتى لو وافقنا على هذا البيان في التنوع، هل هناك عدة طرق صحيحة للمنطق؟ هل الأمر متروك لنا في كيفية التفكير المنطقي؟ هل يمكننا التفكير بطريقة او باخرى اعتماداً على ميولنا ومزاجنا ومنظورنا؟

للإجابة على هذه الأسئلة يجب ان نكون واضحين حول ما يستلزمه التفكير. في لب التفكير يكمن المنطق، وهو الموضوع القديم قدم الفلسفة ذاتها، وأحد فروعها الرئيسية. ارسطو اخترع دراسة المنطق سنة 350 ق.م. هو قام بتنظيم نطاق من الحجج المنطقية أسماها القياس "syllogisms"، منها الشكل التالي:

جميع المؤثرون استعراضيون.

جميع الاستعراضيون بلا حياء.

لذلك: جميع المؤثرون هم بلا حياء.

في القياس أعلاه، تكون الجملتان الاولى والثانية هما مقدمة للحجة، والجملة الثالثة التي تأتي بعد كلمة "لذلك" هي استنتاج الحجة، والاستنتاج يتبع المقدمة ومرتبط بها بشكل وثيق. قد يقول قائل ان المثال أعلاه لم يضعه ارسطو، لكنه شكل من الحجة اعترف به ارسطو ووصفه.

ان دراسة القياس شغلت المنطقيين لعدة قرون. من الواضح ان ارسطو اعتقد ان هناك طريقة صحيحة وطريقة خاطئة للتفكير. مختلف انواع القياس التي ناقشها كانت في جوهر منطقه، وبالنسبة له، لا توجد هناك طريقتنان حول المنطق: اذا كنت تعتقد بالمقدمات، من الأحسن لك ان تعتقد بالإستنتاج. وكما ذكر ارسطو في عمله "التحليلات القبلية"، ان القياس هو شكل من الخطاب "جرى فيه افتراض اشياء معينة كـ "مقدمة"، سينتج عنها بالضرورة "استنتاج" وهو شيء مختلف عن الاشياء التي جرى افتراضها ".

لاحظنا ان ارسطو يقول ان الاستنتاج يجب ان يتبع من المقدمة بالضرورة. لا أحد حاليا من المؤلفين له اتصال مباشر مع ارسطو، لكننا متأكدون بثقة انه سيكون مصدوما بالاقتراح ان هناك اكثر من طريقة صحيحة واحدة للتفكير.

غير ان "التفكير" هو صنف واسع. انه يأتي بعدة أشكال، ليست جميعها منطقية. اذا كنت تعيش في ارض جافة كان فيها قليل من المطر في الشتاء، انت سوف تستنتج وبشكل معقول ان الجفاف سيتبع في الصيف القادم لو انه في الماضي جاء جفاف الصيف بعد شتاء جاف. لكن هذا الاستنتاج لا يتبع بالضرورة من المقدمة: الربيع قد يربك التوقعات ويكون رطبا. تفكيرك هنا لا يقدم سببا مؤكدا لا لبس فيه.

اذاً ما هو الشيء الخاص حول التفكير المنطقي؟ نحن نتفق مع العديد من الفلاسفة ان له علاقة بالشكل.

لنحاول التجربة التالية. لو وجدنا شخصا لا يعرف معنى كلمة "حافر"، بعد ذلك نسأله ما اذا كان في الحجة التالية يأتي الاستنتاج من المقدمتين:

جميع ذات الحوفرا ثدييات.

جميع الثدييات ذوات دم حار.

لذلك: جميع ذات الحوافر هي من ذوي الدم الحار.

هذه الحجة مألوفة لطلاب المنطق، ودائما يصلون الى نفس النتيجة. العديد من الطلاب لا يعرفون ما هي "ذات الحوافر" لكنهم جميعا يعترفون ان الحجة صالحة: اي ان الاستنتاج يتبع وبشكل وثيق من المقدمتين: أي اذا كان ما تقوله المقدمة صحيحا، عندئذ الاستنتاج يجب ان يكون صحيحا.

اذاً ماذا يبيّن هذا؟ انه يبيّن ان الصلاحية المنطقية تعتمد على الشكل.

لهذا، لكي نعترف بصلاحية الحجة، يجب ان نعترف انها تمتلك شكلا منطقيا صالحا، ولا نحتاج معرفة أي شيء آخر.

لذلك، فان المنطق هو شكلي. هو ايضا، وبالمعنى الدقيق للكلمة، ليس نظرية للتفكير. التفكير هو شيء ما نقوم به، اما المنطق هو حول ما تتبعه العبارات من اخرى غيرها. العلاقة المنطقية بين البيانات او العبارات تصمد (او لا تصمد) سواء أحببناها ام لا، المنطق ليس تعبيرا عن مركزية الانسان. وعندما نفكر جيدا، ينبغي ان نحترم مضامين المنطق. اذا كانت بعض المقدمات المعقولة تتضمن منطقيا استنتاجات غير معقولة، سيكون لدينا خيار: اما نقبل بالاستنتاج او نتخلى عن احدى المقدمات.

اذاً ماذا هو المنطق: انه شكلي، وهو متميز عن التفكير، حتى عندما يحاول التفكير الجيد احترام المنطق. الآن نعود الى سؤالنا الأصلي: هل هناك منطق واحد صحيح ام هناك أكثر من واحد؟

إمكانات منطقية

قد يبدو هذا سؤالا غريبا. كل واحد ربما سمع بالمنطق لكن ليس الكثير من المنطق. لنبدأ بالتفكير حول لماذا قد يكون هناك الكثير من المنطق. طلاب المنطق لا يتعلمون فقط حول ذوات الحوافر، هم ايضا يتعلمون مبادئ منطقية مختلفة مثيرة للجدل تسبب ارتباكا. احد المبادئ الذي لا يرغبون العمل به هو التكافؤ الثنائي bivalenc: وهي الفكرة بان كل جملة هي اما صحيحة او زائفة. هم يحتجون قائلين كلّا، لأن هناك عدد هائل من الأمثلة لاتدخل ضمن هذه الثنائية الصارمة. لو قال احد ان "فيلم قوة الكلب هو فيلم جميل"، بالتأكيد انه لم يقل شيئا صحيحا او زائفا، بل، انها مسألة رأي – ونفس الشيء بالنسبة لمسائل الذوق الاخرى، مثل "هذا بيرغر طيب المذاق". ربما اللغة الاخلاقية تسير بالضد من التكافؤ الثنائي. هل القول "إيذاء الكلب عمل خاطئ" هو قول صحيح ام زائف؟ ام انه بدلا من ذلك يعبّر فقط عن عدم موافقة المتكلم على إيذاء الكلب؟ اذا كان الامر هكذا، فالامر يبدو مرة اخرى وكأنه مسألة ذوق.

لو تمعنّا في أي من هذه الامثلة سوف نرى ان التكافؤ الثنائي لا يصمد دون استثناء. لكننا نريد المنطق ان يصمد دائما دون استثناء، ولهذا، التكافؤ الثنائي لا يمكن ان يكون مبدأ للمنطق. احدنا ربما يعتقد ان هناك طريقة ثالثة تكون فيها الجمل غير تلك الـ صحيحة و زائفة، وربما هناك طريقة رابعة او عدد لا متناهي من الطرق.

مهما كانت الطريقة التي نختارها، نحن نبني منطقا يتناسب مع حاجاتنا. كمبتدئين منطقيين، نحن سوف نتعلم ان التناقضات لا يمكن ان تكون صحيحة ابدا حتى عندما نعتقد ان السماء " تمطر وانها لا تمطر" كوصف معقول تماما للرذاذ. نحن سوف نتعلم ان التناقضات تنفجر وتتضمن أي شيء وكل شيء.

أول منطق يتعلمه كل شخص – والذي يتضمن كل هذه المبادئ المثيرة للخلاف – يسمى المنطق الكلاسيكي. الاسم يحمل شعبية عالية، اسم يضع هذا المنطق في مصاف المجموعة الراقية للموسيقى الكلاسيكية او الطبخ الفرنسي الكلاسيكي. لكن المؤيدين للمنطق غير الكلاسيكي سيكونون سعداء للتأكيد، انها ليس اكثر من مصادفة تاريخية انتهينا بالمنطق الذي لدينا. هم ربما يضيفون ان هناك عدة انواع من المنطق في السوق جميعها ترفض جزءاً من المنطق الكلاسيكي المشكوك فيه. أي واحد منها يجب ان نستعمل؟ ربما نستطيع استعمال جميعها، او على الاقل عدد منها. ربما نستطيع التفكير كلاسيكيا معظم الوقت، ولكن ليس كلاسيكيا عندما نشعر بالرغبة في عمل ما. هذا هو الخط الذي سلكه التعدديون المنطقيون. دعْ آلاف الزهور تتفتح، لا حاجة للاختيار من بينها.

لكن، موقف التعدديون المنطقيون هو موقف حساس. هم يريدون الجدال لرؤيتهم، لكن أي وسيلة يستعملون للقيام بهذا؟ الحجة هي، في النهاية، مجال المنطق، وما هو منطقي هو بالضبط ما هو قيد النقاش.

التعددية المنطقية والنسبية الاخلاقية

هذا الموقف ربما يبدو مألوفا. ذكرنا آنفا الإنكار المحتمل للحقائق الاخلاقية. ومع ان هناك عدة طرق لتطوير تلك الرؤية، لكن المسار الذي استعمله الكثيرون هو النسبية الاخلاقية، حيث وفقا لها تكون الادّعاءات الاخلاقية ليست صحيحة ابدا" من تلقاء ذاتها" – وانما انت يجب ان تحدد المعيار الفردي او الاخلاقي الذي بواسطته يمكن تقييم الادّعاء. انه ليس فقط "هذا او ذاك هو حقا صحيح او خطأ"، وانما "طبقا لهذه الثقافة او هذا الفرد، هذا او ذاك هو صحيح او خطأ". النسبية الاخلاقية تواجه عدة مشاكل، ولكن واحدة من أهمها هي انها تبدو تتجاهل ذاتها. انها تقول ان الادّعاءات الاخلاقية هي صحيحة فقط طبقا لثقافة معينة او فرد معين. لكن بيان النسبية الاخلاقية هو ذاته ادّعاء اخلاقي، وعالمي،ايضا. لذا هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير غير النسبية: ان النسبي الاخلاقي يريد من النسبية الاخلاقية ان تكون صحيحة بالمطلق، وليس فقط نسبية. هم يريدون وبإصرار القول ان "كل ادّعاء اخلاقي هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير النسبية، باستثناء هذا المعيار. لكن هذا نوع من الاحتيال.

ماذا يمكن ان نتعلم من قصة النسبية الأخلاقية هذه حول المنطق؟ نحن نرى موقف التعددية المنطقية مماثلا للنسبية الاخلاقية. التعددي المنطقي يعتقد ان موقفه صحيح وهو يريد اقناعنا بذات الشيء. لكن اذا اراد اقناعنا، هو سيحتاج الى تقديم حجة. وان تلك الحجة يجب ان تكون صحيحة. لكنه يقبل بالعديد من انواع المنطق، ويعتقد فقط ان الحجة صالحة قياسا للمنطق المُختار. لذا هو يحتاج القول: "كل حجة هي صالحة فقط طبقا لمنطق مختار، باستثناء حجة التعددية المنطقية". وهذا احتيال ايضا.

هذا التشابه ربما غير مدهش كثيرا. النسبية الاخلاقية توصف عادة كنوع من التعددية. النسبي الأخلاقي يريد ان يدع آلاف الزهور تتفتح. والتعددي المنطقي يوصف عادة كنوع من النسبي. هو يريد تقييم ما اذا كانت الحجة صالحة قياسا بمنطق أخلاقي معين. لذلك نحن نتوقع حججا ضد نظام منطقي معين لنجد ما يقابلها من الحجج ضد الآخر(والمسألة تُعمم لأشكال اخرى من النسبية/التعددية ايضا).

أين يقودنا هذا؟ اذا لم تكن التعددية المنطقية خيارا، عندئذ نحن يجب ان نختار واحدا من انواع المنطق، وندافع عنه باعتباره المنطق الصحيح. السؤال القادم: اذا كان هناك فقط منطق واحد صالح، فما هو؟ هذا السؤال ربما سيكون موضوعا ليوم آخر.

***

حاتم حميد محسن

...............

One logic or many? Philosophy Now, Feb/March 2023

 

يهدف هذا المقال إلى توضيح العلاقة الجدلية بين الهوية واللغة وكيف تساهم اللغة في إيجاد تلك العلاقة بينهما على اعتبار أنه لا هوية بدون لغة وإنتاج فكري ولا ثقافة بدون هوية، ولا حضارة بدون هوية ثقافية كونها ينبوع الحضارات (إن جاز لنا التعبير). بذلك ستنحصر مناقشتنا للأفكار المطروحة أعلاه من خلال تناول المفاهيم التالية والعلاقة القائمة بينها بالدراسة والتحليل، وهي كالآتي:

عرف مفهوم الهوية انتشاراً واسعاً، حيث اكتسح في وقت قصير العلوم الإنسانية وخاصةً الاجتماعية، وفرض نفسه في تحليل حقائق متنوعة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفاً متوافقاً عليه لمفهوم الهوية. وقد أثبتت الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة ما مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية، والنفسية، والمعيشية، والتاريخية المتماثلة، التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم.

وفي حقيقة الأمر يعاني مفهوم الهوية من مشاكل عديدة، فمن صعوبة الحديث عن الهوية مثلاً، أنه حديث الذات عن نفسها. لذا فإن مشاعر الهوية مشاعر دفاعية ضد إرادة السحق التي يبديها الآخر، كذلك لا يمكن فصل الهوية عن الحركية الاجتماعية، وما يجري فيها من تدافع وصراع. وهنا تتداخل حدود الهوية والسلطة والإيديولوجيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الهوية ؟

في البداية يجب أن نشير أن المقصود في هذا العنصر هو الهوية الثقافية لجماعة بشرية معينة، ذلك أن جوهر الهوية الجماعية هو الثقافة بذلك فإن الهوية الجماعية تستمد ملامح مقوماتها من ثقافة المجتمع على اعتبار أن الثقافة تشكل المجموع المنسجم والمستمر للمعاني والرموز المكتسبة المشتركة التي تعمل الجماعة على توصيلها وإعادة إنتاجها من خلال مختلف القنوات التي تنسجها من أجل هذه الغاية. أما عن مفهوم الهوية فهو لفظ تراثي قديم، معناه أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، أي ليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية. وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق. وهو نقيض الغيرية وقد تكون الغيرية نسبية وليست كلية لتحدد انحراف الهوية. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة.

ويشير المعنى العام للكلمة إلى الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز به الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات، ومن قيم ومقومات. أي حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره وتسمى أيضاً وحدة الذات.

ومفهوم الهوية خاص بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، وهي موضوع إنساني خالص أي ظاهرة إنسانية، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، وبين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل. وهذا يعني أن الهوية هي إحساس الفرد أو الجماعة بالذات، إنها نتيجة وعي الذات، بأنني أو نحن نمتلك خصائص مميزة ككينونة تميزني عنك وتميزنا عنهم. فالطفل الجديد قد يمتلك هوية ما عند ولادته من خلال اسمه وجنسه وأبوته وأمومته ومواطنته، وهذه الأشياء في كل حال لا تصبح جزءاً من هويته حتى يعي الطفل نفسه بها.

وعلى الرغم من أن الهوية موضوع ميتافيزيقي فإنها مسألة نفسية وتجربة شعورية فالإنسان قد يتطابق مع نفسه أو ينحرف عنها في غيرها. الإنسان الواحد ينقسم إلى قسمين: هوية وغيرية، أو يشعر بالاغتراب إن مالت الهوية إلى غيرها أو انحرفت عن ذاتها. فالاغتراب لفظ فلسفي والانحراف لفظ نفسي. والهوية أن يكون الإنسان هو نفسه متطابقاً مع ذاته. والهوية خاصية للنفس لا للبدن، هي حالة نفسية وليست حالة بدنية.

يمكن لنا تعريف الهوية: بأنها الخصوصية والتميز عن الغير أو مجموعة من المميزات التي يمتلكها الأفراد، وتساهم في جعلهم يحققون صفة التفرد عن غيرهم، وقد تكون هذه المميزات مشتركة بين جماعة من الناس سواءً ضمن المجتمع. أو أنها كل شيءٍ مشترك بين أفراد مجموعة محددة، أو شريحة اجتماعية تساهم في بناء محيط عام لدولة ما، ويتم التعامل مع أولئك الأفراد وفقاً للهوية الخاصة بهم.

وفي النهاية يمكننا القول إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية الأخرى.

وفي سياق الموضوع، يذهب علماء اللغويات إلى أن اللغة منظومة علامات أودعها مِراسُ الكلام في الجمهور المتكلم، وأن المنظومة اللغوية ناتجة عن تبلور اجتماعي، وأن الطبيعة الاجتماعية هي طابع داخلي للمنظومة، وإنه لا توجد حقيقة لسانية خارج الديمومة والجمهور المتكلم. وإن الزمن وحده يأذن للقوى الاجتماعية بممارسة تأثيراتها على اللغة.

تعتبر اللغة العامل الضروري الملازم لكل إنجاز تنموي، بما أنها موضوع للتعليم وللبحث، كما أنها ركن أساسي في كل مشروع اقتصادي فهي ليست مجرد أداة للتعبير يمكن أن نستبدل بها أي أداة تعبيرية أخرى. لذا فاللغة هي المعيار الحقيقي الذي يتشيد به الفكر ويستقيم.

ويجب أن نعلم قبل الدخول في خضم الموضوع عن علاقة الهوية باللغة أنه لا هوية بدون لغة وإنتاج فكري ولا ثقافة بدون هوية، ولا فكر بغير مؤسسات علمية متينة، ولا علم بغير حرية معرفية، ولا تواصل ولا تأثير إلا بلغة وطنية تضرب جذورها في التاريخ وتلبي حاجة الحاضر والمستقبل.

أما عن مفهوم اللغة فهي ظاهرة اجتماعية واصطلاحية بامتياز تستند إلى مكونين متلازمين، الأول حسي والثاني ذهني غير مادي. ويمكن لنا تعريف اللغة بأنها نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة، وتعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطن. أو هي عبارة عن رموز صوتية لها نظم متوافقة في التراكيب، والألفاظ، والأصوات، وتُستخدم من أجل الاتصال والتواصل الاجتماعي والفردي.

يؤكد خبراء العلوم الإنسانية أن ثمة أربع مسلمات أساسية ينبغي استحضارها عن عند معالجة مسألة اللغة، وهي كالآتي:

- اللغة وعاء الفكر وأداة التفكير.

- ووسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي.

- وعنوان الهوية للفرد وللمجتمع.

- وترتبط اللغة بالثقافة والقيم الحضارية.

ولذلك تقوم اللغة بأربع وظائف أساسية بحسب العلماء المختصين في علم اللغة: فالأولى هي وظيفة التواصل مع الغير، والثانية هي وظيفة تمثل الكون لأنفسنا في عقولنا، والثالثة والرابعة هما الوظيفتان الوجدانية والأدائية، وهما مرتبطتان بالبحث عن تأويل المعنى، بحسب السياق ومقام الخطاب، ومن ثم، فإن اللغة لا تقتصر على التواصل بين البشر فحسب، وإنما تشكل أساس الوجود الإنساني، إنها تشكل القانون الأول الذي يفرض نفسه على كل فرد داخل المجتمع خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوده إلى الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. وعبر اللغة والثقافة، يتبادل الخضوع للقانون، مقابل الحصول على الهوية في إطار علاقة الجزء بالكل.

بذلك تكون اللغة هي من ولّدت الهوية، لأنها تجرد عالم التجربة إلى كلمات والالتقاء باللغة يجعلنا نتعالى عن التجربة الآنية، وما يمكننا من تشكيل تصور للذات. فالهوية مسألة لغوية في جذورها، ولذلك تُفهم ظاهرة الهوية بوصفها ظاهرة لغوية.

إن اللغة هي الأساس الذي يقوم على مِخْيَال الأمة، ومن هذا الجانب نفهم أهمية اللغة المعيارية، وضوابط التأويل في لغة الخطاب، وهكذا، فإن المنظومة اللغوية هي بمنزلة بيت الكائن البشري، فيها ينظم أمور معاشه، ويخزن رموزه وثرواته. إنها تؤويه وتحفظ أسراره. ومن مشكاتها يرى العالم ويدركه. وهذا جعل الأديب الفرنسي ألبيرمو كامو، إلى أن يقول نعم لي وطن، إنه اللغة الفرنسية. ويقول الألماني هيدجر إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها انظر إلى بقية أرجاء الكون.

ولا شك اليوم في أن الصلة وثيقة بين الهوية واللغة، وإن كان الجدل قائماً حول طريقة تبادل التأثير. فالمشكلة لا تكمن في ارتباط الهوية باللغة بحد ذاتها، بل تكمن في التعامل مع طريق ذات اتجاهين كما لو كانت طريقاً واحداً، فهناك من العلماء سخر كل اهتمامهم لمعالجة الكيفية التي يجري بها تشكيل اللغات الوطنية للهويات الوطنية. ولم يهتموا قط بكيف تشكل الهويات القومية. وهو ما تقوم به في الواقع بشكل عميق.

ولذلك لا توجد لغة محايدة، وكل لغة لقيم، وحامل لروح، فهي وسيلتنا لفهم العالم وتمثيله في أذهاننا وللتواصل مع الآخرين. وبقدر تعدد اللغات تتعدد تمثلاتنا للوجود. إن اللغة تنظم طريق حياة الجماعات والأفراد وتشكل عاداتها أسس العالم الواقعي، فنحن نرى ونسمع ونعبّر بالشكل الذي نرى ونسمع ونعبر به لأن عادات الجماعات اللغوية قد هيأت لنا سلفاً اختيارات معينة في التفسير. وهذه العادات تختلف من جماعة لأخرى، وما من أمة إلا وتتكلم بالشكل الذي تفكر به، وتفكر بالشكل الذي تتكلم به. فهي ترسخ تجاربها في لغتها، بما في ذلك التجارب الحقيقة والتجارب الخاطئة التي تنقلها إلى الأجيال اللاحقة.

وباللغة أيضاً يدوم المتخيَّل الجماعي، وتصاغ المؤسسات قبل أن تترجم إلى سلوكيات، ويُنقل المعيش اليومي أو يصاغ شفهياً أو كتابياً، أو يتخذ موضوعاً للتأمل أو ينقل كما هو، بوصفه شكلاً من الفكر المقولب. كذلك في التنشئة الاجتماعية للطفل، وتُنقل الظاهر الثقافية داخل الأشكال اللغوية الموافق عليها من قبل الجماعة. وهكذا فإن اللغة تكيف المواقف، وتعد سلفاً الأفراد والجماعات للفعل ولرد الفعل، وللتفكير بطريقة محددة.

واللغة هي التي تنتقل الأفراد من جماعة بشرية إلى مجموعة ثقافية، وهذا على وجه التمحيص يعني أن الرابطة اللغوية أقوى من الرابطة السياسية، لأن الجماعة البشرية إذا ترابطت سياسياً كونت مجموعة وطينة، وهذا لا يقضي بالضرورة إلى التجانس الثقافي قد قام فعلاً بين أفراد المجموعة بمجرد الانضواء تحت الرابطة السياسية الواحدة. والتاريخ القديم ومنه المعاصر والحديث مليء بالشواهد الدالة، ويكفي أن نتبين كيف انفلقت كيانات سياسية كان يُظن أنها التحمت بمجرد انصهارها في سياج الدولة السياسية. ولكن سلطة الثقافة كانت أقوى فتفتت المنظومة إلى أثنية ثقافية شأن ما حصل في يوغسلافيا، وفي تشيكوسلوفاكيا، وفي ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي. أما الشاهد المضاد والذي يبرهن على أن السياسة والاقتصاد والإيديولوجيا هي جميعاً أضعف من الثقافة المتجانسة ومن اللغة المشتركة ومن التراث الفكري الواحد فهو توحد ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.

أما فيما يتعلق بالهوية الإسلامية نجد أنها هوية متميزة عن غيرها تمتلك مقومات وجودها والحفاظ على ثقافتها وخصوصيتها. ومن الجدير بالذكر أن الهوية الإسلامية تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته فهي تامة الموضوع محددة المعالم والملامح، بالإضافة إلى إنها واضحة الهدف والغاية، فهي تمتلك مقومات وجودها وبقائها، وتنحصر تلك المقومات باختصار شديد بالعقيد الإسلامية كمرجع أو مصدر أساسي لمختلف شعوب وقوميات وأمم العالم الأخرى الداخلة بالدين الإسلامي، بالإضافة إلى اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي تعتبر عامل يجمع ويشمل جميع المسلمين على اختلاف قومياتهم وأعراقهم فكل مسلم عربي بالضرورة فلا يحتاج المسلم لأن يكون عربياً في النسب حتى تكتمل عروبته في نظر الإسلام، كما يلعب التاريخ المشترك، والتراث الحضاري ( الذي ينحدر من خصائص أمة من الأمم المتفاعلة مع البيئة التي نشأت فيها ) دوراً أساسياً في تحديد ملامح تلك الهوية، مما يشكل الوحدة الثقافية المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية النابعة من المقومات الأربعة السابقة، وأخيراً التكوين النفسي المشترك (الأخلاق، العادات والتقاليد، المشاعر، والأحاسيس، والأعياد، ومناسبات الأفراح والأحزان، ... إلخ) التي كان للدين الإسلامي الفضل والدور الأعظم في تشكيلها وصقلها وتهذيبها.

وهكذا نجد أن الهوية الحضارية لأمة من الأمم هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الأمم والحضارات، حيث تعتبر اللغة بعد العقيد الدينية بطبيعة الحال المكون الهام والمفصلي للهوية الثقافية والحضارية، فهذه تكاد تكون بديهية، لأن اللغة ثقافة وحضارة وليست فقط أداة تواصل، إنها ليست مجرد أداة للفكر، بل هي الفكر ذاته وهي مرشحة بالتالي لأن تشكل إحدى أهم الهويات للفرد المعاصر المتعدد الهويات، بل إن الهويات الأخرى تصاغ بواسطتها.

ختاماً، نقر بوجود علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة، بحيث يتعذر الفصل بينهما، إذ إن ما من هوية إلا وتختزل ثقافة، وقد تتعدد الثقافات في الهوية الواحدة، كما أنه قد تتنوع الهويات في الثقافة الواحدة، وذلك ما يعبَّر عنه بالتنوع في إطار الوحدة، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة، تمتزج عناصرها، وتتلاقح مكوناتها، فتتبلور في هوية واحدة، وعلى سبيل المثال، فإن الهوية الإسلامية تتشكل من ثقافات الشعوب والأمم التي دخلها الإسلام سواء اعتنقته أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها، فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية وتلاقحت معها، العربية الإسلامية، فهي جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية، وهي بذلك هوية إنسانية، متفتحة، وغير منغلقة.

كما تجسد العلاقة بين الهوية والثقافة، علاقة الذات بالإنتاج الثقافي، ولا شك أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة، دون الخوض في الجدال الذي يذهب إلى أسبقية الذات على موضوع الاتجاه العقلاني المثالي، أو الذي يجعل الموضوع أسبق من الذات، وإن كل ما في الذهن هو نتيجة ما تحمله الحواس وتخطه على تلك الصفحة (ذهن الإنسان) كما يذهب لوك، والاتجاه التجريبي بشكل عام.

خلاصة القول، إن الذات المفكرة تقوم بدور كبير في إنتاج الثقافة، وتحديد نوعها وأهدافها وهويتها في كل مجتمع إنساني وفي كل عصر من العصور، وبناءً على ما سبق فإنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الهوية الثقافية، فالهوية الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كما تختلف باختلاف التوجهات الفكرية والإيديولوجية لمنتجي الثقافة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

لقد عبر الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل هيراقليطس ربط الزمن بالمكان، والتفسير على أنهما واحد يعرف الأخر، وهنا قد يحدث خلط بين الزمن والزمان، اذا فسر المكان الزمن وحدث العكس، واما ارسطو في كتابه الرابع – فيزياء ارسطو- قد واجد تعريفا للزمن على أنه عدد من التغيرات، والتي تستوجب الأخذ بالاعتبار حالة الزمن قبل وبعد تلك التغيرات، وبعد التطورات وطروحات المثالية عند كانت والوجودية وما تلاهما من تفكير فلسفي مؤطر بالعلم، وليس محض فلسفة، وقد قدم غاستون باشلار دراسة مهمة في تفسير وتحليل بنية الزمن فلسفيا ونفسيا، فصارت العلاقة بين الأنسان والزمن بوجهة نظر معاصرة، واصبح هنا ثمة علاقة في اطار التأثر والتأثير بشكل متبادل بين الإنسان و وحدة الزمن، ودخلت تلك الوحدة في الحاجة الإنسانية الملحة، وخصوصا في الالكترونيات،

حسب التقديرات العلمية الحديثة شكل عامل اختصار الزمن حالة مرعبة من جهة القلق الإنساني، حيث كانت قد ادت ادنى نسبة من اختصار الزمن في السلاح الذري الى ابادة مدينة واخرى من مدن اليابان، وفي ذات السياق اشار احد العلماء، بأن اختصار الزمن بنسبة تقارب عشرة بالمائة تكفي لإبادة ثلثي العالم، ومن تأتي الخشية الإنسانية الكبرى، والتي هي منحسرة في حدود الثقافة الاخلاقية، ومعطيات المنهج العلمي بذات مجال تلك الثقافة الاخلاقية، واذا كان العالم قد انحرف بالتدريج عن الحقيقة من خلال ما اتاحت له ما بعد الحداثة، ففقد الخصمان هيبتهما، واصبحت كل من الرأسمالية والشيوعية في وضع هش وخالي من الرصانة، وساعد ايضا في توسيع تلك الهشاشة التحولات التي مرت بها الكنيسة من تطورات ليبرالية داخل المضمون الاجتماعي، وكان ذلك من جهة، واما الجهة الاخرى فقد مثل التخلي عن القيم السمحاء للدين الاسلامي احد المخاوف الكبرى، وتحول ذلك الدين السمح الى غول سياسي يقصي من يقف بالجهة المقابلة، وصراحة وضع العالم في السنين التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، اصبحت الحياة بصورة اخرى معيبة جدا، وصراحة صار هناك نوع من الفراغ الهائل في المستوى الجوهري .

هناك دراسة مقارنة ما بين المكون الاجتماعي في كوريا الجنوبية والمكون الاجتماعي في ارمينيا، وكانت النتائج تشير الى فارق كبير لدخل الفرد في كوريا الجنوبية مقارنة بالرفد في ارمينيا، لكن نسب الانتحار في كوريا الجنوبية تفوق كثيرا نسب الانتحار بأرمينيا، وهذا المثال بدلالة مهمة، فنحن نشعر بأن مساحة الخواء الروحي تتعاظم، ويعني هذا بأن جوهرنا الإنساني قد مر بمرحلة الخطر الحقيقي، وفارق كبير ما بين زمن الخواء الجوهري وما بين زمن الاستعداد النفسي، وتلك القضية تشكل خطورة واهمية، فهي ( رؤية روحية تغير الواقع وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره)1، وبصراحة نحن نضع جل اهتمامنا على الواقع العضوي وتعددات افاقه، فيما جوهرنا الإنساني مهمل الى حد ما، فيما من الضروري جدا وجود نوع من التوازن ما بين المظهر والجوهر، ونحن نثير احد الأسئلة بغاية معرفية، فقد اشار التاريخ الى وجود ناس في لندن يذهبون الى البحر وينتظرون المخلص الروحي، وطبعا هذا ليس على المستوى الديني، بل على المستوى الإنساني، وصراحة الدين لا يحتاج دعم منا بقدر ما يحتاج منا دعم انفسنا، وعلاج الخواء لابد من سبيل اليه .

إن صورة ما سرد المعنى قد تكون صراحة ضيقة جدا في تفسير الزمن، وهنا نحصر مقصدنا في ما نسميه الفضاء الفيزا حسي، والذي نحتاج منا مراجعة لظروفنا وحياتنا واحوالنا، حتى نبلغ ادراك فكرة مهمة ازاء الزمن، حيث هناك وحدة زمن كامنة في تلك الصورة، وأخرى بانه عبر فعل الزمن، زمن العالم، وهو في السياق التقليدي يكون زمنا ثابتا بمراحل التتابع الحركي (زمن فيزيائي)، وهذا الزمن مرتبط بالثبوتيات، مثل المكان المحدد وطبيعة الحياة المعتادة، حيث لا يتغير إن قربناه إلى كيان معمارية الحدث داخليا أو خارجيا، ويبقى زمنه متمثلا بفيزيائيته، والبشرية أيضا في ارتباط حركتهم وأفعالهم وأمكنة وظائفهم أو ما يماثل ذلك، وهنا يكون العامل البشري وحدات فيزيائية تتحرك عبر فعل السرد المحدد وحدة الزمن، لكن ثمة زمن اخرى هو ذلك الكامن في الصورة وعلينا اكتشافه والتقرب من مقومات وابعاد ذلك الزمن، الذي هو كامن في تفسيرنا العضوي، لكن على العكس من ذلك، وكما الارض نبصرها ثابتة وهي تتحرك وتدور .

أن التنويعات الزمنية لم تدرس في المناهج الاخلاقية بشكل يثير الاهتمام والتوضيح المفيد بشكل عام، وبقيت تلك التنويعات محصورة في التفسيرات الفلسفية، والتي تحتمل القبول النسبي، او الرد النسبي من اطرافها، فروح التعارض الأفلاطوني موجودة بشكل واضح لدا الفلاسفة في جميع العصور، وقد تطورت مقولات فلسفية في اطر دراسة تلك التنويعات الفلسفية، فمن ارسطو والى اليوم نشهد تدفق مقولات فلسفية، وقلما شهدنا متن منهجي متكامل، قد درس عنصر الزمن دراسة علمية ومعرفية، والعالم في اختلاف الزمن بشكل موضوعة اخرى، وينحرف عن المسار العام للتفسير، ومشكلة العالم في ذلك الخواء الزمني التاريخي، والحياة تشاركه ايضا في الشكل المنطقي الخالص، والبعد الموضوعي الاعتباري، وبالأداء الذي يفيد اكثر من طبقة او مذهب خاص، وتتوسع تدريجيا لتبلغ ضفة العموم، ولابد للخواء الروحي من علاج، ولا نقول هو بذات الطعم الذي استساغه سقراط بإرادته، ونحن في افقنا البشري ننجح في تحقيق ما تنتخبه انفسنا، ونفشل تماما في معالجة الثغرة الكبيرة الواسعة، والتي تتفاقم اكثر فأكثر .

نحن لا نفكر بصدق بقاعدة الزمن، والفارق بيننا وبين مثال العالم الارجح في وحدة الزمن، فكيف يمكن أن نقف قبالة من يخترق الزمن، ونحن لا نمتلك ادنى قدرة لذلك، وكما أننا ابدا لا نستطيع ذلك، بل ليس هناك أي دافع غريزي لذلك، وهناك اهمال واقعي كبير لما نشعر به من خواء جوهري، ومن منا استطاع التخلي عن نفسه وغريزته لمعناه الحس انسانيا وجوهره النبيل، ، ومن اجل تفسير افق الزمن اوضح، نعود في افق التاريخ نحو حادثة، تعطينا تفسير مهم ازاء الزمن، ودلالة في حادث عاشه النبي محمد ذلك عندما ارادت زوجة النبي أن تمنطقه أي تشد له حزامه، فأتى الحزام بيدها فبهتت، فقال لها النبي الم تعلمي أني من نور، ونحن لا ننظر لتلك الحادثة من افق ديني عقائدي، بل نريد التلميح الى قضية الفارق الزمني، فمن منا يشد حزامه ولا يثبت الحزام في مكانه تماما، والزمن بوصفه احد امثلة التي خارج التسلسل في السيرورة، فهو يكتسب تلك الصفة ويمكن أن يكون فيها النبي من نور، ويتحرك بسرعة الضوء، ويمكن أن يتحرك مثلتا بشريا .

يشكل تفسير فلسفة الزمن للدين من الجانب الفكري ذلك الامر المعقد بنسب معينة، لكن الجهة المقابلة هناك الشواهد العصيبة على العقل والتاريخ، لكن هي حقائق معنوية جديرة، فقد ورد في النص القرآني كيفية حالة الاسراء التي مر بها النبي، فكانت رحلة عبر اختصار الزمن والتاريخ والمعنى، وهكذا خطاب يحتاج الى عقل جدير ليفسره، فالنص ازاح الواقع العلمي، ودخل في ما وراء الواقع والعقل، لكن ذلك السفر عبر اختصار الزمن يمتلك اوقع من جهة وهي ذات النبي، فيما يمتلك معنى فوقيا احتوى ذلك الواقع الذي تمثلت فيه ذات النبي، ويمكن تفسير وحدة الزمن بأنها مرت فيما لا يمكن تفسيره الا من داخل متن النص، فالمكان ليس بمكان والزمان لا هو بزمان، واذا كانت سدرة المنتهى هي الدليل على المكان، فالمكان لا يوجد في الخاطر البشري، والتأسيس له لابد أن يكون معادلا له، ونحن هنا لسنا ضد تحجيم النص دينيا، وايضا لسنا مع ذلك الرفض الايديولوجي، وعلى العقل استيعاب الفكرة معرفيا وامتلاك الجدارة لأجلها ايضا .

