أقلام فكرية

أقلام فكرية

يعتقد الكثير من الناس أن حياتهم كلها مخططة وأن أيًا كان ما يفعلونه، فإن نفس الأشياء ستحدث حتمًا، كما لو كان الشخص يجذب أنواعًا معينة من الأحداث أو أن شخصين خلقا بالضرورة على حب بعضهما البعض، أو كره نفسك. لقد أحدثت هذه الفكرة فساداً في السلوك، لأنها تجعل الإنسان يتخلى عن نفسه. ما الفائدة من فرض الأمور إذا كانت لا بد أن تحدث كما هو مكتوب على ألواح القدر؟ وهذا ما أطلق عليه لايبنتز مغالطة الحجة الكسولة. لقد آمن اليونانيون منذ فترة طويلة بفكرة القدر. ومع ذلك، في ذلك الوقت، كان بإمكاننا التشكيك في هذه الفكرة، من خلال تطوير الحجة التالية: إذا أخبرنا شخصًا ما أن مصيبة معينة ستحدث له، فسوف يفعل كل شيء لتجنبها، الأمر الذي سيعدل المستقبل. . لذا فإن المعلومات عما سيحدث لنا ستكون كافية لتجنب ما كان يعتبر قاتلاً. لكن كاتب التراجيديا اليوناني سوفوكليس كتب مأساة تهدف إلى إثبات أن أنصار القدر ما زالوا على حق. هذه المأساة التي تحمل عنوان أوديب الملك، تحكي قصة طفل تنبأت له العرافات بأنه سيقتل أباه ويمارس الحب مع أمه. ولمنع والديه من حدوث ذلك، تركا ابنهما بجانب النهر، ونشأ بعيدًا عن والديه. وهذا الاحتياط هو الذي سيجعل التنبؤ حقيقة، لأن أوديب الملك لم يكن يريد قتل أبيه أو ممارسة الحب مع أمه، ولكن لأنه نشأ بعيداً عن والديه، لم يتمكن من التعرف عليهما عندما وجد نفسه وجهاً لوجه. ليواجه أباه، ثم أمه، ففعل ما تنبأت به النبوءات. لذا فإن المعلومات عما سيحدث لنا، لا تجعلنا نتجنب ما هو متوقع، بل على العكس تغرقنا فيه... ولهذا السبب ظلت فكرة القدر صامدة لعدة قرون. لكن إذا كانت معلومات هذا التوقع لم تمنع القدر من التحقق، بل على العكس عجلت أوديب نحو مصيره، فذلك لأنه لم يكن كاملا. ولو كان الأمر كاملاً لكان أوديب قد عرف أن هذا الشخص هو والده وأن اخرى هي أمه، ولتأكد من أن الأمر لم يحدث بهذه الطريقة. ولذلك لا يوجد قدر في هذا العالم، طالما أن لدينا كل العناصر التي تمكننا من مواجهته. بالإضافة إلى مأساة سوفوكليس، غالبا ما يستخدم أنصار فكرة القدر الحتمية كحجة للتبرير. والحقيقة أن هذه الفكرة الأخيرة، والتي تتوافق مع الاكتشافات العلمية، تخبرنا أنه إذا تلقى شخص ما بلاطة على رأسه، فذلك لأنه قرر أن يسلك طريقًا معينًا في لحظة معينة لأن شخصًا آخر قد حدد له موعدًا أو لأنها اضطر للذهاب إلى العمل. إذا سقط البلاط عند مرور الشخص، فذلك يرجع إلى عملية التآكل البطيئة والعاصفة التي حدثت في اليوم السابق. وهكذا فإن لكل حدث سبباً، ومعرفة الأسباب الكاملة تجعل من الممكن التنبؤ بالمستقبل بدقة ملحوظة من الحاضر، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك مصيراً في العالم. هذا الكائن العليم الذي يعرف تمامًا حالة الكون في الوقت الحاضر والذي يمكنه التنبؤ بالمستقبل، يُسمى "شيطان لابلاس" على اسم عالم كان من مؤيدي الحتمية. لكن هذه النظرية العلمية لا علاقة لها بفكرة القدر، حتى لو بدت لها نفس الطبيعة. تخبرنا الحتمية أن الأسباب نفسها تنتج دائمًا نفس النتائج، في حين أن فكرة القدر، أي القدرية، تخبرنا أنه مهما كان الحدث السابق، فإن التأثير سيكون دائمًا هو نفسه، أي التأثير الذي تنبأ به القدر. ووفقا للنظرية الحتمية، يمكننا تعديل المستقبل، ويكفي تعديل الأسباب لتعديل النتائج. من ناحية أخرى، وفقا للقدرية، مهما فعلنا، فإن نفس التأثير سيتبع دائما، وهو ما يتعارض مع إنجازات العلم الحديث. كيف أنه في عصرنا هذا، بداية القرن الحادي والعشرين، لا يزال هناك أشخاص يؤمنون بفكرة القدر، وأن هؤلاء يتمتعون بهذه الشعبية؟.

يجب أن تعلم أن الأفكار الأكثر شيوعًا غالبًا ما تأتي من الأشخاص الذين نجحوا في الحياة، لأن هؤلاء الأشخاص هم بمثابة نموذج للأشخاص العاديين، وسنكون أكثر عرضة للاستماع إلى الشخص الذي نجح في حياته أكثر من الاستماع إلى الشخص الذي أخطأ، لأننا سنرغب أكثر في أن نشبه الأول، وبالتالي سيكون الأخير أكثر مصداقية في أعيننا وسنصدق ما يقوله لنا بسهولة أكبر. ومع ذلك، فإن الأشخاص الذين نجحوا في الحياة هم أكثر عرضة للإيمان بفكرة القدر، لأنهم سعداء بما حدث لهم، ولكي يثبتوا للآخرين أنهم يستحقون ما حدث لهم، فإنهم يميلون إلى الإخبار لهم أن الأمر حدث بهذه الطريقة لأنه كان يجب أن يكون بهذه الطريقة ولا يمكن أن يكون بأي طريقة أخرى. هؤلاء الأشخاص الذين نجحوا في الحياة سوف يقومون تلقائيًا بقمع أي فكرة قد تقودهم إلى الاعتقاد بأنهم ربما لم ينجحوا في الحياة واتجهوا إلى الاتجاه الآخر. من ناحية أخرى، فإن الأشخاص الذين لم ينجحوا في الحياة سوف يميلون إلى طرح فكرة أن الأمور كان من الممكن أن تحدث بشكل مختلف، وأنهم كانوا ضحايا الظلم وأنه لم يكن من الضروري إلا القليل حتى يتم وضعهم على قاعدة التمثال. ولكن بما أن هؤلاء الأشخاص قد أخطأوا، فإنهم لا يتمتعون بمصداقية كبيرة، مما يعني أننا أقل عرضة للاستماع إليهم، وبالتالي فإن نشر تعليقاتهم أقل سهولة من خلال وسائل الإعلام، وهؤلاء الأشخاص لديهم الكلمة في كثير من الأحيان. ومع ذلك، فإن الأفكار التي يطورونها تبدو أقرب إلى الواقع بالنسبة لهم، لأن هناك العديد من المواقف في الحياة حيث نكون على مفترق طرق وحيث نختار طريقًا بدلاً من الآخر لمجرد نزوة. وبالتالي فإن اختيار مسار معين يكون عشوائياً، وهذا لا يمنع أنه بمجرد اتخاذه يصبح لا رجعة فيه. وها هو، لا رجعة فيه، يتم إطلاق الكلمة. نصل الآن إلى الفكرة الأساسية التي نريد إدخالها في هذه المقاربة، وهي أن سبب فكرة القدر هو حقيقة أن الأحداث لا رجعة فيها. والحقيقة أننا عندما نجد أنفسنا أمام مفترق طرق في حياتنا، فإن اختيار طريق أو آخر يكون عشوائياً، ولكن بعد ذلك لا نستطيع العودة إلى الوراء. بمعنى آخر، ما كان عشوائيًا في الزمن الاول يصبح مطلقًا وغير قابل للتغيير في الزمن الثاني . وهذا يقودنا إلى الاعتقاد بأن الاختيار كان دائما مطلقا وغير قابل للتغيير، سواء في الزمن الاول أو في الزمن الثاني، وهو سبب فكرة القدر. في الواقع، يجد العقل البشري صعوبة في الاعتراف بأن حالة حدث ما يمكن أن تتغير بهذه النسبة في مثل هذا الوقت القصير، بحيث يتحول من حالة عشوائية وعارضة إلى حالة غير قابلة للتغيير وضرورية. وللتخفيف من هذا التناقض، يفضل العقل البشري الاعتقاد بأن الحدث كان دائمًا ضروريًا وثابتًا، ومن الواضح أنه لا يمكن لأحد التحقق من صحة هذا لأنه من المستحيل العودة بالزمن إلى الوراء! من هذا المنطلق يتم توضيح عدم رجعة الزمن من خلال المثال التالي: أنت تعيش في مدينة كبيرة، وبالتالي فإن أماكن وقوف السيارات أمام منزلك مطلوبة بشدة من قبل سائقي السيارات. حسنًا، إذا كنت لا تريد أن تشغل المساحة الموجودة أمام منزلك بسيارة لا تنتمي إلى عائلتك، فأنت بحاجة فقط إلى القيام بشيء بسيط: ركن سيارتك هناك، قبل ازدحام سائقي السيارات في الساعة الثامنة صباحًا . لكن إذا لم تفعل ذلك، ستحتل سيارة أخرى ذلك المكان، وبعد ذلك ستواجه كل المشاكل في العالم لإجبارها على المغادرة. سيتعين عليك الضغط على القفل وتشغيله حتى يختفي، أو سيتعين عليك الصراخ لرفع هذا الوحش الفولاذي الذي يبلغ وزنه 30 ضعف وزنك، وبالطبع ستتم معاقبتك بشدة من قبل المحاكم، لأن هذا سوف يكون بجانب الشخص الذي يشغل المساحة أمام منزلك، وليس هذا مخرجًا للموقف المحرج. بمعنى آخر، كان من السهل جدًا منع هذه السيارة الأجنبية من الوقوف قبل الساعة الثامنة صباحًا، لكنه كان صعبًا للغاية بعد ذلك، والتناقض بين السهولة في البداية والصعوبة بعد ذلك كبير لدرجة لا يمكننا تخيلها. حسنًا، هذه هي عدم رجعة الزمن. علاوة على ذلك، فإن قوة هذه اللارجعة الزمنية هي التي تقودنا إلى الإيمان بفكرة القدر. المثال التالي سيجعلك على علم بذلك. الفصل 1: لديك صديقة تحبها بشدة. في أحد الأيام، ينشأ جدال صغير مما يفسد علاقتكما، وتبتعد الفتاة عنك. الفصل الثاني: تلتقي بصديق آخر، وتقع في حبه، بينما تدرك أن هذا الجدال كان بسبب دافع عقيم. تحاول التصالح مع صديقتك، ولكن بعد فوات الأوان، "وجدت أخرى"، كما يقول المثل. القانون 3: أنت يائس للغاية لدرجة أنك تثق في العديد من الأشخاص، ويفضل الأشخاص الذين نجحوا في حياتهم العاطفية، معتقدين أنهم سيجدون العلاج بسهولة كبيرة. يخبرك هؤلاء الأشخاص أنه لا يوجد ما يدعو للقلق، إذا تركتك فهذا لأنك لم تخلقا لبعضكما البعض وأن الانفصال كان سيحدث في وقت لاحق على أي حال. هذه الفكرة أكثر تحملاً لروحك اليائسة من فكرة أنها ربما كانت ستنجح لو كان رد فعلك مختلفًا في وقت الجدال. لكن لكي تتجنب الشعور بالذنب، تفضل أن تتبنى فكرة أن "الأمر لا بد أن يحدث على أية حال"، وهذا يسمح لك بالتعامل بشكل أفضل مع الوضع الحالي. لكن البشر مخلوقين لدرجة أنهم يفضلون تبني الأفكار التي تضرهم بشكل أقل، بدلاً من الأفكار الأقرب إلى الحقيقة. وفكرة أن كل شيء مكتوب و"أنه لم يكن هناك شيء يمكننا القيام به حيال ذلك" هي أقل إيلاما من فكرة أنه كان من الممكن أن يتحول الوضع بشكل مختلف. ولأن "الجزر مطبوخ" فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الأمر لا يمكن أن يكون غير ذلك. نعتقد أن الوقت قد حان لنختار الأفكار الأكثر صدقًا، حتى لو كانت مؤلمة أكثر. ما نخسره في المتعة، سنكسبه في الوضوح. إذا اعتقدنا أن الأمور لا يمكن أن تحدث بطريقة غير ما حدثت، فذلك بسبب ما يسميه برجسن "الوهم الاسترجاعي". من الممكن جدًا أن الحدث لم يحدث في الوقت الذي حدث فيه، ولكن بمجرد أن ينتمي إلى الماضي، فمن المستحيل تغييره، ويرتدي ملابس الثبات وغير الملموس. ومن ثم فمن السهل أن نقول "لم يكن من الممكن أن يحدث خلاف ذلك"، لأنه يتم دائمًا إعلان ذلك بعد حدوثه. ولكن الا ينبغي أن نغير موقفنا الفلسفي من الزمن لكي تتغير نظرتنا للقدر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ما هي صفة المجتمع العادل؟ كيف يمكن ان ينظّم الناس انفسهم بأحسن طريقة لضمان ان لا يُعامل أي شخص بشكل غير عادل؟ كيف يجب ان تُوزع السلطة والثروة والحرية؟ هذه من الأسئلة الصعبة والمعقدة، والجواب عليها يختلف حسب التجارب الحياتية للناس ونمط عقائدهم وقيمهم.

في الحقيقة،عندما نناقش ما هو الأحسن للمجتمع، نحن عادة نناقش بدرجة ما ما هو الأفضل لأنفسنا وعوائلنا او،على الأقل، نحن نسترشد بتصوراتنا الخاصة حول ما تعنيه "الخيرية".

هل هناك طريقة اذاً؟، لننظر ما وراء تحيزاتنا الشخصية ومصالحنا وعقائدنا؟ ماذا يمكن ان نعمل لتأسيس وصف او تفسير محايد للعدالة؟

يستخدم جون رولس في نظريته للعدالة اثنين من المفاهيم الاساسية يستطلع فيهما المبادئ التي يجب ان تحكم المجتمع.

1- الموقف الأصلي:

وهو موقف افتراضي يأتي فيه الافراد مجتمعين لتأسيس مبادئ للعدالة تحكم مجتمعهم. في هذه التجربة الفكرية، يُفترض ان يكون الافراد راشدين وأحرار ومتساوين. هم يوضعون خلف قناع من الجهل يمنعهم من معرفة تفاصيل معينة حول أنفسهم، مثل مكانتهم الاجتماعية، الثروة، المواهب، العرق، الدين او الافضليات الشخصية.

في عمله عام 1971 (نظرية العدالة) يستعمل رولس نظريته كنقطة بدء، الموقف الاصلي، يبني منه موقفه بان العدالة المجتمعية  تعني بالضرورة الانصاف .

2- قناع الجهل:

وهو عنصر أساسي في نظرية رولس. قُصد به ضمان ان مبادئ العدالة المتفق عليها في الموقف الأصلي هي منصفة وغير متحيزة. الافراد ومن خلال عدم معرفتهم بخصائصهم الشخصية، يُجبرون للنظر في مبادئ للعدالة تكون مقبولة لدى جميع افراد المجتمع بصرف النظر عن ظروفهم الفردية.

عندما نقوم بتقطيع كيكة الى شرائح، فان أذكى طريقة لضمان الإنصاف هي التأكد من ان لا يكون الشخص الذي يقطع الكيكة هو الشخص الذي يقرر منْ سيحصل على كل قطعة. في نفس هذه الروحية، يعتقد الفيلسوف السياسي في القرن العشرين جون رولس ان افضل طريقة لتعريف المجتمع العادل هي باستخدام ما يسمى "قناع الجهل".

الفكرة التي خلف قناع الجهل هي انه لو ان الافراد لا يعرفون موقعهم الخاص بهم في المجتمع، سيكون من المحتمل جدا ان يختاروا مبادئ تكون منصفة وعادلة لكل فرد، بدلا من تفضيل مبادئ تفيد أنفسهم على حساب الآخرين. يجادل رولس بانه خلف قناع الجهل ، سيختار الافراد مبادئ تضمن الحقوق الأساسية والحريات للجميع، بالاضافة الى الفرص والمنافع للفئات الأقل حظا في المجتمع.

رولس يدعونا ان نتصور القوانين التي سنتفق عليها جميعنا لو لم تكن لدينا فكرة عن منْ نحن وأين ننتهي في المجتمع: نحن ربما وُلدنا لأي عائلة، في أي موقف، وتربّينا على مُثل لعدة انظمة عقائدية. يبدأ رولس من هذا "الموقف الأصلي" للجهل بخصائصنا الشخصية وظروفنا الاجتماعية معتقدا ان معظم الناس سيرون انه من العقلاني والمقبول الاتفاق على مستوى معين من الرفاهية العالمية والتعليم والفرص، وحماية الحقوق الاساسية والحريات. في النهاية، انت قد ينتهي بك الامر كونك أي شخص – غني، او فقير، معافى صحيا او مريض.

لهذا انت من غير المحتمل ان تقترح نموذجا يستلم فيه بعض الناس ثروات كبيرة، وآخرون يولدون في فقر مدقع، ويكونون عرضة للتمييز نتيجة عرقهم او عقيدتهم او نوع جنسهم.

في الحقيقة، ان العمل في ظل قناع الجهل، ستترتب عليه نتيجتين هامتين للعدالة:

1- منح المساواة:

كل شخص تُضمن له حريات اساسية تتضمن حرية التفكير والكلام والتعبير والانتماء والحق في الملكية.

2- معالجة اللامساواة:

اذا كان كل شخص يتلقى مستوى عادل من التعليم، وفرص في تطوير تام لقدراته، والحظ في المنافسة على المواقع الرسمية، والمسؤولية، والتجارة وغيرها، عندئذ فان اللامساواة في الثروة والسلطة تكون مسموح بها طالما هي تفيد فئات المجتمع الاقل حظا. على سبيل المثال، اذا كانت لدى شخص ما موهبة معينة في القيادة، عندئذ هو يمكن ان يتمتع بالمكافئات الاجتماعية والاقتصالدية التي تترافق معها، طالما هذا الترتيب يُبنى بطريقة تعطي أقصى منفعة لمن هم في أسفل السلم الاجتماعي (أي،لا تصبح مؤذية او مستغلة، وانما تحسّن ظروف الجميع، جاعلة كل فرد افضل حالا مما لو كان في أي نظام بديل آخر).

بالطبع، رولس يقترح قناع الجهل كفرضية لتجربة فكرية – شيء يوضع في الذهن عند البحث عن تاسيس مبادئ للعدالة اساسية وحيادية يُحكم بواسطتها المجتمع.

الإنتقادات

1- النقاد المعاصرون لنظرية رولس المثالية يتسائلون عن الفائدة العملية من الافتراضات المثالية مجادلين بانها لا تقول لنا الكثير عن الكيفية التي تعمل بها في عالم غير مثالي. مُثل رولس في الامتثال الصارم هي غير واقعية وتفتقر الى علاجات للظروف الحقيقية الغير مثالية والمتحيزة.

2- انها تعمل فقط اذا كان الافراد رشيدين تماما ولم يتأثروا في قراراتهم بالاختلافات في الذوق او كراهية المخاطرة او عوامل اخرى. واذا حاولنا ازالة تلك العوامل من الافراد الذين هم خلف القناع، سيبرز السؤال حول ما اذا كانت النظرية لاتزال طريقة جيدة للمجتمعات.

3- قناع الجهل يفرض قرارات على مستوى الافراد، هو لا يبيّن لنا الاشخاص الموجودين خلف حجاب الجهل الى أي مجموعة سينتمون في العالم الواقعي. هذا يستبعد القيم الجماعية او قيم الجماعة من عملية صنع القرار.

4- احدى المعارضات لنظرية رولس هي ان قيمنا تعتمد على مواقفنا الحقيقية حيث لا معنى من السؤال ماذا سنختار خلف قناع الجهل. نحن نفتقر خلف القناع للمعلومات التي نحتاجها لنقرر أي نوع من القواعد يمكن الاتفاق عليها للمجتمع.

***

حاتم حميد محسن

تتبوأ اللغة مكانة في تاريخ الفكر الإنساني الفلسفي لا يدانيها فيها إلا الفلسفة،  فهي نسق وظاهرة، تشير إلى الأشياء الخاصة المادية وتجردها في أصوات أو خطوط تغني المتكلم أو القارئ عن إحضارها. وعندما نتأمل في صورها وأشكالها نجد أنها من التنوع بحيث يصعب حصرها في كيفية واحدة : فالكلام لغة، والإيماءات لغة والموسيقى لغة، وهي بهذه الكيفيات تراث يرتبط بكينونة الكائن وحضارة الإنسان. و من هنا ارتبطت اللغة دوماً بطبيعة متميزة وأهمية خاصة « فاللغة تدخل بطريقة جوهرية في الفكر والفعل والعلاقات الاجتماعية». [1]  وفي رحلة البحث عن بيان طبيعتها، والكشف عن أهميتها وَجَب أ ن نتجه للإنسان المغمور بوجود الغير، كيفما اتجه ، حتى في انزوائه الصامت من هنا تنطلق اللغة، تنبثق من وجدانه، فجبل المرء أصلا كمخلوق لاغ، يتكلم ويخاطب، يكتب ويعبر ويرسل المعاني و لا يتحقق هذا إلا بالعقل المحكم والفكر المتميز من هنا كان الارتباط وثيقا بين اللغة والمبدع لها فما هو مفهوم اللغة عند عبد الرحمن بن خلدون؟

وما هي أهم الدلالات الجديدة لتشكيل اللغة؟

وهل استطاع عالم اللسانيات تشومسكي أبدع مفهوماً جديداً للغة؟

اللغة في منظور بن خلدون من المفهمة إلى الدلالة:

إننا نعيش في عالم الكلام ؛ وقد يكتسي الكلام التعبير والبوح والانفعال أو التستر والكتمان وبين هذا وذاك تنزع الذات المفكرة الواعية إلى تخريجه عن طريق كتابات وإبداع نصوص مثيرة مشوقة للقراء، هذه النصوص عبارة عن رسالة مفتوحة للقراءة الواعية والقدرة على إعادة إنتاجها ثم الوعي بالعملية الإنتاجية والحرية في التصرف فيها بغية صياغتها نصوصا جديدة قابلة للقراءة والتفسير.

من هنا كان إعجابي شديدا وأنا أطالع مقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون وهو يبدع في وضع تعريفًا جامعًا، مانعًا شاملاً لمفهوم اللغة؛ وزاد الإعجاب أكثر عندما أصبحت اللغة عند العلامة بن خلدون معطى يلتقي فيه البيولوجي الطبيعي والموروث الثقافي ، يلتقي فيه الاستعداد الفطري بالمكتسب الاجتماعي حسب ما استنتجته من خلال القراءة الواعية الهادفة لمد جسور التواصل الجمالي وتغيب البعد الأيديولوجي القبحي في التعامل مع النصوص الحوافز والمؤثرات مادامت كتابة النص في الوقت نفسه إبداع للنص وإبداع للغة، وأدركت أن عبد الرحمن فاق الفيلسوف الفرنسي لالاند في تقديم مفهوما للغة يتجلى في: « اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل إنساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم«.[2]

بناء على هذا الفهم للغة يجمع ابن خلدون بين بعدين، بعد مطلق ويتجلى في كون اللغة تتوقف على قصد وعلى التعبير عنه، وبعد نسبي ينحصر في كون اللغة تظهر عند كل أمة حسب إصلاحها، وها هنا نجد اللغة « ليس الغَرَضُ بِنَظْمِ الكَلِمِ أنْ تَوَالَت ألفاظها في النطق، بل أن تَنَاسَقَتْ دَلاَلَتُها وَتَلاَقَتْ معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.»[3] و العقل مرتبطاً بالإنسان وما يملكه من إمكانيات إبداعية وما يحيط به من شروط ينجز فيها إبداعاته وتواصله الاجتماعي، وبهذا تكون اللغة مفتاحاً لفهم المبدع في ثقافته وبيئته المنتمي إليها.

تشموسكي متجاوزا البنيوية لتأسيس المدرسة التوليدية التحويلية:

إننا نعيش في عالم اللغة، ملكة رمزية نميزها عن بقية الأنساق الأخرى برمزيتها ومفاهيمها، بناءها وأدواتها، كلماته ودلالاتها؛ في الميزة يؤسس الفيلسوف ملكته الرمزية التي تمتلك دلالات قد تجد القارئ الواعي بهذه الرمزية ، ينفتح على لغة الفيلسوف ويشعر بخطورة اللغة وما تحمله من شمولية؛ شمولية التفكير الحر المرتبط بالتساؤل الذي يؤسس للتجربة الإنسانية.

لست أتردد لحظة إذا قلت أن المدرسة الوصفية البنيوية، سيطرت على الدرس اللساني في الغرب، سواء في أمريكا أو أوروبا، وعلى قدر انتشارها وهيمنتها وجهت لها كثير من الانتقادات بسبب الطابع الوصفي الآلي الذي استمسكت به بل ولم تحيد عنه، ومع ذلك لم تفقد صفة الهيمنة والنفوذ، إلى يومنا هذا، حتى بعد أن ماتت، إذ إن جميع المدارس والنظريات التي جاءت بعدها لم تخرج منها، فهي إما كانت مهتدية بمبادئها، أو جعلتها نقطة تبدأ منها لتبرر اختلافها عنها. ومن أهم المدارس وأوسعها انتشارا بعد البنيوية (المدرسة التوليدية التحويلية) والتي انطلقت أساسا من نقد اللسانيات البنيوية بل تجاوزتها إلى حد بعيد.

ففي سنة ( 1957 ) بدأت الثورة الثانية في الدرس اللغوي حين أصدر نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، كتابه الأول ( المبانى النحوية   ( Syntactic Structures ) ومن ذلك الحين تغير اتجاه اللغة من الوصفية إلى منهج جديد، عرف بالنحو التوليدي-التحويلي، حيث ميز نعوم بين اللسان والكلام  « وجعله تمييزاً بين الكفاءة والأداء، وألغى البعد الاجتماعي من تمييز سوسير، واستبدل مفهوم سوسير غير الدقيق عن اللغة بوصفها نسقاً من العلاقات بنظرية العمليات التوليدية »[4] وهو الكشف عن طبيعة وخواص الحرف الذي تتكون منه الكلمة وتطور الحرف من كلمة إلى أخرى وخواص هذه الحروف واختلافها من لغة إلى لغة « إن ملكة اللغة هي ارتقاء تطوري حديث جداً »[5] ثم وضع تشومسكي مصطلح "البنية العميقة" وهو مصطلح في ميدان النحو يعنى بتحليل الجملة وخواصها المعقدة للصوت والمعنى وعليه هو تحليل للغة في حد ذاتها التي تتكون منها هذه الجمل لذلك يقدم لنا عالم اللسانيات تشومسكي ثلاثة أنواع من العناصر التي تنطوي عليها اللغة هي:

« خواص الصوت والمعنى، التي تدعى السمات Features .

مفردات مركبة من هذه الخواص، تدعى المفردات المعجمية Lexical items

التعابير المعقدة المشكلة من هذه الوحدات "الذرية" atomic »[6]

ومن الخمسينيات إلى الآن ما تزال هذه النظرية الأكثر انتشارا وهيمنة على اللسانيات.

فهل النظرية التوليدية التحويلية بقيت قاب قوسين أو أدنى من التطور أم تجاوزتها نظريات أخرى في حقل اللسانيات اللغوية؟

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر

......................

قائمة المصادر والمراجع:

عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة أولى، سنة 1961.

عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت، طبعة أولى، سنة 1978.

نعوم تشومسكي: آفاق جديدة في دراسة اللغة والفكر، ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، طبعة أولى، سنة 2009 .

نعوم تشومسكي: اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، دار توبقال، المغرب، طبعة أولى، سنة 1990 .

رامان سلدن: من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية، المشرف العام جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، طبعة أولى، سنة 2006 .

هوامش:

[1]  نعوم تشومسكي: اللغة ومشكلات المعرفة، ص: 13

[2]  عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة ، ص: 779.

[3]  عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص: 32 .

[4]  رامان سلدن: من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية، ص:111 .

[5]  نعوم تشومسكي: آفاق جديدة في دراسة اللغة والفكر، ص: 30 .

[6]  المصدر سبق ذكره، ص: 47 .

هل العيش الجيد والحياة السعيدة يعتمد جزئيا على الظروف الخارجية؟ ام ان نوعية الحياة تتوقف علينا كليا؟ كل من ارسطو والرواقيين يعتقدون ان الهدف النهائي في الحياة هو السعادة او ما يسمى eudaimonia. كذلك، كلاهما يتفقان على ان تحقيق السعادة لا يتعلق كثيرا بالسعي نحو المتعة وانما بتطوير الشخصية الفاضلة او المتميزة. وبهذا المعنى، يرى كلا الطرفين ان السعادة تُفهم ليس كشعور وانما كنوع من الظروف نحقق بواسطتها امكاناتنا بالتميّز ككائنات رشيدة.

يجادل ارسطو باننا يجب ان نرسخ الفضيلة طبقا "للإعتدال"، اما الرواقيون يرون ان المهم هو غرس وتربية الفضائل الأساسية الأربع (الحكمة، الشجاعة، الاعتدال، العدالة). وبينما كلاهما يدعوان الى رعاية التميز، لكن هناك اختلاف هام بينهما في تصوّر الحياة الجيدة. ارسطو يعترف بمساهمات ما يسمى "الخيرات الخارجية" مثل التربية ووفرة الموارد والصداقة والصحة وغيرها. وكما يوضح في (أخلاق نيقوماخوس):

"يبدو واضحا ان السعادة تحتاج الى إضافة الخيرات الخارجية، لأنه من الصعب ان لم يكن مستحيلا انجاز أعمال جيدة بدون أية موارد. العديد منها يتم انجازه بوسائل مثل مساعدة الاصدقاء او الثروة او النفوذ السياسي. الشيء المهم، ان ارسطو لم يعتقد ان هذه الخيرات تجعلنا سعداء، وانما ما يجعلنا سعداء هو فقط الفعالية والشخصية الفاضلة . انها لا تعني نفس الشيء، لو كنا لا نمتلك اشياء مثل التعليم او الصداقة او الصحة يصبح من الصعب او مستحيل تطوير الامتياز او التعبير عنه . ان نقص "الخيرات الخارجية" حسب ارسطو، يشكل عقبة أساسية في الطريق نحو الامتياز، فتقلل فرصتنا في تحقيق السعادة.

الرواقيون: الأشياء الخارجية ليس لها تأثير على الحياة الجيدة

يرى الرواقيون ان الظروف ليست هامة : قيمة وجودنا ومدى سعادتنا يعتمد فقط على نوعية شخصيتنا. لذا، اذا كان ارسطو يعتقد بضرورة التميز لكنه غير كافي للحياة الجيدة فان الرواقيين يعتقدون ان التميز وحده كافي. هذا يعني انه حتى لو كنت معدما جدا وبلا أصدقاء وتعيش في منطقة حرب، فان السعادة تبقى فيك، فالحياة الجيدة تعتمد فقط على تكوين الشخصية الممتازة والتعبير عنها. عش حياة فاضلة، طبقا لطبيعتك العقلانية، مارس حب القدر وإفهم نوعي التحكّم – بصرف النظر عن أي شيء آخر – حينذاك سوف تعيش حياة جيدة.

العيش طبقا للطبيعة

ربما هناك من يعارض الرواقيين لأنه من الواضح ان الصحة أفضل لنا من المرض، ووجود موارد لدينا أفضل من الفقر المدقع، حيث يشير ارسطو بان الفرد الذي يعاني من حظوظ سيئة سوف لن يكون سعيدا.

الرواقيون يتعاملون مع هذا القلق باستعمال مصطلح "preferred indifferent"(1) او العيش وفقا للطبيعة. نحن نفضل ان نكون أصحّاء بدلا من مرضى، ومتعلمين بدلا من جهلاء – لكن هذه لا تجعل فرقا في قدرتنا على ان نكون اناسا جيدين او نعيش حياة أخلاقية نزيهة. وهكذا الصحة والثروة  ليست اختلافات مفضلة، هما ربما اشياء جيدة وفق مصطلح الرواقيين – نحن "نفضلهما" على أضدادهما – لكنهما في صنف مختلف كليا عن الفضيلة.

شخص ما قد يربح ملايين الدولارات لكنه لا يصبح فجأة شخصا جيدا، او شخص ما يعاني صحيا لا يصبح فجأة مفتقرا للفضيلة. العوامل الخارجية لا تصنع فرقا في ما لدينا من تحكّم بشخصيتنا (لنترك جانبا الحالة المتطرفة لشخص مصاب بمرض مزمن في الدماغ) ،نوعية شخصيتنا هي التي تقرر سعادتنا حسب عقيدة الرواقيين.

وحتى لو مررنا بفترة من التحدي، فهي لا تعطينا رخصة لجعل شخصيتنا تعتمد على نوعية ظروفنا. يشير إبيكتتوس:

"حين نعمل ضمن مجال سيطرتنا نحن نتحرر طبيعيا ونكون مستقلين وأقوياء. وراء ذلك المجال، نحن ضعفاء محدودين ومعتمدين. عندما تعلّق آمالك على أشياء خارج سيطرتك ،وتأخذ لنفسك أشياء تعود للاخرين،انت ستكون عرضة للتعثر، تسقط، تعاني وتلوم كل من الله والناس. ولكن عندما تركّز انتباهك فقط على ما يهمّك حقا ، وتترك للاخرين ما يهمهم، عندئذ ستكون مسؤولا عن حياتك الداخلية. لا أحد سيكون قادرا على إيذائك او عرقلتك. سوف لا تلوم أحدا وليس لك أعداء. اذا كنت ترغب بالسلام والرضا عليك ان تتحرر من ارتباطك بالأشياء الخارجة عن سيطرتك. هذا هو المسار للحرية والسعادة".

الاختلافات الأساسية بين ارسطو والرواقيين:

يعتقد الرواقيون ان السعادة متوفرة للجميع – وانها تكمن كليا ضمن سيطرتنا. عش طبقا لطبيعتك العقلانية، أظهر الامتياز في شخصيتك مهما كانت ظروفك، ستكون السعادة فيك – طالما تشعر انك قمت بأفضل ما يمكن.

الفيلسوف الرواقي إبكتيكوس أوضح ذلك في قوله:

"انا يجب ان أموت. هل يجب ان أموت حزنا؟ انا يجب ان اقيّد بالسلاسل. هل يجب ايضا ان أندب حظي؟ انا يجب ان أذهب الى المنفى. هل هناك منْ يمنعني من الذهاب بابتسامة وبهجة ورضا"؟

ارسطو من جهته، يعتقد من الواضح ان حياتك لو كانت مليئة بالمآسي والصعوبات، فسيكون من الصعب الحصول على السعادة. تطوير الامتياز والتعبير عنه متاح فقط لأولئك اصحاب الصحة والتعليم والصداقة ومستوى من الموارد وحظ جيد وغيره.

يرى ارسطو ان الفرد السعيد يحوز ليس فقط على شخصية ممتازة وانما على حظ ممتاز. الناس قد يرون رؤية ارسطو أكثر واقعية في تصور الحياة الجيدة. او ربما نحن نتفق مع جواب الرواقيين الضمني بان قيمة حياة شخص ما وحدود سعادته لا يجب الحكم عليها طبقا للظروف التي هي خارج سيطرته.

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) اللافرق هنا يعني قبول كل ما يأتي به القدر. يقول ماركوس ارليوس: كل شيء خارجي وليس ضمن تحكّم الفرد يجب اعتباره indifferent او لا يحمل فرقا لأن التفكير في هذه الاشياء لا يجلب الاّ التعاسة للافراد ولكل البشرية. هناك خارجيات مفضلة مثل الحياة، الصحة، المتعة، الجمال، القوة، الثروة، السمعة الجيدة، المولد النبيل. اما الخارجيات غير المفضلة تشمل الموت، المرض، الألم، القبح، الضعف، الفقر، السمعة الواطئة، الولادة غير النبيلة.

 

ما نعرفه عن التاريخ الإسلامي بكل حمولته إنما وصل إلينا عبر التدوين الرسمي وبشقّيه غير المتزامن والمتزامن، فالأول ما كان تدوينه بعد الأحداث بفاصل زمني طويل، ويصدق على الفترة النبوية وما بعدها حتى زمن التدوين الرسمي، وأما الشق الثاني فهو التدوين الذي تزامن مع حركة الاجتماع الإسلامي، هذه الحمولة تتخذ أشكالا عدّة: الموروث النصّي والتأويلي، والنصتأويلي!

فالموروث النصّي لدى المسلمين يصدق على ما بين دفتي المصحف، إضافة إلى الروايات المنسوبة للنبي ولجيلين بعده - أكثر الأقوال حتى ٢٤٠هـ أو ٣٠٠ هـ - فالنص الأول محل اتفاق، وما عداه فيه نزاع سواء من حيث مدى ونوع حجيته أو صحة نقله.

والموروث التأويلي لا أعني به صرف المعنى عن ظاهره لقرينة، بل الفهم بمعناه الواسع وتوجيه أنواع النصوص المذكورة أعلاه، ويصدق على جميع مدونات الفقه (المسائل العملية) والكلام (المسائل العقدية) وما دار في فلكها.

والموروث (النصتأويلي) - هذا المصطلح نَحَتُّه من كيسي - وأعني به القناعة التي تم تقديمها في صيغة نصّ ولكنه مفبرك بغرض تأييد رأي على آخر وشرعنته، فالرأي الذي يأتي نصًا من شأنه أن يقطع حجة الخصم! وهذا هو الحال العام للمدونة الروائية.

بعد هذا الترسيم نأتي فنقول: المصحف نصٌّ مفتوح دلاليًا، وقد أثبت النظر أنه يستوعب كل تلك الدلالات من أقصاها إلى أقصاها، وهذا تحدٍ حقيقي؛ لأن الاحتكام إلى النص مفتوح الدلالة هو إحالة على محتمَل، بدليل أن كل الاختلافات بتناقضاتها واتّساع الهوّة بينها، تستند للنص ذاته، حتى عند استحضار ما يُطلق عليه آيات محكمات، فأول تحدٍ يتم مواجهته هو تقديم تعريف جامع مانع لها متفق عليه، ثم وجود مجموعة محددة متفق عليها لتلك الآيات، وهذه المعضلة أثمرت إمكانية تعلُّق كل أصحاب توجّه بمصدرية نصيّة واحدة سواءً أكان قديما أو مُحدثا.

وإزاء هذا الانفتاح الدلالي فإنه لا يمكن وضع حدّ له فضلا عن صرفه إلى معنى محدد مهما بدا واضحا جدا، فانصراف الدلالة في نص ما لمعنى بعينه في نظر البعض لا ينهض سدا يمنع الآخر من استخراج دلالة أخرى أو حتى مضادة، وبعبارة أخرى: الوضوح الدلالي لا يعني بالضرورة انسحابه على الجميع، فالحتمي عند أحدهم قد يكون محتملا عند ثانٍ وملتبسا عند ثالث ومستحيلا عند رابع، وهكذا دواليك. مع التنبيه إلى أنّ الانفتاح الدلالي لا يعني حصرا الإضافة التراكمية التي تسع الجميع بالمعنى الإيجابي، بل يعني فيما يعنيه كذلك الإلغاء والتضاد بين الدلالات بعضها ببعض؛ ومن هنا نشأت أحكام التفسيق والتبديع والتكفير؛ ولهذا فالانفتاح الدلالي للنصّ مُربك.

إن التدوين - بما عليه من تحفّظات على دقته التاريخية؛ للاعتبارات الدينية والسياسية - يقدم لنا ممارسات دينية متباينة من حركة الاجتماع البشري الإسلامي، وفق توجّهات مشرعنة دينيا بِغضّ النظر عن مدى صحتها، ولكنها واقع ممتدّ من اللحظة التي أعلن فيها النبي نبوّته وحتى اللحظة الراهنة، فالصوفية تصدّر مقالتها الدينية من النصّ، وحركات الإسلام السياسي هكذا تفعل، وحتى تنظيم الدولة وحركة طالبان تصنع الصنيع نفسه، ولا نجد خطابا دينيا رسميا ينكر صنيعهم بل تصدر بين الفينة والأخرى خطابات التأييد والمباركة ممن يمثلون الخط المعتدل مقارنة بتلك الحركات، وأيضا المشبّهة والمنزّهة يرجعون لنص واحد، بل حتى القراءات الباطنية للنصّ الديني تجد بُغيتها فيه. إنّ الكل يصدر من إناء واحد، ومشكاة النص تسع مصابيح جميع القوم، ومهما تنازعوا في ادّعاء الحق إلا أنه لا يمكن استبعاد أي منهم من المنظومة الإسلامية، فكل التوجهات المذهبية والتيارات الحركية الإسلامية تمثّل نسخة إسلامية، وتستوعبها المصادر الإسلامية الرئيسة، وبعبارة أدقّ: الإسلام هو كتلة من إسلامات متحركة بمرور الزمن تنبثق من النصّ ذاته. ولكن بوجه عام فإنّ الفهم التقليدي للدين في منطقته المشتركة بين كل تلك التحزبات يُصَدَّر على أنه الأكثر تمثيلا للإسلام.

ما تَقدَّم آنفا ما هو إلا توطئة لسؤال المقال الإشكالي، وهو:

ما هو وضع المقاربات العلاجية المتأخرة من هذا الفهم الديني التقليدي؟

إن مسلم اليوم يواجه أسئلة جذرية مصوّبة تجاه دينه في إطاره العام أو إطاره المذهبي الضيق، أسئلة محرجة إنسانيا وعلميا واجتماعيا ومنطقيا، وإزاء هذه الأسئلة يسلك المسلمون سُبُلا ثلاثا مُجملا:

أولا: الجمهرة الكبيرة تستمرئ تلك الإشكاليات وتبرر موقفها منها، وترى أنّها مجرد أسئلة يبثها مرجفون ومَن في قلوبهم مرض، لا يمكن أن تزعزع تصوّرها الديني، وتنحاز توكيديا لكل ما يعزز إسلامها وترفض ما عداه ولو جاء من المصدر عينه.

ثانيا: تأخذ تلك الأسئلة على محمل الجدّ، وتسير معها، غير أنّها لا تصل لإجابات مُرضية شافية مقنعة، فلا تجد بُدا حينئذ من الخروج عن ربقة المذهب أو الدين بالكلية.

ثالثا: ترى أنّ تلك الأسئلة المحرجة غير متعلقة بأصل الدين بل في أمر آخر، حيث تُعتبر الإشكاليات الواردة متصلة بفهوم تبنّاها المسلمون خلال القرون الماضية بادئ الأمر ثم استقرّ الحال عليها، لكنها فهوم - كما يرون - مغلوطة ولا تعد الممثل الأمثل للإسلام.

وأصحاب هذا الاتجاه الثالث وما قدموه من مقاربات، ينقسمون إلى قسمين رئيسين باعتبار أسلوب المعالجة:

القسم الأول: يقدّم جوابا عريضا لعلاج تلكم الإشكاليات، عنوانه تاريخيّة النص، فتتركّز مقاربته في أنّ تلك الأحكام المتصلة بالنصّ التي هي محل الأسئلة المحرجة صحيحة لكنها مؤقتة بمفردات حركة الاجتماع البشري آنذاك زمانا ومكانا، ومرتهنة بظرفيتها التاريخية، وأن النصّ الوارد فيها ميت الآن، ولا يتبقى إلا مفاهيم القيم العليا ومساحة ثوابت ضيقة للغاية، فيزيحون عن كاهلهم تبعات تلك الأحكام التي تصطدم بالمعرفة الإنسانية الحالية.

القسم الثاني: ينافح عن صلاحية النصّ الذي ينظرون إليه بأنه عابر لكل زمان ومكان، غير أنهم يرون أنّ الإشكال الحقيقي متعلق بدلالته، فينطلقون من النص القرآني، وبعضهم يسحب ذلك على ما وافقه من المدونة الروائية، فيحاولون أن يطرحوا فهمًا يتّسق وآخرَ ما توصّلت إليه المعرفة الإنسانية على مختلف الأصعدة.

إن سؤال المقال الإشكالي مرتبط بهذا القسم الثاني من الاتجاه الثالث من اتجاهات تعاطي مسلم اليوم مع الأسئلة الكبرى المُلِحّة.

أنصار هذا الفريق استيقظ على واقع لا يمكن دفعه، ومُعطى ماثِل لا يمكن ردُّه، وحقيقة لا يتأتّى التملص منها خلال الفهم الديني التقليدي الذي ورثه، فعَمَدَ إلى  النظر في النص بإكراهات متعددة وواسعة، مستثمرين كل الإشارات الخاطفة الداعمة من موروث ديني تراكمي متضخم وتداخلات ثقافية أوسع من أي وقت مضى، ومختلفة بطبيعة الحال عن مسلم الأمس.

هذا النظر خلُص إلى تقديم مقاربات جديدة في فهم الدين، حتى إنّ بعضها غالى لدرجة أن أصبح أقرب ما يكون إلى أديان جديدة، واضطره النظر إلى الوقوع في تأويلات باردة مكتظة بالتعسّف، وبعيدة يشوبها الكثير من التكلّف، ورغم أنّ الواقع الديني لجمهور المسلمين ما زال متشبّثا بما درجت عليه الأجيال التي سبقته، ألا وهو الفهم التقليدي الديني، إلا أن المبدأ الذي تستلهم منه هذه المقاربات انطلاقتها أنّه لا يمكن قصر الفهم على ما تم تلقّيه من فهومات مشوّهة قُدِّمت على أنها الفهوم النهائية، بل يمكن تقديم فهوم جديدة للدين منسجمة مع مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، وعليه ترى هذه المقاربات العلاجية أنه لا يمكن اختزال الدين الإسلامي في تجربة محصورة زمكانيا، بحيث تكون الممثل الشرعي الوحيد أو الصحيح له.

غير أنه مع الواقع المعقّد لتفاعل حركة الاجتماع البشري الإسلامي مع الموروث الديني فإنّ المقاربات الجديدة يَرِدُ عليها جملة من الملاحظات الإشكالية، من بينها:

هل تسوّغ هذه المقاربات العلاجية المتأخرة نزع صفة (الإسلام) من النسخ الدينية التي يغصّ بها الموروث الإسلامي، وخصوصا أهل الفترات الزمنية المحيطة بزمن النبوة؟

 إنّ دافع هذه المقاربات الجديدة إنما تولّد نتيجة الصدمة المعرفية والهوة بين المقاربات الموروثة والتطوّر الهائل الذي وصلت إليه حقول المعرفة، وهذا يعني أنه مع استمرار التطور ستتّسع معه الفجوة؛ وتاليا تنشأ مقاربات جديدة أخرى تسد الثغرات الجديدة، إلى ما لانهاية؛ الأمر الذي يدعونا إلى التفكير مليا في أن المقاربات التقليدية الأولى هي المتأهّلة لتمثيل الإسلام، وما عداها فهي محاولات دائمة لتكييفه وفق المعطيات التي تطرأ، والتي لا تنفكّ تكشف عن ثغرات جديدة؛ كونها عملية ترميمية لا تتوقف!

لو أنّ دولة حديثة قامت أسسها على إحدى المقاربات التقليدية بالكليّة، ألا يمكن للآخرين وصمها بأنها دولة إسلامية؟!

ماذا عن معتنقي اليوم للفهم التقليدي الديني؟ أليسوا على نسخة تمثّل الإسلام؟

هذه الأسئلة تدفع بنا إلى اعتبار أن المقاربات التقليدية هي الأكثر تمثيلا للإسلام، وهي - وحدها - من تُلزَم بتقديم الإجابات المتماسكة حول الأسئلة الإشكالية التي تتناول الدين.

أمّا المقاربات العلاجية المتأخرة للنصّ الديني فهي أقرب للصدمة المعرفية منها إلى مجرّد الصيرورة إلى دلالةٍ دونًا عن بقية دلالات النصّ.

***

بقلم محمد سيف

كانت الكوزموبوليتانية الرواقية بأشكالها المختلفة مقنعة إلى حد كبير في جميع أنحاء العالم اليوناني الروماني. ويمكن تفسير هذا النجاح جزئياً من خلال ملاحظة مدى كونية العالم في ذلك الوقت. أدت فتوحات الإسكندر الأكبر وما تلاها من تقسيم إمبراطوريته إلى ممالك لاحقة إلى أن استنزفت المدن المحلية الكثير من سلطتها التقليدية، وعززت زيادة الاتصالات بين المدن. وفي وقت لاحق، أدى صعود الإمبراطورية الرومانية إلى توحيد منطقة البحر الأبيض المتوسط بأكملها تحت قوة سياسية واحدة. لكن من الخطأ أن نقول ما قيل مراراً وتكراراً، إن الكوزموبوليتانية نشأت كرد فعل على سقوط مدينة "البوليس" اليونانية polis أو صعود الإمبراطورية الرومانية. أولاً: كان سقوط المدينة مبالغاً فيه إلى حد كبير. ففي ظل الممالك المتعاقبة، وحتى - ولو بدرجة أقل - في ظل حكم روما، ظل هناك مجال كبير للمشاركة السياسية المهمة محلياً.  ثانياً: وبشكل أكثر حسماً، إن الكونية التي كانت مقنعة للغاية خلال ما يسمى بالعصر الهلنستي وفي ظل الإمبراطورية الرومانية، كانت في الواقع متجذرة في التطورات الفكرية التي سبقت فتوحات الإسكندر. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن الإمبراطوريات التي تطورت وازدهرت في ظلها الرواقية جعلت الكثير من الناس أكثر تقبلاً للمثل الكونية، وبالتالي ساهمت بشكل كبير في التأثير الواسع النطاق للكوزموبوليتانية الرواقية.

لم تكن الكوزموبوليتانية الرواقية نفسها أكثر تأثيراً مما كانت عليه في المسيحية المبكرة. اعتبر المسيحيون الأوائل الاعتراف الرواقي اللاحق بالمدينتين مصدرين مستقلين للالتزام وأضافوا لمسة جديدة. بالنسبة للرواقيين، فإن مواطني المدينة ومواطني المدينة الكونية يقومون بنفس العمل: كلاهما يهدف إلى تحسين حياة المواطنين. يستجيب المسيحيون لدعوة مختلفة: “أَدُّوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَإِنَّهُ لَهُمْ مَا لِقَيْصَرَ. وما لله لله» (متى 22: 21). ومن هذا المنظور، قد يكون للمدينة المحلية سلطة إلهية، ولكن العمل الأكثر أهمية لخير الإنسان يتم إزالته من السياسة التقليدية، ويوضع جانباً في مجال حيث يمكن للناس من كل الأمم أن يصبحوا "مواطنين مع القديسين".

هذا التطور له نتيجتان مهمتان وطويلتا الأمد، وقد أعلنهما القديس "أوغسطينوس" Augustine. أولاً: تصبح المدينة الكونية مرة أخرى مجتمعاً لأشخاص معينين فقط. يوضح أوغسطينوس هذه النقطة بشكل أكثر وضوحاً من خلال اقتصار المواطنة في مدينة الله على أولئك الذين يحبون الله. يتم إنزال جميع الآخرين إلى مدينة أرضية أدنى - رغم أنها لا تزال عالمية - بسبب حبهم لذاتهم. هاتان المدينتان في العالم، محكوم عليهما بالتعايش معاً حتى يوم القيامة، وهما تقسمان سكان العالم. ثانياً: يتم فصل عمل السياسة عن مهمة بناء حياة إنسانية طيبة، حياة الصلاح والعدالة. في حين يمكن لأوغسطينوس أن يؤكد على أن هذا يسمح للمواطنين في مدينة الله بإطاعة القوانين المحلية المتعلقة بـ "ضروريات الحفاظ على الحياة"، إلا أنه يجب عليه أيضاً أن يعترف بأن ذلك يخلق صراعاً محتملاً حول قوانين الدين واهتمامات البر والصلاح. العدالة.

ولمئات السنين القادمة، كانت المناقشات في الفلسفة السياسية تحيط بالعلاقة بين السلطة السياسية "الزمنية" و"الكنيسة الأبدية". ولكن التركيز على الجانب العالمي للكنيسة تضاءل، على الرغم من مثالها المتمثل في مجتمع ديني يضم كل البشر. باختصار، أصبح النقاش الآن يعارض العلماني والديني، وليس المحلي والعالمي. من المؤكد أن هذه المناقشة كانت لها في كثير من الأحيان تداعيات عالمية، وهي واضحة بالقدر الكافي في دعوة الفيلسوف الإيطالي "دانتي أليغييري" Dante Alighieri إلى إقامة ملكية عالمية في كتابه "دي مونارشيا" De Monarchia (حوالي عام 1314). إنه أطروحة عن السلطة العلمانية والدينية، وبشكل أكثر تحديداً عن العلاقة بين السلطة العلمانية (ممثلة في الإمبراطور الروماني المقدس) والسلطة الدينية (ممثلة في البابا). لكن قضيته مستمدة من أرسطو والتاريخ الروماني، وليس بشكل صريح من المثل الأعلى للمدينة العالمية أو المواطنة العالمية، ويظل مهتماً للغاية بالفصل بين البابا والإمبراطور الروماني المقدس.

السياق التاريخي للنهضة الفلسفية للكوزموبوليتانية

بدأت الكوزموبوليتانية في الظهور ببطء مرة أخرى مع الدراسة المتجددة للنصوص القديمة، ولكن خلال العصر الإنساني ظلت الكوزموبوليتانية هي الاستثناء. على الرغم من حقيقة أن المصادر العالمية القديمة كانت معروفة جيداً وأن العديد من الإنسانيين أكدوا على الوحدة الأساسية لجميع الأديان، إلا أنهم لم يطوروا هذه الفكرة بمصطلحات عالمية. ومع ذلك، اعتمد عدد قليل من المؤلفين، وأبرزهم عالم اللاهوت المسيحي في القرن الخامس عشر "إيراسموس روتردام" Erasmus Rotterdam بشكل واضح على العالمية القديمة للدفاع عن نموذج السلام العالمي التأكيد على وحدة البشرية على انقسامها إلى دول وشعوب مختلفة، من خلال القول بأن البشر مقدرون بطبيعتهم أن يكونوا اجتماعيين ويعيشون في وئام، دعا إيراسموس إلى التسامح الوطني والديني واعتبر الأشخاص ذوي التفكير المماثل مواطنيه.

قد تبدو نظرية القانون الطبيعي الحديثة المبكرة مرشحاً محتملاً لإنتاج الكوزموبوليتانية الفلسفية. إن ميولها العلمانية والنظرة الفردية الواسعة الانتشار بين المدافعين عنها بأن جميع البشر يشتركون في خصائص أساسية معينة قد تكون كذلك، ويبدو أنها تشير إلى نقطة توحيد للبشرية ككل. ومع ذلك، وفقاً للعديد من منظري الحداثة المبكرة، فإن ما يشترك فيه جميع الأفراد هو سعي أساسي للحفاظ على الذات، وعالمية هذا السعي لا ترقى إلى مستوى رابطة أساسية توحد ـ أو ينبغي أن توحد ـ جميع البشر في مجتمع عالمي.

ومع ذلك، هناك عاملان يدفعان أحياناً نظرية القانون الطبيعي الحديثة في اتجاه عالمي. أولاً: يفترض بعض منظري القانون الطبيعي أن الطبيعة مزروعة في البشر، بالإضافة إلى الميل إلى الحفاظ على الذات، أيضاً شعور بالزمالة، وهو شكل من أشكال التواصل الاجتماعي الذي يوحد كل البشر على مستوى أساسي في نوع من المجتمع العالمي. ومع ذلك، فإن جاذبية مثل هذه الرابطة الإنسانية المشتركة كانت ضعيفة للغاية، ولا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى العالمية. في الواقع، تم استخدام فكرة التواصل الاجتماعي الطبيعي في بعض الأحيان بدلاً من ذلك لإضفاء الشرعية على الحرب ضد شعوب في أماكن أخرى من العالم قيل إنهم انتهكوا هذا الرابط المشترك بطريقة "غير طبيعية"، أو الذين قيل بسهولة أنهم وضعوا أنفسهم خارج نطاق رابطة الأخلاق الإنسانية المشتركة من خلال عاداتهم "البربرية".

 ثانيًا: كانت نظرية القانون الطبيعي الحديثة المبكرة مرتبطة في كثير من الأحيان بنظرية العقد الاجتماعي، وعلى الرغم من أن معظم منظري العقد الاجتماعي قد توصلوا إلى وجهات نظرهم في الغالب، إن لم يكن فقط، على مستوى الدولة وليس على مستوى العلاقات الدولية، فإن الفكرة وراء القانون الاجتماعي هي نفسها. نظرية العقد قابلة للتطبيق على هذا المستوى الثاني. لقد استخلص العالم الهولندي "هوغو جروتيوس" Hugo Grotius والفيلسوف الألماني "صموئيل بوفندورف" Samuel Pufendorf وآخرون هذه الآثار وبالتالي وضعوا الأساس للقانون الدولي. تصور غروتيوس “مجتمعاً عظيماً من الدول” مقيداً بـ “قانون الأمم” الذي يسري “بين جميع الدول”

يتكون السياق التاريخي للنهضة الفلسفية للكوزموبوليتانية خلال عصر التنوير من العديد من العوامل: الصعود المتزايد للرأسمالية والتجارة العالمية وانعكاساتها النظرية؛ وواقع الإمبراطوريات الآخذة في التوسع والتي امتد نطاقها إلى جميع أنحاء العالم؛ الرحلات حول العالم وما يسمى بـ "الاكتشافات" الأنثروبولوجية التي تم تسهيلها من خلال ذلك؛ الاهتمام المتجدد بـ "الفلسفة الهلنستية" Hellenistic philosophy وهي فلسفة يونانية قديمة تقابل الفترة الهلنستية في اليونان القديمة، وظهور مفهوم حقوق الإنسان والتركيز الفلسفي على العقل البشري.

 اعتبر العديد من المثقفين في ذلك الوقت أن عضويتهم في "جمهورية الآداب" Republic of letters في القرن السابع عشر العابرة للحدود الوطنية أكثر أهمية من عضويتهم في الدول السياسية المحددة التي وجدوا أنفسهم فيها، خاصة وأن علاقتهم بحكومتهم كانت متوترة في كثير من الأحيان بسبب قضايا الرقابة. وهذا ما أعدهم للتفكير بمصطلحات أخرى غير تلك الخاصة بالدول والشعوب، وتبني منظور عالمي. وتحت تأثير الثورة الأمريكية، وخاصة خلال السنوات الأولى من الثورة الفرنسية، تلقت الكوسموبوليتانية أقوى دافع لها. لقد نشأ إعلان حقوق «الإنسان» عام 1789 من أنماط التفكير العالمية وعززها بدوره.

الانفتاح والحياد

في القرن الثامن عشر، لم يكن مصطلحا «الكوزموبوليتانية» و"المواطنة العالمية" يستخدمان في كثير من الأحيان كتسميات لنظريات فلسفية محددة، بل للإشارة إلى موقف من الانفتاح والحياد. إن الكوزموبوليتاني هو شخص لا يخضع لسلطة دينية أو سياسية معينة، هو شخص غير متحيز لولاءات معينة أو تحيز ثقافي. علاوة على ذلك، تم استخدام المصطلح أحياناً للإشارة إلى الشخص الذي يعيش أسلوب حياة متحضر، أو الذي كان مغرماً بالسفر، أو يعتز بشبكة من الاتصالات الدولية، أو يشعر بأنه في وطنه في كل مكان. وبهذا المعنى، ذكرت الموسوعة أن كلمة "كوزموبوليتان" كانت تستخدم غالباً للإشارة إلى "رجل ليس له مسكن ثابت، أو رجل ليس غريباً في أي مكان". على الرغم من أن المؤلفين الفلسفيين مثل الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي "مونتسكيو" Montesquieu، والكاتب التنويري الفرنسي "فولتير"Voltaire، والناقد الفرنسي "دينيس ديدرو" Denis Diderot، والفيلسوف الاسكتلندي "ديفيد هيوم"David Hume، والكاتب والسياسي الأمريكي "توماس جيفرسون" Thomas Jefferson جميعهم عرّفوا أنفسهم على أنهم عالميون في واحد أو أكثر من هذه المعاني، إلا أن هذه الاستخدامات ليست ذات أهمية فلسفية كبيرة.

ومع ذلك، فقد تم استخدام المصطلح أيضاً بشكل متزايد للإشارة إلى قناعات فلسفية معينة وخاصة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أعاد بعض المؤلفين إحياء التقليد الساخر. أطلق الفرنسي "فوجيريت دي مونتبرون" Fougeret de Monbron في تقريره عن سيرته الذاتية عام 1753، لو كوزموبوليت، على نفسه اسم عالمي، ويصف كيف يسافر إلى كل مكان دون أن يكون ملتزماً بأي مكان، معلناً أن "جميع البلدان هي نفسها بالنسبة لي" و"[أنا] أغير أماكن إقامتي حسب هواي".

وعلى الرغم من حقيقة أن عدداً قليلاً فقط من المؤلفين التزموا بهذا النوع من الكوسموبوليتانية، إلا أن هذه هي النسخة التي اتخذها منتقدو الكوسموبوليتانية هدفاً لهم. على سبيل المثال، يشكو "جان جاك روسو" Jean-Jacques Rousseau من أن الكوزموبوليتانيين «يتباهون بأنهم يحبون الجميع وأن لهم الحق في ألا يحبوا أحداً. يقول الفيلسوف والمؤرخ الألماني "يوهان جورج شلوسر" Johann Georg Schlosser في قصيدته النقدية "هناك عالمية" Der Kosmopolit: "من الأفضل أن يفتخر المرء بأمته بدلاً من ألا يكون لديه أي أمة"، وذلك على افتراض واضح أن العالمية تعني الاحتمال الأخير.

ومع ذلك، فإن معظم المدافعين عن العالمية في القرن الثامن عشر لم يعترفوا بوجهة نظرهم الخاصة في هذه الأوصاف النقدية. لقد فهموا العالمية ليس كشكل من أشكال الفردية المتطرفة، بل بالاعتماد على التقليد الرواقي، باعتبارها تنطوي على المثل الأخلاقية الإيجابية لمجتمع إنساني عالمي، ولم ينظروا إلى هذا المثل الأعلى باعتباره معادياً لارتباطات أكثر خصوصية. البعض، مثل الكاتب الألماني "كريستوف مارتن فيلاند" Christoph Martin Wieland، ظل قريباً جداً من وجهات النظر الرواقية. وطور آخرون نظرية أخلاقية عالمية كانت جديدة بشكل مميز. وفقا لـ "إيمانويل كانط" Immanuel Kant  جميع الكائنات العقلانية هي أعضاء في مجتمع أخلاقي واحد. وهم يشبهون المواطنين بالمعنى السياسي (الجمهوري) من حيث أنهم يشتركون في خصائص الحرية والمساواة والاستقلال، وأنهم يعيشون في ظل قوانينهم الخاصة. غير أن قوانينهم العامة هي قوانين الأخلاق المرتكزة على العقل. وعلى النقيض من ذلك، دافع الكوزموبوليتانيون الأوائل، مثل الفيلسوف الانجليزي "جيريمي بينثام" Jeremy Bentham، عن عالميتهم من خلال الإشارة إلى "المنفعة المشتركة والمتساوية لكل الأمم". يمكن أن ترتكز الكونية الأخلاقية على العقل البشري، أو في بعض الخصائص الأخرى المشتركة عالمياً بين البشر (وفي بعض الحالات أنواع أخرى من الكائنات) مثل القدرة على تجربة المتعة، أو الألم، أو الحس الأخلاقي، أو الخيال الجمالي.

كان الكوزموبوليتانيون الأخلاقيون يعتبرون كل البشر "إخوة" ــ وهو القياس الذي كانوا يهدفون من خلاله إلى الإشارة إلى المساواة الأساسية في المرتبة بين كل البشر، وهو ما يحول دون العبودية، والاستغلال الاستعماري، والتسلسل الهرمي الإقطاعي، والوصاية بمختلف أنواعها. ولكن، كما يشير مصطلح "الإخوة"، فإن هذا لا يعني أن فكرهم كان دائماً خالياً من التحيز والتناقض. والواقع أن العديد من المؤلفين جمعوا بين عالميتهم الأخلاقية والدفاع عن تفوق الرجال على النساء، أو تفوق "البيض" على "الأجناس" الأخرى. ومن الأمثلة البارزة على ذلك كانط، الذي دافع عن الاستعمار الأوروبي قبل أن يصبح منتقداً له بشدة في منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، والذي لم يتخل أبداً عن وجهة النظر القائلة بأن المرأة أدنى من الرجل في النواحي الأخلاقية ذات الصلة.

في العلاقات الدولية

وقد طور بعض الكوزموبوليتانيين وجهة نظرهم إلى نظرية سياسية حول العلاقات الدولية. لا شك أن أكثر السياسيين العالميين تطرفاً في القرن الثامن عشر كان أناكارسيس كلوتس (جان بابتيست دو فال دي جريس، بارون دي كلوتس، 1755–1794) Jean-Baptiste du Val-de-Grâce وقد كان نبيلاً بروسياً، وشخصية مهمة في الثورة الفرنسية. ربما كان أول من دعا إلى إنشاء برلمان عالمي. كما دعا كلوتس إلى إلغاء جميع الدول القائمة وإنشاء دولة عالمية واحدة يتم بموجبها إدراج جميع الأفراد البشر بشكل مباشر. اعتمدت حججه في المقام الأول على البنية العامة لنظرية العقد الاجتماعي. إذا كان من المصلحة العامة أن يخضع الجميع لسلطة دولة تطبق القوانين التي توفر الأمن، فإن هذه الحجة تنطبق على جميع أنحاء العالم وتبرر إنشاء "جمهورية من الأفراد المتحدين" على مستوى العالم، وليس التعددية. الدول التي تجد نفسها في حالة الطبيعة في مواجهة بعضها البعض. ثانياً: كان يرى أن السيادة يجب أن تكون في يد الشعب، وأن مفهوم السيادة نفسه، لأنه ينطوي على عدم قابلية للتجزئة، يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى هيئة ذات سيادة واحدة في العالم، وهي الجنس البشري ككل "الجمهورية العالمية" La république Universelle.

لم يذهب معظم السياسيين العالميين الآخرين إلى حد كلوتس. وكان إيمانويل كانط، أشهر من دعا إلى شكل أضعف كثيراً من النظام القانوني الدولي، أو على وجه التحديد، شكل "عصبة الأمم". في كتابه "نحو السلام الدائم" (1795)، يزعم كانط أن السلام الحقيقي على مستوى العالم لن يكون ممكناً إلا عندما تنظم الدول نفسها داخلياً وفقاً لمبادئ "الجمهورية"، وعندما ينظمون أنفسهم خارجياً في رابطة تطوعية من أجل الحفاظ على السلام، وعندما يحترمون حقوق الإنسان ليس فقط لمواطنيهم، بل للأجانب أيضاً. وهو يرى أن عصبة الدول لا ينبغي أن تتمتع بقوى عسكرية قسرية لأن ذلك من شأنه أن ينتهك السيادة الداخلية للدول.

رداً على ذلك، جادل بعض النقاد بأن موقف كانط كان غير متسق، لأنه من وجهة نظرهم، فإن الطريقة الوحيدة للتغلب بشكل كامل على حالة الطبيعة بين الدول كانت أن تدخل الأخيرة في اتحاد فيدرالي مع قوى قسرية. قام أتباع الفيلسوف الألماني المثالي "يوهان غوتليب فيشته" Johann Gottlieb Fichte الأوائل بتحويل مفهوم السيادة في هذه العملية، من خلال تصوره على أنه متعدد الطبقات، وقد مكنهم هذا من القول بأن الدول يجب أن تنقل جزءًا من سيادتها إلى المستوى الفيدرالي، ولكن فقط ذلك الجزء الذي يتعلق بعلاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى، مع احتفاظها بسيادة الدول فيما يتعلق بشؤونها الداخلية.

من ناحية أخرى، رأى المؤلفون الرومانسيون أن الدولة المثالية لا ينبغي أن تنطوي على الإكراه على الإطلاق، ومن ثم يجب أن يكون المثل العالمي أيضاً هو جمهورية عالمية من الجمهوريات "الأخوية" غير الاستبدادية كما يعتقد الأديب والفيلسوف الألماني "فريدريش شليغل" Friedrich Schlegel. وخاصة أن الاعتراض الأول تكرر منذ ذلك الحين، بل أكثر، فقد شككت التفسيرات الأخيرة في شرعيتها، بحجة أنه يمكن أيضاً قراءة كانط على أنه يدعو إلى الدوري الفضفاض كخطوة أولى على الطريق نحو اتحاد يتمتع بسلطات قسرية. ولأن الانضمام إلى هذا الشكل الأقوى من الاتحاد ينبغي أن يكون قراراً طوعياً من جانب الشعوب المعنية، احتراماً لاستقلالها السياسي، فإن الاتحاد القوي ليس مسألة حق دولي قسري. بناءً على هذا التفسير، فإن دفاع كانط عن الدوري الفضفاض أكثر اتساقاً.

كما قدم كانط مفهوم "القانون العالمي" مما يشير إلى مجال ثالث للقانون العام ــ بالإضافة إلى القانون الدستوري والقانون الدولي ــ حيث تتمتع كل من الدول والأفراد بحقوق، وحيث يتمتع الأفراد بهذه الحقوق باعتبارهم "مواطنين على الأرض". وليس كمواطنين في دول معينة.