من الطبيعي ثمة فلسفة للزمن اقتربت منها الخرافة والاسطورة، وقد ابتعد عنها كثير الواقع العضوي، بل حتى تنكر لها المنهج العلمي بنسب واضحة، لكن التاريخ لا يمكن أن ينكر او يلغي مروره بالكثير من الحوادث التي تمثل احد وجوه الخرافة او الاسطورة القديمة، ونجن نفرق بين الاسطورة القديمة والاسطورة الحديثة وهذا امر لا بد منه، فالعقل لا يتبع الظواهر دون تحديد وتعيين لها، نحن قد فصلنا ما بين اسطورة تنتمي الى عالم الخرافة، واسطورة تنتمي الى عالم الحقيقة، وصراحة مسألة التحديد ترتبط بالعقل اكثر مما هي ترتبط بالواقع، ولا نقف عند الحقيقة الشكلية فقط، فتلك الحقيقة تمثل نفسها ولا تمثل الحقيقة الكلية، ولابد بأن نفهم موقع العقل الجدير هو في جوهره، لذلك نجد ( بأنه يبحث في داخل نفسه، داخل افكاره، وخارج العالم )2، ولابد من فهم ذلك الترجيح وادراك اهميته في المنهج العلمي، ولابد من اعتراف العلم بمهمة العقل حتى لو كانت شاقة، فلولا العقل لما وجد العلم، ولولا الفلسفة ما ادرك العلم قيمة الزمن .

نحن لا نتفكر مليا بصيغ الزمن، ولا نعلم اذا قدر لنا اختصار الزمن نكون قد دخلنا في فضاء اللاممكن، فزوجة النبي التي اتى الحزام بيدها بقت في دهشة واستغراب، وذلك كون عقلها في حدود الممكن، والنبي الذي في السفر عبر الزمن في عالم الاسراء عبر حواجز الممكن، بل حتى غير الممكن ايضا اصبح منطقة سابقة، والعالم السفلي انتهى وجوده بالنسبة للنبي حين تجلى له العالم العلوي، ومر بسدرة المنتهى، أي ينتهي عندها العالم الفيزيائي، ولن يمتلك احد ولو جزء من تلك الطاقة التي توفرت للنبي عبر ارادة الخالق، وفكرة تقابل الممكن واللاممكن في الفلسفة مقبولة، ونعتقد اخر ما طرحه هيدغر من امكان وجود للاممكن في خانة الامكان، فما من عقل بشري لا يستمد ابدا من وراء العقل، وعدم الاستعانة بما وراء العقل يدل على وجود عقل كامل، وهذا يتنافى مع الحقيقة المرتبطة بتلك الفكرة، فالمعتقد الايديولوجي يعارض ما يتنافى معه، وهذا اخلا في المبدأ، ونحن نحتاج علمانية ليبرالية وليست ستالينية، وايضا نحتاج اسلام ليبرالي، ونقف ضد الاسلام المسلح، ونحن نتحدث على مستوى النظرية والموضوع، ولا نتحدث على مستوى الايديولوجيا، والعقل الحر يحاور جميع الجبهات، وعليها القبول بالحوار .

تشكل فلسفة اختصار الزمن احد المعضلات التي تواجه العقل البشري، ولكن هي تعمل لصالح التفكير المباشر للبشرية، والوجود البشري لو تحكم بوحدة الزمن لحدث مشاكل كثيرة، ولدينا دليل تاريخي مؤلم في حقيقة تفسيره، فعندما طلبت امريكا من انشتاين معالجة اثر القنبلة النووية، ففكر بمحاولة اختصار الزمن، لكي يكون الاثر معكوسا، وفعلا تم ذلك بنسب ضئيلة جدا، ونعتقد اثر ضرب المدن

اليابانية لا زال الى اليوم، وكما هناك دلائل على استخدام اليورانيوم المخصب في اسلحة بشرية، وذلك من الممكن أن يخلق اثارا لعينة، ويزيد من حالات الاصابة، وهذا خارج اطار الزمن يحيلنا الى فكرة ترى بأن العالم دخل في صراع مع نفسه، بعدما وجد بأن التطور غير نافع الا في نفسه، وقد حاولت الرأسمالية أن تعيد نفسها، لكن قد اصبحت تلك العجوز التي لا تستطيع أن تعين نفسها، وظهور البديل المعارض، من خلال ما جرى من فرض سياسة دينية، هي تتنافى مع الدين نفسه، فالدين موضوع مسالم اصلا، ويشير الى التوجه للسلم اذا جنح له الخصم، ويعول على الحكمة، والخطاب العسكري في القرآن ليس عاما، بل يخص كفار مكة ومن حولها، وقد اشر القرآن الى ذلك، ومسألة مفهوم – الكافر- بدعة سياسية ولا تتصل بالدين ابدا، ونعود الى رغما عنا الى مشكلة الزمن، فالحدود الزانية التي قبل القرآن مواجهتها عسكريا هي في حدود ام القرى ومن حولها .

الدين والزمن علاقتهما كما علاقة الدين والزمان، فالدين موضوعات يدخل فيها التعدد الزمني موضوعة وفي افق الواقع، فالصلاة موضوع عقائدي، لكن هناك تفصيلات زمنية، وقد اشار برنارد شو الى ذلك قبل قرن، فموضوعة الصلاة فيها تفصيلات عدة وابعاد رياضية في الاداء تدل على وجود تعدد للوحدات الزمنية، مثلما يوجد لجلوس عائلة لمائدة الطعام وجود عدة وجدات زمنية، وكذلك كما يوجد للسفر في طائرة وجود عدة وحدات زمنية، فزمن جلوس المسافر منفصل عن زمن الطائرة وهي محلقة في الجو، ولا يمكن أن تتداخل وحدات الزمن تلك ابدا، وتداخلها يعني حدوث كارثة محتملة، ومن الطبيعي ثمة فارق ما بين زمن الكتروني وزمن بشري، وليس بالهين ذلك الفارق، وكشف الفارق ايضا ليس بالسهل، لكن لابد أن نشير الى التصنيفات الزمنية المختلفة، فوحدة الزمن البشري هي عضوية، فيما وحدة زمن الية الطائرة هي الكترونية، وطبيعي لوحدة زمن الطائرة وجود نظام ثابت يقارب الى حد ما ثبات وحدة الزمن البشري من جهة لافق العام، لكن كلاهما يمكن أن يدخل في تطورات زمنية، فمثلا يواجه الراكب فجأة انخفاض ضغطه الى اعلى المستويات، وهذا سيخرجه عن طبيعة زمنه العام، وكذلك الطائرة في لحظة النزول والتوقف، تخرج عن تلك الطبيعة الزمنية، والزمن الثابت من الممكن أن يختلف باختلاف شدة المؤثر .  

***

محمد يونس محمد

....................

1- واقعية بلا ضفاف – روجيه غارودي – ت حليم طوسون – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – ص 211

2- المرئي واللامرئي – موريس ميلو بونتي – ترجمة د سعاد محمد خضر – دار الشؤون الثقافية - 56

بعض مما نعرفه أو لا نعرفه عن جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار (2)

إعداد وتحرير وتأليف وترجمة د. جواد بشارة

تعليقات بخصوص كتاب سارتر الكينونة والعدم

الخلفيات المعرفية في دواخل العقل السارتري:

كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي عن سارتر أو ما ينشره سارتر من كتب وأبحاث ودراسات ومقالات وقمت بمحاولة جريئة بقراءة تفكيكية وتأويلية لمنجزه الأساس وهو الكينونة والعدم بعد أن تمكنت من اللغة الفرنسية وقرأته بلغته الأصلية . ثم طلبت موعداً من سارتر في أواخر أيامه قبل وفاته بأشهر قليلة وكان متعباً لكنه لم يرفض طلبي فزرته في مقر استراحته وقدمت له النصوص التي كتبتها كتعليقات وتفسيرات لبعض مما فهمته من أطروحته الفلسفية بعد أن كنت أستمد معرفتي ومعلوماتي من النص المترجم لكتاب الكينونة العدم والذي ترجمه عبد الرحمن بدوي بعنوان الوجود والعدم. وبعد أقل من أسبوع تلقيت مكالمة هاتفية منه يطلب مني أن أستمر في هذه القراءة وأن أعد منها كتاباً سيسعى هو شخصياً لنشره. كثيرًا ما تُقرأ أوصاف وجهة نظر سارتر للوعي كما لو أن الكاتب قد قفز من فصل "سوء النية" في الجزء الأول إلى فصل "العلاقات الملموسة مع الآخرين" في نهاية الجزء الثالث. هذه القفزة تهرب من الفصل الصعب المعنون بالتسامي"Tran scendence" في الجزء الثاني وتفوت فرصة التمعن في الفصل الحاسم " الجسد" "The Body" في منتصف الجزء الثالث. علاوة على ذلك، نظرًا لمنهج سارتر الصعب والمختلف انطلاقًا من المجرد إلى الملموس، فإن مجرد حقيقة أن الوجود والعدم تنتهي بتوضيح فعل "الوجود" "و .. الفعل والامتلاك" نجد هنا أن سارتر لا يعتبر أوصافه للوعي والحرية ملموسة حتى رسم طريقة تصرفنا وسلوكنا. ولكن حتى العبارة المستخدمة يجب أن تكون مؤهلة. يعتبر سارتر أن الوصف الأنطولوجي الكامل مكرر، في نص مخادع أوسع، مجرد أو تجريدي، لأنه لا يأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي للوجود البشري. في الوجود أو الكينونة والعدم، يؤكد سارتر أن الأنطولوجيا تصف "الكينونة" وليس "ما ينبغي" حيال الأفعال البشرية.

احتفظ بهذه الملاحظات القليلة ضمن النطاق الأصلي للتعليق، ولم يحاول شخص واحد إصدار حكم عام على الوجود والعدم ولا اعتبار أي تطور فلسفي لاحق لفكر سارتر. أعتقد أن هذا الأخير لن يكون هو القضية سوى من أجل تشتيت الانتباه إلى أول من يقترب من دراسة الوجود والعدم؛ يؤمن ايضا. أن المراحل اللاحقة من فكر سارتر، وتحديداً ماركسيته الفريدة على النحو الوارد في " النقد الديالكتيكي للعقل Critique dialectale de la raison،، لا يمكن فهمها إلا بعد فهم الأنطولوجيا الخاصة به أولاً.

ومع ذلك، يجب أن يقال شيء عن الإطار العام الذي قدم فيه الوجود لأول مرة. من المثير للاهتمام أنه لا سارتر ولا هيدغر كانا قادرين على إكمال برنامجهما الفلسفي كما كان مخططًا له في البداية. حيث تم تقديم الكينونة والزمن لهيدغر لأول مرة على أنه جزء فقط من دراسة ظواهرية حول مسألة الكينونة، وتم تقديم سارتر للوجود والعدم بدراسة عن الأخلاق. إن فشلهم في الاستمرار في مخططاتهم هو، كما أعتقد، شهادة على صدق نهجهم في الفلسفة الظواهرية ؛ في نهاية دراساتهم المبكرة "رأوا" العالم بشكل مختلف وتعلموا ما يكفي من أوصافه الخاصة لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الاستمرار في نهجهم النموذجي المصمم مسبقًا.

الحكم على عمل فلسفي هو في حد ذاته جائزة دخول للفلسفة حيث لا تتمثل المهمة فقط في تأكيد أو إنكار بعض العبارات التي تلخص ظاهريًا موقفًا فلسفيًا، بل الدخول في حوار يفترض مسبقًا معرفة شاملة بالنص نفسه . ".

عانى فهم فكر سارتر سريعًا أحكام وملخصات قصيرة. إذا تم تقديم الوجود والعدم كعمل متكامل، فإن الأنطولوجيا الظواهراتية لسارتر يُنظر إليها على أنها غنية وعميقة وفريدة من نوعها: غنية في تحديدها للجوانب الظرفية لأفعالنا الحرة ؛ عميقة في طريقة تركيزها على جسم الإنسان، الذي يعرّف العالم ويحدده ؛ وفريدة من نوعها في تاريخ الفلسفة. في محاولتها لتمديد المحدود لتوفير صورة كاملة للوجود. ولكن ربما يكون أهم جانب في فكر سارتر بالنسبة لجيلنا هو قدرته على التخلص من خداعنا الذاتي وخداع الذات على نحو عام. دعنا نقبل التشكيل الحر لذواتنا وبيئتنا. إذا أخذ تفكيرنا في الحالة الإنسانية فلسفة سارتر في الحسبان، فلن نغفل أبدًا عن مسؤوليتنا في تحويل أرضنا إلى كوكب تتجسد فيه حرية كل إنسان في بيئته. يؤكد روبرت دينون كومينغ، في مقدمته الممتازة لمختاراته من فلسفة جان بول سارتر، معقولية الحكم القائل بأن سارتر هو "الفيلسوف الوحيد لدينا". قد تكون ملاحظة كومينغ باهظة، لكنها إسراف لا يأتي في توقيت سيئ ولا بلا سبب على الإطلاق.

حاولت حتى الآن تجنب المقاربة الخجولة؛ لكن على الرغم من أن النهج الاعتذاري ليس فلسفيًا أبدًا، إلا أنه ليس دائمًا غير مبرر. ويتطلب ثقل الكثير من الأدبيات الثانوية فيما يتعلق بالوجود والعدم لإحداث بعض التوازن، ففي كثير من الأحيان تؤكد هذه الأدبيات، خارج السياق، على جملة واحدة في نهاية الجزء الرابع، "الرجل هو عاطفة عديمة الفائدة،" لكنه يتجاهل مكانة مهمة يعطيها الكتاب ككل لخروج الإنسان من حيث الزمن،من عبثية الوجود. بشكل عام، يتجاهل هذا الأدب أيضًا أطروحة سارتر القادرة على أن كل حياة بشرية ليست مجرد محاولة لإعطاء معنى لوجودها الخاص، ولكنها أيضًا مخطط لحل مشكلة الوجود العالمية. صياغة سارتر لأطروحته، الواردة في الفصل الأول من الجزء الرابع، هو دليل مفيد لدراسة مسالكه الطويلة في الأنطولوجيا: إذ أن هذا هو"مشروعي النهائي والأولي" كما قال سارتر

- فهذه ليست سوى واحدة، كما سنرى، دائمًا من بين الخطوط العريضة كحل لمشكلة الوجود .... هذا هو نفس الطريق الذي " يجعلني ائتمن نفسي على الجماد، حيث أتخلى عن نفسي لجسدي ... مما يتسبب في ظهور جسدي وعالم الجماد بقيمته الخاصة ".

قراءة أولية للكينونة والعدم بلغته الأصلية الفرنسية:

كل من يحاول قراءة الكينونة والعدم، يدرك صعوبة ذلك. على عكس أعمال سارتر الأدبية والشروح الشعبية للوجودية، فإن الوجود والعدم موجهان إلى مجتمع فلسفي محدد، إلى نخبة فلسفية مثقفة، وبالتالي، مع عدم وجود معرفة بالظواهر، يجد حتى طالب الفلسفة هذا العمل محيرًا إلى حد ما إن لم نقل صعباً. علاوة على ذلك، يمثل أسلوب سارتر مشكلة. سارتر مغرم باللغة كما هو واضح في صياغته لسيرته الذاتية كانت نتيجة هذه العلاقة مع اللغة عملًا غريبًا نسبيًا ومختلطًا بالوضوح الغني والواضح. وغالبًا ما يكون أسلوبه عبارة عن صيغة مختصرة في صياغة المرجع التاريخي، ومختصرة للغاية في شرح الفلسفة والتعبير عنها. ثم، أيضًا، في بعض الأحيان، تتداخل الأنماط، حيث يغزو الأدبي الفلسفة والعكس صحيح، كما هو الحال عندما يصف سارتر الإنسان على أنه كائن ليس ما هو عليه بل مايجب أن يكون عليه.

أدت صعوبة قراءة الكينونة والعدم إلى ظهور عدد من الأبحاث والدراسات الممتازة التي تلخص، وتعيد صياغة، وتقيم حجر الزاوية هذا من فلسفة سارتر ولكنها لا تدعي أنها تساعد المرء على قراءة الكتاب نفسه. هذا التعليق يتعلق فقط بالوجود والعدم ولا يأخذ في الاعتبار الأعمال التي يرجع تاريخها إلى ما بعد الوجود والعدم أو مسألة أي تطور لاحق في فكر سارتر. تمت كتابتها في المقام الأول كوسيلة مساعدة لاكتساب تلك المعرفة المباشرة التي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال دراسة النص ذاته وبلغته الأصلية. لذلك يجب أن تقرأ بالاقتران مع كتاب الكينونة والعدم. كتابات أخرى محيطة به لسارتر ولغيره ومع ذلك، فقد تم بذل كل جهد لجعل التعليق مقروءًا بشكل مستقل عن عمل سارتر.

بما أن فلسفة سارتر تهم الأشخاص ذوي الذكريات المتنوعة ·لأسباب، سنفترض أن القارئ ليس لديه أي محدد معرفي في الفلسفة. تم توفير خلفية فورية كافية ومخطط تفصيلي لفكر سارتر في الفصل الأول لبدء بداية ذكية في قراءة الكينونة والعدم.

في عمل ضخم مثل الكينونة والعدم، لا يوجد تعليق يمكن أن يوضح هذا الطول في كل جملة يعتقد القارئ أنها غامضة. بشكل عام، يتم تقديم المزيد من التعليقات على مقدمة سارتر والفصول الأولى، حيث يكون الفكر نفسه أكثر صعوبة وحيث يكون القارئ، ربما، أقل خلفية معرفية. تمت محاولة تقديم شرح واضح للمقاطع الأكثر غموضًا وصعوبة في التعليق. في بعض الأحيان، قد يتطلب ذلك تفسيرًا، وسيتم إبلاغ القارئ بذلك. أخيرًا، نظرًا لأننا لا نهتم بمقارنة فكر سارتر بفكر مختلف الفلاسفة وعلماء النفس الذين ذكرهم، فسوف نقبل عروضه وتقييماته في ظاهرها.

توفي مارتن هايدغر في(26 مايو 1976) أي ببضع سنوات قبل وفاة سارتر نفسه، وتم نشر النقد الكامل للعقل الديالكتيكي وفيه يحاول فصل الخلفية هذه عن المقدمة الخاصة لسارتر وتعريف القارئ ببيئة فلسفية كاملة. يؤدي هذا التسلك: إلى دائرية لا يمكن تجنبها: تعمل الخلفية والاستخراج الداخلي على وضع بقية الكتاب في سياقه الصحيح، وبالمثل، يوضح باقي الكتاب هذه الأقسام المبكرة. لذلك يُنصح بقراءة هذه الأقسام بعناية، لكن ليس من الضروري فهم كل مرجع أو سطر من النقاش قبل متابعة بقية الكتاب.

ديكارت وسارتر بصفتهما فرنسيين: كان ديكارت فلسفيًا محط اهتمام سارتر، وكذلك من جانب المجتمع الفرنسي لإيلاء اهتمام جاد لأهم فيلسوف فرنسي، الفيلسوف وعالم الرياضيات في القرن السابع عشر رينيه ديكارت (1596-1650). جلب ديكارت إلى الفلسفة نفس روح الانفصال، ونفس الثقة والتوقع، الذي كان يبديه كعالم رياضيات. لقد كانت نيته أن يؤسس فلسفة يمكن قبولها عالميًا مثل الرياضيات نفسها.

إذا كان للفلسفة أن تمتلك اليقين في الرياضيات، حسب ديكارت، يجب أن تتطور الفلسفة مثل الهندسة، بشكل واضح ومحدد، من الحقائق الأولى المقبولة عالميًا. كما اعتقد ديكارت، هناك حقيقة أولى حاسمة يمكن من خلالها البدء في بناء الفلسفة في نشاط التفكير ذاته. لقد ادعى أننا إذا بدأنا في التفكير الفلسفي كما ينبغي، بمحاولة الشك في كل شيء.فإن الشيء الوحيد الذي وجدناه، أو بعبارة أخرى أن الشيء الوحيد الذي لا نشك فيه هو وجودنا وإننا نفكر و نشك. "وندرك الكوجيتو cogito ''ومن الكوجيتو، خلص ديكارت إلى أن الذات، هي أساسًا عقل نقي أو مادة تفكير، وهي معروفة بسهولة ومباشرة أكثر من العالم. في محاولاته الناجحة، حاول ديكارت بشكل منهجي إعادة بناء كل ما كان يشك به سابقًا. نظرًا لأنه كان يشك في كل شيء، بما في ذلك صحة الحواس وبالتالي وجود جسده والعالم، لم يكن لديه سوى عقله وأفكاره لبدء البحث عن فلسفة مؤكدة تمامًا. كانت الخطوة التالية مكررة مغلقة في عقله، وكانت واضحة: لتوجيه كل انعكاساته النقدية على الفور إلى محتوى عقله، وأفكاره، لتحديد أية تمثيلات حقيقية للواقع والتي تظهر فقط على أنها تمثل حقائق خارج العقل وتبدو كذلك مجرد تعديلات للعقل نفسه. على سبيل المثال، فكر ديكارت في أن فكرة الأبعاد الثلاثة تمثل أجسامًا خارجية، لأنه كلما فكرنا في فكرة الجسم، يجب أن نفكر بتلك الأجسام الخارجية على أنها ثلاثية الأبعاد. ومع ذلك، فإن فكرة اللون لا تمثل اللون في الأجسام الخارجية، لأنه كلما فكرنا في فكرة الجسم، لا يتعين علينا التفكير فيه على أنه ملون.

إن مفهوم المعرفة - أولاً، الإدراك المباشر للأفكار باعتبارها الهدف المباشر للمعرفة، ثم عملية التفكير لتحديد الأفكار التي تكون نسخًا للواقع والتي هي مجرد تعديلات للعقل نفسه - وهو أكثر ما يشير إليه ديكارت. انفصال رائع عن تراثه الدراسي، وهو تراث يحكم نظرته للعقل والوعي.

1. إن تبسيط حجة ديكارت أمر مفيد لأغراضنا. ومع ذلك، يوضح ديكارت أنه بحاجة إلى وجود كود أو شفرة إلى جوار الضد. إن الأفكار، التي هي نفسها مرتبطة بشكل واضح ومتميز، تتوافق في الواقع مع الحقائق غير العقلية.

2. بما أن ديكارت شكك في وجود الجسد مكررًا، في تثبته من حواسه، وبالتالي، فإن العالم الخارجي هو إحساسه (على سبيل المثال، الإحساس باللون) حيث تصبح المفاهيم بالنسبة له موضوعًا مباشرًا للوعي

لفحصها بشكل نقدي للتأكد ما إذا كانت تتوافق مع الحقائق الخارجة عن ضميره.

الأفكار المدروسة تعني أننا نعرف الأشياء بشكل مباشر. كما أنها خطوة حاسمة في تطوير الفلسفة من ديكارت إلى إمانويل كانط (1724-1804). إنه مشروع وهدف فلسفي أولي لديكارت وليس التطور الفعلي لفلسفته، التي تؤثر بقوة على الفلسفة فيرى الشك الأولي في وجود العالم، واليقين المترتب على ذلك من الذات باعتباره مادة تفكير تدرك فورًا أفكارها الخاصة كنسخ محتملة للواقع، وازدواجية العقل والمادة - هذه الجوانب من ديكارت ونظام ديكارت تطارد الفلسفة وتوفر السياق لكثير من تفكير سارتر.

يتفق سارتر مع ديكارت، بخصوص الظاهر الوجودي في الواقع، على أن الهدف الأول للتفكير في الفلسفة هو الإنسان نفسه. في الرواية الأولى لسارتر،الغثيان La Nausée، يُظهر بوضوح دينه لديكارت باعتباره تمييزًا لمقاربته للفلسفة.

التأثير الديكارتي واضح هنا. من الواضح أيضًا أنه، على عكس ديكارت، وجد سارتر أن العلاقات مع المادة والعواطف والمسؤولية عن المشاركة التفسيرية الحرة في العالم تتزامن مع وعي المرء بأنه قائم.

في حالة الغثيان، كانت الأشياء وليس المنطق هي التي أيقظت الشخصية الرئيسية، روكوينتين، على ذاتها الحقيقية كعامل حر تمامًا في العالم. لا يبدأ سارتر الفلسفة بتحليل منطقي للأفكار، كما يقترح ديكارت، ولكن من خلال الاستيقاظ على الواقع على أنه مجرد وجوده هناك دون أي سبب ضروري لوجوده، وبإدراكه بأنه خالٍ تمامًا. في وجه الحرية والمسؤولية لإعطاء معنى للواقع ؛ الكوجيتو cogito الحشوي.على الرغم من تأثره عمومًا بفلسفة ديكارت وفلسفة سارتر.

تختلف وجهة نظر المعرفة والوعي اختلافًا جذريًا. ولقد تطور هذا الانفصال عن التقليد الديكارتي لسارتر بشكل رئيسي من خلال تأثير الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938).4980 سارتر

هوسرل وسارتر:

لفهم نهج هوسرل للفلسفة وعلاقته بسارتر، سوف يساعد في تذكر محاولة ديكارت لبناء فلسفة على أساس راسخ لوجوده، ومهمته اللاحقة لإثبات وجود عالم خارجي للوعي. مع ذلك، من المهم في هذه المرحلة أن نكون واضحين جدًا بشأن الطبيعة الدقيقة لشك ديكارت فيما يتعلق بوجود العالم.

من المؤكد أن "العالم .. بالنسبة إلى ديكارت كان موجودًا، وهو عالمه، ولا يمكن أن تجعل الشكوك الحرجة الخاصة به العالم يتوقف عن الظهور بشكل مستقل عن وعيه به. وهكذا، على سبيل المثال، بدا بالتأكيد أن المكتب الذي كان يكتب عليه كان موجودًا خارج وعيه. لكن كان سؤال ديكارت هو ما إذا كان ما يبدو أنه موجود بشكل مؤكد وواضح موجود بالفعل بشكل مستقل عن وعيه به. هذا التمييز ليس غريباً كما يبدو. لقد عودنا علم العلوم على الإيمان بمفارقة مماثلة، أي أن الطريقة التي تظهر بها الأشياء لحواسنا ليست دائمًا الطريقة التي تظهر بها لعقلنا العلمي. ومع ذلك، فإن معرفتنا العلمية لا تغير الطريقة التي تظهر بها الأشياء لحواسنا. على سبيل المثال، ما زلنا نرى شروق الشمس وغروبها على الرغم من أننا "نعلم" أن الأمر ليس كذلك.

ليس من الواضح ما إذا كان ديكارت ينظر صراحة إلى شكوكه في العالم بهذه الطريقة، لكنها موجودة ضمنيًا في فلسفته وهذه هي النقطة الدقيقة التي تقودنا إلى علاقة هوسرل بسارتر. كان هوسرل على دراية بالصعوبة التي واجهها ديكارت والفلاسفة اللاحقون.

يظهر بشكل سيء في محاولة إثبات وجود العالم الخارجي. لكنه صُدم أيضًا بحقيقة بسيطة مفادها أنه بغض النظر عن شكوكنا بشأن وجود العالم. لا يزال يبدو. على سبيل المثال، أن التفاحة التي يبدو أنها موجودة أمامه قد لا تكون موجودة حقاً أو قد تكون موجودة في ذهني فقط.

الخلفيات المعرفية:

خلفية (5)

أنا، والذي يبدو أنه ينظر إليه على أنه "في الخارج"، يستمر في الظهور على أنه موجود "هناك" بغض النظر عن تكهناتي حول وجوده الخارجي الفعلي. في الحقيقة، يمكن للمرء أن يستمر في التمييز بين التفاحة التي أتذكرها الآن والتفاحة التي يبدو أنها موجودة خارج ذهني، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأخيرة موجودة بالفعل. بالنسبة إلى التفاحة التي يبدو أنه ينظر إليها على أنها تستريح على الطاولة، يستمر ظهورها بشكل مختلف عن التفاحة التي أتذكر الآن أنني رأيتها على شجرة في الربيع الماضي. ليس الأمر مجرد أن "التفاح "مختلف، ولكن، وفقًا لهوسرل، تظهر التفاحة في عملية" التذكر "بشكل مختلف عن الطريقة التي تظهر بها في نشاط" الإدراك ". قد يكون من الصعب وصف هذه الاختلافات بدقة بين التفاحة المتبقية · و تصورنا لتفاحة، ولكن عندما نفعل ذلك، سوف نميز "جوهريًا" الفرق بين التفاح بغض النظر عن ما إذا كان الفعل الوحيد موجودًا خارج الذهن.

لذلك يدعي هوسرل أنه إذا وضعنا جانبًا أو "شريحة" مسألة وجود الأشياء، فإنها ستظل تبدو في جوهرها هي نفسها. وهو بذلك يقود إلى إعادة تعريف "الموضوعية". أن نقول أن شيئًا ما "موضوعي" لا يعني أنه موجود خارج أذهاننا، ولكن يمكن وصفه بدقة على أنه الطريقة التي تتسم بها الكمثرى وأن هذا الوصف يمكن توصيله إلى الآخرين. على سبيل المثال، الاختلاف الأساسي بين إن تذكر تفاحة وإدراكها يمكن أن يكون "منعزلاً" عن فرديتنا ونشاطنا الفرعي، علاوة على ذلك، يمكن مشاركة هذا الاختلاف "الأساسي" مع الآخرين.

وبالتالي، بينما يتفق هوسرل مع ديكارت على ذلك الفيلو الحقيقي يجب أن يكون التفكير المنطقي علميًا وأكثر صرامة من أي من العلوم الفيزيائية، فهو يصر على أن طريقته يجب أن تكون وصفية وليست استنتاجية. على سبيل المثال، التفاحة المتصورة أو المتروكة · التفاحة، فيما يتعلق بنشاطها المحدد أو وعيها أو إدراكها أو تذكرها.

في هذا الصدد، ربما نكون قد ضللنا القارئ في وقت سابق عندما قمنا بذلك لنميّز بين طريقة ظهور الأشياء والإدراك العادي

* القارئ الذي يرغب في توسيع معرفته بالظواهر، أوصيه بقراءة عمل هوسيرل الصغير والمقروء للغاية، The Ldea of Phenomenology (لاهاي: Martinus Nijhoff، 1964).

الخلفية (6)

والطريقة التي يظهرون بها للإدراك العلمي. بالتأكيد لن يدعي هوسرل أن النغمات تظهر للإدراك العلمي بطريقة أكثر واقعية من الطريقة التي تظهر بها للإدراك العادي. بدلاً من ذلك، كان سيؤكد بلا شك أن العالم يصف الأشياء ذات الإدراك العادي حيث يتم تعديل هذه الأشياء بواسطة أدوات العالم. وهكذا، يبدو للعالم كموجة أو فوتون، لأنه لا يفحص فقط اللمسة المنعكسة من التفاحة، ولكن الجزء الذي يتم تحليله بواسطة أداة علمية، ويتم تفسيره من خلال الرياضيات، يتم تصوره في النماذج. النقطة المهمة هي أن "ما يظهر" (أو الظواهر)، على سبيل المثال،) الضوء أو الفوتون، يجب "رؤيته" دائمًا فيما يتعلق بنشاط وعي محدد، على سبيل المثال، الإدراك العادي أو العلمي ؛ وبالمثل، فإن أنشطة الوعي، العادية أو العلمية، يتم تحديدها بحد ذاتها من خلال موضوعاتها المميزة. فيما يتعلق بنشاط محدد للوعي، يمكن دائمًا وصف "ما يظهر" بشكل موضوعي، بمعنى أنه يمكن عزله عن فردية الراصد ونقله للآخرين؛ وهذا يعني أنه يمكن وصفه لأنه سيظهر بشكل أساسي لأي وعي منخرط في نفس نشاط الوعي. وهكذا يدعي هوسرل أنه على الرغم من أن العقل نشط، إلا أنه ليس نشطًا بحيث يخفي بشكل دائم البنية الأساسية أو التركيب لما يُعطى له.

ومع ذلك، يدرك هوسرل أن عاداتنا ونظرتنا المكتسبة للأشياء تخفي عنا فهمنا الأصلي للأدلة و "الجوهر". نحن نلجأ أيضًا إلى التداخل العلمي والعادي.

تصور حقيقي: - على سبيل المثال، "تظهر" الأرض حقًا لتدور حول الشمس من مكان آخر في النظام الشمسي، ولكن بالنسبة لشخص يتواجد على الأرض، تبدو أن "الشمس" (أي نمط من الألوان) هي التي تدور حول الأرض. إن هذا المظهر موضوعي، بمعنى أن الظاهرة تظهر بهذه الطريقة بالنسبة لوعي الشخص الموجود على الأرض. أيضًا، لاستخدام صورة سارتر، قد تظهر جذور الشجرة كمضخة معقدة "لمشاهدتها" من خلال صور العلم. لكن الجذور بالتأكيد ليست مضخة بأي معنى من المعنى الأدبي، ومن الصعب، ولكن ليس من المستحيل، بالنسبة لنا الحصول على رؤية للجذر كما يبدو في الأصل لوعينا دون أدنى شك. مشبع بمعرفة كيف يفترض بنا أن ندركه.

تم وصف الظواهر على أنها عودة إلى الموضوع كما هي، تقدم نفسها في الأصل لوعينا.

الخلفية (7)

يتضمن علم التسمية عملية ("اختزال") نستمر من خلالها في إعادة فحص حليف الموضوع والوعي إلى أن "نرى" بوضوح كيف يقدم الموضوع نفسه في الأصل للوعي وكيف يخصص الوعي الشيء لذاته. مرة أخرى، إذا وجهنا انتباهنا بصفتنا علماء ظواهر إلى الإدراك الأحمر للتفاحة، فإن ما ندركه أخيرًا هو خاصية الإدراك · لحمرة تفاحة متميزة عن تفاحة متذكرة بأنها حمراء (ربما يكون اللون الأحمر الملحوظ أكثر تداخلًا بشكل واضح مع "نسيج" التفاحة). وبالتالي، فإن العالم بالنسبة لهوسرل لا يخسر شيئًا من خصومه.

الصبغة أو الثراء إذا قمنا بتقسيم مسألة وجودها وركزنا على ما يُعطى لوعينا. في الواقع، لهذا السبب بالذات وُصِفَ الأساس الفينومينولوجي الظواهراتي بأنه عجائب جديدة في وجه العالم. وفقًا لهوسرل، تكشف الطريقة الظاهراتية عن الهيكل الموضوعي، أو التركيب، أكثر من الاهتمام بالأحرى بمجرد هيكل يصدقه العقل، لأن الوعي هو، لطبيعته بالذات، مخدوع بفظاعة الشيء. الوعي ليس، كما هو الحال مع ديكارت، هو الوعي الذاتي بفحص عقل مستقل ومكتفٍ ذاتيًا بأفكاره الخاصة لإثبات أي منها يمثل الواقع حقًا. بدلاً من ذلك، يشير الوعي تلقائيًا إلى موضوعه أو "يميل إليه"؛ إنه متعمد. يمكن لعادات التفكير أن تحجب عنا، ولكنها لا تدمر، نية الوعي الأصلية للأجسام.

تمنحنا النية، بالنسبة لهوسرل، طريقة جديدة للنظر إلى الكوجيتو الديكارتية (أي يقين وطبيعة وعينا). لم تعد المهمة تكمن في اكتشاف أي من أفكارنا بأنها تمثل حقيقة غير مألوفة ؛ بالأحرى، هو وصف نوايانا الأصلية والأشياء المتعلقة بها. سيكشف هذا الوصف عن "هدف" الموضوع، بغض النظر عما إذا كان الموضوع، كما يتجلى للوعي، موجودًا أيضًا بشكل مستقل عن الوعي أم لا.

يُطلق على موضوع الوعي، والمعطيات المرتبطة به، اسم "ظاهرة" هوسرل. استخدم كانط المصطلح لأول مرة على نطاق واسع. بالنسبة إلى كانط، فإن الظواهر هي أشياء يعرفها العقل وتميزها عن الأشياء كما قد تكون في حد ذاتها - "تسمية". على سبيل المثال، تصور اللون الأحمر للتفاحة هو، بالنسبة لكانط، ظاهرة تفجر التفاحة بدلاً من الكشف عنها؛ إنها الطريقة التي تظهر بها التفاحة لنا بدلاً من الطريقة التي توجد بها في حد ذاتها. كانط سيؤكد أن "التفاحة" (أي الشيء المجهول) موجودة.

الخلفية (8)

بصرف النظر عن معرفتنا بالشيء، لكنه ينكر أننا يمكن أن نعرف طبيعته الحقيقية بسبب الدور الفعال للعقل في المعرفة.

يتفق هوسرل مع كانط في أن الظواهر هي أشياء كما يعرفها وعينا، لكنه ينكر أن الظواهر تحتمل الطبيعة الحقيقية للشيء. وفقًا لهوسرل، فإن الظواهر الحقيقية، الأشياء كما تُرى بعد الاستخدام الصحيح للطريقة الظاهرية، هي طرق موضوعية للوجود. إنها طرق ضرورية للوجود، إذا أريد للشيء أن يوجد. وبالتالي فإن اللون الأحمر المتصور للتفاحة، على عكس اللون الأحمر المُتذكّر، هو الطريقة الضرورية التي يجب أن تتواجد بها التفاحة كالأحمر إذا كانت موجودة مثل اللون الأحمر.

بالنسبة لهوسرل، فإن الظواهر عادة ما تقدم نفسها باعتبارها جوانب لكائن أكثر توحيدًا. التفاحة، على سبيل المثال، تقدم نفسها لي بشكل مختلف، اعتمادًا على مكان عرضها. ومع ذلك، فإن هذه الجوانب تظهر نفسها على أنها جوانب من التفاحة: فهي تقع بطريقة ما في مكانها وتوحد نفسها في وحدة - "تفاحة". يؤكد هوسرل أن توحيد هذه الجوانب يتطلب بنية موحدة داخل الوعي نفسه. هذا الهيكل الموحد يسميه "الأنا المتعالية". لأنه يقطع أو يتخطى فعل الوعي الفردي بينما يعيد توجيه الأساسي لكل فعل ؛ إنها "الأنا" لأنها نفسها (1) التي تدرك كل الجوانب وتوحدها في وحدة. إن فكرة هوسرل عن الأنا المتعالية مهمة لأغراضنا لأن سارتر سيختلف معها.

يتبع سارتر، بشكل عام، فهم هوسرل للفينومينولوجيا كعلم وصفي ومفهومه عن الوعي باعتباره دائمًا وعيًا بشيء ما. إنه يرفض الاختزال الظاهري لهوسرل، مع ما يترتب على ذلك من حدس للجوهر، وغرور هوسرل المتعالي. يؤكد سارتر أن الوجود، وليس الجوهر، يُعطى للوعي مباشرةً. هذا الحدس، أو الإدراك الفوري للوجود، هو جوهر فلسفة سارتر عن الوجود وأساس الوجود والعدم. إن الفهم الكامل لأهمية هذا الحدس سيكون سيئًا فقط يغير دراسة الوجود والعدم. ومع ذلك، فإن نظرته إلى الوجود الوجودي لسارتر ستكون مفيدة لتوجيه عام لهذا العمل الرئيسي. أي وصف جان بول سارتر باس فلسفته بأنها "وجودية".

*. العلاقة بين هيجل (جورج فيلهلم فريدريك هيغل، 1770-1831) وسارتر لم تتم مناقشتها في هذه الخلفية لأن سارتر، في مقدمته، لا يعترف صراحة بانحلاله على هيغل ولا يعترف به.

الخلفية (9)

معلومات أساسية أشار سارتر بشكل ملحوظ في مقالته" الوجودية هي الإنسانية ". بالرغم من أن مصطلح" الوجودية "غامض وينطبق بشكل مختلف على فيلسوف مختلف وفلسفة مختلفة، فإن المصطلح يلفت الانتباه إلى أسس سارتر الأساسية. الوجود وما يترتب عليه من أولوية تكمن فيها فلسفته كلها.

يأتي التمييز بين الجوهر والوجود إلى الفلسفة المعاصرة بشكل رئيسي من خلال تأثير علماء القرون الوسطى، الذين اعتبروا الجوهر والوجود جوانب مميزة لواقع علّي. كان يُنظر إلى الجوهر على أنه الإجابة على سؤال من هو الشيء؛ كان يُنظر إليه على أنه الطبيعة الأساسية، أو "البنية" لشيء ما. وهكذا، بالنسبة للعديد من السكولائيين، يعتبر الإنسان أساسًا حيوانًا عقلانيًا. الوجوديين، على الفرقة الأخرى، أجابوا على سؤال ما إذا كان الشيء موجودًا؛ بالنسبة لهم، هو ذلك الفعل الأساسي الذي يتسبب في وجود شيء ما، مستقلاً عن تفكيرنا فيه. وهكذا، فإن الحوت، على عكس حورية البحر، موجود بشكل مستقل عن أي شخص يفكر فيه.

اعتبر سارتر أن الكثير من الفلسفة "جوهرية" لأنها تؤكد على أولوية الجوهر على الوجود. بالنسبة لسارتر، يعتبر هوسرل جوهريًا لأنه يصر على أن الهدف الأساسي للفلسفة هو الوصول إلى معرفة ماهية الأشياء. علاوة على ذلك، وبالنسبة لسارتر، هذا هو جوهر القضية، فإن تعليق هوسرل للوجود أو وضعه بين قوسين يسرق ثراء العالم بالفعل. لا شك أن سارتر سيصر على أن هوسرل يمكن أن يضع الوجود بين قوسين لأن الأخير اعتبر الوجود على أنه لا يضيف شيئًا إلى ثراء الظاهرة. بالنسبة إلى هوسرل، فإن اللون الأحمر "أحمر في الأساس، والإنسان" هو "إنسان، والشجرة المتصورة" هي "شجرة محصورة، بغض النظر عما إذا كانت هذه الجواهر موجودة أم لا. كتب سارتر رد فعله على وجهة النظر هذه عن الوجود بصيغة أدبية: "تركتني لاهثاً. لم يحدث أبدًا، حتى هذه الأيام القليلة الماضية، أن أفهم معنى "الوجود". كان رقم 1 مثل الآخرين، وكان جيك يمشي على طول شاطئ البحر، وكان يرتدي زي الربيع". قال، تشير إلى أن ديالكتيك هيغل هو السياق المباشر لعمله. في حين أنه من الواضح أن مصطلحات سارتر والكثير من محتوى الأقسام المحددة مدينان إلى حد كبير لهيغل، يعتقد أن نطاق هذه العلاقة هو تفسير. لذلك، لا يُناقش موقف هيغل إلا عندما يصرح سارتر به صراحةً. يتناول العملان التاليان علاقة سارتر بهيجل ببعض التفاصيل: هارتمان، كلاوس، أنطولوجيا سارتر: "الوجود والعدم" في ضوء منطق هيغل

(الصحافة، 1966) ؛ وبرنشتاين، ريتشارد ج.، براكسيس وأكشن (فيلادلفيا: مطبعة جامعة بنسلفانيا، 1971) .

الخلفية (10)

"مثلهم، "المحيط أخضر؛ تلك البقعة البيضاء هناك طائر النورس"..عندما اعتقدت أنني كنت أفكر في الأمر، يجب أن أتأكد من أنني لم أفكر بأي شيء، أو أن رأسي كان فارغًا، أو كانت هناك كلمة واحدة فقط في رأسي، وهي كلمة "أكون". وإلا كنت أفكر... كيف يمكنني شرح ذلك؟ كنت أفكر في الانتماء، كنت أقول لنفسي أن البحر ينتمي إلى فئة الأجسام الخضراء، أو أن اللون الأخضر جزء من جودة البحر.. إذا سألني أي شخص سيء ما هو الوجود، لأجبت، بحسن نية، أنه لا شيء، مجرد شكل فارغ تمت إضافته إلى الأشياء الأبدية دون تغيير أي شيء في طبيعتها. ثم جاء إلي فجأة، كان صافياً كالنهار ؛ كشف الوجود عن نفسه فجأة. لقد فقد المظهر غير المؤذي لفئة مجردة: لقد كان عجينة الأشياء، تم عجن هذا الجذر إلى الوجود (ص 171]. ...

للوجود، بالنسبة لسارتر، أولوية على الجوهر لأن الوجود هو "عجينة الأشياء". ولكن إذا كان الوجود سابقًا على الجوهر، فإن الوجود يسبق المعنى، لأن الجوهر يحدد المعنى الأساسي العقلي للأشياء. يقبل سارتر هذا المنطق. الوجود يسبق المعاني الممكنة، سواء في الإنسان أو في الطبيعة. (في حالة الغثيان، يقول سارتر إن الوجود عبثي، ليس مع صدق نسبي يأخذ معنى في سياق أعلى، ولكن مع صدق مطلق).

بالنسبة لسارتر، فإن أولوية الوجود على الجوهر تنطبق في غاية طريقة خاصة لماو. التي هي مميزة في الإنسان وتنتج من أفعال الرجل ولا تسبق تلك الأفعال. سوف يعترف سارتر بأن الظروف المشتركة بين البشر، مثل امتلاك الجسد والولادة، تسبق في الواقع أفعال الإنسان. لكن هذه الظروف لا تجعل الإنسان إنسانًا مميزًا. إن ما يميز الإنسان عن الإنسان هو تفسيراته وردود أفعاله الحرة لهذه الظروف المشتركة. بالنسبة لسارتر، يمكن للإنسان أن يقول إنه "يخلق" جوهره من خلال أفعاله. يتبع جوهر الإنسان أفعاله ؛ إنه هذا النوع من الرجال لأنه يتصرف بهذه الطريقة. إذا كان للإنسان جوهر يسبق أفعاله، فإن هذا الجوهر سيحدد أفعال الإنسان، مما يجعل من المستحيل عليه أن يكون حراً حقًا.

تتجلى فكرة الذات أيضًا كأولوية الوجود على الجوهر في أفكار سارتر. في مقال نشر مبكرًا بعنوان "تجاوز الأنا"، انتقد سارتر الأنا المتعالية لهوسرل، أي الذي يوحد فردنا أفعال الوعي. يقنع سارتر أن الأنا المتعالية من شأنها أن تسبق كل أفعال الإنسان، بما أنها كذلك تهدف إلى توحيد هذه الإجراءات. أيضا، الأنا المتعالي هو جوهر يسبق الوعي.

خلفية (11)

الأنا المتعالي، بشكل أساسي، هو نفسه في كل إنسان، نظرًا لأن الفعل الموحِّد هو نفسه في جوهره في كل رجل: يتم توحيد وجهات النظر المختلفة للتفاحة بشكل أساسي، من قبل كل فرد، في نفس الكيان، ألــ "تفاحة". وبالتالي، يحافظ سارتر على أن الأنا المتعالية هي نوع من الجوهر الذي يسبق أفعال الإنسان. علاوة على ذلك، فإن الأنا المتعالية "تسكن" كل فعل من أفعال الوعي، وتعيق الوعي وتجعل من المستحيل للوعي أن يكون مقصودًا، أي كليًا ومثاليًا لموضوع. سارتر، على العكس من ذلك، يصر على أن الوعي يجب أن يكون "واضحًا" أو شفافًا تمامًا، حتى يتمكن من الكشف عن الموضوع كما هو، وأيضًا أن الوعي، أو "الذات"، لا يمكن تصورها على أنها جوهر يسبق الإنسان. أجراءات. دعونا نفحص نظرة سارتر عن الوعي والذات عن كثب، على الرغم من أننا سنعود إلى مناقشة أكثر تفصيلاً لاحقاً.

في معارضة فهم هوسرل للأنا 8 العابرة للإنسان، يقترح سارتر فكرته الخاصة عن الأنا 88المتعالية transcendent، أي كونها خارج البنية الداخلية للوعي. أن هوسرل لم يكن متسقًا مع مفهومه الخاص عن الوعي دائمًا لموضوع ما. وفقًا لسارتر، يجب أن يكون الطابع المتعمد للعلم مطلقًا: يجب أن يكون وفقط "لـ،" وليس أناً واعية للأشياء. الأنا التي من شأنها أن تكون موجودة مسبقًا في الوعي وتكون متعالية من شأنها أن تجلب الغموض للوعي على وجه التحديد لأنها ستجعل الوعي نوعًا من "الشيء". لذلك، يزعم سارتر، لا يمكن للأنا أن تكون موجودة مسبقًا في الضمير بل يجب أن تكون موضوعًا للوعي.

يشرح سارتر مفهومه لتجاوز الأنا من خلال الادعاء بوجود نوعين من الذات. هناك الشخصية (الأنا)، التي ندركها في تأملاتنا ومحاولاتنا لاكتشاف أنفسنا. الأمر الذي نتخيله على أنه يسبق نوايانا وأفعالنا، الفكرة التي نمتلكها نحن والآخرون عن أنفسنا. هو الأول الذي منحني سماته النفسية والوراثية والثقافية. ومع ذلك، فإن هذه الشخصية هي معرفة انعكاسية ومشتقة عن الذات ناتجة عن نوايانا وسلوكنا.

*. يدرك سارتر أن هذه الأنا "المُنتَجة" ليست غرور هوسرل المتعالي. ومع ذلك، فإن الأنا المتعالية، إلى الحد الذي يوحد أفعالنا، يعتبرها سارتر "ماهية" وبالتالي مفهوم مشتق عن الذات.

الخلفية (12)

على الجانب الآخر، الذات الحقيقية، بالنسبة لسارتر، غير شخصية ولا يمكن تمييزها عن الذات التي تعرف هذا الشيء. أداء العمل الذاتي. هو يعترف، مع ذلك، أنه إذا سألنا شخص ما من يقوم بهذا الفعل، فسنرد " الأنا". يستنتج سارتر من هذا أننا دائمًا ما ندرك بشكل غير مباشر لـ "الذات" في الذهن المباشر لشيء ما. إن وعي الكائن بالشيء، على وجه التحديد لأنه وعي بشيء ما، هو بشكل غير مباشر وعي ذاتي لـ- كائن، ولكن بشكل مباشر وعي ذاتي لكائن. على سبيل المثال، عندما ننغمس في مشاهدة فيلم، فإننا ندرك الفيلم بشكل مباشر وندرك أنفسنا بشكل غير مباشر.

بالنسبة لسارتر، فإن كوجيتو ديكارت، وبدرجة أقل، حتى الأنا المتعالية لهوسيرل هي في نهاية المطاف أشياء منتجة ومشتقة، ناتجة عن انعكاساتنا على حالتنا البشرية الكلية. هي الذات التي نقدمها لأنفسنا والعالم ككائن يجب فحصه. ومع ذلك، فإن الذات الأكثر جوهرية هي الإدراك غير الشخصي الموجود في كل مرة ندرك فيها شيئًا ما.

إن وجودية سارتر ذات حدين. الوجود يسبق الجوهر في كل من الإنسان والأشياء. الأمر ببساطة هو كونه؛ يفتقر إلى كل الأسباب الضرورية لوجوده. لا يمكن للمرء أن يجد أي تبرير لوجود المادة سواء في الأشياء، لأنها تفتقر إلى الجوهر، أو في الأشياء الخارجية، لأنه بالنسبة لسارتر، لا يوجد إله. الإنسان، أيضًا، قد أُلقي به في العالم دون أي معنى سابق. لكن هناك مؤهلات مهمة. مع وجود الإنسان وظهوره، يصبح الواقع، أو الوجود، ذا مغزى ويصبح "العالم موجوداً".

في دراسته لأولوية الوجود، يعتبر سارتر سلفًا، أن مارتن هيدغر (1889-) هو مفكر الوجود. كان هيدجر تلميذًا لهوسيرل لسنوات عديدة قبل أن يطور نهجًا وجوديًا خاصًا به للظواهر في كينونته وزمانه. الوجود والعدم لدى سارتر هو، بمعنى ما، رد على عمل هيدغر. بالنسبة لهيدغر، الزمن هو أهم جانب من جوانب الواقع، والزمن هو الأهم إلى جانب الكينونة.

نعتقد أن مصطلح "غير شخصي" أكثر دقة من مصطلح "لا شخصي"، والذي يستخدم أحيانًا لوصف الكوجيتوcogito ما قبل التأمل. من الواضح أن سارتر يعترض على معرفة مستمدة من أنفسنا يتم اعتبارها "إدراكاً" حقيقيًا. ولكن، من الواضح أيضًا أنه يعترف بأن الـ " كوجيتو" الاستباقي هو وعي وبما أنه ليس أعمى ؛ في الواقع، فإن سارتر يشيرجلي وواضح ومباشر إلى الكوجيتو cogito ما قبل التفكير على أنه "شخصية!" ثانية .

خلفية (13)

الحقيقة من خلال وجود الإنسان. يهتم هيدغر كثيرًا بالتطور التاريخي للفلسفة وتأثير التاريخ على الوعي البشري. في الكينونة والعدم، لم يكن سارتر مهتمًا بالتاريخ ؛ بل يركز اهتمامه على قدرة الإنسان على تفسير تراثه بحرية على أنه البيئة المحيطة به. بالنسبة لسارتر، ليس الزمن بل العدم هو جوهر الإنسان والوجود، وهذا الرجل يتأرجح إلى الواقع. تتمثل إحدى المهام الرئيسية في هذا التعليق في محاولة تقدير فكرة سارتر عن العدم. في الوقت الحاضر، قد نتذكر إصرار سارتر على أن الوعي يجب أن يكون شفافًا تمامًا، وواضحًا تمامًا، حتى يتمكن من الكشف عن سمة الحقير كما هو. كما يرى سارتر أن الوعي لا يمكن أن يكون حقيقة، لأنه إذا كان كذلك، فإن هذا الواقع سيكون له هوية خاصة به، وبالتالي سيعيق الوعي عن الكشف الدقيق عن موضوعه. بالنسبة لسارتر، وحده العدم يكون واضحًا تمامًا ويمكنه أن يكشف الحقيقة تمامًا. فقط العدم، كما سنرى، يفتقر إلى الهوية مع نفسه وهو متممًا للآخر. يجري، بالنسبة لسارتر، بحيث لا يمكن أن يكشف عن شيء آخر غير نفسه، لأن واقعه هو هلام في الطريق. فقط العدم ليس هو نفسه. كما سيوضح أكثر بعد ذلك، يشير سارتر إلى العدم الملموس، كما هو الحال دائمًا في إدراك غياب شخص ما (فقدان رابع عند الجسر أو إدراك أن الصديق ليس في مكان اجتماع معتاد)، وليس إلى مفهوم مجرد للعدم، مثل مفهوم الفراغ أو الدائرة المربعة.

لفهم إصرار سارتر أكثر على أهمية العدم، قد يكون من المفيد التفكير في أنه في حين أن سارتر لا يحب وجود أي حقائق روحية، فإنه يرفض أيضًا الزواج باعتباره تبسيطًا مفرطًا للحالة الإنسانية. الشيء الوحيد الموجود بالنسبة لسارتر هو المادة. إنه العدم الذي يميز الإنسان عن المادة البحتة. بالنسبة لسارتر، لا إله ولا روح. لا يوجد سوى المادة والعدم وجود ولا شيء آخر. الوجود والعدم. من هذين، ينشأ الإنسان والعالم.

***

................

* مختارات من كتابات وجودية

باتت الفلسفة مثل (الكتابة والنقوش الغريبة) في البيئات التي لا تستطيع التفكير الحُر. وأول شروط التفلسف أنْ تُفكر بلا قيودٍ، أنْ تُمارس الحياة بوافر الوعي كي تستطيع أنْ تقول " أنا". والأنا المُفكر ليس سهلاً تحقيقُ وجوده على نحوٍ قابل للاستقلال. لأنَّك لا تستطيع معرفة الأنا مُتوحداً مع نفسه، دوماً هناك كمٌ من الأغطية الرمزية التي تلفه طوال الوقت. وقد لا تترك له الحياةُ مساحةً دون أنْ يُسمع صدى حركته أو يُتعقب وجوده!!

تتوقف معرفة الإنسان لذاته على درجات الرؤية عبر الأغطية الرمزية المتراكمة (الثقافة، المجتمع، التاريخ، العلاقات، المعتقدات، الآراء الشائعة...). هو أنا يختلفُ من ثقافةٍ إلى أخرى، فكيان الأنا متفردٌ على غرار" البصمة " الوراثية، إذ لا يُوجد اثنان متطابقان منهما رغم تشابُه الظروف. وقد يظل الأنا مُغطّى حدَّ الإختناق أو لا يتم العثور عليه خالصاً طوال مسيرة الإنسان. وربما يمثل الأنا موجات (ترددات) من الإستعارة التي توجّه نظرَ الإنسان أنَّ هناك شيئاً ما داخله اسمه (الأنا)، ولكنه قد لا يعدُّ شيئاً فعلياً ذا بال.

الحقيقة البادية أنَّ تلك الأغطية تتحدد بهذا الأنا وتُظهر قوتها بواسطته دون عنايةٍ كبيرة لوجوده الخاص. فالأنا مصنف في قوالب وظيفية عامة تخدم نظام الضبط والمراقبة وحركة الفئات. إنَّ مجتمعاتنا العربية لا تترك الإنسان وحيداً أو خارج آليات الإدماج الثقافي والاجتماعي. عليك أنْ تكون مُشابهاً للآخرين من غير نقاش، أي أنْ تكون نسخةً مقلّدةً تماماً، وإلّا فسيكون مصيرُك الإقصاء أو على أدنى تقدير الإهمال.

ولكن إذا كانت الفلسفةُ تكتشف ذلك البُعد، فهل الفلسفة تماثل عملية الكتابة والقراءة بصدد مصطلح "محو الأمية"؟! بالطبع فأنْ تتفلسف معناه أنْ تعي من أنت بكامل وجودك الحُر، بحيث يكون وجوداً قادراً على التعبير. فالوجود الإنساني قد يكون (منقوصاً) تحت إطارات الأنظمة السياسية الطائشة، وقد يكون وجوداً (متآكلاً) نتيجة القهر والتخلف والركود، وقد يكون وجوداً (منسحقاً) بفضل العادات والتقاليد. فهذه الأشياء في المجتمعات البشرية تمارس أدوارها على شاكلة الحيوانات المفترسة التي لا تترك شاردة ولا واردة دون مساسٍ. ويتم تحويل المجتمع إلى غابةٍ لا يقوى إنسانها على الوعي لدرجة أنه ينسى شيئاً اسمه التفكير!!

الفلسفةُ لا تعيشُ في الأحراش والعشوائيات، ولا تريد أنْ تكون حيواناً مفترساً، لكنها فاعلية تعيش في الأسواق والساحات بين الناس، بين العلاقات الإنسانية، وبين القوى الحوارية والتنافسية، وبين اختلافات العقول، وبين الرؤى المتبادلة، وداخل صور الحوار التي لا تهدأ، وبين وجوه التأويلات الحياتية للوقائع والأزمنة، وعبر الشعور الوجودي بأحوال العالم والحياة. الفلسفة تنمو حيث التعلُّم الذاتي المستمر لمشكلات الحياة القصوى. الفلسفة أبجدية يجب معرفتة حروفها وتعلُّم أصول كتابتها تماماً مثل نتعلم ألف باء الهجاء والكتابة.

الفلسفة تظهر في حمأة الظواهر والأحداث التي تنتاب المجتمعات لحظة السيرورة والتغيرات الجذرية. ليست هناك فلسفة كثمارٍ معلقةٍ في فراغٍ على أغصان دانيةٍ. وحتى لو كانت الفلسفة حاملةً لمشاعل العزاء الإنساني للبشر، فإنَّها تنغرس عبر لحظة يقظةٍ واعية بإطلاقٍ. لا توجد فلسفة تغمض أحدى عينيها وتفتح الأخرى، ولا توجد فلسفة تقبل نصف الفكرة لصالح النصف الآخر، لابد للفلسفة أن تفتح عينيها معاً حدَّ الإمتلاء بحقيقة العالم.

الفلسفة تناقش قضايا كونيةً تخص إنسانيتنا المترامية في كل مكان وزمان، قضايا الكرامة والتعايش والتسامح والحرية وتوطيد حدود العقلانية وحقوق الإنسان وأفساح آفاق الفهم وإنطلاق العيش ومقابلة الآخر. الفلسفة تدفع الوعي الإنساني إلى أقصاه، إلى اختراق الحواجز والبحث عن البعيد والغائب، والتفلسف هو ذروة الوعي القادر على المساءلة والنقد وإعادة البناء. الفلسفة تقدم لنا العزاء عما فقدناه من أشياء ليست بالقليلة، مثل سلام النفس والطبيعة الحرة والأصالة وتلقائية الحياة وجوانب الإنسانية الجامعة بيننا.

لا تسمح الفلسفة بأن يكون الآخر منبوذاً ولا مطروداً، لأنها ترى فيه وجوداً مساوياً لوجودنا الأصيل، بل مكوناً رئيساً لحياتنا التي نفقد زخمها بدونه. هي تعمل على وجوده الدائم من خلال وجودنا معاً بالتقاطع لا بالتوازي. والفلسفة تظهر في المجتمعات التي تعيش حالةً من المسئولية عن الآخر، لا مجرد إعطائه مساحة من الحوار والفعل. الفلسفة هي ترموميتر قدرتنا على الحوار والفهم، وأن نرصد وجودنا المحتمل في المستقبل. إنها تدربنا على النظر الثاقب نحو الأمام والخلف والعمق في اللحظة ذاتها، فلا توجد فلسفة تجمد نظرها تجاه الماضي وإلاَّ لسقط الإنسان في أقرب حفرة ثقافية تحت قدميه. ولا تطرح الفلسفة المستقبل متخيلاً ويوتوبياً وإلاَّ لسقطنا في الأوهام والأحلام الفارغة، ويستحيل حبس الفلسفة في أسر اللحظة الحاضرة، لكونها تُناقض كل حضور مركزي يمكنه أنْ يبتلعها.

في مجتمعاتنا العربية، لم تأخذ الفلسفة مكانتها الثرية، نظراً لغياب تلك المؤشرات، كانت ثمة بدائل ثقافية تأخذ مواقعها، كما أن مفاهيم الذات والآنا والآخر والحقيقة والفضاء العام والتنوع والاختلاف لم تترسخ بعد، بل غدت مفاهيم غريبة وغير مرغوب فيها أصلاً. وذلك بحكم أنَّ الفلسفة تحتاجُ إلى تربة ثقافية خصبة، حيث لا يكون هناك مطاردة ضروس بين الفكر والواقع. ونحن نعرف سلفاً من سيكون في المقدمة وطارداً للآخر. إن الواقع المتحصن بنمط الحياة السائدة وقوة الصور الحاكمة للتفكير يحول دون وجود الفلسفة بمعناها السابق.

لأنَّ القضايا المثارة في هذا الواقع ليست هي القضايا القابلة للتفلسف، هي قضايا الحد الأدنى من الوجود، هي قضايا الكفاف الفكري، موضوعات الفقر العقلي المُدقع. كما أنَّ واقع مجتمعاتنا العربية لا يعبأ بما هو مشترك على صعيد الإنسانية، هي مجتمعات تسير بالقطعة التاريخية ... خطوة خطوة، حقبة حقبة، مرحلة مرحلة. فاليوم مختلف عن الغد والاثنان مختلفان عن الأمس، وقُلْ ذلك بصدد جوانب التاريخ. وهكذا سيكون وعي الإنسان ممزقاً ومنقسماً على نفسه. وسيتم قطع وتيرة القضايا المشتركة، لأن المشترك هو الاسنثناء المفاجئ لا القاعدة الممتدة، وبالتالي سيكون التفلسف غير ذي أهمية بالنسبة لنظام المجتمع.

إنَّ محاولات التفلسف منذ الفلسفات العربية الإسلامية القديمة لا تواصل طريقها التاريخي، إنما يتم بترها دون أسباب واضحةٍ، بل وتحت مبررات مختلفة كان مصيرها التلاشي والإنزواء. ولم تجد تلك الفلسفات من لديه حساً فلسفياً أصيلاً كي يواصل إحياءها، لأن الثقافة السائدة - مع تعاقب العصور- ناصبت كل ما يمت إلى الفلسفة عداءً وصراعاً طوال الوقت. وفجأة أصبحت الفلسفة مطرودةً من وعينا اليومي والحياتي من غير رجعةٍ. وأخذت تبيت وتصبح خارج منطقة القبول العام، ولذلك كان الفكر لدينا محروماً من الأبعاد الفلسفية الكلية لفهم المشكلات والقضايا وورثنا قلة التبصر الفلسفي تجاه أخص ما نملك وهو وجودنا المشترك.

الأمية الفلسفية مستوى من تفكير واسع الانتشار لدى المثقفين والناس العاديين. فهم يتحدثون في كل شيء ويعلقون بصدد أية أحداث وظواهر، ولكن عندما يكونون بصدد التفكير الفلسفي يغلقون عقولهم ويصمون آذانهم عن السماع والفهم. قد ينخرطون في ثرثرات إعلامية وثقافية لأوقات طويلة، غير أنهم يصمتون صمت القبور حينما تظهر إشكالية فلسفية أو حينما يتطالب الموقف معالجة للأفكار على الصعيد ذاته. والغريب أيضاً أن الأمية الفلسفية توجد كذلك لدى بعض أساتذة الفلسفة أنفسهم، حينما يتكلمون بلهجة الفكر الدارج حول قضايا الواقع والحياة، ويرفضون بلاوعي أنْ تؤثر الفلسفة في رؤيتهم للأشياء والمواقف. هم في الحقيقة يحولون الفلسفة إلى مهنةٍ كلامية لا طائل من ورائها، يفضلون النقل والإستظهار لكنهم لا يكابدون تفكيراً حراً خارج الأطر التقليدية، ولا ينشغلون بهموم فلسفية.

ولذلك تنتشر الأمية الفلسفية بالدرجة الأولى بين المتعلمين، وهذا دليل على كون التعليم غير معني بالفلسفة وأهميتها. وعليه يمكننا محو الأمية الفلسفية عندما نعي حجم المشكلة التي تواجه العقول لدينا، وعندما نقف على ذروة الثقافة المُغلقة التي ترى في الإنسان أداة للتسلط والقهر. تراه وسيلة للقبض على زمام عقله وإدارته كيفما تشاء. علينا إفساح مجالات التعليم ومؤسساته لجوانب كبيرة من الفلسفة، حتى تصبح ممارسة حرة في كافة الأنشطة التعليمية والمعرفية. لأن الفلسفة لصيقة العمل بالعقل طالما هناك إنسان يفكر ويبدع.

إنَّ الأسئلة الفلسفية يستحيل قمعها أو كبتها، ولو حدث ذلك، فقد يكون الوضع إلى حين، بيد أنها ستنفجر في مرحلةٍ لاحقة. وستكون التكلفة الثقافية باهظة الثمن من تدوير الغباء والتنطع الفكري والتمحك اللغوي والخلل في تداول خطابات الغوغاء واستشراء التسلط دون حدود. الفلسفة هي مصل واق لتلك الأمراض التي توجد حال غيابها الفكري. ولعلَّ الأمية الفلسفية سبب عدم جدية الفكر في مجالات السياسة والإجتماع والمعرفة والإعلام لدينا، فقد نتناقش من حين لآخر، لكن مع إقصاء الفلسفة يغدو النقاش قصير الأمد، ولا يبلغ أذني المتحاورين.

الأبجديات الفلسفية هي المفاهيم والمناهج والأفكار التي تتيحها الفلسفة للعقول الحرة التي تتأثر بها وتنتجها. طالما توجد أبعاد فلسفية في أي خطاب، فهذا كفيل بجعله قادراً على التأثير، لأنَّ التفلسف يمثل قوة العقول على الطرح وابتكار الرؤى. وليس عيباً أنْ يعترف الإنسان هنا أو هناك بكونه لا يعرف الفلسفة ولم يتلق تعليما وافراً فيها، ولكن العيب كل العيب أنْ يغلق عقله أمامها بحجة كونها مستغلقةً وصعبة الفهم وأنْ يتخذ من ذلك تعلةً للتراجع أمام الاتجاهات الفلسفية التي هي نتاج الحياة. عليه أنْ يفتح ذهنه دون انغلاق أولاً، وأنْ يتهجى فلسفياً أفكاره من جديدٍ، وأنْ يحاول هضم الأفكار التي توفرها الثقافات الكونية التي سبقتنا في هذا الشأن.

***

د. سامي عبد العال

 

 

"… من أين لي هذا الشعور الذي يعمل في قلبي ويحملني إلى التفتيش عن الله؟" هكذا تساءل ليو تولستوي في كتابه "اعتراف"، وها أنا أعيد مراجعة هذا الشعور العجيب والمدهش الذي يدبُ دائمًا في أعماق الوجدان متسائلًا عن معنى الوجود ولغزه، والأهم عن ما وراء هذا المعنى الوجودي الذي أراه يقودني إلى معادلة جوهرية مطلقة لا يمكن التنصّل من وجودها الذي نشعر به في داخلنا، وهذا ما يعكس معنى "الله" عند الإنسان المتدين. مناقشة قضية الإيمان بمضمونها العام والخاص من ضمن القضايا الجدلية الساخنة التي تأرجحت في مضمونها بالجانب الديني والجانب العلمي؛ مما ساهم في حدوث صراع يكاد لا ينتهي ولا يُحل.

من أي طريق وبرهان يمكن للعلم أنْ يثبتَ وجودًا لله؟ هكذا تبدأ جدلية لا تنتهي إلى جوابٍ مطلقٍ وصريحٍ أطرافها العلم والدين، ويخوض أتباع هذه الأطراف معارك حجاجية مفعمة بالتنافر والتناحر في سبيل الانتصار إما للعلم وإما للدين. هذه القضية أشبه بصراع يدور - ومنذ فترة ليست بطويلة - بين العلم والفلسفة -برغم أنَّ الفلسفة وسيلة أولية للعلم- مثل ما روّج له ستيفن هوكنج عندما أعلن عن موت الفلسفة وهزيمتها أمام سطوة العلم، وهوكنج نفسه حذّر من فشل العلم في الحياة من حيث تعاطي الإنسان مع العلم، ومن حيث عدم قدرة الإنسان على كبح طفرة العلم المتمثلة في التقدم التقني وتحديدًا الذكاء الاصطناعي الذي يراه هوكنج تهديدًا يهدد مستقبلَ الإنسانِ ووجوده. هذه النظرة التشاؤمية التي يعرضها هوكنج سواءً فيما يخص نظرته الدونية لدور الفلسفة أو حتى نظرته السلبية لمستقبل العلم ليست بجديدة فقد سبقها معركة أكثر قدمًا منها بين العلم والدين، وعندما نعود إلى تاريخ هذا الصراع نجده -في غالبه- متأصلًا في صراع الكنيسة مع العلم بصفتها ممثلة للدين، وهذا يعيدنا إلى مشهد محاكمة سقراط وموته نتيجة الصراع بين المنظومة الدينية وآراء سقراط الفلسفية. أما صراع العلم والدين الذي بلغ ذروته في القرون الوسطى فهو عائد إلى التناقض الكبير بين النصوص الدينية التي تتمسك بها الكنيسة وبين الانبثاقات العلمية مثل مسألة مركزية الشمس التي أعلن عنها نيكولاس كوبرنيكوس وبعده جاليليو جاليلي وما صاحب انبثاق هذا الإعلان العلمي من تحديات تواجه سلطة الكنيسة ومبادئها التي تتعارض مع هذا المنهج العلمي الذي نتج عنه قيام محاكم التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية باضطهاد أتباع المنهج العلمي ومحاكمتهم. تتوالى بعدها مثل هذه الصراعات بين العلم والدين فنجدها مرة في صدمة أخرى تتلقاها الكنيسة فيما يعرضه العلم الجيولوجي عن تقدير عُمْر الأرض والحياة المناقض لنصوص كتابها المقدس، وكذلك تفسير العلم لآلية الحياة وتطورها المتمثل في نظرية التطور. هذا الصراع لم يقفْ حتى يومِنا؛ فمنذ زمن ليس ببعيد وثّقَ التاريخُ مقاومة بعض التيارات الدينية -بعضهم حتى يومنا- لمخرجات العلم من تقنيات ووسائل مثل جهاز الرائي "التلفاز" والمذياع والهاتف وأجهزة التصوير؛ لنجد أنَّ جذور هذه المقاومة تنبع من الفهم والتأويل الخاطئ للدين التي يظن أتباعها أنهم بتلك الممانعة والمقاومة يقيمون سدًا منيعًا لحماية مبادئ الدين وعقيدته.

في الجانب المقابل نجد أيضا صعودَ المقاومة العلمية للدين، ومحاولة حماية العلم وضمان استقلاله، بل تطور الأمر إلى محاولة فرض العلم إلهًا جديدًا للإنسان وإزالة الدين، وعندما ننظر إلى هذه النزعة العلموية فهي الأخرى لا تقل خطرًا عن المقاومة السلبية التي أظهرتها المؤسسات الدينية للعلم، وهذا يُرجعنا إلى جذور العلاقة المتوترة بين الكنيسة والعلم ليؤثر لاحقًا على مجرى التناغم الذي كان بين العلم والإسلام، ونجد ذلك "مثلًا" في التوجس السلبي الذي أبداه فيلسوف وعالِم كبير مثل أبو حامد الغزالي حين أعلن عن موقفه المعارض -في مرحلة حرجة من مراحل مسيرته العلمية- للفلسفة وإدراجها في قائمة المحظورات الدينية، مما فاقم من اتساع فجوة الخلاف بين العقل والنص، بصفة أنَّ العقل الممثل الشرعي للفلسفة، والذي ولّد توجسًا دينيًا غير مبررٍ للقضايا العلمية، وهذا ما نراه جليًا في موقف بعض فقهاء المسلمين من تعاطيهم لنظريات علمية مثل نظرية التطور التي أتخذ بعضهم موقفًا سلبيًا منها دون تحديدٍ أو تجزئة لمفاصلِ التعارض الديني لهذه النظرية التي -في كثير من أجزائها "الأصلية"- تعكس تفسيرًا علميًا محضًا لا يتعاطى مع أي حيثيات دينية، مع تأكيدي لوجود لجزئيات دخيلة (بعض مدخلات الدارونية الحديثة) جاءت بعد فترة لتلتصق بهذه النظرية لتستغلها في توليد شقاق عميق وواسع مع الدين محاولةً في هدم المبدأَ الإيماني الذي يُعنى الدين بالمحافظة عليه وتأصيل قواعده وأركانه.