اقتصاد عالمي

بالإضافة إلى الأشكال الأخلاقية والسياسية للكوزموبوليتانية، ظهر شكل اقتصادي للنظرية العالمية. لقد تطورت التجارة الأكثر حرية التي دعا إليها مناهضو التجارة في القرن الثامن عشر، وخاصة عالم الاقتصاد الاسكتلندي "آدم سميث" Adam Smith إلى نموذج السوق الحرة العالمية على يد المؤرخ الألماني "ديتريش هيرمان هيجويتش" Dietrich Hermann Hegewicz كان مثاله المثالي هو عالم تُلغى فيه التعريفات الجمركية وغيرها من القيود المفروضة على التجارة الخارجية، عالم حيث يعتني السوق ـ وليس الحكومة ـ باحتياجات الناس، وضد النزعة التجارية. زعم أنه من الأفضل لجميع المعنيين أن تستورد الدولة تلك السلع التي يكون إنتاجها محلياً أكثر تكلفة، وأن إلغاء الحمائية سيفيد الجميع. وإذا كان لدول أخرى أن تستفيد من صادراتها، فسوف تتمكن من الوصول إلى مستوى معيشة أعلى وتصبح شريكاً تجارياً أفضل، لأنها سوف تتمكن بعد ذلك من استيراد المزيد أيضاً. علاوة على ذلك، فمن وجهة نظر هيجويتش، بعد تحرير التجارة في جميع أنحاء العالم، فإن أهمية الحكومات الوطنية سوف تتضاءل بشكل كبير. وقال إنه بما أن الحكومات الوطنية تركز في الغالب على الاقتصاد الوطني والدفاع، فإن دورها المستقبلي سيكون مساعداً على الأكثر. وكلما أصبحت السوق العالمية أكثر حرية، كلما أصبح دور الدول ضئيلا.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

ترجمة: د. زهير الخويلدي

"سواء بالنسبة لتشكيل الطليعة الثورية أو لتجديد الحركة العمالية ككل، فمن الضروري صياغة البرنامج الاشتراكي من جديد، وأن يتم ذلك بطريقة أكثر دقة وتفصيلا من ذي قبل. ونعني بالبرنامج الاشتراكي تدابير تحويل المجتمع التي يتعين على البروليتاريا المنتصرة أن تتخذها لتحقيق هدفها الشيوعي. لا يتم هنا تناول المشاكل المتعلقة بنضال العمال في إطار المجتمع الاستغلالي. نقول: أعدوا صياغة برنامج سلطة البروليتاريا، وصوغوه بطريقة أكثر دقة مما كانت عليه في الماضي. صياغته مرة أخرى، لأن صياغته التقليدية قد تم استبدالها إلى حد كبير بالتطور التاريخي؛ وعلى وجه الخصوص، لا يمكن تمييز هذه الصيغة التقليدية اليوم عن تشويهها الستاليني. صياغتها بدقة أكبر بكثير، لأن الغموض الستاليني استخدم بدقة الطابع العام والمجرد للأفكار البرنامجية للماركسية التقليدية لتمويه الاستغلال البيروقراطي تحت القناع “الاشتراكي”. لقد أظهرنا عدة مرات في هذه المراجعة كيف تمكنت الثورة المضادة الستالينية من استخدام البرنامج التقليدي كمنصة. محوراها: التأميم والتخطيط الاقتصادي، من جهة، وديكتاتورية الحزب كتعبير ملموس عن دكتاتورية البروليتاريا؛ ومن ناحية أخرى، في ظل ظروف التطور التاريخي المحددة، تم الكشف عن الأسس البرنامجية للرأسمالية البيروقراطية. وما لم نرفض هذه الملاحظة التجريبية، أو ننكر الحاجة إلى برنامج اشتراكي للبروليتاريا، فمن المستحيل التمسك بالمواقف البرنامجية التقليدية. وبدون تفصيل برنامجي جديد، لن تتمكن الطليعة أبدا من وضع حدودها فيما يتعلق بالستالينية على أصدق وأعمق أرضية؛ وقد أثبتت تجربة التروتسكية المؤسفة ذلك بجلاء. ولكن من الواضح أيضًا أن هذا الاستخدام للأفكار البرنامجية التقليدية للماركسية من قبل الستالينية، بعيدًا عن أن يعني أنه في الإنجاز الستاليني قد تم الكشف عن الجوهر الحقيقي للماركسية، كما قال البعض إنهم يحزنون أو يفرحون بها، فقد عبر ببساطة عن والحقيقة هي أن هذه الأشكال المجردة - التأميم والدكتاتورية - اتخذت محتوى ملموسًا مختلفًا عن المحتوى المحتمل الذي كانت عليه في الأصل. بالنسبة لماركس، كان التأميم يعني قمع الاستغلال البرجوازي. علاوة على ذلك، فإنه لم يفقد هذا المعنى في أيدي الستالينيين؛ لكنها اكتسبت أيضًا شيئًا آخر - تأسيس الاستغلال البيروقراطي. فهل يعني هذا أن سبب نجاح الستالينية هو الطابع غير الدقيق أو المجرد للبرنامج التقليدي؟ وسيكون من السطحي أن ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة. هذا الطابع المجرد وغير الدقيق في حد ذاته لم يعبر إلا عن عدم نضج الحركة العمالية، حتى بين ممثليها الأكثر وعيا، ومن عدم النضج هذا، بالمعنى الأوسع، تنبع البيروقراطية. ومن ناحية أخرى، فإن التجربة البيروقراطية، و"تحقيق" البيروقراطية للأفكار التقليدية، سيسمح للحركة العمالية بالوصول إلى هذا النضج وإعطاء تجسيد جديد لأهدافها البرنامجية. إن صياغة البرنامج الاشتراكي بدقة أكبر مما تم حتى الآن في إطار الماركسية لا تعني بأي حال من الأحوال العودة إلى الاشتراكية الطوباوية. إن نضال الماركسية ضد الاشتراكية الطوباوية نشأ من عاملين: فمن ناحية، لم تكن السمة الأساسية لـ "الطوباوية" هي وصف المجتمع المستقبلي، بل محاولة تأسيس هذا المجتمع في أصغر تفاصيله وفق نموذج منطقي، دون دراسة القوى الاجتماعية الملموسة التي تتجه نحو التنظيم الأعلى للمجتمع. وكان هذا مستحيلاً فعلياً قبل تحليل المجتمع الحديث الذي بدأه ماركس. سمحت استنتاجات هذا التحليل لماركس بوضع أسس البرنامج الاشتراكي؛ استمرار هذا التحليل اليوم بمواد لا حصر لها. لقد تراكم أكثر من قرن من التطور التاريخي، مما يسمح لنا بالتقدم أكثر في مجال البرنامج. ومن ناحية أخرى، كانت الاشتراكية الطوباوية مهتمة فقط بالخطط المثالية لإعادة تنظيم المجتمع في وقت كانت فيه هذه الخطط، سواء كانت جيدة أو سيئة، ذات أهمية ضئيلة للغاية بالنسبة للتطور الفعلي للحركة العمالية الملموسة على أي حال، وكانت غير مهتمة تمامًا الأخير. وفي مواجهة هذا الموقف وبقاياه، كان ماركس على حق عندما أعلن أن خطوة عملية واحدة أفضل من مائة برنامج. لكن معظم النضال الثوري الملموس اليوم هو في الواقع نضال ضد الغموض الستاليني أو الإصلاحي، مما يقدم أشكالا جديدة إلى حد ما من الاستغلال فضلا عن "الاشتراكية". هذه المعركة ممكنة فقط على حساب تطوير جديد للبرنامج. إن القيود الطوعية التي فرضتها الماركسية على نفسها في صياغة البرنامج الاشتراكي كانت ترجع أيضًا إلى الفكرة، التي كانت سارية ضمنيًا آنذاك، والتي بموجبها سيطلق التدمير الثوري للطبقة الرأسمالية ودولتها العنان لبناء الاشتراكية.. ويثبت كل من التحليل النظري والتجربة التاريخية أن هذه الفكرة كانت غامضة، على أقل تقدير. إذا كان صحيحا، كما قال تروتسكي، أن "الاشتراكية، على عكس الرأسمالية، تُبنى بوعي" وبالتالي فإن النشاط الواعي للجماهير هو الشرط الأساسي للتطور الاشتراكي، فيجب علينا أن نستخلص من جميع استنتاجات هذه الفكرة، وفوق كل هذا، فإن هذا التنوير الواعي يفترض توجهًا برمجيًا دقيقًا. علاوة على ذلك، فإن الروح التي تغلغلت في "التجريبية" النسبية لماركس في هذا المجال لا تزال صالحة، بمعنى أنها تشكل تحذيرا شديدا ضد أي جفاف عقائدي قد يميل إلى إخضاع التحليل الحي من العملية التاريخية لأنماط مسبقة، وضد أي محاولة لاستبدال تطور طائفة ما بالعمل الإبداعي للجماهير نفسها. لا يوجد تطور برنامجي صحيح لا يأخذ في الاعتبار التطور الحقيقي، وخاصة تطور وعي البروليتاريا. إن برنامج الثورة الذي صاغته المنظمة الطليعة ما هو إلا تعبير مرتقب عن المهام الناشئة عن الوضع الموضوعي والوعي الطبقي خلال الفترة الثورية، وفي المقابل فإن نشر هذا البرنامج والترويج له هو شرط للمستقبل. تطور هذا الوعي الطبقي.

الشيوعية والمجتمع الانتقالي

وإذا أطلقنا على برنامج الثورة اسم "البرنامج الاشتراكي"، فهذا فقط للإشارة إلى أنه لا يتعلق بالمجتمع الشيوعي نفسه، بل بمرحلة التحول التاريخي الذي يؤدي نحو هذا المجتمع. وبخلاف ذلك، لا يوجد شيء اسمه "المجتمع الاشتراكي" كنوع محدد ومستقر من المجتمع، ويجب مكافحة الارتباك الذي ساد حول هذه الفكرة منذ خمسين عامًا بقوة. لقد ميز ماركس بشكل واحد بين مرحلتين من مجتمع ما بعد الثورة، ما أسماه المرحلة الدنيا والمرحلة العليا للشيوعية. ولهذا التمييز أساس اقتصادي واجتماعي لا جدال فيه: إن "المرحلة الدنيا من الشيوعية" (المرحلة التي نسميها المجتمع الانتقالي) لا تزال تتوافق مع اقتصاد النقص، حيث لم يحقق المجتمع بعد الوفرة المادية والتنمية الكاملة للقدرات البشرية. ; إن هذا القصور، الاقتصادي والإنساني، للمجتمع الانتقالي يترجم سياسيا إلى صيانة – بمحتوى وشكل جديدين تماما مقارنة بالتاريخ السابق – لسلطة “الدولة”، أي من خلال دكتاتورية البروليتاريا. وإذا كان المجتمع الانتقالي، في هذين الجانبين، لا يزال يحمل "وصمات المجتمع الرأسمالي الذي يأتي منه"، فإنه، من ناحية أخرى، يختلف عنه جذريا من حيث أنه يلغي الاستغلال على الفور. إن مغالطات تروتسكي حول مسألة "الاشتراكية" و"الدولة العمالية" جعلتنا ننسى هذه الحقيقة الأساسية: إذا كانت الندرة الاقتصادية تبرر القيود، فإن التوزيع حسب العمل وليس حسب الاحتياجات، من ناحية أخرى، لا يبرر ذلك بأي حال من الأحوال. استمرار الاستغلال وإلا فإن الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي سيكون مستحيلا إلى الأبد. سيبدأ بناء الشيوعية دائما من حالة النقص: إذا كان هذا النقص يجعل الاستغلال ضروريا ومبررا، فسيكون ذلك نظاما طبقيا جديدا هو الذي سينتج وليس الشيوعية. لذلك يتم تعريف المجتمع الشيوعي ("المرحلة العليا من الشيوعية") بالوفرة الاقتصادية ("لكل حسب احتياجاته")، والاختفاء الكامل للدولة ("إدارة الأشياء التي تحل محل حكومة الناس") والتطور الكامل للدولة. قدرات الإنسان ("الإنسان الانساني، الإنسان الكامل"). أما المجتمع الانتقالي فهو شكل تاريخي عابر يحدده هدفه وهو بناء الشيوعية. ومع انحسار النقص وتطور القدرات البشرية، تتلاشى الحاجة إلى الإكراه المنظم من جانب الدولة وسيطرة الاقتصاد على البشر. إذا كان المجتمع الشيوعي (المجتمع الإنساني الحقيقي) حسب تعبير ماركس هو مملكة الحرية، فإن مملكة الحرية هذه لا تعني قمع مملكة الضرورة التي هي الاقتصاد، بل تعني اختزالها بشكل تدريجي وخضوعها التام للحاجات. للتنمية البشرية، والتي تعتبر وفرة السلع وتقليص يوم العمل شرطين أساسيين لها. إن اتجاه المجتمع الانتقالي يتحدد من خلال هدفه - بناء الشيوعية - والظروف التي يجب أن يتحقق فيها - الوضع الحالي للمجتمع العالمي. إن بناء الشيوعية يفترض إلغاء الاستغلال، والتطور السريع لقوى الإنتاج، وفي التحليل النهائي تطوير القدرات الإجمالية للإنسان. إن تطور الإنسان هذا هو التعبير الأكثر عمومية عن هدف هذا المجتمع والوسيلة الأساسية لتحقيق هذا الهدف. ويتم التعبير عنه بشكل ملموس من خلال تحرير النشاط الواعي للبروليتاريا. وهذا يحدد كلا من قمع الاستغلال ("إن تحرير العمال سيكون من عمل العمال أنفسهم") وتطوير القوى المنتجة ("من بين جميع القوى المنتجة في المجتمع، الطبقة الثورية هي الأكثر أهمية") و الطابع الجديد جذريا لديكتاتورية البروليتاريا كسلطة دولة ("سلطة الجماهير المسلحة"). إن الاتجاه العميق للرأسمالية العالمية يقودها، من خلال التركيز الكلي لقوى الإنتاج، إلى إلغاء الملكية الخاصة باعتبارها وظيفة اقتصادية أساسية للاستغلال، وجعل إدارة الإنتاج هي الوظيفة التي تميز أفراد المجتمع كمستغلين ومستغلين. ونتيجة لنفس التطور، فإن جهاز إدارة الاقتصاد وبيروقراطية الدولة والمثقفين يميلون إلى الاندماج عضويا، ويصبح الاستغلال مستحيلا دون اتصال مباشر بالإكراه المادي والغموض الأيديولوجي. لذلك، لا يمكن قمع الاستغلال إلا إذا – وفقط إذا – كان قمع الطبقة المستغلة مصحوبًا بقمع الظروف الحديثة لوجود مثل هذه الطبقة؛ هذه الشروط أصبحت أقل فأقل "الملكية الخاصة" و"السوق" وما إلى ذلك. (قمعها تطور الرأسمالية نفسها) واحتكار إدارة الاقتصاد والحياة الاجتماعية بشكل متزايد، الإدارة التي تظل وظيفة مستقلة ومعارضة للإنتاج الصحيح. لا يمكن إلغاء الأساس الحقيقي للاستغلال الحديث إلا بقدر ما يقوم المنتجون أنفسهم بتنظيم إدارة الإنتاج؛ وبعد أن أصبحت الإدارة الاقتصادية غير قابلة للفصل عن السلطة السياسية، فإن إدارة العمال تعني بشكل ملموس دكتاتورية المنظمات البروليتارية الجماهيرية واستيلاء البروليتاريا على الثقافة. إن إلغاء التعارض بين القادة وفناني الأداء في الاقتصاد والحفاظ عليه في السياسة (من خلال دكتاتورية الحزب) هو غموض رجعي من شأنه أن يؤدي بسرعة إلى صراع جديد بين المنتجين والبيروقراطيين السياسيين. وبشكل متماثل، فإن إدارة الاقتصاد من قبل المنتجين هي حاليا الشرط الضروري والكافي لتحقيق المجتمع الشيوعي بسرعة. بهذا المعنى الكامل فقط يعبر مصطلح "ديكتاتورية البروليتاريا" بشكل فعال عن جوهر المجتمع الانتقالي.

اقتصاد الفترة الانتقالية

تطرح مشكلة اقتصاد الفترة الانتقالية نفسها في جانبين رئيسيين: قمع الاستغلال من جهة، والتطور السريع للقوى المنتجة من جهة أخرى. إن الاستغلال يقدم نفسه أولا وقبل كل شيء باعتباره استغلالا في الإنتاج نفسه، باعتباره اغتراب المنتج في العملية الإنتاجية. إنه تحويل الإنسان إلى حبة جوز بسيطة في الآلة، إلى جزء غير شخصي من جهاز الإنتاج، واختزال المنتج إلى مؤدي نشاط لم يعد بإمكانه فهم معناه أو اندماجه في النظام عملية. إن إزالة هذا الجذر الأهم والأعمق للاستغلال يعني الارتقاء بالمنتجين إلى إدارة الإنتاج، وتكليفهم بشكل كامل بتحديد وتيرة العمل ومدته، وعلاقاتهم مع الآلات ومع العمال الآخرين، وأهداف الإنتاج. ووسائل تحقيقها. ومن الواضح أن هذه الإدارة سوف تطرح مشاكل معقدة للغاية فيما يتعلق بالتنسيق بين مختلف قطاعات الإنتاج والأعمال، ولكن ليس هناك شيء غير قابل للحل بشأن هذه المشاكل.

ويتم التعبير عن الاستغلال أيضًا، بطريقة مشتقة، في توزيع الناتج الاجتماعي، أي في عدم المساواة في العلاقة بين الدخل والعمل المقدم. لن يتم القضاء على عدم المساواة بشكل عام في المجتمع الانتقالي؛ لا يمكن القضاء على هذا التفاوت إلا في المجتمع الشيوعي، وهذا ليس في شكل دخل متساوٍ حسابيًا للجميع، ولكن في شكل الإشباع الكامل لاحتياجات الجميع: لكن المجتمع الانتقالي سوف يلغي تخصيص الدخل دون عمل منتج، أو غير متناسب. لكمية ونوعية العمل الإنتاجي المقدم فعليا للمجتمع؛ وبالتالي فإنه سيزيل عدم المساواة في العلاقة بين دخل العمل وكمية العمل. وبدون الرغبة في تقديم "حل" أو حتى تحليل لمشكلة الأجر مقابل العمل الإنتاجي في الاقتصاد الانتقالي، يمكننا مع ذلك أن نلاحظ أن هذا المجتمع سوف يتجه منذ البداية نحو تحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة. لأنه على الرغم من أن المساوئ الناجمة عن عدم المساواة في معدلات أجور العمل كبيرة وواضحة (تشويه الطلب الاجتماعي، وإشباع الحاجات الثانوية من قبل البعض حيث لا يستطيع البعض الآخر تلبية الحاجات الأولية، مما يؤدي إلى عواقب نفسية وسياسية)، فإن المزايا كلها مشكوك فيها وثانوي. وبالتالي، فإن مبرر الأجر الأعلى للعمل المؤهل من خلال "تكاليف الإنتاج" الأكبر (تكاليف التدريب والسنوات غير الإنتاجية) لهذا العمل يبدأ من اللحظة التي يتحمل فيها المجتمع نفسه هذه التكاليف. على الأكثر، في هذه الحالة، يمكننا أن نقبل أن «سعر» هذا العمل أكبر (يقابل «قيمته» أو «تكلفة إنتاجه»)، لكن ليس أن الدخل الشخصي لهذا العامل يعكس هذا الفارق. إن فكرة أن الأجور المرتفعة ضرورية لجذب الناس إلى المهن التي تتطلب مهارات أعلى هي ببساطة فكرة سخيفة: فجاذبية هذه الأنشطة تكمن في طبيعة النشاط نفسه، والمشكلة الرئيسية، بمجرد إزالة القمع الاجتماعي، ستتمثل في توفير "العيش". أنشطة أقل شأنا". هناك مشكلتان أخريان أقل بساطة: للحصول على أقصى قدر من الجهد الإنتاجي من الأفراد في فترة النقص، سيكون من الممكن للمجتمع أن يربط أجر العمل بكمية العمل المقدم (مقاسًا بوقت العمل)، وربما حتى حجمه. الشدة (تقاس بعدد الأشياء أو الأفعال المنتجة). لكن أهمية هذه المشكلة تتضاءل عندما يزيل التصنيع والإنتاج الضخم كل استقلال تقني عن العمل الفردي، ويدمجه في النشاط الإنتاجي لكل له إيقاعه الخاص الذي لا يمكن أن تتجاوزه وتيرة الفرد بشكل مفيد (الإنتاج المتسلسل وما إلى ذلك، مقابل للعمل بالقطعة). وفي هذا السياق، فإن الأمر الأساسي هو أن تحدد المجموعة الملموسة من المنتجين معدلها الإجمالي الأمثل، وليس أن يزيد كل منهم من جهده الإنتاجي بطريقة غير متسقة. ومن ثم، فمن الممكن أن تنشأ المشكلة على نطاق مجموعة العمال الذين يشكلون وحدة إنتاجية تقنية. وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أنه قد يكون من الضروري الحصول على حركة جغرافية أو مهنية قصيرة المدى للقوى العاملة؛ وإذا لم يكن الإقناع كافيا لاستفزازهم، فقد يصبح من الضروري العمل من خلال التمييز بين معدلات الأجور. لكن أهمية هذه الاختلافات ستكون ضئيلة، كما يثبت مثال المجتمع الرأسمالي بشكل واضح. إن مشكلة التطور السريع للثروة الاجتماعية تطرح نفسها من ناحية كمشكلة تنظيم عقلاني لقوى الإنتاج الموجودة، ومن ناحية أخرى كمشكلة نمو هذه القوى الإنتاجية. يقدم التنظيم العقلاني للقوى المنتجة في حد ذاته عددًا لا حصر له من الجوانب، ولكن أهمها هو إدارة العمال. ولأن المنتجين وحدهم، في كلهم العضوي، لديهم رؤية كاملة ووعي بمشكلة الإنتاج، بما في ذلك جانبها الأكثر أهمية وهو التنفيذ الملموس للأفعال الإنتاجية، فإنهم وحدهم يستطيعون تنظيم العملية الإنتاجية بطريقة عقلانية. على العكس من ذلك، فإن إدارة الطبقات المستغلة هي دائمًا غير عقلانية في جوهرها، لأنها دائمًا ما تكون خارج نطاق النشاط الإنتاجي نفسه، ولا تملك سوى معرفة غير كاملة ومجزأة بالظروف الملموسة التي يحدث فيها ذلك وبآثار الأهداف المختارة. لقد تم طرح مشكلة زيادة قوى الإنتاج حتى الآن، قبل كل شيء، من زاوية التعارض المفترض غير القابل للاختزال القائم بين التراكم (زيادة رأس المال الثابت) وإنتاج وسائل الاستهلاك، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة. إن هذه المعارضة التي يصر عليها المبهمون لصالح البيروقراطية هي معارضة زائفة تخفي الشروط الحقيقية للمشكلة. إن التعارض بين ضرورات التراكم وضرورات الاستهلاك يتم حله في التوليف الذي تقدمه فكرة إنتاجية العمل البشري. إن تطور القوى المنتجة، أو بالأحرى النتيجة الإنتاجية لهذا التطور، ينحصر في التحليل النهائي في تطور قوة إنتاج العمل، أي قوة الإنتاجية. وتعتمد هذه الإنتاجية بدورها على تطور الظروف الموضوعية للإنتاج - أي تنمية رأس المال الثابت بشكل أساسي - وعلى تنمية القدرات الإنتاجية للعمل الحي. وترتبط هذه القدرات الإنتاجية ارتباطا مباشرا من ناحية بتطور الفرد المنتج داخل الإنتاج - وبالتالي بإدارة العمال - ومن ناحية أخرى، بزيادة استهلاك العمال ورفاههم، وتنمية ثقافتهم الفنية والشاملة وتقليص ساعات العمل؛ وبشكل أعم، فإن هذا الجانب من الإنتاجية، الذي يمكن أن نسميه الإنتاجية الذاتية، يعتمد على التزام المنتجين الكامل والواعي بالإنتاج. ولذلك فإن هناك علاقة موضوعية بين تراكم رأس المال الثابت وتوسع الاستهلاك (بالمعنى الأوسع) تحدد الحل الأمثل لمشكلة الاختيار بين هذين المسارين لزيادة الإنتاجية الإجمالية. وكما يمكن زيادة الإنتاج بسبب تخفيض ساعات العمل، فإن الزيادة في الرفاهية يمكن أن تكون أكثر إنتاجية - بالمعنى الأكثر مادية للمصطلح - من الزيادة في المعدات. بحكم طبيعتها، لا يمكن للطبقة المستغلة أو شريحة من القادة أن ترى سوى جانب واحد من المشكلة - حيث يصبح تراكم رأس المال الثابت بالنسبة لهم الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج. فقط من خلال وضع أنفسنا من وجهة نظر المنتجين يمكننا تحقيق التوليف بين وجهتي النظر. ومرة أخرى، فإن هذا التوليف، في غياب المنتجين أنفسهم، لن يكون له سوى قيمة مجردة، لأن التصاق المنتجين الواعي بالإنتاج هو الشرط الأساسي لأقصى تطور للإنتاجية، وهذا الالتصاق لن يتحقق إلا بقدر ما يعرف المنتجون أن الحل المقدم هو الحل الخاص بهم. طالما استمر النقص في السلع؛ سيضطر المجتمع إلى تقنين الاستهلاك، والطريقة الأكثر عقلانية للقيام بذلك ستكون تحديد سعر لكل منتج؛ وبذلك يكون المستهلك قادراً على أن يقرر بنفسه كيف ينفق دخله الذي يمنحه أقصى قدر من الرضا، وسيكون المجتمع قادراً، على المدى القصير، على مواجهة النقص أو التفاوت الاستثنائي في تطوير الإنتاج من خلال تأجيل إشباع أقل. الاحتياجات الشديدة من خلال التلاعب في أسعار بيع المنتجات المعنية. بمجرد استبعاد عدم المساواة في الدخل، يمكن قياس الكثافة النسبية للطلب على مختلف المنتجات ومدى الحاجة الاجتماعية الحقيقية بشكل مناسب من خلال المبالغ التي يرغب المستهلكون في دفعها مقابل السلعة المعنية وستوفر التغييرات في مخزونات هذه السلعة المبادئ التوجيهية لتطوير أو تباطؤ الإنتاج في الصناعة. إن مشكلة التوازن الاقتصادي العام من حيث القيمة بسيطة في ظل هذه الظروف. ومن الضروري والكافي أن يكون إجمالي الدخل الموزع - أي الأجور أساساً - مساوياً لمجموع قيم السلع الاستهلاكية المتاحة. وهذا يعني أنه بقدر ما يجب أن يكون هناك تراكم، فإن أسعار السلع ستكون أعلى من تكلفة إنتاجها، وإن كانت متناسبة معها. ويجب أن تكون أعلى من تكلفة إنتاجها، لأن قسماً من المنتجين، رغم حصولهم على الأجور، لا ينتجون سلعاً استهلاكية، بل ينتجون وسائل إنتاج غير معروضة للبيع. لكن من المنطقي أن تكون متناسبة مع تكاليف الإنتاج الخاصة بكل منها، لأنه في ظل هذا الشرط فقط، يعكس فعل شراء هذه السلعة، وليس سلعة أخرى، مدى الحاجة الذاتية، وهو ما يعني، بكلمات أخرى، أن المجتمع يؤكد من خلال استهلاكه قراره الأولي بتخصيص ساعات طويلة لإنتاج هذا المنتج.

دكتاتورية البروليتاريا

في مواجهة عودة الأوهام الديمقراطية البرجوازية الصغيرة الناجمة عن الانحطاط الشمولي للثورة الروسية، من الضروري أكثر من أي وقت مضى إعادة تأكيد فكرة دكتاتورية البروليتاريا. إن الحرب الأهلية وتوطيد سلطة العمال بمجرد تأسيسها تعني السحق العنيف للميول السياسية التي تميل إلى الحفاظ على الاستغلال أو استعادته. إن الديمقراطية البروليتارية هي ديمقراطية للبروليتاريين، وهي في نفس الوقت الدكتاتورية اللامحدودة التي تمارسها البروليتاريا ضد الطبقات المعادية لها. ومع ذلك، يجب أن تتحقق هذه المفاهيم الأولية في ضوء تحليل المجتمع الحالي. وطالما كان أساس الهيمنة الطبقية هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فإن "شرعية" دكتاتورية البروليتاريا يمكن أن تعطى شكلا دستوريا من خلال حرمان أولئك الذين يعيشون مباشرة من عمل الآخرين من الحقوق السياسية، وإخراجهم عن القانون الجهات التي أصرت على استعادة هذا العقار. إن تراجع الملكية الخاصة في مجتمع اليوم، وبلورة البيروقراطية كطبقة مستغلة، يزيل معظم أهميتها من هذه المعايير الرسمية. إن التيارات الرجعية التي سيتعين على دكتاتورية البروليتاريا أن تحاربها، على الأقل أخطرها، لن تكون التيارات الإصلاحية البرجوازية، بل التيارات البيروقراطية. ولا شك أن هذه التيارات يجب استبعادها من الشرعية السوفييتية على أساس تقييم أهدافها وطبيعتها الاجتماعية التي لم يعد من الممكن أن تستند إلى معايير رسمية ("الملكية"، وما إلى ذلك) ولكن على طابعها الحقيقي كتيارات بيروقراطية. يجب على الحزب الثوري أن يأخذ في الاعتبار هذه المعايير الأساسية، ويقترح ويناضل من أجل استبعاد جميع التيارات التي تعارض، صراحة أو لا، إدارة العمال للإنتاج والممارسة الكاملة للسلطة من قبل المنظمات الجماهيرية، من داخل المنظمات السوفييتية. على العكس من ذلك، يجب منح أوسع الحريات للتيارات العمالية التي تضع نفسها في هذا البرنامج، بغض النظر عن اختلافاتها حول النقاط الأخرى، مهما كانت أهميتها. إن الحكم والقرار النهائي في هذه المسألة، كما هو الحال في جميع المسائل الأخرى، سيكونان للمنظمات السوفييتية والبروليتاريا المسلحة. إن الممارسة الكاملة للسلطة السياسية والاقتصادية من قبل هذه المنظمات ليست سوى جانب واحد من قمع المعارضة بين القادة والمديرين التنفيذيين. وهذا القمع ليس قاتلا، فهو يعتمد على الصراع الحاد الذي سيحدث بين الميول الاشتراكية وميول الانتكاس نحو مجتمع استغلالي؛ وبهذا المعنى، لا يقتصر الأمر على عدم استبعاد انحطاط الكائنات السوفييتية بشكل مسبق فحسب، بل إن شرط التطور الاشتراكي موجود في محتوى النشاط البناء للبروليتاريا، الذي لا يشكل الشكل السوفييتي سوى إحدى لحظاته. ومع ذلك، فإن هذا الشكل يوفر الظروف المثلى التي يمكن أن يتطور في ظلها هذا النشاط، وبهذا المعنى فهو لا ينفصل. والعكس صحيح بالنسبة إلى ديكتاتورية «الحزب الثوري»، التي تقوم على احتكار الوظائف القيادية لفئة أو جماعة، وهي بالتالي، بقدر ما تتوطد، تتناقض تماماً مع تطور النشاط المبدع الجماهير وبالتالي شرط إيجابي وضروري لانحطاط الثورة.

الثقافة في المجتمع الانتقالي

إن بناء الشيوعية يفترض استيلاء البروليتاريا على الثقافة. وهذا التخصيص لا يعني الاستيعاب فحسب؛ الثقافة البرجوازية، ولكن قبل كل شيء خلق العناصر الأولى للثقافة الشيوعية. إن فكرة أن البروليتاريا قادرة على استيعاب الثقافة البرجوازية الموجودة على أقصى تقدير، وهي الفكرة التي دافع عنها تروتسكي بعد الثورة الروسية، هي في حد ذاتها فكرة خاطئة وخطيرة سياسيا. صحيح أن المشكلة التي واجهت البروليتاريا الروسية في أعقاب الثورة كانت قبل كل شيء هي استيعاب الثقافة القائمة - وليس حتى الثقافة البرجوازية، بل الأشكال الأكثر بدائية للثقافة التاريخية (النضال ضد الأمية على سبيل المثال)، وفي استيعابها. لا يوجد في هذه المنطقة قواعد نحوية ولا حسابية بروليتارية؛ لكن هذا المجال ينتمي بالأحرى إلى الشروط "التقنية" والشكلية للثقافة وليس إلى الثقافة نفسها. أما بالنسبة للأخيرة، فلم يحدث أبدا ولن يكون هناك استيعاب خالص وبسيط للثقافة البرجوازية، لأن هذا يعني استعباد البروليتاريا للإيديولوجية البرجوازية. لا يمكن للبروليتاريا أن تستخدم الإبداع الثقافي للماضي إلا في نضالها من أجل بناء شكل جديد للمجتمع بشرط أن يتحول في الوقت نفسه ويندمج في كلية جديدة. إن خلق الماركسية نفسه هو دليل على هذه الحقيقة؛ إن "الأجزاء المكونة" الشهيرة للماركسية كانت نتاجًا للثقافة البرجوازية، لكن تطوير ماركس للنظرية الثورية لم يكن يعني على وجه التحديد الاستيعاب الخالص والبسيط للاقتصاد السياسي الإنجليزي أو الفلسفة الألمانية، بل كان يعني تحويلهما جذريًا. كان هذا التحول ممكنا لأن ماركس وضع نفسه على أرض الثورة الشيوعية. إنه يثبت أن هذا المظهر الجنيني للثقافة الشيوعية المستقبلية للإنسانية كان يقع على مستوى جديد فيما يتعلق بالتراث التاريخي. تصميم . تروتسكي، الذي يرى أنه طالما ظلت البروليتاريا بروليتاريا، يجب عليها أن تستوعب الثقافة البرجوازية، وأنه عندما يمكن خلق ثقافة جديدة، فإنها لن تظل ثقافة بروليتارية لأن البروليتاريا لن تكون موجودة كطبقة، هو على الأكثر دقة المصطلحات. إذا أخذنا ذلك على محمل الجد، فهذا يعني إما أن البروليتاريا يمكنها أن تحارب الرأسمالية عن طريق استيعاب الثقافة البرجوازية دون تشكيل أيديولوجية تناقضها، أو أن الأيديولوجية الثورية ليست سوى سلاح مدمر بدون محتوى إيجابي ولا علاقة له بالثقافة الشيوعية المستقبلية. الفكرة الأولى تدحض نفسها؛ والثاني يعكس الافتقار إلى فهم ما يمكن وما ينبغي أن تكون عليه الأيديولوجية الثورية، بل وحتى مجرد أيديولوجية. إن النضال ضد الأيديولوجيات الرجعية والتوجه الواعي للصراع الطبقي يفترضان تصورًا إيجابيًا بشكل أساسي للمشاكل التي تواجهها الإنسانية، وهذا التصور ليس سوى أحد التعبيرات الأولى عن الثقافة الشيوعية المستقبلية لرابطة. من الواضح أن هذا الموقف لا علاقة له بالسخافات والثرثرة الرجعية للستالينيين حول "البيولوجيا البروليتارية"، و"علم الفلك البروليتاري" والفن البروليتاري في زراعة الملفوف. بالنسبة للستالينيين، فإن هذا التشويه المخزي لفكرة الثقافة الثورية ليس سوى وسيلة أخرى لإنكار الواقع وتشويش الجماهير. إذا كانت البروليتاريا، من خلال الاستيلاء على الثقافة القائمة، تخلق في الوقت نفسه أسس ثقافة جديدة، فإن هذا يعني ضمنا موقفا جديدا للمجتمع البروليتاري تجاه التيارات الإيديولوجية والثقافية. فالثقافة ليست أبدا أيديولوجية أو توجها، بل هي كل عضوي، كوكبة من الأيديولوجيات والتيارات. إن تعدد الاتجاهات التي تشكل الثقافة يعني أن حرية التعبير شرط أساسي لاستملاك البروليتاريا للثقافة بشكل إبداعي. إن التيارات الأيديولوجية الرجعية التي لن تفشل في الظهور في المجتمع الانتقالي يجب مكافحتها، بقدر ما يتم التعبير عنها على الساحة الأيديولوجية، بالأسلحة الأيديولوجية وليس بالوسائل الميكانيكية التي تحد من حرية التعبير . من الصعب في بعض الأحيان العثور على الحد الفاصل بين التيار الرجعي الإيديولوجي والنشاط السياسي الرجعي، لكن سيتعين على دكتاتورية البروليتاريا أن تحدده في كل مرة تحت طائلة الانحطاط أو الإطاحة."

***

كاتب فلسفي

................

نشر في مجلة الاشتراكية أم الهمجية العدد 10 (يوليو 1952).

1. يأخذ الماركسيون على الفلسفة الظاهراتية المثالب التالية:

انها فلسفة لا زمانية خارجة عن التاريخ فهي لا تستطيع فهم العلاقات الانسانية على حقيقتها. بوصفها علاقات ديالكتيكية تنجم عن عصور مختلفة من حيث التقنية والانتاج والعمل.(عن زكريا ابراهيم).

في تعقيب مقتضب جدا نجد ان تاريخ الفلسفة عموما من حيث هو محكوم بتحقيب تاريخي- زماني فهو بالحتم يكون لا زمانيا صرفا كونه تجريد لغوي لا مادي تحكمه تراكم الخبرة التاريخية العابرة لزمانيته. كما ان الديالكتيك بالمفهوم الماركسي ليس هو المسار او المنهج الوحيد الذي يحكم التطور التاريخي المادي وغير المادي. والعلاقات الانسانية عبر العصور لا يوجد اكثر من تنظير ديالكتيكي واحد يطوّعها كوقائع في محاولته تلبيس تلك العلاقات المنهج الجدلي الديالكتيكي. التاريخ في مساره الاعتباطي العشوائي لا ينتظمه منهج تطوري واحد مرسوم سلفا يحتوي وقائع تاريخه. لا ديالكتيكيا جدليا ولا ليبراليا راسماليا. في عبارة سابقة لي قلت ان عشوائية التاريخ التي تلعب بها الصدف غير المتوقعة غير المسيطر عليها انما تجعل من التاريخ مسار تصحيح اخطاء البشر.

- كما تتهم الماركسية وهي محقة كونها محكومة بالفلسفة المادية التاريخية ان ظاهرية هوسرل (الفينامينالوجيا) عاجزة عن كل عنصر اجتماعي وكل عنصر تاريخي الى حد وصل باحد الماركسيين قوله ان الوعي لدى هوسرل ليس وعيا منخرطا في الواقع ولا وعيا متضمنا في التاريخ. وهوسرل حسب ادانة الماركسية له يمجد بافراط شديد مرجعية (الانا). ( عن زكريا ابراهيم).

ايضا في تعقيب مقتضب نجد هوسرل يناقض نفسه ظاهراتيا بالقول ان الواقع حصيلة وعي جمعي قصدي وهو تعبير صائب لا يتناقض مع الادبيات الماركسية. الانا لا تجد ذاتيتها حسب تعبير هيدجر تلميذ هوسرل الا في وجودها – في – عالم. وهي قصدية هادفة تنسجم مع مجتمعية الماركسية و تعارض فينامينالوجيا هوسرل الانفرادية المنعزلة مجتمعيا حول تمجيده الانا في تجريد يستنسخ رؤى ديكارت من حيث الانا جوهر انساني منفرد بمكنته تحقيق وجوده الانطولوجي بالفكر.

2. الانسان كائن ميتافيزيقي

استذكر قبل دخولي في تفاصيل عنونة هذه الفقرة تثبيت مقولة هيدجر الفلسفية الساذجة (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا) إذ من البديهيات عدم وجود لغة بعدية بغياب عقل قبلي سابق عليها.

أجد الانسان كائنا ميتافيزيقيا بالفطرة الضرورية لانسنة الانسان وجوده الذاتي المتفرد عن باقي كائنات الطبيعة. ميتافيزيقا الانسان ليس محركها البحث عن معرفة وادراك (الاله) او الخالق او حاجة الوجود الانساني الى ميتافيزيقا التديّن وكلاهما هدفان لا تنكرهما الميتافيزيقا الخوض فيهما فلسفيا.. بل كل تفكير انساني عبر العصور في مختلف القضايا التي تعترضه ويعيشها أما أن يختار التكيّف المغلوب على أمره معها أو الاحتدام التصارعي في فرض ارادته الذاتية عليها..

أنسنة الانسان بميتافيزيقا الروحانيات والتصوفيات الدينية أي في محاولته التسامي فوق الوجود المادي في تعطيل احساسات البدن وفي تعطيل فاعلية العقل المحدودة بالمدركات التي تشكل لديه موضوعات موجوديته الارضية كفرد ضمن مجتمع. بعض جوانب المباحث الميتافيزيقية الخاصة بالاديان واللاهوت تكون خاصيتها تغليب النزعة الدينية ولا ارى ضررا بذلك. سواء اكان الانسان هو مخترع دينه والهه بعلاقته بالطبيعة حسب فلسفة فيورباخ  في محاولة الانسان معرفة وجوده الارضي بدلالة ميتافيزيقا السماء.

او سواء أن يكون الانسان معطى ديني روحاني تكون فيه ميتافيزيقا التفكير اللاهوتي عموده الفقري. اي كما في تعبير الوجودية الانسان وجود طاريء وأجد بناءا عليه يكون التدين في حياته ملازما طارئا ايضا محكوما به الانسان.

ميتافيزيقا التفكير عند الانسان سواء اكان خرافيا اسطوريا وثنيا او تدينا روحانيا عاصر الانسان طويلا فهي أي ميتافيزيقا التفكير الديني عموما بالنتيجة كان ضرورة حياتية قديما جدا وضرورة نفسية يحتاجها الانسان حاضرا.أنا هنا اتجاوز نظرية علماء الفيزياء والفلك ان لا مستقبل للفلسفة امام تقدم فتوحات العلم.

 حين تقودنا الميتافيزيقا الوصول الى الايمان الديني التوحيدي المعاصر فهي عندها  لم تعد ميتافيزيقا إعدام علمية تفكير العقل من جهة ولا إعدام أهمية حياة الانسان الارضية من أجل أهداف غيبية يتأمل حصوله عليها في عالم ما بعد الفناء الارضي.

3. الوعي اللازماني

تعودنا أن نفهم الشعور أو الوعي أن يكون زمانيا بالضرورة الادراكية في وحدة الزمكان غير القابل للتجزئة ولا الانفصال على نفسه. بمعنى أن تدرك المكان من غير ملازمة الزمن الافتراضية فرضية خاطئة تقوم على تعجيز العقل ان يدرك المكان مجردا عن زمانيته.. هذا الفهم الفلسفي الدارج تاريخيا بغض النظرعن مدى صحة البرهنة عليه.

سبق لبرجسون التنويه الى مثل هذه الفرضية التي تذهب الى أن الادراك هو ادراك ثنائية اندماج الزمان والمكان في وحدة كلية غير قابلة للتجزئة هي الزمكان. وقال برجسون بسخرية أن إدراك المكان لا يحتاج الزمن. ومن المهم التنويه الى ان فرويد سبق له ان قال اللاشعور اي اللاوعي لا يحتاج الزمن. وقد عالجت توضيح هذه المقولة في مقالة سابقة لي. ولم يقل فرويد بما ذهب له برجسون لاحقا ان الشعور او الوعي الادراكي اليقظ غير الحلمي لا يحتاج الزمن. كونه فيلسوف وليس عالم نفس.

لما كان من البديهيات التي تؤكد لنا الزمن على الارض وفي الكوني ليس موضوعا مستقلا للعقل ولا نمتلك وسائل معرفتنا لصفاته الخارجية ولا امكانية معرفته ماهويا أي جوهرا لذا يكون من المباح أن ننكر الزمن كجوهر يحتوينا ويحتوي عالمنا الخارجي بموجوداته دونما وعينا الادراكي به. بعبارة صادمة الزمن وجود افتراضي غير موجود. حتى حين نقول هو دلالة ادراكية لمعرفتنا الاشياء وموجودات عالمنا الخارجي يصبح أمرا مشكوكا به.

4.هوسرل ولا زمانية الشعور

بعد إختراع مصطلح الوعي القصدي الذي اصبح شماعة من يريد الطعن بديكارت  اصبح الوعي الفلسفي كما سبق وذكرته بمقالة سابقة لي ثلاثة انواع من التراتيبية التصنيفية الزائفة هي الوعي بمفهومه الفلسفي العام الذي اعتقد به لا يوجد غيره من انواع الوعي مثل الثاني الرائج فلسفيا هو الوعي القصدي ثم ثالثا الوعي الخالص. حينما اقول لا يوجد غير مصطلح الوعي فبه ينتفي ان يكون ملزما له القصدية ولا ان يكون تعاليا صوفيا يسمى الوعي الخالص. الوعي لا وجود له من غير موضوع.

عمد هوسرل الى لعبة ربط القصدية بالشعور واعتبر هذا الربط كافيا لان نقول الشعور وليس اللاشعور هو لازماني. ماذا فعل بهذا اللامنطق الفلسفي هوسرل؟

- قام بتعطيل الادراك العقلي للاشياء كون العقل يحكمه الشعور الادراكي وليس اللاشعور.

-  جعل كلا من الشعور واللاشعور لا زمنيان وهي قضية فلسفية خلافية.

- اذا كان وسبق لفرويد ان ادعى ان الفعاليات التي يقوم بها الشعور هي نسبة واحد بالعشرة بالنسبة لفعالية اللاشعور الذي اعطاه نسبة تسعة بالعشرة في تمشية حياتنا الانسانية سلوكا طبيعيا. لو صح انتساب هذا الافتراض التعسفي لفرويد مقبولا لترتب على ذلك اخطر قضيتين بالحياة هما :

1. ان الواقع الذي نعيشه ويتحكم به اللاشعور بنسبة تسعة من عشرة هو واقع خيالي زائف والواقع او الوجود الحقيقي هو غير وجودنا الارضي هذا. علما ان افلاطون قال بذلك ونيتشة ردده بتاكيد لا رجعة لنا عنه أو التشكيك به. الطريف اعتقد جازما انه لم يعد يؤخذ اليوم بصواب هذه الافتراضية الخاطئة.

2. ان ادراكنا الاشياء في حال مساواتنا بين الشعور واللاشعور بخاصية انهما كلاهما لازمنيان عندها يكون معنا ادراك العقل للمكان لا يحتاج ملازمة زمنية. فرضية صحيحة منطقيا رغم ان تاريخ الفلسفة يذهب عكس ذلك اي تخطأتها. أنه لا إدراك للمكان من غير ملازمة زمانيته له.

5. الوعي القصدي

القصدية لدى هوسرل هي خاصية ان يكون كل شعور شعورا بشيء حسب تعريف هوسرل. ونرى ان الشعور لا يتحقق حدوثا ما لم يكن ملازما موضوعه. الشعور هو ادراك الذات لوجودها بمحايثة ادراكها لمواضيعها في عالمنا الخارجي.

 بهذا يكون تحصيل حاصل تحقق الشعور قصديا هو في تحقق ادراكه لموضوع. تحقق الشعور هو في وعيه لموضوع. لذا تنتفي صفة تحقق الشعور بغياب او عدم ادراك قصدي في التفكير بشيء له معنى وهدف.

وحين نقول ان لازمانية الشعور تكون في حال الزامنا ان يكون قصديا. وبالمعنى الذي مررنا به نعيد التذكير بان قصدية اللاشعور نحو السعي لتحقيق هدف مسبق هو تحصيل حاصل لكل شعور انفرادي منتج في مجتمع.

ويكون الشعور لازمنيا وهذا محال في تحقق الادراك الحقيقي حينما يكون هدفه القصدي ادراك المكان بمعزل عن الزمان . بتعبير آخر تفكيك ادراك وحدة ثنائية الزمكان هو المحال في تحقق الادراك الفلسفي.

قد يبدو غريبا حين نعتبر استحالة ادراك المكان من غير ملازمة زمانية له ما يترتب عليه ان لا يكون الشعور القصدي لازمانيا. الادراك الحقيقي الذي اعتمدته الفلسفة عبر عصور طويلة ولحد يومنا هذا انه يتعذر ادراك المكان موضوعا مستقلا عن زمانيته. علما ان الغرابة اننا نعجز اثبات هذه المقولة من حيث اننا نعجز ادراك الزمان موضوعا مستقلا كما هو حال ادراكنا المكان.

مصطلح الزمكان هو التوليفة التي لا انفكاك يطالها هي لا زمن ادراكي لمكان بغير توليفة تعشيق الزمكان. ليس هناك من حاجة تدعونا الزام الشعور – هنا نستعمل مصطلح الشعور المرتبط علم النفس علما ان المرادف للشعور هو الوعي المرتبط بالعقل وليس بالنفس -  ان يكون زمانيا وهو في طبيعته اللائقية بالمكان هو خاصيته الزمانية.

 الزمان ملازمة غير متموضعة تكوينيا بالمكان. بمعنى في حال اقرارنا بثنائية الزمكان يكون الزمان دلالة ادراك محايد في استدلالنا معرفة الاشياء والموجودات. حينما نتداول تعابير ومصطلحات لمعنى واحد مثل الوعي، الشعور ، الادراك فهي تعابير عن طبيعة وخاصية امتلاك القصدية.

كيف وهل يتسنى لنا اثبات عدم قابلية الشعور ادراك المكان من غير ملازمة زمانية؟ في المتداول فلسفيا الجواب لا . لكن العبرة تكمن في البرهنة على صحة ما ندعيه. سبقت الاشارة الى سخرية برجسون من عدم تحقق ادراكية المكان بمعزل عن الزمان مؤكدا انه لا وجود لزمن يلازم مدركاتنا المكان. وايضا ما يؤخذ على هذا الطرح استحالة البرهنة على صحة هذا الادعاء.

6. الشيء فكرة

من اروع عبارات الفيلسوف الاميركي سيلارز مقولته (الوجود لغة).

المعلومة الفلسفية التي تذهب الى أن الشيء فكرة تؤكد أهمية العقل في تخليقه لمدركاته الحسية، والعقل لا يكون محايدا في إدراكاته الاشياء والمواضيع، بل هو يقوم بتخليق وجودها، محاولا إنتشالها من وجودها الطبيعي الانطولوجي ألمنسي، الى وجود مغاير جديد حيوي يدركه العقل ليس لمجرد إدراكه وليس في كيفية إدراكه ،بل في قصدية العقل من فاعلية هذا الإدراك. اي لماذا يدرك العقل هذا الشيء دون غيره. ومقولة ديكارت "العقل قسمة مشتركة عادلة بين البشر" لا يعني هذا أن العقل واحد مشترك عند كل البشر في تجلياته ومعطياته وتفكيره وإبداعاته، بل المقصود أن عقل الانسان إمتياز نوعي يختلف عن باقي موجودات الطبيعة من جهة، ونوعي أكثر خصوصية أنه مختلف أشد الإختلاف بين شخص وآخر داخل النوع البشري الواحد.

لم يكن ديكارت هو الفيلسوف الوحيد في إختراعه منهج الشك وضرورة إعمال العقل في معرفة الوجود كاملا، وإستثنى العقل من الايمان الديني، ومثله فعل شوبنهاور، هيوم، لوك، وليم جيمس، وجون ديوي، هؤلاء جميعهم ذهبوا الى وجوب فصل الايمان الديني عن مجمل معاملة مواضيع الفلسفة وقضايا الوجود بالمنهج العقلاني، وأن تصدي العقل لمسائل الميتافيزيقا هو ضرب من العبث واللاجدوى أن يقود الى نتيجة. وإنما يكون الايمان التسليم المطلق الذي يكون مصدره القلب. وهذه النظرية الفلسفية تعتمدها الاديان وتشرحها بتفصيل النزعات الصوفية من أن حدود العقل تتوقف نهائيا في قفزة المتصوف من موقع الوجود الانساني الى موقع الوجود المتسامي الروحي في محاولة الاتحاد النوراني.

يذهب جون سيرل الى أن المضمون القصدي الذي هو الموضوع في المعنى البنيوي ليس هو ذاته الموضوع في المعنى القصدي. وهكذا يفرق سيرل بين أن التجربة الادراكية إنما تقوم على موضوع يتخذ صفته ومعناه الوجودي- البنيوي في ممارسة تجربة الادراك عليه، فالموضوع وجود مستقل لا علاقة تربطه وجوديا بإدراكه هو للانسان.الفلسفة  هي تفكير عقلي باللغة لمعرفة حقيقة الانسان بالوجود.

مفهوم هيرقليطس كل شيء في حالة من الصيرورة الدائمية إنما هو ضمنا ألغى أن يكون لأي موجود كيانا انطولوجيا ثابتا. الوجود بمحتوياته الموجودية هي حالات من تغيرات دائمية، والموجودات قد تتبعثر وتتغير وبعضها يتلاشى في مكون مادي يحتويه، لذا نجد بارمنيدس الذي يرى كل موجودات العالم ثباتا يلازمها، ويقر بارمنيدس أن للوجود وجود قائم بذاته يمكن إدراكه بغض النظر عن حركة موجوداته فيه التي هي ثبات.

الخطأ عند الانسان طبيعة فطرية في تكوينه، وليس الخطأ الحرية بإتخاذ القرار، عليه يكون حصولنا على ذات إنسانية يملؤها الخير، تكون في توقعاتنا أن الانسان خّطاء.من العسير علينا تصور الانسان موجودا غير محدود القدرات والارادة، وهذا لا يعني الانسان ليس مسؤولا عن أخطائه، والاخطاء ليست عفوية تتلبس الانسان من المحيط الخارجي.

تأويل النص في متابعة فائض المعنى يدخل النص في فوضى الهوامش التي بلا معنى. الأصل في النص معنى متعدد القراءات لكننا يجب الحفاظ على ما يدّخره من معنى أصيل لا تكتشفه القراءات العددية الكميّة بل تكتشفه القراءات النقدية النوعية.

فوضى أفكار نيتشة الفلسفية التي لا ينتظمها المنهج هي إنتقالات متقافزة في فوضى تغييب المعنى غير الماثل لا في النص ولا في خارجه، لذا يبقى الاجتهاد بقراءة نيتشة هي قراءات يحتويها المزاج المتشظي خارج صرامة منطق العقل الفلسفي المنّظم.ربما لا نخطيء التعبير حين نقول ليس من واجب الفلسفة قول كل شيء في تناسيها أن تقول شيئا واحدا يغني عن قول كل شيء.اختم بالقول ان التفكير المادي يخلق التجريد (التخليقي) في الاشياء اي تغييرها في حين لا يستطيع التجريد اللغوي (خلق) المواضيع او الموجودات المادية المستقلة ادراكيا.

***

علي محمد اليوسف

العديد من الناس أخذوا فكرة غائية الكون من الدين. ما يحدث في هذا الكون، كما تذكر القصة، هو بالتأكيد تعبيرعن رغبة الله. ومع تطور العلم، جرى استبدال فكرة الكون المنظّم من الله بفكرة الكون المنظّم بقوانين الفيزياء اللاواعية. تلك القوانين، كونها غير واعية فهي فارغة من الهدف. قوتها التنظيمية هي ايضا ليست خارجية عن الظواهر المنسجمة معها. وكما عبّرت هيلين بيبي Helen Beebee استاذة الفلسفة في جامعة ليدز، ان القوانين الفيزيائية ليست "قبلية ولا هي تراقب المادة لتتأكد من عدم خروجها عن الخط" (فلسفة وبحث فينومينولوجي 61،2000). الأحداث هي ببساطة نماذج او عادات للعالم الطبيعي المنكشف،غير مسترشدة بغرض كوني.

غير انه بالنسبة لبعض المفكرين إنتعشت امكانية الغرض الكوني من جديد بواسطة العلم الذي بدا كأنه قتلها. هذا الانبعاث يتجذر في الإكتشاف بان قوانين الفيزياء يجب ان تكون مضبوطة بدقة لدرجة غير متخيلة لأنه يجب ان يكون هناك كون يمكنه ان يولّد ويديم الحياة (او حتى التعقيدية الكيميائية التي سبقت الحياة). مدى الدقة في ضبط الكون تتضح بكمية الطاقة المظلمة في الفضاء الفارغ – او ما يسمى الثابت الكوني او "طاقة الفراغ"- يجب ان تكون أكبر من صفر ولكن ليس أكثر من10-122 units   . هذا يُعد ضروريا لضمان ان لا ينهار الكون على ذاته او يتحطم الى أشلاء قبل ان يتكتل على شكل كواكب قابلة للحياة. الفيزيائيون، ومنذ عقود وجدوا ان تغييرا بسيطا  في القوانين الاساسية للطبيعة ستجعل امكانية وجود حياة مستحيلة. حجة الضبط الدقيق هذه fine-tunning ،ترى ان حدوث الحياة في الكون حساس جدا لقيم معينة للفيزياء الاساسية، بحيث ان إجراء تغيير بسيط في أي من هذه القيم سوف يحول دون وجود حياة. الفيزيائي لوك بارنس Luke Barnes وجد ان احتمال ضبط الكون للحياة هو واحد في 10135.

البعض يرى ان هذا يشير الى ان الاشياء في الكون ليست مسألة حظ. الأشياء يجب ان تكون قد تم التحكم فيها. فيليب جوف Philip Goff استاذ الفلسفة في جامعة دورهام البريطانية يجادل لأجل "غرض كوني، وهي الفكرة بان الكون موجّه نحو أهداف محددة، مثل ظهور الحياة " ووجود القيمة. جوف يرفض بقوة الإله المسيحي التقليدي بينما يدعم حجة الضبط الدقيق "fine-tunning argument" . يرى جوف انه  من غير المحتمل لكون مثل كوننا، الذي يحتوي على الحياة والوعي والقيمة ان يأتي الى الوجود بدون ان نفترض ان هناك غرض معين كان قيد العمل. ويضيف ان لا شيء مؤكد، لكن ميزان الدليل يفضل الإيمان بغرض كوني.

 يطور جوف هذا الاقتراح في كتابه (لماذا؟ غرض الكون،2023). طبقا لفكرة "فرضية اختيار القيمة"، هناك على الأقل بعض الأرقام الثابتة في الفيزياء" هي كما هي لأنها تسمح للكون ان يحتوي على أشياء ذات قيمة هامة"(ص20). تلك "الاشياء ذات القيمة الهامة" تتضمن الكائن البشري، وكل ما هو ضروري لتمكينه من البقاء والنمو.

بعض المفكرين المؤمنين، يرون ان هذا يجيزعودة الله بعد اكثر من قرن من النفي  بعد انتشار الثورة العلمية وامتدادها الى الثقافة. ولكن ليس بالنسبة لجوف الذي يذكّرنا بمشكلة الشر. هو يرى ان ما يسميه "حدس الخطيئة الكونية" – فكرة انه من غير الاخلاقي للقادر الكلي خلق كون ككونا مليء بالمعاناة – يستبعد وجود إله، او إله يجمع بين القدرة والخير.

أهداف روحانية شاملة

يستخدم جوف رؤاه في علم النفس الشامل panpsychist لدعم حجته في الدفاع عن غرض كوني. الكون،كما يقول، صُنع من جسيمات أساسية تتمتع كل واحدة منها بوعي بدائي وقوة بدائية بحيث تكون "متحررة من طبيعتها الخاصة كي تستجيب بعقلانية لتجربتها". دافع جوف عن الروحانية الشاملة في خطأ غاليلو: اسس لعلم جديد للوعي. حجته المركزية هي ان الشيء المادي الوحيد الذي نعرفه من الداخل (والذي نستطيع الوصول الى سماته الباطنية) هو دماغنا، وهذا الشيء هو بالطبع واعي. من هنا هو يعتقد من الجائز الاستدلال ان الوعي متجسد عالميا في المادة. الوعي بُني بشكل ما في طبيعة المادة منذ البدء وهو ما يُعرف بـ الـ panpsychism. هناك عدة صعوبات في هذه الحجة. من بينها صعوبة فهم التمدّد من أدمغتنا الى الكون بحجمه الأوسع. هناك ايضا ما يسمى مشكلة "تجميع الشيء" subject-summing problem: كيف ان بلايين من حالات الوعي الجسيمي من المفترض ان ترتبط بجسيمات أساسية تُضاف الى الوعي الكلي للاشياء مثل أنا وأنت؟

هذه القضايا الشائكة لم تمنع جوف من بناء روحانية شاملة واحتضان اطروحته المركزية في لماذا؟. هو يدّعي، انه مع الوعي يأتي الغرض. قوانين الطبيعة لها أهداف بُنيت فيها، وتلك الأهداف يمكن ان تكون عالمية بسبب ان الوعي هو ايضا عالمي: "مادة مضبوطة بدقة وعقلانية منسجمان مع بعضهما مثلما ينسجم المفتاح مع القفل". الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل ستيفن وينبيرغ كان ادّعى "كلما فهمنا الكون أكثر، كلما بدا بلا معنى" هنا تنقلب الفكرة رأسا على عقب.

تطبيق فكرة الهدف على كلية الاشياء يتطلب الإختبار. من الواضح ان هناك مشكلة "تجميع الغرض"  purpose-summing مشابهة لـ "مشكلة تجميع الشيء". المنطق الشائع للغرض من الكون هو الكائنات الواعية الفردية، التي حتى لو سمحنا بالروحية الشاملة، فهي لاتزال كيانات مبعثرة صغيرة جدا بدلا من ان تكون بدرجة كافية في كون معظمه فارغ، والذي في حالة الكائن البشري هو اوسع بـ 130000000000000000000 مرة. كذلك، العديد من خصائص الغرض كما تجسدت في المخلوقات البايولوجية (مثلنا)، هي غير منسجمة مع فكرة العالمية. تعبيرات الغرض في حياتي – وفي حياتك – هي محلية وقصيرة الأمد وعادة ما تكون متصارعة. انها تتصل بالحاجات الواقعية والمتخيلة للفرد الذي يقع في  نقطة صغيرة من الواقع . من الصعب رؤية كيف لغرض كوني موحد ان يكون مشتتا ومتناثرا. وما هو اكثر، ان غرضنا الشخصي يأتي ويذهب: لا غرض شخصي يستمر من أول صوت الى آخر نفس عميق. هناك ايضا تصادمات سواء ضمن الاشياء الواعية المدركة لأفضلياتها  الداخلية المتصارعة، وبين الاشياء الواعية التي تضعها محاولاتها للنجاح في تضاد مع بعضها البعض، مثل نجاحي هو فشلك وبالعكس. واذا كنا نفكر ببناء هدف شمولي من مجموع مختلف المعاني التي تشغل حياتنا في مختلف الأزمان، ذلك يجب ان يتم فقط عندما تكون تلك الحيوات تامة وبالتالي على وشك ان تتوقف – حينذاك تُضاف الى الكلية.

الفكرة المريحة بان حياتنا الفردية يمكن الحكم عليها كمساهمة بالصورة الأكبر لتقدم الانسان نحو عالم أفضل تبدو هشة جدا. بالنظر لأخطار تقلبات المناخ التي لا يمكن إبطالها، وتصاعد التهديدات بحرب نووية، فانه يبدو من الصعب ضمان تقدمنا اللامتناهي.

إلتباسات كونية

لو نظرنا وراء حياة الانسان الى الحياة بشكل عام، فان غرض الوعي يظهر بطريقة غريبة كأنه غائب عن الوصف الدقيق للتحول من كائن ذو خلية واحدة الى مختلف الحيوانات الثديية - الدارونية الجديدة.هدف الكائنات الفردية يتصادم مع تلك الكائنات الاخرى اما كمنافسة او مجرد العيش جنبا الى جنب، في سعيها لأغراض غير متصلة . من الصعب رؤية الفريسة والمفترس يشتركان بهدف مشترك. كذلك، التمييز بين الكائنات الحية وبيئاتها يحصر الغرض في الأولى وليس في الأخيرة وهو يتعارض مع فكرة التوزيع العادل للغرض في جميع الكون. في المسار من الذرات الى المعادن، ومن هذه الى اولى خيوط الحياة، نجد آلية العشوائية وآلية اللاوعي هما أكثر وضوحا من الغرض.

باختصار، الرؤية للكون الذي يعبّر عن هدفه في ظهور الحياة والكائنات الرشيدة تبدو ملتبسة.

المسألة هي: ان فكرة الغرض الكوني تزيل فكرة الغرض من الأماكن التي تكون فيها فكرة الغرض واضحة، او في الحقيقة من أي غرض. الأغراض كما تُفهم ترسخت في الحيوات او في جزء من الحيوات. انها توجد بشكل رئيسي بمقدار ما تنال القبول من جانب الاشياء الواعية او جماعات من هذه الاشياء، حتى عندما "تستقر في قعر"(حسب تعبير ماكس شيلر) المؤسسات الاجتماعية، او في المناظر الطبيعية الواسعة للفن التي يخلقها الانسان لمساعدته في حياته. الأغراض لها غايات مقصودة لكنها سيئة التعريف. لا شيء من هذا ينطوي عليه الغرض الكوني مالم يكن هذا الغرض متناسق في وعي إلهي وهو ما يرفضه جوف. هذا يعني ان "الغرض" لا يمكن تخصيصه ليشير الى كلية أشياء بدون خسارة المعنى.

حتى عندما يكون  قبول فكرة كون مضبوط بدقة يحقق غرضا مقرر مسبقا في التحول من الجسيمات الأولية الى قرّاء هذا المقال، فان السؤال حول تنفيذ الغرض المذكور لايمكن تجنبه. جوف يبدو مطلعا على هذا وهو يعتنق العمومية، التي بموجبها يتجسد الغرض من خلال الوكالة " أصل الوكالة يتجسد في المستوى الأساسي للواقع". هذا، فقط يفاقم مشكلة توحيد الأغراض الفردية المتصارعة والمؤقتة والمحلية في نقطة شمولية للكون. وهناك، بالطبع، عدم معقولية نسبة ليس فقط وعي المكونات الاساسية للعالم المادي لذاتها وانما ما يحدث لها لكي تستطيع استخدام اتجاهها في السفر بهدفية. جوف لا يرى هذه مشكلة: هو ينظر حتى الى الجسيمات الاولية باعتبارها مملوئة "بالميول الواعية" طبقا لرائد الموجات ديفد بوهيم الذي اقترحها لفهم عدم تحديدية الكوانتم. وكما لو ان هذه ليست سخرية، يعتنق جوف "النفسية الكونية الغائية" مجادلا انه "اذا كان الكون في اول جزء من الثانية ضابطا لنفسه بدقة لكي يسمح لظهور الحياة بعد بلايين السنين في المستقبل، هذا يعني ان الكون يجب ان يكون واعيا بهذه الإمكانية، لكي يتصرف بطريقة تؤدي اليه".

يعتقد جوف ان الدليل على الغرض الكوني "يمكن ان يعطينا أملا بان المعنى الذي تمتلكه حياتنا ليس وهما". لسوء الحظ، أي فتات من الراحة يعرضها كون مضبوط بدقة لا تبدو مقنعة كليا. بالنهاية، الأكثرية العظمى مما يوجد من كون هو ليس فقط غير مسكون وانما غير صالح للسكن من حيث المبدأ، وبالتالي فارغ من الغرض كما يُفهم عادة. وما هو أكثر ادانة لكون جوف المتفائل، ان التقدم الحديث في الفيزياء(كما عُرض في ورقة هامة لفريد آدم، "درجة الضبط في كوننا وغيره"،تقارير فيزياء،2019) ، أشارت الى ان "الكون وبشكل مدهش مرن في خصائصه الأساسية وانه "ليس المكان الأمثل تماما لظهور الحياة". لذا ربما لم يضعنا الكون في ذهنه ابداً، ونحن لسنا مساهمين بدون قصد في تحقيق غرضه. وحتى لو كنا، سيكون من الصعب ان يكون مصدرا للراحة لو لم نعرف ذلك الغرض.

***

حاتم حميد محسن

..................................

المصادر

1- هل الكون له هدف؟ Philosophy Now, June/July2024

2- لماذا؟ الغرض من الكون،فيليب جوف، صحيفة الغارديان البريطانية 28 ديسمبر 2023. 

 

تمهيد: علاقة الزمن بالاشياء علاقة ادراكية محايدة بالدلالة المعرفية لا يقوم الزمن بها بل بدلالتهما المتواشجة معا "الزمن والاشياء" ندرك العالم والطبيعة والموجودات .

علاقة الزمن بالاشياء ليست علاقة جدلية ديالكتيكية. بل هي علاقة ادراكية معرفية فقط كون الزمن محايد في عملية الادراك. ادراك الشيء موجودا حسيا او خياليا تسبق معرفته والوعي به عقليا. الادراكات الحسية هي نقل انطباعات ادراكات الحواس للاشياء في المرورالوقتي بالذهن وهذه الانطباعات الحسيّة هي مرحلة اولى على طريق المعرفة العقلية والوعي بالمدركات.....الوعي العقلي يسبق التعبير اللغوي عن المدركات. الوعي لافيزيائي مجرد ينتجه العقل المادي كما ينتج تفكير اللغة ولا غرابة بذلك.

الزمن لا يعي ادراك الاشياء بدلالته ولا الاشياء تدرك الزمن ذاتيا الا بدلالة ثالثة اخرى تكون وسيطا بينهما هو حركة جسم ما . حركة الشيء تعني ادراك دلالة الزمن ولذا يطلق سقراط على الزمن انه مقدار حركة جسم او شيء لكن الزمن في ماهيته الجوهرية غير المدركة عقليا ليس حركة.. الوعي يدرك ذاتيته من خلال محايثة موضوعه له والوعي لازمني بالنسبة لادراك موضوعه.

الوعي القصدي والموضوع

حين لا نستطيع تعريف ماهو الوعي الا بدلالة غيره من حلقات سلسلة المنظومة الادراكية العقلية  التي تبدا بالحواس وتنتهي بالدماغ. فكيف يعي الوعي موضوعه ويدركه بالاحاطة به والتعبير عنه؟

مخترع الوعي القصدي بالفلسفة هو الفيلسوف السويسري هيرمان برينتانو 1831 – 1917 وهو عالم نفس ايضا. حاضر بالفلسفة وعارض النقد الكانطي وانصب اهتمامه على علم النفس. كان تاثيره شديدا على تلميذه ادموند هوسرل فيلسوف الظاهريات (الفينامينالوجيا) وبدوره اي هوسرل كان له التاثير الاقوى على فلاسفة الوجودية مارتن هيدجر، بول سارتر، ياسبرز، جبرييل، ميرلوبونتي واخرين جمعتهم الهجمة الشعواء التي شنوها على كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود حتى اصبحت مقولة ديكارت تفلسف  من لا شاغل له بالفلسفة.

ترك برينتانو اهتمامه باللاهوت المسيحي وغادر الكنيسة بافكارها وطقوسها الى غير رجعة. لكنه لم يتخل عن اهتمامه المركزي حول وجود الله  بمحاضراته في جامعتي تورنبورغ وفيّنا.

العبارة التي استوقفتني واسعدتني لبرينتانو لانها تطابق ما انا اؤمن به تلك هي (الوعي لا يصنع موضوعه ،بل موضوعه محايث دائم لوجوده)  ما اروعك يابرينتانو في عبارة لم يتوصل لها الا القليل من نوادر الباحثين بفلسفة الوعي من الفلاسفة الاميركان جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز إحتواهم مستنقع البحث في الوعي حتى قادتهم حيلة الخلاص من تعقيداته وتداخلاته مع فلسفة العقل وفلسفة اللغة وعلم النفس وعلم وظائف المخ لجوئهم الى الغموض في التناول البحثي حول الوعي.. وتناولت بدوري ذلك المبحث مع الثلاثة الاميركان وغيرهم في اكثر من مقال منشور لي خاصة عن جون سيرل.. حتى قادني ذلك تاليف كتابي (مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة) مع الاخذ بنظر الاعتبار تشارك ريتشارد رورتي مع جون سيرل الا اني تاثرت بطروحات جون سيرل الناضجة حول مبحث الوعي.

الجميل في عبارة برينتانو الفلسفية انه وضع الباحثين في فلسفة الوعي بندول ساعة متأرجحين بين كيفية ادراك الوعي هل هو موضوعا مستقلا للعقل ام هو وسيلة العقل الالمام بمعرفة موضوعه.؟ ام هو اختراع علم النفس السلوكي.؟

ترجم برينتانو ربطه الوعي بعلم النفس بتأثير تخصصه الاكاديمي كي يجعل من الوعي موضوعا علاقته بعلم النفس السلوكي ولا علاقة تربطه بمجمل المنظومة الفكرية العقلية. هذا التوجه الفلسفي جعل برينتانو يحاول تطويع فهم الوعي بضوء مرجعية علم النفس لا غيره بحكم تخصصه الاكاديمي الجامعي كعالم نفس ما جعل اهمية برينتانو الفلسفية تكمن في اختراعه مصطلح (الوعي القصدي). بمعنى الوعي الذي يعي هدفه في الموضوع الملازم له. الترويج الباذخ الذي حظي به برينتانو حول اختراعه مصطلح الوعي القصدي سانده بذلك تلميذه هوسرل ثم تلميذ هوسرل هيدجر لتنتقل العدوى الى فلاسفة الوجودية قاطبة. كان ذلك غمطا تاريخيا مجحفا لانتساب الوعي القصدي لاول مرة لصاحبه الفيلسوف (باور) المنشق عن هيجل مع شتيرنر وماركس وانجلز وفيورباخ وانجلز. ما يلفت الانتباه ان مصطلح الوعي القصدي الذي كان فاعلا شغّالا في الوجودية والماركسية اماتته تماما الفلسفة البنيوية التي انجبتها الحداثة.

كتابات الفلاسفة الاميركان الذين عنوا بفلسفة الوعي جون سيرل ورورتي وسيلارز وغيرهم لم ياخذوا عن برينتانو وجوب تفسير الوعي بعلم النفس السلوكي القائم على مرتكز الارادة الذاتية الفردية في تحصيل المعرفة وفي تاكيد الوجود انطولوجيا. بل اخذوا الوعي في مركزية فلسفة اللغة واللسانيات وفلسفة العقل ومباحث فلسفية اخرى معتبرين فلسفة برينتانو حول الوعي افل نجمها وانتهى تاثيرها مع افول نجم الوجودية بعد اكتساح الفلسفة البنيوية لها وازاحتها..

السلوك النفسي الذي ربطه برينتانو بالوعي لم يكن موفقا اذ السلوك هو ماتمليه حاجة الاشباعات النفسية المادية الخاصة بالعالم الخارجي وبحاجات الجسم الداخلية في تلبية اشباع احاسيس ما ترغبه الغرائز البيولوجية.

السلوك النفسي الذي جعله برينتانو دافع ومرجعية تصنيع انطلاقة الوعي جعله لا يهتم كثيرا بعلاقة ارتباط الوعي بسلسلة حلقات المنظومة الادراكية للعقل. ساعده هذا التوجه ان الوعي هو افصاح لغوي ادراكي تجريدي عن موضوع داخل الجسم او خارجه من دون ذكر اهمية مرجعية العقل في ارتباطه بالوعي. التي استبدلها برينتانو بمرجعية علم النفس السلوكي الذي تحكمه ارادة النفس في السعي لاشباع حاجات وغرائز الجسم القيمية..

لا بد هنا من التنبيه الى ان الوعي يختلف عن الادراك الحسي الذي هو نقل الحواس انطباعاتها عن العالم الخارجي للذهن عبر شبكة الاعصاب المعقدة. ويعتبر الادراك الحسي مرحلة اولى في تشكيل منظومة الادراك العقلية التي تنتهي بالدماغ في انتاجه الوعي القصدي المطلوب تجاه معرفة مدركاته.. الوعي هو رد فعل العقل بناتج مقولاته الواصلة اليه من الحواس على صورة انطباعات ذهنية يتولى جزءا خاصا من الخلايا العصبية في قشرة الدماغ تحليلها واعطاء ردوده الوعوية عنها.. لا الوعي ولا الذهن يمتلكان قابلية التفكير في معرفة ومعالجة الاشياء بدون الاستعانة بمرجعية مقولات العقل.

لا الحواس ولا الوعي ولا العقل يصنع مواضيعه المستقلة وجوديا بل المواضيع المحايثة لسلسلة منظومة العقل الادراكية موجودة باستقلالية في العالم الخارجي وعالم الجسم الداخلي قبل وصول الاحساسات والانطباعات الذهنية عن تلك العوالم للعقل والمخ تحديدا.