من وجهة نظري، لا حقيقة جوهرية لوجود صراع بين الدين والعلم؛ فالدين السليم الناصع لا يمكن أنْ يتعارض مع العلم الصحيح، وهذا براهنه مثل براهن نفي التعارض بين العقل "المعقول" السليم مع النص السليم، ووفقًا للمنطق السليم عند حدوث أي تعارض فهناك خطأ ما في أحد هذين الطرفين. نجد الدين المتمثل في النص السليم لا يمارس أي وصاية على حياة الإنسان وخياراته بل يقيم برهانًا وحجة عقلية توجه هذا الإنسان إلى طرح تساؤلات وجودية مهمة، وتساعده على إيجاد الجواب على هذه التساؤلات؛ فترشده إلى البناء الإنساني القويم "الأخلاقي" لتحدد علاقته بداخله وخارجه؛ لتحدد موقعه في هذا الوجود وترشده إلى العلة الأولى المطلقة "الخالق"، في المقابل نجد العلم لا يسعى ليرشد الإنسان إلى هذا الجانب الإيماني، بل يعمل مكملًا ليرشده في فهم آلية عمل الكون والحياة وتفسيرهما دون ولوج إلى أي تفسير للعلة المطلقة "الخالق" حينها نجد اكتمالًا مدهشًا لهذه المعادلة الصعبة التي فشلت أممٌ كثيرة في تحقيقها، ووفقًا لهذه العلاقة المتناغمة بين الدين والعلم تتضح معالم معادلة الإيمان بصورة أكثر جمالًا وإشراقًا دون أنْ نجدَ أنفسَنا تحت تأثير التأويل الديني المخالف للعقل والعلم، وتأثير التأويل العلمي المتعصب للقطب المادي المنكر للجانب الشعوري والروحي للإنسان. لابد لهذه العلاقة من توازن؛ فالدين لا يسعى لفهم الكون وآلية عمله بل يسعى للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة، ولتأمين منظومة أخلاقية فاضلة تحفظ حرية الإنسان وكرامته، أما العلم فيسعى إلى تبيان شكل هذا الوجود وعمله؛ ولا يمكن له أنْ يبرهنَ وجودًا ميتافيزيقيًا بشكل تجريبي جلي بل يمنح هذا الإنسان حق التأمل والاستنتاج، وحق الانتفاع الأفضل من مكنونات هذا الوجود العظيم.

نحن اليوم أمام موجةٍ فكريةٍ تحاولُ أنْ تحاكمَ الدين باسم العلم، وتحاول أنْ تفرضَ شروطها ومعاييرها الدغمائية لتسلك بالبشرية مسلك المادية دون أنْ تقيمَ وزنًا لقيم الإنسان وخياراته الروحية (الدينية)، وفي المقابل نجدُ أيضا تيارًا دينيًا يحاول أنْ يحاكمَ العلم باسم الدين وأنْ يزيحه ليستفرد بمدخلات العقل البشري. هذه المعادلة الناقصة لن تصنع إنسانًا ومجتمعًا متناغمًا مع متطلباتِه الداخلية والخارجية؛ فغلبة العلم وتأليهه في الغرب قاد إلى إيجاد إنسان مادي يفقد المعنى الروحي للحياة؛ فنراه يستعين -مرة أخرى- بالفلسفة لتعينه على تعويض هذا النقص ليجد نفسه مشتتًا بين مدارس فلسفية كثيرة ومتغايرة، أما المجتمعات الشرقية (خصوصًا العربية) وجدت نفسها في قالب ديني تخلى عن أداة العقل؛ فعطل مسايرة العلم وتطوره خوفًا من فقدان الدين الذي هو الآخر لم يسلمْ من التشويه، فنجده يصيغ باسم الدين تأويلات وتفسيرات لظواهر الكون وألغازه؛ فيقحم الدين في خصوصيات العلم؛ فنجده غارقًا في ظلمات الجهل والتخلف ولم يطمعْ في البحث والاكتشاف لينال شرف الدين والعلم معًا.

***

د. معمّر بن علي التوبي

باحث وأكاديمي عُماني

 

التَّصَوُّرُ الإنساني عن الجَوْهَرِ التاريخي للفرد، والتحليلُ اللغوي للكَينونة الحضارية للمُجتمع، يُمثِّلان مَرجعًا أساسيًّا في مصادر المعرفة التي تتغلغل في التجاربِ الحياتية والظواهرِ الثقافية، ويُشَكِّلان بُنيةً وظيفيةً للأحداث اليومية على الصَّعِيدَيْن الشَّخْصِي والفِكْرِي.وإذا كانت رمزيةُ اللغة تَتَبَلْوَر في قواعد الفِعْل الاجتماعي، فإنَّ فلسفةَ التاريخِ والحضارةِ تَتَشَكَّل في وَعْيِ الفرد وشُعورِه وإدراكِه، بحيث يُصبح الزَّمَنُ نظامًا مُنْفَتِحًا على الذاتِ والعناصرِ المُحيطة بها بلا قطيعة وجودية معَ الماضي، ومَسَارًا مَفتوحًا على سُلطة المَعْنَى باعتبارها مُحاولةً لتفسير الواقع المُعَاش بلا انفصال اجتماعي عَن العقلانية. والزَّمَنُ لا يُبَدِّل جِلْدَه، ولَكِنَّه يَتجاوز الحُدودَ المَكَانِيَّةَ لِيُقَدِّمَ رُؤيةً جديدةً للواقع والمعرفة، مِمَّا يُسَاهِم في تكريسِ تأقلُم الوَعْي معَ التُّرَاث، وتعزيزِ تَكَيُّف سُلطة المَعْنَى معَ مصادر المعرفة، وتحقيقِ الانسجام بين اللغة والهُوِيَّة، بِوَصْفِهِمَا صِياغةً فلسفيةً جديدةً للمعايير الوُجودية التي تُحدِّد معالمَ البناء الاجتماعي داخلَ جَسَدِ الفردِ وجَسَدِ المُجتمع، مِمَّا يَحْمِي الفردَ مِن العَيش مَنْفِيًّا في لُغته، ويَحْمِي اللغةَ مِن الوَعْي الزائف الذي يُفَسِّر الوقائعَ التاريخية اعتمادًا على حقيقة السُّلطة، ولَيس سُلطة الحقيقة. وكُلُّ أدلجة سياسية للتاريخ سَتَدفع الفردَ إلى الغُربةِ في عُقْدَة الشُّعور بالذَّنْب، وتَدفع المُجتمعَ إلى الاغتراب في عُقدة الشُّعور بالنَّقْص.

2

طريقُ الفردِ في الحياة هو طريقته في تأويل الأحداث اليومية، واتِّحَادُ الطريقِ والطريقةِ - وَعْيًا وفِكْرًا ومُمَارَسَةً - يَكشِف الواقعَ المُغَيَّبَ في صِرَاعِ المصالح، وصِدَامِ الأهواء، ويُوضِّح المَسكوتَ عنه في تاريخ الفردِ والمُجتمعِ، ويَدفع رمزيةَ اللغة إلى التنقيب في الذاكرة لِصَهْرِ الأضداد في رُؤية نَقْدِيَّة مُتماسِكة للحضارة. وفلسفةُ الحضارة لا تَظهَر في المُنْجَزَاتِ الماديَّة والصِّنَاعاتِ التكنولوجية، وإنَّما تَظهَر في كَيْفِيَّةِ تحقيق الاندماج الاجتماعي في جَسَدِ الزَّمَنِ ورُوحِ المكان. وهذه الكَيْفِيَّةُ تُؤَثِّر في طبيعة الفِعْل الاجتماعي الحاملِ للأفكار الإبداعية، والناقلِ للظواهر الثقافية. ورغم الاختلاف الجَوهري بين جسدِ الزمن كَهُوِيَّة وُجودية، ورُوحِ المَكَان كَسُلطة حياتية، إلا أنَّهُما قادران على ابتكار فضاء عقلاني يَحتضن آلِيَّات التأويل اللغوي لقواعد المنهج الاجتماعي، باعتبارها أسئلةً مصيريةً باحثةً عَن أجوبة مَنطقية، وإشكالياتٍ معرفية باحثة عن حُلُول عمليَّة، ومَرجعياتٍ فلسفية باحثة عَن هُوِيَّة واقعية في عَالَمٍ شديدِ التعقيد، ودائمِ التَّغَيُّر، يَقُوم على أنساقِ العوالم الافتراضية،والقطيعةِ بين الماضي والحاضر،وهَيمنةِ الآلةِ على الطبيعة،والانفصالِ بين الأشواق الإنسانية الرُّوحية والنُّظُم الاستهلاكية المادية.

3

الجَوْهَرُ التاريخي للفرد يُعيد تعريفَ ماهيَّةَ السُّلطةِ في العلاقات الاجتماعية، والكَينونةُ الحضارية للمُجتمع تُعيد تعريفَ مَفهوم الهُوِيَّة في مصادر المعرفة. والفردُ لَيْسَ كِيَانًا مَعزولًا عن التجارب الحياتية، وإنَّما هو تجسيدٌ للوَعْي الآنِيِّ المُنفتح على المُستقبل. والمُجتمعُ لَيْسَ حِقبةً زمنيةً مَحصورةً في أشكال السَّيطرة، وإنَّما هو توليدٌ للفِكْر العقلاني المُنفتح على اللغة. وثنائيةُ (تجسيد الوَعْي / توليد الفِكْر) تُؤَدِّي إلى تَفْسِيرِ النَّمَط الحياتي، وتَحْلِيلِ النَّسَق الثقافي، فَتَتَّضِح أحلامُ الفرد في أعماق الحياة، ويَبْرُز الزَّمَنُ كَخِطَاب لُغَوي رمزي يتعامل معَ التاريخِ كَأداةٍ لتشكيل الوَعْي بالحضارةِ ومُكَوِّنَاتِها الوُجودية، ويتعامل معَ الحضارة كَآلِيَّةٍ للبحث في ماهيَّة التاريخ عن الشُّروط الاجتماعية للمعرفة. وإذا كانَ الوَعْيُ يُحلِّل شخصيةَ الفرد الإنسانية كَبُعْد تاريخي مُتَجَذِّر في التجارب الحياتية، فإنَّ اللغة تُحلِّل العلاقاتِ الاجتماعية كَرُموز مُستقرة في البيئة والطبيعة، فَيَظْهَر الفردُ كفاعلٍ إنساني يَمتلك سِيَادَةً على الواقع المُعَاش، ويُسَاهِم في نَقْدِه، ويُشكِّل أبعادَ الوَعْي بالهُوِيَّة، ومعالمَ الشُّعور بالسُّلطة. والهُوِيَّةُ هي سُلطةُ التراكمات التاريخية المُتَحَكِّمَة بالمَسَار، والسُّلطةُ هي هُوِيَّةُ المعايير الفكرية المُتَحَكِّمَة بالمصير.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

ما علاقة الوعي الذاتي بالمادة؟ وهل الوعي تخليق عقلي ام تخليق احساسات الحواس الانطباعية بالذهن عن العالم الخارجي والداخلي؟

علاقة الوعي بالمادة علاقة ادراكية هي من تخليق الدماغ وليست من تخليق الحواس والذهن معا. الوعي ليس انطباعات مصدرها الحواس في علاقة ارتباطها بالذهن، بل الوعي ناتج ردود الافعال الارادية التي يصدرها الدماغ في تفسيره لمدركات الحواس معرفيا يسميها كانط مقولات العقل الاثنتي عشر.

والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته الأنوية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي المدرك خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود أنطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الأشياء والموجودات الخارجية والمحيط.

الوعي الذاتي هو جزء إدراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه اي الوعي لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، إلا في إرتباطه كحلقة في منظومة الإدراك العقلي للاشياء والموجودات، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها... فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت. الوعي مرحلة ادراكية عقلية تتجاوز ما تنقله الحواس.

اسبينوزا وميتافيزيقا العقل

قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزّعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الإدراك المادي العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها "كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والإمتداد مجرد صفتين له." العبارة لاسبينوزا. في تعبير سبينوزا الذي ذكرته نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالإدراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجدها عند الصوفية الدينية في شخصنتها الذات الإلهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الإلهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل اسبينوزا الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله - قوانينه الخاصة به في قدرته اللامحدودة تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا التصور خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الإلهية المعجزة في أعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الإعجاز الإلهي مثلما يقف أمامها عجز الإدراك الانساني لها. القدرة الالهية ليست بحاجة اثبات الجوهر الذاتي لها من خلال خرق قوانين الطبيعة بالمعجزات التي تكون محنة وحاجة الانبياء لها اثبات وجودهم الذاتي كبشراختارهم الله وليس كآلهة تشارك الخالق ادارته حياة الانسان على الارض.

ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق جوهرا غير مدرك يمتلك صفتين هما (الحركة والامتداد) اللتان هما صفتان ماديتان تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة بإستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات.

من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الإلهية انه يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها بإستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.

مذهب وحدة الوجود لدى الصوفية هو في تحرير النفس والوجود الانطولوجي من اشكال الاحتوائية الواقعية للوجود الانساني.فيصبح او هكذا يفهم منه التعالي الروحاني مظهرا روحانيا من الوجود غير الانطولوجي المادي يتجاوز مقيّدات القوانين الطبيعية التي تحكم علاقة الوجود الانساني بالطبيعة المتخارج معها معرفيا وليس جدليا. من حيث الجدل نفي والمعرفة تكامل.

سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة . سبينوزا في مذهب وحدة الوجود أراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالإنصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الإلهية في فينومينولوجيا الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية حلولية في النور الالهي لا علاقة لأي شيء مادي محسوس يتعالق مع تلك التجربة الروحانية.

بمعنى لا تمتلك المادة ولا الطبيعة خاصية الفكر بأستثناء أمتلاك عقل الانسان قابلية التفكير اذا ما أعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركاته..

الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة صوتا ومعنى. وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الإدراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والإمتداد موفقا مقبولا، فالإمتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الإمتداد والحركة المادية وهو ليس متعيّنا انطولوجيا ؟ نجد عند عديد من الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي لها مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المأزق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.

ديكارت والوعي

منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة أهتماما أستثنائيا في أعقاب أطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في أمتلاك الوعي الفردي القصدي معرفة الذات وجوديا في خاصية التفكير المنفرد. ..

في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف هيرمان برينتانو بمقولته (أن الوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثيرهذه العبارة على جون سيرل لاحقا..ليعقب – برينتانو - تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى أدراك الذات على أنها أشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الادراك بلوغه..

برأيي عبارة برينتانو الوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان تحمل تفسيرا منطقيا متناقضا غير نسقي اختصره بما يلي:

- ليس هناك وجود قصدي يحدد انطولوجيته وجود مادي مستقل يستبق الوعي.

- الهدف القصدي هو وعي سلوكي مصدره العقل والارادة وليس مصدره الوجود المادي للاشياء في استقلاليتها.

- الهدف القصدي المادي او المتخيّل لا يحمل تناقضا ان يكون موضوعا ومضمونا مختلفين في آن واحد. فالوعي القصدي بالفكر يحمل وعيا بالوصول لهدف معين يتوخاه بالموضوع. ومضمون ذلك الهدف لا يحدد وجوده الوعي بل تحدده انطولوجيا الهدف المراد بلوغه قصديا. المراد هنا في تحديد الانطولوجيا لهدف الوعي القصدي لا تحده المادة فقط بل يحده (الموضوع) الذي لا يتحقق له وجودا انطولوجيا متعينا كما في مواضيع الخيال.

وبهذا نفهم تأثير تلميذ هوسرل من بعد برينتانو، هيدجر في أعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم. مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها الديكارتية، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وأنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود..

وخروج سارترلاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه في تناولهم القاسي لكتاب راس المال..وغيرهم عديدون فعلوا ذلك.

الوعي والفلاسفة الاميركان

كيف انتقل مبحث الوعي القصدي الى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وسيلارز، ورورتي وغيرهم، من اقطاب فلاسفة العقل واللغة؟

مبحث الوعي القصدي كان مثار اهتمام الفلاسفة قرونا طويلة، وكان التهّيب من الخوض به هو مخافة الدخول في نفق مبحث ميتافيزيقي. مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى التي ركز على هذه الاخيرة بتطرف فلسفي كلا من امبرتو ايكو في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية من غير اعلانهما عنهما صراحة. ما جعل الفلاسفة الاميركان يستضيفون الفلاسفة الفرنسيين والالمان من هواة فلسفة اللغة ويستلموا الراية منهم لاحقا ويعيدونهم الى بلدانهم الاوربية.

يذهب سيرل أنه أستنادا الى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية يوجد فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا أدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على أفتراض عدم وجود الارقام.هذا المعنى الفلسفي كان مثار جدال حاد جدا بين الثلاثي جون لوك، ديفيد هيوم، وبيركلي، وقد تناولت اشكالية الادراك الانطولوجي في مقالتي المنشورة بعنوان (اشكالية الادراك: الاصل والصورة). وليس هنا مجال البحث في تفاصيلها لأنها تحتاج شرحا مطولا سبق لي تثبيته بالمقال.

هل الوعي يرتبط بعلاقة تجريدية مع الادراك ام بعلاقة عضوية بايولوجية مصدرهما منظومة الدماغ؟ ولمن تكون الاسبقية للادراك ام للوعي؟

بالحقيقة السؤال معقد ويحتاج عرضا توضيحيا يقوم على الثوابت التالية:

- الادراك الحسي لانطولوجيا الوجود يسبق تشكيل الوعي عنه.

- الادراك يرتبط بعلاقة تجريدية بالوعي.الادراك مرحلة بدئية متقدمة لما تنقله الحواس.

- باستثناء الحواس والجهاز العصبي والدماغ لا توجد مفردة واحدة إدراكية ترتبط بهذه المنظومة لا تكون تجريدا مصدره الدماغ عضويا.، الذهن هوالانطباعات المؤقتة كما يشير لذلك ديفيد هيوم، اما الادراك، الوعي، الذاكرة، المخيلة جميعها مفردات تجريدية مصدرها منظومة العقل الادراكية ومركزها الدماغ.

- صحيح جدا ان هذه المفردات التي مررنا بها هي تجريد عقلي وظائفي لكن لا معنى لواحدة منها ولا لاكثر من واحدة منفردة قيمة يعتد الاخذ بها ما لم تكن مرتبطة بمنظومة الادراك العقلي ومركزها الدماغ والخلايا العصبية المليونية المختصة بكل واحدة من هذه المفردات الادراكية المجردة.

- يوجد إختلاف ليس بالبسيط بين فهم الفلسفة لهذه العلاقة الاشكالية وبين المنظور العلمي التخصصي التجريبي في معرفة وظيفة الخلايا الدماغية المسؤولة عن كل مفردة من هذه المفردات التجريدية.

- ترتبط هذه المفردات التجريدية فيما بينها بصيغة التكامل الوظيفي الادراكي ولا يمكن ان يكون هناك قيمة لواحدة منها لا ترتبط مع غيرها. بمعنى لا وجود لذهن بغير حواس، ولا وجود لادراك من غيرمادة او موضوع، ولا معنى لخيال لا يرتبط بمخيلة استرجاعية، ولا معنى لذاكرة من دون استرجاعات تذكرّية وتداعيات فكرية خيالية وهكذا.

هل ان ادراك الشيء هو غير الوعي به وغير معرفته؟

في عبارة لجون سيرل أن أدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للادراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الادراك الحقيقي المباشرله، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الاحساسات المنقولة الى الدماغ حسيا بزمن أدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الادراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الادراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس الذهني والمنظومة العصبية، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا،أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا أسترجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء..

وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك أدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى ألادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر أدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع أدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع أشباعات بيولوجية خالصة..

كما يوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي.. فالادراك المعرفي هو معرفة العالم الخارجي كوجود انطولوجي، والادراك الاستبطاني الداخلي فهو يتمثل بردود الافعال لمثيرات أجهزة أحاسيس الانسان الداخلية في اشباع حاجات الانسان الغريزية مثل الحاجة للاكل والحاجة للنوم او الحاجة للجنس وهكذا، وتدخل مواضيع الادراك الخيالية في تلبية اشباع رغبة استبطانية تراود الانسان اشباعها. هذا الاشباع الغريزي حاجة لا تمت بصلة الى الوعي المعرفي.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

كان أبيقور (341-270ق.م) فيلسوفا يونانيا قديما. هو مؤسس الفلسفة الايبيقورية، الفلسفة الاخلاقية التي دعت الى ترسيخ مفاهيم مثل الصداقة والسعي لمُتع الحياة البسيطة. بنى ابيقور مدرسته الفلسفية الخاصة في اثينا والتي استمرت حتى القرن الرابع الميلادي.

تماما مثل العديد من الفلاسفة القدماء، من المؤسف لم يتبقى حاليا الاّ القليل من أعماله. التقديرات تقول ان ابيقور كتب اكثر من 300 عملا اثناء حياته لكن لسوء الحظ معظم هذه الأعمال قد ضاعت. بدلا من ذلك، نحن نعرف عن معتقداته من عدد محدود من المقاطع والرسائل بالاضافة الى الكتب المطولة والمقاطع حول ابيقور من أتباعه ومعاصريه.

تميزت الايبيقورية برغبتها في مساعدة الناس للحصول على السعادة (eudaemonia) عبر عيش حياة هادئة خالية من الألم. ابيقور شجع أتباعه لممارسة هذه الفلسفة وهم محاطين بأصدقاء ضمن جماعة متماسكة لأنه اعتقد ان هذه هي أحسن طريقة لإستكشاف الابيقورية. في ضوء ما تقدم، ماذا يخبرنا ابيقورعن العائلة والزواج وتربية الأبناء؟ احيانا الأجوبة ليست بذلك الوضوح الذي نتصوره.

ابيقور: عائلته وحياته المبكرة

وُلد أبيقور في ساموس وهي جزيرة في شرق بحر ايجه والتي صادف ايضا ان تكون فيها ولادة فيثاغوروس. والداه كانا من اثينا وسافرا الى ساموس كمستوطنين عسكريين. ابوه، نيوكليس كان معلما في مدرسة بينما امه شيرسرت كانت على الارجح ربة منزل.

ابيقور ذاته قال مرة انه بدأ دراسته الفلسفية في عمر 14 عام، عندما كان معلمه غير قادر على توضيح مفهوم الفوضى في عمل هسيود، الشاعر اليوناني القديم. طبقا لأحد المصادر، استمر ابيقور في الدراسة في مدينة تيوس الأيونية لمدة ثلاث سنوات، وان معلمه كان نوسفان Nausiphanes. هذا كان هاما لأن نوسفان كان تلميذا للفيلسوف الذري الشهير ديموقريطس. ابيقور طور لاحقا نظريته الذرية الخاصة به لذا من المحتمل انه اطلّع على هذه الافكار لأول مرة في تيوس.

وحالما اصبح بسن الـ 18عاما، سافر ابيقور الى اثينا لكي يكمل تدريبا عسكريا الزاميا مدته سنتين ليصبح مواطنا اثنيا. بعد هذه الاقامة المؤقتة التحق مرة اخرى بأبويه في كولفون، المدينة الايونية القديمة. الوالدان كانا قد نُفيا بعد حرب لاميان التي خسرت بها اثينا السيطرة على سوموس لمصلحة مقدونيا. بعد هذا ولمدة عشر سنوات لم تتوفر أي معلومات عن تحركات ونشاطات ابيقور. الجزء المتبقي الوحيد في هذا الوقت هو رسالة كُتبت الى امه سبق وان احتفظ بها أحد اتباعه.

تأسيس الجماعة الابيقورية في اثينا

كما ذكرنا أعلاه، الصداقة والجماعة هما خاصية مركزية للايبيقورية. في سنة 306 ق.م، عاد ابيقور الى اثينا مع مجموعة من أتباعه واسس مدرسة عُرفت بـ "الحديقة" Hokepos. كان هذا لدرجة ما شيئا جديدا في اثينا القديمة. بعد ذلك، سيطر على الحلقات الفلسفية في المدينة كل من اكاديمية افلاطون من جهة، ومدرسة الليسيوم الارسطية من جهة اخرى.

المدرستان الافلاطونية والارسطية مالتا الى جذب اكثر الاتباع موهبة. المدرستان ايضا وجّهتا اهتماما كبيرا لتطبيق الفلسفة على الحياة العامة. اذا اراد ابيقور منافسة سمعة هاتين المدرستين ويطور فلسفة جادة وطويلة الأمد في اليونان، كان عليه ان يؤسس دكانا في اثينا وان يقوم بالأشياء بشكل مختلف قليلا.

ابيقور واجه هذا التحدي بتفاني وإخلاص. وخلافا للفلسفتين الافلاطونية والارسطية، هو طلب باصرار من اتباعه عدم الانخراط في الحياة السياسية او العامة. الحديقة كانت ايضا غير عادية في كونها اعترفت بالمرأة والعبيد . عاشت الجماعة حياة بسيطة تعتمد على الماء المقنن وخبز الشعير(ابيقورآمن بقوة بفضائل عدم الإسراف واعتماد اسلوب الحياة غير المكلفة). مرة اخرى، خلافا للمدارس الاخرى لا توجد هناك ملكية مشتركة بين الأتباع ولم يحدث أي نوع من الانحراف في الحديقة عدا بعض الإساءات المضادة من جانب الرواقيين.

توفي ابيقور بعمر 72 عاما بمرض البروستاتا بعد ان شكّل تحديا قويا للمدارس الفلسفية الاخرى في اثينا. في وصيته، ترك بيتا وحديقة وشيء من النقود من الحديقة ليذهب الى القيّمين على المدرسة. هو ايضا ذكر في وصيته ان تذهب بعض النقود لتكريم أبويه الميتين، بالاضافة الى انه طلب ان يشرف شخص ما على زواج بنت أحد اتباعه (مترودور) من فيلسوف اثني.

حول أهمية العائلة والصداقة في التاريخ الانساني

لماذا فضّل أبيقور الصداقة والروابط الاجتماعية على السياسة والحياة العامة. اكاديميون يعتقدون اننا يمكن ان نجد بعض الأجوبة لهذا السؤال في الملحمة الشعرية للمناصر له لوكريتين Lucretin "حول طبيعة الاشياء". يعتقد الباحثون ان لوكريتين كان يكرر الكثير مما كتبه ابيقور في الأصل في عمله الخاص "حول الطبيعة"، لذا ستكون بداية جيدة لمحاولة فهم افكار ابيقور.

اعتقد ابيقور ان الانسان الاول كان منعزلا لايمتلك أي بناء اجتماعي وكان فقط يتناسل عشوائيا. على هذا الاساس، لم يكن هناك حظا للكائن البشري في البقاء لفترة طويلة. ابيقور يشير الى أهمية العائلة كعامل رئيسي في ضمان ان يصبح العرق الانساني رقيقا ويبني روابط قوية بين افراده لتساعده في البقاء.

الناس بدأوا الزواج والتخطيط للعائلة مما جعل الزواج يوفر الحماية لكل واحد منهم ويمنحهم فرصة أفضل في تكوين جماعات اصبحت خطا دفاعيا او تحذيرا للآخرين من الأخطار الطبيعية مثل النيران او الحيوانات المفترسة. من هذه الهياكل الاجتماعية المبكرة، تعلّم البشر بالنهاية تطوير أسماء للاخرين ولما يحيط بهم. هم ايضا خلقوا مدنا وامما ودول والتي بدورها رسخت الى مدى أبعد روابط الصداقة والتحالفات ضمنت بقاءً طويل الأمد للانسان.

وكما نرى، طبقا لابيقور، ان ظهور العائلة لعب دورا هاما جدا في تطوير المجتمع المعاصر. العوائل والاصدقاء حولوا الانسان من كائن حيواني يصارع للبقاء بمفرده ولا يستطيع الاتصال الجيد، الى نوع منظّم ومدافع قادرعلى الوجود في جماعات كبيرة الحجم.

آراء ابيقورفي الزواج

كان للزواج والفلسفة علاقة قوية في اليونان القديمة وفي عصور الرومان. سقراط عُرف بزواجه من زنتيب (ذات المزاج الحاد)،وكان لهما ثلاثة اولاد ذكور. بعض الفلاسفة مثل افلاطون فضّل المشاركة بالزوجات، بينما آخرون عارضوا مؤسسة الزواج كليا. اثناء فترة ابيقور، لم يكن للزواج أي صلة بالحب الحقيقي. بدلا من ذلك، كان الزواج مرتبط مباشرة بتربية الاطفال. هذا لم يكن غريبا في اليونان القديمة، حيث أشار سلفا فلاسفة آخرون للارتباط بين استعمال العشيقات للمتعة الجنسية مقابل الزوجات لانتاج الاطفال.

يعتقد جيرت روسكام Geert Roskam ان ابيقور كان معارضا للزواج. في الحقيقة منذ عصر النهضة كان هناك الكثير من الخلاف حول ترجمة ديوجين لارتيوس Diogens Laertius لسيرة ابيقور،التي تقول انه اعتقد "ان الحكيم سوف يقوم بالاثنين معا يتزوج ويربي اطفالا". هذا بسبب ان الجملة اللاحقة تبدو تخالف هذا التصريح وتقترح ان الحكماء يتزوجون فقط في الظروف الاستثنائية. وعلى الرغم من ان ديوجين استُعمل عادة كمصدر رئيسي عند النظر لحياة الفلاسفة، لكن ابيقور كان بشكل عام معارضا للزواج وهذا تأكد ايضا من مصادر اخرى لأبيقوريين معروفين.

مثلا، فيلوديمس(من جادارا) كان فيلسوفا ابيقوريا يعرض مراجع مثيرة للاهتمام للزواج. يكتب حول حفلات الزفاف، و يجادل ان الشعر هو افضل شكل للترفيه من الموسيقى، قبل ان يقترح ان الزواج ليس الشيء الذي يمكن ان يُقال عنه "جيدا". وفي نص آخر، هو يرى انه حتى الشاعر اليوناني القديم هسيود Hesiod له تحفظاته على مؤسسة الزواج، ويستعمل هذه الحجة لدعم شكّه في فائدة الزواج. غير ان باحثين اخرين يشيرون الى ان لوكريتوس المخلص جدا لابيقور يعرض رؤية لابيقور مختلفة جدا حول الزواج. كما لاحظنا سلفا، هو يكتب ان الاطفال هم الرابط الذي يشد المجتمع الى بعضه . في "حول طبيعة الاشياء" لم يكن ابيقور معارضا للابوة، طالما لا يضع الناس توقعات غير معقولة حول ما تتطلبه الابوة. جزء مهم من تقرير امتلاك او عدم امتلاك اطفال يستلزم الصدق حول الرغبة ومدى قوة رغبة الفرد في امتلاك عائلة.

رغم هذا، ابقور نفسه لم يتزوج ابدا، والذي يشير انه كان يتبع نصيحته الخاصة حول المسألة. محاولة اثبات بالضبط ما اعتقده ابيقور بشأ الزواج التقليدي كانت مهمة صعبة جدا في ضوء مقدار ما ضاع من كتاباته، وحتى الان لم يتفق الباحثون على جواب محدد.

وصية أبيقور والإعتناء بأصدقاءه وأتباعه

أراد ابيقور ان يتأكد قبل ان يموت بانه أجرى ترتيبا لجميع شؤونه العملية. وصيته الأخيرة كانت هامة لأنها تكشف اهتمامه بأصدقائه في الحديقة. انها ايضا تضع مثالا هاما لتلاميذه حول اهمية استخدام الوصية للاعتناء برفاهية محبيه. المثال هو التزامه القانوني ببنت مترودورس والذي يبيّن ان ابيقور كان مهتما بالعناية بالأقرباء الأحياء ذوي الصلة بأتباعه.

من المثير للاهتمام، انه يكرر عدة مرات في الوصية ان التزامه القانوني يجب تنفيذه فقط عندما تتصرف بنت ميترودوس بطريقة ملائمة وصحيحة. بعض الباحثين جادلوا بان هذا يبيّن قلق ابيقور الكبير حول التماسك الاجتماعي، وخاصة التماسك الداخلي للجماعة الأبيقورية التي تركها خلفه.

***

حاتم حميد محسن

...................

Thecollector.com, March1, 2023

دعونا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما عرفها "سبينوزا وهيجل وماركس"، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، وبالتالي التحكم بهذه الظروف وقوانين عملها داخل الظواهر، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأخلاقيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي تجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حريّة مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حريّة ينتجها الواقع المعيوش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة، أو تفيض من العقل الإنساني المجرد أي لا تأتي من فراغ أولاً، وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من ثانياً، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ ثالثاً. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة كانت تتجه نحو تحرير الإنسان من تسليع جسده، حيث كان يباع ويشترى في أسواق النخاسة، والحريّة هي غيرها في النظام الرأسماليّ أو الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.

أما مفهوم العقل موضوع بحثنا هنا: فهو جملة المعارف الماديّة والفكريّة التي كونها الإنسان، من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع تاريخيّاً، وتحولها فيما بعد إلى منهاج تفكير ونظريات ورؤى ومواقف ذهنيّة يستخدمها الإنسان للتأثير في إنتاج خيراته الماديّة والفكريّة وتحديد علاقات الفرد بالمجتمع، والعكس صحيح ، فالإنسان يعمل دائماً على إغنائها وتطويرها بما يتفق والظروف التاريخيّة المعيوشة.ً

من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة والعقل يأتي موقفنا منهما، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.

إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يُفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة وخاصة (السياسيّة والدينيّة) المتحكمة فيه.

إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ مفوّتٍ حضاريّاً، إذ لم تزل تتحكم به من الناحية الاجتماعيّة مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق وأيديولوجيا. وبالتالي فإن البنية الاجتماعيّة المنتجة له في عالمنا العربيّ، لم تحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً أو تقدماً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومةٍ ومحكومةٍ هنا من قبل السلطات الحاكمة التي تريد حريّةٍ على مقاسها أو ما يخدم مصالحها، مثلما يريد المجتمع حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة غالباً بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر (من أسطورة) القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل السلطات الحاكمة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الامتثال والاستسلام والخرافة والأسطورة وقصص الأولين والتأكيد على عالم الإنسان الداخلي بتوجهات صوفيّة إشراقيّة لتحقيق ذاته، بدل من البحث عنها في وجوده الاجتماعيّ وتناقضاته وصراعاته، أي دفع الإنسان للتمسك بالفضيلة المجردة الهادفة إلى كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة واحترام الرأي الآخر وإعمار الأرض. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوماً بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة في تاريخنا المعاصر بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق، وطه حسين، وغيرهما الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي أو القتل بسبب أفكارهم العقلانيّة التنويريّة، كفرج فودة وجلال صادق العظم وحامد أبو زيد وغيرهم الكثير .

هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي ينشط فيها العقل العربي، أي التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان العربي. وبالتالي لتحرير عقول أفراد المجتمع، والفسح في المجال لأفكار هذه النخب العقلانيّة التنويريّة أن تنتشر وتجذر أفكار التنوير، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيوش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن معظم الثورات التي قامت لتغيير بنية الوجود الاجتماعيّ منذ بداية القرن العشرين، قد خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين الثقافيّة كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة حافظت على الوجود الماديّ والفكريّ في المجتمع بدلاً من تقدمه، والحديثة منها التي سميت بثورات الربيع العربي أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيّف من الزمان.

بيد أن السؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا اليوم وهو:

هل هناك تفكير عربيّ جاد وحر، واشتغال فلسفيّ عميق حول سؤال الحريّة وجدلياتها مع الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عَرَفْنَاهُ خلال القرن العشرين؟

لا شك أن هناك من اشتغل على الأيديولوجيا أو السرديات الكبرى في عالمنا العربيّ المعاصر منذ بداية الربع الأول من القرن العشرين حتى منتصف القرن ذاته، وهذا الاشتغال نجده عند القوى اليساريّة والدينيّة والقوميّة ممثلة بالأحزاب الأمميّة، كالأحزاب (الشيوعيّة)، وحزب (الاخوان المسلمون) بفروعهم العديدة على المستوى العربيّ. ثم تلتها في الربع الثاني من القرن ذاته أحزاب أخرى ذات طابع قوميّ، توزعت بين أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربيّة الشاملة، وأخرى ذات نزعات إقليميّة أو عرقيّة (كالفينيقيّة والفرعونيّة وغيرهما).

إن هذه الأحزاب اشتغلت في الحقيقة على تكريس أيديولوجيات خاصة تمثل حواملها الاجتماعيّة أو نخبها من قوى طبقيّة أو أثنية، رسمت من خلالها الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة لعملها داخل الساحة السياسيّة العربيّة، فهذه الأحزاب الشيوعيّة مثلاً قد تبنت في تنظيماتها الأيديولوجيا الشيوعيّة طريقاً لتحقيق العدالة والتنميّة، وفقاً للصيغة الماركسيّة اللينينيّة أو الماويّة، كما تبنى الإخوان الأيديولوجيا الدينيّة (الحاكميّة) التي نظر لها في صيغتها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة أبو الأعلى المودودي، وتبناها مفكر الإخوان "سيد قطب" في كتابه (معالم في الطريق). أما الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة كحزب البعث والاتحاد الاشتراكيّ وغيرهما، فقد تبنت الأيديولوجيا القوميّة بعد أن ربطتها مع الاشتراكيّة العلميّة، تحت مسميات جديدة نظروا لها فكريّاً تحت اسم (الطريق العربيّ إلى الاشتراكيّة)، وطبقيّاً تحت اسم (تحالف قوى الشعب العاملة). أما أحزاب النزعات الاقليميّة كالفينيقيّة والفرعونيّة والبربريّة والأمازيغيّة والكرديّة وغيرها، فقد حملت أيضاً مشاريع أيديولوجيّة قوميّة ضيقة في مكوناتها الاجتماعيّة لم تزل قائمة حتى اليوم. ومشكلة هذه الأحزاب تكمن في كونها أُغرقت نفسها بالشعارات الفضفاضة على حساب الواقع أو الممارسة. وهذا ما أوقعها في مطبات كثيرة أثناء استلام بعضها السلطة. فظروف الواقع العربيّ المتخلف أثر تأثيراً كبيراً على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. فالأحزاب الشيوعيّة ارتبطت بالسياسة الأمميّة والتوجه السوفياتي قبل سقوط المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفياتي على حساب السياسة الوطنيّة والقوميّة من جهة، مع غياب واضح للحامل الاجتماعيّ المؤهل لقيادة هذه الأحزاب من جهة ثانية، الأمر الذي أوقها في فخ المرجعيات التقليديّة (قبيلة – عرق) من جهة ثالثة، كما جرى للحزب الشيوعيّ اليمنيّ الذي وقع في فخ القبليّة، والحزب الشيوعيّ السوريّ أو العراقي اللذان وقعا في فخ العرقيّة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت تنظيماتها الأساسيّة أو المركزيّة إلى تيارات عدّة. أما الإخوان فقد اشتغلوا في سياساتهم على البعد الأممي أيضاً وتجاهلوا خصوصيات الدولة الوطنيّة التي مارسوا نشاطهم الحزبي فيها، مثلما أغرقتهم أيديولوجيا الحاكميّة وعدالتها في عالم القيم والمثل على حساب الواقع، فاصطدموا بالواقع عند وصولهم إلى السلطة، فكانت النتيجة فشل التجربة الإخوانيّة في كل من مصر وتونس مؤخراً. أما الأحزاب القوميّة العربيّة فقد عاشت في عالم الشعارات القوميّة والعدالة الاجتماعيّة.. فلا هي استطاعت أن تحقق الوحدة العربيّة، ولا حتى الوحدة الوطنيّة داخل الدول التي سيطرت على الحكم فيها، ولم تستطع أيضاً تحقيق العدالة السياسيّة أو الاجتماعيّة التي نادت بها في أيديولوجياتها بعد أن سارت في طريق رأسماليّة الدولة أولاً، أو اقتصاد السوق الاجتماعيّ ثانياً، ثم تحولت ثالثاً إلى دول شموليّة ساهمت كثيراً في تشكل قوى اجتماعيّة جديدة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة التي سرقت أموال الشعب والوطن. هذا في الوقت الذي غلب على قياداتها شهوة السلطة فراحت تمارس تسويات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة على مستوى سياسة الدولة الداخليّة كان من أبرز نتائجها المدمرة، أن أحيت المرجعيات التقليديّة، واتكأت على القوى الدينيّة السلفيّة لكسب رضا الشعب باسم الدين، فكانت النتيجة أنها لم تستطع كسب هذا القوى الأصوليّة الدينيّة إلى جانبها، في الوقت الذي خسرت فيه قوى اليسار والوسط أيضاً كما تبين في أزمة الربيع العربي. الأمر الذي ساهم في تدمير كل ما بنته حكومات هذه الدول خلال عقود من الزمن في بنية الدولة والمجتمع معاً.

إن ما يعيشه عالمنا العربيّ اليوم من فوضى على كافة المستويات تظهر نتائجه واضحة في حالات الجوع والخوف والفقر والهجرة التي يعانيها معظم المواطنين العرب، هذا إضافة إلى ارتماء أكثر هذه الأنظمة في أحضان دول أجنبيّة بهدف حماية الطبقة الحاكمة من شعوبها بسبب ما مارسته من سياسات أنانيّة ضيقة تصب في مصلحتها وليس مصلحة شعوبها خلال عشرات السنين.

ملاك القول هنا: رغم كل معطيات هذا الواقع المتخلف في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد، فقد ظل هناك دور كبير للفكر العقلانيّ التنويريّ المشبع بالحريّة والعدالة والمساواة قائما بين صفوف النخب المثقفة التي حملت هذا الفكر، واتخذت مواقف معارضة لسياسات الدول الشموليّة المنتمية إليها على كافة الساحة العربيّة، فأفكار الطيب تيزيني والجابري والعروي وياسين الحافظ والسيد القمني وحسن حنفي وحسين مروة ومهدي عامل وهادي العلوي ونصر حامل أبو زيد وفرج فودة.. وغيرهم الكثير من المفكرين العلمانيين وحتى الإسلامين المتشددين كأفكار سيد قطب وحسن البنى والهضيبي، لقد كان لهذه الأفكار جميعاً التأثير الكبير على تفكير ما سمي بمحركي الربيع العربي، بيد أن تطرف بعد هذه الرؤى الفكريّة الدينيّة منها والوضعيّة، شكلت انتكاسةً حقيقةً لهذا الربيع، فحولته إلى خريف أو شتاء قارس على هذه الأمّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

هل هناك تقدم عبر التاريخ؟ ام ان العالم صُنع من جوهر أساسي لن يتغير ابدا؟ ما معنى الزمن والأبدية؟ شوبنهاور وهيجل لم يتفقا على هذه المسائل. لكن العداء بينهما كان فلسفيا وشخصيا ايضا.

في صيف عام 1820، وصل آرثر شوبنهاور الذي كان بعمر32 سنة الى جامعة برلين لإلقاء محاضرات للفصل الدراسي وبلقب كبير "فلسفة شمولية". ومن اللافت انه طلب من الجامعة جدولة محاضراته لتكون بنفس عدد الساعات المخصصة لهيجل. كان هيجل خُصص له كرسي الجامعة في الفلسفة وكان آنذاك من اشهر الفلاسفة في العالم المتحدث بالألمانية.

مئات الطلاب حضروا محاضرات هيجل. لكن خمسة طلاب فقط سجّلوا لحضور محاضرات شوبنهاور. وفي الفصل الدراسي اللاحق لم يحضر أي طالب لشوبنهاور ولذلك اُلغيت محاضراته. تلك كانت نهاية عمله المهني في الجامعة.

هيجل، الأكبر سنا من شوبنهاور بـ 18 سنة، التقى بشوبنهاور مرة واحدة ولم ينتبه كثيرا للشاب في كتاباته. بالمقابل، شوبنهاور تحدث بكراهية عن هيجل لسنوات.

بعد وفاة هيجل عام 1831، بدأت سمعته بالإنحدار وهنا حدث التراجع الغريب. خلال العقود اللاحقة، اصبح المحاضر الغامض هو الفيلسوف الأكثر شهرة. أعماله الأخيرة بيعت منها آلاف النسخ وبطبعات متعددة. بالنسبة للعديد من الناس، تشاؤمية شوبنهاور صاغت المشهد الفلسفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما تلاه، بينما التفاؤلية التنويرية لهيجل أصبحت موضوعا للسخرية. فماذا حدث؟

أراد شوبنهاور من محاضراته ان تقدم بديلا واضحا لهيجل ولم يكن غريبا ان الرؤتين الفلسفيتين للرجلين كانتا متعارضتين راديكاليا . في الحقيقة، خلافهما كان ميتافيزيقيا. أي، انهما اختلفا حول طبيعة العالم وما نستطيع معرفته حوله.

كلا الرجلين في البدء انطلقا كأتباع لعمانوئيل كانط لكن كل واحد منهما استخدم استنتاجاته باتجاه مختلف كليا. كانط بدأ من الادّعاء باننا لايمكننا أبداً ان نعرف الحقيقة حول العالم فقط من المعلومات التي توفرها حواسنا. انطباعاتنا الحسية هي مجرد ضوضاء تفتقر الى التنظيم. وبتحديد أكثر، المعرفة العلمية تحتاج الى مفاهيم او مبادئ عقلية mental categories مثل المكان، الزمان، السببية.

بما اننا جميعنا نشترك بهذه المفاهيم، نحن نستطيع ايضا ان نشترك ونتحقق من صلاحية الملاحظات الاخرى. لهذا فان العلم و"التنوير" هما نتاجان اجتماعيان.

هيجل انطلق من هذه الأفكار ليضع صلاحية للعلم الحديث، بما في ذلك "علم" التاريخ، الذي وجد نماذجا في العالم وأسس قوانين علمية من الملاحظات الجماعية للعديد من الناس. هيجل بنى على نظرية كانط في التاريخ، التي كانت بدائية، وغيّرها الى مبدأ مركزي في فلسفته. ثقافة الانسان والافكار تطورت بمرور الزمن، حسب اعتقاده، ليس فقط في الافراد والجماعات وانما في الانواع ككل، تتبع نموذجا يمكن التنبؤ به. هو كتب: "انكشاف الحقيقة اتضح في تاريخ العالم".

ولكي يثبت صلاحية هذا الادّعاء بان الانسانية كانت دائما في عملية سير نحو شيء أفضل، افترض هيجل ان كل التاريخ الانساني هو قصة منفردة لنمو وتطور الانسان. نتيجة ذلك كانت انجذاب مئات الطلبة في برلين الى محاضراته . وصف هيجل الحضارات الرومانية واليونانية والصينية والهندية بكثير من التفاصيل. لكن كل ذلك بهدف إثبات ان مسارها الانفرادي من التحسن قاد بالنهاية للحضارة الاوربية الحديثة. ان عصر التنوير، بالنسبة له، كان النقطة التي يمكن عندها للانسانية ان تفهم هذه القصة الممتدة لقرون وتتمتع بنضجها و "بوعيها الذاتي". التاريخ كان حقيقة، كما عبّر هو عن ذلك بالقول "ما هو عقلاني هو حقيقي وما هو حقيقي عقلاني".

في الحقيقة، هذه القصة للتفوق الحضاري الاوربي كانت ضيقة الافق. "التاريخ العالمي" لهيجل ترك افريقيا وامريكا كليا خارج الحساب. معرفته بهما كانت ضئيلة وموقفه كان عنصريا جدا. نظريته في العدالة الالهية تبدو كأنها تبرر العنف او إراقة الدماء في الماضي عبر الادّعاء ان ذلك كان ضروريا للتقدم. إشكالية هذه العناصر من تاريخ هيجل أخذت وقتا طويلا قبل ان يعترف بها الاوربيون. كان هناك نوع آخر من المشاكل أزعجت معاصريه. قصة التفاؤل الهيجلي للنمو والتطور الدائم شبّهت تطور الانسان بتطور الجسم، نمو يصل ذروته حين يتخذ شكله الناضج والنهائي. وهكذا بالنسبة لهيجل، "اوربا هي نهاية التاريخ المطلقة". كان هذا تعبير عن الإعجاب، لكن من السهل معرفة لماذا لم يتفق معه الكثيرون.

في تلك الاثناء، اتخذ شوبنهاور درسا من كانط مختلف كليا عن نظريته في المعرفة. بالنسبة له، حقيقة ان الفهم البشري يعتمد على المبادئ العقلية يعني ان هناك شيئا خادعا اساسيا حوله. العالم الواقعي (الذي سماه كانط ما لايمكن معرفته "الشيء في ذاته") بقي منفصلا عن الزمان والمكان.

يرى شوبنهاور، ان لاواقعية الزمن هي الأكثر أهمية لأنها استدعت للتساؤل فكرتنا الكلية للتاريخ وأي فلسفة اخرى له: هو كتب ان "الواقعي الحقيقي"، "مستقل عن الزمان ولذلك هو واحد وذات الشيء في كل وقت".

خطأ هيجل كان مفهوما لدى شوبنهاور لأنه كان خطأ طبيعيا تماما. ان هيكل الذهن حاول فرض ترتيب زمني على فهمنا للعالم. لكن، من العملي جدا التمييز بين محاولة فهم تجربتك اليومية وبين شيء آخر تماما تتخيل فيه انك اكتشفت قوانين التاريخ. ميتافيزيقا هيجل كانت حسب شوبنهاور رجعية تماما: الحقيقة لا توجد في التاريخ ابدا وانما هي خارجه.

وما هو أصعب لشوبنهاور، هو الجهد الضروري لفهم ان "الفلسفة الحقيقية للتاريخ تتكون من الرؤى التي، رغم كل التغيرات اللامتناهية وما يرافقها من فوضى واضطراب، لايزال دائما أمامنا فقط نفس الجوهر المماثل اللامتغير، يعمل بنفس الطريقة اليوم كما فعل أمس ودائما".

تشاؤمية شوبنهاور لا تتمثل في العقيدة بان الأشياء كانت تسير نحو الأسوا – والذي كان استنتاجا سخيفا مثل ايمان هيجل بالتقدم التاريخي. شوبنهاور ببساطة رفض فكرة ان الاشياء كانت دائما تتجه نحو الأفضل وان قدرها ان تكون هكذا. هو لم يعارض بأي حال من الاحوال الفوائد المادية للعلم الحديث. ما عارضه هو فكرة ان هذه الاشكال من التغيرات كانت تجسيدا لسيادتنا على الطبيعة او التاريخ،وان هذا المستقبل سيكون مختلفا جوهريا عن الماضي.

هو ايضا لم يعتقد ان الألم يمكن تبريره بمستقبل مجيد، اما للفرد او للانواع. ومع ان رؤاه الاجتماعية والسياسية كانت في عدة جوانب رجعية ومنحازة جنسيا، لكنه شجب معاناة العبيد ولم يتصور (كما فعل العديد من معاصريه) ان عنف الامبريالية يمكن تبريره بانتشار قيم التنوير.

بكلمة اخرى، هو رفض فكرة ان الكائن البشري "يصبح" جوهريا أي شيء نحو الأحسن او الأسوأ، نحن كما نحن فيه دائما.

لكن الموقف الشخصي لشوبنهاور تجاه الحياة كان انحرافا واضحا عن هيجل. كفاحنا المستمر للرضا، الذي عززه الوهم الزمني، كان لابد ان ينتهي بخيبة أمل. اذا كنا حقا نريد تقليل معاناة العالم، او معاناتنا، سنحتاج للاستقالة من الحياة. ذلك ليس بالانتحار(فعل أخر عقيم) وانما عبر الانسحاب و عدم الضوضاء. "الاعتزال"، كما يرى، "يشبه تركة الإرث، يحرر مالكه من كل الهموم والقلق".

بدلا من الأذى الذاتي، يعتقد شوبنهاور بنوع من "خسران الذات" ينتج عن تأمل الفن. المتعة الحقيقية للفن كما يرى، ليست في انه يصف شيء جميل وانما في نقلنا خارج حالتنا الذاتية من الكفاح الى حالة موضوعية من التأمل، تسمح لنا براحة مؤقتة من التعاسة اليومية وتعطينا لمحات عن الأبدي الذي لايمكن ان نعرفه حقا. العبقرية الفنية بالنسبة له كانت شخصا يمكن ان يغيب عن غروره ويترك العالم الأبدي يتحدث بنفسه من خلال يديه.

"الاستقالة" بالنسبة لشوبنهاور كانت تحرير من استبداد التفاؤل. تفاؤل هيجل يتطلب ان نرى حياتنا كمشروع فيه الانجاز والسعادة أهداف يمكن ان يسعى لها كل شخص بعقلانية، وهو حقا مؤهل لها. التشاؤم يحررنا من قصة التقدم الفردي هذه كونها تنكر القصة الكبرى للتقدم التاريخي. انها لا تضمن السعادة، وانما هي تريحنا من اللاسعادة التي يولّدها التفاؤل عرضاً.

مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت قصة هيجل المحدودة لتاريخ العالم تبدو غير معقولة لمعاصريه. في القرن العشرين، حطمت الكوارث وأعمال الابادة تاريخ هيجل، بينما تشاؤمية شوبنهاور مع انها لم يتم قبولها بسهولة لكنها أصبحت نقطة البدء لفلسفات ركزت الانتباه على المعاناة ،مثل الوجودية والتحليلات السايكولوجية . نيتشة وهايدجر وفرويد وكامو جميعهم مدينون بشيء ما لشوبنهاور.

وكا تذكّرنا حرب اوكرانيا بعدم وجود سلام دائم، مهما بدا عقلانيا ومستقرا. نحن لا نحتاج لإحتضان تام لإستقالة شوبنهاور كي نتعلم دروس من تشاؤمه. ان العالم ليس لنا لنحكمه، وان المعاناة لايمكن إنهائها بالتفاؤل، وان التاريخ لم يُكتب لمصلحتنا. وبقدر ما تكون هذه الحقائق محبطة ، انها تحررنا من الآمال الزائفة والمرتكزات الذهنية وتسمح لنا لنرى العالم اكثر وضوحا. ذلك كل ما يمكن ان يتأمله شوبنهاور لو سمح لنفسه بالأمل .

***

حاتم حميد محسن

........................

Schopenhauer Vs Hegel: progress or pessimism? iai.tv, 15th march 2023

إن السّعداء بالدّنيا غداً هم الهاربون منها اليوم.

يبدو "مفهوم السّعادة" اليوم في حاجة لإعادة تعريف، وإعادة تقديمه للناس؛ بعد أن أصبح بسيطا حد التعقيد، فكلنا نود أن نكون سعداء؛ لكن حين يسألنا شخص سؤالا بسيطا "ما هي السعادة؟" لا نستطيع الإجابة؛ لأن المفاهيم اختلطت وتعقدت، ما بين السعادة والرضا والرفاهية، وتخفيف الألم، والنجاة من الموت، والبحث عن حياة كريمة، والسعي وراء الرزق ومكملات الحياة.

إنّه وللوهلة الأولى يخيل إلينا أننا حصرنا مفهوما للسعادة ومجالا لتحقيقها لكن سرعان ما تتسع الدائرة من جديد وتتبعثر الكلمات وتتشوش المشاعر والحواس فنعود إلى نقطة البداية متسائلين: ما السعادة؟ وكيف السبيل إلى تحققها ؟ تلك الكلمة الصغيرة الكبيرة ضرب من السهل الممتنع، على كل حال. لو اطلع الباحثون والقراء على حد سواء وقرؤوا ما صنفه الفلاسفة قديما وعبر العصور الإسلامية وحتى عصرنا الحالي، لوجدوا أن الجميع قد توغلوا في ماهية السعادة ؛ غير انهم لم يهتدوا إلى حقيقتها بعد.فسيظل مفهوم السعادة متغيرا نسبيا وحقيقتها غامضة تستحق التأمّل، عليه فإن السعادة لها مكامن عديدة في قلب كل إنسان، فهناك من يرى السعادة في حصوله على مبتغاه، ولكن إذا تحصل عليه ووصل إليه وسادت نفسه وتمكنت وشعر بالانتشاء.. فهل ذلك مطلق السعادة؟ هل السعادة لها حدود محصورة تقف عندها مجرد حصول الإنسان على مبتغاه؟.

هل السعادة أن تلتذ برغباتك وعند الانتشاء تسعى لطلبها مرة أخرى؟ إذا كأن الأمر كلما نقص المرغوب سعى في طلبه فهذا لايدل على أنك تعيش حياة السعادة، لأن الأمر إذا ظل بين عطاء وسلب فالحياة آلت إلى قلق وخوف وتردد.. قلق وخوف على نفاذ مصدر السعادة.. وعدم استقرار حتى الحصول عليها وإذا ما تم الأمر بدأ طريق المخاوف والهواجس ينتاب نفس ذلك الذي يرى في حصوله على سعادته السلب والقهر وسرقة سعادته.إذن مفهوم السعادة: إنها مصدر روحي لاينفذ ولايقلق عليه إذا كانت نفس الإنسان مليئة بالرضا والقناعة أن ما بعد الحصول النفاذ وما بعد الأخذ السلب وما بعد الحياة الموت.وقد عرضت في هذا الموضوع الكثير من الأبحاث والدراسات والآراء، كلها تتناول مفهوم السعادة لكنها تقف عند الوصول لفهم حقيقته.. فلا يشبع البحث فيه معنى بعينه يجعل الباحث يتنهد فرحا بوصوله حتى مستقر السعادة، فنراه يلخص ويحوصل ليخرج الزبد، وسرعان ما يتلاشى من بين يديه ذاك المفعول الذي يشعره انه وصل لمبتغاه حتى يبدأ في التقليب والتمحيص من جديد.والناس في هذا الشأن مختلفون حسب آرائهم و أنماط عيشهم وأفكارهم البسيطة.. فكل يرى السعادة من منظوره الخاص وواقعه المعاش، فهناك من يراها كمال الصحة وموفورها.. وهناك من يراها في حصوله على أمنيته وطموحه، وحينما تقلب دفتر أمانيه ستلقى أشياء صغيرة أمام مفهوم السعادة المفعم: بيت –سيارة- زوجة جميلة

وحينما تذكره بالمنغصات سيمتعض قليلا ثم سيعود ليكرر بيت سيارة زوجة جميلة..

أما الفلاسفة فذلك شان أخر، فكل تغنى بسعادته بما يراه من زاوته، فقد توغلوا في مفهوم السعادة حتى تاهوا في دوائرها وعادوا يتصورونها في تلك المتاهة غير المفهومة ولاتتحقق إلا إذا زاد الجد والسعي الحثيث خلف دوائرها المتقلبة.فذلك أفلاطون يرى أنه إذا لم تكن السعادة انسجاما في الأهداف ؛ومقاربة للنموذج المثالي فإنه لايمكن تقديم تفسير معقول لها ويرى أنه من العبث أن تكمن السعادة في حصولنا على كل شيء نريده، إذ يقول في كتاب السعادة "من الأفضل أن نبقى ساكنين قدر الإمكان في حالة من الهدوء، لانغضب ولانندم، لأننا لايمكن أن نعرف ما يكون في الحقيقة، خيرا أو شرا في هذه الأشياء وليس هناك شيء في الحياة الفانية يستحق الانشغال به بدرجة كبيرة ". بينما يرى أبيقور أن مكمن السعادة في تحقيق القدر الأكبر من اللذات وتجنب الآلام حتى وإن خالف ذلك شرائع المجتمع طالما يصالح الذات، أما علماء الدين والفقهاء فإنهم يرون السعادة تكمن في الرضا والتسليم كما عند بعض المتصوفة المعتدلين، فإن فيما تقدموا به من كتب ألفوها يرون أن الإنسان يبلغ أقصى درجات السعادة حينما يتخلى قلبه عن الدنيا، ويتحلى بالصبر والرضا والتسليم.إذن خلو الإنسان من الشهوات والرغبات والمستحبات وكل ما في الحياة من لذائذ هو طريق السعادة الحقيقي …أما المشغول بالدنيا فإنه يخرج منها كما لم يكن فيها.. فلا يملأ جوف الإنسان النهم سوى التراب.. فهو إن امتلك المال يريد المزيد، وإن تزوج واحدة يريد ثانية.. وإن رضي بواحدة يظل همه معلقا بكمالها ولايكون راضيا في كثير من جوانب حياته، فكلما أكمل ركنا.. انبرت أركانٌ أخرى تريد الإشباع ولا إشباع فكأن الإنسان في رحلة مغالبة لنفس لاتشبع من دنيا كلما وصلت وجدت سرابا لتتخلص إلى سراب آخر يزيدها عطشا إلى عطشها.

الأجدر بنا البحث عن حقيقة السعادة لا مفهومها، فالحقيقة مطلقة و المفهوم نسبي.

السّعادة لا تهبط عليك من السماء.. بل أنتَ من يزرعها في الأرض. إذا أسعدت نفسك أسعدت من حولك. فمَن كان ينتظر الحصول على كل شيء ليصبح سعيداً، لن يحصل على السعادة في أي شيء. الحياة باختصار شروق شمس وغروبها فما أجمل أن تجعل الشروق للبسمة والعمل والغروب للراحة والهدوء. كن قنوعاً بما عندك تكن سعيداً. إذا أفلت شمس يومك وحلّ الظلام، فلا تنسَى أن تشعل شمسك الداخلية. أفضل حالات السعادة هي ما تنسجم مع عقلك وقلبك وجوارحك. شيئان في حياتك لا ثالث لهما: إمّا أن تكون متفائلاً دوماً، وإمّا أن تكون متشائماً فالسعيد يرى الحاضر أفضل أيامه، والمتفائل يرى مستقبله أفضل من حاضره، وأما المتشائم فينظر إلى الماضي باعتباره أفضل الأيام، ولا يرى مستقبله إلّا قاتماً. ليست السعادة أن لا تمر بالآلام، وأن لا تواجه الصعاب، بل السعادة أن تحافظ على رباطة جأشك وهدوء أعصابك، وتفاؤل قلبك وأنت تواجه الصعاب والآلام. السعادة هي هدف البشرية الحقيقي. كن سعيداً وأنت في الطريق إلى السعادة، فالسعادة الحقيقية هي في المحاولة وليست في محطة الوصول. معظم البشر يستسهلون الشعور بالحزن والكآبة بدلاً من أخذ مخاطرة الشعور بالسعادة ونصيب الإنسان من السعادة يتوقف غالباً على رغبتهِ الصادقة في أن يكون سعيداً.. .. فالخلاصة أن حقيقة السعادة تكمن في الإجابة عن السؤال: كيف أرضي الآخر ونفسي في آن واحد؟ أما مفهومها فيمتد إلى سبل تحقيق الرضا.

في الأخير أقولها عاليا: اصنع سعادتك بنفسك ولا تنتظرها، بإدراكك لحقيقتها وفهمك الصحيح لجوهرها فلا أحد لديه الحق في استهلاك السعادة دون إنتاجها. السعادة كلها في أن يملك المرء نفسه، والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه،فالرّاحة التي تجلب السعادة هي راحة القلب والنفس.. أما راحة الجسد فلا تؤدي إلا إلى الموت.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

 

(تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي)... كاتب المقال

الفكر والمادة

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيا او خياليا سابقا عليه .

تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل ادراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال ادراكه ان لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

العقل والفكر

الفكرالمادي أو الفكر المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه النوعي بينهما في تعبير الفكرعنهما باللغة المجردة، فالوجود المادي المستقل لا تحدد ماديته اللغة كونه ماديا أو مثاليا أو أي شيء آخر كموضوع خيالي مستمد من الذاكرة بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته مطابقة التعبيرعنها.

إن الانسان كائن مفكر، والحقيقة أن الذي يغّير مسار الانسانية أنما هو الفكر حسب تعبيربوشنسكي. واضح أن التاكيد هنا على فاعلية الفكر كمضمون عقلي تخليقي هو الذي يقوم بتغيير العالم وليس اللغة كشكل تأطيري تعبيري لمضمون التفكير العقلي،، الفكر هو الذي يقوم بتجديد الوجود المادي أو المثالي كماهية وجوهر. وتبقى حقيقة الفكر التغييري للحياة مرهونا بارادة الانسان.

فالفكر مضمون عقلي واللغة تأطير شكلي له. والفكر نظرية والموجودات وقائع تحملها الصدف الإدراكية بها أوالوعي القصدي لمعرفتها. كثيرة هي الاخطاء ان وعي الشيء قصديا يعني حتمية تغييره. والصحيح ان الارادة الانسانية وليس وعي الواقع الذي لا يمتلك ارادة ذاتية هي الفيصل في تحقيق الوعي القصدي المطلوب تحقيق هدفه.

أما الذي يمنح الوجود المادي حقيقته كموجود، ويعطي الموجود الخيالي متعيّنه كموضوع في الذهنية الفكرية، في تمييز العقل بينهما إنما هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية العقلية والتخليق في إدراك الوجود وإضفاء ماهيته وصفاته عليه قبل إعادته بالفكر المعبّر عنه لعالم وجود الاشياء ثانية..

الفكر لايخلق الموجودات من فراغ بل هو يقوم بمعرفتها وأدراكها وعيا عقليا كمواضيع مادية أو خيالية بغية إعادة تأثير العقل بها ومعالجتها في وجودها المادي المستقل بعالم الاشياء. ومن دون الإدراك العقلي للأشياء لا قيمة موجودية تمتلكها الاشياء في وجودها المستقل لا في التاثير بغيرها ولا في التاثير بها..

كيف يتغير الموجود؟

الوجود المادي للاشياء لا يتغير تلقائيا ذاتيا ديالكتيكيا بقانون وحدة وصراع الأضداد داخل المادة أو داخل الظاهرة الواحدة من دون توفر العوامل الموضوعية الخارجية والظرفية التي تقوم بتحريك وتفعيل التضاد الداخلي الذاتي، في تخليق العقل له على مستوى المادة بما يتوجب أن يكون عليه الوجود من تغيير مستمر.

تخليق التفكير العقلاني هو الذي يعطي الموجودات والاشياء في العالم الخارجي الحركة والتطور وتبقى اللغة تعبّرعن الوجود في صيرورته المستمرة في ملازمتها الفكروالوجود معا.

هنا يكون تخليق العقل للوجود يحضر كعوامل موضوعية خارجية محكومة بظرفية تعمل على تسريع التناقضات الجدلية داخل الظاهرة المادية كي ينبثق عنها ظاهرة مستحدثة جديدة أكثر تطوريا من الاولى وهكذا..

أما حضور العوامل الموضوعية الخارجية كجدل ديالكتيكي على مستوى تثوير التضاد والتناقض على مستوى تفاوت مستوى معيشة الطبقات الاجتماعية بين الذي يملك والذي لا يملك فهو يكون بوسيلتين الاولى مصالح الطبقة الفقيرة المحرومة كوسيلة وأداة تغيير والثانية هو النظرية التي تستهدي بها الطبقات المقهورة في تسريع النضال الذاتي لديها من أجل نيل مصالحها المشروعة المغتصبة وإستحصال حقوقها المصادرة منها كفائض ناتج قيمة عملها.

الوجود لا يتغير بالفكر النظري فقط .....

ولايتم تفريق الفكرالمادي أو المثالي بمقايسته بالوجود الطبيعي المستقل للاشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في إستقلاليته في عالم الاشياء،هو غيره الوجود الذي تم تخليقه وتصنيعه في تناول العقل له أول مرة قبل إعادته ثانية بتخليق فكري وفهم جديد الى واقع الاشياء. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرزعنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي إلا بعد الإدراك العقلي لموضوع التفكير أولا ، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا.

فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المادي المتبادل المتخارج معه، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر التجريدي لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو أي الفكر بالوجود هويته وصفاته ماديا أو مثاليا.

والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء وإعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود مجرّد في الذهن فقط، وإنما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الإدراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.

وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وإدراكهما للوجود الخارجي ، وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم الخاطيء القول (أن فعل المعرفة لا يقوم في عملية إدراك الموضوع،بل في فعل خلق الموضوع، وأن الوجود لا يوجد في ذاته، إنما الفكر هو الذي ينشؤه).

ببساطة متناهية الفكر لا ينشيء وجودا من فراغ مادي وجودي سابق عليه، بل من موجود أو موضوع مدرك له سابق عليه، لكنه (الفكر) يضطلع بمهمة تغيير وتبديل الاشياء والموجودات كمواضيع يدركها العقل ويعمل على تخليقها في جدلية من الصيرورة الدائمة غير المنتهية بين الموجودات ولغة الفكر المعبّر عنها.

فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الإدراكية التخليقية العقلية التناوبية للموضوع،؟ وفي تعبيرهما عن وجود المادي في أختلافه عن التفسير المثالي على مستوى إفصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين غير مختلفين المادي والمثالي؟

إننا في هذه الحالة نفهم أن الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الإدراك الوجودي للاشياء في الواقع عقليا (صمتا) تفكيريا تخليقيا من دون الإفصاح عنه باللغة تعبيريا.

بمعنى أن تخليق وإعادة إنتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته له الحواس كموضوع لتفكير العقل به، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكيربالموضوع عقليا صامتا، وتنقلب المعادلة في الأسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبإدراكه المتعيّن الجديد. فاللغة هنا تسبق الفكر.فإدراك الشيء في العالم الخارجي يكون في أسبقية اللغة التي تكون هي الفكر في ذات الوقت ونفس المهمة في تعيين وجود الشيء المدرك حسيا أو حدسيا. وهذا يجنبنا الحذر الشديد ان التفكير لغة سواء اكانت منطوقة ام كانت صامتة.

وإن بدت (اللغة والفكر) كليهما متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها إدراكا أو حدسا، كما من المتّعذّر إعطاء أسبقية لاحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا أم مثاليا بشكل مفارق في تمييز أحدهما عن الآخر. فاللغة قرينة الفكرفي عدم إمكانية التفريق بينهما في تعبيرهما عن الاشياء الموجودة في العالم الخارجي.

والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وإدراكها.واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا أهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّرعنه. فاللغة لا تعبّرعن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري المدرك عقليا بل وفي هذا تفقد اللغة أسمى خاصّية لها أنها وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي.

عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق تعبير اللغة المجردة أو المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل بخلاف ماركس في إعتبار هيجل الجدل أو الديالكتيك المثالي يتم بالفكرالمجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع أو الوجود الحقيقي المادي للاشياء.

إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة.

في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

فالفكر نتاج عقلي لا يعمل بغياب موضوع تفكيره، بل والفكرقوة مادية يكتسب ماديته من الجدل المتخارج مع موضوعه.. والفكر من غير موضوع مدرك له غير موجود في نظام العقل في وعيه الاشياء، أي لا يعي أدراك ومعرفة الموجودات،لأن غياب موضوع الادراك يعني غياب وجوده المادي أو المتخيّل الذي يعطي الافكار نظامها الادراكي المقبول المتسق بين موضوع الادراك ومدرك الانسان العقلي له ..

الحقيقة الثانية في إشتراط توفرها في الفكر لكي يكون فاعلا منتجا، أنه لا وجود لشيء بظواهر صفاتية بائنة وماهية أي متعيّن في شكل ومحتوى مادي يدركه الانسان في الطبيعة وعالم الاشياء لا يتمتع بنوع من القوانين التي تحكم علاقته الذاتية الخاصة به كجوهر وصفات، مع العلاقة الإدراكية بالانسان كفعالية فكرية تنظم وجود الاشياء وتعمل التعريف بها وإكسابها تخليقا وجوديا مستحدثا، وأن ما يخلعه الفكرالانساني من معارف في تعديله تلك القوانين في عالم الاشياء أنما هي قوانين أدراكية فكرية لم تكن موجودة قبل ملازمة الاشياء للفكرالانساني لها الذي يريد فهمها وتفسيرها وتنظيمها،..

وليست قابلية الفكر الانساني إنشاء قوانين تخليقية بغية إيجاده كائنا أو شيئا آخرجديدا لم يكن موجودا بالفكر كما يرّوج له فلاسفة المثالية...الفكر لا ينتج عوالم الاشياء ماديا في وجودها الطبيعي من لا شيء متعيّن يسبق وجوده تفكيرالانسان المنظّم به....وعالم الاشياء والموجودات في الطبيعة هو عالم مادي رغم أن وسيلة تخليقه وبنائه المعرفي تقوم بالفكر واللغة التعبيرية المجردة التي تعتبربمثابة المنهج والدليل الذي يقود الانسان الإهتداء به كنظريات وقوانين في تغيير عوالم الاشياء وفي مدركات الطبيعة معا.. من المهم التفريق ان تخليق الانسان لقوانين ادراكية معرفية مصدرها الطبيعة وبين القوانين الفيزيائية التي تحكم ثبات تلك القوانين ولا قدرة للانسان التدخل فيها.

إن نظام العالم الطبيعي الخام ونظام العالم الانساني المخترع المصنوع كيفيا متمايزا ومبتكرا في قوانينه في تلازمهما معا عرف بهما الانسان كيف ينظّم أفكار إدراكاته ويتكيف ايجابيا مع الطبيعة بما يفيده منها في عالم تفاعله الإدراكي مع عوالم الاشياء من حوله، كما أن الانسان في تخليقه لعالمه الانساني المتطور علميا ومعرفيا وعلى مختلف الصعد والنواحي وفي كافة المجالات لم يستمد تقدمه الا بمفارقته (وهم) فرضية أن قوانين الفكر التي يبتكرها ويخترعها الانسان تسعى في حقيقتها المطابقة مع قوانين الاشياء بما يقعد تطور وتبديل وجود الاشياء المحكومة بقوانين ذاتية وموضوعية ثابتة قبل محاولة الانسان تغييرها من جهة ، كما أن مطابقة الافكار لموجودات الاشياء والقوانين التي تحكمها ليس رغبة الإكتفاء بمعرفتها دون إرادة تغييرها وتبديلها،وبغير ذلك يجعل من الفكر مثاليا إبتذاليا ساكنا في علاقته بواقع الاشياء في وجودها المادي الساكن أيضا في الطبيعة، وبذلك لا يتم تبديل الواقع بالفكر، ولا تطوير الفكر بعلاقته الجدلية بتغيرات وتحولات الواقع....

الفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان الاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة مع قوانين الاشياء في وجودها قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في جدل ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا...

***

علي محمد اليوسف /الموصل

ما هو التهديد الرئيسي للبقاء المستمر للإنسانية ؟ وماهي الكوارث الكامنة أمامنا؟ هذه قد تبدو اسئلة حديثة من جانب مفكرين معاصرين حول المخاطر الوجودية المتنامية. لكن قبل آلاف السنين، كان فلاسفة اليونان القدماء والرومان يطرحون سلفا ويناقشون مثل هذه الأسئلة. وبينما كانت لدى هؤلاء المفكرين مختلف الطرق للنظر للعالم ومكانهم فيه، لكنهم جميعهم اتفقوا بأن شكلا ما من الكوارث المروعة تنتظر الانسان في يوم ما في المستقبل.

لماذا هذا الإهتمام بنهاية العالم؟ أحد الأسباب الرئيسية هو ان الفلاسفة القدماء أدركوا ان نهاية العالم هي شيء "جيد التفكير فيه". قصص نهاية العالم تسمح بنوع من السفر عبر الزمن. هم قدموا رؤية للمستقبل وايضا سمحوا لنا ان نهيء أنفسنا ونستعد حين نشهد الكارثة القادمة. القصص التي تُحكى حول نهاية العالم تكشف الكثير عن رؤيتنا الحالية للعالم وكيف ان الماضي والحاضر صاغا مسارنا الحالي. خلافا للتقليد الإنجيلي، الذي يرى نهاية العالم كيوم من غضب الله يتقرر فيه منْ ينجو ويُحكم على المتبقين، رأى فلاسفة اليونان والرومان القدماء نهاية العالم كعملية طبيعية كانت جزءا من وظيفة منتظمة للكون. هم أكّدوا باستمرار ان تطور الانسان محدود، وان الانسانية وكوارث العالم مترابطان بإحكام. الطبيعة فرضت حدودا ثابتة لا تنفصم على نمو الانسان والتنمية. هذه الرسائل هي أكثر إلحاحا اليوم.