الوعي هو نتاج عقلي وليس نتاج نفسي منعزلا عن المنظومة العقلية البيولوجية للادراكات المعرفية. الشيء الاخرهيرمان برينتانو جعل معادلة الوعي- الموضوع ثنائية بالاسم فقط ولا وجود حقيقي في امكانية الفصل بين الوعي وموضوعه مثلما لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة كموضوعين غير مستقلين احدهما عن الاخر. الوعي محايثة تموضعية مع الموضوع. لانه نتاج عقلي وليس نتاج حسي ولا نتاج ادراك تجريدي. ثنائية الوعي وموضوعه هي بالتمام تعني ثنائية العقل بموضوعه.

ترجمة هذه النظرية لدى برينتانو تعود الى عبارته التي اشرنا لها بداية المقال ان موضوع الوعي محايث له ولا وعي بلا موضوع وهي مقولة فلسفية صائبة تماما.. لكن الوعي لا يمّوضع موضوعه المحايث له داخله كتكوين مادي في المدركات.  وتبقى مقولة الوعي هو موضوعه صائبة من حيث الوعي لا يعمل في فراغ وجودي كما حاوله ادموند هوسرل..

لكن طالما الوعي هو تجريد العقل عن موضوع يحدده العقل وينفذه الوعي ولا يصنعه الوعي عندها يصبح مساواة الوعي بموضوعه غير وارد. فالوعي تجريد يعبّر عما هو مادي بما يمليه عليه العقل. برينتانو رغم خلفيته كعالم نفس الا انه يعتبر الوعي لا يحتوي على احداث او حالات ذاتية سايكولوجية بل يتضمن ايضا موضوعية غير واهمة وليست من صنعه، لكنها في الوقت ذاته تنتمي اليه لانها تظهر فيه ناتجة عن مصدر الوعي. نقلا عنه نصا وهي عبارة معقدة.

فرضية برينتانو الفلسفية حول موضوعية الوعي (المادية) يعتبرها تصنيع سايكولوجي سلوكي وليس تصنيعا عقليا بيولوجيا غير صحيحة. فالوعي إلمام ادراكي تجريدي لغوي في التعبير عن مدركات مواضيعه المادية والخيالية ليس من اجل ادراكها كما تفعل الحواس بل من اجل معرفتها وتغييرها.. الوعي هو محصلة تفكير العقل النهائية بموضوعه.

كما اشرنا سابقا  الوعي تصنيع عقلي لا نفسي وطالما الوعي نتاج تصنيع عقلي وليس نفسيا كذلك النفس هي تصنيع عقلي ايضا ولا فرق بين مرجعية الاثنين سوى بالسلوك او الارادة المترتبة على علاقة الوعي معالجة موضوعه عقليا وليس نفسيا. النفس لا تصنع وعيها القصدي في تلبية وتحقيق حاجات وغرائز الجسم دون مرجعة العقل.

عن هذه الحيثية يترتب التساؤل كيف يكون للوعي موضوعات وحاجات ورغائب هي غير حاجات الاشباعات الغريزية للجسم والنفس معا؟ الجواب هو بالتفريق هل الوعي في امتلاكه موضوعه يكون مصدر معرفة ام وسيلة معرفية؟ برينتانو يقر بعجز الوعي تجريده عن موضوعه حقيقة غير واهمة تمثّلها قصدية الوعي. صحيح جدا تثبيت حقيقتين لبرينتانو حول الوعي الاولى الوعي هو موضوعه كجوهرين مستقلين متلازمين في تبادل اعطائمها مشتركين معرفة الاشياء والتخارج التغييري لتلك المدركات الشيئية.، والثانية لا يوجد وعي بدون قصدية ملازمة له تقوده نحو هدف ذهني مرسوم سلفا. اي بمعنى الوعي قصديا ليس اعمى عن ارتباطه الوثيق مع خلفية التفكير العقلية..

هنا نتساءل كيف يجمع الوعي بين ان تكون قصديته ناتجة عن موضوعه وبين ان يكون الوعي وسيلة العقل في التعريف بمدركاته؟ الحقيقة يتم ذلك في واحدية مرجعية العقل للوعي. اذا اعتبرنا امكانية النفس بما تحتويه من تعبيرات نفسية مثل الفرح، الالم ، الحزن،  الكآبة، السلوك وغير ذلك ان تخلق وعيها الخاص بها بمعزل عن بيولوجيا وظائف اعضاء الدماغ يصبح معنا الخطأ الشائع ان للذهن تفكير مستقل ينوب عن تفكير العقل ساريا لا اعتراض عليه.. وكذا نفس الحال ينطبق على قضايا خاطئة اخرى عديدة مثل علاقة الذاكرة بالاستذكار التاريخي لوقائعه وحول علاقة ترابطية الخيال والزمن. وعلاقة الزمن بالمكان رومانسيا كم فعل جاستون باشلار في كتابه الزمن والمكان.

مصنع الوعي

اخذ هوسرل عن استاذه برينتانو فكرته عن الوعي القصدي الذي كان رد فعل قوي على عبارة ديكارت الشهيرة انا افكر... تاكيده ان مجرد التفكير يعطي قطعية وجود الانسان الحقيقية كينونة واعية. هوسرل ارسى مقولة الوعي القصدي في اعتباره القصدية هي فعل الوعي المنتج للموضوعية، وبهذا اختلف مع برينتانو الذي اعتبره لم يقدم شيئا عن القصدية سوى السلوك النفسي العملي نحو بلوغ هدف محبب لنفسه. كما اعتبر برينتانو لم يعط معنى الوعي بل ذهب الى ان القصدية القبلية في الدافع السلوكي هي التي تنتج الموضوع.

الحقيقة قبل مناقشة الاهم ان القصدية هي الوعي الذي يلازمه موضوعه لذا يكون تحصيل حاصل ان الوعي بقصديته يتجه نحو تحقيق هدف في موضوعه. قد يذهب البعض ان ملازمة الموضوع للوعي يعني تأبط هذا الاخير لموضوعه تحت ذراعه. لا الموضوع هو المتعيّن المستقل في ماديته وحتى في الخيال يكون متموضعا بتجريد يقوم على تجريد عقلي لغوي هو الوعي. عبارة برينتانو الوعي هو الموضوع لا تعني الانابة البينية المتبادلة بينهما بل تعني استقلالية مادية الموضوع عن تجريدية الوعي المصاحب له.

الان ننتقل الى ان القصدية هي فعل الوعي ليس الادراكي فقط بل المعرفي التغييري ايضا. الوعي ليس التوجه التجريدي الاعمى نحو موضوع متعيّن لادراكه بل الوعي القصدي هو ناتج تفكير تطبيق مقولات العقل التي يقوم بتنفيذها الوعي الذي هو اولا واخيرا تجريد لغوي في الافصاح الالمامي بموضوع مادي او خيالي للتخارج المعرفي معه..

الوعي كما نفهمه فلسفيا

القصدية هي فعل الوعي ناتج التفكير العقلي الذهني الواصل عبر شبكة المنظومة الادراكية للعقل الى الموضوع المراد التداخل المعرفي به بوسيلة الوعي. الوعي ليس مادة حتى حينما ينقل مقولات العقل تجريديا الى مدركاته من الاشياء ومواضيع العالم المحيط بنا. الوعي هو خلاصة الادراك الذي لا قدرة له ان يتحول الى فعل مادي يخلق موضوعا يعالجه تفكيرا تجريديا معرفيا متخارجا معه. الموضوع المادي او الخيالي وجود موجود قبل معالجة الوعي به وقبل ادراكه حسيّا ايضا..

هوسرل كان صائبا في اعتباره الوعي كالزمن مفهموم محايد بعلاقته مع الاشياء لا ندرك ماهيته. الوعي ليس تفسيرا توضيحيا حول موضوع معين، بل هو وعيا حياديته مستمدة من طبيعته التجريدية انه متخارج معرفيا مع مدركاته. الوعي وسيط توصيل مقولات العقل معرفيا عن مدركاته والوعي لا يتموضع تكوينيا بموضوعه بل كل منهما يحتفظ باستقلاليته الموجودية المتلازمة في جمعهما الوعي مع – موضوعه.

هوسرل كان غير موفق فلسفيا ايضا اعتباره الموضوع المحايث وجودا للوعي هو الذي يعطي معنى القصدية. الحقيقة ان الوعي لا ينتج ولا يخلق القصدية وانما يقوم الوعي بتنفيذ قصدية العقل منتجه البايولوجي. والقصدية لا تنتج مواضيعها كونها هي موضوع ماهيته انه يحمل قصديته التي يروم الوعي معرفتها والتخارج معها حول الموضوعات المدركة ليس حسيّا فقط بل وايضا عقليا بالمرتبة الاولى..

القصدية موضوع هي هدف الوعي يفتقد "آلية" منظومة الادراك العقلي المعرفي في علاقتها مع اشياء العالم الخارجي وغرائز اشباع رغائب احاسيس اجهزة الجسم الداخلية.

هوسرل في عبارته (كل العالم الواقعي الموضوعي عبارة عن تمثّلات الوعي به) العبارة صائبة وصحيحة تماما خاصة بعد اقرارنا بحقيقة الوعي بالشيء هو ليس ادراكه بل التداخل التصنيعي التخارجي معه. احكام الوعي القصدي عن عالم الاشياء والمدركات هو توصيف معرفي لها وتفسير توضيحي لمعالجتها وليس تخليقا ماديا لوجودها.

الوعي والمعنى

قصدية الوعي تحمل صفتين هامتين هما الوعي جوهر ذاتي منفرد كوجود مستقل لا علاقة ترابطية تجمع الوعي بموضوعه سوى باستقلاليتهما احدهما عن الاخر وتعالقها القصدي المعرفي المتخارج بينهما. الصفة الثانية بينهما ان الوعي قصدي بالضرورة التعالقية مع موضوعه في تحقق معنى الموضوع المحايث له.

اذن نلاحظ بجلاء واضح تشابه الوعي بالاشياء انه مرادف طبق الاصل للادراك الحسّي لها من حيث آلية التنفيذ فقط وليس من حيث الجوهر الوظيفي. حيث نجد كلا من الادراك الحسي الذي يسبق الوعي يتلاقيان في تحقيق المعنى القصدي في الاشياء والمواضيع. ليس معنى ذلك الادراك غير منفصل عن الوعي الذي يحتوي الادراك بتفرد مختلف عنه. لا الادراك الحسي ولا الوعي قادرين على تخليق موضوعهما الذي هو الوجود المادي المستقل بذاته السابق عليهما.

نعود الى العلاقة التي اشرنا لها الوعي ملازم موضوعه المستقل وجودا عنه لكنه متخارج معه معرفيا. الوعي احاطة معرفية عقلية تخارجية لمدركاته وليس خالقا بيولوجيا مستقلا لها بعيدا عن مقولات العقل عنها الذي هو الاخر يعجز خلق مواضيعه الادراكية بيولوجيا بل يعبر عنها فقط بلغة الوعي التعبيري اللغوي المجرد .

الشيء الاخر انه لا وجود لوعي ادراكي قصدي لا يحمل ملازمة معنى تلك القصدية مسبقا ويسعى تحقيقه سلوكا وتعبيرا لغويا. الوعي جوهر ذاتي والذات المجردة من علاقاتها لا تدرك ولا تعي ما لا معنى له. الوعي كما سبق لنا تكراره فعالية قصدية تحمل معها معناها السلوكي المرتبط بمنظومة العقل الادراكية. اي تفسير لمعنى فارغ لا يحمل قصديته التي يسعى لها يكون بالمحصلة لا وعي غير موجود ولا يقبله منطق العقل.

فرق الوعي عن الادراك

اذا اردنا تفريق الوعي عن الادراك من حيث قابلية امتلاك المعنى، يكون عندها المرجعية الداحضة في عدم وجود وعي لا يمتلك معنى انما تحدد خطله الزائف علاقة الذات بالدماغ وظائفيا بيولوجيا.

لكن اذا نحن اجرينا مقارنة بين الوعي والادراك ايهما اصدق في تعبيره الادراكي؟ نحن هنا نقع في اشكالية ان الوعي ناتج موضوع ادراك العقل. اما الادراك العفوي الطبيعي لموجودات العالم الخارجي فهو انطباع اولي في نقل الحواس للاحساسات الصادرة عن ادراكها لموضوعات وموجودات العالم الخارجي. ويطلق ديفيد هيوم على هذه العملية بنقل الحواس للانطبات الحسية للذهن وهي انطباعات وقتية تاخذ طريقها عبر شبكة الاعصاب وتراتيبية منظومة العقل الادراكية الى الدماغ ولا قيمة حقيقية تحسب لها كما اكد هذا المنحى جورج بيركلي ايضا.

ميزة الاختلاف الادراكي ان الحواس تنقل انطباعاتها الحسية الى الذهن بعشوائية غير منتظمة ليس كما هي في معالجة الدماغ لها. ادراك عشوائية موجودات العالم الخارجي عبر الحواس قد يفقد الاحساسات الانطباعية المنقولة عنها صدقيتها وعدم كونها خاطئة غير صحيحة.

بماذا يختلف الوعي الادراكي لعالم الموجودات عن الادراك الحسي الذي تقوم به الحواس وكليهما مرجعيتهما الذات؟ رغم اننا تحدثنا باسطر سابقة عن هذا الاختلاف نضيف هنا لما سبق استجابة على التساؤل، انه لا يمكن للذات ان لا تعي نفسها وجودا معرفيا مركزيا للجسم وعلاقة الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي. ما يرتب على ذلك ان وعي الذات لنفسها يستتبعه بالضرورة انها تعي مواضيعها وعلاقاتها الارتباطية بالعالم الخارجي والخيالي الداخلي. اي نوع من التفكير لا يكون بلا معنى يحتويه عديم الجدوى ولا اهمية له والا كيف يحدد الوجود الانساني كينونته الذاتية بدلالة تفكير لا يحمل معنى ما يفكر به؟.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

ما لا نراه.. ولكنه يؤثر فينا

ما هو الشيء الذي يحرك فينا ما لانراه ولكنه يعكر مزاجنا من الداخل، يعكر صفونا ونحن في غفلة من اللحظات التي تتأرجح بين القبول والرفض، لم نحدد بعد ما  هو الرأي الصواب، هل هو الصراع؟ هل هو الرقيب الذي تأسس في دواخلنا منذ طفولتنا ؟ هل هو عامل القيم والدين والاعراف والتقاليد ؟ ربما صح، وربما لا . هل هي ذاتنا التي تبحث عن دال جديد كما يراها "جاك لاكان" لأن الدال هو ما يمثل الذات نحو دال آخر، وتَعلمنا من لاكان الذي يعد الدال له الأسبقية على المدلول، الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة الدال في التحليل النفسي، أنه العنصر المهم في الكلام كما وضحت لنا الرؤية اللاكانية التحليلية.

هل هو محرك النقد في النفس ينبع من هذه المنظومة المعقدة القائمة على اللغة؟ وتؤكد لنا بعض الرؤى العلمية التي يراها " الدكتور ريكان إبراهيم" بأن النقد وسيلة من وسائل دراسة اللغة وتقنين اعماقها وتعرضه في اللسان الناطق والبناء الفني في تكوين الفكرة، أو الخاطرة التي تمر في النفس وتترك الأثر ثم تتحول إلى نقد للنفس، أو نقد بأشكال مختلفة، إذن لابد أن يكون لهذه الوسيلة الحية سيكولوجية محددة، مقننة باختبارها، رغم علمنا بأنها متأسسة من بدايات فجر الإنسان في تكوينه الفردي، والجمعي " أقصد تراكمات عصور الاساطير والسلالات والتراكمات الحضارية في البناء النفسي "  

 سنحاول في تساؤلنا هذا بفكرة إجتهادية لربط النفد من داخل النفس وما يعتمل بها من تداخلات لا حصر لها.. وعلاقتها باللغة بكل أوجهها لا سيما أنه منتج اجتماعي لملكة اللغة وقدرتها، ويتمثل في اللسان الذي ينطق بها، وما يستوقفنا هنا كيف تبلور هذا المخزون في مستودع اللاشعور – اللاوعي وتبلور بشكل آثار تراكمية ويقول "سوسير" بأنه شكلَ مجموعة من الآثار الموضوعة في كل ذهن، وهو حصيلة الصور اللغوية المختزنة عند كل الأفراد، ونقول لا تظهر للعلن إلا عند قلة، أو مجموعة تخصصت في هذا الطراز من الإبداع اللغوي، ويحق لنا أن نقول أيضًا  إنها قدرة يتميز بها البعض عن الآخرين. وتساءلنا هو  تبقى النفس بما أحتوت من عوالم اللاشعور – اللاوعي، ولو بجزء بسيط من هذه القارة المترامية الأطراف الشاسعة،  يظهر لنا منها في هذا المنحى، ويضيف لنا العلامة مصطفى زيور قوله: يطلق سراح اللاشعور إذا ما تدثر بالجمال " مصطفى زيور – في النفس، ص 140" 

ينشأ النقد من داخل النفس، وللنفس لها أولًا، ولا يعلن عن نفسه إلا بعد أن وصل إلى أعلى درجة  من الغليان، فحتى النقد الأدبي كمنحى في علوم اللغة والعربية منها ، أو النقد الفني، أو النقد بمستوياته الشديدة، أو المعتدل، أو الطفيفة، إنما هو يعبر عن ذات تحاول أن تتحرر عن ما يخنقها، أو يضايقها، لا ندري من ترسبات من الأفكار تكونت،  لا سيما إن بنية اللاشعور – اللاوعي التي لا نعرف سوى آثارها اللغوية والتي لا تملك آثارًا غيرها كما يقول "جاك لاكان في وضعية اللاشعور، كتابات 1966" ولعلمنا أن الأفكار تترك بقايا في النفس تتبلور وتتلائم وتظهر، أما  من لحظة إنفعال لحظية قادتها لتعلن الرفض، أو القبول، أو طلب التغيير. " التغيير هنا قسري، وليس في حالة استرخاء".

نحاول أن نستعير نص من التحليل النفسي يقدمه لنا استاذنا العلامة " مصطفى زيور" بقوله: الصراع في التحليل النفسي هو ذلك التعارض اللاشعوري – اللاواعي بين رغبة غريزية تنشد التفريغ وميل يعارض ذلك ويناهضه. لذا فالنقد من الداخل هو بحث في ميدان تحليل النفس بصفة لا مثيل لها في ميادين البحث الأخرى وإن أعطت طابع النقد الأدبي، أو الفني، أو الفكري لقضية علمية، أو فكرية، إنما يبقى أساسه نابع من أعماق النفس، وهذا يذكرنا بسلوك البعض في حياتنا اليومية حينما يلجأ الكثير من  الناس إلى سلوك الغيبة والنميمة وتناول الآخرين في أعراضهم وشرفهم، أو إسقاط مشاعر دفينة في داخله أمتنعت النفس من البوح بها، فصب جام غضبه على الآخرين .

تؤكد لنا أدبيات التحليل النفسي النظرية وتطبيقاته الميدانية بالتأكيد على النفس بإن المحللين النفسيين من حيث إنهم أمناء على اللاشعور – اللاوعي، هم بيروقراطيته، إنهم يدونون ويتحملون تناضد الخطابات المحددة تاريخيًا من زاوية مصدرها، خطابات الأشكال الطفولية القديمة للغة، كما تقول " كاترين كليمان" وتضيف قولها حَولَ " سيجموند فرويد" التصور المحدود للاشعور – اللاوعي إلى بناء كامل يتعلق بالدافع كعلة، وقد عمم "جاك لاكان" هذه اللعبة على اللغة، ومن ثمة على العلاقة التحويلية كلها، وذلك بقدر ما أن الناقد بمعنى أدق كالمحلل النفسي هو في نفس الوقت آخر الذات ومؤرخ لغتها. ويمكننا القول لو سمح لنا به الإجتهاد هذا هو خطاب النقد النفسي من الداخل، أقصد داخل النفس، ومن الخارج، أعني .. التقد الذي يوجهه الناقد الأدبي، أو الفني، أو ما يطلقه الآخر في أي موضع في حياتنا المعاشة، لذا فهو يتمثل وجود اللاشعور – اللاوعي في أن يكون لهذا الأخير مفعول الكلام، وأن يكون بنية لغوية، تمتلك هذه اللغة بلاغة معينة كما يدونها لنا جاك لاكان.  خلاصة القول أن النقد هو محاولة جادة في فهم سلوك معين في تراث ادبي، أو علمي، أو فني على وفق ما تمليه دواخل من يوجه النقد، بدءَا من داخله ثم إلى الخارج ودوافعه بحيث تؤدي دراسة المتروك كأثر إلى دراسة النفس المنشئة للنص، وهي سبيل من سبل قياس الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الفرد، وهنا يضيف أيضًا " ريكان إبراهيم" تداخل اللغة مع العوامل البيئية، وهي محاكمة لعلاقة النفس باللغة كمجمل، وبالكلمة كمفردة وينتهي بقوله :  والكلمة في اللغة بالمنظور النفسي تمتلك ثلاث محاور في  الاستدلال:   الاستدلال الشكلي والاستدلال الوصفي والاستدلال التحريضي، وما يهمنا هو الاستدلال التحريضي ويقصد به قدرة الكلمة في اللغة على احداث الحث النفسي، فهي تحرض لاشعوريًا على استلهام ما يحيط هذه الكلمة وما يتبعها من ابتناء – بناء لافكار لاحقة.  

*** 

د. أسعد شريف الامارة

(لكي يتوصّلَ المرء إلى الحقيقة، ينبغي عليه مرة واحدة في حياته أن يتخلص نهائيًا من كل الآراء الشائعة التي تربّى عليها وتلقاها من محيطه، ويعيد بناء أفكاره بشكلٍ جذريّ من الأساس)... ديكارت

مقدمة:

يمكن في البداية تعريف عصر التنوير (Age of Enlightenment) بأنه السياق الزمني الذي تخاصبت فيه الجهود الفكرية التنويرية لكبار الفلاسفة والمفكرين أمثال رينيه ديكارت فولتير(René Descartes: 1596-1650) وفولتير - فرانسوا ماري آروويه (François-Marie Arouet:1694-1778) ومونتسكيو- شارل لوى دى هايكوندا (Montesquieu: 1689-1755) ودنيس ديدرو (Denis Diderot: 1713-1784) وكوندورسيه - ماري جان أنطوان نيقولا كاريتات ( Marie Jean Antoine Nicolas de Caritat: 1743-1794) (1743-1794) وديفيد هيوم (David Hume: 1711-1776) وإيمانويل كانط (Immanuel Kant: 1724-1804 ) وإسحاق نيوتن (Sir Isaac Newton: 1642-1727) وبنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin: 1706-1790) وجان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau: 1712-1778) و جون لوك (John Locke: 1632-1704) وآدم سمث (1723-1790) وديفيد ريكاردو (David Ricardo: 1772-1823) ,وجوليان جان أوفري دو لا ميتري (Julien Offray de La Mettrie: 1709-1751). وقد شكلت أعمال وأفكار هؤلاء المفكرين من مختلف المشارب العلمية والاجتماعية قوة تنويرية هائلة هدفت إلى تحرير المجتمعات الأوروبية من أوهامها الأسطورية والخروج بها إلى عالم المعرفة والتنور والحرية، كما تمثلت هذه الحركة التنويرية في العمل على إخراج المجتمعات الأوروبية من الظلمات إلى النور ومن السلطات الكهنوتية البابوية إلى أنظمة سياسية ديمقراطية وعلمانية. ويمكن القول أيضا إن عصر التنوير وجد صداه الكبير وتأثيره العظيم في مختلف مظاهر الحياة الفكرية الأوروبية في القرنين السابع والثامن عشر.

والتنوير بالتعريف حالة حضارية ذهنية متوقدة، يدك فيها الإنسان جدران الأوهام، ويدمر عبرها أركان الوصاية على العقل بوصفه الجوهر الإنساني في الإنسان. إنها وفقاً لمنظور "كانط" الوضعية التي يخرج فيها الإنسان من دائرة الخرافات والأوهام، ليحطم كل أشكال العطالة الذهنية والجمود ومقاليد الوصاية على العقل. وفي هذا كله تأكيد لسيادة العقل وسلطانه حيث لا يكون سلطان فوق سلطانه؛ ولذا غالبا ما يقترن مفهوم العقل بمفهوم النور أو التنوير في الحضور والغياب، يقابله هذا الاقتران الكبير والجوهري بين الجهل والظلام. وضمن توجهات هذه المعادلة التنويرية، يكون حضور العقل حضوراً للتنوير وغيابه حضوراً للجهل والظلام. ومن الواضح تاريخياً في هذا السياق، أن حضور العقل والعقلانية كان في أصل كل حضارة وتقدم، حيث كان العقل، وما ينتجه من حكمة وعلم وبرهان، هو أداة الإنسان لفهم الكون والإفادة الرشيدة من الطبيعة؛ بما يحقق الغايات الإنسانية النبيلة. فالعقلانية هي التي منحت الإنسان القدرة على التحرر من غوائل الطبيعة والانتصار على كل أشكال الضعف والقصور لبناء حضارة الإنسانية والإنسان.

انحراف المسار التنويري:

ومع أن التنوير ولد على صورة حركة إنسانية أخلاقية تحررية في جوهره فقد تعثرت خطاه وانحرف مساراته وفسدت مراميه ومآلاته وسقطت تطلعاته الإنسانية والأخلاقية في سياق تطوره التاريخي والحضاري، وانتهى به الأمر به إلى الانقلاب على مسيرته الواعدة بتحرير الإنسان إلى قوة استلابية تحاصر الإنسان وتضعه في مهاوي الاغتراب وزنزانات البؤس والاستلاب. وتحولت الحداثة التنويرية فيما بعد إلى دريئة تتقاذفها السهام من كل حدب وصوب وجانب. وعليه تعرضت الحضارة الغربية بنهضتها وحداثتها وأنوارها إلى النقد العنيف من قبل كبار الفلاسفة والمفكرين منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، ودأب كبار المفكرين على نقد أبنية الحضارة الغربية والكشف عن التناقضات الكبيرة في مسيرة التنوير الغربي. ومن يطالع مسيرة التفكير الفلسفي سيجد بأن هذه الحضارة قد تعرضت للنقد الشديد من قبل ماركس وفرويد ونيتشة وكانط وروسو وعدد كبير جدا من المفكرين والباحثين، ويتمركز هذا النقد على المسيرة الانحرافية للحضارة الغربية التي أدت إلى صيغ متعدد من الشقاء الإنساني والبؤس الأخلاقي. ويبدو واضحا للعيان أن المشروع الحضاري الغربي قد أنتج الحروب العالمية المدمرة وأدى إلى استعمار الشعوب وانتهى إلى وضع الإنسانية في أقفاص الشقاء الاغترابي.

ومن منطلق هذه الرؤية السوداوية لوضعية التنوير لم يتردد ألبرت شفايتزر (AlbertSchweitzer;1875-1965) الحائز على جائزة نوبل للسلام في الإعلان بأن العالم يسير نحو الهاوية وإننا نعيش في ظل انهيار الحضارة الإنسانية، وعلى خطاه أعلن الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر (Oswald Spengler:1880-1936) في كتابه (انحدار الغرب) أنّ الحضارة الغربية تتساقط وتلفظ أنفاسها الأخيرة وقد حكم عليها بالموت والدمار. وقد سبق للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه "Nietzsche" (Friedrich Nietzche:1844-1900) أنه أعلن أن الحضارة الغربية سقطت في الهاوية واختلت موازينها الأخلاقية. والحضارة المعاصرة (1). وهذا كله يتساوق مع نظرية سيغموند فرويد الذي يعلن بدوره عن تآكل هذه الحضارة إذ يقول " نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية".

نقد مدرسة فرانكفورت:

وجاءت مدرسة فرانكفورت النقدية لتعزز هذا المسار في نقد الحضارة الغربية فاتخذت من النقد منهجا لها، وحاولت القيام بممارسة نقدية جذرية للحضارة الغربية؛ قصد إعادة النظر في أسسها ونتائجها على ضوء التحولات السياسية الكبرى التي أفرزتها الحداثة الغربية، وخاصة منذ “عصر الأنوار” (Age of Enlightenment)(2)، الذي يعتبر نقطة تحول جوهرية في مسار هذه الحداثة، وقد كرس رواد هذه المدرسة جهودهم للكشف عن الأوضاع الاغترابية للحضارة الغربية ونقد الأسس التي تقوم عليها كالحرية والعقلانية والتقدم العلمي والتقني (3). وقد برع رواد مدرسة فرانكفورت في تأصيل منهجهم النقدي واعتماده في تناول قضايا المجتمعات الرأسمالية وتفكيك مختلف التكوينات الاجتماعية واستكشاف مختلف التناقضات الكامنة في طبيعة هذه المجتمعات. ومن الأهمية بمكان أن رواد فرانكفورت اعتمدوا النقد بوصفه قوة أساسية في عملية تحقيق التغيير وإنجاز التقدم الحضاري. وقد ساعدهم في تحقيق ذلك تخاصب الاهتمامات والتخصصات العلمية المتنوعة لرواد المدرسة الذي توزعوا في قطاعات مختلف شملت علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأدب وغير ذلك من التخصصات العلمية التي شكلت في مجموعها قوة نقدية هائلة وظفت فعليا في تفككيك بنية المجتمع الرأسمالي ونقده، وقد امتدّ هذا النقد ليشمل الحضارة الغربية برمتها منذ عصر النهضة حنى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وقد ألح رواد مدرسة فرانكفورت على النظر إلى الحداثة الغربية بوصفها كارثة ضربت بقوة في العمق الإنساني للحضارة، وذلك لأنها خرجت عن مسارها وابتعدت عن غاياتها الإنسانية في تحقيق الكرامة والحرية للإنسان. فالحداثة قامت في جوهرها على العقل وآمنت بالحرية والتقدم ومن ثم انتهت إلى قوة ضد العقل والعقلانية فانتهكت حرية الإنسان وكرامته ووضعته في زنزانات القهر والعبودية، واستطاعت في مسار انحرافها عن مسارها الحضاري أن تحول " الكائن البشري من كيان واع وروح متعالية إلى عضو خاضع وجسم مادي وكيان بلا روح؛ لقد أصبح الإنسان بفعل التقدم الهائل في الأبحاث العلمية والإنتاجات التقنية مجرد رقم ضمن معادلات حسابية هاجسها الربح والنجاح ضدا على الكرامة الإنسانية والأخلاق البشرية"(4).

ويمكن القول في هذا السياق إن “مدرسة فرانكفورت” قامت منذ نشأتها على نقد جذري لمشروع التنوير بوصفه أحد أهم مظاهر الحداثة وأبرز تجلياتها الحضارية ويتضح هذا التوجه النقدي في جهود كل من هوركهايمر وأدوورنو في كتابهما المشهور “جدل التنوير” الذي يتضمن رؤية نقدية صارمة نقدية يتناولان فيها مآلات عصر التنوير في استطالاته الحضارية الاغترابية (5).

ومما لا شك فيه أن النقد العنيف الذي وجهه رواد النظرية النقدية إلى التنوير والعقلانية لم يكن نقدا للتنوير في ذاته أو للعقل في مقامه أو لقيم التنوير في بهائها بل كان نقدا للصيرورة الحضارية التاريخية التي أدت إلى انتكاسة التنوير في ظلِّ تطور المجتمع الرأسمالي والصناعي وفي ظل علاقاته المُكَرَّسَة لاستعباد الإنسان واستلابه. ويسجل التاريخ أن رواد المدرسة لا يقفون موقفا معاديا للتنوير في جوهره بل يقفون ضد مظاهر اللاعقلانية التي انتهى إليها بفعل متغيرات وعوامل فكرية واجتماعية متداخلة. وهم باختصار يوجهون النقد إلى مآلات التنوير، ويرون بأن المشروع التنويري قد أخفق في تحقيق غاياته وتحقيق قيمه الإنسانية التحررية، وأنه قد تحول على الأثر إلى قوة مضادة للإنسان والإنسانية بما صار عليه وبما أنتجه من كوارث التسلط والاستبداد السياسي والاجتماعي. وقد هالهم تماما أن يؤدي التنوير في نهاية المطاف إلى ولادة أكثر الأنظمة السياسية والاجتماعية فتكا واستبدادا بالإنسان والإنسانية. ووقع في أيديهم أن التنوير قد أنتج أخطر الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي تتمثل في الحركات النازية والفاشية والستالينية وهو المر الذي انتج أخطر حربين عالميتين (الأولى والثانية) وهما الحربان اللتان دمرت الحجر والبشر والشجر وأوقعت عشرات الملايين من الضحايا البشرية بما فيه الأطفال والنشاء والرجال.

جاء القرن العشرون كما يرى رواد المدرسة ليدمر أحلام التنوير ويكشف عن سقوط الأوهام التي جاء بها عصر النّهضة المحمل بوعود المجتمع الإنساني الخلاق، وقد دشنت وعود الحداثة بأعظم حربين مدمرتين للوجود الإنساني (الحربان العالميتان الأولى والثانية) وكان القرن العشرون محملا بوعود الموت والفناء والإبادات العرقية والسياسية التي تمثلت في الهولوكست ومعسكرات الأوشفيتز في ألمانيا النازية، ومعسكرات الغولاغ في روسيا الستالينية، وقنابل التدمير الذرية في ناكازاكي وهيروشيما، وعلى هذه الصورة المأساوية تحول مشروع التنوير إلى قوة مضادة للتنوير بكل ما ينطوي عليه من قيم تحررية ومبادئ إنسانية(6). وقد أدت هذه الوضعيات الكارثية إلى تداعي كل الأحلام والآمال التي حملها عصر التنوير وإلى نمو هائل للشَّكِّ والارتياب في مشروع الحداثة والتنوير (7).

وجاءت معسكرات الإبادة الجماعية لليهود (معسكرات أوشفيتز لتكون "الحدث الفاصل الذي حطم الافتراضات المتفائلة حول التقدم من أساسها أكثر مما فعل زلزال لشبونة خلال القرن الثامن عشر. ولما كانت صور معسكرات الاعتقال النازية لا تزال ماثلةً في الأذهان، ومع تدمري هووشيما وناكازاكي، وظهور تقارير جديدة عن المعتقلات السوفييتية (الجولاج)، ومع تزايُد انتشار المكارثية في الولايات المتحدة؛ بدا لمدرسة فرانكفورت كأن الحضارة الغربية لم تأت بالتطور الإنساني، وإنما أتت بنزعة بربرية غري مسبوقة. وأدرك أعضاء المدرسة أن شيئًا أكثر من النقد المعتاد للرأسمالية مطلوب من الفكر الراديكالي" (8).

مآلات التنوير:

وليس ألعن من ذلك ما شهده العصر الجديد – القرن العشرون - من وقوع البشرية جمعاء تحت سطوة الهيمنة الاستعمارية للشعوب والأمم. وقد عزا رواد المدرسة النقدية هذه الكوارث إلى فشل مشروع الحداثة والتنوير وهو المشروع الذي أدى في النهاية إلى نتائج معاكسة للمبادئ والقيم الذي طرحها حول تحرير الإنسان والإنسانية من الظلم والقهر والاستعباد والاستبداد. لقد شاهد رواد المدرسة النقدية صور الإبادة العرقية لليهود في المعتقلات النازية وبقيت هذه الصور ماثلة في أذهانهم، " ومع تدمير هيروشيما وناجازاكي، وظهور تقارير جديدة عن المعتقلات السوفييتية (الجولاج)، ومع تزايُد انتشار المكارثية في الولايات المتحدة؛ بدا لمدرسة فرانكفورت كأن الحضارة الغربية لم تأتِ بالتطور الإنساني، وإنما أتتْ بنزعة بربرية غير مسبوقة، وأدرك أعضاء المدرسة أن شيئًا أكثر من النقد المعتاد للرأسمالية مطلوب من الفكر الراديكالي "(9).

ولذا لم يقف رواد المدرسة عند حدود نقد التنوير والحضارة الغربية فحسب بل تجاوزه إلى البحث عن الأسباب التي غيرت وجه التنوير فحولته إلى قوة مضادة للإنسان والإنسانية وقدموا أنظمة فكرية متكاملة من التفسيرات السوسيولوجية والتحليلات الواقعية لعملية التحول الخطير للتنوير إلى حركة ظلامية خطيرة فقد فيه الإنسان كيانه ووجوده وكرامته.

يرى رواد المدرسة النقدية -ولاسيما هوركهايمر وأدورنو- بأن حركة التنوير قامت على مواجهة الأساطير والخرافات والأوهام التي سادت إبان العصور الوسطى، واتجهت إلى فك السحر عن العالم وتحريره من التقاليد الكنسية والأساطير الاستلابية الدينية، ولكن هذه التنوير أوقع نفسه في شباك أساطيره الخاصة المميتة المتمثلة في جبروت الأنظمة وفي مختلف أشكال الاستبداد الفكري والأخلاقي التي ضربت قيم الحضارة الإنسانية بمقتل، فقضت على الشكل الأمثل للعقل والعقلانية في مختلف أصقاع القارة الأوروبية. وعلى هذا النحو أصبح الإنسان الغربي في صراعه مع الوحوش الأسطورية وحشا ثم أوقعته معاركه أجل السيطرة على الطبيعية في عبودية جديدة لا تقل خطرا وإيلاما عن استبداد الأساطير القديمة.

فالمشروع التنويري كما يرى رواد المدرسة مني بالإخفاق وفشل كليا في أداء مهمته التاريخية التي تتمثل في إخراج العقل من الدوائر الأسطورية للأوهام وتحطيم الأوثان التيولوجية وتدمير مظاهر الخرافات والتفكير اللاعقلاني. فها هو العقل الذي رفعه التنوير شعارا يرتد على ذاته ويتحول قوة استلابية تدميرية لإنسانية الإنسان وكرامته، وهو العقل ذاته الذي تغوّل على الطبيعية والإنسان، يتغول على الإنسان نفسه فيبتعه ويحوله موضوعا للهجانة الأخلاقية أي إلى كائن مفرغ من معانيه ودلالته الإنسانية. وعلى هذه الصورة تمّ تحويل الإنسان إلى مادة أولية تستثمر في خدمة المصالح الرأسمالية للطبقات البرجوازية التي تسود وتسيطر وتهيمن على مقدرات الحياة الاقتصادية في المجتمع. وهذا كله يعني أن الأنوار قد تحول إلى قوة همجية تدميرية للإنسانية والإنسان بفعل العقلانية المتوحشة التي انتهجها في السيطرة على الطبيعية والإنسان. وعلى هذا النحو اتجهت أطروحات المدرسة إلى محاولة البرهنة على أن عقلانية المشروع الثقافي الغربي في جوانبه الثلاثة: كنتاج فلسفي نظري علمي، ونظم اجتماعية تاريخية، ونسق قيمي سلوكي، تؤلف جميعها أيديولوجيا شمولية متكاملة ومتماسكة، تهدف إلى تبرير التسلط، وجعله عقيدةً وحيدة تغطي أولويات القمع المتحققة كواقع مستمر يجمع مختلف فعاليات هذا المشروع(10).

أوديسيوس وفشل التنوير:

وإذا كان هدف التنوير العقلي تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها ومساعدتهم على بلوغ الرشد " فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!) — هكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّر نفسه بنفسه " (11). وهذا يعني أن العقـل ارتد على ذاته وحطـم نفسـه وانتهى إلى أسطورة مضادة للعقل، وهـذا مـا أشار إليه هوركهايمر وأدورنو بقولهما: " استقى التنوير جوهر مادته من الأساطير مع أنه كان يريد القضاء عليها، وحين مارس وظيفة الحكم ظل واقعاً أسير سحرها" (12). وعلى هذا المنهج الأسطوري يوظف رواد المدرسة النقدية الأسطورة الأغريقية أوديسيوس (13) ويوظفون رمزيها في تناولهم النقدي للمظاهر الاستلابية في الحضارة الغربية ثم يستلهمون معانيها الرمزية الدلالية في تفسير سقوط الحضارة الغربية وعدميتها التاريخية.

وأوديسيوس كما باللغة اليونانية (Ὀδυσσεύς) ( بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس) (14) وملك إيثاكا الأسطوري الذي ترك بلده كي يشارك في حرب طروادة الشهيرة، وهو وصاحب فكرة الحصان (حصان طروادة) التي هزمت الطرواديين. وتذكر الأسطورة صديق أوديسيوس المحبب قتل في المعركة فأصيب بنوبة غضب شديدة قادته إلى أن يلعن الآلهة فاستشاط بوسيدون إله البحر وعاقبه بالضياع في متاهات البحار وأمواجه لمدة عشر سنوات في رحلة عودته للوطن، وقد لاقى في رحلة العودة هذه أهوالا كثيرة وأحداثا مرعبة ومخيفة.

وقد جاء في الأسطورة أن حوريات البحر (أو عرائس البحر) كنّ ينشدن أغان سحرية للغاية تتميز بجمال الألحان وسحر الأصوات التي تفوق حدود الوصف في مدى قدرتها على الاستلاب السحري لمن يسمعها، إذ لا يمكن لمن يسمع أن يقاوم جمال هذه الأصوات وسحرها الملائكي الأخاذ فيستسلم لهن ويبقى إلى جوارهن عبدا صاغرا إلى الأبد.

ولما مرّ أوديسيوس في رحلته عودته المعذبة إلى الوطن هاله أن يقع في أسر الغانيات وأن يخضع لغوايتهن ولذا ومن أجل أن يحافظ على كيانه ووجوده اتخذ إجراءات صارمة لحماية نفسه وبحارته من قدر الأسر والاستسلام للحوريات فأمرهم أن يضعوا الشمع في آذانهم كي لا ينتهي بهم الأمر إلى سماع شدو الحوريات وكي لا يقعوا في أسر غوايتهن، ثم ومن أجل حماية نفسه أيضا طلب من بحارته أن يقيدوه بقوة إلى "صاري" السفينة وأن يشدّو قيده كلما ازداد الغناء وكلما اشتدت حلاوته كي لا يكون مصيره الاستسلام والسقوط في عبودية الساحرات، وقد تمكن بهذه الطريقة أن يتجاوز سحر الغانيان وأن يمر بسلام، وعلى هذه الصورة تنتهي الأسطورة إلى انتحار الحوريات لأنّهن أخفقن في غواية أوديسيوس الذي سمع غناءهن وعرف أسرارهنّ(15).

شكلت هذه الأسطورة مصدر إلهام فكري لهوركهايمر وأدورنو وانطلقا من معانيها ودلالاتها الحضارية في استكشاف العمق الثقافي للحضارة الغربية، ووظفا هذا النص الأسطوري لاكتشاف العلاقة الجدلية بين التنوير والحضارة المادية. وفي مسار التحليل يجد هوركهايمر وأدورنو شرارة التماثل بين الأسطورة وحركة التنوير الأوروبية. فالتنوير كان محاولة تاريخية لفك السحر عن العالم والإنسان الغربي حاول في سياق حركة التنوير أن يتحرر من القوى السحرية وأن ينتصر على الطبيعية ويخضها لإرادته العليا ولكنه في صراعه مع الوحوش أصبح أكثر وحشية وفي صراعه مع الأسطورة تحول إلى شظايا أساطير. وعلى المنوال نفسه يقاتل أوديسيوس القوى الأسطورية التي تتمثل في " حوريات البحر" وينقذ نفسه من العبودية الاستسلام للساحرات ولكنه في الوقت نفسه يدخل في عبودية من نمط جديد لا يقل خطرا عن عبودية الساحرات إذ يجد نفسه مشدودا إلى صاري السفينة وقد خسر حريته وحرية بحارته فأصبح عبدا بإرادته هو هذه المرة. وهذا يعني أن الإنسان في صراعه مع الطبيعية وفي محاولة فك السحر عن حضارته يقع من جديد في أسر العبودية والسحر والأسطورة بل يتحول فكره وثقافته إلى وهج أساطير جديدة هي أساطير الحضارة الاغترابية المغلقة التي تسجن الإنسان بإرادته في ظلمات السجون.

وتلك هي حكاية التنوير تتطابق مع أسطورة أوديسيوس فالتنوير الغربي في سعيه إلى تحرير الإنسان أوقعه من جديد في سحر الفردانية وتحت سطوة العقل الأداتي الذي يمثل الحبال التي شدت بروميثيوس إلى الصواري وقادت بحارته إلى الصمم. وهذا يعني أن صراع الإنسان الغربي مع الأساطير أغرقته في أساطير جديدة في وهم الحرية بين قضبان العقل الأداتي الذي حول الإنسان إلى عبودية جديدة وهي عبودية العقل الأداتي عبودية القهر التنويري عبودية التشيؤ الذي يعني أن الإنسان التنويري عندما عمل على ممارسة السيطرة على الطبيعية سيطر على ذاته وأفقد نفسه الحرية لقد أصبح شيئا يرتبط بالأوثان والصواري الأسطورية التي عرفناها في سفينة برومثيوس ظهرت الفردانية والذاتية أثناء صراع التنوير مع الأسطورة وبالعودة إلى أوديسيوس نجده يطور نمطاً من العقلانية الأداتية التي يصنعها بنفسه ليدرأ شر تلك القوى الأسطورية التي تحاصره وهي نوع من الحيل الماكرة التي حمت حياته لمرات عديدة أثناء رحلة العودة. وعلى هذا المنوال ذاته سارت الحضارة الغربية التي أبدعت عقلها في السيطرة على الطبيعية والانفلات من سحرها، ولكن السحر انقلب في النهاية على الساحر وأصبح الإنسان عبدا لما صنع عقله وما اخترعت يداه من وسائل السيطرة والهيمنة فالحبال والأوتاد تشدنا إلى الزنزانات الحضارية، وكذلك الشمع يصم أذاننا إذ فقدنا قدرتنا على إدراك ما نحن فيه من قهر وعناء، وتوقفنا عن سماع نداء الطبيعة الجميل وسحر الساحرات مستسلمين لعبودية جديدة أشد قهرا وأكثر إيلاما. نجح أوديسيوس في قهر قوى الطبيعة الخارجية، ولكنه دفع حريته ثمناً لذلك عندما قيَّد نفسه إلى السارية (16). وهكذا يكون الأمر دائما إذ عندما يروض الإنسان الحديث الطبيعة الخارجية ويسيطر عليها يروِّض نفسه ويخسر حريته الذاتية ويقيّد نفسه إلى صواري العبودية وأسر الحضارة المدنية وهنا تكمن حكاية التنوير في حركة نشاطها وسقوطها في دوائر الاستلاب والاغتراب (17).

خاتمة:

وإذا كان هدف التنوير العقلي منذ القِدم هو تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها " فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!)، وهكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّر نفسه بنفسه" (18). وهذا يعني أن تاريخ التمدن والتنوير ظل حتى اليوم ظل مُتلبِسًا بالأسطورة أو مطويًّا فيها، وكأن التنوير لا يزال في حركة دائمة كحركة الفكرة المستمرة تُفضي به دائمًا إلى الوقوع في أَسر الأسطورة (19). وفي ضوء هذه الرؤية الأسطورية لسقوط الإنسان في مستنقع العبودية يرى مفكرو المدرسة أن الإنسان في سعيه التنويري لم ينتصر على الطبيعية فحسب بل انتصر على الإنسان نفسه فحاصره وشيئه ووضعه في دائرة العفن والاغتراب وهو الأمر الذي أدى تدمير العلاقات الحيوية بين بين أفراد المجتمع بين الإنسان والإنسان.

لقد كان هدف هوركهايمر وأدورنو هو بيان الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي وتمزُّقِهِ منذ بداياته الأولى، وارتِدَادِه بصُورةٍ مستمِرَّةٍ إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن يَنتَزِعَ نفسه منها وتمَثَّلت لهما في البربرية النازية التي كانت هي اللعنة والكارثة؛ ولذلك حاوَلَا معرفة الأسباب «العقلية» التي جعلت البشرية الغربية تسقط في أمثال هذه البربرية «اللاعقلية» طوال تاريخها المُبْتَلَى بالرُّعبِ والقَهرِ والقتلِ والتَّعذيب بدلًا من أن تبدَأَ وضعًا إنسانيًّا حقيقيًّا تَسُودُه السَّعادة والتَّصالح بين البشر وبينهم وبين الطبيعة(20). وباختصار فإن "التنوير الذي أخذ على عاتقه تحرير الإنسان من عبودية العصور الوسطى بتبنيه للقيم العقلانية وللمبادئ التقدمية فشل في مهمته التنويرية وسقط غي مستنقع العدمية التاريخية وذلك لأن العقلانية التحررية التي حملها تحولت إلى عقلانية أداتية متوحشة وانقلبت إلى وحش ضار غير قابل للترويض يدوس ويحطم كل من يعترض طريقه كائنا من كان: الإنسان والأشياء والثقافة والسياسة محولا إياها إلى مجرد أشياء وسلع قابلة للتصنيع والتدوير والانتهاك والاستهلاك(21).

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت -كلية التربية

............................

مراجع المقالة:

(1) - عماد الدين إبراهيم عبد الرازق، مفهوم الاغتراب لدى فلاسفة مدرسة فرانكفورت، مؤمنون بلا حدود، 21 يناير 2017 . https://bitly.ws/3dqMj

(2) - عصر التنوير أو الأنوار(Age of Enlightenment) مصطلح يشير إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية، المصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية دعيت بالتنوير والتي قامت بالدفاع عن العقلانية و مبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة بدلا من الدين، شكلت هذه الحركة أساسا وإطارا للثورة الفرنسية.

(3) - مصطفى عاشور، مدرسة فرانكفورت…النشأة والمرتكزات، إسلام أونلاين، 16-2-2024 . https://bitly.ws/3dnL6

(4) - حسان حمون، مدرسة فرانكفورت وأزمة الحداثة الغربية، مجلة الحقيقة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المجلد 20، العدد 4، السنة 2021. صص 270 – 283. ص 273.

(5) -  محمد رضا العمراني، مدرسة فرانكفورت: التأسيس للنظرية النقدية المعاصرة،  معاني، 3 أغسطس، 2022 . https://bitly.ws/3bjni

(6) - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، بحث في أصول التغيير الثَّقافي، المنظَّمة العربيَّة للتّرجمة، بيروت 2005، ص 31.

(7) - محمود حيدر، العِلمويّة الكئيبة: تنظير نقديّ لاستخدامات فلسفة العلم في الحداثة الغربيّة، مجلة جامعة المعارف العدد 9، 2023. صص 44-80. ص 53.

(8) - ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة سارة عادل، مراجعة مصطفى محمد فؤاد، مؤسسة هنداوي، 2016. ص 12 .

(9) - ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدٍّا، المرجع السابق،ص 12.

(10) - محمد حافظ دياب، من مقدمته لكتاب توم بوتومور- مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار نویا، طرابلس، ليبيا، 2004، ص 20.

(11) - عبد الغفار مكاوي، تجارب فلسفية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2020 . ص  106 .

(12) - ماكس هورکهایمر وثيودور أدورنو، جـدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2006، ص32.

(13) - الأوديسة باليونانية (ούνταξις)هي ملحمة شعرية وضعها هوميروس في القرن 8 قبل الميلاد. وتتكون من 24 جزئا. تبدأ الملحمة من منتصف القصة، ثم تروي ما حدث بالبداية وتنتهي بوصول البطل إلى الجزيرة. تبدأ قصة الأوديسة بعد نهاية ملحمة الإلياذة. وتروي قصة عودة أوديسيوس ملك إيثاكا الذي من المعروف عنه أنه صاحب فكرة حصان طروادة.

(14) - يسمى أوديسيوس يوليز أو عوليس باللاتينية (Ulysses)

(15) - Max Horkheimer et Theodor W. Adorno, La dialectique de la raison, fragment philosophiques, traduit de l'allemand par Eliane kaufholz, Editions gallimard, p 50.

(16) -Max Horkheimer et Theodor W. Adorno, La Dialectique de la Raison, trad. Éliane Kaufholz, Gallimard, 1974, p. 72.

(17) - خلدون النبواني، الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت من الماركسية إلى ما بعد الحداثة، الأوان، 8ديسمبر 8, 2013. https://bitly.ws/3dqE3

(18) - عبد الغفار مكاوي، تجارب فلسفية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2020 . ص  106 .

(19) - عبد الغفار مكاوي، تجارب فلسفية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2020 . ص  106 .

(20) - عبد الغفار مكاوي، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017. ص 31.

(21) - حسان حمون، مدرسة فرانكفورت وأزمة الحداثة الغربية، مرجع سابق، ص 277.

العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وان الخصائص العقلية تابعة للخصائص الفيزيائية... (ويكيبيديا الموسوع). بمعنى جوهر العقل في الوقت الذي يكون تجريد لغوي في التعبير عن موجودات عالمنا الخارجي فهو اي العقل خاصية فيزيائية في اشباعه احاسيس الجسد الغرائزية.

بالحقيقة هذه العبارة المبتورة تعتبر العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وإن الخصائص العقلية التفكيرية تابعة لخصائصه الوظيفية الفيزيائية (للعقل) كعضو في تكوين أعضاء الجسم الذي يحتويه. هذه العبارة تختصر مجلدا من المناقشات الفلسفية المتناحرة والمتناطحة مع بعضها بلا جدوى. فخاصيتي العقل البايولوجية وخاصيته اللغوية التجريدية هما جوهر واحد لعقل واحد لا يمكننا تجزئته.

إذ دأبت مباحث الفلسفة منذ افلاطون وارسطو وديكارت إعتبار علاقة العقل بالجسم أنه جوهر غير فيزيائي منفصل عن الجسم ماهيته التفكير. لكن ما يجب الوقوف عنده بالعبارة أن الخصائص العقلية التجريدية للعقل جوهر ماهيته التفكير هي علاقة جدلية معرفية تكاملية مع الخصائص الفيزيائية للعقل على إعتباره عضو بايولوجي في جسم الانسان له وظائف فيزيائية خارج وداخل الجسم أخرى تتجاوز خاصية العقل جوهر ماهيته تفكير تجريدي منفصل عن الجسم.

حسب النزعة المثنوية أو الثنائية (علاقة العقل بالجسم) ترى العقل جوهرا مستقلا عن الجسم. في حين خالفهم الرأي بعضا من أصحاب خصائص العقل البيولوجية الوظائفية الذين يرون فيها العقل جوهرا غير منفصل عن الجسم. هم أصحاب النزعة الواحدية أن العقل والجسم ليسا كيانين وجوديين منفصلين إنما هما جوهر واحد في الإفصاح عن مدركات العالم الخارجي والعالم الداخلي للانسان. وتبّنى اسبينوزا هذا الرأي.

طرح افلاطون في وقت مبكر تعريفه العقل من وجهة نظر فلسفية تعتبر إبنة عصرها قبل تقدّم مباحث العلم في دراسة وظائف الأعضاء وفلسفة العقل المعاصرة. قوله العقل لا يمكن شرحه بمصطلحات الجسم الفيزيائية، أي بمعنى أراد افلاطون حصر العقل ضمن مباحث الفلسفة كتجريد منطقي لغوي بعيدا عن علم وظائف الاعضاء بيولوجيا التي تركن فلسفة العقل التجريدية جانبا.

بتعبير ربما يكون أكثر وضوحا أن العقل في الوقت الذي هو جوهر ماهيته ملكة التفكير، فهو بنفس الوقت عضو بايولوجي من أعضاء الجسم يقوم بفاعليات ما لا حصر له تدخل ضمن خاصّية العقل الإدراكية ومسؤوليته المباشرة عن كل شيء يصدر عن الانسان من سلوك ومعرفة بالحياة والوجود خارج وداخل الجسم. بالحقيقة هذا الانقسام بين بنية العقل التجريدية الفكرية الفوقية بتعبير ماركسي، مع البنية الوظائفية البايولوجية التحتانية للعقل كعضو تحتويه الجمجمة في غير حصر جوهر العقل أنه تجريد تفكيري لغوي ، يجعل من رأي أصحاب مذهب الواحدية في علاقة إرتباط العقل بالجسم من جهة وعلاقة عدم إنقسام العقل على نفسه أنه ليس خاصّية لغوية إدراكية تجريدية من جهة ثانية صحيحا ، وأن العقل تكوين بايولوجي له وظائف علائقية بالجسم بما لا يمكن حصره وهو يتجاوز تعريف العقل أنه خاصّية تفكيرية تجريدية غير مادية.

هذا الإنقسام الذاتي الافتراضي للعقل على نفسه يجمع خاصيتي تجريد - بيولوجي  يقوم على جدل من العلاقة التي تشبه علاقة جدل الفكر والمادة ، وجدل الفكر واللغة. هناك خاصّية جدلية للعقل تقوم على جدلية الفكرمع الإدراك العقلي المادي من جهة، وجدل آخر يحكم علاقة العقل بالجسد بايولوجيا في إشباع غرئزه مثل الجنس وحاجته للطعام والنوم والعيش المؤنسن مع مجتمعه وكذلك اشباع حاجات النفس والعاطفة والاخلاق والضمير والوجدان والقيم..

ديكارت والعقل

بمجيء ديكارت في القرن السابع عشر أراد إعطاء العقل ميزة متعالية على مباحث الفلسفة فأوقع نفسه في خطأ لم يكن يتصوره تحت وطأة تطوير فهم افلاطون أن العقل تجريد لغوي لا يخضع لمنظومات العقل البيولوجية الادراكية.. فعمد  إختصار ومصادرة الجدل البايولوجي حول العقل في تأكيده المنحى الفلسفي للعقل جوهر منفصل عن الجسم ماهيته ملكة التفكيرفقط وأهمل عن قصد العقل كتكوين بيولوجي يرتبط بجسم الانسان.كما ينسب لديكارت قوله مؤيدا لما يسمى المثنوية (علاقة العقل بالجسم) " العقل غير محدود في إطاره الفيزيائي، فهو جسم غير مادي" نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.

يبدو لي على الأقل وجود تناقض بالعبارة فما هو فيزيائي يكون بالضرورة الماهوية ماديا وليس غير مادي. وكل فيزيائي هو مادي، والتناقض الآخر حين يعتبر ديكارت العقل قدرة غير محدودة فيزيائيا لأنه غير مادي؟ قدرة العقل غير المحدودة فيزيائيا هي كون العقل يجمع خاصيتي الادراك الحسي التجريدي للاشياء في التعبيرعنها بالفكر واللغة. وهذا لا ينفي خاصيته الثانية هي العقل ماديته العضوية البيولوجية داخل تكوينات الجسم يجعل من جوهر العقل انه فيزيائي وليس تجريدي لغوي فقط..

العقل سواء إعتبرناه عضوا ماديا في جسم الانسان ،أو إعتبرناه تجريدا إدراكيا لا يرتبط بالجسم ففي كلا الحالتين هي حالة إثبات فيزيائية العقل،وحالة تجريديته التفكيرية لا تغيّران من حقيقة جوهر العقل في حال كونه عضوا غير مادي كما يقول ديكارت أو يجمع الصفتين معا(المادية والتجريد) كما نقول نحن، ودليل ذلك العقل يجمع ثنائية التعبير التجريدي عن جميع الحالات الادراكية داخل الجسم وخارجه لا فرق. وبذا تنتفي حاجة تصنيف العقل ماديا فيزيائيا يحتويه الجسم تارة، وجوهر ماهيته التفكير منفصلا عن الجسم تارة أخرى. فالعقل موجود فيزيائي غير منفصل عن الجسم ماهيته التفكير والإستجابة لكل ردود الإفعال الصادرة عن مدركاته الاشياء والموجودات في العالم والطبيعة. ومسؤول عن ردود الافعال الوارد اليه من ضرورة اشباع غرائز الانسان التي يحتاجها الجسد داخليا.

ديكارت في تجريده العقل

ويعزى لديكارت أنه كان أول من أعطى العقل أسبقية ربطه بالوعي والادراك الذاتي. بمعنى ديكارت أراد تجريد العقل من خاصيته البايولوجية تماما التي تقود مسؤوليته الوظيفية خارجيا وداخليا عن الجسم، فأوقع نفسه في كمين لم يكن أمر تجاوزه سهلا هو إنكاره العقل عضو بايولوجي يحتويه الجسم ويقوم بمهام وظيفية يعتمدها العلم تتجاوز الفهم الفلسفي المحدود أن العقل جوهر منفصل عن الجسم ماهيته التفكير المجرد فقط. بمعنى إستنسخ ديكارت مقولة افلاطون السابق ذكرها العقل ليس خاصية بيولوجية عضوية بل هو خاصية تفكيرية تجريدية فقط.. السبب بذلك ان افلاطون كان فيلسوفا وليس عالما يدرس الطبيعة في موجوداتها وفي خصائصا ايضا وعلاقة الانسان بها.

كما وخطأ ديكارت الاكبر هو في إعتباره العقل جوهرا مستقلا عن الجسم والعقل خالد خلود النفس الانسانية، والحقيقة البايولوجية التي تحكم الكائن الحي يتقدمها الانسان، أنه لا يبقى جوهر مستقل خالد لا للعقل ولا للنفس بعد ممات الجسم وفنائه. من الواضح ان ديكارت تجاوز اهمية  الفرق بين النفس والروح؟

ديكارت لم يكن خافيّا عليه تشريح العقل فسلجيا كعضو بايولوجي يمثل أحد أهم أعضاء جسم الانسان في تعامله مع مدركات الحياة، بدليل مقولته الفسلجية الخاطئة التي قال بها ديكارت عن الغدة الصنوبرية الموجودة وسط الدماغ.

حيث إفترض ديكارت حتمية وجود مكان معيّن في الدماغ يجرى فيه تجميع المعلومات قبل إرسالها إلى العقل اللامادي. وكان المرشّح الأفضل لهذا المكان، بالنسبة لديكارت، هو الغدة الصنوبرية، وذلك لأنه رأى أنها الجزء الوحيد من الدماغ الذي يملك بنية واحدة، على عكس بقية الأجزاء التي تنقسم بين النصفين الأيمن والأيسر للدماغ. (نقلا عن الموسوعة).

يلاحظ هنا إصرار ديكارت مغالطة نفسه قوله قوله ما معناه ان منظومة العقل الادراكية هو تجميع المعلومات وإرسالها الى العقل اللامادي ويقصد به العقل غير الفيزيائي غير العضوي بالجسم. وبهذا يريد ديكارت تأكيد فلسفته أن جوهر العقل تجريد تفكيري فقط وهو العقل اللامادي. فين الحقيقة العلمية والفلسفية تقول خاصية العقل انه جوهر فيزيائي بيولوجي قبل خاصيته ان يكون جوهرا تفكيريا.

الحقيقة التي عبرها ديكارت أن العقل جوهر واحد مادي وغير مادي معا، فهو في الحالتين خاصيّة تجريدية إدراكية لغوية بنفس وقت هو خاصّية بيولوجية عضوية غير تجريدية. ولا يمكن الفصل بينهما مطلقا. تماما كما في إستحالة الفصل بين الفكر واللغة. سيرة حياة ديكارت تشير الى أنه كان مولعا وممارسا لعلم وظائف الاعضاء وتشريح جسم الانسان إضافة الى ولعه بالرياضيات ومنجزات العلم وهذا يعطينا حقيقة أن ديكارت لم يكن فيلسوفا يتعامل مع تفكير الفلسفة كتجريد عقلي. بل يتعامل مع العقل كعضو بايولوجي يحتويه جسم الانسان كبقيّة أعضاء الجسم الحّي.

ديكارت كان ملمّا الماما كاملا بأجزاء تكوين الدماغ وعمل الفص المّخي الايمن بإختلافه عن عمل الفص المّخي الايسر بالنسبة لجسم الانسان حيث تكون فعاليات عمل الفص المّخي الايمن مسؤولا عن الجهة اليسرى من الجسم طوليا، وعمل الفص المّخي الايسر مسؤولا عن وظائف النصف الأيمن من الجسم.

مع هذه المفارقة المعرفية العلمية المطلع عليها ديكارت جيدا علميا لكننا نجده أهمل وظيفة عمل الدماغ كعضو بايولوجي من تكوين جسم الانسان على حساب تركيزه على العقل بإعتباره لوغوس (عقل / خطاب) فلسفي تجريدي خالد كان معروفا تماما عند فلاسفة اليونان القدماء. ولم يكونوا عارفين تكوين العقل بايولوجيا كونه إختصاص علمي متقدم ظهر لاحقا بعد قرون من ظهور الفلسفة اليونانية.

ديكارت والعديد من الفلاسفة السابقين عليه لم يكونوا يعطون تمييزا واضحا بين العقل التجريدي الذي ماهيته التفكير وبين العقل البايولوجي المسؤول عن كل إدراكات الانسان وسلوكه بالحياة ومحاولة فهم الطبيعة والوجود..

بعض تناقضات فلسفة العقل

عديدة هي المداخلات التي مركز دورانها العقل، فمثلا أصحاب ثنائية العقل والجسم الفلسفية تؤكد بداهة الفكر هو تجربة الوعي المجرّد عن المادة. وهي مقولة صحيحة إذا أخذنا الوعي هو تجريد لغوي يتبع تجريد العقل. وعمدت الفلسفة الهندوسية واليوغا منذ حوالي650عاما قبل الميلاد تقسيمهم العالم الى عقل وروح ومادة.

بغض النظر عن مدى صّحة أو خطأ التقسيم الفلسفي الهندوسي، نطرح بشكل بسيط إشكالية العقل في علاقته بالنفس والروح، ثمة خطأ تداولي بادبيات الفلسفة إعتبارهم لفظة (النفس) مرادفا تطابقيا في التعبير عن معنى (الروح)، المعضلة الواضحة التي لا يصار الإعتراف بها أن مصطلحي النفس والروح كلاهما مصطلحان تجريديان منفصلان عن بعضهما في إرتباطهما بالعقل وجسم الانسان.

وبضوء مرجعية هذا التعالق نقول أن النفس ليست هي الروح في دلالة ثنائية مختلفة في المعنى وليس في دلالة مرادفة أحادية المعنى، ما نعني به النفس بعلاقتها بالعقل والجسم هي نفسها لفظة الروح في ترابطها بنفس العلاقة مع العقل والجسم. لكن يبقى التفريق بين النفس هي غير الروح قائما فرقا جوهريا لا يمكن إغفاله.

كما إعتبر ديكارت النفس أو والروح جوهرا منفصلا تجريديا مرتبطا بالعقل والجسم، يشملهما خلود العقل كجوهر خالد حسب ديكارت وهو خطأ بني على خطا سابق عليه في إعتبارهما النفس والروح جوهرين منفصلين عن العقل والجسم لا يقل فداحة من خطأ  إعتبارهما جوهرا واحدا خالدا ملازما خلود العقل.

النفس هي مجموعة الخصائص والفعاليات والعواطف والضمير والسلوك المرتبط توضيحه بعلم النفس السلوكي، والنفس تشكيلات عاطفية شعورية ولاشعورية مبعثها الإحساسات في العالم الخارجي. والنفس رغم أنها من ناحية الإدراك المرتبط بالعقل هي تجريد صرف قبل تحوّل مدركاتها الى سلوك وعواطف ومشاعر وعلاقات اجتماعية يجري التحقق منها في السلوك المرتبط بوصاية العقل عليه.

إذن النفس لا تمتلك إستقلالية جوهرية منفصلة عن العقل بل هي فعالية خاصّة يمتلكها الانسان بتعالقها مع توجيهات ووصاية العقل عليها. وجميع إفصاحات النفس التي مررنا على ذكر بعضها لها إرتباط وثيق بالعقل في الجسم الحي غير الميّت.

كما أن ربط النفس باللاشعور يلغي عنها ويجرّدها أن تكون النفس وعيّا إدراكيا يتمّثله السلوك الواعي الشعوري في التعامل مع الحياة ويجردها من خاصية أن النفس وعي قصدي وسيلة تنفيذه السلوك. نعود التذكير بخطأ ديكارت قوله النفس جوهر خالد يلازم جوهر العقل بالخلود كليهما بعد فناء الجسم بعد موته.

أما الروح التي ليس لها علاقة بالنفس، ولا بالعقل غير تعالقها الميتافيزيقي غير المحسوم جدليا لا على مستوى العلم ولا على صعيد الدين ولا على صعيد الفلسفة أيضا، فالروح مصطلح ميتافيزيقي مبهم وغامض على صعيدي الدين والفلسفة وليس بمستطاعتهما تعريف ماهيتها وأين يكون موضعها في الجسم أو على الاقل معرفة مصدرها ومن أي شيء تتشّكل، فالروح تسكن الجسد من غير إدراك عقلي لها لا بالماهية ولا بالصفات سوى الإتفاق على تعبير غائم أن الروح تفارق جسم الانسان بعد وفاة هذا الأخير سريريا. وادبيات الاديان تتعامل مع الروح أنها لا تعني النفس كما يجري الخطأ بالفلسفة.

ننتقل الى إشكالية أخرى ما هي علاقة الذهن بالعقل؟

الرائج فلسفيا الذهن هو مصدر التفكير بمدركات الحواس وهو خطأ دارج متداول فلسفيا، في البدء علينا توضيح هل الذهن خاصّية تفكير أم الذهن خاصّية إدراك داخل منظومة العقل الإدراكية؟. الحقيقة الذهن هو حلقة إدراك في إستلامه الإنطباعات الواصلة اليه عبر الحواس. ولو إعتبرناه مركز تفكير وتفسير لمدركات الانطباعات الخارجية، لأصبح تنحية دور العقل في وصايته على عملية الادراك منذ بدايتها بالحواس وإنتهائها بالمخ هي جميعها فعالية تجريدية يقوم بها عقل مادي عضوي في جسم الانسان.

علاقة الذهن بالعقل التفكيري التجريدي هو حلقة في منظومة العقل الإدراكية وليست عضوا ماديا يمكن التحقق من وجوده. وإعتبار الذهن ينوب عن وظيفة العقل بالتفكير خطأ لا يمكن تجاوزه. التفكير خاصيّة دماغية وليس خاصية ذهنية.

ولو نحن إعتبرنا الذهن هو حلقة عضوية ترتبط تحديدا بخلايا موجودة بقشرة الدماغ عبر شبكة منظومة الجهاز العصبي، لوقفنا أمام تساؤل محرج يلغي هذه الفرضية الخاطئة اذ لو كان الذهن عضوا بايولوجيا يرتبط بعضوية المخ البايولوجية لتوجب علينا تحديد موقع الذهن العضوي أين يكون، بمعزل عن معرفتنا لملايين الخلايا العصبية المسؤولة عن اتاحة خاصية التفكير للذهن ليس بمعزل عن خاصية العقل بالتفكير. تفكير الذهن هو تفكير العقل.

الحقيقة الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها أن العقل يحتوي الذهن ضمن منظومة الإدراك لكن لا يستطيع العقل الإستغناء عنها في أن ينوب عنها كما الذهن يعجز الإستئثار بخاصّية التفكير العقلي وينوب عنه. وبذا يكون الذهن حلقة توصيلية في منظومة الادراك العقلي. الذهن كما يصفه بيركلي هو الحلقة الإدراكية التي تستلم الإنطباعات الخارجية عن الحواس ونقلها الى العقل البيولوجي عبر منظومة شبكة الجهاز العصبي بلا تغيير يطرأ على تلك الانطباعات وهو نفس مايراه ديفيد هيوم صحيحا. ونضيف الذهن ليس مصدر تفكير ينوب عن العقل في إصداره مقولاته الفكرية التجريدية بتعبير اللغة، وهذه الخاصيّة العقلية لا يمتلكها الذهن كونه لا يستطيع التعبير عن مدركات الوجود خارجيا وداخليا دونما مرجعية العقل في مقولاته التي حصرها وأجملها كانط بإثنتي عشرة مقولة.

هناك مدرسة فيزيائية عقلية حديثة تعتمد النزعة العلمية تذهب أنه بالنهاية لا يوجد في عمل العقل غير العمليات الفيزيائية التي تقوم على الخاصّية البايولوجية للعقل، معتبرين كل الخصائص العقلية هي خصائص فيزيائية حتى تعبير اللغة التجريدي، سواء نفهم العقل جوهرا تجريديا أم عضوا بايولوجيا في الجسم. وهي براينا فلسفة واقعية حقيقية صائبة.

بناءا عليه نقول أن الإحساسات الخارجية التي يدركها العقل إنما يكون رد الفعل العقلي عليها هو تجريد فكري، بينما تكون الأحاسيس التي تثيرها أجهزة الجسم الداخلية مثل الشعور بحاجة الجنس الغريزية او بالجوع أو العطش أو الالم أو الحزن الخ فيكون رد الفعل العقلي عليها عضويا داخليا سواء في إشباعها كغرائزبيولوجية أو في معالجتها كأعراض مرضية أو أحاسيس بيولوجية مصدرها أجهزة الجسم الداخلية العضوية..