في العالم القديم،كما اليوم، كانت هناك عدة سيناريوهات مختلفة لكيفية نهاية العالم، وهذه كانت تتم على شكل حوار نقدي مع الاخرين وايضا مع القصص المبكرة حول التدمير بالنار والماء. في القرن السادس قبل الميلاد، ذكر أناكسيماندر ان كل ماء الارض سيتبخر في النهاية تاركا عالما قاحلا وارض جرداء دون حياة. بالمقابل، الفيلسوف اللاحق له اكسيونوفان جادل بان العالم سوف يتحطم بالماء. (هو عرض دليلا بان هناك كان سلفا طوفان عظيم، ملاحظا ان أصدافا وُجدت على ارض بعيدة عن الماء). في فلسفة افلاطون منذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، نجد اولى المحاولات لرؤية سيناريوهات متعددة لنهاية العالم: نار، طوفان، زلازل وأمراض. في حوار طيماوس هو يكتب: "كانت هناك وستكون عدة أشكال تدميرية مختلفة للانسان". وبدلا من فهم التاريخ متجها نحو غاية محددة، يرى افلاطون ان تطور الانسان يتقرر دائما عبر مختلف الأشكال الكارثية لنهاية العالم،وهذه التوضيحات انطوت عليها بعض آرائه الفلسفية المثيرة للاهتمام. في حوار طيماوس وكريتوس، استعمل افلاطون هذه النظرية لينقل القصة، وهي ربما من اختراعه، عن تدمير جزر الاطلس . هو ايضا يتبنى شيئا من الموقف المبكر للتحقيقات الأدبية في الكوارث عندما تصف التغيرات التي حدثت للبيئة الطبيعية حول اثينا كنتيجة لهذه الكوارث الدورية. في حواره النهائي، (القوانين)، يتصور افلاطون كيف ان هذه الكوارث المتكررة تحدد الشكل الذي تتطور به الحياة السياسية.

تلميذ افلاطون ارسطو كان حالة مثيرة للجدل. مثل معلمه، ارسطو يشير الى ان التطور الانساني هو دائري. الناس باستمرار يكتشفون، يطورون، يخسرون ومن ثم يعيدوا اكتشاف نفس الافكار والتكنلوجيات. في أعماله المتوفرة، ارسطو لا يوضح ما الذي يسبب هذه الدورات. الكتّاب اللاحقون يقدمون دليلا بانه ، في حواراته المفقودة حاليا، يتّبع ارسطو نظرية افلاطون بكوارث العالم الدورية لكنه لاحقا ربما هو رفض هذا.

قيل ان اليونانيين القدماء تخيلوا الزمن كدائري. رؤية افلاطون وارسطو للتطور المتكرر للمجتمع تبدو تعكس تلك الفكرة، على الاقل من منظور الانسان: العالم لا يتحطم ابدا، وانه يستمر الى مالانهاية. لكن الدائرية ليست دائما افضل طريقة لتعريف الفكر الفلسفي القديم. ديموقريطس وابيقور مثلا،نظرا لنهاية العالم بمعنى تام. بينما هما كلاهما جادلا بان هناك عدة عوالم بُنيت من الذرات، وان كل العوالم تتجه نحو نهاية محددة، لكنهما عرضا طرقا مختلفة للدمار. ديموقريطس، الشاب المعاصر لسقراط، قيل انه ادّعى ان العوالم تتحطم عندما يرتطم احد العوالم بآخر. هذا السيناريو تنبأ بالمخاوف المعاصرة بأخطار اصطدام كويكب. ابيقور، الذي أسس حديقته الفلسفية في اثينا حوالي 307 قبل الميلاد، جادل بان كل عالم يموت عندما يتبدد بالنهاية الى فراغ. مرة اخرى، لكي ننظر للاشياء في ضوء المخاطر الحديثة، هذه الفكرة لها صدى يتردد مع خسارة طبقة الاتموسفير الواقية للارض. الرواقيون الذين هم اكبر المنافسين للابيقوريين اثناء الفترة الهيلنستية والرومانية، قبلوا برؤية للزمن الدائري والعود الأبدي. هم اعترفوا بالتحطيم الدوري وإعادة مولد العالم بواسطة النار، التي أسموها (ekpyrosis). (بعض الرواقيين رفضوا هذه النظرية).

التقاليد الفلسفية اليونانية والرومانية القديمة تقف وراء العديد من الرؤى المعاصرة للمستقبل. السيناريوهات الحديثة الشائعة التي ترى الانسانية تحاول إعادة البناء بعد تحطم العالم، مثل رواية كورماك مكارثي (الطريق،2006) او السلسلة التلفزيونية (الميت السائر،2010-2022)، تدينان لنظريات افلاطون اكثر منه الى الرؤى الانجيلية. افلاطون يظن بان هناك طرقا تركها الناجون بعد الكوارث العالمية. في (القوانين)، يعطي افلاطون وصفا للكيفية التي تمكّن بها الناجون من الدمار لإعادة بناء بطيء للمجتمع: مقابل الرؤى الحديثة في الندرة والصراع، هو يؤكد ان "الانقسام المجتمعي والحرب" ستنتهي وان الناس سيتصرفون بلطف ويميلون جيدا نحو بعضهم"(678e). نفس الشيء، يبدو ان الرؤى المعاصرة للكوارث التي ترتكز على الحظ بدلا من خطة الآلهة تمثل فكرة حديثة، كما جادل بعض العلماء مؤخرا. لكن حتى هذا السيناريو له سبق هام في الفلسفة القديمة.

الابيقوريون لم يكونوا ملحدين، لكنهم اعتقدوا ان الآلهة لم تلعب دورا في تنظيم العالم. الخلق وتدمير العالم تُرك لحركة الذرات العشوائية في الفراغ. في هذا النظام، نهاية العالم يمكن ان تكون حدثا مفاجئا . في سنة 50 قبل الميلاد يكتب الروماني الابيقوري لوكريتوس موضحا هذه المسألة في قصيدته (حول طبيعة الكون):

"ربما حتى الحدث ذاته سيعطي مصداقية لكلماتي، وحالا انت سوف ترى كل شيء يهتز بقوة الزلازل. انا آمل ان العقل بدلا من الحدث سيقنعك بان كل شيء سيُسحق ويتحطم باصطدام مرعب".

لكن التأمل الفلسفي القديم بنهاية العالم لم يكن مهتما فقط بهذه الأسئلة الكونية الكبيرة . التفكير حول نهاية العالم يمكن ايضا ان يتجسد في المزيد من الأغراض العملية اليومية. هذا يتضح خصيصا مع الرواقيين الرومان والفلاسفة الابيقوريين الذين ربطوا و بإحكام بين الفيزياء (دراسة طبيعة الكون) والأخلاق وكيف تعيش حياة جيدة. لوكريتوس يستعمل دائما نهاية العالم للتخفيف من رعب الموت. الفيلسوف الرواقي سينيكا يناقش كيف ان تصور نهاية العالم يمكن ان يقدم العزاء بعد موت حبيب او يخفف الشعور بالوحدة.

من بين الأهداف الرئيسية للفلسفة الرواقية هي ان تكون قادرا على مواجهة كل حدث وتحدّي بمرونة واتزان، بما في ذلك نهاية العالم. حتى الامبراطور الروماني ماركوس ايرليوس (121-180م) كتب عن نهاية العالم كجزء من ممارسته اليومية للفلسفة: "كل شيء في الوجود سوف يتغير بسرعة : اما يتحول الى بخار،اذا كانت طبيعة الكون واحدة، او انه سيتناثر". رغم ان ماركوس ارليوس يُنظر اليه بالاساس كفيلسوف رواقي، لكن عندما نأتي لرؤيته لنهاية العالم، هو ليس دوغمائيا. هو يتسلى بسيناريوهات رواقية وابيقورية. اما سيحترق العالم ويتبخر في تحطيم دوري للكون، او ان ذراته ستتناثر في الفراغ. ما يُعرض هنا ليس فقط قبول الامبراطور للأنظمة الفلسفية الاخرى وانما ايضا بحقيقة ان التفكير والكتابة حول نهاية العالم هي جزء من "تمريناته الروحية"، انشغاله اليومي بالفلسفة يساعده ليعيش حياة هادئة. هناك دليل سايكولوجي حديث يدعم هذه الرؤية القديمة. رؤية نهاية العالم ربما هي شيء جيد كونها تساعد في تطوير اتزان سايكولوجي.

اليوم، نرى التهديدات المستمرة والمتنامية بكوارث عالمية تبدو ساحقة وغير قابلة للفهم. انها تثير الخوف والشعور باليأس و العذاب. التقاليد الفلسفية القديمة حول نهاية العالم لا تقدم حلا سحريا لقلقنا الحالي حول المستقبل. اولئك الفلاسفة لم يكن لزاما عليهم حساب المخاطر الوجودية ذات المنشأ البشري التي نواجهها اليوم، ولم يوجد اتجاه لفلسفة رومانية ويونانية سعى لمنع نهاية العالم. مع ذلك، هذه التقاليد قد تقدم طريقة لإعادة تموضع أنفسنا سايكولوجيا بشأن الكوارث المستقبلية والمخاطر الوجودية. نحن يمكننا اتباع نصيحتهم ونقبل بنهاية العالم باتزان، او يمكننا ان نبني على رؤاهم ونتحرك للمهمات القادمة في تحديد، مستقبل حتى وان لم يكن خال من الكوارث، فعلى الأقل اكثر قدرة ومرونة في استيعاب وامتصاص الصدمات الكارثية.

***

حاتم حميد محسن

 

قواعدُ البناءِ الاجتماعي تمتاز بِقُدرتها على تجاوزِ ذاتها، وتوليدِ الظواهر الثقافية في عَالَمٍ شديدِ التعقيد ودائمِ التَّغَيُّر. وكُلَّما تَجَدَّدَتْ هذه القُدرةُ في صَيرورةِ التاريخ، وشُروطِ التَّنَوُّع الإنساني، تَجَذَّرَ الفِعْلُ الاجتماعي كحالةَ خَلاصٍ وَوَعْيٍ بالذات، يُعاد تشكيلُه ضِمْن الأنساقِ العقلانية، لِيُصبح بحثًا عن الذات، يُعاد تَكوينُه ضِمْن التَّحَوُّلات المعرفية، لِيُصبح صُنْعًا للذات. وهذا المسارُ الوجودي: الوَعْي بالذات، البحث عن الذات، صُنْع الذات، هو الذي يُحدِّد طبيعةَ العلاقات الاجتماعية كَقِيَم حياتية ومعايير أخلاقية، تُنَقِّي المُجتمعَ مِن التناقض بين الهُوِيَّات الثقافية، وتُطهِّر رمزيةَ اللغة مِن التعارُض بين الأحلام المكبوتة. وإذا استطاعَ المُجتمعُ تَجَاوُزَ الوَهْمِ المُتمركز حَوْلَ التاريخ، فإنَّ ضغط الأحداث اليومية على العقل المُنْغَلِق سَيَزُول، وبالتالي يُصبح العقلُ مُنْفَتِحًا على أشكال التأويل اللغوي للظواهر الثقافية، وإذا استطاعت اللغةُ تَجَاوُزَ الفِكْرِ المُتمركز حَوْلَ الذات، فإنَّ قُيود المادية الاستهلاكية على الوَعْي الزائف سَتَنكسر، وبالتالي يُصبح الوَعْيُ مُتَحَرِّرًا مِن سُلطة الأحداث التاريخية الخاضعة للأدلجة السياسية.

2

البُنى الوظيفية في المُجتمع لا تُحدِّد كيفيةَ تفكير الأفراد فَحَسْب، بَلْ أيضًا تُحدِّد ماهيَّةَ العلاقة المصيرية بَين الفِعْل الاجتماعي القادر على ترسيخ مصادر المعرفة، وبَين المفعول التاريخي القادر على صناعة التعددية الثقافية. وهذا يَعْني أن التاريخ يتوالد ويتكاثر، ويتَّخذ أشكالًا ثقافيةً مُتَعَدِّدة، تتلاءم معَ شخصية الفرد الإنسانية، وهُويته الإبداعية، اللتَيْن تَهْدِفَان إلى تأسيس منظومة اندماجية واعية، تَشتمل على تحليل عميق لمفهوم الزمن في السِّيَاقات الحضارية للفرد والجماعة، وتَحتوي على تفسير دقيق لِجَوهر الثورة اللغوية في قواعد البناء الاجتماعي،مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحريرِ المُجتمع مِن الوَعْي الزائف،وتحريرِ الطبيعة مِن السِّيَاسة المُغْرِضَة. وهذه العمليةُ المُزْدَوَجَةُ تَكشِف كيفيةَ سَيطرة المُسَلَّمَات الافتراضية على المُجتمع للتَّحَكُّم بأنساقه الحياتية، كَمَا تَكشِف كيفيةَ سَيطرة الآلات الميكانيكية على الطبيعة لاستنزاف مواردها، وبذلك يُصبح المُجتمعُ والطبيعةُ ضَحِيَّتَيْن لأحلامِ الفرد المُستحيلة، وطَمَعِه في الخُلود، ونزعته الاستهلاكية القاسية، وسُلطته المُتَوَحِّشَة القائمة على غُرور القُوَّة وحُبِّ الامتلاك والسَّيطرة.

3

الأفكارُ المركزية النابعة مِن الوَعْي الحقيقي لا الزائف، تُمثِّل الأساسَ الثقافي للفِعْل الاجتماعي، وتُجسِّد معالمَ النقد الذاتي، وتَفتح آفاقًا لُغَويةً لتأويل شخصية الفرد الإنسانية، وإيجادِ أجوبة منطقية عن أسئلة التاريخ المُعقَّدة. وهذا يَقُود إلى تفعيلِ الحقائق الشُّعورية في تفاصيل الأحداث اليومية، وتكريسِ الأحلام الوجودية في شُروط التَّنَوُّع الإنساني. وإذا استطاعَ الفردُ حمايةَ إنسانيته مِن استثمارِ التَّوَحُّش واحتكارِ الخَلاص واستنزاف الطبيعة، فإنَّه سَيُعيد بناءَ حياته بشكل منهجي لا عبثي، وبصورة إبداعية، ولَيْسَتْ مُجرَّد تحصيل حاصل. وهذا يَدفع الفردَ إلى اكتشافِ حقول معرفية جديدة في أعماق كِيَانه الإنساني، وتحريرِ صَيرورة التاريخ مِن ثُنائية (المَأساة / المَهزلة)، وتخليصِ الذاكرة المُجتمعية مِن التجارب الشخصية المُؤلِمة التي يُراد تعميمُها لِتُصبح هي القاعدةَ لا الاستثناء. وإذا نَجَحَ الفردُ في التعامل مع سُلطة اللغة كمصدرٍ للمعرفة ومَنبعٍ للقُوَّة، فإنَّه سَيُصبح قادرًا على تحليلِ ماهيَّة العلاقات السُّلطوية في الظواهر الثقافية، وتفسيرِ جَوهر المعايير الأخلاقية في البيئة المُعاشة.وإذا وَصَلَ الفردُ إلى الأساس الفلسفي للعناصر المُحيطة به، وَصَلَ إلى حقيقة ذاته، وبدأ عمليةَ البحث في ذاته عن الأحلامِ المكبوتة، والأفكارِ المَقموعة، والذكرياتِ السجينة، وتعاملَ معها كَبُنى وظيفية في ضَوء آلِيَّاتِ التأويل اللغوي، وأدواتِ السُّلطة الاجتماعية، وإستراتيجياتِ الوَعْي الحقيقي، بِوَصْفِه تاريخًا للتحرير داخلَ تاريخ الهَيمنة، وهُوِيَّةً للتَّعبير داخلَ هُوِيَّة الكَبْت، وخِطَابًا لليقين داخلَ خِطَاب الشَّك.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يعنى علم الانثروبولوجيا بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمع البشري، هو من حيث الاصل مصطلح يوناني لكلمة من مقطعين علم وانسان فهو علم الانسان.. وهو علم قديم حديث.. قديم من حيث انصاف المعاصرين المشتغلين في هذا المجال لجهود الاقدمين فقد اطلق لقب "ابو الانثروبولوجيا" على هيرودوتس "ابو التاريخ" واطلق لقب "هيرودوتس العرب" على ابي الحسن المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب، وذلك تقديراً لجهودهما في وصف طبيعة المجتمعات التي ارخوا لها..

يرى المؤرخون ان قدم علم الانثروبولوجيا يعود الى بدايات تأمل الانسان بطبيعة المجتمع، فهو اقدم العلوم.. وهو علم حديث من حيث دخوله الى الجامعة، فقد عيّن اول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة اكسفورد عام 1884 وكان السير ادوارد تايلور، واول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة كامبردج كان مستر هادن سنة 1900 وبذلك يرى المؤرخون ان افضل تاريخ حديث لعلم الانسان في نهاية او منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت مدارس وطبعت كتب في منتصف القرن التاسع عشر..

يشتمل علم الانثروبولوجياعلى علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي وعلم الانسان الحياتي وعلم اللغة..

يدرس علم الانسان الاجتماعي العادات والممارسات والسلوك، ويتناول علم الانسان الثقافي ثقافات الشعوب على اختلاف الزمان والمكان ودورها ووظائفها الاجتماعية، وعلم اللغة يعنى بتأثير اللغة في الحياة الاجتماعية وعلم الانسان الحياتي يدرس منظومة جسم الانسان البايولوجية.. يرى اتباع المدرسة الامريكية ادراج علم الاثار ضمن الانثروبولوجيا كونه يعنى بدراسة ثقافات الشعوب القديمة بينما لا ترى المدرسة البريطانية ذلك حيث ترى ان علم الاثار علم مستقل كونه اقرب الى التاريخ منه الى الانثروبولوجيا..

نتناول الدين في بحثنا هذا من حيث هو هوية ثقافية، ومن حيث ما توصل اليه علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والانثروبولوجيا من حقيقتين:

الاولى: انه لا يوجد مجتمع الا وله دين او هو يبحث له عن دين.

والثانية : انه ما من شخص الا وله شعور ديني يختلف من شخص الى اخر فقد يكون متذيذباً او مخفياً او متخذا نمطا معينا وقد يظهر في فترة من عمر الانسان..

يرى المؤرخ الفرنسي ارنست رينان المشهور بترجمته للكتاب المقدس والداعي الى نقد مصادر الدين نقدا علميا وتاريخيا لكي يتم التمييز بين ما هو تاريخي وما هو اسطوري مما ورد في الكتاب المقدس، يرى انه " من الممكن ان يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبه وكل شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها ومن الممكن ان تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة ولكن يستحيل ان ينمحي التدين او يتلاشى بل سيبقى ابد الآباد حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي"

يقول كارل غوستاف يونغ الطبيب وعالم النفس السويسري، مؤسس علم النفس التحليلي " من بين جميع المرضى الذين تعاملت معهم في النصف الثاني من حياتي لم اجد مريضاً واحداً لم تنته مشكلته في نهاية المطاف الى مشكلة العثور على رؤية للحياة ويمكن القول بكل ثقة ان هؤلاء جميعاً انما شعروا بالمرض بسبب فقدانهم الشيء الذي تقدمه الاديان الحية في كل عصر لاتباعها ولم يتماثل اي واحد منهم للشفاء الحقيقي قبل ان يعثر على رؤيته الدينية "..

تغير المجتمع هو التحولات التي تطرأ على المجتمع ووظائفه وهو صفة اساسية من صفات المجتمع ولا يختلف مجتمع عن اخر في ذلك الا في درجة التغير وعلى ذلك ينظر الى مجتمعات انها متأخرة واخرى متقدمة، اخذ بعض الباحثين هذا التفاوت في درجات التغير الاجتماعي وبحثوا في اسباب تأخر مجتمعاتنا العربية فعلقوا على الدين اسباب ذلك التأخر، فدعا بعضهم الى فصل الدين عن الدولة ودعا اخرون الى التدين الفردي حيث كل شخص حر في طريقة تدينه وله حرية وحق اظهار ذلك الشعور او عدم إظهاره، ودعا بعضهم الى إعادة تعريف الدين وفصله عن الهوية الثقافية الإجتماعية.. اننا نبحث في الدين من خلال علم الإجتماع الديني حيث علاقة الدين بالمجتمع وتأثير الدين في المجتمع وعلاقة الفرد بالدين وعلاقة الدين بالهوية وبناء الذات وتكوين الشخصية ولا نتطرق الى الدين من حيث هو علم فقه او علم كلام، ونتناول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع وعلاقة المشاكل الأسرية والفردية بطبيعة المجتمع وإرتباط ذلك بالهوية الثقافية للمجتمع..

يعتز مجتمعنا على اختلاف توجهات شرائحه بالهوية الدينية ويحرص كثير من الناس على اظهار الشعور الديني في مجالات الحياة العامة والخاصة، يدرس العلماء تغير المجتمع باهتمام من اجل مزيد من العدالة الإجتماعية والرفاهية الإقتصادية والتوازن الإجتماعي والتطور الثقافي، احاول في هذا البحث تسليط الضوء على ما يمكن من تأثيرات جانبية لتغير المجتمع يتوقع منها ان تلحق ضرراً بالهوية الثقافية الدينية الاجتماعية..

تعرض المجتمع العراقي في العقدين الأخيرين الى جملة ضغوطات واحداث القت بضلالها بشكل ملحوظ على تفاصيل الحياة اليومية ما بين تغيير نظام الحكم بدخول المحتل القادم بادوات تختلف عما كان عليه في السابق وما ترتب على ذلك من فوضى نتج عنها اضراب الامن وظهور العنف والارهاب والتطرف الديني وما ترتب عليه من اضطراب اقتصادي الحق الاذى بدخل الفرد فازداد اعداد الفقراء الى شرة ملايين على وفق احصاءات وظهرت حالات والبطالة والتردي التعليمي والتراجع الصحي وازدياد الفجوة بين السلطة والمجتمع الى الحد الذي اصيبت به الثقة بالأذى البليغ وتهددت الشخصية العراقية في توازنها واستقرارها واصبحت سنوات التغيير السياسي والإداري والإنفتاح العالمي مدعاة للقلق ومصدراً للخوف على سلامة مستقبل البلاد والمجتمع في ظل هكذا فوضى، علم الإنثروبولوجيا يأخذ هذه الأمور بنظرة شمولية تبدأ بمرحلة الوصف حيث يدون الباحث الإنثروبولوجي الحدث بزمانه ومكانه وتفاصيله في مرحلة يطلق عليها اثنوغرافي وتليها مرحلة التحليل والدراسة وهي مرحلة الإثنولوجي.

قد يبدو للقارى ان علم الإجتماع لا يختلف عن علم الانثروبولوجيا في تناولهما لطبيعة المجتمع لكن ما تجدر الإشارة اليه ان علم الإجتماع يعنى بجزئية من جزئيات الحياة الإجتماعية بالدراسة والتحليل كأن يدرس الدين في المجتمع او يدرس الطلاق أو العنف الأسري أو الإنتحار أو غيرها من مشاكل الحياة الإجتماعية أما علم الإنثروبولوجيا فإنه يتناول هذه القضايا بنظرة شمولية من خلال مباحثه في علم الانسان الإجتماعي والثقافي والحياتي وتأثير اللغة..

يستجيب المجتمع عادة للتيار الأقوى الغالب على طبيعة المشهد الحياتي للناس، ومن بين التيارات التي عصفت بالبلاد خلال العقدين الأخيرين يبرز تيار تيار الإنفتاح العالمي ومشاريع الإقتصاد الصناعي السياسي العالمي حيث الشركات العابرة للقوميات والمشاريع العملاقة التي تتجاوز اللغة والدين والجغرافية والسياسة وتتيح لكل شخص حرية دخول السوق العالمية من اجل التجارة والاستثمار، انه أمر لا يدعو في ظاهره الى القلق، لكن القلق يبدأ مع وجود جهود عالمية لدمج المجتمعات المتأخرة في النسيج العالمي، ذلك النسيج الذي تقف وراءه ثقافة غربية ولغة غريبة عن طبيعة مجتمعنا، وهو ما يمكن ان يعرض المجتمع الى للتغريب الثقافي..

تواجهنا مشكلة حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاعلام وحرية النشر التي وجدت مساحات مفتوحة في العالم الافتراضي لاحتوائها ودعمها بحيث بدأت تظهر محتويات هابطة لأشخاص غير مؤهلين لبلوغ مواقع الشهرة والوجاهة في المجتمع لأنهم دخلوا عالم الاتصالات والتواصل من اجل الكسب المادي فقدموا لذلك عروضا هابطة وتافهة حسبها انها لقيت اعجاب ومتابعة كثير من الناس الباحثين عن الغريب والمثير والساخر كي يخففوا عن انفسهم ثقل ضغوطات واقع الحياة الاجتماعية التي يعيشونها ولا يجدون فيها املا مشرقا في غد يزيح عنهم هذه الضغوط التي بلغت الحد المسموح به للتحمل من قبل كثير من الناس، لقد اخذت كثير من السلوكيات السيئة تظهر في الشارع وهي تتقاطع مع منظومة البناء الاجتماعي التي يجدها المجتمع معبرة عن طبيعته ولقيت امتعاض كثيرين عندما يخرج شاب الى الشارع بالبرمودا القصير فوق الركبة بينما تفرض العادات والقيم والدين ضوابط على خروج المرأة الى الشارع والشاب الذي يخرج الى الشارع بالبرمودا هو نفسه يرفض ويمنع خروج زوجته او اخته الى الشارع بدون حجاب..

لقد استثمرت كثير من منظمات حقوق الانسان ومؤسسات دعم الحريات الشخصية هذه السلوكيات وهذه الظروف ودخلت من باب الحريات والتحضر والتغير الاجتماعي ودعت الى رفع الحجاب عن المرأة من دون ان يأخذوا بنظر الاعتبار طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع مما ادى الى ظهور تيارات متشنجة حد العنف ضد دعاة خلع الحجاب وظهرت تيارات اخرى تدعو الى اعادة النظر في الموروث الديني والاجتماعي والثقافي، ودعت جهة ثالثة الى ترك الامر في خانة التقدير الشخصي للفرد، وهنا تظهر مشكلة كبيرة جديدة وهي ان اغلب الناس في ظل ظروف البلاد في العقدين الاخيرين لم تتهيأ لهم فرص التأمل في طبيعتهم وحياتهم وظروفهم ولم تتهيأ لهم فرص القراءة ومتابعة تجارب الاقدمين وبالتالي فهم عرضة الى تشكيل هوياتهم الجديدة من خلال العالم الافتراضي ومواقع التواصل والبيئة الجديدة الخارجة من رحم الواقع المجهض والمنهك بسبب ظروف الحرب والارهاب والاحتلال والاضظراب الامني والاداري والاقتصادي والثقافي..

هل تراجع دور المجتمع التربوي والتوجيهي والاداري في العقدين الاخيرين؟

كان المجتمع ولا يزال الى حد بعيد مراقباً جيداً لنظام البناء الاجتماعي فيما يخص تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع الواحد ومتابعة ما يظهر من حالات وسلوكيات تشذ عن الاطار العام للهوية الثقافية للمجتمع الاسلامي، لكن الفترة الاخيرة في حدود العقدين الماضيين اتسمت بظهور تحوير للمعنى او تغيير في حدود المعنى للمعنى لبعض المصطلحات ومن اهمها مصطلح الحرية الذي يأخذ بيد الشخص الى حيث مبتغاه وان كان ابعد من حدود الذوق العام وطبيعة المجتمع، يكفي ان يكون حراً بالقدر الذي لا يلحق ضرراً مباشراً آنياً بغيره، حتى وان ترتب على تلك الحرية الشخصية انماطا سلوكية لا تبعث على ارتياح الاخرين، كما ان التقنية المتطورة بمنتجاتها التي لم يعد بوسع اي شخص التخلي عنها في مجالات الحياة الاجتماعية ادلت بدلوها في احداث فجوة داخل الاسرة الواحدة بين الاباء والابناء عندما وجد الاباء تفوق قدرات ابنائهم على قدراتهم في التعاطي مع مخرجات المشاريع الصناعية الإقتصادية وتنوع سبل المعرفة وسهولة الوصول الى المعلومة، خصوصاًً وان لغة العالم الإفتراضي هي اللغة الإنكليزية التي لا يجيدها كثير من الآباء بالجودة التي حظي بها الابناء..

تأثير اللغة في الحياة الإجتماعية..

للغة تأثراتها على الحياة الاجتماعية فهي روح الهوية الثقافية، إذا تغيرت طبيعة تلك الروح من اللغة العربية الفصيحة الى لهجات ولغات دارجة اوجدتها الضرورة بحكم تراجع مستوى التعليم الى مهنية الوظيفة الروتينية مقابل العروض القوية التي يوفرها العالم المنفتح على بعضه اقتصادياً وثقافياً وتجارياً، الامر الذي يفرض على كثيرين تعلم تلك اللغات لمراعاة المصالح والمنافع والمكاسب، وهذا الوضع يجر باتجاه الابتعاد عن الهوية الثقافية لطبيعة المجتمع الاسلامي العربي، وما يدعو الى القلق ان كثيرين تقمصوا شخصيات قلقة تبدو في ظاهرها متوازنة لكنها في الواقع مجاملة اكثر منها واقعية، لأن المجاملات تهيء جواً من الهدوء يمكن من خلاله تمرير حالة اللاتوازن التي يعيشها كثير من الناس بسبب عدم التكافؤ بين طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع بماضيه وحاضره مع عجلة الزمن الماضية باتجاه التغريب الثقافي في المستقبل خصوصاً جيل الأبناء الذين اخذوا يفتقرون الى الصلات التي كان الاسلاف يتمتعون بها مع اسرهم ومجتمعهم، جيل الأبناء اليوم يرتبط بمحيطه ارتباطاً بيولوجيا في اطار مجاملاتي في جو مستقر سرعان ما ينكشف وهنه مع أول احتكاك أو اصطدام تمليه المصلحة الشخصية وتفرضه ظروف الحياة المادية التي تلاعبت بالنسيج الاجتماعي ودفعت به الى تشكيلات وتجمعات بشرية يطلق عليها نظرياً - مجتمع - لكنها عملياً كتل متفرقة لكل منها نظامها الاجتماعي الذي تعبر به عن طبيعتها الجديدة في بيئة تعلو فيها لغة الارقام على سواها من اللغات الحية..

دعوات إحلال اللهجة العامية محل اللغة الأم..

اتسعت في العقدين الاخيرين دعوات اشاعة اللهجة العامية على اللغة الفصحى، واشاعة تسكين اواخر الكلمات على التمكن من سلامة مخارج الكلمات على وفق الضوابط اللغوية والقواعد، واشاعة دعوات تمرير الأخطاء على النقد البناء بحجة ان النطق مرهون بالقصد من سياق الكلام، فصار بمقدور كل من لا يمتلك ناصية الإجادة ان يظهر في محافل اجتماعية وثقافية ليتحدث واذا صادف ووجهت له انتقادات بخصوص تعثر اللغة على لسانه اعتذر مبررا تعثر لغته بعدم تخصصه في اللغة العربية ومضت كثير من اللقاءات والمحاضرات والخطابات على هذا الفقر الثقافي، وما يخشى منه في هذا الجو الملوث ان تضيع اللغة العربية في حياة العامة من الناس ويتحول المتمكنون من ادواتها الى اشخاص يحظون بالتقدير والاحترام اكثر من وجوب ادائهم دورهم النقدي البناء لتصويب السنة المتكلمين بالعربية من الشعور بمسؤولية حمايتها لما تمثله من روح للهوية العربية الاسلامية لكي لا تحل اللغة المسموعة محل اللغة المكتوبة لما تخفيه اللغة المسموعة من قبح في شكل الكلمات تفضحه اللغة المكتوبة، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تكشف هذا الخطر المحدق بسلامة اللغة عندما يتخاطب المستخدمون في مراسلاتهم بنصوص تكتب بلا ضوابط هي اقرب الى التصور الشخصي لنطقها منها الى المعيار اللغوي لها فجاءت كلمة شكراً بالنون بدل تنوين الفتح وما الى ذلك، مما يهدد سلامة التفكير في تحديث البناء الاجتماعي واقتصاره على التكرار والتشابه في الخطوط العامة كما هو حال المجتمع خلال العقدين الماضيين ماضياً باتجاه لا يفضي الى ضوء في اخر الطريق، يشمل هذا الواقع تفاصيل حياتنا من مأكل وملبس وعادات وسلوكيات وامنيات وعثرات، لا شك ان لهذا الواقع حضوره في المعتقدات والاخلاق والتفكير والعبادات والعادات، يمضي هذا الواقع اليومي باتجاه تعويد الناس على القبول به واقعا اعتيادياً بما له وما عليه، وهذا الاعتياد سيتحول الى تصورات مقبولة عند الاجيالل الناشئة وبالتالي فهو يهدد المجتمع بالركود والخمول وهو خلاف ما يدعو اليه الدين الذي يقضي بتطور الانسان وتحضره وترقية التكوين الانساني في الذات البشرية، وسيغدو التفكير بتغيير الواقع امراً صعباً او غريباً او لا ضرورة له بعد ان تهيمن مشاهد الحياة الاجتماعية على طبيعة الناس وتجعلهم الى التغريب الثقافي اقرب منهم الى انعاش هويتهم الثقافية خصوصاً وان منتجات التقنية المتطورة توفر كثيراً من دعوات القبول بالجاهز في كل شيء في الطعام والشراب والتفكير، فما يندرج ضمن العروض التجارية التي توفر خدمات مريحة تختصر جهد المرأة في اعداد اطباق الطعام التي كانت تضفي على جو الاسرة تقارباً والفة ينمو فيها الحس والتقدير والمحبة التي غابت عن كثير من الأسر بظهور المعلبات والاطباق الجاهزة والاكلات السريعة وما ترتب على ذلك من انصراف الناس الى امور اخرى هي اقرب الى التمتع واللهو والرغبة منها الى الجد وعمق التفكير فأصيبت الهمة بالضعف وصار الناس اكثر استعداداً لقبول الحلول العاجلة على الحلول الصحيحة، يكفي انها حلول تنهي هذه المشكلة..

وسط هذا الكم الكبير والخانق من ضغوطات الحياة اليومية الجديدة في بدايات القرن الحادي والعشرين وبدافع من الحراك الاجتماعي في ظل الهوية الدينية الثقافية يبحث كثير من الناس عن اماكن يستشعرون معها الهدوء والطمأنينة من اجل الخروج بالنفس من دائرة الضغوطات وحالات الشد والتوتر، وقد امتازت بلادنا بوجود مراقد انبياء وائمة اهل البيت عليهم السلام وكان لوجودها الاثر الكبير في تخفيف حدة التأزم التي فرضتها على المجتمع مجريات الامور على اختلافها مابين سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية فضلا على ان وجودها عزز ووثق اهمية الهوية الدينية في ثقافة المجتمع اوقات الازمات والشدائد وكانت كثيرة خلال العقدين الاخيرين ابرزها موجة الارهاب التي ضربت الحياة الاجتماعية للناس وهددت النسيج الاجتماعي بالتمزق..

اظهر بعضهم التزامه الاجتماعي باداب زيارة المراقد والمساجد من حيث حاجته الى الراحة النفسية التي يعلم مسبقا ان الجو الديني يوفرها مع استمراره في حياته المادية والمهنية التي قد يفرغ محتواها احيانا من اي التزام حقيقي ومن شأن ذلك ان يقصر الهوية الدينية على الجانب المعنوي دون جوانب الحياة الاجتماعية العملية الاخرى فقد سجلت المشاهدات الحية مداراة بعض الناس للذوق العام فقد ظهرت سيدة متعملة وهي بكامل حجابها في احد المزارات الدينية كما شوهدت في وقت اخر في مكان ترفيهي عائلي وهي بكامل اناقتها وتبرجها وعلى مقربة من شخصيتها بدت غير مضطربة فكرياً او سلوكياً او نفسياً لكنها كانت تلبي احتياجاتها النفسية البيولوجية فعندما شعرت بحاجتها الى الهدوء والسكينة قصدت احد المزارات الدينية ووجدت انها تراعي الذوق العام وتعطي المكان زياً يناسب ظهورها فيه كي لا تكون موضع انتقاد ذاتها والاخرين فارتدت الحجاب وقضت ما رأته وقتا كافياً للراحة وصفاء الروح وهدوء النفس والخشوع، وعندما احتاجت الى الترفيه قصدت مكانا يتلائم مع حاجتها في اطار اجتماعي اخلاقي متمدن فدخلت منتزها‘ او منتجعاً عاماً ووجدت ان تظهر بما يناسب المكان وما يبعث في نفسها البهجة والسرور والظهور فهي تجد نفسها موفقة في اختيارها الزي المحتشم لتلائمه مع طبيعة المكان الذي تقصده كما انها كانت موفقة في اختيار نوع الملابس والهيأة التي تظهر بها في مكان عائلي ترفيهي..

تأثير الوضع الاقتصادي في الهوية الثقافية الدينية للمجتمع..

يسهم الوضع الإقتصادي في فرض اوضاع قد تبدو غريبة او مريبة او مقلقة او تدعو للشفقة واحياناً قد تدعو للقلق خصوصا عندما يمر المجتمع بظروف تغيير يسهم تردي الحال الاداري للبلاد في ترسيخه في الحياة الإجتماعية فعندما لم توفق ادارة البلاد الى النظر الى واقع المجتمع من خلال طبيعته وهويته اشتدت على الناس ظروف الحياة الجديدة اقتصادياً وثقافياً فقد فرضت ظروف العيش من جهة والنمو السكاني من جهة اخرى واحتياجات المنظومة البيولوجية للجسم من جهة ثالثة، فرضت هذه الظروف مجتمعة نمطا من انماط العيش يقتضي بموجبه وجود اكثر من عائلة في بيت واحد، فالاولاد يكبرون ولا يمكن بحال من الاحوال تجاهل احتياجات منظوماتهم الجسمية والنفسية وربما يمكن تأجيلها لكن بلا شك تفرض نفسها وتلح في فترة من الفترات ولأننا مجتمع ديني فهو يجتهد لكي لا يفلت زمام الامور ويخرج بعيدا عن الإطار الأخلاقي الديني الذي ترتضيه الأعراف والتقالبيد والأخلاق فقد كان الأخوة يتزوجون في ذات البيت ولكون الحال لا يعطي املا قريباً في انفراج يحدث معه استقلال كل اسرة على حدة فقد واجهت كثير من الأسر مشكلة الإلتزام الديني بحجاب زوجة الإبن من اخوة زوجها، فمن جهة تبذل الأسرة كل جهدها كي تبقى هويتها الدينية فاعلة في ثقافتها الإجتماعية ومن جهة لا تريد لهذه الهوية الدينية ان تتحول الى إلزام مفروض مراعاة لمشاعر زوجة الإبن التي من حقها ان تتحرك داخل البيت بحرية ادبية كافية لمنع الضغط النفسي فعندما يفرض التشريع الديني على المرأة ان تتحجب من اخوة زوجها ويفرض واقع الأسرة المعاشي ان يعيش الاخوة مع بعضهم وما يترتب على هذا الجو الأسري من مراعاة ومداراة لنفوس الموجودين في البيت لتحاشي وقوع المشاكل ومضاعفات التقيد فقد اجازت بعض الاسر لزوجة الابن ان تخلع حجابها امام اخوة زوجها كونهم اخوتها بحكم الواقع الذي تعيشه الاسرة، مع الإبقاء على حجابها خارج المنزل، فهل يترك ذلك اثره السلبي على الهوية الدينية؟ وهل يؤثر ذلك سلبا على بناء الشخصية؟ وماذا عن التعبير الذاتي للفرد عن هويته وطبيعته الجديدة؟ هل يشعر بثقل الهوية الدينية او انه يشعر بحاجته الى اعادة صياغة الهوية الدينية في ظل ظروف الواقع الحياتي الذي افرزته التغييرات التي طرأت على المجتمع؟

على كثرة ما الم بالمجتمع العراقي من صعوبات وشدائد ومعاناة ترتبت على دخول منتجات تقنية متطورة بعيداً عن التوجيه والإرشاد وثقافة الاستخدام لتلك المنتوجات التي شدّت اليها جيل الشباب واصبحت ضرورة ملحة في حياتهم ومكمن خطورتها في انها صارت مصدر تزويدهم بما يحتاجونه لبناء الشخصية من لغة تخاطب ومن اداب تعامل، لذا وجب تحريك هويتنا الثقافية القائمة على اركان اخلاقية ودينية وانسانية واعية لتحريك نهضة المجتمع باتجاه الحفاظ على الهوية الدينية التي هي ضرورة وحاجة اساسية تتطلبها حياة الفرد والمجتمع في مرحلة او مراحل الحياة الهادفة، ولعل من الخطأ اعتقاد بعض الناس ان السعادة والفرح هدف او غاية يسعون اليها في حياتهم وفي الحقيقة العلمية فان العالم المادي عالم ميكانيكي حركي استهلاكي، وهو عالم متعب ولا تلتقي الراحة بالتعب الا من خلال الدين بروحه التي تحل في الابدان فتحركها صوب الهدف المرجو من الجسم البشري كوسيلة.

ما مدى قدرة الدين على الاقتراب من واقع الناس وتفاصيل حياتهم اليومية التي لم يعد ممكناً فيها تجاوز المعاناة المستمرة والمتراكمة وتعقيداتها التي تزداد مع ازدياد النمو السكاني ونقصان الموارد وفرص العمل؟

هل يستطيع الدين انقاذ المجتمع من الوعي السلبي المضطرب الذي تفرضه على واقعه ضرورات الحياة اليومية؟

هل سيؤثر التكرار اليومي للمشاكل على علاقة الدين بالمجتمع؟ ما هو شكل ذلك التأثير مستقبلاً؟

ماذا لو تمكن المجتمع من اعتياد عدم التزامه ببعض الثوابت الدينية والتشريعات.. هل سيؤثر هذا في تفاصيل الهوية الدينية الثقافية للمجتمع والفرد؟

هل اننا مقبلون على نظام جديد للهوية الدينية الاجتماعية يراعي ظروف الحياة المعيشية والمعرفية والإدراكية للفرد؟ ويقدم حلولاً مقبولة وان كانت تفتقر الى الاصول والمنطق والصواب.. واذا حدث هذا هل يعد تغييراً دينياً ام تنازلاً؟

ماذا لو فرض واقع الحال نفسه على الهوية الدينية واجاز بعض الممنوعات دينياً باسم الضرورة الحياتية؟

هل تسهم الضغوط الحياة الإجتماعية والإقتصادية والشخصية في دفع الناس الى قبول العروض الآنية السيئة من اجل تجنب الوقوع في الأسوأ؟

***

د. عدي عدنان البلداوي

 

إن من أبرز سمات وخصائص الفلسفة المثاليّة بشكل عام، أنها تستعيض عن الفعل المتطور منطقياً، أي الفعل الذي له قوانين سيرورته وصيرورته التاريخيتين، والمشبع بالعلاقات الاجتماعيّة والفكريّة القائمة على هذه العلاقات بكل مضامينها، بحشد فوضويّ من الانفعالات والمشاعر الذاتيّة، المتجهة نحو الشكل وإهمال المضمون، والمعتمدة على الابهام، والمتخلية عن البناء المنطقيّ وتمجيد اللامعنى واللاعقلانيّ. فالفيلسوف المثالي يقوم هنا بخلق عالمه الذاتي الخاص به، والمستقل عن سير التاريخ، وبالتالي تقتصر فلسفته على إصلاح الروح، أو التعبير عن واقعها وطموحاتها خارج إطار الزمن والمكان معاً.

إذن إن الفلسفة المثاليّة مشبعة بالرؤى الذاتيّة والخيال والحدسيّة والأسطورة وغيرها من وسائل وطرق التفكير البعيدة عن الواقع وتناقضاته، أي البعيدة عن ربط الفكر بالواقع والإقرار بأن الفكر نتاج الواقع ذاته، وليس فكراً مفرخا بشكل مجرد، علماً أن بعضهم يحاول ربط هذا الفكر بالواقع، ثم يعود لمنح هذا الفكر القيمة المطلقة، أو القدسيّة التي تفرض على الواقع أن يرتقي إلى هذا الفكر المثاليّ. والأيديولوجيا الدينيّة او الوضعيّة الشموليّة تأتي هنا أنموذجاً.

إن تاريخ الفلسفة عند المثاليين عموماً، هو ليس أكثر من ذيل لتاريخ اللاهوت أو الدين في سياقه العام، مثلما هو حصيلة الإبداع الذاتي المستقل لمفكرين منفردين، في الوقت الذي يعمل فيه هؤلاء الفلاسفة المثاليين على عزل مسيرة الفكر الفلسفي عن التطور الواقعي لتاريخ المجتمع والعلم. لذلك تأتي الفلسفة المثاليّة في جوهرها فوق الطبقات وتناقضات المجتمع بالضرورة.

يعتبر "برغسون" في حدسيّته الممثل الأكثر حضوراً لهذه الفلسفة، حيث يرى، أن المهمة الأساس للفلسفة هي التخلص من جهة نظر العقل. لذلك فإن (الحياة) عنده وهي جوهر العالم، ليست عقلانيّة، وبالتالي تأتي محاولاتنا العميقة لإدراك كنهها لا عقلانيّة أيضاً.

يقول: برغسون": إن الحقيقة الأكيدة التي تشكل المنطق الأساس لكل فلسفة، هي وجودنا الذاتيّ الذي يتجلى في ذلك التيار الدائم من الإحساسات والعواطف والرغبات. وهذا التيار من الانفعالات يشكل المادة والموضوع الرئيس  في الفلسفة الحدسيّة.

أما الوعي عند "بروغسون" فيقوم على منطلقين أساسيين هما:

الحدس: الذي يرتبط بالناحية التأمليّة في الحياة.

والذهن: الذي يرتبط بالجانب العمليّ (الفعال) في الحياة.

و"برغسون" في تعامله مع هذه الحياة، ينطلق من الحدس باتجاه أعماق الوعي الذاتيّ، ثم إلى الوعي المجرد غير المرتبط بذات معينة، ثم إلى الروح التي هي عنده جوهر الحياة والكون بأسره، وأخيراً ينتقل من هذه الروح إلى الذهن والفعل الخارجي، أي إلى التعامل مع الأجسام، أي الظواهر التي يمتلئ بها المكان وفقاً لما كونه او انتجه وعيه الذاتيّ .(1).

إذن من هذا الموقف المعرفي والسلوكي والمنهجي، نجد أن الفلسفة المثاليّة عموماً هي في المحصلة فلسفة ميتافيزيقيّة، أي هي تلك الأفكار والتعاليم التي تعتمد على الفرضيات والتأمل التي يصعب البرهنة عليها، والتي تُخْضِعُ الأشياء بشكل مسبق لمنطق حدسيّ وفكريّ مجرد، وليس للقوانين التي تتحكم بآليّة عمل هذه الأشياء في الطبيعة والمجتمع. وهذا عكس النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة إلى الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة، التي تتجه إلى المادة .. أي إلى ظواهر الواقع المعيوش، فليس هناك شيء غير مادي. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل. وتظهر سمات وخصائص مفرداتها وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وإن الطبيعة والمجتمع في حالات تطور وتغير وتحول إلى أشكال أخرى بشكل دائم.

إن الظروف الماديّة للبشر تلعب دوراً بالغ الأهميّة في حياة المجتمع. أي إن ظروف الناس من مأكل ومشرب وملبس وامتلاك وسائل الحياة، تلعب الدور الأول في الحياة، وتشكل السبب الأساس لكل الظواهر المعيوشة تقريباً، بل وحتى الجوانب الأخرى الأرقى في الحياة، كالفن والأدب وقضايا النفس البشريّة اللاشعوريّة والقيم الأخلاقيّة. وهذا المنطق الفلسفيّ الماديّ التاريخيّ الجدلي، هو من يواجه الفلسفة المثاليّة ويثبت عجزها في معرفة قضايا الإنسان وحلها حلاً ثوريّاً وعقلانيّاً. وعندما نقول حلاً ثورياً، أي لابد من دور الإنسان في كشف القوانين الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم في الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة والتسلح بها لمواجهة مشاكله وحلها. وعلى هذا الأساس تأتي السياسة عاملاً حاسماً في تقرير حياة الشعوب، وخلق قفزات وتحولات هائلة في التطور الاجتماعيّ، كون هذه القفزات أو التحولات تعتبر أحداثاً عظيمة في العملية الاجتماعيّة التاريخيّة. ففيها تكمن معرفة الطريق الصحيح لتحرر الإنسان أو البشريّة من هيمنة الظروف الموضوعيّة على مستوى الطبيعة، والظروف الموضوعيّة والذاتيّة على مستوى المجتمع، ويأتي في مقدمة التحرر من الظروف الاجتماعيّة السلبيّة بشقيها الموضوعيّ والذاتيّ، التحرر من الاستبداد والاستعباد السياسيّ والاقتصاديّ والروحيّ.

إن النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة كمنهج في التفكير والممارسة، تؤدي بالضرورة إلى كشف القوى الاجتماعيّة المتصارعة داخل المجتمع ودورها في تقدم المجتمع أو تخلفه. مثلما تكشف المصالح التي تحرك هذه القوى، والأساليب التي تستخدمها  للوصول إلى تحقيق أهدافها الاقتصاديّة أو السياسيّة والروحيّة. وبالتالي فالمنهج المادي الجدليّ يدفع الإنسان إلى ربط نفسه بواقعه والعمل على ممارسة حياته بشكل عقلانيّ وتنويريّ، وتمسكه بفلسفة العمل، كونها هي من سيشبع حب الاستطلاع لديه، بل وإعادة تنظيم حياته تنظيماً عقلانيّاً أيضا.

إن الفلسفة المشبعة بالعقلانيّة والتنوير، هي من ستؤدي إلى تحويل الفكر الذي أنتجه الواقع المعيوش إلى ممارسة، وليس الفكر المجرد القائم على التأمل والحدسيّة اللاعقلانيين.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

...........................

1- لمعرفة المزيد عن الفكر البروغسوني، راجع كتاب – موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي دمشق – بحث (البروغسونيّة).

 

حوار يوثيفرو وهو أحد حوارات افلاطون، يحاول الإجابة على السؤال:

- هل ان ما هو خير محبوب من الله لأنه خير ام انه خير لأنه محبوب من الله؟

اذا كنا جميعا نؤمن بالله. من المحتمل اننا سنلجأ الى الله بحثا عن مرشد حول ما نعمل. السؤال هنا سيكون:

- هل ان ما يخبرنا به الله كشيء جيد هو جيد فقط لأن الله اخبرنا بذلك، ام ان الله يخبرنا ان نعمل ما هو جيد لسبب آخر؟ هذا المأزق سمي "مأزق يوثيفرو".

المقال هذا يسعى لتلخيص الحوار الذي يُشتق منه المأزق. انه يبدأ بالحديث عن مسرح الحوار، وعن السؤال الذي يطرحه سقراط. بعد ذلك نتابع حديث سقراط ويوثيفرو خطوة خطوة محللين ثقة يوثيفرو بانه يستطيع بصراحة توضيح ماهية التقوى من خلال إثارة المأزق من قبل سقراط.

مسرح حوار يوثيفرو لإفلاطون

مكان هذا الحوار الإفلاطوني هو اغورا (السوق) في مركز مدينة اثينا. هذا المكان هو مركز القضاة، وفيه تصدر اولى الأحكام في القضايا أمام المحاكم. سقراط حضر هنا للإجابة على تهمة المعصية بسبب إفساده شباب المدينة، بينما يوثيفرو حضر هنا لتوجيه الإتهام ضد والده في قتل أحد العبيد. قتل العبد هو جريمة شغلت في المجتمعات المالكة للعبيد موقع الغموض وتميل لإثارة أسئلة حول العلاقة بين الأخلاق ومفاهيمنا حول الفرد والملكية. أفعال يوثيفرو لا تقل غموضا لأن مقاضاة المرء لعائلته يحمل دلالات المعصية كالجريمة ذاتها. المشكلة مع القاتل من المنظور الديني لا يجب النظر اليها من خلال النموذج الابراهيمي في خرق القانون "أنت يجب ان لاتقتل"(احدى الوصايا العشر). بدلا من ذلك، القتل هو جريمة، لأنه فعل ديني يتم في سياق التضحية ويجب ان ينال التقديس sanctification، وبدون هذا التقديس الضروري سيُزعج الآلهة.

دفاع يوثيفرو

جواب يوثيفرو في عدم وضوح قضية مقاضاته هو الادّعاء بانه يعرف ما تريد الآلهة، وانه يتصرف بناءً على معرفته بحقيقة التقوى. وكما يعرف كل من اطّلع على سقراط وتصرفاته ان هكذا ادّعاء – ادّعاء بمعرفة ما يعنيه او يتضمنه مفهوم عام – هو يُحتمل ان يثير النقاش.

هذا يثبت ادّعاء سقراط بانه يرغب حقا بمعرفة الطبيعة الحقيقية للتقوى لكي يدافع عن نفسه، ولكن كما يتضح ان يوثيفرو - مثل العديد من ضحايا سقراط – لا يعرف حقا عن أي شيء يتحدث. يجب ادراك ان سؤال سقراط طُرح بطريقة ليفرض قيودا هيكلية معينة على أي جواب معقول. سقراط يبدو محدد جدا: يريد جواب على سؤاله الذي لا يصف فقط التقوى وانما يقترح معيارا للحكم على الأفعال قياسا للتعريف الذي نختار تبنّيه. عندما نستطلع الحوار بتفاصيل أكثر، من المهم تذكّر تلك القيود.

مدخل للحوار

يوثيفرو وسقراط يرحب احدهما بالآخر، بعبارات رقيقة. عندما سمع بالتهمة ضد سقراط، أظهر يوثيفرو له المواساة. في الحقيقة، هو يقترح ان سقراط وهو ذاته يواجهان نفس النوع من التهم. مشكلة سقراط برزت... لأنه حسب قول المدّعي تأتيه إشارات من الاله . هكذا كتب (ميلتس، وهو المتّهِم الرئيسي لسقراط) لائحة الإتهام ضده باعتباره يصنع ابتكارات في المسائل الدينية، وان ميلتس يأتي للمحكمة للافتراء على سقراط، مدركا ان مثل هذه الاشياء يسهل تحريفها على العامة. ونفس الشيء يصح في موقف يوثيفرو. "في أي وقت أتحدث عن المسائل الدينية في الجمعية وأتكهّن بالمستقبل، هم يسخرون مني كما لو كنت مخبولا، ومع ذلك انا لم افتر أي شيء لم يحدث".

جوهر الأمر، بالنسبة ليوثيفرو، هو انه لا هو ولا سقراط يمكن نقدهما لعدم التقوى لأنهما ببساطة غير ملتزمين. السؤال عن ماهية حقيقة التقوى لابد ان يبقى مفتوحا للنقاش.

اب يوثيفرو

يبدو ان سقراط لايشعر بالارتياح جيدا تجاه يوثيفرو، حيث انه يسخر منه لإدّعائه النبوة وليقينه المتعلق بمعنى التقوى. سنرى تفاصيل موقف يوثيفرو ضد أبيه:

"الضحية كان معتمدا عليّ، وعندما كنا نحرث الارض في ناكسوس هو كان خادما لنا. هو قتل احد عبيدنا في غضب مخمور، وهكذا ربط ابي يديه وقدميه ورماه في خندق، ثم أرسل رجلا هنا ليتحقق مع الكاهن حول ما يجب عمله. في ذلك الوقت هو لم يعط فكرة او عناية للرجل المقيد، كونه قاتل، وكان لا يهم لو مات، وهو ما حصل".

وكما يستنتج يوثيفرو مبتهجا، كل أقاربه يقولون ان "من المعصية لولد ان يقاضي ابيه على جريمة. لكن افكارهم عن الموقف الديني من التقوى والمعصية هو خاطئ، يا سقراط".

سقراط حالا يطلب معرفة ما اذا كانت لدى يوثيفرو مثل هذه المعرفة الدقيقة بطبيعة المعصية عندما يتصرف بمثل هذه الطريقة المعينة والمثيرة للجدل، ويوثيفرو يؤكد بثقة موقفه ذلك. من المعقول الافتراض اننا نرى يوثيفرو كأحمق ومفرط في الثقة، حتى في هذه المرحلة من الحوار.

تعريف يوثيفرو للتقوى

بالرغم من ثقته المفرطة، يبدأ يوثيفرو بتعريف هو بالتأكيد لا يكفي كجواب لسؤال سقراط:

"انا أقول ان التقوى هي ان تعمل ما أعمله انا الآن، ان تقاضي الظالم كأن يكون قاتلا او سارق معبد او أي شيء آخر، سواء كان الظالم ابوك او امك او أي شخص آخر، وان لا تقاضيه هو المعصية".

كلاهما لايكفي لأنه ليس تعريفا للتقوى وانما مثال للفعل التقي، ولأنه ينقل الغموض حول مصطلح "معصية" الى مفاهيم اخرى ("الظالم" خصيصا) والذي هو الآن يجب ان يُعرّف بدوره. سقراط يلح على يوثيفرو ليكون اكثر وضوحا، وان يعطيه شيء ما، "لكي افكر به ، استعمله كنموذج، بحيث يشير الى ان ما تفعله او يفعله الاخرون هو من ذلك النوع من التقوى". يوثيفرو يجيب لهذا ببساطة ، "ما هو عزيز للالهة هو التقوى، وما هو غير عزيز هو معصية". سقراط يشعر بالابتهاج، ويقول ان يوثيفرو أجاب حقا بالضبط على ما أراد.

مازق يوثيفرو

غير ان سقراط حالا بدأ يشعر بالخذلان. يوثيفرو لا يستطيع توضيح كيف عرف ما تعتبره الآلهة عدلاً، وينتهي بالادّعاء ان ما تحبه الآلهة او تكرهه ببساطة هو واضح. لكن بالطبع ممكن، في ثقافة تعدد الآلهة، ان تلاحظ (كما يفعل سقراط) ان ما هو واضح لشخص ما هو مثير للخلاف لشخص آخر، لذا فان ما هو ورع لإله معين يمكن ان يكون معصية لإله آخر.

سقراط ينتقل من النقد الأول ليعرض نقدا آخر، هذا الأخير يُعرف بـ "مأزق يوثيفرو"، وهو يشغل الحوار بشكل كامل. المأزق ببساطة هو : "هل التقوى أحبها الله لأنها تقوى ام انها تقوى لأنها محبوبة من الله؟". هذا المأزق استُعمل لإستخلاص الضعف في تعريف يوثيفرو للتقوى التي تحبها الآلهة.

اذا كانت التقوى كذلك، ولا يوجد معيار آخر لها، عندئذ ستبدو التقوى مفهوما فارغا يفتقر للصفات التي تمتلك قوة تتعدى صفة كونها محبوبة من الآلهة. بالتأكيد الآلهة تحب ما هو تقي لسبب ما، نحن نستطيع تحديده.

أهمية مازق يوثيفرو

ما وراء الحوار ذاته، يبدو ان مأزق يوثيفرو يعرض خوفا عميقا حول طبيعة التقوى والأخلاق الدينية بعمومية أكبر. اذا اعتبرنا أنفسنا نؤمن ببعض الالهة، نحن في نفس الوقت نبدو نرغب بان الله يصدر احكاما حول الخيرية، لكي نلجأ لموافقة الله لتبرير أفعالنا. لكن، اذا كانت تلك الموافقة مبررة فقط لأنها تأتي من الله، ولا وجود لسبب آخر، سيبدو ان مفهومنا للأخلاق يرتكز خصيصا على اللجوء للسلطة الدينية.

قد يبدو هذا لبعض المؤمنين جيدا، ولكن للأكثرية لايكفي. أحد الخيارات هو محاولة إعادة توصيف "السلطة"، وإضافة خصائص معينة تجعلها أكثر تبريرا. فمثلا، نحن ربما نرغب الادّعاء ان السلطة الالهية تستحق الخضوع لها بالنظر الى حكمة الاله الفائقة اللامحدودة. مع ذلك، وعلى الرغم من اننا نخفف من المعاناة، لكننا نصنف اسس الاخلاق على انها لغز الهي.

يبقى الامر متروكاً للمؤمن ليقرر ان كانت هذه نتيجة ضرورية للعقيدة الدينية، او ان هناك طريقة لتعريف الأخلاق الدينية بعبارات أقل فوقية. يوثيفرو من جانبه، يغادر المشهد ساخطا، مستجيبا لطلب سقراط المتكرر للإجابة على مأزقه عبر الادّعاء انه ينبغي له الانصراف لعمل في مكان آخر.

***

حاتم حميد محسن

التساؤل كيف تكون اللغة هي الفكرحسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة.إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟.

هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبيرليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر أي بمعزل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن اللغة لأنه يكون ذلك إستحالة إدراكية تعجيزية للعقل.في إمتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.إن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة أن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر، أو أن اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على أنها فعالية إدراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال إدحاضه في الإحتكام للعقل إدراكه الوجود.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل أو خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا أو بالأحرى من أجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

صمت اللغة في إشكالية الفصل بين اللغة والفكر

حين نقول تفكير العقل الداخلي الاستبطاني المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا.وبالواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، إنما هما في الأصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي أو متخّيل آخر.أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع) المدرك في زمن واحد.وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من العالم الخارجي.

إن ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية المتباعدة والمختلفة في نوعيتها، لايعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الإنعكاسية الإرادية وغير الإرادية لها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى إستحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة إفصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود أو شيء ما في العالم الخارجي.وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل. نذّكر أن علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة.بإعتبار اللغة فعالية العقل في تعيين إدراكاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف بالمباشرقولنا أنه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربوجود شيء مادي أو خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لأنه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة ، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، أي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له.

للتوضيح أكثر التفكيرالمادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي أو شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، أما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو إلهام تخييلي في إنتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي، لم يكن إدراكه متيّسرا قبل إفصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال إنتاج لوحة فنية أو قطعة نحتية أو أي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام أو لغة الكتابة.

نأتي الآن الى معالجة أصل إمكانية فصل الفكر عن اللغة، على أنها إستحالة إدراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في إستقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك وأعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي أيضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها.

يبقى عندنا أن التفكير العقلي الصامت ماديا أو خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية وأثناء التفكيربموضوع ما، أي حينما يفكر العقل صمتا فهويفكّربالفكرذاته كوسيط بموضوع الفكرالذي نقلته الحواس المدركة للاشياء أو في موضوع إبتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه وإعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا أهمية ولا وجود لها يتاح إدراكه من غير الشخص الذي يفكربموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، أي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فأن العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة ألا على أنها جزء من الفكر وملازمة له خارج ألدماغ أو العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره إلا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل (الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.

وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا أو بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية أو المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات أهمية كبيرة في إتمام عملية الإدراك، ولكن تبقى اللغة في إثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها لموضوعها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

بمعنى توضيحي أن اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وإنما تستمد اللغة أقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في إدراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع. وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وأيضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل أهمية إنشغال العقل في التعبير اللغوي خارجيا عنه.اللغة إثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ابجديا ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير الصوري لغويا. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل الى مدركاته الشيئية.

فاتني تثبيت حقيقة لا يمكننا القفز من فوقها للتدليل على ان اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا وخارجيا في ادراكه العالم هو لغة. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله (الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

      

النقلة والتحول في العنوان أعلاه قد يكون قاسيا في رؤية بعض الدارسين والمتابعين، وربما يفهم منه ما يزيد عليه من دلالات..، لكن النقلة والتحول اللذان يختزلهما العنوان أعلاه لا يعني بالضرورة نحوا من الإعمام والاسقاط على جل عملية الاستنباط المعهودة في بيئات علم الفقه.

ويمكن تصور تلك النقلة (من-إلى) عبر ملاحظة العامل المركزي في التفكير الفقهي إزاء القضايا الهامة التي تواجه الفقه بنحو عام، فكل عملية ذهنية حول أي نص يمكن أن تتمركز حول عامل أساس يحدد طبيعتها ويرسم ملامح هويتها، وعند التساؤل عما إذا كانت ثمة هوية للممارسة الذهنية للفقيه، فالإجابة أيضا سوف تكون ضرباً من تخيلات وأوهام في نظر بعض الدراسين، لكن ذلك المتخيل أمر راسخ لدى من يحلل بعمق أية ظاهرة علمية..

لذا تتحدد هوية كل علم تبعاً لمقاصده وأهدافه وغاياته..، فالعلم الديني لا يمكن أن تصنف غايته في مجالها الأخروي، بعدما يسلم كثير من العلماء بأن علم الفقه غايته تنظيم حياة الإنسان، بما يضمن غايات الدين التي تغطي العالمين (الدنيا والآخرة)، وعوداً على النقلة من قيم الفقه إلى الفقه القيمي، لابد من تبيان (قيم الفقه) وما المراد منها، وليس المراد المعنى الفعلي للقيم بقدر ما يراد منه معنى تسامحياً يحيل إلى الأدوات الثابتة التي يتحرك بها العقل الفقهي، بنحو من المنهجية الصارمة والقواعد الثابتة التي لا تتغير في الغالب، وهذا ما يشير إلى مركزية القاعدة دون الهدف، ومركزية القالب دون المحتوى، وفاعلية الأداة والصنعة دون النتيجة والغاية، القاعدة أداة ينبغي أن يحركها الهدف، وتكون في خدمة الهدف، أما أن يكون الهدف خاضعا لمقتضيات بعض الأدوات فهو ضرب من المبالغة في حفظ الأداة ولو على حساب ما ينتج عنها من صناعة..

وهذه المعاني تستدعي مراجعات دقيقة في دراسات الاستدلال الفقهي من خلال مراجعة مآلات ونهايات البحث الفقهي في المسائل والقضايا المختلفة، وليس المراد مسخ العملية بقدر ما هو توجيه لمسارتها وإعادة النظر في المحور التي تدور حوله، وربما تضغط قيمة النص كمحدد أساس لجل العملية الاستنباطية، لكن الأدوات والقواعد لا تأخذ صفة النص من حيث قدسيته وإطلاقه، بل تخضع لدلالته المركزية التي تعد أعم من بقية الدلالات سواء (الإجمال أو العموم أو الإطلاق)، بل جميع تلك الثلاثة تؤسس للمعنى الكلي، الذي يدركه الذهن بنحو غير قابل للتفسير دوماً، ويمكن أن تفسر بنحو من (الارتكاز الذهني، أو الراسخ في وجدان العقلاء بما هم عقلاء)..

إن توجيه الاستدلال الفقهي نحو (القيم) من جهة، و(الواقع) من جهة أخرى، يحتاج إلى منطق تفكير مختلف عن المنطق الأرسطي الذي ينشئ استدلالا جامدا بلا روح، فالمنحى الصوري لا يغطي متطلبات الواقع من جهة، ولا متطلبات القيم من جهة أخرى، وسلامة الاستدلال شكليا لا يضمن سلامة النتيجة وما يؤول إليه البحث من ظواهر عملية، ذلك أن منطق الاستدلال الفقهي يكاد يكون انعكاسا نسبيا لمنطق الاستدلال القياسي الارسطي الذي يتضمن كبرى وصغرى قياس، ومع التسليم ولو على نحو التعبد بالكبريات فإن الصغريات والنتائج سوف تكون محل قبول، بغض النظر عن طبيعة النتائج والمآلات طالما شكل الاستدلال أو عناصره سليمة منطقيا، والمشكلة أن المنطق لوحده غير معني بضمان البعد القيمي، فهو متسلط على عمليات الذهن رياضيا فحسب، في حين تستدعي القيم إحاطة واسعة بطبيعة النتائج والمخرجات بما يحفظ المصالح وبما يحفظ النظام العام.

إن إدراك القيم والاحاطة بها يمكن أن يعد أحد أهم مؤمّنات الاجتهاد الفقهي، إذ تمثل تلك الاحاطة مرتكزات ذهنية لدى الفقيه وهو يتحمل عبئ الاستنباط واستنطاق النصوص الدينية، وهنا ما تتم ملاحظته في هذه المقال، وهو ما يمكن أن يوضح معنى الفقه القيمي بأن يكون الفقه على مستوى الاستنباط يراعي القيم والمعاني التي تحفظ ملاكات الاحكام التي تعبر عن الحكم الواقعي، وما دام ادراك الملاك غير ممكن على وفق المنحى الاجتهادي عند فقهاء الإمامية فإن التطلع إلى حفظ القيم بالمجمل سوف يفضي إلى عملية إحراز نسبي لتحقق الملاك والغرض من الحكم، وهو غير منهج التعليل بل يمكن تحديده بمذاق الشرع أو ما يحصده الفقيه من جانب الخبرة في الاستدلال والاستنباط واصطياد الدلالة في خلال قراءة النص الشرعي.

إن ذلك كله يحتم على المشتغلين في المجال الفقهي أن يولوا أهمية بالغة للاجتهاد كتخصص دقيق له رجاله المتخصصين من دون أدنى ثغرة لفسح المجال أمام الاعتباط في الاستدلال والفتوى، كما نلحظ ذلك في توظيف النصوص والمرويات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولة استنطاقها من دون تثبت علمي، واصدار الاحكام والفتاوى الغريبة عن المرجعيات الفقهية المعتبرة.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

كلية الفقه/جامعة الكوفة  

اذا كان هناك تاريخ، وهناك اشياء حدثت، فالسؤال الواسع هو كيف حدث هذا التاريخ وما الذي يقوده؟

على مر الزمن، جرى تداول مختلف الفلسفات للتاريخ، لذا من المألوف ان نجد مختلف التفسيرات لنفس الفترة ولنفس الشخص: التاريخ له تاريخ خاص به.

بعد قراءة التاريخ يمكن القول هناك على الأقل خمس مدارس مختلفة لما يقود التاريخ.

1- التكنلوجيا كمحرك في فلسفة التاريخ:

ويقود هذه المدرسة كارلوت بيريز العالمة البريطانية المتخصصة في التكنلوجيا والتنمية السوسيواقتصادية حيث تُعتبر التكنلوجيا هي المحرك الاساسي للتاريخ ونحن نستطيع فهم المستقبل أفضل عبر التنبؤ بالميول التكنلوجية. التنبؤ بالاتجاه الذي يسير به العالم يمكن ان يتم بالنظر الى التكنلوجيات الناشئة في أي عصر والوصول وفقا لذلك لإستنتاجات منطقية.

مثال: محرك الإحتراق الداخلي قاد الى صنع سيارة خلقت هيكلا حضريا للولايات المتحدة ولمناطق الضواحي.

2- الجغرافيا والديموغرافيا في فلسفة التاريخ:

الفرضية: الجغرافيا هي المحرك ونحن نستطيع فهم المستقبل بشكل افضل عبر تحليل الجغرافيا وتأثيراتها.

مثال: آلمانيا تاريخيا اعتُبرت بلدا حربيا لأنها تقع في منطقة يصعب الدفاع عنها بين روسيا(عبر بولندا) وفرنسا. الولايات المتحدة كانت ناجحة بسبب المصادر الطبيعية الغنية فيها والموقع الحصين للدفاع عنه بمحيطين من كلا الجانبين.

3- نظرية فوكاياما في فلسفة التاريخ (المأسسة):

الفرضية: الناس مخلوقات تتبع أعرافا ومعايير. هم يتبعون أعراف وسلوك الآخرين الذين حولهم. طالما المؤسسة ليست اكثر من عرف يستمر عبر الزمن، فان الناس لهم ميل طبيعي لمأسسة أعرافهم وسلوكهم.

مثال: في اوربا، الكنيسة الكاثوليكية غيّرت قواعد الإرث لتجعل من الصعب لجماعات النسب تمرير المصادر نزولا لذرياتهم او عوائلهم المتسعة التي جرى تأسيسها كمؤسسة منفصلة. حكم القانون يمكن فهمه كقواعد تقيّد حتى اكثر الافراد المؤثرين سياسيا وله اساسه في الدين و الثقافات. حكم القانون اصبح مؤسسيا بعمق في اوربا الغربية نتيجة لدور الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

4- الاتجاه الثقافي:

هذه الفرضية يقودها المؤرخ نوح هاراري Yuval Noah Harari(1) وتقوم على ان الثقافة والقصص هي المحرك الرئيسي للتاريخ وان التاريخ يتطورعلى طول خطوط هذه الاساطير. ان الخاصية المتفردة الحقيقية للغة الانسان هي قدرتها على نقل المعلومات حول الاشياء التي لا توجد ابدا: قصص واساطير.

مثال: التجارة لا يمكن ان توجد بدون ثقة، ومن الصعب جدا الوثوق بالغرباء. شبكة التجارة العالمية اليوم ترتكز على ثقتنا في كينونات لا نرى لها وجود في أي معنى فيزيقي مثل العلامات التجارية الطوطمية للشركات، واشياء اخرى، انها أساطير جميعنا نثق بها.

5- فلسفة ماركس الاقتصادية للتاريخ:

الفرضية: التاريخ يُقاد اساسا بالاقتصاد. كان ماركس اول من دافع عن هذا الموقف المادي التاريخي وحيث الشيوعية هي النتيجة الحتمية للصراع الطبقي الناتج عن رأسمالية القرن التاسع عشر. نظريات اقتصادية مشابهة برزت عبر طيف سياسي واسع.

مثال: الامبريالية البريطانية والولايات المتحدة لاحقا تزرع دمى دكتاتورية او تتدخل في السياسة الخارجية المصممة لترسيخ المصالح الخاصة. هذا يمكن القول استمر عبر مؤسسات زُعم انها حيادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان بالاساس فرضا برامج ليبرالية جديدة مقابل القروض. الدول التي تطورت بنجاح في النصف الثاني من القرن العشرين كانت هي التي تجاهلت هذه الافكار.

مدرستان في الحتمية التاريخية

هناك بُعد آخر هام. هذه الاتجاهات الخمسة تقع بين قطبين في كيفية عمل الآلية السببية للتاريخ كما صاغها اسحق برلين في مقاله (الثعلب والقنفذ). الى أي مدى تُقاد كل تلك العناصر بتفاعل مؤقت من القوى يصعب تحديده (مدرسة الثعلب) او الى أي مدى تلك تقاد بـ "اشخاص عظماء" يؤثرون على مسيرة التاريخ "مدرسة القنفذ".

مدرسة الثعلب

الفرضية: لا يمكن تمييز محرك للتاريخ، انه دائما معقد جدا ومليئ بتأثيرات الفراشة التي تنتهي بنا لنكون "ننخدع بالعشوائية"(2).