تقاطع العقل والجسم

يذهب بعض العلماء والفلاسفة أن العقل لا يطابق رغبات الجسم ولا يطابق تلبية إحتياجات الجسم على الدوام،معتبرين إنفصال العقل عن الجسم حقيقة بيولوجية قائمة لا يمكن نكرانها. ما يرتّب فصل العقل عن الجسم ضرورة تفك الإشكال القائم بينهما على أصعدة عديدة. من الأمور التي أجدها تفيد هذه الإشكالية من منطلق فلسفي فقط وليس من منطلق علمي ليس من إختصاصي:

- حاجات الجسم التي يحتاج بها ملازمة العقل له في إشباعها تنقسم نوعين :

1. الاول: حاجات المثيرات الناتجة عن عملية الادراك الجدلية مع موجودات العالم الخارجي والطبيعة والحياة.

2. الثاني: حاجات إشباع النوازع الغريزية التي يحتاجها الجسم داخليا عبر إجهزته البيولوجية عن طريق ما تثيره من أحاسيس الجسم الداخلية مثل سد حاجة الجوع، العطش، الالم، الحزن، الفرح، النوم الخ.

- السؤال الذي يثار بضوء ما ذكرناه أعلاه، هل هناك في كلتا الحالتين إشباع إحساسات الإدراكات الخارجية، وإشباع أحاسيس أجهزة الجسم الداخلية، حاجتهما الى مرجعية أخرى ذاتية أو غير ذاتية سوى العقل؟

بالتاكيد الجواب بالنفي، فجميع الإستشعارات الخارجية والداخلية الواصلة للجسم لا يستطيع الجسم تلبيتها دونما تكامل عمل العقل مع حركة الجسم، فلا العقل يستطيع إتخاذ الإجراءات اللازمة من دون حاجته لتنفيذ تلك الايعازات العقلية من قبل أعضاء الجسم في ملازمة العقل. ولا الجسم يستطيع منفردا دون العقل القيام بتنفيذ ردود الأفعال لما يستشعره .

- عليه لا يكون هناك حاجة أهمية مناقشة هل العقل جوهرا منفصلا عن الجسم أم لا ؟ كما ليس ذات أهمية مناقشة إختلاف حاجات الجسم بايولوجيا (فقط) عن تلبية حاجات العقل الادراكية التجريدية. لذا يتأكد ما سبق لنا ذكره أن العقل يمتلك خاصيتين أن يكون عضوا بيولوجيا بالجسم في نفس وقت ملازمة صفته الادراكية أنه مركز التفكير المجرد في التعبير عن الاشياء المادية وغير المادية الخيالية التي لا علاقة لها بالعالم الخارجي بوسيلة الفكر واللغة المجردتين. علما أن العقل في كل إستجاباته الادراكية الخارجية والداخلية إنما هي وعي تعبير ذهني تجريدي تمّثلي وتصّوري لغويا. الادراك بخلاف العقل جوهر لا مادي ماهيته نقل الاحساسات تجريديا عن اشياء وموجودات العالم الخارجي.

- لكن يبقى هناك إستدراك ضرورة التنويه له، هو إحتمال وارد جدا أن العقل يحتاج في إدارته إشباع حاجات تعتبر أساسية بالنسبة له، ثانوية بالنسبة للجسم، فالعقل بما يمتلكه من خاصيّات بيولوجية عضوية، وخواص تجريدية إدراكية وخيالية تكون أولوية مسؤوليته في إشباع حاجات الانسان برمّتها المادية منها، وغير المادية تقوم على عاتق العقل دون الجسم أو معه، مثال ذلك أن العقل في المجال العلمي التخصصي لا يحتاج الجسم تنفيذ ما يرغبه الا في حركات إجرائية بسيطة مثل حركات اليدين والاحساسات الواردة خارجيا، نفس الشيء حين يحتاج العقل المخّيلة والذاكرة والإدراك الذهني الصرف،  لانتاجية ابداعية يرومها في مجالات متعددة مثل الكتابة والتاليف في مختلف الاجناس الادبية والثقافية والفنية والفكروالمعرفة وضروب أخرى عديدة التي يتراجع فيها دور الجسم لإعطاء تقدم وأسبقية العقل القيام بتنفيذها.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

 

مع ألوان وزركشات الأحذية يُمكننا قراءةَ الكثير والكثير من الخلفياتِ. الحذاءُ هو المادة الثقافية المتأخرة لعلاقات االقوى بين الناس. ويمكننا تصنيفه (أي الحذاء) داخل البنية التحتية لحركة الإنسان. لأنّه يندرج مع قدرات (الفعل والتأثير) بحكم وجوده عبر الانشطة المختلفة. فلكي نبدأ في الحركة والانطلاق، يجب التأكد من إرتداء الحذاء كأحد متطلبات العمل.

كما أنَّ مظهراً معيناً لأي حذاء إنما ينمُ عن معانٍ خارج سياقه. كأنَّه يحمل بصمات وجودنا الإنساني في لحظةٍ مكثفةٍ من الحركة السائلة. ومن ثمَّ، عندما نريد أنْ نفهم المعنى البعيد للأشياء، ينبغي الانهماك في فهم المعنى القريب جداً. وليس ألصق بأقدامنا- على وتر حسّاس مع اعصابنا- من الأحذية. والوتر الحساس لأجسامنا يتشكل بكل الجلود المحيطة ثقافياً واجتماعياً.

جسم الإنسان مغلَّف بنوعين من الجلود:

1-  " الجلد الطبيعي" الذي يبدو وجوداً حيوياً يشعرنا بأحوال المناخ والأشياء والكائنات والعلاقات مع العالم، مثل البُرودة وارتفاع الحرارة والإحساس بالأسطح والأماكن. وهذا الجلد هو مادتنا البيولوجية التي تشركنا مع الكائنات الحية. ويظهر الجلد الطبيعي كأنه عالمنا الفوى الإحسايس. إنه آن ٍدائماً، بمعنى أننا نشعر به آنياً وفورياً في كل لحظة وهو بمثابة إعلان حضور في العالم.

2- "الجلد الثقافي" وهو رمزية العالم الذي نصطّنع منه وجوداً (معنوياً ومتخيلاً وقيمياً) لدينا نحن البشر. وهو نقش إنساني لما نود أنْ نكون عليه. إن القبائل البدائية التي كانت توشم جلودها بالرسومات والخطوط والألوان والروائح والصور المختلفة هي أبرز الأمثلة على ذلك. وتبدو النقوش حضوراً مضاعفاً لهويات الكائنات الاقوى التي يتطلع إليها الإنسان. وكذلك تحمل جلودنا الثقافية فنوناً من نوع مبدع. لكونها تمد عقولنا بكل ما هو خارج عن القيود، حين يستشعر البشر حرية الوجود وإثارة الأخيلة.

إشكالية الحذاء هي الخلط بين الإثنين كممارسة تُعطي الفرد تجرية الوجود طبيعياً وثقافياً في الوقت نفسه. ومع وجود العلاقة التي تحضر عندها فكرة الإحساس بالطبيعة كما هي، فالإنسان دوماً صانع عتيد لهذا النوع الأخير (الجلد الثقافي)، حتى يتلقى إشارات الأشياء وعلاماتها بشكل مختلفٍ. إنه لا يريد أن يكون كائناً طبيعياً كباقي الكائنات ولا يقبل بالإلقاء على قارعة الوجود وبالتالي يصطنع شيئاً مغايراً. فالتمرد يجعله كائناً يعاند الطبيعة (الجلد الطبيعي) ويرتدي فوقه جلداً ثقافياً ملتوياً مموهاً. والخطورة عندما لا يميز بين الإثنين، وعندما يجد الجانب الثقافي عاجزاً عن خلق عالم مليء بما يريد، عالم دال بالمعاني المطلوبة للحياة.

وتلك كانت أزمة الإرهابيين عندما تعاملوا مع الأفكار كـ"جلد طبيعي" لا يتغير، كأنها أحذية من نوعٍ خاص لا يجب الاقتراب منها ولا ينبغي التنازل عنها. والأدهى أنْ تحولت الأفكار إلى أسلحة يُضرب بها الأعداء والأغيار. ولذلك لا تعد فكرة اللثام لدى التنظيمات الدينية فكرةً بريئةً بالمرة، عندما كان تنظيم الدواعش وبعض الجماعات الدينية يرتدون غطاءً للرأس كما لو كان حذاءً بالأعلى. وذلك حتى يشعرون بترديد الأصوات الخاصة بهم فقط. وحتى لا تكون هناك مبارحةٌ بين ما يتخيلونه وما يمارسونه في الواقع. والأهم أنهم يفعلون ذلك، لكيلا يشعروُن بمن حولهم كوقاية مضافةٍ إلى جلودهم الطبيعية.

أثر واكسسوار

إنَّ احساسنا بالثقافة وردود أفعالها يترك آثاره على أجسامنا بالمثل، فالفرد الذي يعيش تجربةً من القهر والعنف، لن يكون جسده سوى مرآة عاكسة للتفاصيل التي مر بها. وكذا تجارب الحب وتجارب الإيمان وتجارب الحرية، إذ تمثل الثقافة جلداً رمزياً symbolic skin قابلاً للشد والجذب. ونشعر بالمواقف كما لو كانت تأتينا في صورة التجارب الحياتية. الحذاء يندمج في هذا المحيط، فيصبح جزءاً من إحساسنا العام بأنفسنا. إنَّ الإنسان الذي يرتدي حذاءً يصله إحساس عن كل ما يلامسه ويشعر به.

هذا هو ما يجعل الاحساس الاجتماعي وضعاً ممكناً بما يرتديه الشخص. أي نتيجة كون الحذاء مفردة إحساس وانعكاس خارج الأفراد (بالنسبة للآخرين)، ستكون رؤيته في سياق تاريخ ما أمراً مُتاحاً. وتلك هي الوضعية الفلسفية التي تجعل منه موضوعاً للتفكير. كانت أحذية فان جوخ التي رسمها بأنامله الفنية مثالاً على ذلك، لكونها مثقلة بأزمنة وملامح تاريخية ودلالات عميقة باستمرار. وكلّ منا لديه فيما يخصه نوع من  حذاء فان جوخ، يحتفظ به أو يستعمله بهذه الطريقة الفنية أو تلك. إن أحذيتنا محتفظة بالوقائع والمشاوير والرحلات والظواهر والأحداث وتمتص الصدمات الإنسانية التي تجدد نفسها من وقت لآخر.

من صميم تلك الخاصية، يندرج الحذاءُ كأثر وكعلامة تجارية طويلة التسييس في مجتمعاتنا الراهنة. أثر لثقافةٍ حرصت أن يكون الحذاء المعاصر بصمة تاريخية لها. وعلامة مارّة عبر مراحل مختلفة من القيمة والعرض والطلب والتسوق على نطاق واسع. وهذا الاتجاه مرتبط أيما ارتباط باستغلال القوى الكبرى للمجتمعات. ليس الحذاء إلاَّ هذا الاثر الممتد والعلامة التي لا تكف عن الاستعراض. وبطبيعة الحال تريد الدول القوية الهيمنة عبر الصناعات المختلفة. ومن ثمَّ، كان حضور الاكسسوار حضوراً حضارياً لا يخلو من سيطرة. وهو ما يلبي رغبة الأفراد، ولكنه يمثل قوةً ناعمةً لن يفلتوا منها.

لعلَّ ما جرى على كافة (الأشياء ما بعد الحداثية) قد جرى على الحذاء في الاتجاه ذاته. لأنه تشكل بكل ما توافر في عصرنا من قدراتٍ. فلم يعد الحذاء مجرد غطاء للأقدام، ولكنه بات صورة متحولة ومتطورة. وتحمل توقيع الشركات الكبرى في العالم، وليس غريباً أن تبادر العولمة بتوفير هذه المنتجات وملحقاتها،  بل الغريب أن تحظى بشهرة جابت الآفاق. وأن يكون هناك إقبال على شرائها دون تردد. وتبدو الأحذية مفتاحاً لشبكة معقدة من المصالح  التي تضرب أطرافها في السياسة والإقتصاد والرياضة والفنون والحروب.

بالإمكان أنْ تمسي شركات صناعة الأحذية متعددة الأنشطة بين المجالات السابقة. فالأحذية الرياضية تضخُ عوائد أرباحها في تجارة الممنوعات. والعكس تجارة الأسلحة تدعو أصحابها لفتح مجال للأحذية. أيهما أكثر أهمية عندئذ الأسلحة أم الأحذية؟ وأيهما يوفرُ غطاءً خادعاً للآخر؟! وكذلك تجارة الحروب والمرتزقة تتداخل مع تجارة الأحذية. فعقود الشركات والتمويل الضخم للأنشطة العسكرية يجري في عروق وجلود الأحذية بالقوة ذاتها التي يجري بها في السياسة. هذه هي السمة المميزة لمنتجات ما بعد الحداثة، كل سلعة تصب في مصلحة الأخرى وتدعو للتعددية الربحية على أكثر من مستوى. وذلك لكون الشركاء الأقوياء قلائل ويهيمنون على مشهد العالم وأحداثة في أغلب المجالات. ويديرون أوضاعاً عالمية بكافة الأيادي الخفية: اليمن واليسار ويمين اليمين ويسار اليسار.

إنه العمل الدؤوب لعولمة الأحذية وتسييس الموديلات التي تجتذب الرغبات من شتى بقاع العالم. أمريكا في متاجر البيع والشراء داخل دول الشرق والغرب على السواء. وتدل الأحذية عالية الجودة عن أصابعها اقتصاديا وسياسيا. وإذا وقعت جريمة حربية كما تحدث جريمة الإبداية في غزة ومن قبل جريمة الإبادة للشعب العراقي ولشعوب العرب بالموت البطيء، فسيكون دليل الإدانة في مواقع الجرائم هو الأحذية.

الحذاء والهوية

في جميع عصور التاريخ، تتكيف الأحذية مع نمط الحياة القائم. فالحياة البدوية تتميز بالصعوبة والحركة البطيئة على الرمال وبين الصخور والتلال والوديان. ومع وجود الترحال من موطن إلى آخر وسط الصحاري، وهو ما يتطلب نوعاً من الأحذية المناسبة لهذه النمط. والحياة الريفية تتطلب أحذية تواكب الزراعة والري والأرض الممهدة وتغيُر الفصول ونزول الانهار والمصارف المائية. وحياة المدينة تفرض أحذية خفيفة الوقع وسريعة الإرتداء وسهلة الخلع أيضاً. لأن الحياة سريعة الايقاع ومعقدة العلاقات وتهتم بالمظهر والجاذبية والقدرة على ملامسة الصور العامة بين الناس.

يبدو الحذاء موضوعاً للتكيف مع البيئة المحيطة (الجلد الطبيعي). ولكن مع مرور الزمن يصبح لصيقاً بحضور الإنسان زماناً ومكاناً. حتى أنه يُلخص كلَّ السمات التي تجسدها الجماعات البشرية(الجلد الثقافي). إنَّ البيئة هي السر الخفي الذي يتسلل إلى ثقافة البشر طارحة شروطاً يصعب مخالفتها. لأن البيئة إحدى المصادرات(المسلمات) التي تعد طبيعية وثقافية في الآن نفسه. وهو ما يختزل وجود الإنسان في زيٍّ أو في قطعة حذاءٍ أو في أسلوب من أساليب العيش.

انطلاقاً من هذا، أخذ الحذاء يمس قضايا الهوية والانتماء، لأنَّ الهوية تنتمي لفصيل القضايا المزدوجة ثقافياً وطبيعياً. وهي تتقمص الأشياء التي تبدو مموهة عند الدرجة الغامضة لأشياء الإنسان. فالأدوات والأزياء والأشكال ترتبط بالهويات، لكونها تتحدد مع مظاهر البيئات المختلفة، وتأخذ دلالات رمزية بالثقافة. وعند معرفة جوانبها لا ندري: ما إذا كانت ظلالاً لهذه (الطبيعة) أم تلك(الثقافة)؟

لكن بالامكان – مع عدم التحديد- القول بأن متعلقات الإنسان (الأزياء والأحذية والمنازل) تمس شيئاً جوهرياً فينا. والشيء الجوهر يتجاوز التصنيف دوماً، ورغم كونه يدخل دائرة الأدوات إلاَّ أنه يمثل رابطة قوية مع مرجعية معينة. وكما لو كان التعلق بالأشياء يجدد الإنتماء إليها ويعطيها بُعداً آخر من القوة. ومن ثمَّ، كانت الأحذية إحدى المتعلقات واللا متعلقات جنباً إلى جنب. تعكس قيم أصحابها وتبدو تجسيداً للأنشطة وصورة الحياة الخاصة. لأنَّ تلك المتعلقات تأخذ مكان التفضيل وترتبط بالأذواق والحميمية. وهو ما يجعل الرابطة معها ليست رابطةً عاديةً. إنها محط عناية واهتمام من جنس عناية الإنسان بذاته، وماذا يحب؟ وأي شيء يكره؟

لو قلنا لأفراد أية جماعة بشرية: ماذا سترتدون من أحذيةٍ؟، سيكون الاختيار مناسباً لجوهر حياتهم ولما يعطيهم انطباعاً بعمق الانتماء. ولذلك سيكون ثمة اتساق بين ما يرتديه الفرد وما يعتقده ويؤمن به وما يتبناه من رؤى. الحذاء سيرسم لمن يتابع دائرةَ كل ذلك. معتبراً - على نحو ضمني- أنَّ الأدوات فنون، والفنون معرفة وقدرة ووسيلة.

وإذا كانت الهوية استحواذاً وهيمنةً، فالأحذية تظهر كموديلات تحمل هكذا معنى. وبخاصة مع زحف العولمة وإتيانها بأنماط جديدة من الأزياء والأحذية  والأدوات. حيث انتشار الشركات العابرة للقارات والأسواق الممتدة رغم اختلاف الدول. ووجود الانتاج الذي يعبر عن قدرات اصحابه الذين يقفون في الأقاصي محركين كلّ ما يخدم مصالحهم. ليس بعيداً عن المشهد تعلق الأحذية بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تظهر موديلات الأحذية في صور براقة ولامعة وفي شكل أقرب إلى أجواء الاساطير.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

هناك فرق كبير بين فهمنا للتراث واستلهامه وفق المنظور التاريخي*، حيث استقر التراث في عقولنا وعشعش فيها (بَعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ)، وحولها – أي العقول - إلى سجون مليئة بالفتن، والتكفير، والقتل، والكراهية للمختلف، والاستبداد والتخلف، ورفض للجديد، والأهم السماح لسيطرة الخرافات والأساطير إضافة إلى تحكم دين الطقوس بدفه ومزماره، وفقه الحيض والنفاس والنقل لا العقل، ودين السلطات المستبدة ومشايخ السلطان، ودين الفرقة الناجيّة المشبع أيضاً بالصراع والكراهية ممثلاً بمرجعياته الطائفيّة والمذهبيّة والعقيديّة وغير ذلك، وهنا في هذا التاريخ الذي احتل عقولنا لمئات السنين، يتجسد تاريخ تخلفنا وضياعنا وغربتنا الروحيّة والاجتماعيّة، وتاريخ ضعفنا واستعمارنا من قبل الغير، رغم وجود الكثير من الجوانب المنيرة التي تم إقصاءها أو السكوت عنها.

وبين فهمنا للتاريخ واستلهامه وفق الرؤية التاريخانيّة،* عندما نعمل على إدخال عقولنا ذاتها في كل هذا التراث وتحليله وإعادة تركيبه بعد فرز وإقصاء كل ما يعيق حركة العقل وتقدمه ومكانته في حياة الإنسان، وبالتالي العمل على تخليص هذا التراث من كل تلك السجون الموبوءة والمفخخة بالسوء الذي ذكرناها أعلاه، أي تخليصه من كل ما يساهم في تفتيت المجتمع وإضعافه وتخلفه، وليؤسس فيه كل ما هو عقلاني وتنويري.. وكل ما يؤمن بالإنسان ودوره وإرادته في تحقيق مصيره.. وأن يبحت ويجذر أيضاً الإيمان بكل ما هو قابل للتجديد والتطور والتبدل .. وعن كل ما يؤمن بالآخر ورأيه.. أي أن يبحث فيه عن الإنسان ذاته كقيمة كبرى في هذه الحياة.

إن مشكلتنا نحن العرب مع التراث لإسلاميّ بشكل عام، والنص المقدس منه (قرآن والحديث) بشكل خاص، ابتدأت بعد وفاة الرسول عمليّاً، وذلك من خلال الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار، وتوظيف حديث (نسبوه) للرسول يقول: (الخلافة في قريش)، ثم راحت المشاكل تتفاقم عبر تاريخ الخلافة من خلال تفسير النص وتأويله فيما بعد، أو وضع الأحاديث على لسان الرسول، وخاصة في الاتجاه السياسي وما يخدم السلطان أو معارضيه، حيث فُتح المجال واسعاً في تأويل النص القرآني وتفسيره، وفي وضع مئات آلاف الأحاديث كما تذكر مصادر الحديث وعلومه. هذا في الوقت الذي راح فيه تأويل النص المقدس وتفسيره من قبل أئمة الفقه وعلم الكلام، ينالهما التقديس أيضاً من قبل المتلقين من عامة الناس. أي إن شأن ما نال التفسير والتأويل من قبل مشايخ الدين في القرون الهجريّة الثلاث الأولى من التقديس شأن ما نال النص القرآني ذاته والحديث من تقديس. حيث لم يعد ما تم تأويله وتفسيره يقبل إعادة التفسير أو التأويل ولا يقبل التبديل أو التعديل أو حتى المراجعة إلى اليوم.

لا شك أن الرسول كان يدرك أن القرآن حمال أوجه وهو القائل: (القرآن ذلول حمّال أوجه فخذوه على وجهه الحسن)، كونه يدرك دلالة الآية السابعة من آل عمران التي تقول: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). فالآية واضحة في دلالاتها المعرفيّة من جهة، وبالحوامل الاجتماعيّة لها ممن في قلوبهم زيغ، الذين سيوظفون هذا النص لمصالحهم ومصالح أسيادهم من جهة ثانية. لذلك على أساس هذه المواقف المعرفيّة والسلوكيّة، جاءت تلك الصراعات الفكريّة والسياسيّة التي كلفت الدولة والمجتمع منذ السقيفة حتى اليوم الكثير من الدماء، والتي لعبت على وترها السياسة، تحت مظلة تفسير النص الدينيّ وتأويله خدمة لأجندات كثيرة، أدت إلى انقسام المجتمع العربيّ الإسلاميّ إلى ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة تقول هي الفرقة الناجية.

إن من يتابع المسيرة الفكريّة للخطاب الإسلامي من السقيفة إلى اليوم، يجد تلك التناقضات والخلافات على مستوى علم الكلام والفقه، فعلى مستوى علم الكلام، كان هناك المعتزلة وخطابهم العقلانيّ الذي يجل العقل وحريّة الإرادة في تقرير الإنسان لمصيره، وقد اتكأ عليه العقلانيون التنويريون الذين يهمهم الدين بروحه العقلانيّة ومصالح الناس، وهناك المناوئون للسلطة الحاكمة المستبدة وهم الذين روجوا بأن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وأن السلطات الحاكمة يجب أن تحاسب على أخطائها، لكونها – أي الأخطاء – هم من فعلها. وكان هناك الفكر الجبريّ أيضاً ممثل فكريّاً بالأشاعرة والماتريديّة، وفقهيّاً ممثلاً بالتيار الحنبليّ الذين اتكأت عليهم السلطة الحاكمة بعد فرمان المتوكل عام 232هـ الذي أمر باتباع النقل وترك العقل، واعتبار الحديث الضعيف أهم من الرأي كما يقول "ابن حنبل"، وراحت السلطات الحاكمة ومشايخها عبر هذا التيار الجبري يسوقون للرعيّة بأن سلطة القوى الحاكمة مقدرة من قبل الله، وما على الرعيّة إلا الطاعة والرضوخ لإرادة الله، وكل من يخرج على السلطات الظالمة سيخرج بالضرورة على ما قدره الله له، حتى ولو كان الحاكم فاسقا وفاسدا. وعلى هذا الصراع الفكريّ المستند أصلاً على النص المقدس المفسر والمؤول من قبل التيار القدري والتيار الجبري كما أشرنا أعلاه، توقف عليه أيضاً الموقف الفقهيّ ذاته، وظهور المدارس الفقهيّة كالشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة والحنفيّة وبقية المذاهب الأخرى كالظاهريّة وغيرها من المذاهب التي لم يعد الاعتماد عليها فقهيّاً قائماً، والتي وصلت إلى أحد عشر مذاهباً، علماً أن المذهب الحنفيّ من المذاهب الأربعة المتبقية الذي أخذ بالرأي، إلا أن بقية المذاهب الأخرى المغرقة بالجبر قد حاربت أصحاب هذا المذهب ذاته، في الوقت الذي قامت السلطات الحاكمة ذاتها في سجن وتعذيب وإهانة كرامة كل من رفض التعاون مع هذه السلطات المستبدة والافتاء لمصالحها كما جرى لابن مالك وابن حنبل والشافعي ذاته، وكذلك ابن الحنفيّة كونهم رفضوا الافتاء بما يخدم مصالح السلطان، رغم أن المذهب الحنفي غالباً ما تعتمد عليه السلطات الحاكمة لتمرير مشاريع تصب في خدمة سير الدولة ومصالحها، متجاهلة مواقف المذاهب الجبريّة الداعمة لها، كما جرى في مصر في نهاية القرن التاسع عشر عندما أرادت الدولة استخدام الحنفيات في مياه الشرب والوضوء، حيث وقف الحنابلة والشافعيّة ضد المشروع فلجأت السلطة إلى أصحاب المذهب الحنفيّ لتمريره، ومن يومها سميت (الحنفيّة) نسبة إلى المذهب الحنفيّ.

إذن إن الصراع الفكريّ جاء من خلال تفسير وتأويل طبيعة النص المقدس ذاته، كونه حمّال أوجه من جهة، ومن موقف الذين في قلوبهم زيغ الذين فسروا هذا النص وأولوه لمصالحهم ومصالح القوى الحاكمة التي يعملون في خدمتها من جهة ثانية. أما الضحيّة فهم الرعيّة، الذين لا حول لهم ولا قوة... الرعيّة التي كان ولم يزل وعيها مغيباً عن حقيقة هذا النص المقدس، وعن أهداف من قام بتفسيره وتأويله لهم من الذين في قلوبهم زيغ من مشايخ السلطان وتجار الدين. وبالتالي كانت الرعيّة في القرون الوسطي، والجماهير في تاريخنا المعاصر، ليسوا أكثر من حطب وقود لأيديولوجيا مفوّته حضاريّا، ولقوى اجتماعيّة تتجر بالدين، لازالت تشتغل على هذه الأيديولوجيا حتى اليوم خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة. وإن كل ما جرى ويجري اليوم من حروب أهليّة وصراعات طائفيّة ومذهبيّة، وراءها قوى اجتماعيّة وسياسيّة لها مصالحها التي تريد تمريرها عبر الخطاب الدينيّ نفسه، مستغلة تلك التناقضات العميقة فيه التي أشرنا إليها أعلاه.

أما بالنسبة لمسألة الخلاص من المأزق الذي نحن فيه اليوم، أي الخلاص من أعشاش التخلف والفوات الحضاريّ والكراهية والحقد والصراعات الطائفيّة والمذهبيّة، فأعتقد أن الخلاص من كل أفخاخه لن يأتيّ بالنوايا الحسنة، ولا بالأمنيات أو الدعاء لله كي يخلصنا مما نحن فيه من مآسٍ، راحت تزداد علينا يوماً بعد يوم، بالرغم من تكاثر عدد المساجد في عالمنا العربيّ والصرف عليها مليارات الدولارات لتزيينها بالموزايك والصدف والأرابيسك وحتى بالذهب. ولن يأتي الخلاص أيضا من قبل القوى الحاكمة التي وظفت الدين لمصالحها الأنانيّة الضيقة، وتاجرت بالعلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون. إن الخلاص بحاجة لقوى اجتماعيّة مؤمنة بوطنها ومصالحه، وبالتالي مصالح الجماهير المعذبة والمسحوقة والمغربة والمستلبة والمشيئة والمقموعة والخائفة والجائعة والمشردة.. إن الخلاص بحاجة أيضاً لثورة عقلانيَّة تنويريّة تؤمن بالإنسان ودوره في تقرير مصيره.

ربما يسأل الكثير اليوم من هي هذه القوى الاجتماعيّة المؤهلة لحمل المشروع النهضويّ التنويريّ في عالمنا العربي؟.. أقول: هي القوى التي ستظهر من أقبية الظلام والجهل والمعاناة والفقر والجوع والحرمان والغربة والتشيىء والاستلاب والمحاصرة في حركتها وفكرها.. وإن كل الظروف القاسية التي تعيشها شعوب دولنا الشموليّة في مضمونها وشكلانيّة علمانيتها وديمقراطيتها ستخلق بالضرورة القوى الاجتماعيّة القادرة على تحقيق الخلاص، وهذا الخلاص يتحقق لو وعت هذا القوى نفسها واستخدمت عقلانيتها استخداماً صحيحاً في العمل من أجل تحقيق مصالح الشعوب. وهذا هو الفرق في تحقيق الخلاص بين فكرة الإمام المنتظر لتحقيق لدى الشيعة، والأعور الدجال عند السنة، أو المسيح المخلص لدى المسيحيّة وحتى اليهوديّة. وبين اعتبار إن المخلص هنا هم هذه القوى المسحوقة من الشعب التي فقدت كل شيء إلا كرامتها وقدرتها على التغيير.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.......................

الهوامش:

* الفرق بين التاريخ والتاريخانيّة:

- التاريخية: هو الاقرار بأن الإنسان والأشياء والفكر بعمومه والكون لها تاريخها وحركتها وتطورها وتبدلها، بغض النظر عن سلبها وإيجابها.

- والتاريخانيّة: هي الاعتقاد بجوهر التاريخيّة مع تجاهل الجوانب المثالي فيها وخاصة (الدين) أي رصد المواقف الثابتة العيانيّة والعقلانيّة. أو بتعبير آخر: اعتبار أن مفردات التاريخ هي منجزات للإنسان، لأن الإنسان هو الفاعل الأول والأخير في التاريخ، فهو الذي ينتج الثقافة والمؤسسة، وكل ما يشكل الحياة. وبالتالي فإن التاريخانيّة هي الوعي بالتحول والتغيير وفهم الوجود من معطى التغيير، باعتبار أن الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد.

 

بين القيم الكونية والتعبير الايديولوجي عن مصالح طبقية ضيقة

تمهيد: على الرغم من التمزقات والتحولات التي طبعت مسار فكر كارل ماركس، إلا أن رفض حقوق الإنسان ظل أحد نقاطه الثابتة حتى النهاية. لقد كانت أيضًا واحدة من تراثها الكارثي: جنبًا إلى جنب مع الدعوة إلى دكتاتورية البروليتاريا الانتقالية، والتي ترجمتها آنذاك المنشورة اللينينية في المفردات، التي لم يستخدمها ماركس مطلقًا، عن التعارض بين الحريات الشكلية والحريات الحقيقية، كانت بمثابة حل بديل وذريعة لأنظمة الإستبداد الدائم والشمولية الجذرية، التي تدعي وحدتها الأيديولوجية أنها تحقق وحدة الشعب التي لا تشوبها شائبة من خلال القضاء على كل ما يمكن أن يهدد نقائه. لماذا كان كارل ماركس، صاحب المشروع الذي سعى إلى أن يكون إنسانياً وتحررياً، مرتاباً إلى هذا الحد من زعم نظرية حقوق الإنسان الغربية المرافعة على المبادئ الكونية؟ وكيف أماط اللثام عن الاقنعة الرأسمالية للمصالح الكولونيالية؟

الترجمة

"أعلنت الثورة الفرنسية نهاية الامتيازات، ومساواة الجميع أمام القانون، ووجود حقوق طبيعية يجب على الدولة احترامها بشكل مطلق. وفي الوقت نفسه تظهر فكرة حرية الضمير التي ستؤدي تدريجياً إلى فصل الدولة عن الدين. وبهذا المنطق، فإن "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" لعام 1789 هو نص علماني بحت، يؤسس للحقوق الطبيعية، ويستبعد أي إشارة إلى الحق الإلهي الذي قام عليه النظام القديم. كأساس للسياسة، الطبيعة البشرية هنا تحل محل إرادة الله.   ولكن إذا تم استبعاد الدين من هذا النص، فهل الروح الدينية أيضا؟ ماركس لا يعتقد ذلك. بالنسبة له، فإن المفهوم الليبرالي (بالمعنى الاقتصادي والسياسي للمصطلح الليبرالية) لحقوق الإنسان يعيد إنتاج النموذج المسيحي، في شكل غير ديني ظاهريًا، بالوهم والاغتراب.   في الواقع، تقوم الديمقراطية الليبرالية على ثنائية الإنسان/المواطن، المجتمع المدني/الجماعة السياسية، تمامًا كما يقوم الدين المسيحي على ثنائية المدينة الأرضية/المدينة السماوية ("أعطوا لقيصر ما لقيصر" ولله ما لله." كمواطن، يشارك الإنسان في شؤون الدولة، ويفكر في المجتمع، وفي مصالح الجميع... وهنا تسود المساواة في الحقوق. ولكن كرجل عادي، وعضو في "المجتمع المدني" (عالم العمل، والأسرة، والشؤون الخاصة... وقبل كل شيء المنافسة الاقتصادية) فإن الجميع يتبعون مصالحهم دون القلق بشأن الآخرين. وهنا تسود حالات عدم المساواة بحكم الأمر الواقع (الثروة، والملكية، وعدم تكافؤ الفرص في مجال التعليم، والتوظيف، وما إلى ذلك). وهذان العالمان منفصلان تمامًا، على عكس العصر الإقطاعي، على سبيل المثال، حيث لم يكن الدور السياسي والحياة الخاصة قابلين للفصل. لم يتم تمييز الملكية الشخصية للسيد عن سلطته السياسية على عبده).  "تقمع الدولة [الناشئة عن الثورة الفرنسية] بطريقتها الخاصة الفروق الناجمة عن المولد، والرتبة الاجتماعية، والتعليم، والمهنة من خلال إصدار مرسوم بأن المولد، والرتبة الاجتماعية، والتعليم، والمهنة هي اختلافات غير سياسية، عندما لا تأخذ هذه الفروق مع الأخذ في الاعتبار، فإنه يعلن أن كل فرد من أفراد الشعب يتقاسم، على قدم المساواة، السيادة الشعبية لكن الدولة مع ذلك تترك الملكية الخاصة والتعليم والمهنة يتصرفون بطريقتهم الخاصة  وتجعل طبيعتهم الخاصة وبعيدًا عن القضاء على هذه الاختلافات الحقيقية، فهي لا توجد إلا بفضلها: فهي تدرك أنها دولة سياسية ولا تسود عالميتها في مواجهة هذه العناصر.[1] إن الدولة السياسية المكتملة هي في الأساس الحياة العامة للإنسان [2] في مقابل حياته المادية. كل شروط هذه الحياة الأنانية لا تزال موجودة، خارج نطاق الدولة، في المجتمع المدني،[3] ولكن كخصائص للمجتمع المدني. وحيثما حققت الدولة السياسية تطورها الحقيقي، يعيش الإنسان، ليس فقط في الفكر والوعي، بل في الواقع، في الحياة، حياة مزدوجة، حياة سماوية وأرضية [4]:

1) الحياة في المجتمع السياسي حيث يكون يؤكد نفسه ككائن مجتمعي

و2) الحياة في المجتمع المدني، حيث يتصرف كرجل خاص، ويعتبر الآخرين وسيلة، وينخفض نفسه إلى مرتبة الوسيط ويصبح لعبة للقوى الأجنبية [5].

كما تتصرف الدولة السياسية تجاه المجتمع المدني بطريقة روحانية مثل السماء تجاه الأرض. المتدينون، أعضاء الدولة السياسية هم كذلك بسبب الازدواجية التي تفصل بين الحياة الفردية والحياة العامة، حياة المجتمع المدني والحياة السياسية؛ إنهم متدينون لأن الإنسان يتصرف تجاه حياة الدولة، الغريبة عن فرديته الحقيقية، كما لو كانت حياته الحقيقية؛ إنهم متدينون لأن الدين هنا هو روح المجتمع المدني، وعلامة الهاوية التي تفصل الإنسان عن الإنسان. الوهم، الحلم، مسلمة المسيحية: سيادة الإنسان، ولكن الإنسان ككائن غريب، ككائن مختلف عن الإنسان الحقيقي، كل هذا في الديمقراطية، الواقع الحساس، الحضور، المبدأ الدنيوي. [6]  وحقوق الإنسان في حد ذاتها تختلف عن حقوق المواطن. ومن هو هذا الانسان المتميز عن المواطن؟ لا أحد غير عضو المجتمع المدني. لماذا يُسمى عضو المجتمع المدني "الانسان"، الانسان باختصار؛ لماذا تسمى حقوقه حقوق الإنسان؟ كيف نفسر هذه الحقيقة؟ بالعلاقة بين الدولة السياسية والمجتمع المدني، بطبيعة التحرر السياسي. قبل كل شيء، نلاحظ أن ما نسميه "حقوق الإنسان"، حقوق الإنسان المتميزة عن حقوق المواطن، ليست سوى حقوق عضو المجتمع المدني، أي الإنسان الأناني.، الانسان المنفصل عن الإنسان وعن المجتمع. [7] دعونا نترك الدستور الأكثر راديكالية يتكلم، دستور 1793: إعلان حقوق الإنسان والمواطن. فن. 2. "هذه الحقوق، وما إلى ذلك (الحقوق الطبيعية وغير القابلة للتقادم) هي المساواة والحرية والأمن والملكية." مما تتكون الحرية؟

فقرة. 6 “الحرية هي القدرة التي يملكها الإنسان لفعل أي شيء لا يضر بحقوق الآخرين”، أو حسب إعلان حقوق الإنسان لعام 1791: “الحرية هي القدرة على فعل أي شيء لا يضر الآخرين”. ". وبالتالي فإن الحرية هي الحق في فعل أي شيء لا يضر الآخرين. ويحدد القانون الحدود التي يمكن لكل شخص أن يتحرك فيها دون الإضرار بالآخرين، كما تحدد حدود الحقلين بعمود السياج. إنه يدور حول حرية الإنسان، كوحدة معزولة [8] ومنغلقة على نفسها. لماذا، بحسب باور، اليهودي غير قادر على الحصول على حقوق الإنسان؟ "طالما ظل يهوديًا، فإن الطبيعة الضيقة الأفق التي تجعله يهوديًا سوف تتغلب على الطبيعة البشرية التي يجب أن توحده مع غيره من البشر، وتفصله عن غير اليهود." إلا أن حق الإنسان في الحرية لا يقوم على اتحاد الإنسان بالإنسان، بل على العكس من ذلك، على انفصال الإنسان عن الإنسان. إنه حق هذا الانفصال، حق الفرد المحدود المنغلق على نفسه. [9] إن التطبيق العملي لحق الإنسان في الحرية هو حق الإنسان في الملكية الخاصة. مما يتكون حق الإنسان في الملكية الخاصة؟

المادة 16 (دستور 1793) "حق الملكية هو ما يملكه كل مواطن، ليتمتع ويتصرف في ممتلكاته ودخله وثمرة عمله وصناعته كما يشاء." وبالتالي فإن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حق التمتع بثروته والتصرف فيها كما يشاء، دون الاهتمام بالآخرين، بشكل مستقل عن المجتمع، وهو حق المصلحة الشخصية. وتشكل هذه الحرية الفردية، بالإضافة إلى تنفيذها، أساس المجتمع المدني. إنها تتيح لكل إنسان أن يجد في الآخرين ليس تحقيق حريته، بل حدودها. ومن ثم، فإن أيًا من حقوق الإنسان المزعومة لا يمتد إلى ما هو أبعد من الإنسان الأناني، إلى ما هو أبعد من الإنسان كعضو في المجتمع المدني، أي الفرد المنغلق على نفسه، في مصلحته الخاصة ونزواته الخاصة، الفرد المنفصل عن المجتمع. وبعيدًا عن اعتبار الإنسان، في هذه الحقوق، كائنًا عامًا، فإن الحياة العامة نفسها، أي المجتمع، تظهر كإطار خارجي للأفراد، وعائق أمام استقلالهم الأصلي. [10] الرابط الوحيد الذي يجمعهم هو الضرورة الطبيعية، والحاجة الخاصة والمصلحة، والحفاظ على ممتلكاتهم وشخصيتهم الأنانية. إنه أمر غامض بالفعل أن شعبًا، بالكاد بدأ في تحرير نفسه، وإسقاط جميع الحواجز التي تفصل بين مختلف أفراد الشعب، وتأسيس مجتمع سياسي، وأن هذا الشعب يعلن رسميًا حقوق الإنسان الأناني المنفصل عن نفسه. الجار والمجتمع (إعلان 1791)، بل ويجدد هذا الإعلان في وقت يتطلب فيه التفاني الأكثر بطولية، وهو الوحيد القادر على إنقاذ الأمة، في وقت حيث التضحية بجميع مصالح المجتمع المدني يتم وضعه على جدول الأعمال، وحيث يجب معاقبة الأنانية كجريمة (إعلان حقوق الإنسان، وما إلى ذلك، لعام 1793). تصبح هذه الحقيقة أكثر غموضًا عندما نرى أن المحررين السياسيين يختزلون المواطنة، المجتمع السياسي، إلى وسيلة بسيطة للحفاظ على ما يسمى بحقوق الإنسان، وبالتالي يتم إعلان المواطن خادمًا للإنسان الأناني، ذلك المجال الذي يتصرف فيه الإنسان كإنسان أناني. يتم تخفيض كائن المجتمع إلى مرتبة أدنى من المجال الذي يتصرف فيه ككائن مجزأ، وفي النهاية ليس الإنسان كمواطن، بل الإنسان كبرجوازي هو الذي يُنظر إليه على أنه الإنسان الحقيقي، على أنه الإنسان الحقيقي والأصيل. فالإنسان الحقيقي لا يمكن التعرف عليه إلا من خلال جانب الفرد الأناني، والرجل الحقيقي لا يتم التعرف عليه إلا من خلال جانب المواطن المجرد.   فقط عندما يستعيد الإنسان الفردي الحقيقي المواطن المجرد في داخله ويصبح، كإنسان فردي، كائنًا عامًا في حياته التجريبية، في عمله الفردي، في علاقاته الفردية، عندما يكون الإنسان قد أدرك وينظم قواه الخاصة كقوى اجتماعية، وبالتالي لن ينتزع منه بعد الآن السلطة الاجتماعية تحت مظهر السلطة السياسية؛ عندها فقط سيتم تحقيق تحرر الإنسان." كارل ماركس: المسألة اليهودية (1843).

تعقيب

مع ذلك، فإن المجتمع عديم الطبقية وعديم الجنسية الذي دعا إليه ماركس يجب أن يكون “رابطة حيث التنمية الحرة لكل فرد هي شرط التنمية الحرة للجميع” (بيان الحزب الشيوعي، 1848) وحيث “الأفراد المرتبطون على أساس جماعي إن الاستيلاء على وسائل الإنتاج والسيطرة عليها” (مخطوطات غروندريس، 1857) لم تعد أسرى المصير الطبقي. وإدراكًا منه لإساءة استخدام الحرية الفردية، فقد نسي الحريات العامة الأساسية. بكل بساطة: يهدف انتقاد ماركس بشكل أساسي إلى حقيقة مفادها أن حقوق الإنسان تتضمن في جوهرها عدم ملموسية حقوق الملكية. وحتى في دستور عام 1793، فإن "التطبيق العملي لحق الإنسان في الحرية هو حق الإنسان في الملكية الخاصة". باختصارشديد، خصوصية هذه الماركسية النقدية تتعلق بالإصرار على القطبين الحاسمين: التفكيك المفاهيمي للاقتصاد السياسي الذي جعله ماركس ممكنا، ومنظور التحرر الذي يفترض وجود علاقة مع الحقيقة التاريخية.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...........................

الاحالات والهوامش

[1] الدولة الليبرالية لا تريد التصرف في الحياة الخاصة، والاقتصاد، ومشاكل التعليم، وحقوق العمل، والصحة... بحجة أن كل هذا يتعلق بالخيارات الفردية، في حين أن المواطن لا يجب أن يهتم إلا بالأمور العامة، مشاكل عالمية.

[2] كائنات عامة، حيث يكون الإنسان إنسانًا حقًا: عندما يهتم بمصير النوع البشري، أي بمصير جميع البشر، وليس بمصالحه الخاصة فقط. وفقا لفويرباخ، فإن الإنسان يميز نفسه حقا عن الحيوانات عندما لا يصبح واعيا بذاته، بل بالإنسانية (الجنس البشري، الواقع العام للإنسان) عبر الأماكن والأزمنة.

[3] المجتمع المدني (تُترجم أحيانًا أيضًا إلى: المجتمع البرجوازي) هذا هو مجال الحياة الخاصة، "للبرجوازيين"، بالمعنى القروسطي للمصطلح، على عكس الحياة السياسية والمجتمعية للمواطن. في الليبرالية، يستهدف العالم الاقتصادي بشكل أساسي: الإنتاج الحر، والتجارة الحرة، والمبادرة الفردية والمنافسة.

[4] هذا هو التشابه العميق بين الديمقراطية الليبرالية والمسيحية. يعيش المسيحي حياة مزدوجة: 1) كانسان حقيقي، فهو عبد أو سيد أو برجوازي، يجب ألا يثور ضد عدم المساواة بل يجب أن يحترم النظام القائم (المدينة الأرضية) لأن كل السلطة، مهما كانت، تأتي. من الله (القديس بولس)؛ 2) كمسيحي، مهما كانت رتبته، فهو يساوي سائر البشر: لكن هذه الكرامة وهذه المساواة لا تنطبق إلا على الله، أي بعد الموت (المدينة السماوية). وبالمثل، في الديمقراطية الليبرالية، يتعارض العالم السياسي (مساواة البشر كمواطنين) والعالم المدني (عدم المساواة بين الناس "البرجوازيين" في ثرواتهم، ووضعهم، وتدريبهم، وفرصهم، وما إلى ذلك).

[5] هذه القوى الأجنبية هي القوانين الاقتصادية، وقوانين السوق. نحن نستخدم الآخرين كوسيلة، باستخدام قدراتهم في مجال الأجور لتحقيق الربح. يعتبر المرء نفسه أداة طوعية أو غير طوعية لقوانين السوق. تختفي "حرب الجميع ضد الجميع" من المجال السياسي، وذلك بفضل إنشاء القانون (القوانين والمؤسسات...) ولكنها تهدف إلى ترسيخ نفسها بشكل أفضل في المجال الخاص: المنافسة الاقتصادية.، سباق من أجل الربح...

[6] الحياة الحقيقية بالنسبة للمسيحي هي حياة العدل والمحبة، ولكن ربما تكون هذه الحياة مجرد وهم، لأنها لن تقوم إلا بعد الموت، في السماء، ويبدو أنها تتعارض مع الحياة الحقيقية، على الأرض مصنوعة من الظلم والمعاناة. وبالمثل، في الليبرالية، تظل الحياة الحقيقية (المساواة بين المواطنين المتحدين) فكرة مجردة، في حين تظهر الحياة الحقيقية (المجتمع المدني) الظلم وعدم المساواة والأنانية. سيكون الدور الإيجابي للمسيحية هو إعطاء كل إنسان كرامة متساوية؛ الجانب السلبي هو أن هذه الكرامة الشاملة لا تكون فعالة إلا "في السماء"؛ وعلى الأرض يستمر الظلم. وبالمثل، فإن الدور الإيجابي لليبرالية السياسية هو جعل كل إنسان مواطنًا مشاركًا على قدم المساواة في القوانين وفي الحياة الجماعية؛ الجانب السلبي هو أن المواطن يخفي الفرد الحقيقي الذي يجب عليه في حياته الخاصة أن يقبل عدم المساواة المادية و"كل إنسان لنفسه". ألن يكون هناك غموض في المسيحية: جعل الناس يؤمنون بالعدالة السماوية من أجل قبول المظالم الأرضية؟ وبنفس الطريقة، ألن يكون هناك غموض حول الديمقراطية الليبرالية: استخدام المساواة السياسية لتبرير عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وما إلى ذلك؟

[7] هنا يبدأ التحليل النقدي لإعلان حقوق الإنسان والمواطن. بالنسبة لماركس، فإن هذا النص لا يعبر عن قيم عالمية، على عكس ما أعلن في الديباجة، بل يعبر عن قيم عصر يؤدي فيه التعارض بين المواطن (المساواة المجردة) والإنسان (التفاوتات الحقيقية) إلى اغتراب المواطن الفقير من الغني . لم تعد "" مجرد مجتمع مدني، بالمعنى المحايد للمصطلح، ولكنها أصبحت "مجتمعًا برجوازيًا" بالمعنى الجدلي للمصطلح.

[8] عند لايبنتز، الأحاديات: مواد بسيطة وغير قابلة للتجزئة، أنواع من الذرات التي تتكون منها الطبيعة، كل واحدة منها معزولة عن غيرها.

[9] النقد الرئيسي الذي وجهه ماركس لإعلان 1789 هو أن حرية الإنسان محددة ضد الآخرين، وليس معهم وهو تعريف سلبي (الحد، الدفاع) وليس إيجابيا (الإنجاز، التضامن).

[10] لم تعد الحياة السياسية الجماعية تعتبر تلك التي تحقق جوهر الإنسان (في أرسطو، على سبيل المثال، يُعرّف الإنسان بأنه "حيوان سياسي"، أي كائن لا يتحقق بالكامل إلا داخل المجتمع). المدينة في الليبرالية هي حرية السوق، المجال السياسي ليس أكثر من شر لا بد منه، ويجب الحد منه قدر الإمكان. لم يعد الإنسان الخاص هو الذي في خدمة المواطن، بل المواطن هو الذي يصبح خادم الانسان الخاص.

بقلم: جيمس ماكليفيني

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تقول النسبية اللغوية أن نظرتك للعالم تتحدد من خلال اللغة التي تتحدثها. هل هذا صحيح؟ التاريخ يلقى ضوءا.

كل من تعلم لغة ثانية سيكون قد توصل إلى اكتشاف مثير (ولكنه مقلق إلى حد ما): لا يوجد أبدًا تطابق في المعنى بين الكلمات والعبارات فى لغة ما ولغة أخرى. حتى التعبيرات العادية للغاية (المبتذلة)  لها معنى مختلف قليلاً؛ حيث تنبع من شبكة من المواقف والأفكار الفريدة لكل لغة. إن التحول من لغة إلى أخرى قد يبدو وكأنه خطوة إلى عالم آخر. يبدو أن كل لغة تجبرنا على التحدث بطريقة معينة ورؤية الأشياء من منظور معين. لكن هل هذا مجرد وهم؟ هل تجسد كل لغة حقًا وجهة نظر مختلفة للعالم، أو حتى تملي أنماطًا معينة من التفكير على متحدثيها؟

في السياق الأكاديمي الحديث، عادةً ما يتم تناول مثل هذه الأسئلة تحت عناوين "النسبية اللغوية" أو "فرضية سابير وورف". تركز الأبحاث المعاصرة على التقاط هذه الأسئلة، ومحاولة صياغتها بعبارات صارمة يمكن اختبارها تجريبيا. لكن الفهم الحالي للصلات بين اللغة والعقل والنظرة للعالم له تاريخ طويل، ويمتد إلى عصور فكرية عديدة، ولكل منها اهتماماته الخاصة. يمر عبر هذا التاريخ شكوك متكررة حول النسبية اللغوية، لا تنجم عن الصعوبات في تعريفها فحسب، بل أيضًا عن التناقض العميق الجذور حول افتراضات وتبعات المذاهب النسبية.

هناك الكثير على المحك عند النظر في إمكانية النسبية اللغوية، فهي تؤثر بشكل مباشر على فهمنا لطبيعة اللغة البشرية. هناك افتراض طويل الأمد في الفلسفة الغربية، والذي تمت صياغته بشكل كلاسيكي في أعمال أرسطو، وهو أن الكلمات هي مجرد تسميات نطبقها على الأفكار الموجودة من أجل إيصال تلك الأفكار إلى الآخرين. لكن النسبية اللغوية تجعل اللغة قوة فاعلة في تشكيل أفكارنا. علاوة على ذلك، إذا سمحنا بالتنوع الأساسي بين اللغات ووجهات نظرها العالمية المعقدة، فإننا نواجه أسئلة صعبة حول تكوين إنسانيتنا المشتركة.هل يمكن أن تكون هناك فجوات لا يمكن سدها في الفكر والإدراك بين مجموعات من الأشخاص الذين يتحدثون لغات مختلفة؟

تمتد جذور أفكارنا الحالية حول النسبية اللغوية على الأقل إلى عصر التنوير، من أواخر القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر. غالبًا ما تمت صياغة مناقشات التنوير من حيث "عبقرية" اللغة، وهو تعبير تمت صياغته لأول مرة بالفرنسية باسم le génie de la langue. وقد استُخدم المصطلح في مجموعة واسعة من المعاني، لدرجة أنه لم يكن من الواضح في كثير من الأحيان ما هو المقصود بالضبط. لاحظ أحد المعلقين المعاصرين: "كثيرًا ما نتساءل ما هي عبقرية اللغة، ومن الصعب أن نقول ذلك." ما يمكننا قوله هو أن عبقرية اللغة فُهمت على أنها تمثل شخصيتها المميزة، "je ne ne". sais quoi الذي يشكل المصطلح في كل لغة. غالبًا ما كان يُنظر إلى هذا التفرد على أنه تعبير عن الروح القومية لمتحدثي اللغة.

ظهرت صياغة كلاسيكية ــ ومؤثرة للغاية ــ في عام 1772 مع رسالة حول أصل اللغة، بقلم الفيلسوف والشاعر الألماني يوهان جوتفريد فون هيردر (1744-1803). وعلى النقيض من معاصريه الذين رأوا الأصول النهائية للغة البشرية في صرخات الحيوانات، أصر هيردر على أن هناك اختلافًا في النوع بين التواصل البشري والحيواني. تعتمد اللغة البشرية، وفقًا لهيردر، على القدرة البشرية غير القابلة للاختزال على "التأمل" (Besonnenheit)، وقدرتنا على التعرف على أفكارنا والتفكير فيها. عند اختراع كلماتنا، فإننا نفكر في خصائص الأشياء التي نسميها ونختار أبرزها. لقد ركزت الشعوب المختلفة على خصائص مختلفة، وكانت النتيجة أن كل لغة، بأشكالها المميزة، تجسد رؤية مختلفة قليلاً للعالم. مع انتقال اللغات من جيل إلى جيل، تتراكم الاختلافات بينها، مما يجعل اللغات ووجهات النظر العالمية التي تحتويها أكثر تميزًا. من أجل فهم المنظور الفريد لكل لغة، يجب علينا تتبع أشكال الكلمات حتى أصولها الاشتقاقية.

تم التقاط الخيط الهيرديري في أوائل القرن التاسع عشر ونُسج بخبرة كبيرة في وصف أوسع للغة والأدب من قبل فيلهلم فون همبولت (1767-1835). أيد همبولت عنصرا من عناصر الحتمية اللغوية - أي أن اللغة لا تعكس وجهة نظر عالمية معينة فحسب، بل تشارك بنشاط في تشكيلها: "اللغة"، كما كتب، "هي العضو المشكل للفكر. ومع ذلك، فإن العلاقة التي تصورها لم تكن أحادية الجانب بل جدلية. بين اللغة والفكر، هناك حلقة لا نهاية لها من ردود الفعل: أفكارنا تشكل كلماتنا، وكلماتنا تشكل أفكارنا. ولم يقتصر تفسيره على الكلمات الفردية، بل الأهم من ذلك هو القواعد النحوية المعروضة في لغات العالم. لكن حتى دراسة القواعد لم تكن سوى تمهيد للمهمة الحقيقية، وفقًا لهومبولت. إن القواعد والمفردات لا تمثل سوى "الهيكل العظمي الميت" للغة. لكي نتمكن من التقاط شخصيتها، ورؤية "بنيتها الحية"، يجب علينا أن نقدر أدبها، واستخدام اللغة من قبل المتحدثين والبلغاء من كبار كتابها.

يعتقد ستاينثال أن الشكل الداخلي للغة هو النافذة المثالية للوصول إلى الروح القومية

على الرغم من نصائح هومبولت للبحث عن حياة اللغة في الأدب، إلا أن خلفائه في القرن التاسع عشر ركزوا على ابتكار تصنيفات للغات تدور حول سماتها النحوية. غالبًا ما يوصف الهدف بأنه تحديد "الشكل الداخلي" لكل لغة. كان "الشكل الداخلي" مصطلحًا استخدمه همبولت (ولو بشكل عابر) للإشارة إلى البنية الأساسية وتنظيم اللغة، على عكس "شكلها الخارجي"، والخصائص الملموسة ظاهريًا لكلماتها وقواعدها ونظامها الصوتي. يحمل الشكل الداخلي لهومبولت اهتمامات عبقرية اللغة في عصر التنوير، في حين يتكون الشكل الخارجي من التفاصيل المتحذلقة لانحرافات الأسماء، وتصريفات الأفعال، والبدائل الصوتية المنتظمة، وما إلى ذلك.

تبنى العديد من العلماء الذين عملوا في أعقاب هومبولت "شكله الداخلي" وطوروه في اتجاهات مختلفة، على الرغم من أن النسخة الأبرز من هذا المفهوم كانت تلك التي وضعها هيمان شتاينثال (1823-1899). كان الشكل الداخلي بمثابة حجر الزاوية في تصنيف شتاينثال للغات، والذي يكمن بدوره في قلب كتابه Völkerpsychologie، أو "علم نفس الشعوب" أو "علم النفس العرقي". كان الهدف الشامل لـ Völkerpsychologie هو وصف العقلية المشتركة المفترضة لكل أمة. كان الشكل الداخلي للغة، كما يعتقد شتاينثال، هو النافذة المثالية للوصول إلى الروح القومية

لكن خلال القرن التاسع عشر، أصبح الحديث عن العقول الوطنية وطبيعة اللغات خارج المألوف في الدراسة الأكاديمية للغة. في هذه الفترة، أصبح النحو التاريخي المقارن المجال الرئيسي لعلم اللغة. وهو النهج الذي يقارن بعناية الكلمات والأشكال النحوية في اللغات المختلفة لتسجيل تغيراتها التاريخية وتحديد علاقات الأنساب المفترضة بينها. يخبرنا علم اللغة التاريخي المقارن، على سبيل المثال، أن اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية تنحدر جميعها من اللاتينية؛ وأن اللغات الهندية-الأردية والبنغالية والبنجابية يمكن أن تعود أصولهم إلى اللغة السنسكريتية؛ وأن كل هذه اللغات، إلى جانب العديد من اللغات الأخرى التي يتم التحدث بها تقليديًا من أوروبا الغربية إلى شمال الهند، هي جزء من العائلة الهندية الأوروبية الواسعة.

لقد ضاع السلف الافتراضي لهذه العائلة العظيمة، البدائية الهندية الأوروبية، مع مرور الوقت، ولكن يمكن إعادة بناء عناصر مفرداتها وقواعدها ونظامها الصوتي من سمات أحفادها. والأهم من ذلك، في الأساس، هذه كلها جوانب "الشكل الخارجي" للغات، وقد فضل اللغويون الذين بحثوا في هذه الأشكال الخارجية وصف التحولات التاريخية التي درسوها من حيث "قوانين الصوت". قوانين الصوت هي بيانات بسيطة عن حقيقة أن الصوت المشهود في بيئة صوتية معينة في اللغة الأم يتغير إلى أصوات أخرى في أحفاده. تتجنب مثل هذه التفسيرات الاستناد إلى أي مبادئ تفسيرية مخفية وضمنية. يعتقد معظم النحويين التاريخيين المقارنين أنه لكي يُعتبر علم اللغة علمًا جادًا، يجب أن يقتصر على البيانات الدقيقةة والقابلة للملاحظة بشكل موضوعي. إن اكتشاف الحياة الداخلية للغات، والتقاط شخصياتها وارتباطاتها بالفكر والثقافة، كان يعتبر، في أحسن الأحوال، مهام مستقبلية لعلم اللغة الراسخ. وفي أسوأ الأحوال، لم تكن تعتبر أكثر من مجرد تكهنات ميتافيزيقية عبثية.

فيما كان بمثابة الرمق الأخير لتقليد همبولت في اللغويات الأكاديمية في القرن التاسع عشر، اقترح عالم اللغة الصينية واللغوي العام جورج فون دير غابيلنتس (1840-93) مجالًا فرعيًا جديدًا لـ "التصنيف"، والذي من شأنه أن يدرس السمات النحوية للغات بشكل شامل. من أجل اكتشاف "السمات النموذجية، والاتجاهات السائدة" التي تحدد البنية اللغوية. من شأن هذا المسعى أن يوفر أساسًا تجريبيًا لـ "المهمة العليا" لعلم اللغة ويشرح مثل هذه الاتجاهات البنيوية كمظاهر للروح القومية. لم تلق دعوة غابلينتز للمجال الجديد آذانًا صاغية في هذا العصر الذي يهيمن عليه النحو التاريخي المقارن. لم يكن الأمر كذلك حتى بداية القرن العشرين حيث عادت التصنيفات إلى الظهور باعتبارها الشغل الشاغل في علم اللغة.

وفي الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تمتعت مسائل العقل واللغة بأنثروبولوجيا متأثرة بأسلوب همبولت. شرع فرانز بواس (1858-1942)، "أبو" الأنثروبولوجيا الأمريكية، في تجميع الخلاصة النهائية للغات الأصلية في أمريكا الشمالية في كتابه متعدد المجلدات "دليل اللغات الهندية الأمريكية"، والذي ظهر المجلد الأول منه في 1911. كان الهدف من الأوصاف النحوية الواردة في دليل بواس هو "الاعتماد كليًا على الشكل الداخلي لكل لغة". ثم أوضح بواس،"بعبارة أخرى، لقد تم التعامل مع القواعد كما لو أن هنديًا ذكيًا يطور أشكال أفكاره الخاصة من خلال تحليل خطابه."

لكن بواس كان يعاني من تناقض بشأن العواقب المترتبة على العلاقة بين العقل واللغة. كان خطاب القرن التاسع عشر حول الاختلافات بين الأمم يرتكز في كثير من الأحيان على تسلسل هرمي مفترض للإنسانية. كان هناك اعتقاد واسع النطاق بأن الشعوب الموجودة في العالم اليوم قد وصلت إلى مراحل مختلفة من التطور في مجتمعاتها وثقافاتها - وأن ذلك يعزى إلى الاختلافات في قدراتها المعرفية. في أعلى التسلسل الهرمي كان الرجل الأوروبي في القرن التاسع عشر، الذي أظهر قواه العقلية في كل الاتجاهات، بينما في الجزء السفلي كانت الشعوب الأصلية المختلفة في العالم، والتي عادة ما تعتبر عالقة في الطفولة الأبدية للإنسانية أو على الأقل انحطت عن حالة "الحضارة" السابقة.

لم تكن المواقف متجانسة: كان هناك العديد من المخططات المختلفة للتطور الاجتماعي والثقافي والمعرفي البشري في هذه الفترة، مع الاعتراف بالعديد من الفروق الدقيقة. ولكن حتى شخصيات مثل هومبولت، وشتاينثال، وجابلينتز، الذين أبتهجوا بالتنوع البشري وأشادوا بتفرد كل لغة، كانوا أكثر انحيازًا لبعض اللغات من غيرها. يرى شتاينثال أن اللغات الأمريكية ليس لها في الواقع شكل داخلي. إن التراكيب المعقدة التي لا يمكن إنكارها والتي تشهد عليها قواعدها هي مجرد تكثيفات لمادة مفاهيمية ملموسة دون أي بنية رسمية أساسية. في ذلك الوقت، كانت المواقف بين كبار علماء الأنثروبولوجيا واللغويين في الولايات المتحدة أكثر تطرفًا.

واصل علماء الأنثروبولوجيا النظر في العلاقات الممكنة بين اللغة والعقل

رفض بواس مثل هذه الخطط المتحيزة. وفي الواقع، فقد اتفق مع معارضيه على وجود بعض القصور المفترض في لغات السكان الأصليين، لكنه رفض النظر إليها كمؤشر للنمو العقلي. واعترف بواس بأن العديد من اللغات الأمريكية تفتقر إلى مصطلحات مجردة وأعداد كبيرة إلى ما لا نهاية، لكن هذا ليس لأن المتحدثين بها غير قادرين على استيعاب مثل هذه المفاهيم؛ الأمر ببساطة هو أنهم لم يحتاجوا أبدًا إلى التحدث بمصطلحات مجردة أو العد لأعداد كبرى، وبالتالي لم تتح لهم أبدًا الفرصة لإنتاج مثل هذه الأشكال بلغاتهم. وإذا نشأت هذه الحاجة، فسوف تتكيف لغاتهم على الفور لاستيعاب ذلك .

كانت آراء بواس مستوحاة إلى حد كبير من تعاليم معلمه السابق في برلين، عالم الإثنوغرافيا أدولف باستيان (1826-1905). دافع باستيان عن مبدأ "الوحدة النفسية للإنسانية"، وهي فكرة مفادها أن جميع البشر، بغض النظر عن أسلافهم أو حالتهم الثقافية الحالية، لديهم في جوهرهم نفس القدرات والقدرات العقلية. إن "الأفكار العرقية" التي تبدو مختلفة لشعوب العالم المختلفة ليست أكثر من مجرد نزعات مختلفة لنفس "الأفكار الأولية" المشتركة بين البشرية جمعاء. العقل البشري هو في الأساس نفسه في كل مكان.

ولذلك نرى في القرن التاسع عشر منحنى واضحًا في تطور المواقف الأكاديمية تجاه النسبية اللغوية. في بداية القرن، كانت النسبية اللغوية تحتل مكانة محترمة في دراسة اللغة، مدعومة بكتابات شخصيات مثل هيردر وهمبولت. ولكن مع مرور القرن، أصبحت اللغويات الأكاديمية تهيمن عليها بشكل متزايد مدرسة النحويين التاريخيين المقارنين، الذين كان منهجهم تقنيًا وتجريبيًا للغاية. في هذا الوسط الفكري، ابتعد اللغويون تدريجيًا عن الأسئلة التي تبدو غامضة حول الأدوات المفاهيمية الأساسية للغات.على النقيض من ذلك، استمر علماء الأنثروبولوجيا طوال القرن التاسع عشر في النظر في العلاقات المحتملة بين اللغة والعقل، لكن المصطلحات الهرمية التي تم تأطير مناقشاتهم بها في كثير من الأحيان تعرضت للنقد في نهاية القرن، في حركة قادها بواس.

تعد "فرضية سابير وورف" الأخيرة، من نواحٍ عديدة، استمرارًا للمناقشات التي دارت في القرن التاسع عشر. كان إدوارد سابير (1884-1939) وتلميذه بنجامين لي وورف (1897-1941) ورثة التقليد الهمبولدي. كان سابير غارقًا في دراسة اللغة الألمانية: وكانت أطروحة الماجستير الخاصة به تدور حول رسالة هيردر حول أصل اللغة. وكان أيضًا واحدًا من أكثر تلاميذ بواس موهبة وإخلاصًا،واحتفظ بمنصب معلمه. كتب سابير في عام 1921: "إن اللغة وعمليات التفكير لدينا متشابكة بشكل لا ينفصم، وهما نفس الشيء إلى حد ما".ولكنه، مثل بواس، أصر على أنه لا توجد «اختلافات عنصرية كبيرة» في الفكر عبر الجنس البشري، ولا توجد روابط مباشرة بين الثقافة واللغة. ولذلك فمن المستحيل استنتاج المراحل التطورية المزعومة من بنية اللغة: "عندما يتعلق الأمر بالشكل اللغوي، فإن أفلاطون يصنف مع راعي الخنازير المقدوني، وكونفوشيوس مع متوحش آسام الذي يصطاد الرؤوس."

وعلى الرغم من الرغبة في تحرير بحثه من تحيزات العلوم السابقة، ظل سابير مساهما في مشروع تحليل "العمليات" و"المفاهيم" النحوية المعتمدة في لغات العالم من أجل تحديد "النوع أو الخطة أو البنية" من "العبقرية" من كل لغة. لكن هذا المسعى تم تلطيفه من خلال الإيمان بالاستقلالية الجزئية على الأقل للشكل اللغوي. وفقًا لسابير، تمتلك كل لغة «نظامًا صوتيًا داخليًا» و«شعورًا محددًا بالنمط على مستوى التكوين النحوي»، وكلاهما «يعملان على هذا النحو، بقطع النظر عن الحاجة إلى التعبير عن مفاهيم معينة أو إعطاء شكل خارجي لمجموعات معينة من المفاهيم»ويبدو أن اللغة لم تكن عالقة في تلك الأخاديد الفكرية.

إن التعامل مع الشكل اللغوي باعتباره مستقلاً بطريقة ما لم يكن بعيدا عن تصور النحويين التاريخيين المقارنين فى فرضية القوانين الصوتية في القرن التاسع عشر. في القرن العشرين، اتخذ العديد من اللغويين خطوة واضحة لاستبعاد بنية اللغة باعتبارها مجالًا خاصًا بهم، وهو موضوع يمكنهم فحصه بشكل مستقل عن أي أسئلة أوسع تتعلق بالإدراك أو الإنتاج المادي واستقبال الكلام. في هذه السنوات، قدم اللغوي فرديناند دي سوسور (1857-1913) من جنيف تمييزًا بين la langue (اللغة) وla parole (الكلام)، وهو التمييز الذي أصبح أساسيًا في الكثير من الدراسات اللغوية اللاحقة. La langue هو النظام المجرد القائم بذاته لكل لغة، في حين أن la parole هو استخدام la langue لإنشاء كلام فعلي. يرى سوسير أن اللغويين يجب أن يصفوا خصائص كل لغة دون القلق بشأن كيفية ظهورها في عقول وأفواه المتحدثين.هذه هي مشاكل العلوم المجاورة لعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء والفيزياء. يمكن فهم اعتراف سابير بالاستقلالية الشكلية للغات كجزء من هذا الاتجاه، على الرغم من أنه في الوقت نفسه لم يكن يرغب بوضوح في التخلي تمامًا عن تراثه الهامبولدتي، مع اهتماماته النفسية والأنثروبولوجية.

كانت هناك رغبة في كسر سحر اللغة، والثورة ضد طغيانها

ولكن ماذا عن الحتمية اللغوية لما يسمى بفرضية سابير وورف؟ على الرغم من أنه لم يقم سابير ولا وورف بصياغة اقتراح دقيق وقابل للاختبار يفترض تأثير اللغة على الفكر، إلا أنهما بالتأكيد تصورا مثل هذه التأثيرات. في عام 1929، كتب سابير:

والحقيقة هي أن "العالم الحقيقي" مبني إلى حد كبير دون وعي على العادات اللغوية للمجموعة... إن العوالم التي تعيش فيها مجتمعات مختلفة هي عوالم متميزة، وليست مجرد نفس العالم بمسميات مختلفة مرتبطة به... نحن نرى ونسمع ونختبر إلى حد كبير كما نفعل لأن العادات اللغوية لمجتمعنا تهيئ خيارات معينة للتفسير.

استجاب خطاب سابير وورف للذعر الأخلاقي الحديث حول استخدام اللغة وإساءة استخدامها. في أوائل القرن العشرين، تم تحريف الخطاب العام من خلال أشكال جديدة من الدعاية، التي نشرتها التقنيات الجديدة مثل الراديو والسينما، وكلها رافقت وسهلت الاضطرابات الكارثية الحرب العالمية الأولى والاستقطاب السياسي الذي أدى إلى صعود الحكومات الشمولية في جميع أنحاء أوروبا. كانت هناك رغبة في كسر سحر اللغة، والتمرد على طغيانها الداعم للاعقلانية والبربرية، وجعلها خادمة للفكر المستنير. وقد وجد هذا الشعور تعبيرًا عنه، من بين أمور أخرى، في التحول اللغوي الذي اتخذته الفلسفة التحليلية الناشئة في هذه الفترة. وعلى الجانب الشعبي، ظهر عدد لا يحصى من الكتب المدرسية حول المعنى، مثل كتاب سي كيه أوجدن وآي إيه ريتشاردز «معنى المعنى» (1923)، وكتاب ألفريد كورزيبسكي «العلم والعقل» (1933)، وكتاب ستيوارت تشيز «طغيان الكلمات» (1938). . هذا هو عالم لغة أورويل الجديدة، حيث اللغة هي سيدة العقل.

روج سابير وورف بشغف للمساهمة التي يمكن أن يقدمها مجال علم اللغة الخاص بهما في حل هذه المشكلات. ومن خلال الكشف عن تنوع الحقائق التي خلقتها اللغات، يمكن لعلم اللغة أن يساعد في كشف كيف تضللنا اللغة. في عام 1924، كتب سابير:

ربما تكون أفضل طريقة لتجاوز عمليات تفكيرنا والتخلص من أي مصادفات أو ليست ذات صلة بالموضوع بسبب زخارفها اللغوية هي الانغماس في دراسة التعبيرات الغريبة.على أية حال، لا أعرف طريقة أفضل لقتل "الكيانات" الزائفة.

بحلول منتصف القرن العشرين، تراجع الخطاب النقدي للغة، وعاد علم اللغة الأكاديمي إلى حد كبير إلى العلم المحايد المعروف منذ نهاية القرن الماضي. عند النظر في العديد من الحالات المزعومة للروابط بين بنية اللغة والثقافة عبر مجموعة متنوعة من اللغات، أعلن عالم اللغويات الأمريكي جوزيف جرينبيرج (1915-2001) في منتصف القرن ما يلي: «لا نجد أي أنماط دلالية أساسية مثل تلك التي قد تكون مطلوبة للنظام الدلالي للغة لتعكس رؤية عالمية شاملة ذات طبيعة ميتافيزيقية.

مستلهمًا أعمال بواس وسابير، حمل جرينبيرج شعلة تصنيف اللغة التي رفعها جابيلينتز في أواخر القرن التاسع عشر. كان استمرار جرينبيرج في مشروع همبولت القديم المتمثل في التحقيق في التنوع البنيوي للغات العالم، مع رفض أي صلة بين البنية والإدراك أو الثقافة، أمرًا حاسمًا في التطور اللاحق للنظرية التصنيفية. إن ما كان بالنسبة لجابلينتز "المهمة الأسمى" لأبحاث اللغة أصبح الآن رسميًا محظورًا في الزاوية الأخيرة من علم اللغة المعني بالتقاط ومقارنة الطابع النحوي للغات.

على أية حال، كان الاهتمام بالتنوع في أدنى مستوياته في منتصف القرن العشرين. في سعيه وراء "النحو العالمي"، سعى نعوم تشومسكي (1928-) إلى إعادة تأسيس نوع من الوحدة النفسية للبشرية. إن الاختلافات بين اللغات الفردية، في نظر تشومسكي، هي مجرد أشباح، اختلافات سطحية على نفس النظام الأساسي الذي تنتجه ملكة اللغة الفطرية التي يتقاسمها جميع البشر.لا ينبغي أن تكون مهمة اللغويين هي تصنيف هذه الاختلافات بدقة، ولكن تحليلها واكتشاف المبادئ العالمية التي تحكم جميع اللغات . وعلى خطى تشومسكي، حافظت الآراء السائدة في معظم دوائر البحث الأكاديمي على هذا الفصل الدقيق بين اللغة والفكر حتى نهاية القرن العشرين.

لكن النسبية اللغوية لن تعاني من النفي. لقد أعاد اللغويون وعلماء النفس، الذين لم يتمكنوا من تجاهل هذه الأسئلة، النسبية مرة أخرى إلى الاتجاه الأكاديمي السائد وحققوا نتائج مرضية.على سبيل المثال لا الحصر، في العمل المستمر والمتطور، أظهر الباحثون أن بعض اللغات قد تسمح لمتحدثيها بإطلاق العنان للحواس التي هي ملكية مشتركة لجميع البشر ولكنها تظل غير مستخدمة من قبل معظم الناس.في اللغة الإنجليزية والعديد من اللغات الأخرى، عادة ما يتم وصف الموقع المكاني بمصطلحات أنانية. لو حطت ذبابة على ساقي، لقلت: "لقد هبطت ذبابة على الجانب الأيمن من ساقي". اليمين هو مفهوم مكاني أناني يوجه الأشياء في العالم وفقًا لمحور يسار يمين وهمي يسقط من جسدي.

نحن جميعا بوصلات بطريقة ما. المتحدثون باللغة الإنجليزية في الغالب لا يدركون ذلك بوعي

ومع ذلك، ليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تصور الفضاء. في لغة جوريندجي التي يتم التحدث بها في شمال أستراليا - كما هو الحال في العديد من لغات العالم الأخرى - يتم وصف الأماكن عادةً باستخدام الاتجاهات الأساسية للشمال والجنوب والشرق والغرب. على افتراض أنني أجلس بحيث تكون ساقي اليمنى موجهة نحو الغرب، فإن الجملة المعادلة في جوريندجي ستكون: Karlarnimpalnginyi nyawama wurturrjima, walngin ngayinyja wurturrjila.' حرفيا: 'هذا هو الجزء العلوي الغربي الخارجي من ساقي. لقد هبطت الذبابة هنا على ساقي». إذا استدرت ونظرت في الاتجاه المعاكس، فإن الذبابة ستظل – بعبارات أنانية – على الجانب الأيمن من ساقي، لكن أحد المتحدثين بالجوريندجي قد يشير إلى أن الذبابة الآن - بعبارات جوهرية - موجودة الآن في الجزء الشرقي من ساقي. في حين أن محوري الأيسر والأيمن قد يتبعني بطاعة تامة، فإن الأرض ستظل ثابتة دائمًا.

الاتجاهات الأساسية ليست معروفة في اللغة الإنجليزية، ولكنها تستخدم عادةً فقط عند التحدث على نطاق جغرافي. على النقيض من ذلك، في لغة جوريندجي، حتى أجزاء من جسم المتحدث تقع في نظام إحداثي عالمي. سيكون معظم المتحدثين باللغة الإنجليزية في حيرة من أمرهم حتى في تحديد الاتجاهات الأساسية دون مساعدة البوصلة. كيف يفعل المتحدثون بالجوريندجي ذلك؟ يبدو أنها تعتمد على عدد من الإشارات البيئية، أهمها مسار الشمس عبر السماء. لكن الفسيولوجيا العصبية البشرية حساسة أيضًا للمجال المغناطيسي للأرض: فالدماغ البشري يستجيب بطرق قابلة للقياس للمجالات المغناطيسية المحيطة. نحن جميعا، إلى حد ما، البوصلات. معظم المتحدثين باللغة الإنجليزية لا يدركون ذلك، على الرغم من أن نشاط الدماغ لديهم يتغير عندما يتم التلاعب بالمجالات المغناطيسية المحيطة في ظل ظروف تجريبية. أظهرت التجارب الأخيرة التي أجرتها عالمة اللغويات الأسترالية فيليسيتي ماكينز ومعاونوها أن بعض المتحدثين بالغوريندجي يمكنهم الإبلاغ بشكل موثوق عن التحولات في المجالات المغناطيسية المحيطة.

يبدو أن عادة المتحدثين بالغوريندجي في استخدام الاتجاهات الأساسية قد وسعت قدراتهم على الإدراك. لى الأقل قد يتمكن بعض المتحدثين بالغوريندجي من الشعور بالمجال المغناطيسي للأرض بشكل واع. ولكن هل يعيش المتحدثون باللغة الإنجليزية والمتحدثون بالجوريندجي في "عوالم مختلفة"، كما يقول سابير؟إن وجود حساسية أكبر تجاه بعض سمات البيئة لا يزال يبدو أقل من وجهات النظر العالمية الشاملة التي لا يمكن الدفاع عنها في التقليد الهمبولتي.

ربما يكون هذا هو المصدر الرئيسي للشكوك المستمرة بشأن النسبية اللغوية في العديد من الأوساط الأكاديمية. نبدأ بشعور لا يوصف/je ne sais quoi ، وهو أن لغتنا تشكل عالمنا. ولكن لتقييم حقيقة هذا الادعاء، يريد العالم فرضية - بيان صارم وقابل للاختبار تجريبيًا حول كيفية تشكيل اللغة لعالمنا على وجه التحديد. إن التأملات شبه الصوفية في حياتي باللغة ليست من المجلات العلمية الحديثة. ولكن أي فرضية مصاغة بشكل صحيح سوف تكون بالضرورة اختزالية وانكماشية: فابتكار اختبارات تجريبية للاختلافات المفترضة في وجهات نظرنا للعالم يعني حتماً تحويل مشاعرنا الأكثر حميمية إلى أشياء بعيدة وغريبة يمكننا مراقبتها وتحليلها من الخارج. يمكن القول إن مثل هذه الاختبارات لا يمكنها أبدًا التقاط مجمل وبدائية الشعور الأصلي.

هل يعني هذا أن المعرفة العلمية في القرون السابقة ليس لها مكان في عالم اليوم، أم أن العلم الحديث ببساطة لا يستطيع فهم الأعماق الفلسفية التي استكشفتها الأعمال السابقة؟ النتاجات البحثىة الماضية والحالية تكمل بعضها البعض. إن كتابات العلماء الأوائل - مهما بدت تأملية بالنسبة لنا اليوم ومهما كانت الافتراضات الإشكالية التي استندوا إليها - لا يمكن إنكارها، فإنها تجسد شيئًا من تجربتنا الإنسانية ويمكن أن تفيد تحقيقات الباحثين اليوم. وفي المقابل، توفر فرضيات وتجارب اللغويين وعلماء النفس المعاصرين منظورًا آخر - شكلته النظرة العلمية للعالم في عصرنا - حول هذه الأسئلة الدائمة حول الروابط بين العقل واللغة.في كل هذه الحالات، لا يمكننا حتى أن نفهم الأسئلة دون فهم شيء من السياقات الفكرية المحددة التي نشأت فيها.

***

........................

المؤلف: جيمس ماكليفيني/ James McElvenny: عالم لغوي ومؤرخ فكري بجامعة زيغن بألمانيا. أحدث كتبه هي "اللغة والمعنى في عصر الحداثة" (2018) و"تاريخ اللغويات الحديثة" (سيصدر قريبا، 2024). وهو يقدم بودكاست عن تاريخ وفلسفة علوم اللغة.

https://aeon.co/essays/does-language-mirror-the-mind-an-intellectual-history

هوامش:

* فريدريك فلهيلم فون همبولت (بالألمانية: Wilhelm von Humboldt) ولد في 22 يونيو 1767 وتوفي في 8 أبريل 1835. هو موظف حكومي، دبلوماسي، فيلسوف، مؤسس جامعة هامبولت ببرلين، صديق غوته وشيلر، يذكر غالبا على أنه لغوي، كانت له إضافات هامة في حقل فلسفة اللغة ومسألة التعليم من ناحية نظرية وعملية. لقد كان هامبولت هو واضع أساسيات نظام التعليم في بروسيا، النظام الذي أخذته أمريكا واليابان أسوة في نظاميهما التعليميين. كان أخاه ألكسندر فون هومبولت عالم طبيعة.

ثلاث عبارات هي مقولات الكاردينال دي سوكا ارغب التعليق الحواري عليها:

دي سوكا كاردينال لاهوتي وفيلسوف القرون الوسطى مقولته الاولى (الوعي هو نوع من التحرر من الواقع) والثانية هي (الزمن بعد سببي للزمكان) والثالثة (الزمن يسبق الوعي الحقيقي).

الوعي حين يعبّر عنه دي سوكا تحررا من الواقع بمعنى ثنائية جمع الوعي بالواقع لم تعد قائمة كون الوعي يستنفد طاقته الوظيفية بالتعريف بالواقع واعطاء وسائل فهمه بلغة التجريد التعبيري عنه في مرجعيته للعقل. اما الزمان بعد سببي للزمكان فهي بديهة منطقية قائمة كمعطى  كون الزمان هو ثنائية ملزمة له في وحدته الثنائية مع المكان. الزمن لا يخلق المكان فهو ليس فراغا استيعابيا مجردا عن ملازمته المكان كواقع وسيرورة علاقات ثابتة او متحركة. الزمان دلالة ملازمة معرفة الاشياء لكننا نفتقد ادراكنا ماهو الزمن كموضوع وليس كمفهوم ميتافيزيقي غير مدرك؟ الزمن ماهية ميتافيزيقية تفتقد خاصيتي الادراك وخاصية المحدودية .

بالنسبة للمقولة الاولى فالوعي ليس نتاج الواقع بل ناتج تفكير عقلي وإلا تساوى الوعي مع انطباعات الحواس الناقلة لاحساساتها الى شبكة منظومة العقل الادراكية عبر الشبكة العصبية. الوعي ناتج عقلي تجريدي يمثل فعل الادراك الحسي حول الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لا يدركه الوعي ايضا فما يكون موضوعا للعقل يكون موضوعا للوعي..أي هنا العقل يعي ذاته.

أي بمعنى آخر الواقع ليس موضوعا يعيه الوعي باستقلالية ادراكية يحاول الافلات منها الا باشتراط ايعاز من العقل والوصاية العقلية عليه.. الوعي ليس موضوعا للعقل لكنه وسيلة العقل في ادراكه كل شيء كمواضيع. الوعي هو النسخة الكاربونية للعقل في معرفته الواقع وليس ادراكه الواقع فقط. فالادراك الشيئي هو خاصية الحواس الانطباعية قبل خاصية الاحاسيس العقلية.

توجد علاقة معرفية تكاملية بين الواقع والوعي، فالوعي تجريد لغوي عقلي لا ينتجه الواقع بل يحتويه معرفيا بصيغة التكامل المعرفي والتخارج بينهما ليس بصيغة جدل التضاد الديالكتيكي. الوعي هو الوسيط العقلي الذي ينقل الفهم المعرفي للعقل في تعبيره التجريدي الحيادي بوسيلة اللغة عن موضوعات الواقع لا كما هي في وجودها المادي الثابت بل في وجودها التغييري المطلوب.. الوعي صيرورة تشكيل الواقع برؤى عقلية تجديدية مغايرة. الوعي ليس ادراكات حسية انطباعية عن الاشياء وموجودات العالم بل احاطة استيعابية لمواضيع كان أعطى العقل مقولاته بشأنها كيف هي وكيف تكون؟.

مقولة دي سوكا الزمن يسبق الوعي فرضية نظرية فلسفية صحيحة. تجمع تجريدين غير متجانسين لا في الماهية ولا بالصفات كما هما غير موضوعين مدركين عقليا في كليهما. فكما لا يمكن للزمن ان يكون موضوعا مستقلا للعقل كذلك هو الوعي وسيلة العقل وليس موضوعا له.

الزمن في علاقته البينية بين الواقع والعقل هو دلالة معرفية حيادية غير مدركة عقليا كما والزمن لا يدرك ذاته ولا يدرك العلاقة الترابطية الدلالية بالمكان. اما الوعي فهو توسيط ناتج تفكير العقل ولا يكون موضوعا مستقلا للعقل لانه هو نسخة عقل مكررة. عديدة المفردات التي تشكل حلقات منظومة العقل الادراكية مجتمعة ولا ينفرد احدها ان يكون موضوعا مستقلا للعقل الوعي احدى تلك الحلقات. كذلك الذهن ، شبكة الاعصاب العنكبوتية، الضمير، الهواء، الزمن، الحواس، النفس، الاحاسيس داخل الجسم الخ.

الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي مصنوع عقليا والزمن معطى ازلي ميتافيزيقي. الوعي في ادراكاته العقلية للاشياء والموضوعات يحكمه الزمكان الشيئي لكنه لا يستغني عن الزمن كدليل ادراكي لمعرفة الاشياء.في اللاشعور من خلال مثال حالة النائم الحالم يجد الزمن يتقافز ملازما تداعيات المكان التي لا يضبط انتقالاتها الحلمية زمنا غير عشوائي فيعيش حالة اللاشعور الذي يفتقد ترابط التداعيات المكانية اللاشعورية.

الوجود مكانا هو وجود زمكاني في ثنائية وثيقة العرى هي انك لا تستطيع ادراك الشيء مكانا الا بملازمة غير مدركة عقليا لزمانها. حين تناول فرويد علاقة الوعي او الشعور بالزمن لخصّها بعبارته القصيرة اللاوعي اي اللاشعور بمصطلح علم النفس لا يحتاج الزمن.

على اعتبار الوعي اللاشعوري الحلمي هو تداعيات عقلية غير منتظمة زمكانيا في حالة من الصيرورة المواكبة لصيروة الواقع الخيالي الحلمي الغائب عن الوعي خارج سيطرة العقل. وهذا الوعي اللاشعوري لا يخضع لسطوة العقل من جهة ولا لسطوة الزمن من جنبة اخرى وهو ما يتمثل بأحلام الشخص النائم على انها تداعيات لاشعورية تفتقد العلاقات الترابطية كما في حالة الشعور عند الشخص اليقظ غير الحالم.

لقد سبق لافلاطون ان ذهب الى اننا بدلالة انتظام المكان في قوانينه الطبيعية الحاكمة له تنتظم عشوائية الزمان الملازمة له. يلاحظ ان افلاطون هو السبب الاول فلسفيا في جعل كل من ارسطو ونيوتن يؤمنان بنظرية افلاطون الزمان مطلق لا نهائي ازلي عشوائي وهو معطى لخالق مجهول بعد اعطائه لنا الطبيعة المنتظمة بقوانين حاكمة لا قدرة على الانسان اكثر من اكتشافها وليس اختراعها او التلاعب بها وتغييرها.. واعتبر وجود الطبيعة سابق على وجود الزمن. ولا حتى متلازمين بالخلق الآني الواحد. ويبقى ماجاء به افلاطون نظرية فلسفية لم يؤكدها العلم تجريبيا. بعد قرنين من الزمن جاءت نسبية انشتاين العامة 1915 ونسفت مطلق الزمن الى النسبية. لكن المهم لم تستطع النسبية كغيرها من سابقاتها اثبات ان تكون تلك النسبية موضوعا محدودا ادراكيا مستقلا للعقل.

الغريب بالامر هو أن افلاطون إعتبر الزمن وجودا عشوائيا وبدلالة انتظام المكان – يقصد الطبيعة بقوانينها الثابتة – يتخلص الزمان من عشوائيته وينتظم ذاتيا كما هو الحال في نظام الطبيعة. الحقيقة الفيزيائية العلمية برهنت على ان الزمن تداعيات لانهائية عشوائية على شكل حزم متماوجة بالكون تحت شروط واحكام فيزيائية كونية معينة. والزمن ليس مطلقا على خلاف ماذهب له افلاطون وتوارثه عنه ارسطو ومن بعده نيوتن حتى جاءت نسبية انشتاين ونسفت نظرية مطلق الزمان. لقد استطاع انشتاين تجريد نيوتن من مطلق الزمان لكنه عجز عن تجريد عبقرية نيوتن من قانون الجاذبية المعجزة الارضية المنسوبة له التي قلبت كوسمولوجيا الفضاء.

نعود لاستطراد ينسب لفرويد حول الموضوع فهو يرى المكان وجودا محدودا بابعاد مادية ثلاثة متعارف عليها الطول والعرض والارتفاع قبل اضافة انشتاين البعد الرابع للمادة هو الزمن. وهذه اشكالية يؤكدها منطق نسبية انشتاين الفيزيائية الكونية. لكن بمنطوقنا التصوري عن ثبات فيزيائية ابعاد المادة ارضيا  تحمل نقاشا ومداخلة. المادة كمتعيّن ارضي ثابت بابعاد ثلاثة على الارض هو غير الفهم الكوسمولوجي لها. فمثلا نحن الان نؤمن بالنظرية التي تقول الزمكان كمفهوم هو ثنائية لا انفكاك لها تجمع بين المكان والزمان. ونحن ندرك الزمكان الارضي كوحدة لا تتجزا. لكن المادة التي يمكننا التعامل معها كموجود ومتعيّن ارضي نستطيع التعامل معها كاجزاء يمكن انفصالها مثل حاجتنا الطول فقط او العرض فقط او الارتفاع فقط.

الملاحظة الاولى ان قوانين الكون الفيزيائية لا تحكم قوانين الارض بشأن ابعاد المادة كاجزاء تكوينية منفصلة الواحدة عن الاخرى لها.. من البديهيات القول المادة بابعادها كي تصبح كينونة مادية مستقلة ليس في الفضاء فقط وانما على الارض ايضا.

الملاحظة الثانية ان ابعاد الجسم المادي على الارض هي مدركات عقلية يمكن تجزئتها حين يراد التعامل مع بعد مادي واحد من تكوينها. على خلاف النظرية الكونية التي هي ايضا لا تدرك الزمن الكوني موضوعا بل تدركه ملازمة احتواء للمادة وموجودات الكون كما نحن نتعامل به على الارض.

الملاحظة الثالثة كل مدرك مادي بابعاد ثلاثية متفق عليها يترتب عليه متعينا محدودا على خلاف نسبية انشتاين الفيزيائية التي اضافت لابعاد الجسم او المادة بعدا رابعا هو الزمن لكنها ايضا تتعامل معه كونيا فيزيائيا كدلالة وليس تموضعا رابعا في تكوين المادة الموجودة على الارض بثلاث ابعاد فقط.. هنا علينا التفريق بين وجوب حضور الزمن كي ندرك المادة وبين التعامل مع ابعاد المادة متجزئة منفردة التي هي ايضا تحتاج الحضور الزمني لاتمام ادراكها.

الملاحظة الرابعة قياس مقدار الزمن الكوني ياتي ضمن اشتراطات معادلات فيزيائية علمية تكون سرعة الضوء متسيدة تلك الاشتراطات. اما مقياس مقدار الزمن على الارض فهو يكون محكوما بسرعة الصوت وليس سرعة الضوء لقطع مسافة بسرعة معينة هي لا شيء بالنسبة لقياس السنوات الضوئية كونيا.

لقد سبق لافلاطون كما اشرنا له سابقا انه قال الطبيعة اقدم وجودا من الزمان، وان الطبيعة منتظمة بقوانين ثابتة والزمن سديم عشوائي كوني وبدلالة انتظام قوانين الطبيعة نستطيع تطويع عشوائية الزمان الى انتظام مشابه للطبيعة. وهي عملية ميتافيزيقية لا يدركها العقل كما ولا يوجد ما يؤكدها علميا تجريبيا. وهذا التفسير الافلاطوني بالقياس الى معطيات زمنه الماضي في فلسفة اليونان القديمة يبدو مقبولا اذا حاولنا تفسير هذه النظرية تفسيرا ميكانيكيا يرى الزمان حركة دائبة لا تدركها عقولنا، ويرى المكان ثباتا ماديا ندركه بابعاده المادية الثلاث.

لعل الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الحائز على جائزة نوبل بالادب هو الذي غرّد خارج السرب في مقولته اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلي البيولوجي مجردا عن ملازمة الزمن للمكان في ثنائية لا انفصام بينها ومن السذاجة تصديق ان ادراك المكان يشترط ملازمة زمن له. (تقريبا نقلت فحوى ما جاء به برجسون)

ماذا فعل برجسون بمقولته الاستفزازية هذه لعلماء الفيزياء والفلاسفة واشياعهم؟

اولا : الغى حقيقة وجود الزمكان. على صعيدين هما جعله الزمكان ليس مادة يدركها العقل، ولا هو فراغ استيعابي احتوائي خارج ادراك العقل. (يوجد نقاش فلسفي – فيزيائي حاد بين مؤيد ورافض لهذه الفرضية).

ثانيا: اثار برجسون ربما عن غير قصد فلسفي ناضج منه فرضية ان يكون الزمن (وهم) لا وجود حقيقي له يمكن اثباته.( برز حديثا في الفلسفة الاميريكية ما يدعّم صحة هذه الفرضية). لي مقال منشور كتبته مؤيدا فرضية الزمان وجود غير موجود. مستفيدا من مقالة الباحث الفلسفي حميد محسن الذي عرض على صفحات المثقف  كتابا بالانكليزية غير مترجم للعربية لثلاثة فلاسفة اميركان ذهبوا منحى الزمن وهم افتراضي غير موجود. المقال نشره موقع المثقف مع مقالتي بعدها ايضا.

لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان الخارج عن وحدة الوجود.وحدة الوجود لدى اسبينوزا هي وحدة الطبيعة المتجانسة مع الجوهر الالهي. ولم يفهم اسبينوزا المكان على انه موجودات العالم الخارجي الذي يحتوينا ونحتويه.

ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..

صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود ، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين لأن منهج اسبينوزا بهذا الاستنتاج الصحيح كان هو الميتافيزيقا الصوفية.

ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدهما علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية العلمية خلفها.

***

علي محمد اليوسف

الشيء المشترك لدى كل من قرأ أعمال هيرقليطس، هو ان هناك فقط مقاطع او عبارات. لسوء الحظ، لم يبق الا القليل من كتاباته التي يصعب تجميعها لوصف حياة وافكار هذا الفيلسوف المثير. هذا يجعل دراسته سهلة من جهة وصعبة من جهة اخرى: انت تستطيع قراءة كل المقاطع المتبقية في ساعة واحدة، لكنك ستبقى في حيرة طوال حياتك. ربما لا نستطيع فهم فلسفة هيرقليطس بالتفاصيل، لكننا نأمل هنا  تعريف القارئ بالموضوعات التي وصلت الينا وماذا قال عنها الفلاسفة المعاصرون وماذا يمكن ان نتعلم منها اليوم.

حياته

معظم ما نعرفه عن حياة هيرقليطس يأتي من كاتب سيرة الفلاسفة دايوجين لايرتيوس Diogenes Laertius (يجب عدم الخلط بينه وبين دايوجين الساخر) الذي كتب حوالي 225م، بعد هيرقليطس بـ  أكثر من سبعمائة سنة. دايوجين كان معروفا باعتماده على المصادر السابقة دون تفكير نقدي، بدءا من القصائد الهزلية الى السير الذاتية السابقة "حسبما يرى البعض".

ولد هيرقليطس في ولاية أفسس Ephesus اليونانية على الساحل الذي هو الان في تركيا الحديثة، وترعرع حوالي سنة 500 ق.م، أي حوالي 30 سنة قبل ولادة سقراط. الحكايات التي وصلت الينا عن حياته تتميز دائما بالغرابة: الصورة التي تُركت لنا عنه كمتكبر وغريب الاطوار يكره الحكمة الشائعة والسلطات في زمانه الى درجة الانعزال الذاتي. وبالرغم من ولادته في أفسس، هو بدا ناقدا حادا للمدينة. بعد نفي صديقه هيرمودوروس منها، ادّعى ان مواطني أفسس كانوا يستحقون الموت لأجل الرجل، وكانوا يجب ان يتركوا المدينة له.

حكاية اخرى تدور حول مناسبة طُلب اليه فيها عمل قوانين للمدينة. ونظرا لإحتقاره لدستورهم، هو بدلا من ذلك غادر الى معبد أرتميس، حيث لعب لعبة النرد مع الاطفال وعندما سُئل عن هذا السلوك، اجاب بانه من الافضل ان يلعب مع الاطفال بدلا من اللعب بالسياسة مع حكام المدينة. معبد ارتميس عُرف لاحقا كأحد عجائب الدنيا السبعة في العالم القديم، وهو ايضا المكان الذي أودع فيه عمله الوحيد (حول الطبيعة). الكتاب كُتب بألغاز لكي لا يكون مفهوما من جانب غير متعلم او الغير ذكي. وفي الايام الاخيرة من حياته غادر افسس لفترة في الجبال يعتاش على النباتات. وبعد اصابته بالاستسقاء، المرض الشديد، عاد للبحث عن علاج طبي. وبعبارة يلفها الغموض هو سأل الأطباء ان كانوا يستطيعون "تحويل العاصفة المطرية الى جفاف". هم لم يفهموا ما يقصده في كلامه؟ لذا حاول علاج نفسه – عبر دفن جسده بسماد حيواني لكي يدفئ جسده، حيث توفي هناك .

الأضداد

معظم معاصري هيرقليطس نظروا الى مساهماته كشيء رائع ولكن نوعا ما هي غير مفهومة  ويصعب على القرّاء قرائتها. لذا فان منْ لا يفهمه يشترك مع عدد كبير من الناس.

احدى الموضوعات تظهر مرة بعد اخرى في ما وصل الينا من أعماله هي "وحدة الأضداد". الشكل الشائع في بعض مقاطع كتابات هيرقليطس ينطوي على مفهومين متضادين ويدّعي انهما ذات الشيء. فمثلا: "البحر هو في الغالب ماء نقي وملوث في أحيان اخرى: بالنسبة للاسماك هو ماء ملائم للشرب ولإستمرارية الحياة، ولكن بالنسبة للانسان لا يمكن شربه وقد يسبب الموت "(جميع الاقتباسات اُخذت من الفلسفة اليونانية القديمة، جواناثن بارنيس،2001). وعليه طبقا لمختلف وجهات النظر، البحر هو نقي وملوث في آن واحد. ونفس الشيء: "المسار الى الأعلى او الى الأسفل هو ذاته"، ومن المقاطع الأكثر تجريدا، "التراكيب – كليات وليست كليات، متزامنة مختلفة، متناغمة متعارضة، من كل شيء واحد وكل الاشياء من واحد". تجدر ملاحظة ان ليس كل الفلاسفة قرأوا هذه المقاطع بنفس الطريقة. وان الطريقة التي تكون بها هذه الأضداد ذات الشيء هي ايضا موضوع للنقاش. بالنسبة للبحر والمسار، تبدو الفكرة متشابهة: من مختلف المنظورات، نفس الشيء يمكن ان تكون له مختلف الصفات. السائر في أسفل الجبل، يكون لديه المسار على الجبل هو صعود. بالنسبة للسائر عند القمة، يكون المسار نزولا. ماء البحر لذيذ للسمك ولكن ليس لنا. ولكن ماذا يعني بـ "من كل الاشياء واحد ومن واحد كل الاشياء"؟ هذا يمكن رؤيته كوحدة: الكون ككل، هو شيء واحد. لكن نفس الكون الواحد هو أشياء متعددة مختلفة، في جميع أجزاء مكوناته (كواكب، ثقوب سوداء، قهوة، انت). هرقليطس ربما يقول ان خصائص الشيء تعتمد على الكيفية التي ينظر بها المرء له، تكون واحدة ومتعددة، او يمكن شربه ولا يمكن . هذا النوع من الأقوال هو الذي جعل كل من افلاطون وارسطو يعتبران فلسفة هيرقليطس متناقضة ذاتيا.

التدفق

فكرة اخرى لهيرقليطس نوقشت كثيرا هي مبدأ التدفق (التدفق يعني التغيير)، لكن "مبدأ التغيير" يبدو أقل تميزاً، لذا نستعمل التدفق بدلا من ذلك. هيرقليطس ذكر "كل شيء يتحرك".

في الحقيقة، معظم آراء الناس حول هيرقليطس تأتي من الاقتباس المتعلق بالنهر. "انت لا تستطيع النزول في نفس النهر مرتين". هذه كانت لهيرقليطس او على الأقل ربما كانت له لأن مصدرا آخر يقتبس قوله "اولئك الذين ينزلون في نفس الأنهار، تتدفق فيها مختلف المياه" وهو ما يراه البعض له مضمون مختلف جدا عن العبارة الاولى.

مهما اختلفت الصيغة التي كتب بها هيرقليطس، ماذا كان يعني بها؟ تقريبا كل واحد، بمن فيهم افلاطون يفترض انها استعارة. الفكرة هي انه متى ما نزلت مرة اخرى في نفس النهر، سيكون الماء الان مختلفا، لذا فانت حقا لا تنزل في نفس النهر، ولذا فهو كما في أي شيء آخر: الناس يتغيرون، ويتقدمون في العمر، العالم يتحول، كل شيء يتميز بالتغيير المستمر. ايضا من المهم ملاحظة التشابه مع مفهوم البوذية في anicca التي عبّر عنها بوذا في نفس الفترة والتي يمكن تلخيصها "لا شيء يدوم". لكن هل هذا المبدأ ينطبق على كل شيء، في كل الأزمان، وفي كل المجالات؟ عندما أسرق البنك، سأقول، "لكنك لا تستطيع اتهامي، انا كنت شخصا مختلفا في ذلك الوقت"،لكن من غير المحتمل ان انجو من السجن.

بعض الفلاسفة مثل دانيال غراهام، يجادل لتأييد عقيدة "تدفق محدود". على المستوى الأساسي نعم، كل الاشياء تتغير، لكن من خلال التغيير المستمر ستبرز الاشياء الواقعية والدائمة. لهذا فان غراهام يثق بالنسخة الثانية من مقطع النهر: "في نفس الانهار، مختلف المياه تتدفق" – النهر يبقى ذاته، رغم وجود مياه مختلفة في أي زمنين. في الحقيقة، النهر يحتاج مختلف المياه ليبقى نفس النهر: اذا بقي الماء راكدا، سوف لن يكون نهرا، وانما بحيرة. وهكذا تغير الأشياء مثل الناس والاشياء وغيرها يمكن ان يوجد حتى على المستوى الأساسي، مكوناته دائما تتغير. في غضون عشر سنوات، تقريبا كل خلية في أجسامنا تُستبدل، لكننا لانزال نحن. بالطبع، بالنسبة لاولئك الذين يفضلون قراءة صارمة للنسخة الاولى من مقطع النهر(من المستحيل النزول في نفس النهر مرتين)، لا وجود هناك لشيء مثل "نفس النهر". لا وجود هناك لشخص يستمر عبر الزمن ايضا. في الحقيقة، لا وجود للدوام. في النهاية، الرؤية التي تتخذها تعتمد على أي صيغة من مقطع النهر تراها أكثر مقبولية.

ماذا يمكن ان نتعلم من هذا الفيلسوف الغامض والمتناقض؟ ربما هناك القليل. الحياة اليوم هي كما كانت أيام هيرقليطس مليئة بالتناقضات. نحن هنا عبارة عن حزمة من الخلايا المتغيرة والسوائل المتدفقة، نكبر ونتغير، لكن دائما بدرجة ما نبقى نفس الشخص. مشاعرنا تتغير ايضا: السياسي او القانوني قد يبدو صائبا اخلاقيا لنا في يوم ما، وشرير ومؤسف في يوم آخر. الشريك يبدو لنا بلا عيوب في يوم ما، ومحزن في يوم آخر. بالنسبة لهيرقليطس ربما كلاهما.

هيرقليطس يريدنا ان نتحرك وراء الأبيض والأسود - الصدق المجرد والزيف المجرد – لنحتضن التغيير والطبيعة المتناقضة للتجربة الانسانية. لأن هيرقليطس يقول " من الحكمة ان نتفق بان كل الأشياء هي واحد".

***

حاتم حميد محسن

تعد فكرة وجود الجمال فكرة كونية، لا يمكن اختصارها بإرهاصات الإنسان النسبية، فالجمال كفكرة يعلو فوق الاشياء ويسمو بها، فكل شيء من دون ان نضفي عليه فكرة الجمال يكون باهت، وحتى الوجود دونه يعد غير موجود، فكل شيء في هذا الكون وخارجة يتحلى بالجمال وينمو من خلاله. وهذا ما اشار إليه الفيلسوف الألماني اويغن فنك في كتابة (اللعب بوصفه رمزا كونيا) الذي سوف يصدر قريباً عن دار الفرقد، من ترجمة الدكتور قاسم جبر عبرة أستاذ اللغة الألمانية في كلية الآداب - جامعة واسط. علما إنه ترجم لفنك كتاب (الميتافيزيقا والموت) وهو يعمل الأن على تعريف القارئ العربي بفلسفة اويغن فنك من خلال نقل مؤلفاته الكاملة إلى العربية.

فيرى فنك في كتاب اللعب بوصفه رمزا كونيا "إن نار السماء المشعة، التي تضيء يومنا وتجعل نباتات الأرض تنمو وتعطيها الكيفية والنوعية والازدهار، هي الصورة المرئية وسليل الفكرة الأسمى، أي فكرة الخير. بما أن المرئي بشكل عام مرتبط بالمجال اللامرئي للفكر، كذلك يرتبط الجمال بالواقع. جمال الجميل في حد ذاته إحالة الى ما وراء نفسه. أو بعبارة أخرى: في الجمال، يلمع المرئي الدنيوي بالفعل كما يتأثر بضوء الفكرة اللاحسي. لذلك فإن تَزَايُدٌ الجمال بالنسبة لأفلاطون، له أهمية قصوى. فالجمال بطبيعته متدرج ويشير من مستوى إلى آخر، ويميل إلى ما وراء نفسه. فالجميل هو عندما يكون الجسد حسن التكوين، والروح أجمل، والفكرة أجمل، والأجمل الوجود الحقيقي للفكرة، الذي لا يمكن الوصول اليه إلا من خلال الفكر. تتحول المقارنة بين كل ما هو جميل الى طريقٍ نحو الفلسفة. إذ يتم تفسير قوة الجمال كدليل يقود الى الحقيقة. إن الجمال يُعد قائداً للأرواح ".

يعادل فنك بين الجمال وفكرة الخير، إذ يستعير بالشمس كتشبيه بما يفعله الجمال حين توفره، فهو كأشعة الشمس التي تنير الكون وتقدم فائدتها للكائنات. ويبدو ان هذه الفكرة استخلصها من سقراط حين قال الشيء يكون جميلاً حينما يحقق غايته ويكون خير ويقدم فائدة روحية قبل المادية. فهو لم يحدد الجمال بالجميل، لأن الجميل من الضروري ان يكون حسن، اما فكرة الجمال فلا يمكن اختزالها بالحسن، فنور الشمس الذي يشعرنا بالراحة النفسية أصله نار، فهو ليس بعيداً عن القبيح الذي نبتسم في وجودة، أو الشر الذي يكون في وجوده خير، لذا قد تكون استعارة فنك للشمس لتحقيق هذا الغرض، وهو ان الجمال كفكرة أرقى من الجميل كمادة، ويتداخل الخير مع الشر وان أصل فكرة الجمال هو الله بقوله : أنَّ الجمال سليل الفكرة الأسمى، وهذا الذي اتفقت عليه جميع الحضارات القديمة وحتى الفلاسفة بأن فكرة الجمال الأسمى والمطلق والمثالي، لا يوجد الا بعالم المثال مع افلاطون، فكل شيء في هذا الكون هو جمال غير كامل ومتغير ونسبي، فجعلوا للجمال آلهة أو رمزا كونيا تتصف بسمات الجمال الكاملة، مثل أفروديت في اليونان، عشتار في بلاد الرافدين وعند العرب، وانانا عند السومريون،و فينوس عند الرومان، وايزيس عند الفراعنة.

ويرى فنك ان المرئي مرتبط باللامرئي، وان الجمال مرتبط بالواقع، وان جمال الجميل في الواقع إحالة لما وراء نفسه، وبما أنَّ النفس مرتبطة بالجسد، فهو يلوح إلى العلاقة الجمالية التي تربط بين المادي والروحي، أو النفسي والجسدي، الذاتي والموضوعي، وان  جمال الشيء الجميل يشير إلى شيء أعمق من مجرد مظهره الخارجي، بل يشير إلى جمال أو معاني أعمق في الحياة أو الطبيعة أو الفن.

و يلمع المرئي الدنيوي بالفعل كما يتأثر بضوء الفكرة اللاحسي. فهو يريد ان يقول : ان نظراتنا إلى الجمال الذي يصادفنا في حياتنا اليومية تعتمد على الفكرة التي نحملها في اذهاننا عن الجميل، وهذه ترجع الى الثقافة والمعرفة و الحالة النفسية. فهذا الذي جعل كروتشه يرى ان بعض الأشياء يمكن ان تكون جميلة لكنها محزنة، أو قبيحة وتكون مضحكة.

ويروي الفيلسوف الامريكي جون دوي قصة عرفها من أحد المشتغلين بالعلاج النفسي وهي قصة رجل كان يشتكي من أن أصوات أجراس الكنيسة متنافرة النغمات، في حين أن هذا الصوت كان في الحقيقة موسيقىّ النغمات، وقد اثبت الفحص أن خطيبة هذا الرجل كانت قد خدعته في الحب وأعرضت عنه لكي تتزوج رجلاً من رجال الدين. يهدف ديوي من رواية هذه القصة إلى توضيح حدوث ما اسماه بالإسقاط الناتج عن حالته النفسية وموقفه الشخصي من رجل الدين على سماعه للأجراس، وهذه علة وهي خبرة سابقة. ما جعلت نغمات الأجراس التي يفترض أن تكون جميلة جعلتها تبدو بالنسبة للرجل مشوهة و مزعجة. وهو بذلك يقول إذ يتم تفسير قوة الجمال كدليل يقود الى الحقيقة. إن الجمال يُعد قائداً للأرواح.

***

كاظم لفتة جبر

شيءٌ من المُفارقة أنَّ بعض (الأحداث الجسام) تليقُ بالنعال لا العكس، فالأخيرة عناصر أساسية لوجودنا لا مجرد أشياء هامشيةٍ. يقع النعل في المركز مما عساه أن يجري عبر الزمان والمكان. ومع حياتنا المشتركة بين البشر، يُوجد في الواقع صورة ونمط لحذاءٍ ما. إنه الدليل الذي يقودنا إلى الإنسان باختلاف هوياته. لكن أمراً كهذا يدفعنا إلى التعرُف فلسفياً على النعل، على الحذاء بصورةٍ مختلفة. السؤال المنطقي عندئذ: أهو وسيط بين جسمنا وجسم الأرض؟ هل يعد النعل تكملة لوجودنا؟ هل يأخذ معانيه من استعمالات خاصة بنا؟ هل يمثل النعل أثراً آخر فيما هو جمعي عام؟

لن تجدى الإجابات الخاطفة على تلك الأسئلة. لكونها استفهامات تمس وجودنا الإنساني في الصميم. وكذلك لن تكون ثمة إجابات مُريحة للوهلة الأولى. فالحذاء كموضوع لا يتم تخليصة من أنياب متغيرات كثيرة ... مثل الاقتصاد والسياسة والأخلاق والمعرفة والتقاليد وصور الناس عن بعضهم البعض. كما أنه يفرض علينا (قراءة فلسفيةً مغايرةً) ليست أقل. وهو ما يطرح فكرة طريفة أن الحذاء يضع وجودنا إزاء تاريخه الطويل. ويفتح مجالاً لقول الأشياء التي نتعامل معها بالأقدام بصورة واعيةٍ. لأنَّ تعاملاً بالأقدام يستدعى مفردةَ الحذاء ضمناً أو صراحة. فليس ممكناً المشي أو الركل أو الاحتكاك أو التعثر دون غطاء الأرجل. إن فهم عالم الإنسان يقتضي فهم الأشياء الدقيقة التي تنتمي إليه. ولا يوجد لدينا نحن البشر ما هو تافه على الإطلاق. التافه أكثر أهمية أحياناً من سواه!!

انفصال واتصال

من غير ارتداء الأحذية، سيشعر الإنسان بالعُري. احتكاك لحم الكائن الحي مع الأرض مباشرة. أي غرس أقدامنا عاريةً بالتراب، بالطين، بالحصى، بالرمال. وذلك التتابع بين مستويات الأرض توصله جلودُنا للعقول من خلال باطن الأقدام. فالاقدام ليست بعيدةً عن كيان الإنسان، لأنَّها حاملة للقوام والحركة وتمثل أداة التوازن للهامة. ويصعب أنْ تنفصل الأقدام عن جهازنا البيولوجي العام، لكونها جزءاً من جسمنا، وتجسد  كافة السمات التي تميز الإنسان.

تعبر كلمات النعال عن البدائل لشيءٍ ما في وجودنا: فالحذاء هو الخُف، هو المركوب، هو السوقاء، هو البُلغة، هو المُوق، هو القبقاب، هو الجزمة، هو المداس، هو الهنكارة، هو الصندل، هو البُوت، هو الشبشب، هو السباط، هو السندرة، هو الصندل، هو الكندرة، هو الصرماية لدى المشارقة، هو الريحية، هو الشربيل الفاسي المشغول بخيوط الحرير المذهبة للنساء لدى المغاربة. والكلمة الفارسية (سرموزة) كلمة تحدد دلالة الحذاء في الجماعات الناطقة بالفارسية. ويبدو أنه قد أخذت منها لفظة شرموطة لتكرار وطء الحذاء، وكانت الكلمة بمثابة (وصمة اجتماعية ) لنوع من أفعال النساء. وتلك الكلمات معبرة عن الاستعارات التي تأخذها النعال ثقافياً. فالمعاني تتبادل المواقع بين وصفٍ وآخر لتقدم لنا ما يعجز التعبير عنه لأسباب خاصةٍ.

الحذاء - على سبيل المعنى- كلمة آتية من حذو الشيء للشيء، أي رداء يجعل أقدام الإنسان حذو الأشياء أو أنها ستسير بحذو الأرض دون تعثر. وكأن الإنسان سيكون لصيقاً بعالمه وأنه كائن من ضمن الكائنات المتواجدة معه. والمركوب إشارة إلى ما يلبس كأنَّه يقل الإنسان إلى حيث يريد. وينطبق المركوب على الأشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحيوانات التي تقل البشر. فهي تقلُنا ركوباً داخلها وقد استطاع الشخص التنقل والترحال.

البُلغة هي ما تبلغ الإنسان نقطةً معينةً تجاه ما يذهب إليه. وهي مرتبطة بالابلاغ من.. إلى. فبلغ الشخص مكاناً معيناً، يعني أنّه قد ذهب إليه قصداً. والواقي الذي يغطي أقدامه يُسمى بُلغةً. ومازالت البُلغة ذات شكلٍّ خاص في بعض الأرياف المصرية. فهي حذاء بسيط وغير معقد ويشعر الشخص معه بالإرتياح، عندما يلبسه وعندما يسير بهدوء وسكينة. والبلغة سهلة الخلع واللبس مباشرة. وقد  يشعر الإنسان بالأرض شعوراً هيناً حينما يضعها في قدميه. كما أنها في الثقافة رمز للضرب وأداة للتأديب والتقليل من شأن الآخرين عند استخدامها.

ورغم تنوع المفردات الدالة على الحذاء إلاَّ أن المعنى واحد: غطاء يختص بوقاية الأقدام. الحذاء بعض من وجودنا الحائل دون التلامس بما هو صلب أو هش. الحُفاة هم من لا يرون هناك وسيطاً بينهم والأرض. لدرجة أنَّ المُباشرة المادية بين جسمين لون من الإلتصاق بالأصل، بالعمق. جسم الأرض وجسم الإنسان، وليس هناك إحساس يعادل شعور الإنسان بالتراب. وكأن أقدام الإنسان ترسمُ آثاراً باقية في عقله بصورة فورية. لأن الأقدام مركز التوازن البيولوجي وتشكل علاقة حيوية مع المكان الذي نتواجد فيه.

عن طريق الحذاء، أراد الإنسان القول إنّ هناك (اتصالاً وانفصالاً) بينه والعالم في الوقت نفسه. أي علاقة منطقية قائمة على بناء الثقافة. لأنَّ الأحذبة صناعة ثقافية بالدرجة الأولى. لو أردنا أنْ نلخص تاريخ الحذاء، فلابد من اختصاره في تاريخ الثقافة. تراث الانفصال الإنساني عن عناصر العالم. الشكل والوظيفة والماهية والتغيرات والترقيع والاصلاح .. جميعها تخضع لأساليب الثقافة. ومنذ بدأ الإنسان انفصالاً عن جسم الطبيعية، استطاع أن يصنع شيئاً رمزياً آخر. وهذا هو سبب أنَّ الأحذية تكتسب أهميتها الحياتية والقيمية في كافة المجتمعات. الأقدام مواد متاحة ضمن خريطة الجسم الإنساني. فهي مصممة بيولوجياً كأنها واقفة أو ملتصقة بالأرض. لكن البشر أرادوا تاريخياً انتزاع انفسهم من الإلتصاق بالأشياء. حيث سادت فكرة أن الابتعاد عن مادة الطبيعة قدرة بشرية على الاستقلال وبناء هويةٍ خاصة بنا.

ما الذي يعنيه الإنفصال الذي تسببه النعال؟ يعنى أنَّ هناك وعياً بحركة الإنسان أيا كانت. الوعي يقول إن الأرض أرض والإنسان إنسان، وإنه ليوجد مسافة يترقب فيها البشر قدرتهم على الاختلاف. في المسافة الجلدية (الحذاء) بين الأقدام والتراب، تكمن تصورات التوازن والتعالي والأسبقية وصناعة الأدوات. وربما هذا الذي جعل المجتمعات تتفنن في تشكيل الأحذية بأشكال وأنماط غريبة وعجائبية. وكانت محطَّ عناية البشر بتباين الأماكن والأزمنة.

تكملةٌ وعُري

يكمل الحذاء جسم الإنسان. على الرغم من أنَّ الأصل في الإنسان شعوره بالإكتفاء والاستقلال. عدم وجود الحذاء يسبب نقصاً بطريقة أو أخرى. وليس ذلك أمراً جوهرياً في ذاته، لأنَّ الجوهر هو سير الإنسان حُراً من أية تكملة. وكانت بدايات البشر كونهم (حفاةً عراةً) إلاَّ من بعض ما يغطي عوراتهم. إنَّ الحفاء كان تعبيراً عن الاكتمال بالطبيعة أو أنَّ الانسان البدائي كان يجد اتصالاً مع مواد وأشياء العالم مباشرةً. أي التلامس الحسي الذي يجعل الإنسان كائنا حيّاً على الأصالة. ويدمج وجوده الآدمي مع الكائنات الأخرى دون مباعدةٍ. فالانطلاق هو الخلفية التي تعطي الإنسان وجوده، والحذاء في عصور غابرة كان عائقاً عن ذلك. وبلاريب فقد مر البشر بأزمنة طويلة حتى يعتادوا على لبس الأحذية.

وبخاصة أن الأساس لدينا نحن البشر هذا الإندماج، حتى ولو جاء متأخراً. فنحن على الشواطئ وعلى الصخور ووسط الغابات وفي عمق الحقول، نريد من حين لآخر خلع نعالنا كي نحس بوجود الأرض، وهو الإساس الأم الذي يستغرقنا طوال الحياة في ممارسات كثيرة. ولم يملك الفرد إلاَّ التشوف إليه. يا لهذا الاحساس المتفرد لنا نحن البشر وسط الطبيعة!! فهو ليس لمساً عادياً ولا مجاورةً ولا تسانداً خارجياً بين كائن حي اسمه الانسان والطبيعة الأم، لكنه الشعور الماهوي داخل حضنها الكبير بأنك كما أنت. إحساس يلتقي داخل أعماقنا وأعماق الحياة بالتوازي. هو احساس الحياة بنفسها من خلالنا. وهو التزامن الحي الحميم، على الرغم من كونّه يعود بنا إلى عصر ما قبل الحذاء.

الحذاء تنبيه دائم بهذه الطفرة التي حدثت للأقدام. هل يؤدي ذلك إلى إخفاء الجانب اللمسي للأقدام؟ بالطبع لا..  فالأقدام لا تقل أهمية عن الرأس مهما لاقت من دونية، كما أنها ترنو إلى التجوال عارية. وما التنوع المذهل في موديلات الأحذية إلاَّ اخفاء لهذا الحنين البيولوجي القابع في جوانج البشر. لأن الثقافة– مع امتدادها التاريخي- تمثل استجابة لحنين الإنسان وبدائل له بالوقت نفسه. وكلما كانت مشاعر الحنين غائرةً، كانت البدائل وافرة التجدد والتعقيد. فلو شعر الإنسان بأي حنين، ستقفز الثقافة لإحتوائه صانعة له ما يشغله طوال الوقت. من ثمَّ استطاع البشر بهذا المنطق بناء وجودهم الاجتماعي.

ومن يفهم لعبة المجتمعات البشرية إزاء بناء حياتها الخاصة، سيكتشف قدرتنا على الموازاة السحيقة بين الحذاء والمجتمع. الاثنان ممكنان في التاريخ من حيث أنهما من جنس المهارة الثقافية للبشرية. فالمجتمع يغطي الأفراد بكمٍ من الأغطية الإجتماعية والوجودية، ولا يترك لهم فرصة للتعري إزاء غوائل الآخرين أو غوائل الطبيعة. والحذاء يغطي الأقدام بشكل رمزي ويحُول دون العُري الذي يُدمي الأقدام. وبخاصة مع انهماك الأفراد في الأعمال الشاقة والرحلات الطويلة والذهاب والإياب بين الأماكن.

فلم يعد إنساننا المعاصر كائناً يذهبُ إلى الغابة لجلب الثمار وتسلق الأشجار وقنص الحيوانات للطعام. لكنه- من جانبٍ آخر- لم يكف عن الذهاب داخل أخيلة الآخرين، سواء أكان بواسطة عمل بارز أم إنجاز لافت. فجاءت الأحذية الراهنة بمثابة الغلالة التي تُغطي الأقدام، وكذلك تعطيه إشارة مرور وسط الغابات الثقافية والرمزية المتشابكة.

تلعب الثقافة الإنسانية لعبتها الإستعارية في تغذية المجتمع والحذاء برغباتٍ يتعلق بها الإنسان كتعلق الغريق بقشةٍ للنجاة. فيقال إن الحذاء هو المفتاح لشخصية الإنسان، بحكم كونه محطّاً للذوق الجمالي واتساق الشكل والألوان وطريقة المشي والحركة. تماماً مثلما يُقال إن المجتمع مُتقدم ويعطي مساحة لحرية الأفراد. الاستعارات واحدة ويتسلق الأفراد عليها بلوغاً إلى اهدافهم. ففي المناسباب المهمة- اجتماعياً بالأساس- يحرص الأفرادُ على ارتداء أفخم الأحذية واعطائها مساحة من الظهور الجذّاب.

***

د. سامي عبد العال - أستاذ فلسفة

ترى الفيزياء الحديثة ان الزمن ليس أكثر من وهم. النظرية النسبية لآينشتاين، مثلا، ترى ان الكون كتلة رباعية الأبعاد ثابتة تحتوي على كل من الزمان والمكان معاً و لا يوجد فيها "الآن" كشيء خاص. المستقبل بالنسبة للمراقب هو ماضي لمراقب آخر. ذلك يعني ان الزمن لا يسير من الماضي الى المستقبل كما نشعر به نحن.

هذا يتصادم مع الكيفية التي يُفهم بها الزمن في فروع اخرى للفيزياء مثل ميكانيكا الكوانتم. لذا، هل ان الزمن وهم ام لا؟ احدى الطرق لمعرفة ذلك هي في محاولة اثبات ان الزمن غير واقعي وذلك باستعمال المنطق وحده.

في عام 1908 نشر الفيلسوف البريطاني ماك تاغارت J.M.E.McTaggart ورقة جادل فيها باننا قادرين على معرفة عدم واقعية الزمن فقط باستعمال التفكير المنطقي وحده.

 لنتصور ان شخص ما أعطاك صندوق من البطاقات، كل بطاقة تمثل حدثا. احدى البطاقات تصف سنة 2024، اخرى تصف وفاة الملكة فكتوريا، وثالثة تصف الكسوف الشمسي في عام 2026. البطاقات جرى مزجها مع بعضها. انت طُلب اليك ان تقوم بترتيب البطاقات بطريقة تمثّل الزمن. كيف ستقوم بهذا؟

أول طريقة هي استخدام ما يسميه تاغارت بـ "سلسلة B". فيها تلتقط بطاقة واحدة وتضعها على الارض. بعد ذلك تأخذ بطاقة اخرى من الصندوق وتقارنها مع تلك التي سلفا على الارض. اذا كانت أقدم، تضعها الى يسارها، واذا كانت لاحقة لها، تضعها الى اليمين.

فمثلا، موت الملكة فكتوريا يذهب الى يسار الكسوف الشمسي لعام 2026. اما سنة 2024 تذهب الى يسار الكسوف الشمسي لعام 2026، لكن الى يمين وفاة الملكة فكتوريا. انت تستمر تكرر هذا حتى تنتهي بخط من البطاقات، كل اثنين منها يُربطان باستخدام علاقة المتقدم – المتأخر.

عندما تقف وتنظر في الترتيبات المكتملة، ستدرك هناك شيء مفقود. خط البطاقات هو ثابت. حالما وُضعت البطاقات في مكان، لا تغيير يحصل في ترتيبها. لكن كما يصر تاغارت، انت لا تستطيع امتلاك زمن بدون تغيير. الزمن بالنهاية قياس للتغيير، حتى وفق الفيزياء. عادة يوصف الزمن كزيادة في اضطراب – انتروبيا نظام مغلق. لو اخذنا فنجانا من القهوة الساخنة، عندما تبرد، يظهر الاضطراب. وانت تستطيع القول تقريبا كم من الوقت بقي فنجان القهوة ثابتا من خلال حرارته. أي وسيلة لقياس الزمن، مثل الساعة، تعتمد على التغيير.

لنتذكّر، ان مهمتك الأصلية كانت ان ترتّب البطاقات بطريقة تمثّل الزمن. لكنك انتهى بك الأمر بشيء لا يتغير. سيكون من الغرابة القول ان الزمن لا يتغير. لذا فان سلسلة B لا يمكنها تفسير الزمن.

هناك خيار آخر. انت تستطيع البدء مرة اخرى وتحاول ترتيب البطاقات باستعمال ما يسميه تاغارت "سلسلة A". هنا انت تخلق ثلاث مجموعات: تلك التي على اليسار تصف أحداثا حدثت في الماضي، مثل موت الملكة فكتوريا. في الوسط تتجسد تلك التي تحدث في الحاضر، مثل سنة 2024. وفي اليمين، تلك التي سوف تحدث في المستقبل، مثل كسوف عام 2026.

خلافا لـ سلسلة B ، هذا الترتيب هو غير ثابت. مع تدفق الزمن،عليك تحريك البطاقات من مجموعة اليمين (المستقبل) الى مجموعة الوسط (الحاضر)، وتلك البطاقات من مجموعة الوسط (الحاضر) الى مجموعة اليسار (الماضي)، وحيث تبقى الى الأبد. لذا هناك تغيير واضح يحدث هنا. هل هذا يعني ان سلسلة A تصف الزمن؟

طبقا لتاغارت، سلسلة A هي دائرية. يدك تنقل البطاقات من المجموعة على الجهة اليسرى الى مجموعة الوسط ومن ثم الى المجموعة على جهة اليمين وهي العملية التي تحدث سلفا في الزمن.

انت تحتاج ان تكون في الزمن، ان تكون قادرا على عمل هذا الترتيب. لكن الزمن هو بالضبط ما تريد  فهمه. بكلمة اخرى، انت سلفا تحتاج  زمن لكي تصف زمن. وهذا دائري، والدائرية خلاف المنطق.

لكي نلخّص. ترتيب سلسلة B لا يستطيع وصف الزمن لأن لا شيء يتغير فيه. والتغيير مطلوب للزمن. لذا فان سلسلة B لا تعمل. سلسلة A تتغير فعلا لكن لسوء الحظ انها دائرية. لذا فهي لا تعمل ايضا. بما ان كلاهما لا يعملان يستنتج تاغارت ان الزمن لا يمكن ان يكون واقعيا.

بعد مائة عام

بعد مائة سنة، لازال الفلاسفة يبحثون عن حل. البعض يُطلق عليهم "منظّرو A" يحاولون تعريف سلسلة A بطريقة غير دائرية. آخرون، ويُطلق عليهم "منظّروا B"، يوافقون على ان سلسلة B تصف الواقع ويقولون بان تاغارت كان مخطئا في طلب التغيير في السلسلة. كل ما في الامر بالنسبة للزمن هو مجرد سلسلة من الأحداث

هناك ايضا "منظّرو C" الذين يذهبون أبعد ويقولون ان خط البطاقات ليس فيه أي اتجاه من الأقدم الى اللاحق. سنة 2024 تذهب بين موت الملكة فكتوريا وكسوف عام 2026. لكن الحقيقة هي اننا اعتدنا التفكير بموت الملكة فكتوريا يأتي قبل كسوف عام 2026 بدلا من العكس، هو ربما فقط مسألة عادة. انه يشبه ترقيم الألواح على سياج الحديقة: تستطيع البدء من أي نهاية تريد. السياج ذاته ليس فيه اتجاه.

ربما هناك طرق اخرى مختلفة للتفكير حول الزمن. وبصرف النظر عن منْ هو الصائب منها، المهم هو ان تاغارت كان قادرا لجعل الترتيب يسير بدون أي استخدام للعلم، وانما فقط عبر التفكير المنطقي وحده.

***

حاتم حميد محسن

..........................

* للمراجعة:

The conversation, April 15,2024

 

الفلسفة في سياقها العام، هي قسم من الثقافة الروحيّة للبشريّة، وشكل للوعي الاجتماعيّ الذي تكمن وظيفته المميزة في وضع نظرة متكاملة إلى حد بعيد عن العالم وجودا وسيرورة وصيرورة، وعن الفهم المعلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير البشريّ. وتقوم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة، وهي تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة، وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله، وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان وعمليّة معرفته.

إذا كان هذا هو الفهم العقلاني النقدي للفلسفة، إلا أن هذه الفلسفة في سياق فهمها وممارستها معاً من قبل حواملها الاجتماعيّة، كثيراً ما انحرفت عن مسارها المعرفيّ الصحيح، وذلك عنما تخلى حاملها الاجتماعيّ عن توظيفها في خدمة الإنسان ورقيّه، وجعل منها أداةً معرفيّةً لخدمة مصالح أنانيّة ضيقة لهذه الطبقة المستغلة أو تلك، أو لهذا الحاكم المستبد أو ذاك. أو أنه – أي الحامل الاجتماعيّ - جعل منها فلسفة لاهوتيّة أو ميتافيزيقيّة أو مثاليّة ذاتيّة أو مثاليّة موضوعيّة، أو لا أدريّة، ذات تعاليم مطلقة فوق الأحزاب والطبقات والمجتمع والدولة والواقع برمته، الأمر الذي جعل من جوهرها مجموعة من الرؤى المشبعة بالخيال والحدْسيّة والأسطورة والغيبيات والعواطف أو الوجدانيات وغيرها من وسائل أو طرق التفكير التي لا تربط الفكر بالواقع، أي تتجاهل أن هذا الفكر نتاج الواقع ولم يُفرخ مجرداً. علماً أن يعض هذا الحامل الاجتماعي (المثالي في تفكيره) يحاول ربط الفلسفة أو الفكر بشكل عام بالواقع، إلا أن طريقة أو أسلوب هذا الربط هو ليس أكثر من محاولة لمنح هذا الفكر القيمة المطلقة أو القدسيّة التي تفرض على الواقع الذي تحاول أن تربطه بها أن يرتقي إليها، وهنا لا يختلف ارتباط الفلسفة المثاليّة بالواقع عن ارتباط الدين بالواقع، ومن هذا الموقف المنهجي يأتي ارتباط الفلسفة بالدين من حيث الجوهر والممارسة.

إذن إن تاريخ الفلسفة عند الفلاسفة المثاليين عموماً هو ليس أكثر من ذيل لتاريخ اللاهوت، أو هو حصيلة الابداع الذاتيّ المستقل لمفكرين منفردين يعملون بوعي أو بدونه على فصل أو عزل مسيرة الفكر الفلسفيّ عن التطور الواقعيّ لتاريخ المجتمع والعلم معاً.

إن تاريخ الفلسفة الواقعيّة في الحقيقة هو علم فلسفيّ وتاريخيّ في الوقت نفسه. فالفلسفة الواقعيّة توفر لنا التالي:

1- دراسة فهم مسيرة وصيرورة الفكر الإنسانيّ.

2- واستيعاب التجربة التاريخيّة العظيمة المتعلقة بسيرورة معرفة الإنسان لعالمه.

3-  كما يطلعنا تاريخ الفلسفة أيضاً على كيفيّة ظهور أشكال الفكر النظريّ ومقولاته.

4- وعلى طرائق المعرفة العلميّة الجدليّة في التفكير.

5- مثلما يطلعنا تاريخ الفلسفة على الجذور المعرفيّة للمثاليّة والميتافيزيقيّة واللاهوتيّة، وأسباب الضلالات النظريّة أو الفكريّة لمفكريّ الماضي، ولتحذرنا من الأخذ بها أو اتباعها في المستقبل.

6- مثلما تحذرنا الفلسفة الواقعيّة النقديّة وتاريخها من الذاتيّة والجمود العقائديّ في النظريّة والممارسة على السواء.

7- هذا إضافة لكونها تزرع الثقة بالنفس والأمل بقوة العقل الإنسانيّ وقدرته على معرفة العالم وقوانينه.

8- كما تساعد على إغناء الذاكرة الإنسانيّة بالمعارف الفلسفيّة التي أبدعها العقل الإنسانيّ خلال مسيرته الطويلة، وعلى استيعاب أحسن تقاليد هذا الفكر.

9- وتعلمنا الفلسفة العقلانيّة النقديّة وتاريخها أن نستشف من وراء الفكر المدرسيّ (السكولائيّ) مصالح القوى المستبدة والمسيطرة في المجتمع، وتكشف كل تلك المذاهب الفكريّة العفنة التي تستخدمها هذه القوى المستبدة وأدواتها من مفكرين وفلاسفة ومشايخ السلطان، وبذلك يزودنا تاريخ الفلسفة العقلانيّة بالسلاح للنضال ضد المثاليّة والأيديولوجيا الرجعيّة والجموديّة عموماً.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

 

يتهم الماركسيون فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل 1859- 1938 جيكوسلوفاكي المولد. درس الفلسفة على يد استاذه الفيلسوف السويسري فرانز برينتانو مخترع مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة والذي اخذه عنه هوسرل وتم توظيف المصطلح بمعّية كل من سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وفلاسفة الوجودية الذين استهواهم مصطلح الوعي القصدي في ادانتهم لكل من ديكارت وكانط. يعرّف هوسرل الوعي القصدي (انه خاصية كل شعور ان يكون شعورا بشيء). ولا اعتقد انه من غير البديهيات ان لا يكون لكل شعور موضوعا يدركه.

الحقيقة التي اشرت لها في مقال سابق لي ان مصطلح الوعي القصدي ومصطلح الوعي الخالص كلاهما مصطلحان فلسفيان كاذبان ومزيفان سواء في ألاحتكام للمعرفة المجردة أوفي ألاحتكام للعلم التجريبي الطبيعي.. وذكرت سابقا واشير له هنا اذا كان ديكارت قال في الكوجيتو ان مجرد تفكير العقل كاف لاثبات الوجود الانطولوجي للانسان. والمأخذ الذي ادين به ديكارت من كل من هب ودب انه لم يذكر موضوع تفكير العقل بماذا؟ (انا افكر اذن انا موجود).

 سبق لي وقلت أن ديكارت لم يكن مخطئا ولا ساذجا فلسفيا كون الحمولة النوعية لتفكير العقل هو ملازمة موضوع تفكيره له بمعنى ينعدم تفكير العقل حين لا يجد موضوعا يفكر به له معنى ودلالة معرفية.. ولا يمكن لتفكير عقلي ينبني عليه تحقق الوجود الذاتي للانسان ادراكيا بمعزل عن التفكير بما له معنى يدركه العقل وهو موضوع الوعي. حين تقول انا افكر وتسكت .فهذا يكون تحصيل حاصل انك تفكر بشيء اي بموضوع يهمك انت وحدك ولا يهم غيرك في ادراكه ومعرفته. الوعي بصورة عامة للمصطلح هو ان يكون إنفراديا يلازمه هدفه القصدي.

هنا كما سأوضحه لاحقا من الخطأ التفكير انه يوجد ثلاثة انواع من الوعي – يرجى مراجعة مقالتي السابقة حول هذا التمييز الذي ساوضحه هنا ايضا -  الوعي كمصطلح فلسفي عام, والوعي القصدي الذي يلازمه هدفه,وثالثا الوعي الخالص بمعنى الوعي المتسامي صوفيا فوق محدودية الادراك العقلي الواقعي. رأيي المثبت لا يوجد بالفلسفة سوى الوعي العام.

ديكارت كما هو معلوم عرّف العقل الفلسفي بمعنى خطاب التفكير او ما يسمى اللوغوس. وليس العقل البايولوجي الذي هو ما تحتويه الجمجمة من الدماغ والمخ والنخاع الشوكي وشبكة الاعصاب. العقل الفلسفي التجريدي الذي قصده ديكارت انه  جوهرخالد خلود النفس في تعبيره اللغوي عن المدركات والموضوعات والاشياء.  العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي.

الشيء الذي يجب أن يكون ماثلا امامنا بأن مجرد التفكير هو معرفة الذات الانفرادية بتحقق وجودها الانطولوجي. أي ليس مهما ولا من المعقول أن تسال أحدا بماذا تفكر كي اتاكد من وجودك الانطولوجي؟. تاكيد تحقق الذات وجودا هو وعي ادراكي منفرد وليس خاصية عمومية أن يعرف المجموع بماذا  يفكر به الاخركي نحكم على وجوده الانطولوجي السليم ونقر أنه يمتلك عقلا ادراكيا شغّالا.

كما ذهبت سابقا الى أن الوعي الخالص مصطلح فلسفي بلا رصيد. كونه افتراض مرحلة بلوغ الانسان الوعي الخالص هو أن يبلغ الانسان بتفكيره التجريدي المتعالي تجاوزه مرحلة محدودية الادراك العقلي في قصدية الوصول لهدفه المادي الى بلوغ تخوم آفاق نوع من التسامي الصوفي العاجز واؤكد هنا العاجز عن بلوغ مرحلة فهم الاشياء بما لا يستطيع كائن انساني غير هذا الكائن المنفرد بوعيه الخالص بلوغه في حال نجاحه امتلاك وعيا خالصا. أن تمتلك وعيا خالصا معناه لديك القدرة على فهم كل ما لايستطيع العقل المحدود ادراكه. الوعي الخالص هو ذلك الوعي الافتراضي الوهمي في معرفته الماهيات بمعنى الجواهر وامكانيته النفاذ الى مباحث الميتافيزيقا وتحويلها الى موضوعات يدركها العقل الذاتي الطبيعي المحدود. الوعي الخالص هو التفكير الصوفي المتحرر من الكينونة الموجودية للانسان.

لا يوجد وعي خالص يمتلك خصوصية الوصول الى ماهيات الاشياء (الثابتة) المقصود بها هنا جواهر الاشياء في ذاتها بمعزل عن ادراكنا الصفات الخارجية لها. اما مصطلح الماهيّات على انها قيم يحددها السلوك النفسي والانفعال العاطفي كما تفهمه الظاهراتية فهي ليست ثابتة يمكن للوعي الخالص الاحاطة بها كونها سيرورة من العلاقات المتغيرة باستمرار.

ما ذهبت له في مقالتي السابقة واؤكد عليه الآن هو أن خاصية عقل الانسان المفكر يمتلك وعيا قصديا بالضرورة البيولوجية في تكوينه العقلي يلازمه في حمولته حضور موضوع تفكيره في تواصل تكاملي معرفي لا انفصال بينهما. ولا انفكاك  بين الوعي والموضوع. والوعي الخالص اعتقد استهجنه كانط في القرن الثامن عشر قبل انبثاق المصطلح بدايات القرن العشرين. يعتبر اليوم حسب معلوماتي ان اشهر فيلسوف بالعالم تناول مبحث الوعي هو جون سيرل الامريكي. (يراجع كتابنا مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة).

بماذا وكيف تدين الماركسية هوسرل؟

يتهم الماركسيون بوجهات نظر متفاوتة مختلفة الفلسفة الظاهراتية (الفينامينالوجيا) لدى هوسرل بمجموعة من المآخذ التي مصدرها الاساس اختلاف المنهج المادي الماركسي عن المنهج المثالي عموما. ما يهمنا (ان بعض الماركسيين اعتبر الظاهراتية نزعة ميكانيكية تهبط بالوعي الى مستوى الانعكاس الآلي الصرف وتمردها على كل حركة وضعية تحيل الانسان الى مجرد موضوع خالص)1.

هذا خلط متبادل بين بعض الماركسيين وفينامينولوجيا هوسرل واشياعه. بدءا كي يكون نقدنا واضحا يجب التفريق بين الادراك الذي هو خاصية الحواس في نقلها انطباعاتها الحسية الاولية عبر الجهاز العصبي للدماغ. اما الوعي فهو خاصية تعبير العقل عن مدركاته للاشياء بما يؤثر بها في التغيير وفي الصيرورة.

يجب علينا أن لا نفهم أن العقل يعي موضوعاته ومباحثه ليؤكد لنا معرفتنا كيف يعي العقل الاشياء أو لماذا يعيها وهو الأهم معرفيا. وعي الاشياء ليست عملية ادراكية محايدة بل هي وسيلة العقل في التاثير بمدركاته المادية وموضوعاته غير المادية.

الوعي ليس نزعة ميكانيكية كما ورد بالعبارة ينطبق على ادراكها ما ينطبق على ادراكات الحواس الانطباعية على وفق آلية ادراك كل حاسة بخصوصية لا تعمل ولا تاخذ بها بقية الحواس. الخلط يأتي من الحقيقة البايولوجية بأن ادراكات الحواس وادراكات الوعي هما حلقتي ادراك في منظومة العقل الادراكية الاجمالية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ. وهي مقولة صائبة تماما والشك بها هو الشك بذات قائلها ومتبنيها. هذه حقيقة بايولوجية ليس من السهل الطعن المجدي بها.

الوعي هو فاعلية العقل الادراكية للاشياء والموضوعات. لذا لا يكون الوعي انعكاسا (بدئيا) ولا انعكاسا (بعديا) مصدره ادراك الواقع من عدمه. كما ان الوعي لا تتشابه خاصية الادراك عنده وهي عقلية كما هي خاصية الادراك الحسية التي مصدرها الحواس. آلية الادراك الحسي وآلية ادراك العقل ليست آليات ميكانيكية يمكننا الاخذ بها تناوبيا بين الحواس والعقل..

تذكر المصادر الفلسفية ان الماركسية هاجمت الظاهراتية كونها فلسفة تنظيرية مثالية غارقة في التجريد الفلسفي وحسب لا اهمية لها . علما أن في محاولة هوسرل خلط الاوراق رفع شعار تبنيه ما يقول به المنطق العلمي العقلي. لكن يبدو أن الماركسيين لم تنطل عليهم اللعبة فقالوا عن هوسرل وظاهريته يتقدمهم روجيه غارودي قبل خروجه من الحزب الشيوعي الفرنسي واعلن اسلامه مايلي:

1. فلسفة هوسرل في في الظاهراتية يغلب عليها الطابع النظري الفلسفي. معتبرا هوسرل الفيلسوف هو ذاك المنعزل الفردي الذي يجد بنفسه الناطق الرسمي باسم الانسانية. والفلسفة جهد فردي منتزع من الحياة الاجتماعية2.

اعتقد تثبيت هذه العبارات بما يطلق عليه ادانة فلسفة ظاهراتية هوسرل ساذجة ولا تستحق الوقوف عندها. من حيث ان الفلسفة عموما هي تجريد تنظيري غير خاضع لاحكام التجربة والتطبيق باستثناء فلسفتين غادرتا منطق التجريد الفلسفي لتتحولان الى ايديولجيتين تطبيقيتين سياسيتين على ارض الواقع متصارعتين. هما ايديلوجيا الماركسية في تطبيقها النظام الاشتراكي والمادية التاريخية والشيوعية ممثلة بزعماء تجربة الاتحاد السوفييتي المنحل وعديد من التجارب التي لا تزال تعمل بالمنهج الشيوعي الماركسي مثل الصين وكوبا وفيتنام. والفلسفة الثانية المضادة لها التي غادرت تجريد الفلسفة التنظيرية التجريدية لتصبح ايديولوجيا سياسية تبشر بمباديء الراسمالية هي ايديلوجيا وليست فلسفة تنظير هي البراجماتية الاميريكية او الذرائعية النفعية او الواقعية التطبيقية التي ترى ليس مهما ان تمتلك فكرة تبدو لك أو لبعض الناس صحيحة بل الاهم فلترة هذه الفكرة بالتجربة الواقعية العملانية في نجاحها عبور إمتحان التطبيق النافع بالحياة. البراجماتية كما هو معلوم جاءت على لسان فلاسفتها ريتشارد بيرس, وليم جيمس , وجون ديوي. اما عن بقية الالفاظ الفيلسوف منعزل, ويجد نفسه الناطق الرسمي باسم الانسانية فلا قيمة التعقيب عليها فلسفيا فهي ليست افكارا وانما هي توصيفات.

2. من الواضح الذي لا يحتاج اثباتا ان مثالية هوسرل المدانة ماركسيا تتجلى واضحة في عبارة هوسرل قوله لها اكثر من مرة ( الفلسفة هي الحركة التاريخية التي يتجلى عبرها العقل الكلي الكامن بالفطرة الانسانية)3.

ليس هناك معنى قول هوسرل في تجريد فلسفي بائس غير ان يصف الفلسفة انها الحركة التاريخية التي يتجلى عبرها العقل الكلي الكامن بالفطرة الانسانية. الفلسفة في تاريخ تجلياتها في حضارات الشرق القديمة وعند الاغريق والرومان لم تكن الفلسفة هي حركة يتجلى فيها العقل بصناعة او قيادة تطور التاريخ. كما والادهى اية كلية عقلية كامنة يمتلكها الانسان بالفطرة الانسانية.؟ الفطرة العقلية سواء اكانت معرفية او علمية او تاريخية في حال افتراض تحققها الخاطيء ليس لها ادنى دور بصناعة حركة التاريخ التطورية. الفطرة الانسانية تسبق حضور التاريخ الذي هو وقائع حدثت وتحدث في ملازمة حضورية ترافق تقدم الانسان بالحياة عبر مراحل تاريخية طويلة نوعية. لكنها أي الفطرة عاجزة أن تصنع تاريخ الانسان.الارادة الانسانية عامل اساس من عوامل عديدة تلعب دورا في تطور حركة التاريخ الى امام. ثم كيف يكتسب او يتوارث الانسان فطرة عقلية تسبق التاريخ الانساني بل وتخلقه ايضا؟ هذا هراء.

هناك مناهج درست وتدرس حركة التاريخ على انها وقائع في زمن محدد وجغرافيا محددة وشعوب واقوام وامم محددة. فمثلا المنهج المادي الماركسي في دراسة تطور التاريخ البشري, منهج شبنجلر في التحدي والاستجابة في ظهور الحضارات وتطور حركة التاريخ , المنهج البراجماتي الراسمالي الذرائعي, المنهج الديمقراطي الليبرالي. المنهج التطوري العشوائي في حضور الصدف. طبعا لا يحكم التاريخ في تطوره ليس نهاية صراع الايديلوجيات ولا نهاية التاريخ ولا الحتمية الضرورية الملزمة ولا حتى التطورين الجدلي المادي او الليبرالي.

بمختصر العبارة ارى التاريخ وقلت ذلك بكتاباتي وفي مؤلفين لي هو مسار وقائعي عشوائي غير منتظم فوضوي تلعب في صناعته الصدف المصنعة والصدف الطبيعية لاحداث واقعية تلازم الانسان يقومّها ويضع انحرافاتها على سكة المسار الصحيح الى امام هو (الارادة الانسانية) فقط. وتبقى اهمية الظروف الموضوعية المصاحبة المساعدة والمصاحبة لحركة التاريخ ما يقرر تجييرها الايجابي التاثيري بمسار التاريخ هو ايضا الارادة الانسانية. من غير تدخل الارادة الانسانية بتعديل مسارات التاريخ المنحرفة تبقى حركة التطور التاريخي هي المنهج الذي دعا له شيبلنجلر (التحدي والاستجابة) في نشوء الحضارات وشيخوختها بمعنى الفعل ورد الفعل. المسار التاريخي حسب تصوري هو مسار تصحيح اخطاء البشر عبر العصور ابرزها ان عظمة الامم كانت تقاس بمقدار امكانياتها القتالية وشن الحروب وبناء الامبراطوريات الواسعة في حين اصبح في الحضارة الانسانية اليوم من أن افدح الاخطاء غير الحضارية وغير الانسانية هو شن الحروب. اود القول في اي معجم فلسفي نعثر على مصطلح هوسرل محرك التاريخ (العقل الكامن بالفطرة الانسانية) كلام هراء لا قيمة ولا معنى له اذ من الحماقة تسليمنا وجود عقل كامن بالفطرة الانسانية يكون محايثا جوهريا في تطور حركة التاريخ الى امام. لايوجد بالمورّثات الجينية فطرة هي عقل كامن يحرك مسار التاريخ وحتى غير التاريخ.

هوسرل واتهام الماركسية له

لا اجد مسوغا اتهام الماركسية لفلسفة هوسرل في الظاهريات ان فلسفته تنظيرية غارقة في تجريد مثالي  غير صالح للتطبيق؟ ومن يقول خاصية الفلسفة الاساس انها ليست منظومة منطقية من القول الذي يفتقد التطبيق والتنفيذ؟ هذا بيرترانراسل وبول ريكور وعشرات بل واكثر من الفلاسفة يرون أن الفلسفة نشاط انساني لا يشابه الاجناس الادبية ولا يلتزم بوسائل تغيير الحياة. اليوم حين نقول فلسفة التاريخ او فلسفة علم الاجتماع او فلسفة الاقتصاد او فلسفة علم النفس وغير ذلك فليس معنى هذا ان الفلسفة لم تفقد خاصيتها التجريدية لتصبح ايديولوجيا تخدم وتفسر التاريخ او الاقتصاد او علم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من مباحث. ضربت سابقا بهذه المقالة مثالين عما اقول في تحول الفلسفة الماركسية الى ايديولوجيا اقتصاد سياسي. وتحول الفلسفة البراجماتية الامريكية الى ايديولوجيا تخدم النمط الراسمالي الليبرالي النفعي الاستهلاكي بالحياة. اليوم يروّج اوربيا كي تكون الفلسفة المعاصرة لها مستقبل لا تحتضر به عليها أن تتبنى مباحثها وطروحاتها قضايا تهم حياة الانسان المعيشة.

الفلسفة محكومة بطابع لغة التجريد الصوري التمثّلي للاشياء في اختراع العقل لها هي منطق قولي متماسك تنظيريا لكنه لا يمتلك خاصية التطبيق. هذا ينطبق على تعبيرات الاجناس الادبية فهي سرديات وإن بدت واقعية فهي غير قابلة للتطبيق لانها تتعامل بلغة التجريد. كيف لنا ان نجري تطبيقا عملانيا للشعر مثلا او القصة القصيرة او الرواية او الفنون التشكيلية.

خاتمة

ظاهريات هوسرل (الفينامينالوجيا) هي منذ البداية انكرت اهتمامها بالواقع المادي وحياة الانسان. الفلسفة الماركسية في اتهامها الظاهراتية بانها نوع من التنظير غير القابل للتطبيق كانت محقة تماما لكنها وقعت في فخ التحامل غير الموضوعي اذ جميع مباحث الفلسفة هي تجريد لغوي غير قابل للتطبيق والتنفيذ عبر كل عصور تاريخ الفلسفة.

تشير مصادر فلسفية ان كتاب هوسرل (البحوث المنطقية) رفع شعار البحث في الماهيات وهذا المبحث بشقيه اذا كان المقصود بالماهية هو الجوهر وهو ما لم تقصده الظاهراتية. او كانت الماهية التي تريدها الظاهراتية هي القيم التي يتوصلها المنهج السلوكي النفسي التي تكون مباحث ليست موضوعات ادراكية. فكلا المبحثين لا جدوى منهما لانهما يقعان ضمن ميتافيزيقا الافكار البحثية المجردة عن الواقع تماما.

ليس هناك ماهيات قابلة ان تكون موضوعات لادراك انفعالي عاطفي بعيدا عن تفعيل دور العقل . وثانيا لايوجد منهج يفسر الطبيعة وموجودات عالمنا الخارجي المحيط بنا يقوم على منهج علم النفس العاطفي الانفعالي السلوكي.

***

علي محمد اليوسف

...............................

الهوامش:

 1. دكتور زكريا ابراهيم / دراسات في الفلسفة المعاصرة ص348

2. نفسه اعلاه ص 342

3. نفسه اعلاه ص 350

 

كان التقدم العلمي في الأربعمائة سنة الأخيرة مدهشا وساحقا. منْ كان يعتقد اننا سنكون قادرين على تعقّب تاريخ الكون الى أصله قبل 14 بليون سنة؟ زاد العلم من مدى ونوعية حياة الناس، وبدت التكنلوجيا الحالية الشائعة في العالم الحديث كأنها تشبه السحر لدى أسلافنا.

لكل هذه الأسباب، جرى الاحتفال بالعلم وتمجيده، لكن الموقف الصحي المؤيد للعلم لا يعني ذات الشيء كـ ـ "العلموية" scientism، وهي الرؤية بان الطريقة العلمية هي الطريقة الوحيدة لتأسيس الحقيقة. وكما تكشف مشكلة الوعي، هناك حدود لما يمكن ان نتعلّمه من خلال العلم وحده.

ان الشكل الأبرز للعلموية منذ بداية القرن العشرين كان حركة الوضعية المنطقية. الوضعيون المنطقيون تبنّوا "مبدأ التحقق"، الذي بموجبه تكون أي جملة لا يمكن اختبار صحتها من خلال الملاحظة والتجربة هي اما تافهة منطقيا او مجرد رطانة بلا معنى. بهذا السلاح، كان الوضعيون المنطقيون يأملون استبعاد جميع الأسئلة الميتافيزيقية باعتبارها ليست فقط زائفة وانما بلا معنى.

هذه الأيام، تواجه الوضعية المنطقية رفضا عالميا من جانب الفلاسفة. ذلك لأن الوضعية المنطقية منهزمة ذاتيا، بسبب ان مبدأ التحقق ذاته لا يمكن اختباره علميا، وبهذا، فان المبدأ يصح فقط اذا كان بلا معنى. في الحقيقة، هذه المشكلة تلاحق كل أشكال العلموية غير المؤهلة. لا وجود هناك لتجربة علمية نثبت بها ان العلموية صحيحة، وبالتالي اذا كانت العلموية صحيحة، فان صحتها لا يمكن إثباتها.

وبالرغم من جميع هذه المشاكل العميقة، فان معظم الناس في المجتمع يفترضون ان العلموية صحيحة. أغلب الناس في المملكة المتحدة غير واعين كليا بان "الميتافيزيقا" يستمر حضورها تقريبا في كل قسم من اقسام الفلسفة في البلاد. بالميتافيزيقا، لا يقصد الفلاسفة كل شيء شبحي او فوق الطبيعة، هو فقط مصطلح تقني للتحقيق الفلسفي في طبيعة الواقع مقابل التحقيق العلمي .

الحقيقة بدون علم

كيف يمكن ايجاد معرفة حول الواقع بدون عمل العلوم؟ السمة المميزة للنظريات الفلسفية هي انها "متكافئة تجريبيا"، بما يعني انك لا تستطيع الاختيار من  بينها من خلال التجربة . لو أخذنا مثالا عن فلسفة الوعي التي هي موضوع بحث الدكتور فيليب جوف Philip Goff استاذ الفلسفة المشارك في جامعة دورهام البريطانية،ان بعض الفلاسفة يعتقدون ان الوعي ينشأ من العمليات المادية في الدماغ – هذا هو الموقف "الفيزيائي". آخرون يعتقدون العكس: الوعي شيء رئيسي، والمادي ينشأ من الوعي. نسخة من هذه الرؤية هي رؤية "علم النفس الشامل" panpsychist بان الوعي يسير نزولا على طول الطريق الى اللبنات الاساسية للواقع. المفردة مشتقة من كلمتين يونانيتين pan وتعني الكل وكلمة psyche وتعني روح او نفس.

لايزال آخرون يعتقدون ان كل من الوعي والعالم المادي أساسيان لكنها مختلفان راديكاليا – هذه هي رؤية "الثنائيون". من الواضح نحن لا نستطيع التمييز بين هاتين الرؤيتين بواسطة التجربة لأنه بالنسبة لأي بيانات علمية، كل واحدة من هذه الرؤى سوف تفسر تلك البيانات بعباراتها الخاصة .

فمثلا، افرض نحن نكتشف علميا ان شكل معين من نشاط الدماغ مرتبط بالتجربة الواعية للكائن الحي. الفيزيائي سوف يفسر هذا كشكل من الترتيب او الفعل العضوي الذي يحوّل العمليات المادية غير الواعية – مثل الإشارات الكهربائية بين خلايا الدماغ – الى تجربة واعية، اما علم الروحية الشاملة سوف يفسرها كشكل من الترتيب العضوي الذي يوحّد جزيئات الوعي الفردية بنظام وعي أكبر. وهكذا نحن نجد تفسيرين فلسفيين مختلفين لنفس البيانات العلمية.

اذا لم نستطع معرفة أي رؤية هي الصحيحة بالتجربة، كيف يمكننا الإختيار بينها؟ في الحقيقة،عملية الإختيار ليست مختلفة جدا عما نجده في العلوم. العلماء، بالاضافة الى لجوئهم لبيانات تجريبية، هم ايضا يلجأون للمزايا النظرية للنظرية، على سبيل المثال كم هي بسيطة وأنيقة وموحدة.

 الفلاسفة ايضا يلجأون الى المزايا النظرية في تبرير موقفهم المفضل. فمثلا،اعتبارات البساطة تُحسب ضد النظرية الثنائية للوعي، والتي هي أقل بساطة من منافسيها كونها تعرض نوعين من المادة الاساسية – المادة الفيزيائية والوعي – بينما النظرية الفيزيائية physicalism (كل شيء فيزيائي) و الروحية الشاملة panpsychism (الذهن خاصية اساسية للواقع) متساويان في البساطة في عرضهما فقط نوع واحد من المادة الاساسية (اما مادة فيزيائية او وعي).

ومن الممكن ايضا ان تكون بعض النظريات غير متماسكة، ولكن بطرق خفية تتطلب تحليلا دقيقا للكشف عنها. فمثلا، هناك من يرى ان الرؤى الفيزيائية للوعي هي غير متماسكة (رغم ان هذا – كما في الكثير من الفلسفة –  مثير للإشكالية).

هذا لا يضمن ان هذه الطرق سوف تفرز بوضوح منْ هو الفائز. ربما في قضايا فلسفية معينة، هناك العديد من النظريات المنافسة المنسجمة والبسيطة بنفس المقدار، وفي هذه الحالة يجب ان نكون محايدين او لا ندري حول أي منهما هو الصحيح. هذا في ذاته سيكون استنتاجا فلسفيا هاما فيما يتعلق بحدود المعرفة البشرية. الفلسفة يمكن ان تكون محبطة لأن هناك الكثير من عدم الاتفاق. مع ذلك، هذا ايضا ينطبق في عدة مجالات للعلم، مثل تاريخ الاقتصاد. وهناك أسئلة عليها إجماع متواضع، على سبيل المثال، حول موضوع الرغبة الحرة.

الميل لمزج الفلسفة بحركة متنامية مضادة للعلم يُضعف الجبهة المتحدة ضد المعارضة المؤذية للعلم التي نجدها  في إنكار تقلبات المناخ ورفض حملات التلقيح ضد الأوبئة.

وسواء أحببناها ام لا، لا نستطيع تجنّب الفلسفة. عندما نتجنّبها، كل ما يحدث هو اننا ننتهي بفلسفة سيئة. السطر الأول من كتاب ستيفن هاوكنك ولينارد ميلدنوس (التصميم العظيم) أعلن بصراحة:ان "الفلسفة ميتة". الكتاب استمر في الإنغماس بنقاشات فلسفية مبسطة عن الرغبة الحرة والموضوعية. يقول فيليب جوف " لو اني كتبت كتابا يطرح تصريحا مثيرا للجدل حول الفيزياء التطبيقية، سيكون امرا سخيفا، لكوني لم أكن تدربت على المهارات الملائمة، ولم أقرأ الادب والبحوث ذات الصلة، ولم تكن آرائي في هذا المجال خاضعة لتدقيق وتمحيص الأقران". ومع ذلك هناك العديد من العلماء الذين يفتقرون للتدريب الفلسفي ينشرون كتبا سيئة جدا حول موضوعات فلسفية دون ان يؤثر ذلك على مصداقيتهم،وهو امر مؤذي وخطير.

نعتقد ان المجتمع سيكون عميق الثراء حين يصبح أكثر اطّلاعا بالفلسفة. يبقى الأمل قويا في الانتقال من هذه الفترة "العلمية" للتاريخ، وفهم الدور الحيوي الذي يلعبه كل من العلم والفلسفة في المشروع النبيل لمعرفة طبيعة الواقع.

***

حاتم حميد محسن

مقدمة: عبارة "الفلسفة المعاصرة" هي جزء من المصطلحات التقنية التي تشير إلى فترة محددة في تاريخ الفلسفة الغربية وهي فلسفة القرنين العشرين والحادي والعشرين. ومع ذلك، غالبًا ما يتم الخلط بين هذه العبارة مع الفلسفة الحديثة التي تشير إلى فترة سابقة في الفلسفة الغربية، وفلسفة ما بعد الحداثة التي تشير إلى انتقادات الفلاسفة القارية للفلسفة الحديثة، ومع استخدام غير تقني للعبارة التي تشير إلى أي عمل فلسفي أخير. فكيف ادى الالتحاق بزيادة الاحتراف في التفلسف الى الانضباط وصعود الفلسفة التحليلية والقارية؟.

على هذا النحو تميل الفلسفة المعاصرة إلى التركيز ليس على العمل المشترك بل على اعمال الافراد. لعل الفكرة المركزية في الفلسفة المعاصرة للفعل هي فكرة القصدية. يقال عادة أن ما يميز الفعل عن مجرد حركة جسدية هو النية والقصد. لقد طرح عالم الاجتماع ماكس فيبر نقطة مماثلة عندما وصف الفعل بأنه سلوك ذو معنى. وبالمثل، يبدو أن الأفعال المشتركة تفترض النوايا والمقاصد، وهي في هذه الحالة نوايا ومقاصد مشتركة. وهكذا لا يمكن للناس أن يتحدثوا إلا إذا كانت هناك قصدية مشتركة للتحدث. يتصرف أطراف المحادثة في ضوء قصدية مشتركة للتحدث، وذلك لتنفيذ تلك القصدية. إن قسماً كبيراً من العمل الفلسفي المتنامي المتعلق بالعمل المشترك يهتم بطبيعة القصدية المشتركة، أو بعبارات أقل رسمية، ما الذي نعنيه نحن بالاستعمالات الفلسفية في عصرنا؟ وهل يجب على الفلاسفة أن يظلوا هواة أم يجب أن يصيروا محترفين؟ وماهي معايير الانتقال الفلسفي من دائرة الهواية الى مصاف الاحتراف والمهنية؟

المهنية والاختصاص والاحتراف

لقد ولّى فعليًا يوم الفيلسوف كمفكر منعزل، والهاوي الموهوب صاحب الرسالة المميزة وترك مكانه للفيلسوف المختص وصاحب الحرفة والذي يمارس الفلسفة كمهنة مثل بقية المهن والاختصاصات الأخرى. عملية الاحتراف هي العملية الاجتماعية التي تحدد من خلالها أي تجارة أو مهنة قواعد سلوك المجموعة، والمؤهلات المقبولة لعضوية المهنة، وهيئة أو جمعية مهنية للإشراف على سلوك أعضاء المهنة، ودرجة معينة من ترسيم المؤهلين من هواة غير مؤهلين يؤدي التحول إلى مهنة إلى العديد من التغييرات الطفيفة في مجال البحث، ولكن أحد العناصر التي يمكن التعرف عليها بسهولة في الاحتراف هو عدم صلة "الكتاب" المتزايد بالمجال: "ستبدأ بيانات البحث في التغيير بطرق التي أصبحت منتجاتها النهائية الحديثة واضحة للجميع ومثبطة للكثيرين، لن يتم بعد الآن تجسيد أبحاث العضو في كتب موجهة إلى أي شخص قد يكون مهتمًا بموضوع المجال كمقالات مختصرة موجهة فقط إلى الزملاء المحترفين، الأشخاص الذين يمكن افتراض معرفتهم بالنموذج المشترك والذين يثبت أنهم الوحيدون القادرون على قراءة الأوراق الموجهة إليهم. لقد مرت الفلسفة بهذه العملية في نهاية القرن التاسع عشر، وهي إحدى السمات المميزة الرئيسية لعصر الفلسفة المعاصرة في الفلسفة الغربية. وكانت ألمانيا أول دولة احترفت الفلسفة. في نهاية عام 1817، كان هيجل أول فيلسوف يتم تعيينه أستاذًا من قبل الدولة، وتحديدًا من قبل وزير التعليم البروسي، نتيجة للإصلاح النابليوني في بروسيا. وفي الولايات المتحدة، نشأ الاحتراف نتيجة للإصلاحات التي أدخلت على نظام التعليم العالي الأميركي الذي يعتمد إلى حد كبير على النموذج الألماني. يصف جيمس كامبل إضفاء الطابع المهني على الفلسفة في أمريكا على النحو التالي: إن قائمة التغييرات المحددة خلال إضفاء الطابع المهني على الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر مختصرة إلى حد ما، ولكن التحول الناتج عنها يكاد يكون شاملاً. لم يعد بإمكان أستاذ الفلسفة أن يعمل كمدافع عن الإيمان أو مشرح للحقيقة. كان على الفيلسوف الجديد أن يكون قائدًا للاستفسارات ومعلنًا للنتائج. لقد أصبح هذا التحول واضحًا عندما حلت شهادات الدكتوراه في الفلسفة (غالبًا ما تكون معتمدة من ألمانيا) محل خريجي اللاهوت والوزراء في فصول الفلسفة. الفترة ما بين الوقت الذي لم يكن فيه أحد تقريبًا حاصلاً على درجة الدكتوراه. عندما فعل الجميع تقريبًا ذلك كان قصيرًا جدًا. علاوة على ذلك، كانت الدكتوراه أكثر من مجرد ترخيص للتدريس: لقد كانت شهادة بأن مدرس الفلسفة المحتمل كان مدربًا جيدًا، وإن كان على نطاق ضيق، وجاهزًا للقيام بعمل مستقل في مجال الفلسفة الأكاديمية المتخصص والمقيد الآن. ان عمل هؤلاء الفلاسفة الجدد في أقسام مستقلة للفلسفة لقد حققوا مكاسب حقيقية في أبحاثهم، وخلقوا مجموعة من العمل الفلسفي الذي يظل محوريًا في دراستنا حتى الآن. وضع هؤلاء الفلاسفة الجدد أيضًا معاييرهم الخاصة للنجاح، ونشروا في هيئات الفلسفة المعترف بها التي تم تأسيسها في ذلك الوقت: أحادي (1890)، المجلة الدولية للأخلاق (1890)، المجلة الفلسفية (1892)، ومجلة الفلسفة وعلم النفس والأساليب العلمية (1904). وبطبيعة الحال، كان هؤلاء الفلاسفة يجمعون معًا في مجتمعات جمعية علم النفس الأمريكية (1892)، والجمعية الفلسفية الغربية (1900)، والجمعية الفلسفية الأمريكية (1900) لتعزيز مواقفهم الأكاديمية والنهوض بعملهم الفلسفي. كان الاحتراف في إنجلترا مرتبطًا بالمثل بالتطورات في التعليم العالي. في عمله، يناقش دينيس لايتون هذه التغييرات في الفلسفة البريطانية ومطالبة جرين بلقب أول فيلسوف أكاديمي محترف في بريطانيا: هنري سيدجويك، في لفتة كريمة، حدد جرين كأول فيلسوف أكاديمي محترف في بريطانيا. من المؤكد أن رأي سيدجويك يمكن التشكيك فيه: ويليام هاميلتون، وفيرير، وسيدجويك نفسه هم من بين المتنافسين على هذا الشرف. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون هناك شك في أنه في الفترة ما بين وفاة ميل (1873) ونشر كتاب مور المبادئ الأخلاقية (1903)، شهدت مهنة الفلسفة البريطانية تحولًا، وكان جرين مسؤولًا جزئيًا عن هذا التحول. كان بنثام، وميلز، وكارليل، وكولريدج، وسبنسر، بالإضافة إلى العديد من المفكرين الفلسفيين الجادين الآخرين في القرن التاسع عشرأناسًا من الأدباء والإداريين والسياسيين النشطين ورجال الدين الذين يعيشون، ولكن ليس الأكاديميين. لقد ساعد جرين في فصل الدراسة الفلسفية عن دراسة النصوص الأدبية والتاريخية؛ ومن خلال إنشاء منهج الفلسفة في أكسفورد، أسس أيضًا الأساس المنطقي لمعلمي الفلسفة المدربين. عندما بدأ جرين مسيرته الأكاديمية، تم نشر الكثير من الكتابات الجادة حول الموضوع الفلسفي في مجلات الرأي المخصصة لمجموعة واسعة من الموضوعات (نادرًا ما تكون فلسفة "خالصة"). ساعد في إضفاء الطابع المهني على الكتابة الفلسفية من خلال تشجيع الدوريات المتخصصة، مثل "الأكاديمية" و"العقل"، والتي كانت بمثابة أماكن لنتائج البحث العلمي. النتيجة النهائية لإضفاء الطابع المهني على الفلسفة تعني أن العمل الذي يتم في هذا المجال يتم الآن بشكل حصري تقريبًا من قبل أساتذة الجامعات الحاصلين على درجة الدكتوراه في هذا المجال وينشرون في مجلات عالية التقنية وخاضعة لمراجعة النظراء. في حين أنه لا يزال شائعًا بين عامة السكان أن يكون لدى الشخص مجموعة من الآراء الدينية أو السياسية أو الفلسفية التي يعتبرها "فلسفته"، إلا أن هذه الآراء نادرًا ما تكون مستنيرة أو مرتبطة بالعمل الذي يتم إنجازه في الفلسفة المهنية اليوم. علاوة على ذلك، وعلى عكس العديد من العلوم التي أصبحت صناعة صحية للكتب والمجلات والبرامج التلفزيونية التي تهدف إلى تعميم العلوم وإيصال النتائج التقنية للمجال العلمي إلى عامة الناس، فإن أعمال الفلاسفة المحترفين موجهة إلى الجمهور خارج المهنة تظل نادرة. كتاب الفيلسوف مايكل ساندل "العدالة: ما هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله؟" وكتاب " على هراء " لهاري فرانكفورت هي أمثلة على الأعمال التي تتميز بالتمييز غير المألوف المتمثل في أنها كتبها فلاسفة محترفون ولكنها موجهة إلى جمهور أوسع من غير الفلاسفة وتحظى بشعبية كبيرة في نهاية المطاف. أصبح كلا العملين من أكثر الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز. فماهي مميزات المهنة الفلسفية؟

الفلسفة المهنية اليوم

بعد وقت قصير من تشكيلها، اندمجت الجمعية الفلسفية الغربية وأجزاء من جمعية علم النفس الأمريكية مع الجمعية الفلسفية الأمريكية لإنشاء ما هو اليوم المنظمة المهنية الرئيسية للفلاسفة في الولايات المتحدة: الجمعية الفلسفية الأمريكية. تتكون الجمعية من ثلاثة أقسام: المحيط الهادئ، والوسطى، والشرقية. ينظم كل قسم مؤتمرا سنويا كبيرا. وأكبرها هو اجتماع القسم الشرقي، والذي يجذب عادة حوالي 2000 فيلسوف ويعقد في مدينة مختلفة على الساحل الشرقي في شهر ديسمبر من كل عام. يعد اجتماع القسم الشرقي أيضًا أكبر حدث توظيف في الولايات المتحدة الأمريكية لوظائف الفلسفة، حيث ترسل العديد من الجامعات فرقًا لمقابلة المرشحين للمناصب الأكاديمية. ومن بين مهامها العديدة الأخرى، تتولى الجمعية مسؤولية إدارة العديد من أعلى درجات التكريم في هذه المهنة. على سبيل المثال، تعتبر رئاسة أحد أقسام الجمعية الفلسفية الأمريكية شرفًا مهنيًا، كما أن جائزة الجمعية الفلسفية الأمريكية للكتاب هي واحدة من أقدم الجوائز في الفلسفة. أكبر منظمة أكاديمية مكرسة لتعزيز دراسة الفلسفة القارية على وجه التحديد هي جمعية الفينومينولوجيا والفلسفة الوجودية. فيما يتعلق بالمجلات المهنية اليوم، طلب منهم استطلاع عام 2018 للفلاسفة المحترفين تصنيف المجلات الفلسفية "العامة" الأعلى جودة باللغة الإنجليزية، مما أسفر عن أفضل 20 مجلة: فيما يتعلق بالفلسفة القارية على وجه التحديد، طلب منهم استطلاع عام 2012 لأغلب الفلاسفة المحترفين تصنيف المجلات الفلسفية ذات "التقليد القاري" الأعلى جودة باللغة الإنجليزية.

 إدراج أفضل نتائج للاستطلاع:

 ينشر مركز توثيق الفلسفة "دليل الفلاسفة الأمريكيين" الشهير، وهو العمل المرجعي القياسي للمعلومات حول النشاط الفلسفي في الولايات المتحدة وكندا. يتم نشر الدليل كل عامين، بالتناوب مع المجلد المصاحب له، "الدليل الدولي للفلسفة والفلاسفة" (المصدر الوحيد المحرر للمعلومات الشاملة عن النشاط الفلسفي في أفريقيا وآسيا وأستراليا وأوروبا وأمريكا اللاتينية). منذ بداية القرن الحادي والعشرين، شهد الفلاسفة أيضًا الاستخدام المتزايد للمدونات كوسيلة للتبادل المهني. تتضمن بعض المعالم البارزة في هذا التطور قائمة غير رسمية لمدونات الفلسفة التي بدأها الفيلسوف ديفيد تشالمرز والتي أصبحت منذ ذلك الحين مصدرًا مستخدمًا على نطاق واسع من قبل المهنة، وإنشاء شراكة بين مدونة الأخلاقيات والمجلة البارزة الأخلاقيات لنشر مقالات مميزة. للمناقشة عبر الإنترنت حول المدونة، ودور المدونات مثل "كيف تبدو المرأة في الفلسفة؟" في لفت الانتباه إلى تجربة المرأة في المهنة.

الانقسام القاري التحليلي

بداية الانقسام

بدأت الفلسفة القارية المعاصرة بعمل فرانز برينتانو، وإدموند هوسرل، وأدولف رايناخ، ومارتن هيدجر مع تطوير المنهج الفلسفي للفينومينولوجيا. كان هذا التطور متزامنًا تقريبًا مع عمل جوتلوب فريجه وبرتراند راسل الذي افتتحا طريقة فلسفية جديدة تعتمد على تحليل اللغة عبر المنطق الحديث (ومن هنا جاء مصطلح “الفلسفة التحليلية”). تهيمن الفلسفة التحليلية على المملكة المتحدة وكندا وأستراليا والعالم الناطق باللغة الإنجليزية. تسود الفلسفة القارية في أوروبا، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرازيل وأجزاء من الولايات المتحدة. يرى بعض الفلاسفة، مثل ريتشارد رورتي وسيمون جليندينينج، أن هذا الانقسام "القاري التحليلي" معادٍ للمنهج ككل. ويدعي آخرون، مثل جون سيرل، أن الفلسفة القارية، وخاصة الفلسفة القارية ما بعد البنيوية، يجب شطبها، على أساس أنها ظلامية وغامضة. كما تشترك الفلسفة التحليلية والقارية في تقليد فلسفي غربي مشترك حتى إيمانويل كانط. بعد ذلك، يختلف الفلاسفة التحليليون والقاريون حول أهمية وتأثير الفلاسفة اللاحقين على تقاليد كل منهم. على سبيل المثال، تطورت المدرسة المثالية الألمانية من أعمال كانط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر وبلغت ذروتها مع جورج فيلهلم فريدريش هيجل، الذي يحظى بتقدير العديد من الفلاسفة القاريين. على العكس من ذلك، يُنظر إلى هيجل على أنه شخصية ثانوية نسبيًا بالنسبة لعمل الفلاسفة التحليليين.

الفلسفة القارية

من المفترض أن يبدأ تاريخ الفلسفة القارية في أوائل القرن العشرين لأن جذورها المؤسساتية تنحدر مباشرة من جذور الفينومينولوجيا. ونتيجة لذلك، غالبًا ما يُنسب الفضل إلى إدموند هوسرل باعتباره الشخصية المؤسسة في الفلسفة القارية. على الرغم من أنه نظرًا لأن الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية لهما وجهات نظر مختلفة تمامًا عن الفلسفة بعد كانط، فغالبًا ما تُفهم الفلسفة القارية أيضًا بمعنى موسع لتشمل أي فلاسفة أو حركات ما بعد كانط مهمة للفلسفة القارية ولكن ليس الفلسفة التحليلية. يشير مصطلح "الفلسفة القارية"، مثل "الفلسفة التحليلية"، إلى مجموعة واسعة من وجهات النظر والمناهج الفلسفية التي لا يمكن استيعابها بسهولة في التعريف. لقد تم اقتراح أن المصطلح قد يكون أكثر تحقيرًا منه وصفيًا، ويعمل كتسمية لأنواع الفلسفة الغربية المرفوضة أو غير المرغوب فيها من قبل الفلاسفة التحليليين.

في الواقع، غالبًا ما يوصف منتقدوها الفلسفة القارية بأنها فلسفة تفتقر إلى دقة الفلسفة التحليلية. ومع ذلك، فقد تم النظر إلى بعض السمات الوصفية، وليس مجرد السمات التحقيرية، على أنها تميز الفلسفة القارية بشكل نموذجي: نحن الذين نصنف أنفسنا كفلاسفة "تحليليين" نميل إلى الوقوع في افتراض أن ولاءنا يمنحنا الفضيلة المنهجية تلقائيًا. وفقًا للصور النمطية الفظة، يستخدم الفلاسفة التحليليون الحجج بينما لا يستخدمها الفلاسفة “القاريون”. لكن ضمن التقليد التحليلي، يستخدم العديد من الفلاسفة الحجج فقط إلى الحد الذي يستخدمه معظم الفلاسفة "القاريين" ؟ كيف يمكننا أن نفعل ما هو أفضل؟ يمكننا أن نبدأ بداية مفيدة من خلال تصحيح الأمور البسيطة. حتى أن الكثير من الفلسفة التحليلية تتحرك بسرعة كبيرة جدًا في عجلة من أمرها للوصول إلى الأجزاء المثيرة. لا يتم إعطاء التفاصيل الاهتمام الذي تستحقه: يتم ذكر الادعاءات الحاسمة بشكل غامض، ويتم التعامل مع الصياغات المختلفة المهمة كما لو كانت متكافئة، ويتم وصف الأمثلة بشكل ناقص، ويتم الإشارة إلى الحجج بدلاً من تقديمها بشكل صحيح، ويتم ترك شكلها دون تفسير، وما إلى ذلك . لم يتم ممارسة الفلسفة أبدًا لفترة طويلة وفقًا لمعايير عالية مثل تلك المتوفرة الآن بالفعل، فقط إذا كانت المهنة ستأخذها على محمل الجد. ان "الصور النمطية الخام" التي يشير إليها ويليامسون هي كما يلي: أن الفلاسفة التحليليين ينتجون تحليلات دقيقة ومدروسة للألغاز الفلسفية الصغيرة التافهة، في حين أن الفلاسفة القاريين ينتجون نتائج عميقة وجوهرية ولكن فقط من خلال استخلاصها من أنساق فلسفية واسعة هي نفسها تفتقر إلى الحجج الداعمة أو الوضوح في تعبيرها. يبدو أن ويليامسون نفسه ينأى بنفسه هنا عن هذه الصور النمطية، لكنه يتهم الفلاسفة التحليليين في كثير من الأحيان بملاءمة الصورة النمطية النقدية للفلاسفة القاريين من خلال التحرك "بسرعة كبيرة" للوصول إلى نتائج جوهرية عبر حجج ضعيفة. في الواقع، غالبًا ما يوصف منتقدوها الفلسفة القارية بأنها فلسفة تفتقر إلى دقة الفلسفة التحليلية. ومع ذلك، فقد تم النظر إلى بعض السمات الوصفية، وليس مجرد السمات التحقيرية، على أنها تميز الفلسفة القارية بشكل نموذجي:

أولاً، يرفض الفلاسفة القاريون عمومًا المذهب العلمي، وهو الرأي القائل بأن العلوم الطبيعية هي الطريقة الأفضل أو الأكثر دقة لفهم جميع الظواهر.

ثانياً، عادة ما تعتبر الفلسفة القارية أن الخبرة تتحدد جزئياً على الأقل بعوامل مثل السياق، أو المكان والزمان، أو اللغة، أو الثقافة، أو التاريخ. وهكذا تميل الفلسفة القارية نحو التاريخية، حيث تميل الفلسفة التحليلية إلى التعامل مع الفلسفة من حيث المشاكل المنفصلة، التي يمكن تحليلها بصرف النظر عن أصولها التاريخية.

ثالثاً، يميل الفلاسفة القاريون إلى الاهتمام بقوة بوحدة النظرية والممارسة، ويميلون إلى رؤية استفساراتهم الفلسفية على أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتحول الشخصي أو الأخلاقي أو السياسي.

رابعاً، تركز الفلسفة القارية على الفلسفة ما وراء الفلسفة (أي دراسة طبيعة الفلسفة وأهدافها وأساليبها). ويمكن العثور على هذا التركيز أيضًا في الفلسفة التحليلية، ولكن بنتائج مختلفة تمامًا.

منهج آخر لتقريب تعريف الفلسفة القارية هو من خلال سرد بعض الحركات الفلسفية التي كانت مركزية في الفلسفة القارية: المثالية الألمانية، والفينومينولوجيا، والوجودية (وسوابقها، مثل فكر كيركجارد ونيتشه)، والتأويلية أو الهرمينوطيقا، والفلسفة القارية، البنيوية، وما بعد البنيوية، والحركة النسوية الفلسفية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وبعض الفروع الأخرى للماركسية الغربية ومراجعاتها التجديدية.

الفلسفة التحليلية

عادةً ما يرجع تاريخ البرنامج التحليلي في الفلسفة إلى أعمال الفلاسفة الإنجليز برتراند راسل ومور في أوائل القرن العشرين، بناءً على أعمال الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني جوتلوب فريجه. لقد ابتعدوا عن الأشكال الهيجلية التي كانت سائدة آنذاك (معترضين بشكل خاص على مثاليتها وغموضها المزعوم) وبدأوا في تطوير نوع جديد من التحليل المفاهيمي بناءً على التطورات الأخيرة في المنطق. المثال الأبرز على هذه الطريقة الجديدة في التحليل المفاهيمي هو بحث راسل عام 1905 بعنوان "حول الدلالة"، وهو البحث الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه نموذج للبرنامج التحليلي في الفلسفة. على الرغم من أن الفلاسفة المعاصرين الذين يعرفون أنفسهم على أنهم "تحليليون" لديهم اهتمامات وافتراضات وأساليب متباينة على نطاق واسع، وكثيرًا ما رفضوا المقدمات الأساسية التي حددت الحركة التحليلية بين عامي 1900 و1960، فإن الفلسفة التحليلية، في حالتها المعاصرة، عادة ما يتم تعريفها على أنها محددة من خلال أسلوب خاص يتميز بالدقة والشمول حول موضوع ضيق، ومقاومة "المناقشات غير الدقيقة أو المتعجرفة حول مواضيع واسعة". وقد دعا بعض الفلاسفة التحليليين في نهاية القرن العشرين، مثل ريتشارد رورتي، إلى إصلاح شامل للتقليد الفلسفي التحليلي. على وجه الخصوص، جادل رورتي بأن الفلاسفة التحليليين يجب أن يتعلموا دروسًا مهمة من عمل الفلاسفة القاريين. يؤكد بعض المؤلفين، مثل بول  ليفينغستون وشون غالاغر، أن هناك رؤى قيمة مشتركة بين كلا التقليدين بينما دعا آخرون، مثل تيموثي ويليامسون، إلى التزام أكثر صرامة بالمُثُل المنهجية للفلسفة التحليلية: نحن الذين نصنف أنفسنا كفلاسفة "تحليليين" نميل إلى الوقوع في افتراض أن ولاءنا يمنحنا الفضيلة المنهجية تلقائيًا. وفقًا للصور النمطية الفظة، يستخدم الفلاسفة التحليليون الحجج بينما لا يستخدمها الفلاسفة “القاريون”. لكن ضمن التقليد التحليلي، يستخدم العديد من الفلاسفة الحجج فقط إلى الحد الذي يستخدمه معظم الفلاسفة "القاريين" فكيف يمكننا أن نفعل ما هو أفضل؟ يمكننا أن نبدأ بداية مفيدة من خلال تصحيح الأمور البسيطة. حتى أن الكثير من الفلسفة التحليلية تتحرك بسرعة كبيرة جدًا في عجلة من أمرها للوصول إلى الأجزاء المثيرة. لا يتم إعطاء التفاصيل الاهتمام الذي تستحقه: يتم ذكر الادعاءات الحاسمة بشكل غامض، ويتم التعامل مع الصياغات المختلفة المهمة كما لو كانت متكافئة، ويتم وصف الأمثلة بشكل ناقص، ويتم الإشارة إلى الحجج بدلاً من تقديمها بشكل صحيح، ويتم ترك شكلها دون تفسير، وما إلى ذلك. لم يتم ممارسة الفلسفة أبدًا لفترة طويلة وفقًا لمعايير عالية مثل تلك المتوفرة الآن بالفعل، فقط إذا كانت المهنة ستأخذها على محمل الجد. "الصور النمطية الخام" التي يشير إليها ويليامسون هي كما يلي: أن الفلاسفة التحليليين ينتجون تحليلات دقيقة ومدروسة للألغاز الفلسفية الصغيرة التافهة، في حين أن الفلاسفة القاريين ينتجون نتائج عميقة وجوهرية ولكن فقط من خلال استخلاصها من أنساق فلسفية واسعة هي نفسها تفتقر إلى الحجج الداعمة أو الوضوح في تعبيرها. يبدو أن ويليامسون نفسه ينأى بنفسه هنا عن هذه الصور النمطية، لكنه يتهم الفلاسفة التحليليين في كثير من الأحيان بملاءمة الصورة النمطية النقدية للفلاسفة القاريين من خلال التحرك "بسرعة كبيرة" للوصول إلى نتائج جوهرية عبر حجج ضعيفة.

خاتمة

يمكن للفلاسفة ان يمارسوا العديد من الأدوار خارج المهنة الأكاديمية وربما تكون آين راند المثال الأبرز للعمل الفكري المتزامن مع الفلسفة المعاصرة ولكن مساهماتها لم تتم ضمن النظام الفلسفي المهني: "على الرغم من كل شعبية آين راند، إلا أن عددًا قليلاً فقط من الفلاسفة المحترفين أخذوا عملها على محمل الجد. باعتبارها ونتيجة لذلك، فإن معظم الأعمال الفلسفية الجادة حول راند ظهرت في مجلات غير أكاديمية وغير خاضعة لمراجعة النظراء، أو في الكتب، وتعكس المراجع هذه الحقيقة. كان يعمل أيضًا من خارج المهنة فلاسفة مثل جيرد آخينباخ (الفلسفة الصرفة والعملية. ثلاث محاضرات في الممارسة الفلسفية، 1983) وميشيل فيبر (انظر كتابه إثبات الفلسفة، 2008) الذين اقترحوا منذ الثمانينيات العديد من أشكال الاستشارة الفلسفية التي تدعي إعادة الحوارات السقراطية إلى الحياة في إطار شبه علاجي نفسي. فكيف يمكن توظيف الفلسفة في تحرير الشعوب من الاستعمار وتحقيق المساواة بين الأمم والعدالة بين الناس؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تقف أشكال النعال كعلامةٍ مميزةٍ للعصر الذي تُوجد فيه. وكل علامة بمثابة نطاق من (المعنى الأوسع)، حيث يربط الأحذية بصورة العالم وتحولات السياسة والاقتصاد وتاريخ الأفكار. إننا كبشرٍ حريصون جميعاً على التواجُد داخل هذا النطاق الجذّاب لنشعر بمعنى حياتنا الإنسانية. يبدو ذلك واضحاً مع المودات والبرندات التجارية brands الناتجة عن التفاعل بين الحاجة والجماليات وأنماط العيش. لا يذهب الإنسان لشراء حذاء بسهولةٍ، فهناك عددٌ ليس بالقليل من رغبات الآخرين التي حطّت وستحط عليه. وعادةً نحن نسعى إلى الشيء المرغوب من  آخرين سوانا، وإن كانت تحركنا الاحتياجات الخاصة إليه.

تنتصب الأحذية في هذا الاتجاه دالةً على تطورنا بدرجة واضحةٍ مثل كافة الصناعات الأخرى كالأسلحة والسيارات والأدوات الطبية وتكنولوجيا البناء ووسائل الاتصال. ستخبرنا الأحذية تاريخياً عن كيفية تعامل البشرية مع دائرة الأقدام والعقول. وعلى خط متواز من (الخريطة الجيو سياسية) للعالم، تركت تيارات الاقتصاد بصماتها الخفية على جلود الأحذية. فأجيال الأحذية تتوقف على تطور صناعة الجلود وجماليات التصميم وإدهاش الخيال، فشراء حذاء يحتاج إلى كم لابأس به من الإغواء وإثارة الرغبات بين الناس. حتى نوعية الجلود ذاتها كانت حصيلة موجات استكشاف القارات والاستعمار والحروب وانتهاك قدرات الطبيعة الحيوانية.

بالإمكان وجود حيوانات أفريقية تمَّ استعمال جلودها في أحذية أثرياء أمريكان أو أوروبيين، وبالإمكان وجود حيوانات بأحراش الأمازون في انتظار دورها لتُصبح براندات لأحدث أحذية نساء العولمة. وبالطبع تمر العمليات السابقة بشبكة معقدة من الأعمال والتصاميم والتخطيط والتداخل مع سياسات الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات وتحولات الاقتصاد. لأنها شبكة عاكسة لتعقد بنية النظام العالمي وفاعلية القوى الكبرى الحاملة لموروثات الهيمنة والاستعمار.

لا تزول تلك الموروثات بجرة قلمٍ ولا تُمحى مع الزمن، لكنها تتحول إلى أساليب أخرى أكثر تعقيداً. و ليس أدل على ذلك من كون أرباح صناعة الأحذية وتجارة جلود الحيوانات النادرة تصب في جيوب العملاء واثرياء الدول الغربية والشرقية. وبالوقت نفسه تبدو الأقدام في قارات العالم لامعة تحت أشعة الشمس اختيالاً بما يلبس الأفراد من جلود ثمينة جاذبة للأنظار إلى أقصى مدى.

لم يكن ذلك أمراً مُتاحاً ولا مفهوماً للأحذية إلاَّ مع بنية عصر الحداثة، أجل كان يجب المرور به حتى نفسر هذا التحول. فإنَّ تلميع الأحذية وكونها معبرةً عن شخصية أصحابها ظاهرة حداثية بامتياز. المجال العام وحرية الإرادة والتفاعل الجمعي والتنظيم الجسدي للأفراد هي إفرازات للفضاء العام في المجتمعات الحديثة. بل هي أمور تستوجب نعالاً عملية وحرة الحركة لتعبر عن الأفكار العملية.

ولاسيما أن انتشار الأعمال والتوزيع الاقتصادي يتطلبان أحذية من نوع خاص مناسب لهما. وهو ما جعل صناعة الأحذية صناعة ذات تداعيات مهمة اجتماعية وسياسية وتستعمل باختلاف المهمام المنوطة بالأشخاص في المجال العام. لأنَّ النعال جزء من هوية الأفراد الحركية، سواء أكانت أحذية ذكورية أم نسائية. وهي دالة في الحالين على الشخصيات الاعتبارية التي تستعمل كيانها الجسدي في الممارسات السياسية والاقتصاية.

وهذا هو الباب الكبير الذي حول الأحذية – كما أشرت منذ قليل- إلى مودلات عالمية تستغل الشركات العابرة بعض الخامات الحيوانية المتاحة في قارات العالم لصناعتها. فالأحذية تعلقت بموجات التمدد السياسي واجتياح الدول والمجتمعات المهمشة على أساس خدمة الرجل الأبيض، وكانت علامة على نمط حياته الباحثة عن الثروات ومطاردة المجهول في قارات العالم طوال الوقت. فالكاوبوي caw boy في أمريكا كان يرتدي حذاءً مناسباً لركوب الخيول واصطياد السكان الأصليين، كذلك عمال المناجم الذين يخدمون مركزية الصناعة الأوربية أُرسل لهم أحذية عملية لسرعة الإيقاع وتوريد المعادن إلى دول القارة العجوز. وأخذ الأثرياء - أصحاب الأعمال - يجوبون قارة أفريقيا عائدين بكنوز طبيعية وحيوانية ثمينة.

هي" مافيا الأحذية" إذن التي نشطّت حركة تجارة قوية من هنا وهناك لخدمة العولمة وتصنيع الخامات في بلاد أوروبا والغرب مستغلة ضعف البيئات والمجتمعات المحلية وعدم قدرتها على الانتاج. وفي الوقت نفسه، فإن نمط الحياة الغربية والمابعد حداثي يحتاج إلى وفرة المواد الخام التي تلبي مطالب أزياء ورغباب العصر. وليست الأحذية إلاَّ مفردة مجسدة لهذه الأذواق العالمية التي قد يكون جلدها من أمريكا اللاتينية والايدي العاملة فيها من جنوب شرق أسيا والتصميم من بقايا هيمنة المركزية الغربية والعقول المروجه لها من ألمانيا أو انجلترا أو فرنسا. الأطراف الثلاثة يشكلون حالة تلبس في علامة الحذاء، وكيف يؤدي دوراً ضمن مزيج العولمة الذي تضخم مع الأزمنة الراهنة.

ومن جنس المجال الذي يحمل فيه الحذاء حداثة الأفكار، كانت تدرج معانيه للإعتراض كذلك والتوظيف السياسي، فعباس محمود العقاد ذات مرة وضع حذاءه على إحدى منصات البرلمان مشيراً إلى أنه سيضرب بالحذاء كل من يعتدي أو ينتهك الدستور المصري 1923، هذا المولود الجديد من رحم ثورة 1919. كان يقول ذلك الكلام في استعمال صريح لمعنى الحذاء اعتراضاً واستعمالاً عبر مضمار السياسة. وكذلك يدافع بالحذاء عن مفردةِ الدستور، وهي مفردة حداثية وليدة تطورات العصر الحديث. وفي هذا السياق كان العقاد يقصد سحق رأس الملك نفسه، لو اعتدى على سيادة الدستور وإلغاء بعض الحريات كحقوق أصيلة للشعب المصري. حيث كان الملك يريد تقليص الحقوق والحريات وحل مجلس الشعب وتعطيل القوانين والتشريعات. وفي هذه الأزمة آنذاك، وقف عباس محمود العقاد قائلاً: " إنّ الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء، ولكنها أزمة مجلس النواب والدستور المصري .. وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".

ظهر مشهد حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي متسقاً مع عبارة العقاد السابقة. إذْ اطلق الزيدي (نعله) كقذيفة عابرة للرؤوس في4  ديسمبر 2008، كي تضرب هامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بجوار نوري المالكي رئيس وزراء العراق، نتيجة كونه – أي بوش الإبن- قد دمر العراق وأطلق أكاذيب السياسة التي دمرت المجتمع والدولة العراقية.

ورئاسة الابن بوش قصة مكتملة الأركان في سياسات الصهيونية المسيحية، وكانت هامته تستجلب شعبياً رشقات الأحذية العربية من كل حدب وصوب. لأنَّ الهامة التي لا تقبل رؤية الواقع ولا تحترم خصوصية المجتمعات الأخرى، تقترب من قطافها بأقرب حذاء ممكن. وكلما كانت السياسات الأمريكية متعسفة ومدمرة في المنطقة العربية، فالهامات التي ترتفع معبرة عنها تحتاج إلى أحذية مناسبة. ليس من باب الإهانة.. فلا توجد في السياسة إهانة بالمعنى المعروف، ولكن من باب أنه "لكل مقام مقال".

ومن ثمَّ كان مشهد حذاء الزيدي أكبر مشهد يصور انتقال النعال من جعبة الحداثة الغربية إلى أحد استعمالاته ما بعد الحداثية. لأن الصورة جرت كطقسٍ سياسي أثناء إلقاء جورج بوش لكلمته خلال المؤتمر الصحفي، وكذلك كان المشهد منقولاً عبر وسائط تقنية عالية الدقة والجودة وسط ترقب عالمي لما يجري. والحذاء جعل السيايسة مجالاً رمزياً مختلفاً ونقل التحليل السياسي من التراشق بالكلمات إلى نوع آخر من الردود. وربما كانت أحذية العرب قد وجدت في حذاء الزيدي حينئذ ضالتها التي لم تستطع الوصول إليها.

إن حذاءً طائراً يلخص ما جرى في العراق طوال عقود من التدهور السياسي وتدخل القوى الدولية في شؤونها حتى اللحظة.  لقد جاء حذاء لائقاً بأكبر رأس عولمي (رأس الرئيس الأمريكي)، رأس البوارج والأسلحة العابرة للقارات وتجارة الدماء وغسيل الأدمغة وانتشار المرتزقة ونهب المجتمعات. رأس شارك في أغراق العالم العربي بفوضى الجماعات الإرهابية وتبنتها وضمنت تواجدها في المشاهد والصرارعات المسلحة حتى الرمق الأخير.

وعليه فقد جرت استعارة رأس الأفعي على ألسنة بعض الكتاب والمثقفين المؤدلجين للإشارة إلى كيان أمريكا. ورغم أن بوش الإبن كان رئيساً غير مرحب به في المجتمع الأمريكي وقالت والدته زوجة بوش الأب: " لقد تولى السلطة أغبى أولادي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة"، إلاَّ أن المشهد أعطى بوش خلوداً من باب رجم الرأس الماكر. رأس محشوة بالأضاليل والأكاذيب السياسية التي مازالت الأدارات الأمريكية تعيد استعمالها في منطقة الشرق الأوسط.

كان حذاء الزيدي سارياً كالطائرات ما بعد الحداثية المسيّرة. ودخل بالمؤتمرات الصحفية إلى دائرة المحظور، وحبس الأنفاس على إيقاع التململ من النعال والحذر منها. حتى ود رجال السياسة إصدار أوامر للصحفيين ولكل الحضور بصدد المؤتمرات واللقاءات العامة " اخلعو نعالكم أنتم في اودية المدنس". والعبارة عكس الآية القرآنية وتشتغل على قلبها دلالياً لصالح تعرية مشاهد أهل الحكم على الحقيقة، وتشف قدرتنا نحن البشر على اعتبار الدنس، النجاسة، القذارة، جزءاً من وجودنا الثقافي.

وردت أشعار العراقي أحمد مطر في هذا الصدد ترياقاً سردياً كان هو عقدته الدرامية، حيث جعلت من النعال إعلانات سياسية إزاء كل هامات ماكرة. وليتها صيغت ككل الاعلانات المعروفة، بل غدت قطع من السخرية اللائقة بالرؤوس المترنحة سياسياً بين شرق وغرب.

" فوق نعلي كل أصحاب المعالي،

قيل لي عيبٌ، فكررت مقالي،

ثم لما قيل لي عيبٌ، تنبهت إلى سوء عباراتي،

وخففت انفعالي، ثم قدمت اعتذاري لنعالي" ..

عبارات الشاعر أحمد مطر قطعٌ من شظايا التاريخ مغموسةً بكم من الألم والجرأة والسخرية. إنها البلاغة الشعرية للوقاحة التي تناسب رؤوس أينعت بالفساد والتخلف فحان قطافها بالنعال على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي. وتقوم اللغة بدورتها الثقافية ناقلة لنظام الشفرات الذي تبثه السلطة. وعبارات مطر تفك تلك الشفرات في لمح البصر، لأنَّ كل مستبد وكل صاحب معال متغطرس يظن كونه ساكناً منطقة الخفاء من وعينا الجمعي. ولكن يخرجه الشاعر مطر فوق حذائه مباشرة. إن المباشرة في هذا القول أبرز رمزية يمكنها التعبير عن المواقف، وهي ما يستحقه أصحاب الرؤوس الفارغة.

إن العلاقة بين أصحاب المعالي ونعل الشاعر أو النعل إجمالاً لم تكن واضحة. وليس هناك من مبرر مبدئي بإمكانه أن يقول ذلك. ولكن عندما وضع الشاعر كل أصحاب المعالي فوق النعال بلا مقدمات، فقد ظهر في ذهنية المتلقي السبب. أي جعل المتلقي يخمن ويبحث عن أسباب ذلك، وبخاصة أنَّ كل متلق لديه حزمة معتبرة من أصحاب المعالي. وكانت الدهشة من العقل هي أصل المفاجأة والتي جعلت المباشرة قوة في متن الأبيات والواقع معاً. لأنه لا يوجد أحد يستطيع مادياً وضع أصحاب المعالي على الحذاء، ولكن شعرياً كان الأمر سهلاً لدرجة الفعل. وهو ما قزَّم الواقع  ولم يحل دون إيقاع المعنى على أي نحو من الأنحاء.

والتكرار في قول القائل (فكررت مقالي)، هو تكرار نتيجة الممانعة الصلبة التي يحيط بها المستبدون أنفسهم. لعلهم يحيطون أنفسهم بجدار من الصولجان والحماية دون النيل من ذواتهم. وهذا ما يجعل الشعوب تملأ الفراغ في الغالب بحشو من الأوهام والمخاوف تجاه السلطة، فالقوة التي يقفون عليها قوة مفتعلة ومصطنعة من ألسنة الناس ومن فائض خيال المجتمعات. وليس أدل على ذلك من اتيان كلمة"العيب" في متن الشعر، وهي رباط يشبه رباط الأحذية، العيب رباط توثق الثقافة به وعي الأفراد حائلة دون التمرد والرفض. وبه تحولت السياسة إلى أخلاقيات فارغة المضمون، ولكنها قوية التأثير نتيجة هذا المكر الذي تصطنعه الرؤوس.

ولذلك كانت النهاية مفاجأة بالمثل أن قدم الشاعر الاعتذار لحذائه على أساس وجود احتمالات عدة:

أولاً: أن يشجب المتلقي الفعل الذي حدث من صاحب النعل تجاه أصحاب المعالي.

ثانياً: أن يكون الحذاء رمزاً للنقد والاعتراض على أمرٍ ما، وليس على كلِّ ما يحدث من أصحاب المعالي.

ثالثاً: أنَّ الاعتذار للنعال كان قفزة خيالية مثل قفزات ما بعد الحداثة المهولة تجاه العالم والأشياء. فالنعل لا يليق به أن يتورط هذا التورط.

رابعاً: أن يغير الشاعر قناعات المتلقي في كون الأحذية أرقى من كل الأشياء، ولو كانت إشارة إلى أشخاص سقطوا إلى مرتبة أدنى منه.

صادف أنَّ الشاعر مطر مع القفزة الخيالية لمعنى النعال قد غيّر قناعات المتلقي إزاء ذاته. فالإبتسامة الحفيفة مع صورة التعبير الشعري ضمن البيت الأخير جاءت مغلفة بالسخرية والعلو وإطلاق سراح الحرية إلى الذروة. ولعل الحذاء قد وصل إلى غاية ما بعدها غاية. لم يعد مجرد وسيلة، ولكنه كتاب مفتوح يحتاج إلى التسطير المتواصل... إنه بات أرشيفاً شاهداً على أحداثٍ جسام.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

كان "لودفيغ فويرباخ" فيلسوفاً ألمانيّاً أنثروبولوجيّاً/أناسيّاً مشهوراً وخاصة بكتابه "جوهر المسيحيّة"، الذي تضمن نقده للمسيحيّة، حيث كان له تأثّيراً كبيراً للغاية بأجيال من المفكرين اللاحقين، بما فيهم "كارل ماركس، وفريدريك أنجلز، وريتشارد فاغنر، وفريدريك نيتشه، أو ما عرف بـ "الهيجليين الشباب". وهو أيضاً من دعا إلى الليبراليّة والماديّة، التي عرفها الماركسيون بالماديّة الساذجة أو المبتذلة، كونها اهتمت بنظرية انعكاس الواقع بالفكر، ولم تهتم أو يلفت انتباهها إلى مسألة الأنثروبولوجيا، وبخاصة المسألة الطبقيّة في الوجود الاجتماعي. (1). الويكيبيديا.

أهم أفكار فويرباخ:

إذا كان هيجل قد عزل بفكرته المطلقة العقل أو الفكر عن الواقع.. عن حياة الإنسان، عن نشاطه الحسي ومتطلباته، فإن تلاميذه من "الهيجليين الشباب"، ومنهم "فويرباخ"، فقد انطلق برؤية فلسفيّة جديدة، اتخذت من (الحس) منطلقاً لها. حيث يرى "فويرباخ" أن أركان الحس – السمع البصر الذوق الشم اللمس..الخ - هي أركان الفلسفة. فالفلسفة تنطلق من الإنسان، والإنسان وحده هو الذات الحقيقيّة للعقل. وهو أيضاً نتاج الطبيعة.

إن البرهنة على أن شيئاً ما موجود، معناه أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون شيئاً مفكّراً فقط، أي إن البرهان على وجوده لا يمكن استنباطه من الفكر ذاته بشكل مجرد. فلا بد أن يأتي الوجود ليُضاف إلى موضوع الفكر. فما هو هذا الشيء؟، يقول "فويرباخ" في كتابه (فلسفة المستقبل): لكي تتفلسف ينبغي ألا تفصل الفيلسوف فيك عن الإنسان. أي لا تفكر بصفتك مفكراً فحسب، أي لا تفكر ضمن إمكان منتزع من كليّة الكائن البشري الحقيقي المعزول لذاته. بل فكر بصفتك كائناً حيّاً وحقيقيّاً، معرضّاً لأمواج محيط العالم القادرة على إحيائك وعلى مدك بنسغ الحياة. لا تفكر في فراغ التجريد وكأنك واحد معزول، أو عاهل مطلق، أو إله لا مبال نفى نفسه خارج العالم. فكر بما يمكنك أن تضمن لأفكارك أن تكون أساساً لوحدة الفكر والكينونة، أي الوجود. فالعالم لا يمكن أن يكون مفتوحاً على مصاريعه، إلا إزاء عقل متفتح، والحواس وحدها هي نوافذ العقل.. (2).

من هذا المنطلق الأناسي نستطيع  أن نقول: إن هذه الأفكار "الفويرباخيّة"، هي طبعاً ما جعل مؤرخي الفلسفة يقولون دائماً إن فلسفة "فويرباخ"، على علاتها، فإن أهميتها الأساسيّة والكبرى تَكْمُنُ في أن الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع إلى خير الإنسان بالذات. وهذا يعني أن "فويرباخ" وضع المبدأ الأنثروبولوجي/ الأناسي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولعل هذا ما أثار دائماً حماسة المفكرين الشباب لأفكار "فويرباخ"، قبل أن يتقدم بهم العمر ويجدوا أنفسهم مدفوعين بالتدريج بعيداً من مادّيته الحسيّة الساذجة. وهنا يكمن، أن ندرك، جوهر عبارة إنغلز: «لقد كنا جميعاً في وقت من الأوقات فويرباخيين». ومن هذا المنطلق للعقل الأناسيّ في التعامل مع معطيات الحياة، عارض "فويرباخ" الفهم المثالي للفكر على أنه جوهر موجود خارج الإنسان والطبيعة. فهو يؤكد أن علاقة الفكر بالوجود هي في الوقت ذاته ماهيّة الإنسان، لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر، لذلك فعلى الفلسفة كي تجيب على مسألة علاقة الفكر بالواقع / بالوجود، يجب أن تكون فلسفة أنثروبولوجيّة. أي طريق عمل  يشتغل على  الإنسان في وجوده ونشاطه، ففي هذا الوجود والنشاط تُحل مسألة العقلي والوقعي معا.(3). إن هذا المنطلق الأناسي صحيح من حيث المبدأ، إلا أنه يظل فهماً مبتسراً، كونه لا يأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي في تناقضاته وصراعاته الطبقيّة، بل ظل الإنسان الفرد عبر أحاسيسه الفرديّة، أو بعلاقاته الفيزيولوجية هو من يحدد الفكر، أو يفرز الفكر كما يفرز الجلد مادة الأملاح.

العلاقة الفيزيولوجيّة مع الفكر:

إن العلوم الفيزيولوجيّة كما يقول "فويرباخ"، تظهر العلاقة العضويّة التي تربط الفكر بالعمليات الماديّة التي تجري في جسم الإنسان من خلال الإدراك الحسي للعالم الخارجي. فالإنسان (الفرد) عنده كما بينا في موقع سابق لا ينفصل عن الطبيعة، لذلك من الخطأ معارضة أو فصل الطبيعة عن عالم الإنسان الروحي، باعتباره – أي عالم الإنسان الروحي – كما يعتقدون واقعاً قائماً بذاته وهو أعلى وأسمى من الطبيعة.

إن السمة المميزة لماديّة "فويرباخ" تكمن في نفي ثنائيّة الجسم والروح، وتؤكد على الاعتراف وضرورة البرهان على صحة الموضوعة الماديّة في وحدة الروح والبدن.. الذاتي والموضوعي.. النفسي والفيزيائي.. الفكر والوجود. (4).

أنثروبولوجيا فويرباخ:

هي منهج في العمل والفكر، لا ترمي إلى طرح معين للمسألة الأساسيّة في الفلسفة، فالمبدأ الأساس لها، يقوم في رأي "فويرباخ" على (التفسير العلمي للوعي الاجتماعي)، الذي يرى فيه انعكاساً لماهيّة الإنسان الفيزيولوجيّة. ولكن ما هي هذه الماهيّة؟. إنها قبل كل شيء حساسيّة... إنها حياة القلب والعقل .. ومختلف الانفعالات والعواطف الإنسانيّة.. انفعالات الفرد الذي يحب ويتعذب ويتوق إلى السعادة. وهكذا يدرس أشكال الوعي الاجتماعي المختلفة، ومنها الوعي الدينيّ من وجهة نظر المحتوى الحياتي الداخل فيه الدين ذاته. أي اعتبار الوعي الدينيّ جزءاً من وعي الناس في حياتهم. وبذلك تجاوز فويرباخ رؤية الفلاسفة المثاليين ومنهم اللاهوتيين الذين اعتبروا الدين مجموعة من التصورات الخياليّة، وهو خال من أي مضمون واقعي. لذلك هو يردُّ الأمورَ الخارقة للطبيعة إلى الطبيعة ذاتها.. يرد الخيالي إلى الواقعي .. والفوق محسوس إلى المحسوس. وفي ذلك تكون ميزته الأنثروبولوجيّة أيضاً كما بينا أعلاه.

إن الأنثروبولوجيا عند "فويرباخ"، انطوت على بدايات الفهم (المادي للتاريخ)، و خاصة محاولة تفسير الدين تفسيراً ماديّاً باعتباره انعكاساً للحياة الواقعيّة. ولكن هذه الحياة الواقعيّة هي تماماً كماهيّة الإنسان، الأمر الذي جعل فويرباخ يفهما فهما مجرداً خارج ارتباطها بعلاقات اجتماعيّة تاريخيّة معينة، كانقسام المجتمع إلى طبقات وغيرها، لذلك هو فقط يركز على الطابع الحسي للإنسان. أي الطابع الحسي للنشاط الإنساني.. على الوحدة الأنثربولوجيّة لجميع البشر كأفراد. مبتعداً عن العلاقات الداخليّة في المجتمع التي تولد بسبب طبيعة استغلال المالك للمنتج جملة واسعة من التناقضات والصراعات بين مكونات المجتمع، واعتبارها هي من يؤدي إلى تلك التحولات العميقة في بنية حياة الفرد والدولة والمجتمع. (5).

علاقة الفلسفة بالدين عند فويرباخ:

إن الدين يَعِدُ الإنسان بالنجاة بعد الموت، بينما الفلسفة مدعوة لتحقيقي ما يعد به الدين على الأرض. إن على الفلسفة أن تحل محل الدين لتعطي الإنسان بدلاً من السلوى وانهار الخمر والعسل وحور العين الوهميّة، القدرة على معرفة الواقع وإمكانياته الحقيقيّة كإنسان كي يبلغ السعادة. (6).

نقد فويرباخ للفلسفة المثاليّة:

تقوم هذه الفلسفة المثاليّة بعمومها على محاولة فلاسفتها المثاليين، اشتقاق وجود العالم الخارجي أو الطبيعة من الفكر، أو الوعي، أو الحدْس، أو التأمل أو قوى من خارج الطبيعة. وعلى هذا التوجه المثاليّ، نرى الفلسفة المثاليّة التأمليّة تنفي وجود الطبيعي بشكل مستقل عن الوعي، لأنها تُنَصِبُ فوق الطبيعة روحاً خارقة القدرة.

إن المثاليّة ليست التسليم المادي بوجود العالم الخارجي، بل في تأكيدها على الحل المثالي  للمسألة الأساس للفلسفة، وذلك من خلال اعتماد الحل المثالي على الحجج النظريّة، ومنها البرهنة على صحة النظرة الدينيّة إلى العالم .

إن المثاليّة لا تنطلق من الواقع، بل تصرف نظرها عنه، دون أي أساس من المعطيات الحسيّة، أي تصرف نظرها عن إدراك الأشياء الواقعيّة المدركة بواسطة الحس والتجربّة.

إن المثاليّة تقول بوجود أشياء في ذاتها مستعصية على الفهم أو المعرفة، وهذا يدخلها في اللاأدرية، التي تقوم في أساسها على هذا التجريد المثالي ذاته. أي على التغاضي التأملي عن كل ما ندركه حسياً.

ملاك القول: إن الفلسفة المثاليّة ليست إلا لاهوتاً معقلناً، أو تأمليّاً. فالذين يتحدثون عن عقل مطلق بأنه هو من يقوم بتحديد الوجود بشكل خفي، إنهم لا يفعلون في حقيقة أمرهم إلا عرض الشعور الذاتي المثالي بديلاً عن الله، وخلق العالم بشكل أكثر دقة وفقاً لتصورات ذاتية محض. ومع ذلك علينا أن نميز بين الفلسفة المثاليّة التأمليّة وبين اللاهوت. فالتأويل العقلاني للدين من قبل المثاليين، ليس أكثر من استنتاجات منطقيّة ستؤدي إلى تناقض صريح مع العقائد الدينيّة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتفق مع العلم والعقل والمنطق.

إن التأليهيّة تبين لنا، أن الله ليس أكثر من كائن حسيّ أو شخصيّة موجودة خارج العالم. أما الفلسفة التأمليّة فتحول الله إلى روح لا شخصاني. أي هو الماهيّة الباطنيّة للواقع ذاته. وهكذا تمهد الفلسفة المثاليّة التأمليّة الطريق إلى وحدة الوجود، أي مطابقة الله مع الواقع/ الطبيعة. وبالتالي إلى نفي التأليهيّة.(7).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..........................

الهوامش:

1- الويكيبيديا. بتصرف.

2- مبادىء فلسفة المستقبل» لفيورباخ: الإنسان دائماً وأبداً – موقع العربيّة – ابراهيم العريس. بتصرف.

3- المرجع نفسه. بتصرف.

4- للاستزادة في ذلك يراجع كتاب تاريخ الفلسفة – مجموعة من الكتاب السوفييت – إصدار دار الجماهير الشعبيّة –  دمشق - تعريب توفيق سلوم – مراجعة د. خضر زكريا. 1971. ص447 وما بعد.

5- ما بعد الهيجلية: فويرباخ أنموذجا – موقع مومنون بلاد حدود. بتصرف.

6- للاستزادة في معرفة علاقة الفلسفة بالدين تراجع الدراسة القيمة - ما بعد الهيجلية: فويرباخ أنموذجا – في موقع مومنون بلا حدود.

7-  للاستزادة في ذلك يراجع كتاب تاريخ الفلسفة – مجموعة من الكتاب السوفييت – مرجع سابق. ص447 وما بعد.

هناك مجال تأويلي ناذر يتصل بعلم النفس الإعلامي، باعتباره جزءا متصلا بالبحث في حقل الاتصال والإعلام، يختص به علماء النفس الإعلاميين، المرتبطين بخدمات الصحة العقلية أو استشاريين أو مطورين.

يقول البريطاني باميلا روتليدج، إن علم النفس الإعلامي ينطبق مبدئيا وأساسيا على مجموعة واسعة من الصناعات والمهن التي تنطوي على استخدام أو تطوير الاتصالات وتقنيات المعلومات.

وباعتبار أن علم النفس الإعلامي يشمل الأبحاث والتطبيقات التي تتناول جميع أشكال تقنيات الإعلام، من وسائل تقليدية وجماهيرية، علاوة على التقنيات والتطبيقات الجديدة والناشئة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي. الوسائط الاتصالية، وتصميم الواجهة، والتقنيات التعليمية، وتقنيات الوسائط التفاعلية، والبيئات المدمجة والافتراضية والمختلطة. فإن التركيز على الضرورة المنهجية للسلوك الإعلامي، كحالة سيكولوجية واعية بالزمن والأحداث والتفاعلات الأخرى، يضفي على واجهة المنظومة الإعلامية، نافذة منشأة لتدبير الطرق التي يتأثر بها الناس ويتفاعلون بإزائها و بالوسائط والتكنولوجيا المتعددة.

لاغرو أن راهننا التكنولوجي والاتصالاتي، أضحى يعكس وباستمرارا رتباطنا النفسي والذاتي بالوسائط والتكنولوجيا، ونتيجة لذلك، أصبحت دراسة تأثير وسائل الإعلام جزءًا لا يتجزأ من السيكولوجيا. ومع ذلك، فإن طبيعة المجال متعددة التخصصات والتغيرات المستمرة في كيفية تفاعل الناس مع وسائل الإعلام تجعل من الصعب تحديد مجال الدراسة.

ومن المهم أيضا التأكيد على أن علم النفس الإعلامي يستمد بشكل كبير من علم النفس وعلم الاتصالات، ولكنه يتضمن أيضًا أبحاثًا من مجالات أخرى، بما في ذلك علم الاجتماع والدراسات الإعلامية والأنثروبولوجيا.. وغير ذلك. ويتوزع هذا المجال عبر العديد من التخصصات، حيث لا يعتبر العديد من العلماء أن علم النفس هو مجال اهتمامهم الأساسي للبحث وهو تأثير وسائل الإعلام على الأفراد، بل هو موضوع فرعي ضمن موضوع أكبر من الخبرة.

لكن، دعونا نصوغ إمكانية توجيه هذه المعرفة المستحدثة، وفقا للنصوص القليلة الواردة في المراجع ذات الأهمية، كما هو الحال بالنسبة لتعريف كارين ديل في دليل أكسفورد لعلم النفس الإعلامي، الذي تعتبر فيه علم النفس الإعلامي دراسة علمية للسلوك البشري والأفكار والمشاعر التي يتم تجربتها في سياق استخدام الوسائط وإنشاءها.

وعلى نفس الطريق، يمكن اختزال المقولة، بالذهاب إلى أن ذاك العلم هو بالفعل الجهد المبذول لفهم العلاقة المتطورة باستمرار بين البشر ووسائل الإعلام من منظور نفسي.

هذا السياق، سيحول بين تأويل المعرفة في انتمائها للمنظور الإعلامي، وبين تحديد الفاعلية مع التمظهرات النفسية والذاتية التي يقوم عليها . كما ويتماشى ذلك مع اشتباك الأخلاقي بالمهني، والمعرفي باللامعرفي، ونوع وسياق الفهوم التي يتم عرضها على المنصات والأقنومات التواصلية المفتوحة؟.

لنلقي نظرة حول مكامن استحقاق هذا التماثل في استحضار علم النفس الإعلامي، الساعي إلساعي إلى استكشاف عوالم متعاقبة، ترتبط بتأثيرات وسائل الإعلام على تيمات ومشاهد العنف مثلا، وازدياد نواظم العدوان بعد التفاعل معها، أو تصادم أطراف حول طرق تصحيح مسار علاقة المجتمع بالمرأة، أو المشاكل الأسرية ذات الأولوية في ترميم الخلافات الزوجية، أو العلاقات الجنسية الرضائية، ..إلخ.

إن الموضوع يتعلق بالدرجة الأولى، بمسألة التعلم عبر الإنترنت، حيث يمكن توصيلها بشكل أكثر فعالية وعبر الفئات العمرية المختلفة، والطرق الأكثر مصداقية ..

كما أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، مثل كيفية تعديل المنصات لإنشاء صورة أكثر شمولاً للعالم بدلاً من عزلة الأفراد ذوي التفكير المماثل الذي تشجعه وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا، وكيف تتأثر العلاقات عندما تتم في الغالب أو فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيفية تقليل التنمر عبر الإنترنت والسلوكيات السلبية الأخرى عبر الإنترنت.

أما مشاركة الجمهور المتفاعل، فهو أكبر مرمى لمعرفة كيفية تأثير الجانب النفسي، مما تفاعلنا معه وبإزائه، حيث سنتمكن من الاستحضار الواعي بوجاهة واعتبار إحساسنا باحترام الذات، وهو ما يلح علينا بتورية السؤال عن كيف ولماذا يجتمع المتناقض الواحد والمتعدد معًا لتشكيل مجتمعات داعمة، رغم أن مسلكيات الإقامة داخل المحتوى غالبا ما ينم عن تناقض واستغلال وجنوح نحو التفاهة.

تلكم، أول العوائق الإبستيمية التي تصيب منظومة "السيكولوجيا" في الإعلام، وتستدعي تعميق التفكير فيه وفي أبعاده وخلفياته. وهو الذي يؤكد أيضا، صعوبة المجال ووظيفة أخصائييه في البحث عن أشكال التعاطي معه ووفق رموزه وأسراره.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

(ان الوهم الاجتماعي يسيطر اليوم على كل أنقاض الماضي المتراكمة، والمستقبل له بدون شك، فالجماهير لم تكن في حياتها أبدا ظمأى للحقيقة، وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، ويفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ، فمن يعرف إيهامهم يصبح سيدا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم).. غوستاف لوبون

 وأنا أجلس في ذلك الفضاء المقدس، أركز نظري على الوجوه التي أمامي، يبدو كل وجه وكأنه مستنسخ، بدءًا من طريقة لباسهم وحتى الإيماءات الدقيقة التي يقومون بها، حتى أصواتهم وكأنهم يرددون ترتيلات، تبدو وكأنها أصداء لبعضهم البعض، إنهم مثل الجنود، يحافظون بأستقتال على ديمومةأوهامهم ..

سيرورة الوهم:

في تتبع شبكة الأوهام المعقدة التي تشتبك مع النفس البشرية، وتشكل التصورات وتملي الأعراف المجتمعية. تتجذر الأوهام وتزدهر، والتي يديمها أولئك الذين يمارسون السلطة، حدد فرنسيس بيكون كما جاء في كتاب د.عادل مصطفى في «الأورجانون الجديد»ثمة أربعة أنواع من الأوهام تُحدِق بالعقل البشري، وتظل تلاحقه في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامه العوائق ما لم يأخذ البشرُ حِذرَهم ويُحصِّنوا أنفسَهم منها قدْر ما يستطيعون، «فدراسة الأوهام هي بالنسبة إلى تفسير الطبيعة مثل الدحوضات السوفسطائية بالنسبة للمنطق العادي.» كان بيكون قد عرض لهذه الأوهام في كتاب سابق له (تقدم المعرفة/النهوض بالعلم/إنهاض العلم) نشره عام ١٦٠٥م، ولكنه لم يقيِّض لها أسماءً، أمَّا في الأورجانون الجديد فقد أطلق عليها أسماءً تدل على براعةٍ منقطعة النظير في استخدام الاستعارة الحية»، مفهوم «الأصنام»، وهي تحيزات معرفية أو أوهام تشوه إدراك الإنسان وفهمه للعالم،وهي بنيات مجازية تكشف عمق قابلية الإنسان للتشويه والتلاعب المعرفي، وفي الوقت نفسه نحن نتأمل في استعارة أفلاطون للكهف، حيث يسلط الضوء على الانفصال العميق بين الواقع المدرك والحقائق المتعالية التي تكمن وراءه، وقد صنف بيكون هذه الأصنام إلى أربعة أنواع:

أصنام القبيلة: وهي متأصلة في طبيعة الإنسان نفسها، إنها تنشأ من الميول المشتركة ونقاط الضعف في الإدراك البشري، مثل ميلنا إلى إدراك أنماط غير موجودة، أو تفضيل الأفكار المألوفة على الأفكار الجديدة، أو إسقاط تجاربنا الخاصة على الآخرين.

أصنام الكهف: وهي تحيزات فردية أو شخصية، إنها تنتج عن التعليم الخاص للشخص، وتربيته، وخبراته، وتصرفاته. يمثل “الكهف” الخاص بكل شخص وجهة نظره الفريدة، مما قد يؤدي إلى تشويه فهمهم للواقع.

أصنام السوق: تنشأ من استخدام اللغة والتواصل، وتحدث عندما يتم استخدام الكلمات أو الرموز بشكل غير دقيق أو غامض، مما يؤدي إلى سوء الفهم أو استنتاجات خاطئة. يمكن أن يؤدي سوء الفهم إلى إدامة المعتقدات الخاطئة وإعاقة السعي وراء الحقيقة.

أصنام المسرح: وهي أوهام تنبع من أنظمة فلسفية أو أيديولوجية، وهي تنشأ عندما يقبل الأفراد دون نقد العقائد أو النظريات أو وجهات النظر العالمية الراسخة ويلتزمون بها دون إخضاعهم لتدقيق صارم أو اختبار تجريبي. يمكن لهذه الأصنام أن تقيد البحث الفكري وتعيق التقدم العلمي.

يسلط تحليل بيكون لهذه الأصنام الضوء على أهمية التفكير النقدي، والشك، والتحقيق التجريبي في التغلب على التحيزات المعرفية وتطوير المعرفة الإنسانية والقضاء على هذه الاوهام، ومن خلال الاعتراف بهذه الأوهام ومعالجتها، اعتقد بيكون أن البشرية قادرة على تطوير فهم أكثر دقة للعالم الطبيعي وتحسين عملية صنع القرار الفردية والجماعية..

نقيضة الوهم وسياقات المعرفة:

وبينما نبحر في متاهة الوهم، لابد أن نوضح نقيضه لفهم الحقيقة وفي هذا الجانب يرى غوستاف لوبون كما هو موضح في ملاحظاته منهجًا صارمًا يضع الحقيقة العلمية في قمة الصلاحية، وهو يصنف الحقيقة إلى عدة مجالات، بما في ذلك البيولوجية والعاطفية والدينية والجماعية والعقلية، ومع ذلك يحدد الحقيقة العلمية باعتبارها الحقيقة الفعلية الوحيدة التي تتوافق مع وصف «توافق الفكر مع الواقع».

في هذا السياق، يشير تأكيد لوبون على أن اليقين هو حالة الروح التي تعتقد أنها ممسوسة إلى أن اليقين الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الحقيقة العلمية، حيث يتماشى الإيمان مع المعرفة. ويؤكد أن الرضا أو القبول أو الإجماع المجتمعي لا يعني اليقين ما لم يرتكز على أدلة علمية.

بالتالي أن سيرورة الوهم التي قد يدعم بها الأفراد والمجتمعات والمؤسسات معتقدات أو أيديولوجيات معينة، حتى عندما يفتقرون إلى المعرفة العلمية، ويمكن تطبيق مفهوم جنود الوهم على أولئك الذين يدافعون عن معتقدات راسخة، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو أيديولوجية، على الرغم من غياب الأدلة التجريبية.

السياق الأجتماعي

يذكر أريك فروم في كتابه « ماوراء الأوهام « الذي يناقش فيه توليفة مقنعة لأفكار كارل ماركس وسيغموند فرويد» يبين لنا كل من ماركس وفرويد أن الإنسان ليس كما يعتقد، وأنه مدفوع بقوى غير واعية إلى حد كبير، ولكن بينما يصر ماركس على الطبيعة الاجتماعية لهذه القوى، يصر فرويد على طبيعتها الفردية والليبيدية.»

بالتالي إذا حفرنا عن الحقيقة في الخطاب المعرفي سنجدها تتشكل أجتماعياً وكما يقول فوكو (الحقيقة هي من العالم انها تنتج هناك بفضل قيود متعددة... لكل مجتمع نظامه الخاص للحقيقة، (سياسته العامة) للحقيقة التي تعني نماذج الخطاب التي تحويها وتجعلها صحيحة، الآليات والامثلة التي تتيح للمرء ان يميز بين البيانات الصحيحة والزائفة،المنهج في كليهما مُقرٌ،التقنيات والاجراءات المفضلة لاحراز الحقيقة، مكانة الموكلين بالقول ان ما حسبوه كان صحيحا».

ومع ذلك، بينما نتصارع مع تعقيدات الحقيقة والوهم، فمن الأهمية بمكان أن ندرك البناء الاجتماعي للمعرفة والتأثيرات التي لا تعد ولا تحصى والتي تشكل تصوراتنا للواقع، تذكرنا رؤى ميشيل فوكو بأن الحقيقة ليست مجرد انعكاس للواقع الموضوعي، ولكنها متشابكة بشكل معقد مع ديناميكيات السلطة، والأعراف المجتمعية، والممارسات الخطابية.

وفي ضوء ذلك، فإن بحثنا عن الحقيقة وتحدينا لجنود الوهم يجب أن يكون مصحوبًا بالرغبة في تحدي المعتقدات الراسخة، واستجواب الواقع باستمرار من خلال تعزيز ثقافة البحث النقدي والتواضع الفكري، يمكننا أن نطمح إلى تجاوز الأوهام التي تربطنا والسعي نحو فهم أكثر استنارة للعالم بالتالي فإن الرحلة نحو الحقيقة هي مسعى مستمر وجماعي، يتطلب يقظة مستمرة وفضولاً فكرياً والتزاماً بمبادئ العقل والدليل،وفي هذا المسعى، قد نجد العزاء في كلمات سقراط، الذي أعلن في عبارته الشهيرة: “إن الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش”.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بابل

 

تحاول أغلب الثقافات- من مجتمع إلى آخر- صناعة معاني الأحذية (غطاء الأرجل) على نحوٍ أعمق، لكونها الوسيط الذي يخفف الوطء والتعثُر، وتحُول دون شعور (لحم القدم) بعثرات الطُرق والتراب. تماماً حينما يُعبر الحذاءَ عن دلالة الرفعة والمباهاة والغلبة، فهو يقِي من وعثاء المجتمعات، ويُعطي انطباعاً معيّناً أمام الناس. والحُفاة العُراة يذهبون ثقافياً لتغطية التعري الاجتماعي بأية حمايةٍ من ظلال السلطة. ولا يجدون واقياً بجانب الاقتصاد والسياسة إلاَّ بالغرور والعلو الأجوف.

تبقى الأحذية خطاباً ضمنياً عندما توجد لمساتٌ لأقدام على رقعة المجتمع الحساسة لوقْع الناس والظواهر. فالأحذية شفافةٌ لما يرتسم على مظهرها والمسارات التي تأخذها. وليست كل النعال متساوية في إطار كهذا، طالما أنَّ الآثار التي تتركها وراءها ليست واحدةً ولا متطابقة. وهناك في أسواق النعّالين (الصُرماتية)- بلغة أهل مصر العثمانية والمملوكية- أمورٌ دالة على افتراق الطوائف والطبقات والفئات المختلفة. ففي لحظة صناعة وحياكة وترقيع النعال ما يُظهِر الخيوط الاجتماعية التي تحرك الأنامل والأقدام معاً. وبالتأكيد يعرف الصُرماتية ظروف وأحوال أهل صناعة النعال، وكذلك يعرفون نوعيات النعال تفاصيلياً، ولمن تكون والخلفيات الاجتماعية التي اتت منها.

بالتأكيد، فإنَّ النعال عبارة عن " توقيع ثقافي signature cultural " يحتاج دوماً إلى فك شفراته الملتوية. والعرب كان لديهم مواهب فذة في تتبع الأثر والفِراسة بحيث كانوا يعرفون: ما إذا كانت آثار الأقدام لرجل أم لإمرأة أم لطفل. وليس هذا فقط، بل كانوا يتفرّسون في معرفة نوعية الأقدام. فأقدام الأطفال مختلفةٌ عن أقدام الرجال في مقتبل العمر أو الرجال في وسط الكهولة أو خلال الشيخوخة الطاعنة. وكان العرب يعرفون كذلك: ما إذا كانت آثار اقدام المرأة آثاراً لإمرأة حامل أم لإمرأة عجوز أم لفتاة في مقتبل العمر وبأي فحوى كانت تسير. هذه الفراسة تقتضيها الأحذية على نطاقٍ فلسفي وثقافي عام. وعوضاً عن أنْ تكون رمال البادية هي (الرقاع الوجودية) التي تضم آثار الأقدام، تأتي رقاع المجتمع لتظهر آثار النعال.

هكذا تبقى النعال (وسيطاً حركياً) يرتهن بذهنية الناس وأنساق الفكر. فالنعال لديها القدرة على التواجد كمفردةٍ ضمن معجم عام مغروس في أضابير التراث ولحم الواقع. كما أنها كرداء للأقدام ترينا: كيف يتعامل الناس مع قواهم والحقائق الجارية بين البشر؟ فالإنسان قادر على جعل الأشياء تتكلم، تُفضي، ويعود إلى الوراء قليلاً دافعاً إياها في المقدمة. " وفي خاصف النعال البيان وعبرة... لمعتبر إذْ قال والنعل ترقع".. ذلك ما يقوله الشاعر السيد الحميرى عن فحوى النعال كسيرة أكبر من كيانها المحدود. فالمعنى طريف حين يكون خصف النعال هو بلاغة وجودها الذي يمثل وجودنا بامتداد جوانبه. لأن الخصف هو خرز الأحذية وإصلاحها نتيجة التغيرات التي تلحق بها. وهي عملية تبدو مهمة عند كثرة الاستعمال وانهاك الأحذية. والخصف لُب المسألة الاجتماعية المعبرة عن العمل والفعل والانتقال من مكان لآخر.

وعلى وجود هذه الفكرة وراء معنى النعال، هناك النعال التي تحرك مستويات أخرى من المضامين. ولاسيما مضمون التقليل من شأن الآخرين. المضمون المركب الذي تكون ثقافياً عبر ممارسات سحيقةٍ لدى البشر، ولا ندري كيف تكونت العلاقة الخفية بين الأحذية والاحتقار تحديداً. والميل إلى تفسير ذلك فيما يبدو أنه أمر مرتبط بتعاليم الأديان وما ترتب عليها من طقوس وتبعات ثقافية. وصادف ذلك تاريخياً انقسام الإنسان على نفسه ما بين الأعلى والأدنى واستعمال هذا الانقسام في إدارة دفة الصراع وعلاقات القوى في المجتمعات.

يقول أحد قصاصي الأثر في الثقافة العربية ابو الطيب المتنبي: " وإغتفارٌ لو غيّر السخطُ منه ... جُعلت هامهم نعال النعال". وهنا نلاحظ بصمة الثقافة العربية واضحة في زحزحة المتنبي (لدلالة الهامة) من العلو والرفعة والفخر إلى مرتبة نعال النعال. فإي مكانة محقّرة - تحت عين التاريخ - هذه التي سيصل إليها الأعداء؟! فلو كف الناسُ (المخاطبون) عن طلب الغفران من الخصوم في واقع قبلي متغلغل، لجعلوا هامات خصومهم بمثابة النعال. وهو معنى يرتكن إلى الاستنفار لا إلى القبول، إلى الغلبة لا إلى الوسْع. لأنَّ السخط اعلان للنفرة والافصاح عن الغضب.

والمتنبي يُلقي كلمة" هاماتهم " تعبيراً عن رؤوس الخصوم، كأنّه يلقي أحجاراً مهملة. لقد نزع منها التميُز ليعطيها لقمة ثقافيةً سائغة للنعال المنتظرة. وليست النعال هنا ككل النعال، فالأخيرة تحتاج إلى أقوام مميزين. والمتنبي يعد الرؤوس المهملة إلى أن تصبح تابعة لمن يحركم السخط. وليس هؤلاء الساخطون أقل من الاندفاع وراء سخطهم إلى منتهاه. ولعلَّ النعال تأتي في هذا السياق لمخاطبة غرائز القبيلة. وهي ما تترجم  الخلفيات المتعلقة بالقبيلة في مظاهر الزي التي لها مردود اجتماعي وتاريخي. وسيدرك الخصوم بالقطع: ماذا يعني انتعال رؤوسهم؟ وسيدرك المجتمع: إلى أي حد سيكون العار ممتداً عندما ينتعل أحدهم رأس الآخر؟ وفوق هذا وذلك، فإن فعل اللغة الشعرية باق رغم دورات الزمان وذر التراب فوق الآثار!!

إنَّ ثنائية " النعل والهامة " تخضع لشد وجذب ثقافيين في مجتمعاتنا العربية منذ أزمنة بعيدة، وهي الثنائية التي ترسخت لدينا نحن العرب بفضل التقاليد مرةً، وبفضل القوى الاجتماعية مرة أخرى. لأنَّ شداً وجذباً من هذا الصنف يرسمان الخطوط الوهمية التي يتحرك عليها الأفراد. بحيث يمشون حفاةً دون نعال، على أنْ تكون نعالُهم المأمولة هي البُعد الحاضر الغائب في المواقف التواصلية. فلو كان أحدُهم يرتدى حذاءً ثميناً، فالأنظار تتجه إليه قصداً. وقد تكون الصور هي الحل الأمثل للتصالح مع الواقع. وتبدو الهامة يحركُها الفخر إستناداً إلى رمزية الصور تحت عناية الأنظار.

يؤكد عماد الدين الأصبهاني: " إذا حفيّت منها النعال تنعلت ... بهام عدي رضت بها أيما رض". والشاعر يعبر عن دلالةٍ تتسق مع الفخر الذي يصيب هامات قبيلة ترى في رؤوس الآخرين مجرد نعال. وكأنَّ الأقدام إذا حفيت منها لا بد ألّا تلجأ إلى النعال المعروفة لديها، ولكنه تلعب لعبة الثنائية مرة بعد مرة. أي تنتعل هامات قبيلة عدي (التعالي أمام الاحتقار)، وفوق ذلك تبدو المسألة طبيعية أو تلقائية تماماً من وجهة نظره. فالشعر يؤسطر الإحساس بإلقاءه إيقاعه السري إلى العالم والحياة. ويبدو انتعال الرؤس أمراً مفروغاً منه، إنه لعبة الاحتقار المضاعف من قبل الشاعر مع سلب الآخر جميع قواه.

لعلَّ الشعر العربي يحاول طوال تاريخه أنْ يرشق الكلمات في متن الوجود. حتى لو كانت الكلمات ذات ظلال ثقافية محض. وهي عملية تختصر العالم والحياة والإنسان فيما يوجد من أشياء ومعطيات. يشير ابن الرومي في مواقف أخرى: "جُعلتْ تلكم الخدود نعالاً ... لكُم الدهر إنْ صلحن نعالاً". فالشاعر يترك إطلالة الثقافة فاعلة إلى منتهاها، فلا فرق بين المتنبي ولا ابن الرومي ولا اختلاف بين المتقدمين ولا المتأخرين بصدد المسألة. إنه لمن دواعي التعبير عن الحب أن ينزل المتكلم إلى مستوى جعل الخدود نعالاً. وليس هذا  فقط، بل سيكون الدهر هو النعل الذي يليق بالمنتعل. والإشارة السالفة (قنطرة لغوية – ثقافية) بين الحب والكراهية، بين الفخر والعاطفة، بين القريب والبعيد.

ذلك من واقع وجود قطبي (الرأس والقدم) وبدائلهما في تربة الثقافة العربية. حيث تأخذ الأطراف دلالات معلومة وواضحة للأطراف الأخرى، وتواصل المعاني لعب دور البدائل وتغطية المناطق العارية من وجودنا الرمزي. فالأفراد كي يعيشوا اتساقاً مع التاريخ، يلجأون إلى الانخراط في آثار هذه الثنائية المعمول بها. ووظيفتها هنا تقليل التصادم بين عناصر الثقافة وإشعار الأفراد بأن الأمور تسير على ما يرام من غير شيء طارئ.

والفاعل مجهول مؤقتا حتى ولو أشار إليه الشاعر، لأنَّ الجعل ستقوم به أيدي الزمن، بحكم أنه شاهد على إعطاء المكانة لأصحابها. وكما يريد الشاعر سشيترك الأمر في الأفق المطلق لا المحدود. وذلك أيضاً من واقع النزوع الأنطولوجي وراء الشعر واللغة العربية أنْ يضغم المعاني في حركة الوجود والحياة كما قلت.

يحرك الشاعر أحمد محرم مخزون تلك الذاكرة الثقافية: " وحَلَّ بحيث ينتعل الثريا ... وكان محلُه تحت النعال". فهذا  الإنسان الذي كان شيئاً محقرّاً بات ينتعل النجوم من المكانة والمرتبة. وهو ما يستدعي العجب والدهشة في مقام رفعة المآل بعد تدنى الأحوال. وحدها بعض الثقافات قد تتقلب كالعواصف بين ليلةٍ وضُحاها رافعة هذا الشخص دون ذاك أو قد تنال من هذا الشخص بخلاف سواه في دورات التاريخ. وكلام الشاعر يفتح المجال لتأويل النعال ما بين المكانة التي لم تكن، ثم كيف أخذ الإنسان المكانة التي ستكون بين الناس. ولم يُشر الشاعر إلاّ بطرفٍ خفي للمسألة، وقدم معنى حلول الشخص ذاهباً به إلى عنان السماء بعدما كانت مكانته تقع حذو النعال.

يوثق ابن الرومي تلك الفاصلة: " إذا النعل شَّمتْ في المجالس مرةً ...  فإن له نعلاً تشمُ وتلثم ". والتوثيق يبدأ من تطهير دلالة النعل من بقاياها الإنسانية، فنعل هذا المتكلم عنه مصدر الفخار، الفخار الذي يجيىء من كيان الشخص. فلئن كانت النعال ذات شأن في المجالس، فنعل الإنسان صاحب المكانة أولى بالشم والتقبيل. والوحدة تبدو نوعاً من الاتصال بين الرأس والقدم. فإذا كان القدم أثراً على أديم الأرض، فالرأس هي أثر على أديم الثقافة. ويلتقي الأثران عند مكانة الإنسان التي تتوثق لدى المجتمع. فالأشخاص الملهمُون وأصحاب دلالة الإنسان بفحوى الكلمة هم من يستحقون تمازج الأثرين في بوتقةٍ واحدةٍ لا انفصام بينهما.

يوضح ابن الرومي جوهر ثقافة الفخر في التراث العريي، وكيف تطهر رمزاً معيناً وبأي منطق تستعمله؟ فالأساس كما نقول دائما هو نظرة الناس إلى هذه النعال. فلو كانت محل تقدير، فستكون كذلك فيما بينهم وستفقد رصيدها السلبي. وليس أقل من أن يتحول الرمز إلى شيء آخر. وهنا يكمن قانون المجتمعات الذي يعطي أشياء معينة دلالتها متجنباً دلالة أخرى. هي عملية تطهير ثقافي تخلي الدلالة السبلبية وتعيد إدماجها. وهذا ما يثبت كون معاني النعال متواضعاً عليها وبالامكان تغييرها إذا لزم الأمر.

دليل ذلك أنَّ البحترى قد غيّر نوعية النعال حين يتكلم عن الخيول: فمرةً باللُجين تنعُلها ... ومرةً بالدماء تنتعل". فهو يشير إلى الخيول التي يوضع اللجين كنعل لها، حيث يتميز بالبريق واللمعان مما يكفي للفت عيون الناظرين. والبحتري يتكلم عن المظهر الثقافي الذي يحدد مكانة الخيول نتيجة معاني الفروسية والشجاعة والإقدام. ولكن هذه المعاني لا تنفصل عن قوة خوض غمار الحروب واشتداد أوارها. إذ تقدر الخيول على انتعال الدماء نتيجة الايغال في ساحة الإعداء والخصوم. وبذلك يثير البحترى (غبار) مفردة النعل في تراثنا بين الزينة والحرب. أي أنها تلتمع بقوة لافتة عاكسةً رغد العيش واستعمالها لأغراض خاصة. وبجانب ذلك تحسم النعال المعارك، فالدماء ليست دماء (فارسي الخيول) بالطبع، ولكنها دماء الأعداء. وتتأطر الصورة، إذا برز البيتان الشعريان اللذان يلاصقان البيت وهما:

لا بد للخيل أن تجول بنا

والخيل أرحامنا التي نصل

*

فمرة باللجين تنعلها

 ومرة بالدماء تنتعل

*

الموت تحت رايتنا

تُطفأ نيرانه وتشتعل

يتضح من ذلك كون النعال، عملية التنعل كاشفة لاستعمال النعل بحسب المتاح ثقافياً، وبإمكان الألفاظ أن تفتح باباً لبنية الذهنية التي ترفل مرةً في الزينة ومظاهر الترف ومرة أخرى في مظاهر الصراع. والأهم أنَّ الجانبين (الزينة – الصراع) لا ينفصلان، لأن انتعال الخيول يلبي غريزتين لدى نظام ثقافتنا الواحد (الرأس والقدم). هما شكلان لجوهر واحد  ليس إلاّ. وهي المراوحة بين انطفاء النيران واشتعالها استناداً إلى الموت. والموت واحد بالأصالة مثلما يكون الانتعال متنوعاً في أشكاله المختلفة لمرجعيات الثقافة.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

"بين القدم والرأس تجري حدود الثقافة، فالنعلُّ واقع والرأس سلطة ما... ويصحُ العكس كذلك"

"إن أدنى أهل النار عذاباً، ينتعل بنعلين من نارٍ، يغلي دماغه من حرارة نعليه".. حديث نبوي

"وإذا أصبح المفكر بُوقاً، يستوي الفكر عندها والحذاءُ"... نزار قباني

النِعال رمز للهندام والمكانة الجارية بين الناس، تُلبس عادةً للزينة وبث الخيال لا مجرد أحذية متعلقة بالزي. وليس معقولاً أنْ يهتريء نعلٌّ دون تغييره بآخر سواه. كما أنَّ النعال ترتبط بالرأس ارتباطاً وثيقاً، فالشخصيات اللامعة تتغيَّ انتقاء الأحذية إلتصاقاً بأسلوب العيش. وهو ما يعكسُ نظامَ التصورات ورؤى العالم وصور العلاقات بين البشر. تبدو النعال قويةً للمشي ولامعة للغواية وتاركة للأثر رمزياً ومادياً، إنّها العلامة المجسّدة لوجودنا بشكل مختلفٍ إلى حدٍ ما. عندما يقف داخلها القدم، يشعر الإنسان بالثبات والفاعلية، وقد يشعر في المقابل بالضعف أو التأرجح أو الضعة حين لا يمتلئ ثقةً بوجودها الرمزي.

من هذا الباب، يطرح كيان" النعل" تناقضاً مع فكرة " الهامة " فوق أكتاف البشر. هذه الرأس التي تدور في الذروة لدى القوى النافذة داخل المجتمعات. أي تومئ فكرة الهامة إلى" صاحب المعالي" من البشر، صاحب ( المنصب- السلطة – المكانة – الثروة- الأيديولوجيا )، فهو شخصٌ يُمارس استعلاءً ورفعةً وهيمنةً وسلطةً إزاء الأخرين. يعبر القرآن عن ذلك المستوى في كلمة "هامان" على خلفية التحدث عن فرعون وجنوده.

وتتضح الرأسُ قصداً لدى" هامان" وتتضح تباعاً المكانة التي أخذها في ظل الفرعون، وبخاصة عندما حرص القرآن على ذكر هامان مع ذكر فرعون. وليس ثمة "صاحب معال" لا يستدعي حد الأدنى تجاه الأعلى ضمنياً. إذْ تظل العلاقة كـ"أوتار ثقافيةٍ " مشدودةٍ بين الطرفين، وقد استحضرت تراث المجتمعات وتحولاتها.

هي إذن ثنائية ( الرأس والقدم/ الهامة والحذاء ) المتغلغلة في تاريخ مجتمعاتنا الإنسانية، حيث يعبر النعل عن تدني الشأن، انحدار المكانة، الانحطاط، بينما الرأس هي الرأس المدبر، الرأس المفكر، الرأس المؤدلج، الرأس المقدس. الرأس كمركز لشخص متعال ينظر إلى الناس شذراً وبلا مسافة ممكنة. والصلة بينهما عملية إشكالية تجر معاني وقضايا طريفة حول الإنسان والواقع والتاريخ. والنعل والرأس( ارشيفان) ضمن متون الذاكرة الثقافية التي لا تنسى.

أرشيف النعال عادةً هو الصندوق الأسود لثقافة لجارية بعمق التاريخ محتفظاً بكافة ممارسات الحياة وأشكالها. حتى في اللهجة الدراجة، يقول الإنسان خلال بعض المواقف: لا أعرفُ راسي من رجلي، وذلك عندما يعيش حالة من الفوضى والاضطراب. وتجاه درجة التشبع من أوضاع معينة يُقال بالمثل: لقد انغمس فلانٌ في كذا وكذا من راسه إلى ساسه. أو بصيغةٍ أخرى، تشبع – في هكذا مرحلة - من رأسّه إلى أخمُص قدميه!!

أشار القرآن إلى النعال كرمز للتدنيس( عدم الاستحباب) ( فاخلعْ نعليك إنك بالوداي المقدس طوى) " طه "12. والقرآن يخاطب النبي موسى في مقام التقديس والامتثال، أي في مقام الحضور والمعيَّة لا الانفراد بالذات عبر مكانٍ ما، وأنَّه لا ينبغي أنْ يكون هناك رمز مُدنس. وبهذا يشجب القرآن الثقافة التي درجت على جعل النعل ملبُوساً لأغراض أقل مما ترتفع بالهامةِ إلى أعلى. فلئن كانت السماءُ هي رمز الطهرانية والنقاء والخلوص والعلو، فالأرض تعكسُ ظلالاً قاتمةً يجب أنْ تكون آثارها كذلك. والنعل حين يرتبط بهكذا معنى، سيُقلل من التعالي المفترض.

الخلع هو الاجراء العملي السريع دون تفكير طالما صادر من مصدر أعلى، حيث كان موسى بالوادي المقدس، أرض سيناء. ويحتمل الخلع الإلقاء جانباً لكل نعل من شأنه ألّا يليق بالإنسان هاهنا. فلا تجتمع ( القداسة والنجاسة ) في مكان واحد، وبخاصة أنها حالة واضحة تحت عين الإله. وتظهر هذه الفكرة في الضمير العائد على موسى ( إنك )، وهو معبر عن الاشارة إلى احتمال عدم المعرفة. أي عدم معرفة موسى بالمكان المقدس الذي يوجد فيه. ولكن عدم معرفة موسى وضعف إدراكه لهكذا معنى، لا يعني ترك الأمر للمصادفة. ومن ثمَّ كان حرص القرآن على التعبير بخلع النعال عن دلالة التقديس. وهو معنى خفيف الوقْع بدلاً من استعمال ألفاظ نقيضة تخص النجاسة أو المغايرة. وسبق القرآن هذا الأمر بخلع النعلين بأن ذكر الذاتن الإلهية: " إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى". وقيل إن الرب أمره بذلك، لأن نعليه كانا مصنوعين من جلد حمار ميت. وهو تقليل آخر من شأن النعلين.

أولاً: دلالة النعال مدنّسة في وضعٍ خاصٍ عليه أنْ يكون وضعاً مقدّساً. وخلع النعلين إشارة إلى تعالٍّ من نوع إلهي ما. فالنعلان يرمزان إلى تدني خارج السياق، فلا يليق دخول موقع له سمات نوعية بهذا الشكل، وأنهما لا يستقيمان مع ميتافيزيقا المكان. والأديان التوحيدية لها توقيف متعال للأماكن والأشخاص والأفكار عن طريق المواقع المقدسة التي يحظر فيها لبس النعال.

ثانياً: لا تُخلغ النعال إلاّ لأمر جلل يستحقُ التوقف عنده. والتوقف هو قدرنا نحن البشر على الإستثناء. فليس نخلع في كل الأحوال العادية نعالاً غير مقدسةٍ. وهذا فحواه أنَّ الاستثناء يجب أنْ يقابلة استثناءٌ بالمثل. وجاء نص القرآن بصيغة الأمر بلا نقاش ( اخلع نعليك ). لأن المقدس ليس مصدرة الفعل بل مصدرة اصاحب الأمر وبالتالي تخفى معانيه وتبعاته غير المباشرة على الإنسان.

ثالثاً: قد تُخلع النعال من أجل رأس تستحق ضرباً مبرحاً به. وهذه ظاهرة مرتبطة بتحولات ثقافية متأخرة من جهة (الانتعال مصادفة ) إلى (خلع الانتعال عن قصد) انتظاراً لمواقف يتم استعمال النعال فيها. فالنعل غدا (وسيلةً ما بعد حداثية post modern instrument) للحط من قدر المضروب به. كما أنه خضع لتسييسٍ ما، عندما يُستعمل فعلياً في استهداف أحدهم ضمن مواقع مرموقة.

رابعاً: هناك مماثلة طريفة بين النعل وصاحب المعالي، فصاحب المعالي يستعمل المنصب الذي ينزرع فيه كالنعل الذي يرتديه الإنسان. فالمنصب يقي الشخص من هجير المجتمعات المتخلفة، ويحمي صاحبه من غوائل الأحوال ويكون شوكه في حلوق الخصوم. تماماً مثل النعال التي تصبح رمزاً لضرب الآخرين والتعليل من شأنهم.

خامساً: ارتداد معنى المنصب إلى وحدة دلالة المعالي من التصرفات والسلوكيات العامة. فلئن كان أصحاب المعالي يحتذون السلطة تجاه الجماهير، فلا يليق بهم إلا الأحذية. فالحذاء يقابل الحذاء لا أقل من ذلك. ولعل هذا ما جعل الأحذية الطائرة في وجوه بعض الساسة أمراً مفسراً في دلالة الضرب بالحذاء لكل صاحب سلطةٍ غير قادر أنْ يكون إنساناً بملء الكلمة.

وبالرجوع إلى التاريخ، تعكس المشائية دلالة الانتعال فلسفياً منذ اليونان القدماء. وصحيح كانت هناك شخصيات تنتعل أحذية وواقياً للارجل عند قدماء الفراعنة، حيث ظهرت النعال بأشكال مختلفة ومزركشة ولاقت مشاهد رائعة لدى الملوك والكهنة والشخصيات المهمة وكانت تُحفظ بأشكالها القشيبة ضمن متعلقات المومياء ايذانا بالحياة بعد الموت، ولكنها لم تكن نعالاً قادرة على التواجد فكرياً على صعيد نسقي. فالنعال قشيبة في حضرة الملوك الفراعنة وكانت أحذية الملك توضع في مقدمة رؤوس الأعداء الذين ينال منهم الفرعون صاحب القداسة.

وطالما كانت هناك خيوط الصراع والحروب، تراجعت طرافة المعاني وباتت تحتاج إلى حفر آخر حول وجودها التاريخي. فالنعال الفرعونية كانت تنقل تراتب أصحاب السلطة وتحدد مواقع الملوك، وهو شأن دال على فرز لاهوتي سياسي مازال معمولاً به حتى اللحظة. لقد جاءت النعال الفرعونية وثائق قديمة مازالت سارية وبإمكانها أن تفسر كثيراً من الأحداث والظواهر الاجتماعية. ومن الطرافة بمكان الالتفات إلى وجودها الثقافي داخل هذه العصور السحيقة من وعينا البشري.

1

أما فلسفة المشائية، فهي كلمة آتية من اللغة اليونانية Peripatetikos، إذ اشارت إلى اجتماع مجموعة من التلاميذ مع المعلم أرسطو للمشي والتعلم واستعراض المعارف العقلية والعلمية. والانتعال – كموضوع للتحليل- كان جزءاً من هذا الطقس الفلسفي. ثمة مشاهد كثيرة تصور هؤلاء الفلاسفة هم يسيرون منتعلين نعالاً مناسبة لتلك العملية. من هنا، ظهر مفهوم الفيلسوف المشّاءperipatetic ، هذا الرجل الذي يتخذ من رجليه وسيلة لفتح آفاق الفكر. وهو من يمشي مع اصدقاء الحكمة، أي يمشي مع الحياة مستعرضاً المعارف والمعلومات والحوارات والأسئلة. وذلك بدلاً من التأمل المنعزل في مكان مغلق خارج التاريخ.

2

إنَّ النعال في الفكر الفلسفي كانت مفاتيج لجغرافيا الأفكار. فالشعوب التي تجيد فنون المشي شعوبٌ تستطيع تجديد النظر إلى العالم والأشياء. فالمشي يفهمنا ضمنيا وظيفة النعال، وكم هي ذات أهمية بالنسبة للإنسان النمفكر على نحو من الأنحاء. وكأنَّ النعال، إذ تغطي الأرجل إنما تعطينا مستوى آخر من الوجود.

وفي حساسية اللغة العربية ما يكشف دلالة النعل: انتعل الإنسان نعلاً، أي مارس فعلاً عكس تعرية القدم، لقد لبس حذاءً للمشي. وانتعل الملابس (ارتدى ملابسه) التي كانت فارغة منه. انتعلت الأرض الأشياء، أي لبست تضاريس الأشياء ظلالها. فكما هو معروف عند منتصف النهار، ترتدي الأشياء الظلال التي توجد تحتها. واللغة تقف عند الدرجة الصفر للنعل باعتباره قدماً لصيقاً بالأرض. وتستقطب مفرداته كماً من السخرية والحط من شأن الناس عن طريقه.

لعلنا نلاحظ أنَّ الثقافة العربية تعطي الانتعال وجوداً فورياً. فهي تربطه بالأفعال التي يراها ويمارسها الإنسان ضمن الزمان والمكان. وهناك بالطبع مستويات أخرى توضحها النعال من استخدام الإستعارات المعبرة عنها. وهنا كم من الأنماط الثقافية لفكرة النعل وكذلك الاسقاطات التي تعود إلى أعماق التاريخ والحياة. والنعال بذلك تضعنا فكرياً على حواف التطورات التي تستغرق المجتمعات وتندمج في حركة الأفكار الفلسفية من عصر إلى آخر. فإذا كانت النعال للأقدام، فهي كذلك لتغليف الصور العقلية والإعتراض ولسياسات التمرد والاختلاف ولفتح طرق جديدة للعقل وفهم التراث.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

مقدمة: بالاضافة الى كتابه (زن وفن صيانة الموتورسايكل)، نشر روبرت بيرسج  كتابه عام 1991 (قصة ليلا Lila: تحقيق في الاخلاق). كتابه الاول يُعد من أشهر كتب الفلسفة في الوقت الحالي، حيث بيعت منه ملايين النسخ في 23 لغة. كلا الكتابين يشكلان قصة او لغزا بوذيا صُمم ليعطي فهما للخير(او كما يقول بيرسج، للنوعية) دون وضعها في تعريف جامد. بيرسج فيلسوف وكاتب امريكي، لكنه عاش لعدة سنوات كطفل في انجلترا في بداية الثلاثينات من القرن الماضي ثم عاد لاحقا الى انجلترا في أواخر السبعينات ليعيش في قارب على ساحل كورنويل. هو ايضا كتب الكثير في كتابه الثاني في السويد، مكان ولادة جدته. كان بيرسج منغلقا، على سبيل المثال، لم يرد على أي مكالمة هاتفية. هو أوضح سلوكه هذا: "الكاهن البوذي كانت لديه قاعدة للسلوك ضد الانغماس في المحادثات الكسولة، وهذا هو ما يحفزني".

يمكن تعقّب بدايات ميتافيزيقا النوعية الى عام 1959 عندما كان بيرسج معلما للانجليزية في امريكا. كمحاضر جديد، هو لاحظ في ظل مسؤوليته القانونية تعليم "النوعية لطلابه حتى لو لم يكن واضحا لإدارة الكلية معنى المصطلح". حالا أدرك بيرسج ان المدرسين كانوا يمنحون الطلاب درجة النجاح او الفشل وفق نوعية عملهم لقرون طويلة بدون أي تعريف واضح لـ "النوعية". هذا دفع بيرسج للبدء في  التحقيق الفلسفي.

في كتابه زن وفن صيانة الموتورسايكل، استطلع بيرسج تاريخ كلمة "النوعية" او ما أطلق عليه اليونانيون القدماء darete متعقبا المصطلح الى زمان افلاطون (428-348 ق.م). هو استنتج ان الوضع الغريب للنوعية في الغرب اليوم نشأ مع تقسيم افلاطون لروح الانسان الى مظهرين للعقل والعاطفة، في حوار فودو، أعطى افلاطون أولوية كبرى للعقل على العواطف. وبعده حالا كان ارسطو وبنفس الطريقة يؤكد على التحليلات بدلا من البلاغة. بالنهاية تطور هذا التقسيم الى "ذاتي مقابل الموضوعي" كطريقة في التفكير تسيطر حاليا في الغرب. لذا يسود الان في الغرب موضوعية، عقل، منطق وديالكتيك من جهة، وذاتية، عاطفة، خيال، بديهة، وبلاغة من جهة اخرى. العبارات الاولى تقترح الاحترام العلمي، بينما الثانية يُفترض عادة ان تكون عبارات فنية لها حيز ضيق في العلم او العقلانية. هذا التصور الافلاطوني للعقلانية هو الذي سعى بيرسج لتحدّيه من خلال التوفيق بين عوالم الروحي (زن مثلا)، الفني (الفن) والعلمي (صيانة الموتورسايكل) ضمن نموذج موحد من ميتافيزيقا النوعية. توفي بيرسج عام 2017 عن عمر ناهز 88 عاما .

ميتافيزيقا النوعية

يتأمل روبرت بيرسيج بان كل شيء في الوجود يمكن افتراضه كقيمة (مع انه يقسم القيم الى صنفين كما سنرى). وبما ان نظامه يختلف عن الميتافيزيقا الغربية التقليدية بجعله القيم الاساس النهائي للواقع، فلابد من عدم الاستغراب من ان تكون لهذا نتائج راديكالية نسبيا حول وصفه للواقع.

في كتابه ( Lila،تحقيق في الاخلاق الصادر عام 1991) يضيف بيرسيج التالي:

" التجريبية، تدّعي بان كل المعرفة البشرية الشرعية تبرز من الحواس او من التفكير القائم على ما تعرضه الحواس. معظم التجريبيين ينكرون صلاحية أي معرفة مكتسبة من خلال الخيال، السلطة، التقليد، الدين، او الميتافيزيقا باعتبارها غير مثبتة بالدليل. ميتافيزيقا النوعية تختلف عن هذا من خلال القول ان قيم الفن والاخلاق وحتى الصوفية الدينية يمكن إثباتها وانها في الماضي جرى استبعادها لأسباب ميتافيزيقية وليست تجريبية. انها جرى استبعادها بسبب الافتراض الميتافيزيقي بان كل الكون مؤلف من ذاتي وموضوعي وان أي شيء لايمكن تصنيفه كذات او شيء هو غير واقعي. لا وجود لدليل تجريبي لهذا الافتراض أبدا" (ص121).

يجدر التأكيد هنا ان "الذات " و الموضوع subject&object هي مفاهيم فكرية وليست مفاهيم مشتقة من التجربة. لسوء الحظ، هذه المفاهيم زُرعت فينا من عمر مبكر، لذا نحن نقبل عموما صلاحيتها بدون سؤال. لكن هذا في الحقيقة مجرد عُرف ميتافيزيقي. سيقول بريسيج ان الواقع يمكن تقسيمه ميتافيزيقيا بعدد هائل من الطرق: انها فقط مسألة طريقة أفضل من اخرى.

لذا، بدلا من تقسيم كل شيء الى ذوات وأشياء، يقسم بيرسيج الواقع الى نوعية ديناميكية (تُكتب قصدا بحرف كبير) ونوعية ثابتة. "النوعية الديناميكية" هي المصطلح الذي يعطيه للتدفق المتغير باستمرار للواقع المجرب مباشرة، بينما "النوعية الثابتة" تشير الى أي مفهوم تم تجريده من هذا التدفق. مصطلح "داينامك" يشير الى شيء غير ثابت، والذي يعني ان النوعية الديناميكية لايمكن تعريفها، ولذلك فان الفهم الحقيقي لها يمكن ان يحصل فقط مباشرة من خلال تجربة. وكما يقول هربرت غونتر في كتابه (الفلسفة وعلم النفس في الأبيدلارما،1957)، "النهائي، في البوذية، هو شيء ممكن معرفته، مع انه لا يُعرف بواسطة النظرية او الطريقة الاستطرادية، وانما بالتجربة المباشرة (ص235). بكلمة اخرى، البوذي لايستطيع ان يقول لك ما هي النوعية الديناميكية، وانما هو يستطيع الاشارة الى الطريقة لكي تستطيع ممارستها لنفسك، ومن ثم ستفهم ذلك. او كما كتب بيرسج في رسالة الى أنتوني ماكوات Antony Mcwatt في 6 اكتوبر عام 1997:

"من المهم إبقاء جميع المفاهيم خارج النوعية الديناميكية. المفاهيم هي دائما ثابتة . حالما تدخل الى النوعية الديناميكية فهي سوف تتجاوزها وتحاول تجسيدها كنوع من المفهوم ذاته .. فمثلا الزمن هو فقط مشكلة للافلاطونيين لأن الزمن ليس فيه صفات الشيء لذا يجب ان يكون ذاتيا. واذا كان الزمن ذاتيا ذلك يعني ان قوانين نيوتن في التعجيل والعديد من قوانين الفيزياء الاخرى هي ذاتية. لا أحد في العالم العلمي يسمح بذلك. كل هذا يشير الى اختلاف ميتافيزيقي اساسي كبير جدا بين ميتافيزيقا النوعية والعلم الكلاسيكي: ميتافيزيقا النوعية هي في الحقيقة تجريبية. العلم ليس كذلك. العلم الكلاسيكي يبدأ بمفهوم عن العالم الموضوعي – الذرات والجزيئات – كواقع نهائي. هذا المفهوم هو بالتأكيد نال الدعم من الملاحظة التجريبية لكنه ليس الملاحظة التجريبية ذاتها".

في كشفه الميتافيزيقا النوعية للاصول الأسيوية الشرقية، يعلن بيرسج في رسالة اخرى الى انتوني في 17 اغسطس 1997، ان النوعية الديناميكية تشير الى ما يسميه بوذا "الواقع غير المشروط"، اما النوعية الثابتة تشير الى "الواقع المشروط" – يُعرف بشكل شائع لدى البوذيين "العالم اليومي":

"النوعية الديناميكية التي تذهب وراء الكلمات هي التي تركز عليها تعاليم زن باستمرار ..."الغير مختلف" ربما يعمل ايضا ما عدى ان "الغير مختلف" يقترح بان لاشيء هناك وكل شيء هادئ. لاشيء هناك، اي،بمعنى "لا شيء" no object، والبوذيون يستعملون اللاشيء بهذه الطريقة، لكن مصطلح داينمك هو اكثر انسجاما ضمن الاقتباس، "ضمن اللاشيء هناك عمل كبير"، في ضوء تعاليم زن و كاتيجيري روشي ... يمكن القول ان الخطأ الأساسي للوضعيين المنطقيين هو الافتراض بانه بسبب ان الفلسفة هي حول الكلمات لذلك هي حول الكلمات وحدها. هذه هي مغالطة "التهام" قائمة الطعام بدلا من الطعام". جدالهم التكتيكي الشائع هو القول ان أي شيء لا يتغذى من صندوقهم الصغير للتحليلات المنطقية هو ليس فلسفة. لكن اذا كان النقاش حول "الخير"(والذي هو أساسا وراء الكلمات) ليس فلسفة عندئذ فان سقراط ليس فيلسوفا، طالما ذلك هو موضوعه الرئيسي".

لا يشير بيرسج في "النوعية الثابتة" الى شيء يفتقر للحركة بالمعنى النيوتني لـ "الثابت" static (هو يتفق على ان كلمة "مستقر" كانت أفضل بسبب هذا الغموض)، وانما يشير الى أي ترتيب مكرر – اي، الى اي شكل يظهر لفترة طويلة بما يكفي لكي يُلاحظ ضمن تدفق التجربة المباشرة  - سواء كانت غير عضوية (على سبيل المثال،القوى الكيميائية) ، او عضوية (نبات، حيوان)، اجتماعية (مدن، أعشاش النمل)، او فكري (افكار، آراء).

التطور الكوني Cosmological Evolution

هذه الأشكال الثابتة للنوعية مشابهة الى كل من الموضوع والشيء، لكنها مشابه فقط. نماذج النوعية الثابتة تتصل مع بعضها بطرق غائبة عن ميتافيزيقا الموضوع والشيء. فمثلا، ميتافيزيقا النوعية تعترف بان الأصناف الأربعة للنماذج الثابتة التي طرحناها أعلاه هي متصلة من خلال التطور الكوني. لو أخذنا الانفجار العظيم Big Bang كنقطة بدء للكون، في تلك النقطة من الزمن كانت هناك فقط نماذج نوعية غير عضوية، أي، قوى فيزيائية. منذ ذلك الحين، وفي مراحل متعاقبة من تاريخ هذا الكون، تطورت النباتات والحيوانات من نماذج غير عضوية، والمجتمعات تطورت من نماذج بايولوجية، اما الفكر فقد تطور من المجتمعات: "الكون يتطور من ظروف نوعية واطئة الى نوعية أعلى وفي المعنى الثابت هذين النوعين هما ليسا ذات الشيء" (رسالة من روبرت بيرسج الى انتوني ماكوات في 23 مارس 1997). وكما كتب الكوني ادوارد كولب مرة، "في التحول الاكثر اسطورية للطبيعة، طوّر الكون مقدرة على تأمل وفهم ذاته". (علم الفلك، شباط، 1998،ص37).

ان التطور الكوني، الذي هو فكرة أوسع من التطور البايولوجي، يُعتبر هاما  في ميتافيزيقا النوعية، طالما يمكن انتاج شفرة الاخلاق من مستويات اساسية أربعة لنماذج النوعية.

رغم ان بيرسج يعترف بان كل مستوى من النماذج الثابتة برزت من النموذج الذي هو في الاسفل، فان كل مستوى يتبع قواعده الخاصة. قوانين الفيزياء مثل قوة الجذب الارضية (غير عضوي) تتطور نسبيا ببطء، بينما قوانين الغابة (بايولوجي)، والتعاون بين الحيوانات (مجتمع)، وافكار الحرية والحقوق (فكر) تتطور أسرع نسبيا. من المهم ملاحظة ان قوانين المستويات الاربعة الثابتة احيانا تتصادم: قارن الزنا (الخير البايولوجي) مقابل استقرار العائلة (الخير الاجتماعي). ايضا من المهم ملاحظة ان ميتافيزيقا النوعية لا تقترح ان هذه العمليات التطورية هي بأي حال من الاحوال  موجهة نحو هدف او جزء من تصميم عظيم. وكما يذكر ارنست ماير الاستاذ المساعد في دراسة الحيوان في جامعة هارفرد: " المؤيدون للنظريات التيلولوجية (الغائية) في التطور، مع كل الجهود التي بذلوها، كانوا غير قادرين على العثور على أية آلية (ماعدى آلية الخارق للطبيعة) يمكن ان يفسروا بها غائيتهم المفترضة. امكانية وجود أي من هذه الآليات جرى استبعادها حاليا  وفق استنتاجات بايولوجيا الجزيئات. (العلمية الامريكية، "طبعة التطور"،سبتمبر 1978).

مع ذلك، ميتافيزيقا النوعية تتبع فعلا شكل من "بقاء الأصلح" الدارونية، حيث "الأصلح" مساوي لـ "الأحسن". وكما يشير بيرسج في ليلا: "بقاء الأصلح" هو احد تلك العبارات المفهومة .. التي تبدو أفضل عندما لا تسأل انت ماذا يعني بالضبط. أصلح لمن؟ أصلح للبقاء؟ هذا يُختزل الى "بقاء الناجين"، والذي لا يقول أي شيء. "بقاء الأصلح" يكون ذا معنى فقط عندما يتساوى "الأصلح" مع "الأحسن"، والذي هو "النوعية" (ص179).

في هذا السياق، يشير "الأحسن" عموما الى الخيار الذي ينتج أعظم حرية بالنسبة لقدرة الوجودات على التكيف مع المواقف الجديدة. هذا ربما يُقال نوعية بيرسج المساوية "للخير" لدى افلاطون. وهي زيادة في الحرية على طول الطريق: مثلا، الذرات يمكن ان تغير مستويات طاقتها عبر اطلاق فوتون، الديدان يمكن ان تسيطر على سرعتها واتجاهها خلال الارض، الطيور قادرة على الطيران في السماء، بينما رواد الفضاء ينجحون في الوصول للقمر.

هذه هي النقطة التي تبدأ عندها ميتافيزيقا النوعية بالابتعاد عن الفكر البوذي التقليدي وتحديثة:

"تقول ميتافيزيقا النوعية، كما تفعل البوذية، ان أحسن مكان على عجلة العربة هو المركز وليس الحافة حيث يغير المرء اتجاهه بفعل دوران الحياة اليومية. لكن ميتافيزيقا النوعية ترى عجلة الكارما مثبتة في العربة التي تذهب الى مكان ما – من قوى الكوانتم عبر قوى لاعضوية ونماذج بايولوجية ونماذج اجتماعية الى نماذج فكرية تتأمل في القوى الكوانتمية. في القرن السادس قبل الميلاد في الهند كان هناك دليل على هذا النوع من التقدم التطوري، والبوذية لم تنتبه له. اليوم من غير الممكن ان تكون هكذا غير واعية. المعاناة التي يعتبرها البوذيون فقط تلك التي يُهرب منها، يُنظر اليها من جانب ميتافيزيقيي النوعية مجرد جانب سلبي للتقدم نحو النوعية ( او التوسّع في النوعية). بدون المعاناة في دفع العربة، فهي سوف لن تتحرك للامام ابدا".

(رسالة من روبرت بيرسج الى انتوني ماكوات ،23 مارس 1997).

أخلاق النوعية

تضم أخلاق النوعية أربعة مستويات من النماذج لتنتج اطارا أخلاقيا شاملا  ذو هرم تطوري كوني، تأخذ فيه العملية التي تمتلك مزيد من الحرية في الميزان التطوري – الأكثر ديناميكية – أولوية أخلاقية. لذا على سبيل المثال، الانسان يُنظر اليه ذو أسبقية أخلاقية على الكلب لأن الانسان في مستوى أعلى في التطور الكوني بسبب تفكيره. لذا، مع تحديث بعض الافكار البوذية في ضوء العلم الحديث، فان الفائدة النهائية من ميتافيزيقا النوعية هي انه عبر إزالة الأخلاق من العرف الاجتماعي ووضعها في نظرية للتطور قائمة على العلم، ستزيل الكثير من الذاتية الثقافية المتأصلة في العديد من المعتقدات الأخلاقية (خاصة الدينية). وحول هذا،يعطي بيرسج المثال التالي:

"هل من غير الأخلاقي، تناول اللحوم لدى الهندوس والبوذيين؟ أخلاقنا الحالية ترى انه غير اخلاقي فقط اذا كنت هندوسيا او بوذيا. والاّ فهو جيد طالما ان الاخلاق ليست أكثر من عرف اجتماعي. الاخلاق التطورية، من جهة اخرى، تقول انه من غير الاخلاقي علميا على كل شخص القيام بذلك لأن الحيوان في مستوى أعلى من التطور، أي، اكثر ديناميكية من البذور والفواكه والخضراوات. لكن  نضيف ان هذا المبدأ يصح فقط عندما تكون هناك وفرة في الحبوب والفواكه والخضراوات. سيكون غير أخلاقي للهندوس ان لا يأكلوا أبقارهم في وقت المجاعة، طالما هم سيقتلون الانسان مفضلين عليه كائن أدنى" (Lila، ص190/191).

كذلك، عبر استخدام رؤية كلية شاملة منذ بداية الكون، فان ميتافيزيقا النوعية تنتج حلولا جديدة للمشاكل الميتافيزيقية المستعصية السابقة، بما في ذلك العلاقة بين الذهن والمادة ومشكلة السببية ومشكلة الرغبة الحرة مقابل الحتمية. على الأقل اثنان من هذه المشاكل يمكن حلها عندما يتم تطبيق الاتجاه التطوري عليها ( يمكن مراجعة رسالة الدكتوراه للكاتب روبرت بيرسج www.robertpirsig.org/phd.html ). رغم ذلك، هناك من يقول ان الميتافيزيقا التي تنطوي على مصطلح مركزي لم يُعرّف – النوعية الديناميكية – هي ليست ميتافيزيقا حقيقية. وبنفس المقدار يمكن الجدال ان قوة ميتافيزيقا النوعية هي قدرتها على دمج "المطلق الغير محدد" في نموذج متماسك وموجّه علميا.

استنتاج

افلاطون كان واثقا بعض الشيء من مدى الفائدة العملية لنظريته في الأشكال. التساؤل الذي يُطرح هو هل فكّر ان استاذه سقراط ربما كان يلمح له ولعدد آخر من تلامذة الفلسفة في اثينا بان الخير والجمال هما في الحقيقة لا يمكن تعريفهما؟ فكرة الأشكال كانت قد اختُرعت بواسطة افلاطون وليس سقراط. لسوء الحظ، كنتيجة للتفكير الافلاطوني بان الواقع يمكن تعريفه أساسا، اصبحت الفلسفة الغربية في الحالة التي هي عليها اليوم: اكثر دعما للعلم بدلا من سيّده. افتراض ان الكلمات يمكنها فهم كل مظاهر الواقع هو خطأ قابل للفهم لو حصل في بداية التقليد الفلسفي الغربي .. لكن هذا الخطا الميتافيزيقي جرى تجنّبه من جانب فلسفة شرق اسيا.

انظر في مقارنة افلاطون لجهل الكهف والهروب منه ليرى شمس الخير، ثم قارنه مع الاقتباس التالي:

"ليس بشروقها يكون الضوء،

ليس بهبوطها يكون الظلام

لا ينقضي، مستمر

انه لا يمكن تعريفه ...

صورة اللاوجود...

قابلْه سوف لن ترى وجهه

اتبعه فسوف لن ترى ظهره".

(دايو ديجنك، لاوزي، مقتبس في ZMM ص253-54.)

لو فكرت طويلا فسوف لن ترى وجودا لـ "كهف الجهل" حتى وضع افلاطون الثقافة الغربية داخل ظلام ميتافيزيقاه لمدة 2400 سنة. لحسن الحظ، ان روبرت بيرسج في النهاية وجد مصباحا ميتافيزيقيا لجعلنا نحن الغربيين نخرج من هناك ... مع ذلك، لايزال بيرسج يكن احتراما هاما جدا لإفلاطون (على الاقل كان موضوع افلاطون الرئيسي هو الخير). هذا الاحترام اشير اليه في مساهمات بيرسج الاخيرة للفلسفة والتي كانت تقديم لكتاب دونالد مور (قهوة مع افلاطون،2007).

كذلك، وكما أشار جيف شيهان في مقالته المثيرة "سقراط و زن" في الفلسفة الان عدد 113، يجب ملاحظة ان سقراط يشبه زن في اتجاهه في كيفية تعريف الاشياء. شيهان يكتب، "سقراط يبحث عن المعرفة، وربما من الأفضل القول انه يبحث عن الحكمة، ذلك ان القيم في السؤال ليست فقط مسألة فكرية وانما هي قيم يجب ان تُعاش. من وجهة نظر سقراط، الانسان الذي يدّعي معرفة الشجاعة و لا يتصرف بشجاعة سيثبت انه لا يعرف ما هي الشجاعة". أي، فقط القيم المُعاشة هي التي تعطيك الحكمة. جون بلوفيلد John Blofeld  المترجم الانجليزي الشاب في الصين في الثلاثينات، قابل طاويا كبير السن يسمى  Tseng Lao-weng، الذي كان سريعا في إبلاغه عن هذا الفرق بين الحكمة في شرق اسيا والمعرفة الفلسفية الافلاطونية" : "الحكمة تكاد تكون مُقنعة مثل العصيدة الجيدة، بينما المعرفة لها تأثير أقل من الماء الفاتر المسكوب على أوراق شاي قديمة".(جون بلوفيلد، السر والسمو: اساطير طاوية وسحر،1973،ص208).

بدلا من محاولة تعريف الجمال والخير بكلمات، ربما يجد الافلاطونيون طريقة اكثر انتاجية لإيجاد الحكمة حول هذه "الأشكال المجردة من الشكل" من خلال الرسم، تسلّق الجبال، كتابة قصيدة، حل نظرية رياضية صعبة، خلق اغنية. فوق كل هذا، هذه العملية يجب النظر اليها كمغامرة في خلق واكتشاف أشياء جميلة. النصوص اللاافلاطونية يمكن ان تكون مرشدا مفيدا في هذا السياق. مثال جيد على ذلك يتضمن F.S.C. Northrop، Homer، Nagarjuna،القساوسة الطاويون الذين اقتبس منهم  جون بلوفيلد وكذلك روبرت بيرسيج ذاته.

***

حاتم حميد محسن

....................

Quality Metaphysics: Robert Pirsig and his Metaphysics of Quality, Philosophy Now, April/May 2024

تراتيبية تصنيف الوعي

حسب تاريخ الفلسفة نستطيع عمل تراتيبية نوعية توصيفية زائفة لا معنى حقيقي لها بين ثلاث مصطلحات تم ويتم تداولها في الفلسفة الحديثة هي الوعي بما هو نتاج عقلي منفصل تماما عن القصدية والجوهر الخالص وهو توصيف خاطيء مشوّه للوعي كفاعلية عقلية. فحين تقول (وعي) فإنك بذلك أردت أم لم ترد تقصد به الذات العارفة في حمولتها الوصول الغائي نحو تحقيق هدف مرسوم بذهنك (قبل) الشروع بممارسة وعيك الاشياء والموجودات في عالمنا الخارجي. هذا اذا ما إعتبرنا الوعي بعدي على قبلي يسبقه هو الشيء الموجود المستقل بذاته بمعنى توفر موضوع الوعي الادراكي..

النوع الثاني من الوعي هو الوعي القصدي الذي تتحدد فاعليته الفلسفية الموجودية بحمولته القصدية الملازمة له أي لموضوعه وهي النسخة الكاربونية المستنسخة لما ذهبنا له قبل اسطر بفارق الافتتان بالتسمية المصطلحية فلسفيا.. كنت ذكرت في مقالتي السابقة أن مصطلح الوعي القصدي كان برينتانو ابتدعه ليتلقفه من بعده تلميذه هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية واشياعه اقطاب الوجودية الملحدة هيدجر وسارتر و وميرلوبونتي.

أما الوجودية المؤمنة فاقطابها هم ياسبرز وجبريل مارسيل رجل الدين اللاهوتي المسيحي الذي كان له تاثير فلسفي كبير جدا في مباحث فلسفية خارج نطاق مباحث الفلسفة الايمانية في الدين وخاصة في فلسفة الاغتراب. طالما قادنا هذا الاستطراد الى الوجودية فمن غير المعقول عدم التطرق الى رائد الوجودية الحديثة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجورد الذي توفي في ريعان شبابه اقل من اربعين سنة وكان متدينا مخلصا انكر العقل ليبشر بالايمان الديني القلبي ولا تزال هذه النظرية الايمانية سارية المفعول الى يومنا هذا. كان كيركجورد متاثرا بافكار كلا من نيتشة وهوسرل ومستنكرا افكار هيجل في الديالكتيك المثالي للتطور التاريخي. وضع كيركجورد اسس الفلسفة الوجودية بنقطتين هامتين جدا:

1. اعتبر الوجود سابقا على الماهية او الجوهر. وقد اخذت الماركسية بهذا المبدأ الاستراتيجي الهام الذي انكره وبشدة متطرفة اسبينوزا قائلا الجوهر او الماهية تسبق الوجود ونحن حسب قوله ندرك الوجود بدلالة الجوهر.

2. خالف سورين كيركجورد هيجل حول التطور الجدلي المثالي للتاريخ قائلا التاريخ لا يسير بحتمية المسار الخطّي كما يتوهم هيجل معاصره الذي تحركه عوامل موضوعية خارجية. بل التاريخ تحكمه القطوعات او القفزات النوعية التي تجعل التاريخ يتطور بخطى نوعية تطورية بتاثير من سيرورة الواقع. وبخصوص ماسماه كيركجورد القفزة التطورية النوعية في التاريخ سحب مقولته على محاربة العقل والانحياز للايمان القلبي. قائلا الايمان الديني لا يحققه التفكير العقلي بل يحتاج الانسان الى قفزة نوعية في المطلق الديني الذي مصدره القلب.   

اما النوع الثالث من الوعي فهو الوعي الخالص بمعنى هو ذلك الجوهر المفكر الذي يبحث عن معرفة الماهيات. بمعنييها الفلسفيين الاثنين الاول هو الماهية كجوهر مادي في المدركات العقلية والثاني الماهية كقيم وجدانية لا يدركها العقل بمباشرة موضوعية . وهذه تقيم وزنا كبيرا للسلوك النفسي الانفعالي الحدسي الذي مبعثه اللاشعور في تغليب العاطفة على العقل وهو ماتعتمده الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه... الوعي الخالص هو الوعي الذي يتعالى تراندستاليا إدراكيا ومعرفيا لما هو فوق محدودية الوعي الطبيعي في وعيه لمدركاته في عالم الاشياء وفي الطبيعة..

الوعي الخالص أول من إبتدعه  الفيلسوف اليساري المنشق عن هيجل برونو باور 1809 – 1882 في القرن التاسع عشر. هذا المصطلح الوعي الخالص هو ماتبنته الظاهراتية (الفينامينالوجيا) على لسان هوسرل في القرن العشرين الماضي. وحظي المصطلح باجماع فلسفي من قبل فلاسفة الوجودية باستثناء سارتر الذي اعتبره خرافة فلسفية دوغمائية لا تمتلك اسباب حضورها المعرفي الفلسفي. واقتنع بوجود وعي قصدي بالضرورة العقلية المعرفية للوعي. اما أن يكون الوعي خالصا كما ترغبه وتريده فينامينالوجيا هوسرل فإنه يخفق تحقيق مصداقيته المنهجية الفاهمة بسبيين الاول غياب الموضوع الذي يكافيء الوعي الخالص. الثاني هو في أي معيارية فلسفية وليست علمية تنكرها الفلسفة الظاهراتية يمكننا التأكد من ممارستنا الوعي الخالص.؟

اذا إفترضنا وردتنا الاجابة على تساؤلنا أن الوعي خالص بموضوعه الذي مصدره القيم بمعنى الماهيات التي هي ليست جواهر الاشياء التي يقصدها منهج الميتافيزيقا التي تستغني عن منهج العقل حيث يتعيّن الموجود بصفات خارجية تسمى العرض والى جوهر دفين خلفها تحتويه الصفات الخارجية هو الماهية ولا يكون موضوعا مباشرا لادراك العقل.. بهذا نكون وصلنا نصف الحقيقة بالرغم من ضعف هذا التعليل إذ أن الوعي مجردا من (صفة الخالص) هو وعي يمارسه كل الناس ولا يحمل صفة التعالي التراسندتالي الفلسفي المعرفي الذي تختص به النخبة. حتى فرق التصوف في جميع الاديان التوحيدية وغير التوحيدية في ممارساتها التسامي الروحاني الصوفي وفي مذهب وحدة الوجود الذي يجد فيه الصوفي روحه تقترب من النور الالهي. لا تاخذ بوجود وعي خالص يعلو وعي الانسان الطبيعة وموجوداتها. حتى مدارس الاديان الوثنية مثل صوفية الزن والبوذية وقبائل المايا الصوفية لا تعرف معنى ان يكون هناك وعي خالص.

الاجابة التي تكمل عندنا نصف الحقيقة الثانية حول تساؤلنا عن معيارية الوعي الخالص بغير موضوع ادراكه الذي هو الماهية التي هي (القيم) الوجدانية الانفعالية العاطفية والنفسية السلوكية التي تجاهر به الفلسفة الظاهراتية فتكون الاجابة هي عجز البرهنة الفلسفية عن وجود وعي خالص خارج البحث في الماهيات كقيم التي لا يدركها العقل المباشر وانما يدركها منهج الحدس الانفعالي الوجداني. علما أن من بديهيات الوعي الخالص او غير الخالص هو أنه يعي كل شيء كمواضيع تدركها الحواس ويتناولها العقل المعرفي بمقولاته التفسيرية.

الحقيقة أن الاشتقاقات المصطلحية بالفلسفة عديدة وتعتبر تلك الاشتقاقات تراكم خبرة معرفية فلسفية أ كثر منها حمولة تجديد إجتهاد معرفي فلسفي. ومن خصائص (المصطلح) الجوهرية التي ينفصل بها الوعي عن الميتافيزيقا انه متعيّن ادراكي مصدره المنتج له هو العقل المعرفي المادي بخلاف مصطلح (المفهوم) الذي هو كل ما ينبثق عن محاولة فهمنا الوجود بطرائق  ميتافيزيقية مسدودة ومقفلة النهايات. وكان المفهوم الميتافيزيقي لدى نيتشة مسخرة واصفا الوجود انه ميتافيزيقا لا معنى لها كمفهوم مضلل للعقل وكذا الحال عند كانط وهيوم وجون لوك وغيرهم. حيث انكر هيوم حتى وجود العقل قائلا لا وجود لما يسمى العقل واخذها عنه فيلسوف العقل واللغة الانكليزي جلبرت رايل توفي عام 1970. قائلا خذوها عن يقين أن لا تتوهموا وجود مايسمى عقل ابدا. الطريف بالامر ان فوكو واقطاب فلاسفة البنيوية المتاثرين بفلسفة مابعد الحداثة انكروا العقل واعتبروه الكارثة التي دفع الانسان ثمنها في حرب عالميتين ازهقت ارواح الملايين والمشوهين والمفقودين.

الانسان كائن ميتافيزيقي

انا أجد الانسان جوهرا ميتافيزيقيا كما هو جوهر عقلي تفكيري ناطق. والميتافيزيقيا جوهر فلسفي حاضر في تاريخ الفلسفة عبر عصور طويلة ولحد الان بما لا يمكننا التفكير المعرفي والفلسفي الا ونجد انفسنا سقطنا في مبحث الميتافيزيقا رغم ضراوة العداء والمقت الشديد للميتافيزيقا كمفهوم غيبي لا معنى وجودي له.. العديدون هم الذين يتقافز باذهانهم أن الميتافيزيقا المعرفية تخرج من تحت عباءة الدين واللاهوت حصرا وهو غير صحيح . الميتافيزيقا تبحث في كل مبحث بالوجود الذي يعيشه الانسان ويعجز العقل اعطاء إجابة عنه.

ماركس ومثالية المنهج

ماركس نتيجة تعلقه الشديد بالنزعة المادية وقف معارضا لكل من برونو باور في مصطلحه (الوعي الخالص) بما وجده ماركس أن المصطلح بما يمتاز به من سلبية  ونزعة ميتافيزيقية تتلبسه جدا وهو سبق يحسب لماركس حول رغبته وأد مصطلح الوعي الخالص بمهده.. بنفس وقت وقوفه اي ماركس وبشدة اكثرفي معارضته النزعة التأملية المثالية الدينية لدى فيورباخ خاصة بعد أن اصدر هذا الاخير ثلاثة كتب تدور حول مركزية اصول الدين في علاقة الطبيعة بالانسان. أهمها كتابيه الشهيرين (اصل الدين)  والثاني (جوهر المسيحية ).

ماركس كانت مهمته الفلسفية وهو شاب تعلقه الشديد بوجوب البحث عن مصير الانسان على الارض وليس البحث عن مصيره دون جدوى في السماء. معتبرا طروحات كلا من شتيرنر وباور صادرة عن فلاسفة هم بقايا الفكر الهيجلي المثالي الذي تتلمذوا عليه من قبل استاذهم هيجل..

اما بخصوص فيورباخ المادي فقد كان ماركس معجبا به انه يفكر بالفلسفة تفكيرا ماديا في تعلقه بالطبيعة وميتافيزيقا التفكير الانساني على انهما مصدر الدين. ورغم أن ماركس استمد مادية فيورباخ وأخذها عنه معترفا بما قام به في توصله بمساعدة رفيق دربه الفلسفي انجلز الى الجدل المادي الذي يحكم التاريخ بما اطلق عليه مصطلح (المادية التاريخية) التي يحكم جدلها الديالكتيكي تطور التاريخ.. ورغم كل إعجاب ماركس بفلسفة فيورباخ التأملية الصوفية الا أنه أي ماركس اصدر كتابه الشديد القسوة بالضد من فويرباخ اسماه (اطروحات عن فيورباخ ) يضم 13 اطروحة ينتقد بها ماركس حسبما يذكر الباحث اليساري ثامر الصفار( النزعة الانسانية اللاتاريخية) عند فيورباخ. وجدت مخطوطة الاطروحات بعد وفاة ماركس ونشرها انجلز.

الحقيقة أن فيورباخ كان ذا نزعة انسانية تاريخية مركزيتها التي تطيّر منها ماركس هو طابعها (الديني) التصوفي التأملي التي تحاول المزج في توليفة واحدة بين الدين والانسان والطبيعة معتبرا فويرباخ ثلاثتهم جوهرا واحد يسمى الاله الذي إخترعه الانسان في البحث عن ذاته الوجودية فوجد بالنتيجة نفسه انه هو (الاله)..

لكن ما أثار حفيظة ماركس على هذه التوليفة التي ارادها فويرباخ أنها تمزج بين الطبيعة والدين في تأمل فلسفي مثالي لاثوري غير واقعي حسب اتهام ماركس لها. ماركس وهو ما يؤكده تاريخ حياته ولد من أجل ان يكون (ثوريا) ومشاكسا سياسيا عنيدا مبدئيا في حمله هموم كيف يصبح العالم انسانيا خاليا من الفقر والتمايز الطبقي؟ ولاقى من أجل ذلك الكثير من الاضطهاد والابعاد والطرد في بلدان عديدة ليستقر آخر سني حياته في حي سوهو بلندن وكان اواخر حياته يكتب واقفا لا يستطيع الجلوس بسبب التقرحات التي ملأت جسمه ولا يملك نقود علاجها.

ومن المفارقة التي ذكرها كثيرون أن أعظم فيلسوف كتب عن إدانته اللاانسانية للفقر ومعاناة الانسان بسببه هو ماركس الذي مات معدما وفقيرا مدقعا وكان يرى اولاده يتساقطون بالمرض ويموتون امامه بسبب الفقر حتى يروى انه اثناء دفن احد اولاده اراد إلقاء نفسه بالقبر خلف ولده ومات مديونا لبائع يشتري منه البطاطا وبعض الغذاء. ولم يكن تهمّه مباحث الفلسفة التي وجد فيها أنها تحاول تفسير العالم وليس تغييره الانساني المطلوب. أذكر بختام هذه الفقرة عبارة رائعة للفيلسوف الانكليزي برنارد شو قوله الفقر هو أم كل الرذائل.

فريجة وهوسرل والرياضيات بالفلسفة

تذكر مصادر فلسفية ان هوسرل لم يمر مثل غيره من الفلاسفة اليساريين المنشقين عن هيجل بما سمي حينها المرحلة الهيجلية المثالية. بالحقيقة كان طغيان افكار هيجل بالجامعات الالمانية بوجود تلامذة نوابغ له مثل ماركس وفيورباخ ما جعل شوبنهاور المعاصر له يعتزل في فندق مع كلب له حتى وجدوه ميتا على كرسيه من غيضه وكرهه لهيجل.

المصادر تشير الى أن هوسرل بقي ذو نزعة علمية بالفلسفة قادته الى طرح نظرية وجوب جعل الفلسفة علما بالرياضيات يوازي العلوم الطبيعية. الجدير ذكره يصبح من الغرابة جدا مثل هذا النزوع الظاهراتي المتناقض السقوط في مطب ميتافيزيقا الظاهراتية التي حملت اسم هوسرل وإلا فما معنى أن ترفع الظاهراتية انها فلسفة تعنى بدراسة الماهيات كقيم بمنهج الحدس الوجداني الانفعالي؟

الجدير بالذكر انه بالفلسفة عامة وفي العلوم وفي مباحث الفلسفة لا تاتي خبرة معرفية من لا شيء سابق عليها. الخبرة تراكم معرفي وما طرحه هوسرل حول جعل الفلسفة علما من علوم الرياضيات كان بعمله مهد الطريق امام فلاسفة الوضعية المنطقية التجريبية حلقة اكسفورد الانجليزية اقطابها بيرتراند رسل ونورث وايتهيد وجورج مور وكارناب وفينجشتين المتأخر تبنيهم مقولة يجب ان تكون الفلسفة علما من علوم الرياضيات.

الحقيقة ان الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة هو صاحب إحياء فكرة هوسرل غير الجديدة على الفلسفة في تقهقر وتراجع الفلسفة امام التقدم العلمي المتسارع.  مخاطبا فريجة اعضاء الوضعية الانجليزية انه اصبح من المخجل ان الفلسفة لا تكون علما من علوم الرياضيات مرتكزها توليفة علوم الرياضيات مع المنطق وفلسفة اللغة. امام صعقة فريجة هذه قام كلا من بيرتراندرسل وعالم الرياضيات الشهير في القرن العشرين عضو الوضعية الانجليزية نورث وايتهيد تاليفهم كتابهما المشترك عام 1906 على الارجح اسمه ( مباديء الرياضيات) الذي استغرقا بتاليفه ثلاثة سنوات.

في اعقاب الاهتمام الهامشي فلسفيا بالكتاب بدأ النزاع ينخر الوضعية المنطقية الانجليزية حيث احتدم الخلاف بين راسل وفينجشتين , وكذلك بين جورج مور يؤيده كارناب في ضرورة ترك تطويع علم الرياضيات والمنطق للفلسفة والاهتمام بفلسفة اللغة واللسانيات كما يفعل الفلاسفة الاميركان ريتشارد رورتي وسيلارز وجون سيرل. وصل اختلاف جورج مور مع اعضاء الوضعية ان قال لهم اجعلوا لغة الفلسفة يتكلمها الناس في الشوارع وفي اسواقهم واماكن تجمعهم.

للمقال صلة ببحوث سابقة وصلة بحث لاحقة

***

علي محمد اليوسف

 

لا يزال هناك شح واسع في العلوم الاقتصادية وعلاقتها الجدلية بمسألة الاتصالات. بل إن الدراسات تلك، تنتهي في سلسلة علاقتها الأضعف بعلوم الإنسان والمجتمع، بيد أن التخصصات الأخرى (اللسانيات، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وغيرها) تضل الأكثر حضورا وتطورا في بنية الراهن الإعلامي، وخصوصا في نموذج الاتصال، أو تبادل المعلومات.

ويأتي هذا الحقل الشفيف، ليوازن بين مضان التمثلات التي تقيس بها وسائل الإعلام ، وبشكل متزايد ما يحسب على التخصص الاقتصادي، وأولويته المتزايدة للاقتصاد التجاري أو المالي بخاصة، حيث يبرز قطاع المعلومات والثقافة والتبادلات بين الأفراد ذات الطبيعة المهنية أو الخاصة، بشكل لافت وبدرجة حادة، إن على مستوى استخدام الحساب الاقتصادي أو حتى التحليل الاقتصادي لدعم أو تعزيز القرارات الاستراتيجية للدول أو مجموعات الاتصال الكبيرة؛ أو المؤسسات ذات التوجه الإعلامي المحض.

أما مسألة اللجوء إلى التفكير الاقتصادي المبني على منهجية علمية، والهادفة إلى مراعاة التحولات الاجتماعية التي تعكس النمط العلمي الجديد ، فهي مربوطة بالتحليل الاقتصادي، باعتباره بحثا يحافظ على اتصالات - قريبة أحيانًا مع التفكير العلمي المناسب.

لكن، هنا لا ينبغي الخلط بين حسابات التكلفة، والتنبؤ بالعوائد على الاستثمار. وهي مجرد عملية تبدو فيها الخلفية الإعلامية مغيبة أو غائبة بفعل الاستحواذ الموضوعاتي للتفكير إياه.

فالاستثمارات أو التنبؤات بالنتائج المتوقعة لقرار ذي طبيعة مالية - وهو ما تختزله الدراسات التطبيقية في أغلب الأحيان - لا تفيد على الإطلاق في التفكير من جانبه الإعلامي أو الاتصالي، مادام هذا البعد يثير مأزق التوظيف الإعلامي للأحداث الاقتصادية والمالية والتجارية، وأبعاد وخلفيات ذلك، على المستوى القيمي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي والسياسي؟.

فكيف يمكن تفسير استمرار هذه الالتباسات التي يحركها الاقتصاد في المنبع، فضلا عن التأخر في التفكير المنهجي بتوظيف العقل الإعلامي المجرد؟

الأسباب متعددة ويصعب تمييزها. ولكن يبدو أن تحديد المفاهيم تبقى مشتركة بين الاقتصاديين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية الأخرى. وفي المجمل، كان الاقتصاديون، من كافة المدارس تقريباً، يكتفون بنقل منهجياتهم العامة إلى مجال المعلومات والثقافة والاتصالات، مع تسليط الضوء على بعض الجوانب المحددة، ولكن من دون إعادة التفكير في العديد من الأسباب العميقة الجذور بشأن إنتاج العائدات ذات المردودية المعكوسة.

أما علماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء الأنثروبولوجيا... فإن الخوف من الاقتصادية الإعلامية يساوي بالدرجة الأولى أولوية الاقتصاد الإعلامي، وهو ما يقود عمومًا إلى بناء بيئة اجتماعية لا علاقة لها بالاقتصاد على الإطلاق.

إن تلكم المواقف التكميلية تضر بشكل عام باهتمام ونوعية البحث في مجال الاتصالات، لأن النهج الاقتصادي يظهر في المقام الأول قوة واضحة للمهتمين سالفي الذكر؛ خصوصا في مجال السوسيولوجيا (وهو مبحث سبق وخصصنا له دراسة نشرناها في العديد من المواقع العلمية)، إنه يمثل مساعدة كبيرة في جميع الأنشطة الهامة.

هنا، يمكن طرح السؤال: كيف يمكن استيعاب العمل الإعلامي المعاصر استنادا فقط إلى العلاقات القائمة بين الوسائل والقراء أو المتابعين، كما ووظيفتها في الفضاء العام، دون دراسة الاستراتيجيات التي تتبعها مجموعات الاتصال والطبيعة الاقتصادية لمثل هذا المحتوى كمعلومة وكفاعل مجتمعي؟.

بمعنى آخر، إلى أي مدى يكون المنطق ذا صلة، تحت اسم الصناعات الثقافية، الذي يمزج كل ما يتعلق بنشاط تجاري مثلا وسوق الفن والترويج الإعلاني)، أو حتى التجاري البسيط، كإنشاء خدمات عن بعد، والعمليات الأخرى المرتبطة بجزء من الإنتاج الصناعي الكبير ، كإنتاج المواد للعموم أو السلع الثقافية مثل السجلات والتوثيقات وغيرها...؟ . وإلى أي مدى يمكن تقبل وضعيات كدراسة تطور التلفزيون دون تأسيس صناعة دولية للبرامج السمعية والبصرية؟ وكيف نفسر صعود وسائل الاتصال دون استخدام المنطق الاقتصادي؛ أليس لأنه يتم إنتاجه بالتزامن مع انتشار السلعة؟.

وبمعنى أعمق، فإن اللجوء إلى العلوم الاقتصادية - أدوات التحليل والمنهجيات التي ساهمت في صياغتها - يمكن أن يتجنب وجهات النظر الاختزالية ، كاقتصار التواصل على تفاعلات الحياة اليومية، أو إخضاع الأساليب الواضحة بشكل زائف، كما يحدث مع استيعاب الحياة السياسية لتدخلات القادة في وسائل الإعلام الرئيسية، وبالتالي المساهمة في معرفة الحركات الكبيرة التي تؤثر، من خلال تطوير تقنيات الاتصال، على المجتمعات المعاصرة.

هذا سيؤدي حتما إلى طرق بنية شبكة (تقنيات) الاتصال أو العمليات التي تنتشر من خلالها الابتكارات كالحوسبة الصغيرة المحلية، لتكون جسرا لانخراط النسق الاقتصادي في الفسفة الإعلامية، وتحويلها إلى براديجم مشتبك مع باقي العلوم الإنسانية ذات الصلة، وعلى رأسها السوسيولوجيا الثقافية والإعلامية، التي أضحت تشكل مركزا اتصاليا عالي الخطورة والامتداد .

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

العاطفة والفلسفة الظاهراتية

حسب تعبير د. زكريا ابراهيم أن شيلر ثار ضد رأي كانط قوله العاطفة ليس لها معنى ولا قيمة. وكان موقف شيلر هذا يعتمد خلفية المنهج الظاهراتي(الفينامينالوجيا) لهوسرل الذي إجتمع حوله فلاسفة الوجودية ابرزهم  سارتر، هيدجر، ميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم حول مصطلح (الوعي القصدي) الذي اول من رفعه برينتانو الذي كان يمقت عقلانية كانط التي تنخرها الميتافيزيقا المثالية الغارقة في تأمل فلسفي معقد جدا. برينتانو في اختراعه مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة انما كان يستهدف ديكارت وليس كانط بشدة أيده بها لاحقا تلميذه هوسرل ومن قبله ومعه شيلر.

الظاهراتية التي ينسب لها مصطلح الوعي القصدي إنما هو في حقيقته ينسب لفلاسفة الوجودية الذين هاجموا كوجيتو ديكارت معتبرين الوعي المجرد عن موضوعه المتعين لا يقود الى تحقيق انطولوجيا الوجود وكما يتصورون أن ديكارت أخطأ به خطأ جسيما حينما إعتبر مجرد التفكير يحقق الوجود الحقيقي للانسان.. الحقيقة أن ديكارت لم يخطيء بمقولته انا افكر اذن انا موجود. والسبب في عدم خطئه أن العقل لا يفكر بشيء ليس له معنى او دلالة معرفية. بعبارة اوضح انه بمجرد افتراضنا تفكير العقل فهو يحمل موضوع تفكيره معه كتحصيل حاصل لا يحتاج الاشارة له ولا البرهنة عليه. الشيء الآخر أن الوعي قصدي بالضرورة كونه نتاج عقلي لفهم وتفسير ومعرفة مدركات الاشياء. لا يوجد وعي قصدي وآخر وعي غير قصدي. الوعي قصدي بضرورة مايفكر به أي حضور موضوعه.

نعود الى إنكار شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها هي فعلا مقولة خاطئة. ليس لأن ما يرغبه شيلر ومنهج الظاهراتية يؤكد على منهج الوجدانات الانفعالية النفسية في معرفتها ما يعجز عن ادراكه العقل حسيا ذهنيا.

بل اسقط بيد شيلر ادانته الخاطئة لما نسبه للفيلسوف الالماني لايبنتيز ان هذا الاخير توهم ان العاطفة صورة مختلفة من صور الحياة العقلية. وهي كذلك فعلا ولم يكن لايبنتيز متوهما ولا خاطئا. الغاء دور العقل من قبل منهج الظاهراتية الذي يقوم على المنهج السلوكي في مرجعية النفس له وليس العقل هو الخطأ الجسيم الذي وقع به شيلر واشياعه من فلاسفة الوعي القصدي الوجداني الانفعالي في منهجهم الفينامينالوجيا. لايمكننا إعتبار العاطفة هي افصاح نفسي لا تربطها بالعقل الشعوري واللاشعوري رابطة.

كانط حين تصوّر العاطفة لا تربطها رابطة عقلية مباشرة مبررا على انها ليست موضوعا إدراكيا وقع بخطأ قوله أن العاطفة لاقيمة ولا معنى لها. الرابطة العقلية للعاطفة هي إحدى إفصاحات الماهية بمعنى القيم التي لا يدركها العقل بمباشرة كموضوع.

لو جاز لنا التعميم لنقول وبلا حذر أن ما يرتبط بعلم النفس السلوكي هي تجليّات لا يدركها العقل كموضوعات ومن جملتها العاطفة. من الخطأ الجسيم سحب امكانية استقلالية العاطفة عن العقل مثلما نتصور خطأ آخر أقبح منه قولنا أن موضوعات الخيال لا تخضع لرقابة وسطوة العقل بل لحضور وليس رقابة اللاشعور.موضوعات الخيال هي لغة العقل كما هي موضوعات عالمنا الواقعي الخارجي أنه لغة تمثّل تجريدي لموضوع تصنعه المخيّلة.

فرويد لم ينكر فاعلية العقل على اللاشعور في حال اليقظة بل أنكر فاعلية العقل السيطرة الانتظامية على تداعيات اللاشعور غير الانتظامية اثناء النوم فقط. ولهذا اطلق مقولته الشهيرة اللاشعور لا يحتاج الزمن والسبب ان العقل لا يعامل مدركاته في حالتي الشعور واللاشعور بنظامية لا يحضرها الزمن. كل فعالية ادراكية تكون لامعنى لها في غياب حضور الزمن والعقل.اللاشعور هو تغييب اولوية العقل على العاطفة  ولا اقصد بالعاطفة هنا هي القيم السلوكية التي مرجعيتها النفس.

ايضا الفيلسوف الشهير جاستون باشلار في نظريته عن جمالية المكان إعتبر العاطفة النفسية في الحنين للماضي المكاني هي موضوع ادراكي نفسي- عقلي مزدوج. وتعامل باشلار مع الاستذكار للماضي من جنبة حضور المكان الزماني على انه موضوع للعقل. بينما الذاكرة بكل حمولاتها ومعانيها الافصاحية الاستذكارية ليست موضوعا مستقلا للعقل. وانما الذاكرة هي احدى حلقات منظومة العقل الادراكية شأنها شأن الوعي مثلا.. كلاهما لا يمتلكان الاستقلالية المعرفية والبايولوجية انهما موضوعين مستقلين للعقل.

لكي يفحم شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها لجأ الى (الوعي القصدي) وهو إقحام مفبرك إعتسافيا من قبل شيلر محاولته إيقاف مقولة كانط على قدميها. هل فات على شيلر أن الوعي القصدي سميّ قصديا لأنه يرتبط بتحقيق هدف معين موجود بموضوع يصله الوعي؟ الوعي القصدي الصادر عن العقل يكون حمولة تحقيق هدفه معه وملازمة له. اما الوعي القصدي الذي يمكن تصوره اعتسافا هو نتاج عاطفي نفسي انفعالي مجردا عن منظومة العقل الادراكية ويكون وعيا لا قصديا ولا معنى حقيقي يمثله. لا يوجد وعي قصدي بلا موضوع وهذا ماتؤكده الظاهراتية في ادانتها لديكارت. والموضوع لا ينفصل ابدا عن الذات المدركة. لا يمكننا تصور ذاتا متحققة الوجود الانطولوجي ما لم تحقق هذه الذاتية ذاتيتها الحضورية الوجودية  بالمغايرة الادراكية مع موضوعها. الذات بلا موضوع هي تخييل تعجيزي لقدرات العقل الادراكية. والوعي بلا حمولة وملازمة موضوعه يكون لا ادراك عقلي ولا معنى له ولا افتراض إمكانية وجود تحققه واقعيا. والموضوع بلا تخليق ذات تدركه وتعيه تبقى اهميته في وجوده المستقل الذي لا يهتم الادراك الحسي والعقلي به.

هنا يكون الاحراج الفلسفي فالعاطفة يحركها الوعي القصدي وهو شيء نعتبره سليما واقعا لكنها بالحقيقة هي غير ذلك. الوعي القصدي لا يكون فاعلا ما لم يستمد مرجعيته من واقعية وصرامة العقل وهو ماتنكره الظاهراتية في اعتمادها ما اسمته الوعي الخالص الانفعالي الوجداني.. السلوك الذي مبعثه النفس والعاطفة دونما افتراض وصاية العقل عليه يكون تصرفا لا قيمة ولا معنى له بالحياة. لا يوجد افصاح للعاطفة بمعزل عن مرجعية السلوك النفسي تحت وصاية العقل.

ثم مصطلح الوعي الخالص وهو احد مقولات هوسرل الفضفاضة التي يعجز البرهنة الفلسفية عليها هو مصطلح انا اجده طوباويا لا معنى حقيقي له. وأعتقد ولست متاكدا مما اقوله أن سارتر إعتبر الوعي الخالص خرافة فلسفية. لا أعرف معيارية تحقق الوعي الخالص بماذا؟ أفهم يوجد وعي فقط مصدره العقل هو وسيلة العقل المعرفية وليس الادراكية فقط التي هي خاصية الحواس في فهمه وتفسيره لموجودات عالمنا الذي نعيشه.

للموضوع صلة

***

علي محمد اليوسف 

 

يذهب هوسرل صاحب المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا) وفي سبق لشيلر له إلى أن استخدام المنهج الحدسي الانفعالي الوجداني النفسي الذي يعنى بمعرفة (الماهيات) المقصود بالماهيات هنا ليس جواهر الاشياء وانما الماهيات هنا هي (القيم) الوجدانية النفسية التي يجسدها السلوك القصدي بالحياة. وتشمل ابعادا فلسفية تتجاوز مبحث الاخلاق والعاطفة.

الماهيات بمعنى القيم الانسانية التي مصدرها العاطفة والنفس وليس بمعنى جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل المباشر كموضوعات له كذلك هي الماهيات التي هي جواهر الاشياء ايضا لا تكون موضوعات ادراكية يعيها العقل. ومن المهم جدا هنا الانتباه الى التفريق بين الماهية التي هي سلوك وجداني انفعالي نفسي من جهة وهذا ما يعنى بدراسته هوسرل وبين الماهية الجوهر في الاشياء المحتجب خلف الصفات الخارجية لذلك الشيء الذي تقود محاولات العقل فهمه وادراكه الى منهج الميتافيزيقا في تغليب تفكير العواطف والوجدانات القلبية الروحانية على تفكير العقل المنضبط بالصرامة المادية..

الامر المهم الذي يجب الاشارة له ان الماهية سواء اكانت جوهرا في الاشياء يحتجب خلف الصفات الخارجية لها او الماهية التي هي القيم السلوكية الانفعالية التي يمارسها الفرد بالحياة فكلاهما بالعرف والمنهج الفلسفي لا يشكلان موضوعين مستقلين لادراك العقل المعرفي لهما. ولكي يكون الموضوع مدركا عقليا يتوجب توفرالاستقلالية فيه وليس شرطا الاستقلالية المحددة بابعاد المادة . فالخيال يصنع موضوعات ادراكية للعقل ليست متعينة بابعاد مادية يدركها الحس. وفي كلتا الحالتين فان ادراك العقل لموضوعاته انما هي تجريد لغوي. وفي هذا المعنى تصبح مقولة الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة صائبة تماما.

وبناءا عليه اذا كانت الماهية جوهرا في الاشياء او كانت الماهية قيمة وجدانية فكلتاهما ليستا موضوعين لادراك العقل. اذن مالفرق بينهما منهجيا؟ الفرق المنهجي بينهما هو ليس في اختلاف منهج الاستدلال المعرفي لهما وانما الاختلاف يكمن في عجز الادراك العقلي في فهمهما فهما مباشرا واقعيا أوالوعي المتخارج عقليا معهما.

محاولة معرفة ماهيات الاشياء كجواهر تحتجب خلف الصفات الخارجية لها تقود حتما المنهج الفلسفي الذي يتبعه الفيلسوف الى السقوط في براثن الميتافيزيقا التي يعتبرها كانط وفلاسفة الماركسية والوجودية مسعى عبثي لا جدوى منه. 

في اختلاف منهجي ومعرفي حين تكون الماهيات هي القيم الوجدانية الانفعالية والنفسية السلوكية في الفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه فان المنهج المعرفي يكون هو (الحدس). ماهية الشيء كجوهر كما مر بنا هي الخاصية المتفردة لذلك الشيء التي تحجبها الصفات الخارجية. وهناك من الفلاسفة مثل بيركلي وهيوم يرون ان الشيء بذاته كينونة موحدة لا انفصال فيها بين جوهردفين وصفات بائنة وانما ادراكها يكون في ادراك الكلية الموجودية لها كينونة مستقلة استقلالية تامة عن رغائب الانسان. ويستشهدون على ذلك باننا ندرك الصفات الخارجية للحيوان انها هي ادراكنا ماهيته الحقيقية ولا يوجد فرق بين جوهرالحيوان وصفاته الخارجية خارج ادراكنا الكينونة الموجودية للحيوان كائنا حيّا في الطبيعة.

اذن الماهية او الجوهر حتى عند الانسان ليست موضوعا لادراك عقلي من قبل غيره لا حسيا ولا وعيا بها.. اما اذا كانت الماهية حسب منهج الظاهراتية لدى هوسرل وشيلر على سبيل المثال فهي (القيم) الوجدانية الانفعالية النفسية التي نعيها حدسا عقليا. غير مباشر ولا منظور كموضوع يدركه العقل كمثل ادراكه موجودات عالمنا الخارجي المادية والخيالية في تعبير تجريد اللغة الافصاح عنها.

شيلر الذي لا تتقاطع فلسفته لا مع هوسرل ولا مع دلتاي يعترف بأن الماهية التي تختلف عن الجوهر الثابت بالاشياء في حال تاكيد وجوده التموضعي التكويني فيها فهي ايضا لا يدركها العقل المباشركموضوع. وانما ندركها حدسا انفعاليا ناتجا عن سلوك نفسي قصدي بالحياة كما تذهب له الظاهراتية.

الشيء الذي نراه مهما هو الاختلاف بين الماهيات المحتجبة خلف الصفات الخارجية للاشياء انها محكومة بالثبات اللامتغير. باستثناء تاثير عوامل خارجية موضوعية تؤثر بالصفات الخارجية التي بدورها تؤثر بالماهيات الداخلية نسبيا. تاثيرات العوامل الموضوعية الخارجية المؤثرة في الصفات الخارجية لموجودات عالمنا الخارجي انما تكون (ظرفية) بمعنى زائلة التاثير الدائم بالصفات الخارجية.

انه لمن المهم الاشارة الى ان فلسفة سارتر حول ماهية الانسان انه يعتبرها عملية تصنيع الانسان لذاته بتاثير المورثات الجينية من جهة ومؤثرات البيئة والمحيط وسلوك الانسان بالحياة من جهة ثانية. يمكننا هنا التساؤل هل ماهية الانسان التصنيعية ذاتيا تكون موضوعا ادراكيا للعقل؟ الجواب من المحال ان تكون ماهية الانسان مدركة من غيره بل منه هو صانعها فقط. بتعبير آخر وعي الانسان لذاته هو وعيه لماهيته أي لجوهره.

اود هنا الاشارة الى مقولة سارتر (جوهر الانسان انه بلا جوهر) صحيحة جدا رغم ما تحمله من التباس معرفي فلسفي في تاكيد ان جوهر الانسان هو تصنيع ذاتي يماشي عمر الانسان بتخارج جدلي بينه وبين مجتمعه ومحيطه.. لذا نجد الطفل يجيء الحياة وهو خال من الجوهر لا يعي اهمية تصنيع ذاته المفروضة عليه قسرا  مكتسبا من العائلة والمحيط وغير ذلك. ما عدا المورثات الجينية الفطرية التي هي الصفات الخارجية له مثل شكل الوجه ولون العينين وشعره وطوله وغير ذلك التي بمجموعها صفات خارجية ليس لها علاقة تخارجية مع تصنيع الانسان لماهيته الذاتية المتفردة. لذا لا تشكل مجمل الصفات الخارجية للانسان ماهيته بخلاف الحيوان الذي صفاته الخارجية هي ماهيته كونه لا يعي مثل الانسان اهمية تصنيع ماهيته كما يفعل الانسان طوال سني عمره. بل تبقى  صفات الانسان الخارجية نسبية التاثير في تصنيعه لماهيته او لجوهره فلا فرق بين اللفظتين...

الماهية والكينونة الشيئية

كينونة الاشياء التي تتكون من الصفات الخارجية والمضمون بمعنى الجوهر او الماهية في حال اثبات انفصالهما الاستقلالي ضمن الكينونة الموحدة للشيء يكون تاثير العوامل الظرفية الخارجية هامشيا في وجود الجوهر الدفين بالقياس الى مؤثرات العقل في تناوله معرفة الاشياء والوعي بها.

واطلق كانط على المؤثرات العقلية بالاشياء والموجودات مصطلح (مقولات العقل) واجملها باثنتي عشرة مقولة هي تمثّل رد فعل العقل التخليقي في مدركاته. وهذه المقولات العقلية بحسب اجتهادنا انما هي المقولات التي يصدرها العقل في معالجته وعي الاشياء معرفيا والتاثير التغييري بها في تخارج معرفي وليس في تاثير جدلي. من المهم التفريق بين التخليق العقلي بمعنى تغيير مدركات وعي العقل وبين السطحية المثالية التي تذهب بان الافكار هي التي تخلق الموجودات المادية. إن من المهم تاكيد أن العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي المجرد بحسب تعبير ديكارت. بمعنى وظيفة العقل في علاقته وعي الاشياء هي تخليق فكري لا يمتلك الوسائل المادية في خلق موجودات عالمنا بالفكر.

فرق التخارج المعرفي مع الاشياء التي يدركها كلا من الحس والعقل انها تمثل تراكم الخبرة العقلية في التاثير المباشر بالاشياء من اجل هدف قصدي فالعقل لايعقل ما لا قيمة ولا معنى له.

اما الجدل الديالكتيكي فهو ظاهرة طبيعية يحكمها التضاد في المادة والتاريخ وليس التكامل المعرفي في عملية التخارج غير المنظورالمؤثر في تطور الاشياء. ويحصل الجدل نتيجة توافر عوامل موضوعية لا دخل لعقل الانسان ولا لرغائبه تاثير مباشر في استمرارية استحداث الظواهر والتكوينات الجديدة المخلية بالتضاد الظواهر التي استنفدت نفسها وحضورها.

ظاهرة الديالكتيك التي تحكم (احيانا) واؤكد على احيان بعض الجوانب المادية في حياتنا وفي التاريخ ايضا تصنع المستحدث الجديد بما يعجز عنه الوعي وتعبير اللغة كوسيلتي تجريد العقل خلقهما.

اما اذا اخذنا (الماهيات) على انها القيم الوجدانية الانفعالية التي يرافقها السلوك القصدي فنجدها رغم عدم امكانية ان تكون موضوعات مباشرة لادراكات العقل الا اننا يمكننا معرفتها ومعرفة تاثيرها بواسطة منهج الحدس حسب نظرية فينامينالوجيا هوسرل. الحدس العقلي هو المعرفة القبلية الاستباقية التي لا يلازمها منطق التجريب التطبيقي كما هي خاصية العقل في وعيه لمدركاته.

الظاهراتية الهوسلرية والماهية

شعار فينامينولوجيا هوسرل هو التوجه الى الاشياء في ذاتها من خلال الوعي الخالص. وبما ان هدف الظاهراتية لدى فلاسفة الفينومينولوجيا يتقدمهم هوسرل هو الوصول الى الماهيات فقد انتهج هوسرل ما سمي (الايبوخية) اي تعليق الحكم. كما وضع العالم المكاني – الزماني بين قوسين. وعدم اتخاذ الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم والتوقف عن اتخاذ اي موقف اثبات او نفي ازاء وجود الموضوعات.(نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.)

الوضعية التي تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي وتاشير الفينامينالوجيا المغلوط تجاهها يؤكد ما تريد نفيه الظاهراتية في وجود حقائق مستقلة عن الوعي الفردي  والمقصود بتلك الحقائق هو (الماهيات) غير المتاح لنا ادراكها مستقلة منفردة كموضوعات.

ولكي تتوخى الوضعية الانزلاق نحو الميتافيزيقا في معالجتها الماهيات انكرت ان تكون تلك الحقائق التي نادت بها المنطقية تقع تحت هيمنة وسطوة الوعي الفردي المعرفي. وهو ما سبق وقال به كانط ومن بعده فلاسفة الوجودية الذين كانت مواقفهم متذبذبة بين الوعي القصدي الذي يعالج مواضيعا ادراكية. وبين الظاهراتية التي تنادي معالجتها الواقع وهي بالحقيقة تجنح نحو منهج الميتافيزيقا. هيدجر وسارتر المتاثران بهوسرل وقعا بهذا الفخ.

 الظاهراتية التي اخذت عن كانط واسبينوزا ان الاشياء كينونة موجودية تتكون من عرض هو الصفات وجوهر هو الماهيات التي لا يدركها الوعي الفردي. كما تؤكد الظاهراتية على اهمية ما تسميه (خبرة الوعي) الذي يمثل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس منهجا ادراكيا مستقلا عن العقل في محاولته كشفه الماهيات. وعجز الوعي مستمد من مرجعية عجز العقل له في محدودية هذا الاخير ادراكه الماهيات. وهو ما كان ذهب له كانط.

 وللخلاص من هذا المازق التعجيزي في مبحث المعرفة نادت الماركسية بعبث الركض وراء معرفة الماهيات التي تقود الى نفق الميتافيزيقا. وخبرة الوعي بالاشياء الذي ابتدعته الظاهراتية ليست خبرة منعزلة عن الوقوف ومعرفة بماذا يستطيع العقل التفكير به وبماذا يعجز العقل ادراكه. ولا يمتلك الوعي خاصية مستقلة عن العقل تجعله يستطيع تمثيل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس ذاكرة تخزين الخبرات التي اكتسبها العقل ليدفنها الذهن بمخزن الذاكرة التراكمي.

***

علي محمد اليوسف

التراث هو تلك الثروة الفكريّة والماديّة الكبيرة التي اكتسبتها أمّة ما، وحققت عبر تاريخها الطويل، حالات من التمايز تختلف عن بقية الأمم. أما مضامين هذه الثروة فهي مجموع الفنون والمأثورات الشعبيّة الأدبيّة منها والفنيّة والفلكلوريّة ومن شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال، ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات. يضاف إليها ما تركته هذه الآمّة من تراث فكري وعقيدي ومن أوابد معماريّة ووسائل إنتاج وأدوات أخرى استخدمت في النشاط الحياتي لهذه الأمّة. وللتراث الفكريّ مستوياته وأقسامه المعرفيّة التي اختزلها أو نمذجها "محمد عابد الجابري" في كتابه (بنية العقل العربيّ)، في أربعة أنساق فكريّة، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا، ما بين عقل بياني، وآخر عرفاني، وآخر برهانيّ، وأخيراً عقل سياسي. وإذا كان العقل البيان قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبيه واستعارة وتمثيل ونحو وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تأويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة والشيعة في قراءتهم وتأويلهم للنص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، انطلاقاً مواقف فكريّة وجوديّة مثاليّة من الأرض والسماء معاً، وأهم ما في  المواقف الصوفيّة الوجوديّة على سبيل المثال لا الحصر هو أكراه المتصوف لجسده واقصائه عن عالمه الماديّ، أي الحياتيّ، ليتفرغ للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيش، والارتقاء بها إلى مصاف المطلق (الله)، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد أو التوحد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة العرفانيين الكبار من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخها يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة والزندقة. أما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل النقدي ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربيّ الإسلاميّ أيضاً في العمل على إعادة قراءة وتأويل النص المقدس، ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ (المنطق الأرسطيّ) بشكل خاص، أي بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقيّة، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل البرهانيّ، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع واقعهم المعيش أولاً، ومع تفسير النص المقدس وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، الأمر الذي جعل الحكام ومشايخهم يقفون لهم بالمرصاد دائماً، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتل بعضهم، فالذي جرى لغيلان الدمشقي ولابن المقفع وابن رشد في العصور الوسطى على سبيل المثال لا الحصر، جرى لطه حسين وعلى عبد الرازق ولفرج فوده ولحامد أبي زيد وجلال العظم في تاريخنا الحديث والمعاصر. أما العقل السياسي فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفيّة وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك "الماوردي" في كتابه (الأحكام السلطانيّة)، و"بدر الدين بن جماعة" في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). و"ابو يعلى الفراء" في كتابه (الأحكام السلطانيّة).

هذا وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ لم يقتصر اشتغاله على قضايا النص المقدس فحسب كما بينا أعلاه، وإنما اشتغل أيضاً على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.

هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ منذ مئات السنين حتى تاريخ، هذه البنية الفكريّة المفوّته حضاريّاً، لم تزل تخلق في عالمنا العربي المعاصر (أسرى الوهم)، هذا الوهم الذي تحول بدوره بفعل القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة ومشايخها وبعض تيارات الإسلام السياسي صاحبة مشروع الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكريّاً وسلوكيّاً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.

إذن إن "أسرى الوهم"، أي أسرى من سخروا الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، مِنْ مشايخ السلطان ومِنْ مَنْ امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين، لمسح عقول الرعيّة وأسرها وتعبئتها بمفاهيم دينيّة وشروحاتها وطقوسها ورموزها، ووعودها بتعويضهم بالفردوس عن ما عانوه ويعانوه من حرمان في واقهم المعيش، هذا الفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة تجري من تحتها الأنهار، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي، بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي وصفته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها كما قدمها قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى. فأسرى الوهم لم يعد لديهم حاضر يعيشونه ويعملون على تطويره وتنميته وتحقيق جنة الأرض عليه، وإنما ربطوا حياتهم كلها في المستقبل، أي في جنة السماء، حيث اُعتبرت حياة الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك، والعمل فقط من أجل المستقبل المفتوح على المطلق، بدل من تغيير واقعهم الفاسد الذي أفسدوه هم أنفسهم بما كسبت أيديهم. وهم بسلوكهم وتفكيرهم الانهزامي هنا، قد ابتعدوا حقيقة عن مقاصد الدين الأساسيّة التي تركز على الأرض وإعمارها، والعيش على هذه الحياة بسعادة كما يريدها النص المقدس ذاته، وهذا ما سيوصلهم إلى المستقبل المنشود بأمان إذا أرادوا.

ملاك القول في هذا الاتجاه هو أن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ يعتقدون أن فيه يوجد طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضرٍ يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما علمهم مَنْ جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة كما أشرنا في موقع سابق، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر وعذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانيّة وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.

على العموم: إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة،   وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة المفوّته حضاريّاً والرافضة بإصرار لكل ما يمت إلى الحداثة عدا حداثة الترفيه وإشباع الغرائز، يأتي السؤال المشروع هنا وهو: أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟

نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكريّ المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد إلى حد بعيد عن معظم مناهج التفكير والبحث العقلانيّ المعاصر، الأمر الذي يفرض علينا بالضرورة أن نبحث في عالمنا العربي عن القوى الاجتماعيّة المنسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة..عن قوى اجتماعيّة مؤمنة بأوطانها وبالمواطنة ذاتها، قادرة على رسم الحلول العقلانيّة لتجاوز مأزق واقعنا المتخلف من خلال الوقوف بحزم أمام المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب لم تزل تسيطر على خطابنا السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.. قوى اجتماعيّة مؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويريّ الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف والاستبداد الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول، لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم بالبحث عن هذه القوى التنويرية، وهي موجودة في مجتمعاتنا العربيّة، بدلاً من احتضان المطبلين والمزمرين الذين أوصلوا البلاد والعباد إلى حافة الانهيار. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). ففي حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعوّل كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها.

***

د. عدنان عويّد

.....................

كاتب وباحث من سوريّة

 

ـ "ما يجعل المشكلة أسوأ هو أننا قلما ندرك أننا داخل منزل من المرايا، وهذا الانعزال يجعلنا أكثر جهلا. فنحن نفشل في تقدير وجهة نظر الطرف الآخر. وفي المناسبات الناذرة التي نسمع فيها ما لدى الخصوم، يبدون جاهلين، لأنهم يفشلون في فهم وجهة نظرنا. إنهم يصفوننا بشكل مبسط، دون أي تقدير للتفاصيل الدقيقة وعمق موقفنا". (س سلومان/ ف فيرنباخ)1.

من البدهي أن تصير النظرية الإعلامية المعاصرة، في انصرافها إلى تمثل مناهج التحديث الجديدة الداعية إلى الملاحقة والتطوير وتأويل الحدث، أن تتعبأ معرفيا ونفسيا بنظرية بايز الشهيرة، التي ترتجع احتمالاتها السابقة، في ضوء الأدلة المنظورة، مما يدفع إلى تشكل احتمالات لاحقة. وهو ما يؤشر لتوفر طريقة منهجية لتحديث هذه الاحتمالات، مما يضمن بقاءا تفكيريا متسقاً ومنطقياً.

ـ الإعلام كقيمة استدلالية

تلتقي نظرية بايز المذكورة، بالطفرة التكنولوجية الإعلامية الراهنة، التي تتماشى وانتهاج المسار الإحصائي الذي يتضمن تحديث الاحتمالات بناءً على البيانات المرصودة. ومن خلال دمج المعرفة السابقة والأدلة الجديدة، حيث يمكّننا الاستدلال البايزي (الإعلامي تحديدا) من اتخاذ قرارات وتنبؤات أكثر استنارة.

التفكير بهذه الثنائية المتشابكة، يحيلنا إلى حاجتنا الملحة، لإعلام يحتذي لبيانات أكثر تجسيدا لإرادة التغيير، بما هو علامة واعية بالتنشئة الاجتماعية التي توفر هامشا من الاستقبال الفردي والجماعي للمحتوى والسلوك المحفوف بالمخاطر؟.

لقد دعت ديفينا فراو ميغس، وهي أستاذة بجامعة باريس الثالثة في علوم الإعلام والاتصال وفي اللغات والآداب الإنجليزية والأنجلوسكسونية، إلى إعادة النظر في الإنتاج الثقافي الإعلامي في ضوء الأسس العصبية للسلوكيات الاجتماعية (2)، وهو ينطوي في نظرها، على تطوير رؤية تكاملية حيث تؤثر الآليات المعرفية والعوامل الاجتماعية على بعضها البعض بشكل متبادل. حيث إنه ينطوي على تصور للطبيعة البشرية باعتبارها اجتماعية في جوهرها لأن "رفاهيتنا" بنظرها تعتمد على تفاعلاتنا مع الآخرين.

هذا الإدراك الحاصل في بنية تلقينا للإعلام كنتاج سلوكي واجتماعي، يقدم صورا مشهدية مغايرة للوظائف التقليدية التي انبنت عليها الطفرات الإعلامية عبر ثلاثة عقود على الأقل. إذ كانت تؤسس وجودها الاعتباري، في بدايات القرن الذي ودعناه، على أنماط لا تحقق فيها المعارف اللازمة، بعد أن تم تكريس مفاهيم مضادة أو نقيضة للأخلاقيات الصحافية، وما إليها من قيم النشر والإتقان وأنساق المعنى الموازية. وسرعان ما زكت ماكينات الإعلام الجديد ، بسلطها الرمزية وتداخلات ثخومها وأحوالها، في بنى المجتمع والإنسان. ما أهلها للعب أدوار بديلة، تتربع على أعرش السبق والانتشار الواسع، مع الكثير من إهدار أدوات العسف والتنطع والانبهار الزائف.

وأسقطت البروبغندا العصرية المتنطعة، آخر قلاع القيم المؤسسة، فبدا الوعي بالنصوص والصور المتحركة وباقي أنماط وقياسات الإعلام الأخرى، كأنها تنافس على تشكيل مخزون مجافي لتمظهرات الوعي الحقيقي بهذا المنظور الهش والمتآكل؟.

ـ خوارزمية افتراضية هجينة

وفي حدود هذه النمذجة المتشاكلة والمبهورة بنرجسيات الصرعة التكنولوجية الجديدة، تظهر العديد من إواليات هذه الإحداثيات، كظهور الأجهزة والمنصات الجديدة، التي تمكن من التواصل والعمل بسلاسة أثناء عملية التلقي عن بعد أو أثناء السفر، في المنازل والمكاتب أو حتى الشارع العام، مع إمكانية الحصول على المعلومات وتشغيل الأشياء بجرة إصبع أو صوت أو حس. وهو ما يجعل صلب تأثير مجال الاتصالات، على وجه الخصوص، بشكل كبير بالوسائط الرقمية والتكنولوجيا، أمرا في غاية العجب والذهول.

وعند استشفاف وسائل وطرق تصريف هذه الخوارزمية التي غيرت بها الوسائط الرقمية الاتصالات، أحوالا وبدلت أزمنة ونهضت بأفكار ورؤى، نجد أن وسائل الإعلام الجديدة بالمقابل قد نسفت تماما متماثلاتها النصية بكل ما تعني الكلمة من معنى.

لقد خلقت التكنولوجيا الجديدة فرصًا جذابة، لرواد العالم الافتراضي، بمن فيهم المعلنين والمؤسسات الإعلامية للتواصل مع الجماهير، حيت اعتاد الناس على الاعتماد على الصحف والتلفزيون للحصول على المعلومات، وبأقل جهد أضحت  العديد من القنوات الفضائية والعوالم الافتراضية الاجتماعية من وسائل التواصل والبودكاسات وغيرها والمنافذ التي يمكن للأشخاص من خلالها استهلاك المحتوى، بما في ذلك مواقع الويب ومنصات الفيديو، تشكل بؤرا للتغيير في جوهر البنى الخلفية للتلقي، وتشاكس أكبر امتدادات التحيين والتوجيه والاسترشاد والمواكبة والمراقبة وإبداع الروابط وتفتيق أبعادها ومواعيدها، حتى أبلغت حدودها القصوى، المكامن العميقة لاستدعاء "التفكير" كتطور آني وخالص لدعم الأفعال المعقدة، اعتمادا على الفرد فقط، وبدون أي خلفيات. (3).

أما ما يعنينا في هذا الباب بالضبط، فيمكن استيعابه على درجة من التأمل والشك. إذ يبدو الوضع في مثل إعادة استهداف الإعلانات، التي تتبع مستخدمي الويب أثناء زيارتهم لمواقع مختلفة، وخلال تموقعنا الافتراضي، وفي مواجهتنا لسيول من المحتويات والصور والفيديوهات المبثوثة، كأننا نمخر في عباب كسيح ومعطل من الرسوبات الثقافية والإحالات والرموز المكسوة بعطور لا تدركها حدوس العقل وموجهاته.

وينطبق هذا الافتئات المروع لعوالمنا المشهودة، كما هو الشأن بالنسبة للإعلانات الأصلية، التي تشبه المحتوى التحريري في أحد المنشورات، حيث يدفع ثمنها أحد المعلنون المروجون لمنتجاتهم أو خدماتهم، ودون أن يكون للمبادر أو المبحر داخل هذه العملية أية علاقة تذكر.

محتوى مغاير: قوى تدميرية أخرى

منطقيا، وبأقل جهد من التفكير، سنصل لا محالة إلى فرضية اجتياح القوة التدميرية للذكاء الاصطناعي فضاء المعلومات، على نحو يعيد سؤال المعرفة بما سبق، وفي واجهة استقواء  السياسية والاقتصادية الشديدة في المعمور.

 ومن المرجح أن تكون العواقب المترتبة على موثوقية المعلومات واستدامة وسائل الإعلام الجديدة عميقة في زمن يشهد انقسامات واصطفافات حاسمة في ميسم القطبية الغربية والشرق أوسطية على الأرجح، مع استمرار الحروب وتقاطعاتها التكنولوجية والسباقية، وفي ظل هذه الخلفية - ومع توقعات تشير إلى أن الغالبية العظمى من محتوى الإنترنت سيتم إنتاجها صناعيًا ومستقبليات تكنولوجية عالية الدقة، ستحتاج العلوم الإعلامية والاتصالية، ومعها السوسيولوجيا المختصة، إلى إعادة التفكير في دورها وهدفها ببعض الإلحاح.

ولكن لن يقتصر الأمر على المحتوى الذي سيتم شحنه بشكل يثير أسئلة الاجتماع والاقتصاد والتفكير المؤسسي عامة، بل إن التوزيع إياه مهيأ أيضًا لاضطراب كبير. إذ سيكون هذا الوضع والسياق المضطرب والحتمي، الذي سيبدأ فيه طرح تجارب البحث التوليدية (SGE) عبر الإنترنت، جنبًا إلى جنب مع مجموعة من روبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والتي ستوفر طريقة أسرع وأكثر سهولة للوصول إلى المعلومات. في أعقاب الانخفاضات الحادة في حركة الإحالة من Facebook وX (Twitter سابقًا، من المرجح أن تؤدي هذه التغييرات، بمرور الوقت، إلى تقليل تدفقات الجمهور إلى المواقع الإخبارية القائمة وتضع المزيد من الضغط على النتيجة النهائية. حيث إنه في اللحظات المتفائلة، التي يتطلع فيها الناشرون إلى عصر يمكنهم فيه كسر اعتمادهم على عدد قليل من منصات التكنولوجيا العملاقة وبناء علاقات مباشرة أوثق مع العملاء المخلصين. ولتحقيق هذه الغاية، يمكننا أن نتوقع من مالكي وسائل الإعلام بناء المزيد من الحواجز أمام المحتوى، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء مكلفين بحماية ملكيتهم الفكرية.

 وفي الوقت ذاته، سندرك أيضا أن هذه الاستراتيجيات تخاطر بوضع علاماتها التواصلية في حالة من العزلة والتعري، من خلال زيادة صعوبة الوصول إلى الرواد والمتحمسين لتغيير التواصل والامتداد والتفاعل، حيث يشعر الكثير منهم بالفعل بالارتياح تجاه الأخبار التي يتم إنشاؤها خوارزميًا ولديهم علاقات أضعف مع وسائل الإعلام التقليدية. لكنهم بالمقابل، سيرفضون بالتدريج عملية استعبادهم وتحفيزهم على الاستسلام وشح المبادرة والخروج عن سلطة الجماعة أو المجتمع.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

........................

هوامش:

ـ (1) " وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" س سلومان و ف فيرنباخ ـ مبادرة ترجم السعودية، ط1 2022 ـ ص 192

ـ (2) Socialisation des jeunes et éducation aux médias . Divina Frau-Meigs . Divina Frau-Meigs . Éditeur : Érès. Année : 2011/ p. 128

ـ (3) "نظرية الفعل التواصلي: في نقد العقل الوظيفي" م 3 ـ يورغن هابرماس، ت فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ص 317

نبذة عن كتاب: جون ديوي1، الطبيعة البشرية والسلوك

بقلم: بول والتر2، في 15 أبريل

ترجمة: أ. مراد غريبي

***

يقوم الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بتحديث مفهوم الطبيعة البشرية في كتاب لم يُنشر من قبل باللغة الفرنسية ويرسم كل العواقب على المستوى الأخلاقي والاجتماعي من أجل تبرير المفهوم التحسيني للتجربة.

انطلاقا من المحاضرات التي ألقاها في عام 1918 في جامعة ستانفورد حول موضوع "السلوك البشري والمصير"، والتي تمت إعادة صياغتها وتوسيعها بشكل كبير، يقدم هذا الكتاب من تأليف ديوي، الذي نشر في عام 1922 وترجم لأول مرة إلى الفرنسية، نظرة عامة منهجية على مفهومه عن علم النفس والسلوك البشري بالإضافة إلى آثاره الأخلاقية والسياسية. طموح علم النفس الاجتماعي المفصل في الطبيعة البشرية والسلوك ذو شقين. يتمثل التحدي الأول، من خلال فحص نقدي لمفهوم الطبيعة البشرية، في تسليط الضوء على العلاقات الديناميكية والعلائقية التي تشكل وتفسر السلوك البشري، بينما يستخلص التحدي الثاني جميع العواقب المتعلقة بضرورة وإمكانية التقدم الأخلاقي والتحسين التدريجي في الظروف المعيشية للأفراد.

إعادة النظر في الطبيعة البشرية: العادات والدوافع

بين مقاربة "تؤكد على الطبيعة البشرية الأصلية والذاتية" وأخرى "تعتمد على تأثير البيئة الاجتماعية" (ص 11) لشرح السلوك البشري، يجب على علم النفس، وفقا لديوي، فتح مسار، بعيدا عن معارضة الفرد والمجتمع في انقسام عقيم، على العكس من ذلك يسعى إلى فهم كليهما من خلال تفاعلاتهما. إن طموح الفصلين الأولين، المكرسين على التوالي لدراسة العادات والدوافع، هو تفسير هذه الديناميكية بين، من ناحية، القوة المحددة للظروف البيئية الاجتماعية على القيادة من خلال اكتساب العادات، ومن ناحية أخرى، التعبير عن الميول الفطرية والعفوية، المشار إليها باسم الدوافع. يسعى ديوي جاهدا لإظهار أن الطبيعة البشرية ليست بأي حال من الأحوال حقيقة ثابتة أو حتى وهما، بل هي حقيقة اجتماعية وتاريخية متطورة. إنه يحدد مجموعة قدرات عمل الإنسان ككائن اجتماعي وعضوي هو بالضرورة جزء من بيئة يتفاعل معها بلا توقف، ولا يمكن تجريده منها إلا على حساب تشوهات خطيرة.

إن نقد علم النفس الفردي لليبرالية هو مثال جيد على كيفية استخراج التصرفات المتعلقة بالظروف الاجتماعية والتاريخية وتحويلها إلى مجموعة من السمات الثابتة قبل السلوك. وفقا لديوي، كان الخطأ الأساسي للفلسفة الليبرالية هو تصور الفرد على أنه كائن منفصل عن المجتمع وحامل لتفضيلاته وهياكله الخاصة. ضد مثل هذا الخيال، يتحدى ديوي الاعتقاد بوجود التصرفات الأصلية من خلال تحليل الدور الأساسي الذي تلعبه العادات في السلوك الذي يتم فرضه بعد ذلك في شكل طبيعة بشرية أصلية وغير تاريخية وعالمية. على وجه الخصوص، يعارض الاختزال السلوكي للعادات إلى الهياكل الميكانيكية والمتكررة، وهو اختزال يهمل البعد الاجتماعي والتفاعلي العميق للسلوك، والذي، وفقا له، من شأنه أن يكمل حل الثنائية بين الفرد والمجتمع، وبين الفكر والعمل. بالنسبة له، العادات هي القوى الدافعة الحقيقية للقيادة وهي في صميم جميع أنشطتنا، من الأكثر روتينية واللاوعي إلى الأكثر ذكاء وطوعية ("العادة تعني الإرادة"، ص 43). بدونها، يحرم السلوك من المعنى والاستمرارية، ويتم توجيهه بشكل أعمى. تمتلك العادات قوة هيكلية لا مثيل لها على السلوك: فهي لا تشكل مجال تجاربنا وتجعل التفكير والعمل ممكنا فحسب، بل إنها مدمجة بعمق فينا لدرجة أننا في نهاية المطاف نحدد أنفسنا بها "الجسد والروح". إنها تتخلل كياننا وصولا إلى أصغر الألياف، وتشكل شخصيتنا من جميع جوانبها، لدرجة أن الإنسان بالنسبة لديوي هو مخلوق من العادة أكثر من كونه كائنا للعقل أو الغريزة.

في الفصل الثاني، يحتج ديوي على علم النفس الغريزي الذي يختزل السلوك البشري إلى مجموع الغرائز، أي الميول الأصلية والعضوية المنظمة. على هذا النحو، وعلى عكس الغرائز، يقترح ديوي أن الدوافع عمياء وغامضة وبدون توجيه أولي. على الرغم من أن العادات قد تكون مكتسبة وثانوية، إلا أنها تكتسب أولوية تفسيرية ومنهجية على الدوافع. في الواقع، يشير ديوي إلى أن "معنى الأنشطة الفطرية ليس فطريا، بل يتم اكتسابه ويعتمد على التفاعل مع وسيط اجتماعي مثبت" (ص 78). ومن المفارقات أن الدوافع ثانوية في تفسير السلوك، في حين أنها أساسية من وجهة النظر الفسيولوجية.

إذا أخذنا بالمعنى الإيجابي، فإنها تعمل كعوامل لإعادة تعديل السلوك وإعادة تنظيمه، وتوفر المادة التي تتطور منها العادات وتتطور. طبيعتها البلاستيكية توازن الصلابة التي تميل العادات إلى التوافق فيها، وتلعب دور المحاور "التي يتم إعادة تنظيم الأنشطة حولها" والتي تعطي العادات "توجهات جديدة" (ص 80). لا توجد في حالة كامنة، ولكن فقط في تعبيرها ذاته، والذي، كما يجادل ديوي، أدى إلى تدمير الإيمان بالتأثيث الأصلي للإنسان والتي بموجبها سيكون من الممكن استنتاج المنظمات المحددة والمؤسسات الاجتماعية. إن تفسير أو شرح أصل المجتمعات البشرية من خلال غريزة أو حرب خضراء وفقًا للميل الفطري والطبيعي للعنف لا يفسر فقط الأسباب بالآثار، ولكنه يخلط بين ما ينبثق من العوامل البيئية مع الاستعدادات الفطرية.

في هذا الصدد، في القسم المعنون "تغيير الطبيعة البشرية"، ينتقد ديوي بشدة "علم الحيوان السياسي" (ص 93)، الذي يطارد الفلسفة السياسية وكذلك الاقتصاد والأخلاق، والذي تبرر تمثيلاته المجردة والمعاد صياغتها للطبيعة البشرية المؤسسات السياسية والاجتماعية، في حين أن الأخيرة هي في الواقع التي تشكل تمثيلات الطبيعة البشرية بينما تدعي أنها تستمد منها الضمانات النهائية.

ونتيجة لذلك، من السذاجة، على سبيل المثال، افتراض وجود ميول عدوانية لا يمكن القضاء عليها لتفسير الحرب، عندما تكون الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي، بكلمة واحدة، مؤسسية، هي التي تولدها. يوضح ديوي أن الحرب "يمكن أن ينظر إليها بعد ذلك على أنها وظيفة للمؤسسات الاجتماعية، وليس ما هو جزء من دستور بشري أصلي وثابت" (ص 96). وإذا كان ديوي لا يعتقد للحظة أنه من الممكن أن نستنتج من الفحص الدقيق والصادق للطبيعة البشرية بنية اجتماعية معينة أو منظمة للعلاقات الاجتماعية، فهو من ناحية أخرى مقتنع بالحاجة إلى مراعاة إمكانيات العمل البشري بجدية وموضوعية قدر الإمكان من أجل تبرير مفهوم تحسين الأخلاق و الخبرات.

الأخلاق والذكاء

الفصل الثالث والأخير، المكرس لمكان الذكاء في السلوك، يمنح ديوي الفرصة لدراسة العلاقة الوثيقة والأساسية بين السلوك والأخلاق. ينطوي السلوك دائما على بعد أخلاقي بمجرد ظهور البدائل. ثم يتم اتخاذ الخيارات بالإشارة إلى ما يعتبر الأنسب لحالة معينة. من هذا المنظور، لا تقتصر الأخلاق على مجال معين من الحياة، ولكن من المحتمل أن تتعلق بأي نوع من الممارسة والموقف، مهما كان (اقتصادي، سياسي، فني، إلخ). يأسف ديوي لحقيقة أن الأخلاق كانت تستند إلى تمثيلات مجردة للطبيعة البشرية، مما أدى إلى نظريات أخلاقية خاطئة ومعيبة. "أي أخلاق منفصلة عن الجذور الحقيقية في الطبيعة البشرية"، كما يكتب، "محكوم عليها بأن تكون سلبية بشكل أساسي" (ص 15): يجد علم النفس الاجتماعي المبين في الفصلين السابقين هنا أهم نقطة تطبيق له.

 إن الالتزام الأحادي الجانب بالمبادئ الأخلاقية الثابتة أو القواعد المحددة سلفا هو ما يجعل الأخلاق غير فعالة وغير كافية. لأنه يعمي الأفراد عن واقع المشاكل اليومية ولأنه يعقد بشكل مصطنع الحل الفعال والذكي لهذه المشاكل. على وجه الخصوص، يؤدي إلى إزالة المبادئ الأخلاقية من أي تجربة، وبالتالي من أي إعادة تقييم. الغرض من الأخلاق ليس تكييف المواقف مع المبادئ الأخلاقية، وفقا لديوي. ولكن لتكييف القواعد والمعايير الأخلاقية مع المواقف نفسها. يجب اعتبار المداولات الأخلاقية بعد ذلك "تجربة لمعرفة ما هي خطوط العمل المختلفة حقا، تجربة في مجموعات مختلفة من عناصر معينة مختارة من العادات والدوافع، من أجل معرفة كيف سيبدو الإجراء الناتج إذا تم تنفيذه" (ص 149).

نظرا لأن المواقف لا تزال إلى حد كبير خارج قدرتنا على التنبؤ والتوقع، وبما أنه من المستحيل دائما النظر بدقة في المعايير التي نتصرف وفقا لها بخلاف الاعتماد على العادة، فمن الضروري اعتبار المبادئ الأخلاقية فرضيات يجب اختبارها وتجريبها، أي "طرق التحقيق والتنبؤ" (ص 184). يرتبط البعد التجريبي والمؤقت للمبادئ الأخلاقية ارتباطا وثيقا بطبيعة المواقف ذاتها التي، على هذا النحو، هي دائما فريدة ومتطورة باستمرار، ولها غاياتها وخصائصها الخاصة. يكتب ديوي أن كلمة "جيد" ليست أبدا بنفس الجودة مرتين. إنه لا ينسخ نفسه" (ص 164). وهذا هو السبب في أن البحث الأخلاقي يجب أن يكون أولا حساسا ومنتبها للطابع المكاني والمؤقت للغايات الموجودة في كل موقف، وثانيا، يجب أن يكون قادرا على إنتاج استجابات تتكيف مع كل منها. هذا هو السبب في أن النظرية الأخلاقية التي تم تطويرها ضمنيا في الطبيعة البشرية والسلوك هي في الأساس نظرية محددة وسياقية.

يدافع ديوي بقوة و فعالية عن فكرة أن السلطة الشرعية الوحيدة في مسائل الأخلاق لا يمكن إلا أن تكون الذكاء، والتي، ككلية عملية، تبدو الأكثر كفاءة لحل مشاكل التجربة بشكل فعال وواضح. بما أن الأخلاق ليست خارجية للتجربة، فمن هذا الأخير ومن دراسة السلوك يجب أن تظهر المعايير الأخلاقية للخير، وليس من مبادئ متعالية بداهة أو من العادات والمعايير الاجتماعية التي تجرد من الواقع البشري. إذا كان الفعل يعتمد بشكل أساسي على الفعل المشترك للعادات والدوافع، يؤكد ديوي على أن الوظيفة الرئيسية للذكاء يجب أن تكون النجاح في التمييز والتقييم بين الميول الاجتماعية والعضوية، تلك التي تفضل أو لا تفضل توسيع الخبرة - ومن هنا الدور البناء للذكاء منذ ذلك الحين. يجب أن يكون قادرا على إعادة تعريف الأفعال والمواقف بشكل مشترك، وزيادة القدرة على التحكم في أفعالنا عن طريق إبعادها عن روتين العادات أو التفريغ المفاجئ للدوافع. والهدف من هذا التركيز هو جعل الأفراد -ليس فقط أكثر وعيا بأفعالهم وعواقبها-، ولكن أيضا أن يصبحوا أكثر وعيا من خلالهم بنصيبهم من المسؤولية والمشاركة. وبالتالي فإن زيادة السيطرة تعني في المقابل زيادة في المسؤولية، وبالتالي تحظر إيجاد ملجأ في الأخلاق المجردة التي من شأنها أن تعفي الفرد من كل مسؤولية. يمكن أن يصبح الذكاء أداة قوية للتغيير، ليس من خلال معارضة العادات المكتسبة والدوافع الفطرية، ولكن من خلال تشغيلها بطريقة يتم تحويلها عن وظائفها الأولية لزراعتها نحو غايات واعية تزيد وتثري معنى تجاربنا. هذه الزيادة في التحكم الذكي في المواقف تقود ديوي إلى تلخيص الوظيفة الرئيسية للأخلاق في شكل "حتمية": "تصرف بطريقة تزيد من الشعور بالتجربة الحالية" (ص 217). ومع ذلك، فإن هذا الشرط محكوم عليه بالعجز طالما لم يتم التعرف على الطابع الاجتماعي للأخلاق بشكل أفضل. للتأكيد على هذا الجانب يعني أن قوة التحول الاجتماعي للأخلاق يتم التعبير عنها قبل كل شيء من خلال تكوين عادات جديدة قادرة على توجيه الرغبات والأحكام الفردية نحو غايات جماعية، بطريقة "تعزز الظروف التي من شأنها توسيع آفاق الآخرين ومنحهم السيطرة على قوتهم الخاصة، لكي يجدوا سعادتهم كما يحلو لهم" (ص 225).

خاتمة

 إذا كان مفهوم الطبيعة البشرية الموضوعية والعالمية في الوقت الحاضر يبدو مشكوكا فيه أيديولوجيا بقدر ما هو قديم من الناحية المفاهيمية، يقترح ديوي تحديثا أصليا وذا صلة له يفكك بشكل فعال الاختزالات والتمثيلات المجردة بالإضافة إلى الاستخدامات السياسية التي غالبا ما تفسح لها هذه الفكرة نفسها. الآن، هل يفلت مشروع ديوي تماما من الانتقادات التي يوجهها باستمرار إلى الفلسفات والنظريات التي تجعل الطبيعة البشرية أساسية؟ في الواقع، يمكن للمرء أن يشكك بحق في موضوعية المشروع وأهميته الحقيقية التي ترغب في تبني مفهوم موضوعي بما فيه الكفاية للطبيعة البشرية ليكون متوافقا مع العلوم الطبيعية، من أجل تبرير أمور أخرى، التقدم الأخلاقي والاجتماعي للسلوك البشري. لكن هذا بلا شك حل وسط ضروري، بمجرد قبول فكرة أن الأخلاق، مثل السلوك، في استمرارية مع علم النفس أو الاقتصاد أو التاريخ أو علم الأحياء، وبالتالي فتح وجهات نظر وتطبيقات جديدة لم يتم استكشافها بعد. إن مفهوم السلوك، المركزي للغاية، هو قبل كل شيء مفهوم مستعرض يعبر عن تعدد الأبعاد والتفاعلات. تأتي كل أصالة ديوي من حقيقة أن تحليلاته تقع على مفترق طرق هذه التخصصات وتسمح لنا بإقامة حوار بينها، و هو بلا شك أكثر من ضروري خارج الحدود المؤسسية.

ثم هناك مشكلة معرفة كيف يمكن تعبئة هذه المعرفة بشكل فعال لتكون بمثابة أساس لشكل من أشكال الهندسة السياسية والاجتماعية القادرة على المساهمة بشكل كبير في التقدم الاجتماعي. لكن بالنسبة لهذا السؤال، لا تدعي الطبيعة البشرية والسلوك أنها تقدم إجابات محددة. من ناحية أخرى، تبرز كقراءة لا غنى عنها تلقي ضوءا حاسما على كتابات ديوي السياسية والأخلاقية اللاحقة، والتي تتوافق مع الأطروحات التي طورها هناك. أخيرا، يظهر ديوي بشكل مقنع أنه من غير المجدي تجنب تحليل الفعل البشري بقدر ما تستند أي فلسفة سياسية وأخلاقية، مهما كانت، إلى مفاهيم أكثر أو أقل وضوحا لما يمكننا توقعه أو عدم توقعه من الأفراد.

في الواقع، سواء كان المحافظون الأكثر تشاؤما من ناحية أو المصلحين الاجتماعيين الأكثر تفاؤلا من ناحية أخرى، فإنهم جميعا يبنون مشاريعهم وأيديولوجيتهم إلى حد كبير على تمثيلات الطبيعة البشرية وقدراتها المتأصلة، على الرغم من أنها تعتبر خاطئة وغير متوافقة مع الحقائق التجريبية وفقا لديوي. لهذا السبب، في رغبته في إعطاء الصورة الأكثر دقة وواقعية ممكنة للطبيعة البشرية، كان ديوي يأمل في أن يعزز علم النفس الاجتماعي ثقتنا في البشر ليصبحوا أفضل.

***

.........................

* جون ديوي، الطبيعة البشرية والسلوك، الترجمة الفرنسية لبرتراند روج، باريس، غاليمار، 2023، 254 ص

1- عالم نفس وفيلسوف أمريكي كبير، ينسب للتيار البراغماتي الذي طوره في البداية تشارلز س. بيرس وويليام جيمس. كما كتب على نطاق واسع في مجال علم أصول التدريس، حيث يعد أيضا مرجعا في مجال التعليم الجديد.

2- دكتوراه في الفلسفة من جامعة بروكسل الحرة يركز بحثه على مفهوم الطبيعة في الفلسفة الأمريكية خاصة لدى الفلاسفة البراغماتيين مثل ديوي وميد.

 

في المثقف اليوم