مدرسة القنفذ

التاريخ يُقاد باشخاص عظام يصوغون مسار التاريخ ونحن جميعنا فقط نسير في أعقابهم.

نحو نظرة دقيقة للتاريخ

يمكننا القول ان هناك ميول قوية نحو مدرسة الثعلب مقابل القنفذ لأن الاعتقاد الشائع هو ان التاريخ دائما هو اكثر فوضوية مما يبدو في كتب التاريخ. رغم ان قادة معينين ربما يحفزون على التغيير لكن الامر يشبه كومة كبيرة من القش الجاف وسط مخزون الحبوب، ما يحدث لا يعني ان حدثا مشابها آخرا سيتبع. لابد من التقليل من قيمة أي فلسفة تاريخية مبسطة لأن اختزال تلك الى نموذج بسيط من السبب والنتيجة هي عادة ما تكون طريقة خاطئة في التفكير. يُعتقد ان معسكر الاقتصاد هو السبب المباشر لمعظم التغييرات التاريخية.

المؤسسات والثقافة والجغرافيا والتكنلوجيا جميعها تستمد قوتها من الاقتصاد. التكنلوجيا تصبح تدريجيا اكثر تأثيرا والجغرافية أقل تأثيرا بمرور الزمن لذا نرى ان الاقتصاد والتكنلوجيا هما اكثر الفلسفات التاريخية مفيدة لوقتنا الحاضر.

غير ان هذا قد لا يكون صحيحا في سياقات معينة. لو اخذنا مثالا واحدا، عصر الاستكشافات الاوربية كان اكثر تحفزا بالاعتبارات الدينية والثقافية منه الى الاقتصادية. يذكر احد الكتاب عن تاريخ الامبراطورية البرتغالية:

"منذ سقوط القسطنطينية، شعرت اوربا المسيحية باستمرار انها مطوقة. ولكي تتغلب على الاسلام، وتتواصل مع القس جون والجماعات المسيحية في الهند، وتسيطر على تجارة التوابل لتحطيم الثروة التي غذت سلاطين المماليك في القاهرة، كانت هناك رؤية جيوستراتيجية ذات طموح واسع تتبلور سلفا لتكتسح في الوقت المناسب البرتغاليين حول العالم".

لابد من التأكيد ان هناك عنصر اقتصادي لكن يبدو من الصعب قراءة تاريخ العصور الوسطى مثل (كتاب مرآة بعيدة لبربرا توكمان) ونصل الى رؤية اقتصادية تكنلوجية اساسية محركة للتاريخ، الثقافة والمؤسسات يبدوان يلعبان دورا اكبر.

الشيء الرئيسي الذي يمكن اكتسابه من قراءة التاريخ هو كم عدد التفسيرات المختلفة هناك وكم عدد التفسيرات التي تنطوي على دفاع شرعي. ان أحسن طريقة للتفكير حول هذه المدارس هي الإعتراف ان جميعها تهم بدرجات مختلفة ولها تأثيرها المتغير بمرور الزمن. اذا كان الواقع فيه كمية مدهشة من التفاصيل فسيكون من الواضح ان ذلك ينطبق ايضا على تاريخ الواقع. لذا فان السؤال هو دائما ما هو الأكثر اهمية للحظتنا التاريخية.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) هو مؤرخ واستاذ يهودي ومؤلف كتاب (العاقل: تاريخ مختصر للبشرية، 2014) تحدث فيه عن التطور المعرفي الذي يُفترض حدث قبل 70 ألف سنة عندما حل الانسان العاقل محل منافسيه من انسان نياندرتال والانواع الاخرى، حيث طور مهارات اللغة وأقام مجتمعات ارتقت الى أعلى مرتبة في سلّم الحيوان مستفيدة من الثورة الزراعية والتسارع في التقدم العلمي وهو ما سمح للانسان للاقتراب من السيادة على بيئته.

(2) تأثيرات الفراشة butterfly effects هي الفكرة بان شيء صغير يمكن ان يكون له تأثير كبير. يعتمد تأثير الفراشة على فكرة ان العالم مترابط بعمق بحيث ان حدثا صغير يمكن ان يؤثر في نظام معقد اكبر بكثير.

لا نفهم ذاتنا الجمعية فهما حقيقيا مطابقا دون وعي تاريخي. فمثلا عندما أقول أننا مازلنا نفتقر إلي رؤية واضحة فيما يتعلق بفلسفة التاريخ المعبرة عن مرحلتنا التاريخية المشخصة. فلا أقصد بذلك المواجهة الفلسفية مع بدايات التاريخ، ولكن بالأحرى المعالجة العقلية والروحية العامة للأحداث التاريخية المشخصة. أننا نحتاج الى فلسفة للتاريخ تنتمي إلى مجال الوعي التاريخي.

ويشير مصطلح فلسفة التاريخ ابتداءً الى مقاربة "واعية تاريخيًا" للظروف المعيشية للناس تتجاوز مجرد سرد  الوقائع والأحداث في زمانها ومكانها. فتعني فلسفة التاريخ في إطار هذا التصور العام الملاحظة "الفلسفية" للأحداث أو المجريات التاريخية.  كما أنها تمثل الاعتبارات التأملية التي تبدأ من لفت الانتباه إلى الأحداث الجارية وتتابعها في كل الحقول الرئيسة: السياسية، والأنثروبولوجية، والنفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، أو الجمالية وغيرها.

بقدر ما تذكر وتفسر فلسفة تاريخ أشياء عامة وأساسية من حياة الإنسان في مجالات التجربة الإنسانية. فأنها أيضا تعمل علي مخاطبة ما نطلق عليه الوعي التاريخي المقترن بالوجود البشري والمرتبط بالحاجة البشرية العميقة الجذور والتي تتمثل في الحاجة إلى التعلم بطريقة ما من التاريخ.   

ويمكن الإجابة عن السؤال حول ماهية فلسفة التاريخ بوصفه جهدًا فلسفيًا لا يهتم أساسًا بمحتوى حوادث وقصص التاريخ، ولكن بشكلها وحدودها. فعندما نجد محاولات في عالم  الفكر نماذج نظرية أو أجزاء من مثل هذه النماذج، أو حتى مجرد مخططات وصور وصفية تتناول أفكار عامة حول التاريخ، أو بنيته، أو ما هو هذا التاريخ فعليًا فهذا له علاقة بفلسفة التاريخ. كان الحكم الأساس الذي أتخذه مفكرو العلوم الإنسانية والدراسات  الثقافية الأوائل، هو تمييز التاريخ كنوع مستقل حيث الموضوعية التجريبية والأشياء الطبيعية وبالتالي معارض لمنهج العلوم الطبيعية بأسلوبه التاريخي الخاص، وهذا الحكم ما نسميه فلسفة التاريخ. فكل المصطلحات التي نعبر بها عن تاريخية الوجود الإنساني لا يمكن فهمها أساسًا إلا في ظل ظروف الإطار التاريخي الفلسفي. وعلى اساس هذا الأعتبار يتم النظر الى مصطلحات "الماضي" و"الحاضر" و"المستقبل" بالإضافة إلى جميع نماذج العلاقات المتبادلة.

لذلك لا يمكن أن يوجد فهم أولي عام لمفهوم فلسفة التاريخ إلا إذا نظرنا أولاً في كيفية استعمال هذا المفهوم المعني وفي أي سياقات تم استعماله. عندما نطرح أسئلة مثل :"كيف وأين ولماذا  ندخل عندئذ في فلسفة التاريخ  التي تختلف عن الاعتبارات المنهجية مثل: "ما هو التاريخ؟ ما هي الفلسفة؟"

نفترض أن فلسفة التاريخ يجب أن تُفهم كنوع من الفلسفة. وتعمل كموضوع مفاهيمي يُسند إليه التاريخ. لذلك فلسفة التاريخ هي نوع من الفلسفة التي لها علاقة بالتاريخ. وهكذا يكون موضوع  البحث في فلسفة التاريخ عن البحث في تاريخ الفلسفة. فتاريخ الفلسفة علم تاريخي مساعد للفلسفة. إنه  نوع من التأريخ موضوعه تطور الفكر الفلسفي. لذلك فإن مؤرخ الفلسفة هو مؤرخ يتعامل مع الفلسفة.

يبرز جانبان في الإطار النظري للفلسفة بخصوص مفهوم فلسفة التاريخ. يمكن فهم فلسفة التاريخ بأنها كل محاولات الفكر النظرية لتبرير سياق  كلي عالمي لمعنى عالم الحياة البشرية على أساس مبدأ تاريخي. وتفترض نظريات من هذا النوع أنه يمكن للمرء أن يكتسب منظور لطبيعة وأصل وهدف ومسار سيرورة التاريخ الشاملة.  تسمى فلسفات التاريخ هذه بالجوهرية أو التأملية لأنها تدلي ببيانات أساسية حول التاريخ، وتقدم مفاهيم كلية شاملة عالمية لمخطط مسار التاريخ من خلال التفكير الخالص الميتافيزيقي أو المادي، وكذلك لأنها تطور أفكارًا حول بنية ومسار الأحداث التاريخية التي يتم تحديدها ليس فقط من حيث الشكل، ولكن من حيث المحتوى أيضًا، وقبول التاريخ بأكمله كما هو معطى.

إذا فكرت الفلسفة تاريخيا؛ عندما تفهم موضوعها سواء كان فعلا او معرفة بشرية، وسواء كان ذلك يتعلق بالدين أو الطبيعة البشرية كموضوع تاريخي، وسواء كان ذلك دين الإنسان أو جوهره، ككائن تاريخي؛ إذا كان يبرر*الشئ من * تطوره التاريخي ويستمد تكهنات حول المسار المستقبلي لهذا التطور؛ وإذا كان يعطي تاريخ لمعنى مبدأ أو الفهم للشئ الذي تم فحصه، فيمكننا أن نقول، هذه هي "فلسفة التاريخ المادية". وهذا بمعني عام ومنهجي حول سمة أساسية للتفكير الفلسفي في التاريخ. وبهذا المعنى العام، ليس هناك فلسفة تاريخ ولا نظريات  فيها لاترتبط  بحقب تاريخية معينة.

توجد فلسفات التاريخ من هذا النوع، بمجرد أن يعتقد الناس أن الفرد، ذات فريدة من نوعها ومحدودة في هذا الوجود وكمشكلة نظرية عامة، وموضوعية، ويتعرف الإنسان على نفسه على أنه "كائن عقلاني محدود" ويدرك أنه "غاية العقل"، حيث لم يعد من الممكن قبول أن تاريخية العلاقة الإنسانية بالعالم اعتباطية ومجرد صدفة باهتة أو تعسف ديني او غير عقلانية.

لم ير الإنسان نفسه على أنه مخلوق من بين المخلوقات الأخرى فقط، ولكن كفرد مفكر موجود في المكان والزمان أيضًا، والذي يختبر هذا الوجود المحدود باعتباره تاريخيًا. إن الفكر البشري بطبيعة الحال هو منطقي - عقلاني بقدر ما هو تاريخي. إنه ضروري أو تاريخي في الأصل بقدر ما يحدد بشكل منهجي الفرد في المكان والزمان من خلال تخصيص مكان ذي مغزى له في سياق ما يسمى بالسياق السردي.

التفكير التاريخي بهذا المعنى الواسع هو محاولة معقدة مطلوبة لإعطاء الفوضى التي لا معنى لها لـ "الكفاح والسعي" البشري معنى، وعقلانية للمصير. الفكرة التاريخية الفلسفية لوحدة التاريخ الكوني هي مبدأ هذه المحاولة.

تحاول فلسفة التاريخ أن تفسر نظريًا ظروف وجودنا المكاني الزماني، والذي لا يتوفر لنا دائمًا بشكل عقلاني لخضوعه للاحتمالات والصدف، بمساعدة نمط عقلانيتها الخاصة، أي عقلانية أو منطق التاريخ الذي يُفهم على انه الركيزة التي تشمل كل من التفكير والوجود على قدم المساواة. تحلل فلسفة التاريخ عالم الأحداث والمجريات في التاريخ أو من خلال صوًغ نمذجة لها. وتدعي أنها  قادرة على تحديد شروط إطار معياري (أي تاريخي) لكل ما هو حقيقي.  تستند عقلانية النماذج الفلسفية التاريخية دائمًا إلى فهم التاريخ باعتباره عملية كونية شاملة يحكمها قانون (لا يوجد لها خارج) بحيث لا يمكن تحديد موقع الوجود العرضي للفرد البشري بدقة، ولكن أيضًا- يمكن اشتقاق البيانات المعيارية المؤسسة من التحديد المستقبلي لجميع الأفعال البشرية. يتعلق الأمر دائمًا بالكائن البشري كنوع، والشعوب والأمم، وليس بمصير الفرد.

يمكننا أيضًا أن نسمي هذا الفهم الفلسفي العام ولكن غير التاريخي أو المنهجي لفلسفة التاريخ بأنه ضروري إذا أصبحنا مدركين لبنية الفكر الذي يقوم عليه وحاولنا تحديد مكانه ضمن المبادئ العامة للفكر.إن فلسفة التاريخ شكلا من التفكير الذي يحدد ويقدم تصور خاضع لمبدأ أعلى هو العقلانية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

حفلات التخرج الجامعي في المجتمع المحافظ أنموذجا

عادة ما تصاب السلوكيات الاجتماعية بالتذبذب، نتيجة لتغير الظروف والفواعل المكونة لها، وغالبا ما يكون الصراع النخبوي في تحليل هذه الظاهرة الاجتماعية منبثقا من ارتكازين متنافرين: ارتكاز المبادئ الأخلاقية الثابتة (أو ما يسميها بعض المفكرين بــ: الخالدة)، وهي المبادئ الأخلاقية التي تقوم على أسس ثابتة، كالأسس الدينية السماوية، والتي تكون صالحة في كل زمان ومكان، وتحدد تعريف الإنسان الصالح.

 والضد منها: إرتكاز مبادئ التحرر والانفتاح القائم في أسسه التاريخية على مبادئ التنوير التي انبثقت في الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده، والذي يرتكز على مفهوم المركزية التامة للإنسان الفرد القادر على التحليل والإدراك والفعل. هذا ويرى أصحاب هذا الارتكاز بأن هذه المركزية تتألف من جوهر داخلي نشأ بالأساس مع ولادة الإنسان ثم تطور معه تدريجيا. وطوال وجود الفرد بقي هذا المركز الأساسي للذات هو ذاته بشكل مستمر ويشكل الهوية الفردية. !

تعتبر السلوكيات الاجتماعية بشكل عام، عاملا من عوامل انجذاب الفرد نحو هوية اجتماعية تشكل وتحدد ملامح شخصيته وكينونته، وتؤطر لديه كل فواعل الانفعالات، بالإضافة إلى مساهمتها في التكوين لِلّغة الاجتماعية التي تميز مجتمع معين عن غيره.

وعلى الرغم من الزخم الكبير، والتعقيد الكبير لنمط العلاقات بين الأفراد في المجتمعات الحديثة التي حاولت العولمة فيها أن تخلق نمطا اجتماعيا موحدا، تُذاب فيه كل الفواعل الرئيسية للهويات العامة والهويات الفرعية التي كانت تتميز بها المجتمعات البشرية سواء على صعيد الدين أو الأخلاق او العرف القيمي أو القانوني، إلا أن الجذور الفطرية عند الإنسان والتي تدفعه بغريزة كبيرة في محاولة منه للانتماء إلى مجموعة بشرية، تبرز فيها ملامح هويته الاجتماعية، محاولا الحفاظ على وجوده وكيانه الاجتماعي من خلال هذا الانتماء وهذه الهوية، خاصة بعد أن أصبح المواطن الفرد جزءا ضئيلا ضمن الماكنة البيروقراطية والإدارية للدولة والمجتمعات الحديثة. !

الفرد لم يعد شيئا متميزا ومنفصلا عن منظومة الاجتماع العولمي والتكنولوجي التواصلي المعاصر، بل إن العلاقات بين الأفراد والمجتمع تدخلت فيها المعتقدات الجماعية وعمليات الجماعات. فمثلا هوية الفرد كانت مرتبطة بعضويته في طبقة اجتماعية معينة أو بمهنة محددة أو بأصوله ضمن دين معين أو قومية وما شابه، بينما تعدد الهويات اليوم قد قاد إلى نشوء مصادر للسلوك الاجتماعي الذي يكون بأغلبه متنافر ومنحرف، عن القيم الاجتماعية والدينية التي تمثلها هوية المجتمع المحافظ. !

تعرف الهوية: Identity  بأنها : مقدار ما يحققه الفرد من الوعي بالذات والتفرد والاسـتقلالية، وأنه ذو كيان متميز عن الآخرين، والإحـساس بالتكامـل الـداخلي والتماثـل والاستمرارية عبر الزمن، والتمسك بالمثاليـات والقـيم الـسائدة فـي ثقافتـه.

بينما تعرف الهوية الاجتماعية identity-Socio بأنها جزء من مفهوم الذات لدى الفرد، يـشتق مـن معرفته بعضويته في الجماعة واكتسابه المعاني القيمية والوجدانية المتعلقة بهـذه العضوية.

ومن هذا المنطلق، نجد أن مخالفة الأسس القيمية والأخلاقية للمجتمع المتدين، كالمجتمع العراقي، من خلال ظهور ممارسات منحرفة كالتي تكون مصاحبة للسلوكيات الشبابية في ما تسمى بحفلات التخرج، إنما تمثل بذاتها عملية تهديم لهوية اجتماعية ينضوي تحت عناوينها الرئيسية والفرعية هؤلاء الشباب، لأن امتلاك الأفراد لهوية معينة، إنما يمثل قيم ومبادئ معينة تصاحب تلك الهوية، فهي تسمح لسلوك الأفراد ليكون متشابها مع الآخرين وكذلك تجعل السلوك في المجتمع أكثر نمطية وانتظاما، وعملية ضرب هذا الانتظام داخل البنية الاجتماعية الشبابية الجامعية، إنما يمثل عملية تخريب متعمدة لنسق الاستقرار الأخلاقي والقيمي السلوكي في المجتمع.

يرى الباحثين في الشأن الاجتماعي بأن الهوية الاجتماعية لدى الأفراد تنمو وفق مراحل متتابعة يواجه الفرد في كل منها (أزمة) معينة، ويتحدد مسار نمـوه تبعـاً لطبيعة حلها إيجاباً أو سلباً متأثراً بعدة عوامل بيولوجية واجتماعية وثقافيـة، ويـشير بعضهم إلى أن تقاطع العوامل البيولوجية والاجتماعية تجعل الهوية الاجتماعية لدى الفرد إمـا فـي حالة: -الإنجاز أو -التعليق أو -الانغلاق أو -التشتت.

ما يهمنا هنا هو نوع الهوية المشتتة، حيث يمر الفرد بأزمة هوية حادة، تجعله يحس بحالة عميقة من الاضطراب الانفعالي والسلوكي، وحالة تذبذب ونفور عن التعهدات العقدية الاجتماعية والأخلاقية التي تربطه مع منظومته الاجتماعية، من خلال تفاعله مع ناظم المعتقدات أو الأدوار الاجتماعية التي تخلق سياقا خاصا للأفراد في المجتمع، حيث يقود كل ذلك إلى افتقادهم لأية دلائل تقود إلى نشاط شخصي يمثل سمة الهوية الاجتماعية لديهم.

ومن هنا، فعندما نريد تقييم الحالة التي يمر بها الطالب الجامعي وهو يقوم بممارسات وسلوكيات وأفعال، تخلق قطيعة كبيرة بينه وبين الناظم الاجتماعي الذي ينتمي له هوياتيا، إنما نحن نتلمس حالة من التشتت والقطيعة مع الفعل الاجتماعي الذي يمنحه دورا اجتماعيا يمكنه من الالتحاق بالنسق الاجتماعي مستقبلا، بكل فواعله ومؤثراته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، كل ذلك يدل دلالة واضحة على دور التشتت الذي يقع فيه هذا الأنموذج من الطلبة في لحظة إحساسهم بانعتاق عن هويتهم الاجتماعية والأخلاقية التي تبتني عليها شخصياتهم.

وهنا يرى بعض الباحثين، بأن الاختلاف والتناقض في سلوكيات الفرد، عن ناظم الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها في لحظة معينة، إنما يشكل محاولة كسر أخلاقي، مما يقود لنشوء فواعل قد تتطور في المستقبل لتشكل أزمة أخلاقية.

تعتبر فترة المراهقة وبدايات النضوج لدى الشباب من كلا الجنسين، فترة تحول سياقي عصيب، فهي مرحلة تتميز بأزمات عاصفة تمثل قطيعة كبير مع هوياتهم الاجتماعية التي نشئوا معها وعليها، فأزمة الأخلاق أو التطرف في فترة المراهقة وبدايات الانتقال من المراهقة إلى النضج الرجالي، تمثل تعقيدا تكوينيا إن لم يتم التعاطي معه بانضباط وحزم، قد يقود على حصول تذبذب في مفهوم الهوية الاجتماعية لدى هذه الطبقة، مما يقود إلى ارتباك انفعالي كبير عندهم في خلق التصورات والتفاعلات السلوكية التي تتواءم مع مفهوم الجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، والتي تشكل هويتهم الاجتماعية.

في الحالة الطبيعة، من المفترض أن يقود الناظم الأخلاقي والاجتماعي الأفراد الذين يمرون بحالة المراهقة إلى تكوين شخصياتهم والأنا المكونة لهذه الشخصيات، بطريقة تنساب بسهولة مع الناظم الأخلاقي المجتمعي، كل ذلك لإعادة خلق وتجديد الهوية الاجتماعية للأفراد الجدد، خاصة وأن النفس البشرية تتوق عادة إلى تكوين صورة إيجابية عن الجماعات التي ينتمون إليها، ونتيجة لذلك فإن عمليات الهوية الاجتماعية تنحو بهم إلى البحث عن السمات والاتجاهات والسلوكيات المقدرة، والقيمة التي يمكن أن ينظر إليها كخاصية تميز جماعاتهم عن الجماعات الأخرى.

 لذا ارتبط مفهوم الأسس الأولى في تكوين وتَشَكّل الهوية، بشكل كبير بمرحلة المراهقة وما يليها، حيث تعد فترة المراهقة نقلة نوعية للمراهق في المستوى التعليمي وتطور مهاراتـه الاجتماعيـة وقدراته العقلية والجسمية، ويعتبرها علماء النفس الاجتماعي مرحلة التعليـق الـسيكولوجي الاجتمـاعي للهوية، حيث تناضل الأنا في التفاعل مع الأدوار المعروضـة فـي المجتمـع، وإن كـل المراهقين يتوقعوا أن يختبروا بعضاً من هذه الأزمـة، لأن أزمة الهوية هي مرحلة نمائية، والقدرة على تحقيق متطلباتهـا بنجـاح يـرتبط بطبيعة نماذج الضبط والكبح الاجتماعي في صعيده القيمي الأخلاقي، أو في تمظهراته السلوكية في مؤسساتها ما قبل الجامعية (الأسرة، المدرسة، المؤسسة الدينية).

تعتبر حفلات التخرج التي يقيمها الطلبة كل عام بعد وصولهم إلى نهاية الدراسة الأولية في الكلية، عرفا عاما اتبعته الحالة الأكاديمية خلال تاريخها العام؛ وعندما نتحدث عن الحالة الأكاديمية، وما يصدر من تحت ردائها ومؤسساتها من فعاليات ونشاطات، إنما نتحدث عن حالة مؤسسية تكون فيها حالة انضباط عالي وتقيد بقوانين وتعليمات وضوابط وقيم وأعراف وأخلاقيات مجتمعية ودينية، تكوّن بمجموعها روافد مهمة في تشكيل عوالم شخصية الأفراد، وتساهم برفدهم بعوامل وظروف تكوين جزء من هويتهم الاجتماعية التي من خلالها يحصلون على ادوارهم في المجتمع.

وبما ان حالة الانضباط القانوني والقيمي والأخلاقي في العراق، تمر في تمظهراتها السلطوية (الحكومية)، والاجتماعية العرفية في السنين الأخيرة، بأعراض بدايات الأزمة، خاصة بعد التناحر الفكري والأخلاقي بين نخب جامعية وأكاديمية مؤثرة، جزء منها يدعو إلى التماثل مع توجه البشرية العام المعاصر، حيث تعيش اليوم تنوعا متخالفا في طبيعة القضايا الفكرية التي تتبناها حول نوع الإنسان الذي يـستطيع مواكبـة المتطلبـات المتجددة، مما يؤدي في نظرهم إلى تغاير في أنظمة التنشئة الاجتماعية والأخلاقية وطبيعة جهودها، وبالتالي فهم يصلون إلى نتيجة مفادها: أن الوضع الاجتماعي بحاجة إلى مرونة كبيرة من اجل استقبال وتقبل هذا التغيير، كما يَدَّعون.

هذا التوجه مع الأسف سيقود من وجهة نظر الباحث إلى التأسيس لقواعـد مضطربة في تكوين الشخصية عند طلاب الجامعات، وإلى طول فترة إنجاز الهوية الاجتماعية، أو الفشل فـي إنجـاز العديد من مجالاتها.! لذا يعد هذا الفريق من النخب الأكاديمية والفكرية والاجتماعية، التي تدعو إلى إطلاق الحريات، سببا مهما من أسباب خلق التسيب وحالات الاستهتار وتشتت الشخصية الاجتماعية لدى الكثير من الطلبة في الجامعات، مما يؤسس لشرخ عميق وتكسر كبير في مفهوم الهوية الاجتماعية عندهم.

الطرف أو وجهة النظر الأخرى، ترى بأن حفلات التخرج الجامعية، هي حفلات يقوم بها الطلبة الشباب من أجل توديع الحياة والجهد والمثابرة العلمية والتحصيل العلمي الذي جمعهم بعلاقة أساسها تبادل وبناء المعارف العلمية، فقيام حفلات يتم فيها حسر مفاهيم القيم والمبادئ بالاتجاهات والسلوكيات والمظاهر الشاذة والدخيلة على مجتمعنا العربي والإسلامي بكل ميراثه وارثه الحضاري والتاريخي بهذا التدني والإساءة لكل المفاهيم والقيم والمفردات التربوية والإسلامية والأخلاقية، هو أمر مرفوض عندهم، ويقود إلى تخريب الهوية الاجتماعية التي تجمع كل التنوع بين أبناء هذا البلد، بل ويعتبر صورة واضحة لعملية حرف مسارات نهاية فترة المراهقة لدى هؤلاء الشباب، وبالتالي إبعادهم عن كامل المنظومة الأخلاقية والدينية الاجتماعية لمجتمعهم.

وبما ان الحيز الديني له حضوره المكثف في ظاهرة تكوين الشخصية لدى الأفراد في هذا البلد، وتنشئة الهوية الاجتماعية السليمة سلوكيا وفكريا وعقائديا، فقد كانت وجهة نظر الدين رافضة ومستهجنة بشدة للممارسات المخلة بالآداب العامة التي تحصل في مثل هذا النوع من الاحتفاليات، وخاصة بتصريح المرجعية الشريفة في توصيف هذه الحفلات " "لما يجري فيها من تصرفات وسلوكيات غير لائقة".

تعتبر المؤسسة الجامعية هي الحلقة التربوية المكملة لنشاط التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والدينية الصانعة للهوية الاجتماعية للشباب والمراهقين، والتي تقوم بها مؤسسات أولية قبلها، وأقصد بها مؤسسة الأسرة، ومؤسسة المدرسة، إضافة للمؤسسة الدينية، والتي تتمظهر في الكثير من فعاليات والشعائر الدينية، والتي تساهم بشكل فعال في الحفاظ على الهوية الدينية للمجتمع وأفراده، فتهاون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بفروعها من الكليات والجامعات، في السماح بإقامة حفلات تخرج، أبسط ما يقال عنها بوصفها بأنها مبتذلة وتفتقر لأخلاقيات الهوية الاجتماعية العراقية القائمة على أخلاق ومُثُل تميز بها المجتمع العراقي، تمثل بحد ذاتها تحولا سلبيا في سياسات هذه الوزارة بفروعها واذرعها التعليمية والتربوية، وتحولها إلى آلة تخريب للأخلاق العامة، وتغييب تدريجي وتشويه متعمد للهوية الاجتماعية الجامعة للأفراد في نسيجهم الاجتماعي.

فالمؤسسات الجامعية اليوم بأغلبها باتت غير مدركة لفداحة المشكلة التي كانوا هم جزءا من التأسيس أو التماهي معها، فعلى الرغم من أن نوعية الارتباط بين المتغيرات النفسية والفيزيولوجية هو العامل الأساس في خلق الإحساس بالأنا الاجتماعية عند الشباب الجامعي الذي يمر بنهايات فترة المراهقة وتشكل الشخصية، والذي من المفترض أن يقود إلى التطـور الإيجـابي للهوية وتشكيلها بشكل سوي، إلا أن ما يحصل في الجامعات في هذه الممارسات الهجينة يمثل اضطرابا وتشويشا في مكامن الشخصية عند الطلبة والطالبات، واضطراب وتذبذب في عوامل تشكل الهوية الاجتماعية السوية، مما ينتج عنـه تبنـي هويات سلبية ضارة بالفرد والمجتمع، والشعور بالاغتراب وعدم الانتماء والذي ينعكس سلباً في أداء الفرد نحو التزاماته المجتمعية البناءة.

***

د. محمد أبو النواعير

دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.

 

يرى نيتشة ان الأعمال الفنية العظيمة يمكنها أما إخفاء رعب الواقع او انها تساعدنا في مواجهته. وضع نيتشة الفن ضمن نطاق يتراوح من أبولوني (يشبه الإله ابولو) الى ديونيسي (إله اللاعقلانية والفوضى). الاول يرتكز على العقل والتفكير، اما الثاني يرتكز على العواطف والتجربة. الفن الديونيسي والذي لا يحظى بالتقدير التام اليوم، يساعدنا في قبول مشقة الوجود الانساني.

الفيلسوف الشهير فردريك نيتشة كانت له طريقة غير عادية في النظر الى الفن، طريقة مستوحاة من عمله المبكر كخبير في دراسة اللغة اليونانية القديمة والادب. بدلا من التمييز بين نوع العمل الادبي، وسائط التعبير، و فترة الفن، كما يفعل معظم النقاد، كان نيتشة مهتما بالتفاعل بين قوتين ابداعيتين اعتقد انهما يرشدان الفنانين.

كما في العديد من مفاهيم نيتشة، هاتان القوتان جاءت تسميتهما من ألهة اليونان ابولو و ديونيس وهما مفهومان معقدان ويصعب تعريفهما. الفن المستوحى من ابولو، اله الحقيقة والنبوءة، هو عقلاني وبنّاء ومثالي، بينما الفن المستوحى من ديونيس، إله الخمر والصخب ، هو عاطفي وغريزي. الفن الابولوني هو تأملي: يساعد الناس في فهم ما يحيط بهم، و يحدد ويحل المشاكل، ويجلب النظام الى العالم الفوضوي. الفن الديونيسي يتجذر في التجربة ويستمتع بالفوضى. انه حول الوجود في العالم بدلا من فحص طبيعة الوجود ذاته. هنا يبرز الانطباع العام للثنائية : الفن الابولوني يسعى لحل التناقضات التي تحدد واقعنا، اما الفن الديونيسي ينطلق من قبول الواقع كما هو، دون طرح أي سؤال .

الفن يمكن ان يكون بطبيعته ابولوني ودايونسي  في وقت واحد ، ما يهم لنيتشة هو النسبة. مثاليا، الفن يجب ان يكون أجزاءً متساوية من الابولوني والديونيسي، لكن ذلك نادرا ما يحدث. كما يجادل نيتشه في كتابه (مولد التراجيديا)، هذا بسبب ان المجتمع الحديث بدأ بإعطاء قيمة للفن الابولولي أعلى من نظيره الفن الديونيسي. يشير نيتشه بأصبعه الى تأثير واستمرار شعبية سقراط الاب المؤسس للفلسفة الغربية، الذي جادل معاصريه للوثوق في العقل كي تبقى عواطفهم المدمرة والمدمرة للذات تحت السيطرة. لم يتفق نيتشة مع سقراط. نحن لسنا مكائن،نحن نشعر بنفس مقدار ما نفكر، والفن الذي يلجأ فقط لعقلانيتنا يفشل في معالجة المظهر المصيري للتجربة الانسانية. هو كتب في مولد التراجيديا "نحن يجب ان نعمل الكثير لعلم الجماليات".

حالما نفكر ليس فقط بالاستدلال المنطقي، وانما باليقين المباشر للبداهة، فان التطور المستمر للفن هو مرتبط بالثنائية الابولونية والديونيسية: مثلما الإنجاب يعتمد على ثنائية الجنسين، يستلزم صراعا دائما و تسويات منتظمة . التوازن المثالي بين الصفات الابولونية والديونيسية  للفن،طبقا لنيتشة،يمكن العثور عليه في الترجيديا اليونانية لما قبل سقراط. الصفات السابقة تجسدت على شكل حوار، بينما الأخيرة جرى التعبير عنها من خلال الجوقات الموسيقية.

الفن والتأكيد

بعد ان فهمنا كيف فسر نيتشة الفن، نأتي لمناقشة أفكاره حول الدور الذي يلعبه الفن في حياتنا اليومية. بما ان هذه الافكار تغيرت اثناء مسيرة حياته، فمن الافضل دراستها الواحدة تلو الاخرى بدلا من نقاش جسّد رأيه القاطع. مثلما الفن يمكن ان يكون ابولوني وديونيسي كذلك ايضا وفي نفس الوقت هو يمكن ان يخدم اهدافا متعددة تبدو متعارضة . في كتابه الرغبة في السلطة، يرى نيتشة ان الفن الابولوني بالذات هو في جوهره وهم يحمينا من الواقع، من حتمية المعاناة والموت. "القول بان الجيد والجميل شيء واحد، هو خزي" هو يستنتج ان، "الحقيقة قبيحة، نحن نحوز على الفن لكي لانهلك من الحقيقة". نيتشة كتب شيئا مشابها في مولد التراجيديا: الفن يعمل كمشعوذة إنقاذ، خبيرة في الشفاء. هي وحدها تعرف كيف تحوّل هذا الغثيان من أفكار حول الرعب وسخافة الوجود الى افكار يستطيع المرء ان يعيش معها، هذا هو التسامي عندما يعمل الفني على ترويض الرعب، وعندما تكون الفكاهة افرازاً فنيا لغثيان السخافة.

الفن الابولوني يمكنه ان يتصور واقعا بديلا فيه  تُحل مشاكل العالم الواقعي او يتم تجاهلها. لكنه، لايمكن ان يساعدنا في مواجهة الواقع كما هو. وهنا يأتي الفن الديونسي ،اللاعقلاني والتجريبي. "الديونسي يتغلغل في روح الانسان بطريقة خلافا للأبولوني ، لا يضلل الحقيقة وآلام الحياة". استاذ الفلسفة البروفيسور ديفد ايفينهويس David Evenhuis يوضح في مقال. "بدلا من ذلك، الديونسي يكشف في كل ذلك القساوة والتناقض، مؤكداً ليس فقط المرح وانما ايضا المعاناة".

إعترف نيتشة بهذا الموقف "ما لا يقتلني يزيدني قوة" في التراجيديا اليونانية المفضلة لديه،حسب ايفينهويس، تنقل قصصا عن "الناس الذين واجهوا قساوة مفرطة للحياة، وعلى الرغم من هذا، عاشوا ليؤكدوا وجودهم". هو ايضا رأى ذلك في آلهة اليونان، والذي خلافا للاديان التوحيدية التي جاءت لاحقا،لم تنظّم آلهتها وفقا لخطوط الخير والشر. اخيرا، هو نظر اليها في احتفالات اليونان التي تُقام على شرف ديونيس، حيث المواثيق الاجتماعية العادية تُرمى من النوافذ والمشاركون "يفقدون أنفسهم" مؤقتا في الغناء المحموم والرقص المسعور، يشبهون كثيرا ما فعل أسلافهم في فجر الزمن .

يستنتج ايفينهويس ان نيتشة قيّم عمل الفن "على اساس كيفية ارتباطه بوجود الانسان. ذلك الفن يعتبره نيتشة جيدا لأنه يزيد شعورنا بالسلطة والفن يُنظر اليه كشيء سيء عندما يحفز شعورا غير صحي من الانحطاط والانحلال". يكتب نيتشة في مولد التراجيديا "الفن يرغب بإقناعنا بالمرح الأبدي للوجود" و يستمر:

نحن نبحث فقط عن هذا المرح ليس في الظواهر، وانما خلفها. علينا الاعتراف ان كل ما يأتي الى الوجود يجب ان يكون مستعدا للنهايات الحزينة، نحن مجبرون للنظر الى رعب الوجود الفردي – مع ذلك نحن لا نتجمد بالخوف: راحة ميتافيزيقية تسحبنا لفترة قصيرة من صخب الشخصيات التحويلية.

هذه الراحة الميتافيزيقية – راحة تخفف ألم المعاناة – نحن يجب ان نبحث عنها عندما نقرأ كتاب او نستمع الى قطعة موسيقى او ندرس لوحة.

عندما توضع التراجيديا في سياق حياة الفرد الشخصية، عادة تبدو بلا معنى وصادمة. وعندما يتم استطلاعها من خلال الفن، ستفقد وخزاتها وتصبح بطريقة ما جميلة وذات معنى. حسب نيتشة: "بالرغم من الخوف والأسى، نحن الكائنات الحية السعيدة، ليس كأفراد وانما ككائن حي واحد متّحدون بفرح ابداعي".

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم