آراء

آراء

تعلن الوطن كونيه العراقية عن اقتراب "يوم القيامه" ونهاية الزمن الارضوي من التاريخ البشري، انما بالصيغة النهائية المكتمله بعد تلك الاولى  التي اعلنت في حينه مقررة نهاية الحياة على كوكب الارض،  مع الاختلاف الجوهري في المقصد والوسائل والدلالات، اليوم ياتي النداء متزامنا  مع الاعلان عن نهاية المجتمعية الارضوية، تلك التي  ظلت سائدة وغالبة على مدى التاريخ اليدوي، الى ان حلت لحظة الانتقال الكبرى الاليه،  ومعها انتهى تاريخ  وضرورة الوجود البشري على كوكب الارض، ما يعني التلازم بين الوسيلتين الانتاجيتين تتابعا، من الجسدوية الحاجاتيه، الى العقلية، فالانتقال الالي ليس كما ظل يقال ويفهم كانتقال من محطة الى محطة، ومن مرحله الى اخرى تشبهها مع اختلاف الوسائل، بل كانقلاب في النوع المجتمعي يحاكي الازدواج التكويني البشري، وسيرورة تشكله وترقيه عقليا.

 انتهى الجزء الارضي من التاريخ البشري باعتباره ضرورة انتقالية لازمه لاجل ترقي العقل  ووثوبه الوثبة الكبرى الثانيه، بعد تلك الاولى التي عرفها ابان تغير بنيته مع الانتصاب على قائمتين وتوفر اسباب النطقية واستعمال اليدين، وقد حضر شاخصا بعد ملايين السنين من الاختفاء تحت طائلة الغلبة الحيوانيه شبه المطلقة، ليذهب من يومها نحو ما يكرس استقلاليته بتخلصه من متبقيات الحامل الحيواني الجسدي وقد انتهت مهمته الطويلة،  وانقضى دوره مع وفي غمرة المحطة الاخيرة المجتمعية وتفاعليتها عبر  وقفتين، اولى يدويه، وثانيه اخيرة آليه/ تكنولوجيه عليا.

  هنا تدخل البشرية مالا عهد لها به مطلقا، ولم يسبق ان قاربته حتى تخيلا حين يتجسد ذلك بالاخص ممارسة وكموقف، هو من دون شك حضور لعالمين بينهما فاصل لايكاد بالامكان اختراقه، وحتى بالمقارنه بالتضاد السماوي الارضوي التعبيري الاول، فان الوضع الراهن يتعدى ما سبق من تباين واختلاف ارضوي غالب،  مقابل السماوي بصيغته النبوية الابراهيمية  الحدسية الاولى، ففي الماضي كانت السماوية تقول بالذهاب الى "العالم الاخر" بعد الموت ونهاية الجسد،  وهو ما يمكن افتراضه كاحتمالية غير وارد التثبت منها، في حين صار الانتقال اليوم حياة وحالا معاشا، يغدو اكثر فاكثر اجباريا، دونه الاختفاء من الوجود والفناء، هذا والوسيلة المتاحة القابلة للاستعمال لاثبات ماهو وشيك، " كتابيه" مفهومية من جنس ونوع النمطية الكونية اللاكيانوية واللاارضوية الموشكه على الحلول محل الارضوية، بمقابل كل عدتها ومتبقياتها المادية المنظوريه، مضافا لها  جملة ما قد تحقق للارضوية مع الالة من اسباب  القوة الفائقة، والشعور بالصوابيه المطلقه، ارتكاز للمتحقق من منجز متاخر.

"انتقال الى العالم الاخر  بلاموت" ياله من نداء افتراقي عن كل مامعتبر وجودا حيا كما تفترض النظرة البداهية الجسدوية، تلك التي تاخذ الجسد البشري على انه حقيقة نهائية غير مطروح ولا وارد تصور ذاتية بشرية من دونها، ما يجعل تخيل الاحتمالية التحولية مستحيلا، علما بان المطروح اليوم ومن هنا فصاعدا ليس بالقدر الجاهز، بقدر ماهو قناعة وفعل، فلا انتقال الى الاكوان  الاخرى اللامرئيية من دون تركيز للفعل والمجهود البشري خارج الجسدية، وبمنحى التخلي من هيمنتها الطويلة،  ذهابا الى تعزيز سلطة العقل على اعتباره اداة انتقالية غير  مدركة، ولا مقدر بعدها واثرها الاستثنائي المختلف كليا، ف  "العقل العقلي " هو غير "العقل الجسدي" الحالي المتعارف عليه، والمحكوم لممكنات الجسدية وشروطها، وعقل الخر وج من حكم الجسدية، هو قطعا وكليا غير العقل الحالي من حيث نوعية الادراكية الاعقالية، ولدينا هنا ما يمكن مقارنته مثلا بين العقل الذي كان موجودا ابان الطور الحيواني وطغيانه، مقارنه بالعقل بعد الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية.

  انقلاب هائل لا يمكن للعقل الحالي تخيله، صارت متوفره أسباب انبثاقه ماديا وادراكيا ، هو بالاحرى المسار الطبيعي للانقلاب الالي بخلاف مايشاع عنه من توهمية قصورية تضعه بموقع التعاقبية الوراثية التبسيطيه مع الطور اليدوي، ومع الجمود الاولي الابتدائي من دون تحر عن احتمالية مختلفة لتلك المعروفه يدويا، مع ما ينطوي عليه اجمالي الموقف من الانقلابيه المستجده من نظر جاهز ومسبق، بلا انتظار للاحتمالية الواجبة الافتراض منطقا، بالاخص بناء لدخول عنصر اساس ضمن كينونة وديناميات الظاهرة المجتمعية، ومايتولد عن ذلك من اصطراعية بنيوية مجتمعية غير مسبوقة، مع نتائجها غير القابله للاستكناه ابتداء، علما بانها لحظة انقلابيه وبداية طور اخر مختلف.

 وكل طور بحسب نوعه له مقتضيات موافقه لطبيعته حتما، واذ تزول ممكنات الجسدية والاحتكام لها ولمتطلباتها وحدودها، فان محركات وموجبات الوجود والاستمرار تتغير بجملتها منقلبة هي الاخرى، الامر الذي يتكفل به مسار الاشياء وماينتظمها من قانون تفاعلي تاريخي، حري بان يتجاوز لحظة الالية اليدوية الاولى الاوربيه  منظورا ونموذجا، مع مايعتورها وتتسبب به من تهيئة للاسباب اللازمة والضرورية لبدء تغلب الانقلابيه الوجودية الثانيه، العقلية مكان الجسدية.

  تسود ابان الانقلابيه الاليه حالة تواز بين مسارين،  الارضوي الاوربي الالي التوهمي، يقابله اللاارضوي غيرالناطق  المابين نهريني، وبينما تمر اوربا بفترات التفاعلية الالية ابتداء من القرن السابع عشر،  تعرف ارض الرافدين بموازاتها ومقابلها الانبعاث الثالث الراهن الحالي المستمر من القرن السادس عشر في ذات ارض سومر الاولى، بعد الدورتين الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وما فصل بينهما من انقطاع هو حكم القانون الناظم لتاريخ هذا الموضع الازدواجي من العالم ما بين الدورات، وبمقابل المتغيرات الاوربية الانقلابيه تظل منطقة الازدواج بلا نطقية، تمر بفترات تتعاقب بين  القبليّة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ثم الانتظارية النجفية بين القرن الثامن عشر والعشرين، وصولا الى الالية التوهمية الافنائية الاستعمارية، وقت يدخل الموضع اللاارضوي ساعة الاصطراع الافنائي بين طبيعته ونوعه النمطي الكوني المتعدي للكيانيه، والالية اليدوية الكيانوية التسلطية الاوربية نموذجا، حين يسود من وقته مفهوم "الوطنيه الايهامية"  العراقية الايديلوجية الويرلندية الاتباعية / التحررية بالمنظور المستعار الغربي الايهامي/ على مدى يفوق القرن، تظل النطقية الذاتيه "الوطن كونيه العراقية" ابانه غائبة، بينما النموذجية الغالبة التوهمية الاوربية تتجاوز مدى استمرارها، وتقارب  انتهاء الصلاحية بعد بدء افول النموذج الثاني المتغلب النهائي الاكبر بينها،  وممثلهاالامريكي المفقس خارج رحم التاريخ، عند محطة العولمه وتجاوز وسيله الانتاج للنموذج الكياني والانتاجية الارضوية.

  ـ يتبع ـ ملحق: ديناميات الانقلاب الالي اللاارضوي.

***

عبد الأمير الركابي

مَن لم يعرف حزب «الدَّعوة الإسلاميَّة»، قبل (2003) عرفه بعدها، كان ضمن مجلس آل الحكيم، ثم توزع على البلدان، أَّما فقيهه فظل بقّمّ، وهو صاحب (213) فتوى قتل أطفال وحوامل، وسطو على البنوك، حواها «دليل المجاهد»، لم يعط الحزب رأياً في لائحة فقيهه الإفتائيَّة، صاحب (12) مكتب بالعِراق.

ما زال اللَّغط في تاريخ الحزب، جماعة تعد التَّأسيس (1957)، وربطته بالمولد النّبويّ، بينما المؤسسون حددوه بـ(1959)؛ لذا تَمرُّ الذكرى باهتة، خالية مِن حقيقة المناسبة، فالحزب حتى الثمانينيات، وإعلانه الذوبان في قائد أجنبيّ، لم يصدر بياناً واحداً.

ظهر حزب «الدّعوة»، بالخارج، متشظياً إلى جماعات، بل بدأت الانشقاقات في الداخل بعد التأسيس بفترة وجيزة واستمرت، ويُحسب للدعوة، أنه كان ضد الحصار على العراق (1990-2003)؛ وكان هو والحزب الشيوعي العراقي مِن قوى المعارضة آنذاك، على خلاف «المؤتمر الوطني» (أحمد الجلبيّ)، كان متشدداً تجاه الحصار، بذريعة أنَّ النّظام يستفيد مِن رفعه.

كذلك جماعة مِن الدَّعوة، لم تر نظرية ولاية الفقيه على هذا الموقف، خالفت هذه الجماعة الآخرين، مِن الإسلاميين الشّيعة. بعدها جاءته رئاسة الوزراء، ولم يُقدم مَن يُشار إليه برجل دولة، بقدر ما أجادوا الاستحواذ على الوظائف بالنفوذ والمال العام، فقد يُجيد المعارضة أيَّ أحد، أما السُّلطة فهي الاختبار الأكبر.

كان المفروض، بعد التَّجربة، يبرز الدَّعوة عراقياً، لا طائفيَّاً، لكنه صار قطب الرَّحى للطائفيَّة. عاد أمينه ينادي بثنائية يزيد والحُسين، وعندما عُزل شبّه نفسه بعليَّ بن أبي طالب (اغتيل:40هج)، السُّلطة عنده، كما اعتبرها عليّ: «عفطة عنز» (نهج البلاغة)، بينما تأبط، مِن أجلها، اسم المختار الثقفيّ (قُتل: 67 هج)، لقبه: «مختار العصر»، والمختار لم يتردد مِن قتل أحد أبناء عليّ (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك)، عندما خالفه.

لم يستفد «الدّعوة» مِن دروس المعارضة، ليخلع ثوب الطّائفيَّة المسموم، وهو في السُّلطة، فصار مسؤولاً عن كبائر، ومازال منتشياً ببناء سواتر طائفيّة جديدة، داعماً لقرار «الغدير» عيداً، لغرض كسب الجمهور الشّيعيّ، ببيان فاقدٍ للحكمة: «الغدير هو مناسبة للوحدة والمحبة، في ظل الرسالة الإلهية، وتحت خيمة الوطن الواحد» (مكتبه الإعلامي 22/5/ 2024).

كيف اعتبر «الدّعوة» احتفال الدَّولة بالغدير «خيمة الوطن»، بينما ملايين العراقيين، عرب وكُرد وتركمان، لا يقرون «الغدير» سياسياً! كيف يخص عموم المسلمين، وعندما رسموا المناسبة، علت الهتافات الوضيعة ضد رموز الآخرين؛ مع علمنا أنَّ مِن فقهاء الشِّيعة لم يحسموا اعتقادهم بالإمامة، لكن «الدَّعوة» يرقص بنغمة الطائفيّة عليها؛ وهذا نعتبره ذوباناً لا وطنياً آخر، بعد ذوبانه المشهور.

بعد «الغدير» تحرك «الدَّعوة» لفرض أحوال شّخصيّة كارثية على العراقيات؛ بإلغاء السن القانوي للزواج (18) عاماً، ويجوز لمن بلغت التاسعة، بل يجوز تملكها قبل ذلك، وإنقاص حضانة الأمّ، وربط النَّفقة بالاستمتاع، حسب الرَّسائل الفقهية المراد تطبيقها، فارتفعت أصوات العراقيات، ضد هذا التَّدبير.

جاء بيانه: «الحرية هي سمة أساسية مِن سمات العهد السياسي الجديد، حيث لم يشهد لها تاريخ العراق الحديث مثيلاً، وهي وليدة التَّضحيات السَّخية للعراقيين الأحرار من المكونات كافة، وقد جاء تعديل قانون الأحوال الشَّخصية ليرسخ حرية الإنسان العراقي»(30/7/2024).

لا ندري كيف يُنشأ حزب «الدعوة» بياناته، ما العلاقة بين إلغاء قانون وطني موحد، والحرية والتجديد؟ أمن أجل الظَّلاميَّة المعتمة كانت التَّضحيات؟!

قال الشّاعر الأمويّ حمزة بن بِيْض، متحدثاً إلى الوليد بن يزيد (قُتل: 126هج)، وقد وعد بإزالة ما تركه عمّه هشام بن عبد الملك(تـ: 125هجرية): «وصلتَ سماءَ الضّرِ بعدما/ زَعمتَ سماءَ الضّرِ عنَّا ستقلعُ/فليت هشاماً كان حياً يسوسنا/ وكنا كما كُنا نُرجِّي ونطمعُ(الأصفهانيّ، الأغاني). أقول: لو تُرك العراقيون يرجّونَ نظاماً جديداً، أفضل، ألف مرة، مِن العودة بهم إلى الوراء، بأكاذيب الحرية والوطنيَّة، مثلما هي بيانات الدَّعوة الدعائيَّة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

عزيزي القارئ في ظلّ الظروف التي يعيشها العالم والحرب القائمة بين فلسطين والكيان المحتل، أريد أن أحدثك قليلاً عن تاريخ فلسطين، لا ليس التاريخ الذي يجول بخاطرك الآن بينما تقرأ هذه السطور، بل التاريخ المخفي والذي لا يعلمه إلا القلّة، وأكاد أجزم أنك لم تعر اهتماماً بالغاً للقضية إلا بعد أحداث حي الشيخ جرّاح سنة 2021 أو أحداث السابع من أكتوبر 2024.

حسناً قبل كل شي أريدك أن تتجرد من كل الماديات المعيقة لسفرنا، فأنت ستذهب معي في رحلة زمنية روحية لمعرفة التاريخ الحقيقي، دع روحك تحلق معي في رحلة تاريخية فريدة من نوعها.

نحن الآن في إحدى دول أوروبا الشرقية في ثمانينات القرن التاسع عشر، لا ليست أوروبا التي يتم الترويج بأنها بلاد حقوق الإنسان والحريات، البلاد المتحضرة التي أخرجت دول إفريقيا من البربرية والهمجية وأدخلتهم طور الإنسانية كما تدعي، بل أوروبا المتوحشة الظالمة والعنصرية أوروبا كما لم تعهدها من قبل، انظر هناك هل ترى أولئك الرجال الذين يتم الاعتداء عليهم دون شفقة أو رحمة؟ يُضرَبُون بالنِّعال على وجوههم وبطونهم من قبل الروس؟ أظن أنه يجول ببالك أنهم قد فعلوا أمراً شنيعاً كي يُضربوا ويُعاقبوا بتلك الطريقة؟ أريد أن أخبرك أنه تم الاعتداء عليهم فقط لأنهم يهود، هؤلاء هم يهود أوروبا!

نعم نعم اليهود الذين أصبحوا الأطفال المدللين لأوروبا والولايات المتحدة في عصرنا كانوا قديماً يُقتلون ويتم التنكيل بهم بأبشع الطُرق بل أُقيمت العديد من المجازر في روسيا وغيرها من الدول، قُتل فيها عدد كبير من اليهود، لكن الكراهية ضد اليهود تعود لأقدم من ذلك بكثير، تقريباً منذ ظهور محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال مروراً بعزل اليهود في أحياء منزوية في القرون الوسطى في أوروبا المسيحية، إلى حين ظهور السامية وهي حركة معادية لليهود، ومع تزايد التنكيل باليهود وبقائهم مشردين في العالم، تأسست الصهيونية كفكر إيديولوجي على يد الصحفي النمساوي اليهودي "ثيودور هرتزل" وتدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود، هذا موجز لتاريخ اليهود في أوروبا.

نحن الآن في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فترة تشكل الأحلاف العسكرية حسب المصالح التي تجمع بين الدول، فظهر حلف الوفاق والحلف الثلاثي، وبعد مدة من بداية الحرب انضمت الإمبراطورية العثمانية لساحة المعركة وكانت في صف ألمانيا ولكن لسوء حظها انضمت للطرف الخاطئ فمع خسارة ألمانيا الساحقة في الحرب وميل الكفة لحلف الوفاق بدأت الإمبراطورية العثمانية في خسارة أراضيها الواحدة تلو الأخرى، ولم يكن في وسع الخليفة فعل أي شيء وبالتالي بدأت الدول العربية الموالية للإمبراطورية في التخلي عنه.

ها نحن الآن نحلق عبر القارات كما حلقنا قبل قليل عبر الزمن، فكانت وجهتنا القارة الإفريقيّة وتحديداً مصر، قصر السفير البريطاني في فترة الحرب الأولى السِّير "هنري مكماهون" ها هو يروح ويجيء أمام ناظريك ضاماً يداه إلى الخلف يبدو عليه أنه متوتر بعض الشيء وينتظر أمراً هاماّ، أُريدك أن تغوص في أفكاره وتعرف ما يجولُ بخاطره، هل وجدت صعوبة في ذلك؟ حسناً لا عليك إنها تجربتك الأولى، دعني أخبرك ما يجول بخاطره وما يخطط له هذا الرجل، إنه ينتظر شخصاً يدعى "رونالد ستروس " السكرتير الشرقي للبعثة البريطانية المكلف بنقل المراسلات بين "مكماهون" السفير البريطاني والشريف "حسين بن علي "ملك الحجاز، حيث قام السكرتير بأربع رحلات إلى الحجاز كما قام بترجمة رسائل الشريف "حسين" للسفير، والآن "مكماهون" ينتظر الرسالة التي ستحسم كل شيء. أرى أنك تتساءل عن موضوع المراسلات وعن العلاقة الغريبة التي تجمع بين سفير بريطاني وملك الحجاز، تمهل لحظة وستفهم كل شيء.

أخيرا وصل "رونالد" إلى قصر السفير، قدّم له الرسالة المترجمة وطلب الإنصراف، فتحها "مكماهون" وقلبه يرتجف من الردّ، فجأة اتسعت عيناه وفغر فاه مبتسماً، أخيراً وافق "الشريف حسين" على الطلب، فمنذ مدة طلب السفير مساندة العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية مقابل وعد منهم باستقلال الجزء العربي الأسيوي عن الإمبراطورية العثمانية والاعتراف به كدولة عربية تحت قيادة" الشريف حسين"

.منذ البداية كان يدرك السفير البريطاني أن ملك الحجاز لن يفّوت على نفسه فرصة كهذه، فهو يحلم بإنشاء دولة عربية كبرى مستقلة عن العثمانيين، حيث أن علاقته بهم كانت سيئة، فالإمبراطوريّة العثمانية كانت منحازة بعض الشيء للأتراك بالإضافة لمصادرتها الأملاك والأراضي علاوة على فرضها التجنيد الإجباري خلال فترة الحرب العالمية الأولى مما أدّى إلى توتر العلاقة بين العرب والأتراك، لذلك حرصت بريطانيا على استغلال الوضع وجذب العرب إليها؛ وفي عام 1916 اندلعت الثورة العربية الكبرى بعد أن أطلق "الشريف حسين "رصاصة من شرفة قصره و شارك معه ضابط الاستخبارات البريطاني "لورانس "الذي اشتهر" بلورانس العرب " وحققت انتصارات وأنهت بذلك الوجود العثماني في الحجاز والشام وصولاً إلى تأسيس الدولة العربية في سوريا أولاً ثم في العراق والأردن، وبالرغم من وعود بريطانيا للعرب بتكوين الدولة العربية إلا أنها قد نقضت وعدها بعد أن أَجرت اتفاقيات سريّة مع فرنسا وروسيا تم بمقتضاها اقتسام أراضي الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية، ثم بعد ذلك انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية سميت باتفاقية سايكس بيكو (1916) نسبة إلى كل من المندوب البريطاني" مارك سايكس" والمندوب الفرنسي "فرانسوا نزلجورج بيكو"، وبموجب هذه الاتفاقية تقاسمت فرنسا وبريطانيا البلدان العربية وأُخضعت كل مناطقها للاستعمار تحت اسم الانتداب، وفي نفس السنة أعلنت بريطانيا وعد بلفور المشؤوم الذي دعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين الصادر في الثاني من شهر نوفمبر سنة 1917.

و قد أرسل هذا الوعد وزير خارجية المملكة المتحدة "أرثر جيمس بلفور "إلى اللورد "ليونيل والتر دي روتشيلد " وهو أحد أبرز الوجوه في المجتمع اليهودي البريطاني.

و بعد نهاية الحرب الأولى وانتصار حلف الوفاق وانهيار دول الحلف الثلاثي تم توقيع اتفاقيات قاسية ضده، وكانت أيضاً بداية نهاية الدولة العثمانية نتيجة تهور حاكمها بانضمامه للحرب فإنه وضع المشرق العربي في براثن بريطانيا وفرنسا.

وفي مؤتمر فرساي للسلام مُثّل الشريف" حسين" ابنه " فيصل "الذي رفض المصادقة على معاهدة فرساي رافضاً بذلك الانتداب على سوريا وفلسطين والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا.

و لكن في الأخير وضعت منطقة المشرق العربي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

***

آمنة المسلمي

 

تشرين الثاني عام 1632

كتب سبينوزا غي كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة: " (ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف.. إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل)

يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً : " إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك، لا تبك، لا تكره، عليك أن تفهم ". يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير، فكل سيد على افكاره ".

وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا: " يقول سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية ". كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): ".. إنه الخوف، إذن، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها ".

ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا: "يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية. وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير ".

وفي كتابه سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء ". الانسان الحر ايضا مبتهج، ولطيف، ومتسامح. وهو، في مزاجه، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص: الكراهية، والحسد، والاستهزاء، والإزدراء، والغضب، والانتقام، وغير ذلك من الانفعالات الضارة.

في روايته مشكلة سبينوزا يكتب عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار: قال سبيتوزا: لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات، فما دام هناك جهل، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد.

فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم. ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً. وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة، فعليّ أن أعيش دون طائفة "

يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا: " كيف يمكن للفرد العادي، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية "، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم". يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية: " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه، ولكن رده كان دائما هو الاحترام. عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره".

وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب: " الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة "

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى اللبغدادية

وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أو الفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث بعِراق اليوم؛ أنّ تُهتك الوطنيَّة بهذا الرّخص والسَّذاجة، باسم المذهب، والتَّقليد الفقهيّ المرجعيّ الحزبيّ.

 هذا ما مارسه نائب رئيس جمهورية العراق خضير الخزاعيّ؛ أحد أعيان حزب الدَّعوة الإسلاميَّة؛ عندما طلب الاستفتاء والحُكم، بشأنٍ عراقيّ صِرف، مِن رئيس السُّلطة القضائيَّة الإيرانيَّة محمود الشَّاهروديّ (تـ: 2018)، بدعوى أنه كان، في يوم ما، مِن تلاميذ محمد باقر الصَّدر(اعدم: 1980)، وله صلة بحزب الدَّعوة، لكنَّ الرّجل مسؤولٌ في دولة أجنبية، بغض النَّظر، عن أنَّها صديقةٌ أو عدوةٌ، شقيقة في المذهب والدِّين والقبيلة والقوميَّة أو غريبة أجنبيَّة، فللأوطان حرماتها.

ما أخبرنا به الخزاعيّ نفسه، كان خيانةً لا تقبل تأويل ولا تبرير، لو سمعناها مِن لسان غير لسانه، لشككنا بصدق روايتها، جملة وتفصيلاً، على أنَّها كبيرةٌ مِن الكبائر، لأنَّ لا السَّمع ولا النَّظر يستوعبان ما حصل، لكنها جاءت بصوت وصورة صاحب صلاحيات رئيس الجمهوريَّة خضير الخزاعيّ؛ وقبل نقل ما قصه الخزاعيّ نفسه، لنعرف منّ المفتي العراقي ومَن المستفتي الإيرانيّ! وكان الموضوع في العدالة والدّماء، بغض النّظر عمن كان الاستفتاء، عن عدو أو صديق.

أصبح محمود الشّاهروديّ- ولابعاد نسبه الإيرانيّ لُقب بالهاشميّ داخل العراق- بعد انتصار الثّورة الإيرانيّة، ولثقة أحمد خمينيّ(تـ: 1995)، نجل آية الله خمينيّ، به رُشح رئيساً للمجلس الأعلى للثورة الإسلاميَّة بالعراق(1982-1983) بإيران، بقرار مِن مرشد الثورة الإسلاميَّة بإيران آية الله الخمينيّ، مع أنه إيرانيّ الأصل والانتماء والجنسية، وظل في هذه المسؤولية نحو عام، ثم تفرغ للتدريس الحوزويّ بقمّ، بعدها تسلم المناصب العليا الآتية في النّظام الإيرانيّ: عضو مجلس صيانة الدُّستور، وعضو في تشخيص مصلحة النّظام، ورئيس السُّلطة القضائيَّة، وبمصطلحات الأقدمين قاضي قضاة الجمهورية الإسلاميَّة، وهو منصب سيادي كبير، فالسلطات، بعد الولي الفقيه: رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة القضاء، ورئاسة البرلمان، ولكم حساب أهمية هذا الرّجل في الدَّولة الإيرانيَّة.

أصيب الشَّاهروديّ بمرض عضال، وسافر للعلاج بألمانيا، لكنه عاد مسرعاً، بسبب احتجاجات الإيرانيين المعارضين المقيمين هناك، ضده على عقوبات الإعدام التي صدرت من القضاء الذي يترأسه.

أمَّا خضير موسى الخزاعيّ، كان ومازال أحد منتسبي حزب الدَّعوة الإسلاميَّة، مع انشقاقه عنه ليكون في تكتل "الدّعوة تنظيم العراق"، عاش بإيران، وكان مِن محشدي الشّباب العراقيين بإيران، للحرب مع الجيش الإيراني ضد العراق، ثم هاجر إلى كندا، وعاد بعد (2003)، ليكون رئيس لجنة الحريات في البرلمان العراقيّ، فوزير تربية وتعليم، وحينها أطلق عبارته المدويّة "يكفيني فخراً أني كُلفتُ بمهمة إعادة صياغة العقل العراقيّ"، ومقولته الأكثر رنةً: "اليد التي تتوظأ لا تسرق"! حسب سيرة حياته، في موقع وزارة التربية والتعليم: حصل على دكتوراه في علوم القرآن، وأخرى في الفلسفة، مِن الهند، ولم يذكر مِن أي جامعة، وقال ممن يعرفه أخذها بالمراسلة، ولا نعلم بأيّ لغة.

أخذ اسم خضير الخزاعي يتداول بنائب رئيس الجمهوريّة للاعدامات، فقد أتت الفرصة، أن يبقى الوحيد في رئاسة الجمهورية، بعد مرض الرئيس جلال الطَّالبانيّ، ثم وفاته(2017)، وخروج نائب الرئيس الآخر طارق الهاشميّ، فاُسندت إليه مهام رئاسة الجمهوريّة، في تلك الفترة.

عُرض على نائب الرَّئيس الخزاعيّ ملف عبد حمود(اعدم: 2012)، سكرتير رئيس الجمهوريّة صدام حسين (اعدام: 2006)، ليصادق على إعدامه، فبعد الاِطّلاع على الملف، وجد الخزاعيّ أنه لا يستحق عقوبة الإعدام، فناقش الموضوع مع القضاة، الذين أصدروا الحُكم، ولم يقتنع بتبريرهم، فذهب يستفتي قاضي قضاة إيران محمود الشّاهرودي، ليأخذ منه الحُكم، كي يطمئن شرعيّاً، وهنا ننقل نص ما صرح به الخزاعيّ شخصياً للقناة العِراقيَّة الإخباريّة، ضمن مقابلة أجراها معه علاء الحطاب، ننقلها حسب ما جاءت على لسانه.

قال الخزاعيّ: "شفته(رأيته) ما يستحق الإعدام، بيني وبين الله، قلتُ لهم (القضاة): شلون (كيف) وقعتوه (أصدرتم الحكم)؟ قالوا: لجنة خماسية، مقررة من الدستور. مَن القاضي؟ قلتُ: أعطونياه( نادوه)، جابو لي(احضروه). جلس في هذا المكان. قلت له: شلون (كيف) حكمت على هذا بالإعدام؟ قال: ليش (لماذا)؟ قلتُ: ولا جريمة تدينه بالإعدام! قلتُ: سجن مؤبد، عشر سنين؛ أما الإعدام، هذا فد(فرد) شرف، شنهو (ماهو) الشّرف... قال (القاضي): نحن خمسة قضاة، ومِن قرأنا النَّص، لم نجد ما ندينه، فقلنا: خل نوقع (لنوقع) على إعدامه، ونخلص منه، مشيناه (وقعنا على إعدامه). قلتُ: ما يجوز لكم، والله العظيم. فأرسلتُ لمَن أثق بأنه يمثل المدرسة الصّدريّة في الإسلام، محمد باقر الصَّدر، وكان السّيد نفسه محمود الهاشميّ (الشّاهروديّ) رئيس القضاء في إيران".

ثم قال: "فوديت(أرسلت) واحد مِن الإخوان، ممَن أثق بنقله وعقله، كلتله(قلتُ له): خل يقرأها(ليقرأها) السيد هذه، وشوف (ابصر) شنهي (ماذا) حُكم هذا؟ حكمه الإعدام وأني معارض. فشافها (قرأها الشَّاهروديّ) فقال: سلمني عليه (سلم علي الخزاعي)، قل له: خل يوقع (ليوقع الإعدام) لا يخاف، الخوف الشَّرعيّ. هم كلبي لعب (لم اطمأن والكلام للخزاعيّ). فقلتُ: هذوله (هؤلاء يقصد القضاة) ماخذتهم العزة بالنفس. فرحت (ذهبتُ إلى إيران) بنفسي بوفد رسميّ برئاستيّ، وأعضاء الوزراء وأعضاء البرلمان".

أكمل الخزاعيّ القصة قائلاً: "فقلتُ له (للشاهروديّ): سيدنا عندي قضية وياك. قال: كلي فلان(قال لي مبعوث الخزاعيّ)، وقلتُ له: مِن حقك(توقيع الإعدام)، قلتُ: أريد اسمع منك. قلتُ: هذا (عبد حمود) كل الذي أمسويه(عمله)، هو سكرتير رئيس الجمهوريَّة، فوجد الجماعة القضاة ورقة مكتوب فيها: تكريم المحققين فلان وفلان، لأن ساهموا في كشف أعداء الثّورة. فقلتُ له: أعداء الثّورة نحن، وهذوله(هؤلاء) طلعوا أبناء الثّورة. قال: لا، أنا ليس على هذه الورقة، فهي لا تصلح أن تكون للإعدام، فهو (عبد حمود) جزء مِن المحاربة (الآية): إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا، للحرابة يُقتل. قال: اقتله وأنا المسؤول، بالله وقعتُ عليه"(برنامج خطى، الجزء الثالث، العراقيَّة الإخبارية).

نحن أمام قضية خطيرة للغاية؛ وما قصة استفتاء رئاسة الجمهوريَّة العراقيَّة؛ مِن قاضي قضاة دولة أجنبيّة، في شأن يخص العدالة العراقيّ، إلا نموذجٌ، وبرهان واحد، مِن مئات البراهين، على هتك الوطنيَّة العراقيَّة، مِن قِبل الجماعات الدّينيَّة. صحيح ظهر معممٌ سياسي وقال علانية: إذا نشبت حرب بين العراق وإيران، سأقاتل مع إيران، لأنها تمثل الإسلام، والتمهيد للإمام المهدي المنتظر.

 كذلك، صرح أكثر من قائد ميليشيا بكلام شبيهٍ بذلك؛ أو يظهر رئيس وزراء العراق، ويقول: وجهني قاسم سليماني (قُتل: 2020) بحمل رسالة إلى الدّولة الفلانيّة، وسليماني مجرد ضابط إيراني، وهو رئيس وزراء العِراق والقائد العام للقوات المسلحة! هذا أيضاً قد نأخذه مِن باب التبعية الشَّخصية؛ أو خشية من الاغتيال إن أعلن العصيان على سليمانيّ؛ أو يظهر أحد زعماء الأحزاب الدينيّة ويقول: يجب تسديد العراق خسائر الحرب لإيران، وهذا لا يبرر، ولكنه قد يؤخذ مِن باب فضل إيران عليه وعلى حزبه، في زمن المعارضة؛ لكن خزية الخزاعي شيء آخر.

 هذا، ولو أردنا تدوين كلّ ما قاله رؤساء الأحزاب الدِّينية، وقادة الميليشيات، مِن تفضيل إيران على العراق، ومصالح إيران أولاً، واعتبار ولاية الفقيه الإيرانيَّة محرابهم وقبلتهم، ما يكفي المقال، ولا الكتاب، ولكن أن يخرج القائم بصلاحيات رئيس الجمهورية العراقيَّة، وهو نائب الرئيس، وفي الوظيفة، ويطلب الحُكم مِن قاضي قضاة إيران، على مواطن عراقيّ، وينفذه، فتلك مصيبة كبرى، ليس قبلها ولا بعدها فضيحة وخيانة، وسقوط مدوي، وذلك للأمور الآتية:

1- أظهر الخزاعيّ بهذه الممارسة العراق تابعاً لولاية الفقيه رسمياً؛ فالشَّاهرودي أحد أوتاد تلك الولاية، وللعلم أنَّ اسمه طُرح مرشحاً لخلافة علي خامنئي.

2- أظهر الخزاعي بهذه الممارسة، أنَّ الحُكم بالعراق حكماً دينياً، يُطبق ولاية الفقيه الأجنبية، مع أنَّ المعلن دولة مدنية برلمانيّة وطنيَّة.

3- ظل نائب رئيس الجمهورية يتصرف حزبياً وليس عراقيَّاً؛ فذهب لتطبيق الشَّرع، الذي يعتقد أنه على مدرسة محمد باقر الصَّدر، وهذا لا يقره الدّستور، الذي من المفروض أنّ رئيس الجمهوريَّة هو الأحرص على صيانته.

4-   إنَّ الشّاهرودي رجل دين إيرانيّ، يتناسب وضعه مع نظام ولاية الفقيهة بإيران؛ ولم يدرس القانون العراقيّ، ولا صِلة له بالقضاء العراقيّ المدنيّ، مثله مثل صادق خلخالي(تـ: 2004)، الذي عينه الخميني رئيسا للقضاء الإيرانيّ، وهو ليس حقوقيَّاً، وأعدم باسم الشَّريعة وعلى الشُّبهة.

5-   لم يكن الشَّاهروديّ نفسه نزيهاً بالدِّماء، فله مسؤولية باعدامات ذات شأن سياسيّ، فكيف يكون حاكماً في القرار السِّيادي العراقيّ؟

6-   ظل خضير الخزاعيّ، من خلال ما صرح به، يعمل بالتكليف الشّرعيّ الحزبيّ الدّيني، وليس التكليف الدستوري، الذي مِن المفروض أن يكون عبر البرلمان العّراقيّ؛ لا أنه يستمر يمارس وظيفته تكليفاً شرعيّاً، تابعاً لرجل دين، ومِن مسؤول حكوميّ في دولة أجنبية، حاله حال مأذون الزّواج أو الطَّلاق، أو ممثل مرجع مِن المراجع، بينما كان منزلة رئيس جمهوريَّة.

7-   النقطة الأخطر، يُعد تصرف خضير الخزاعيّ، كنائب رئيس الجمهوريّة، والقائم بصلاحيات رئيس الجمهوريَّة كاملةً، خيانةً عظمى، يُحاكم عليها القانون العراقيّ النَّافذ، فالأمر يتعلق بكشف سر مِن أسرار الدَّولة، ووضع صلاحيات رئاسة الجمهورية بيد قاضي قضاة دولة أجنبيّة، ولا نعتقد أنَّ دولة مِن دول العالم مارسته، وتهتك نفسها بهذا الأسلوب الرَّخيص.

8-  وقع حكم الإعدام بفتوى مسؤول أجنبي، مع أنَّ الخزاعيّ كان غير مقتنع بالحُكم، ولا بالقضاة، وهو والشّاهرودي نفسه، لعتبرا الذَّنب لا يستحق حكم الإعدام، وهنا العقوبة لم تكن قانونيَّة، ووفقاً لذلك كان الإعدام جريمة قتل، يتحملها الخزاعيّ، ويجب أن يُحاكم عليها وعلى الخيانة، هذا إذا تحدثنا بمنطق القانون، لا منطق الاستهتار بالقانون، وبالوطن.

9-   تلاعب الشّاهروديّ وقلده الخزاعيَّ، بآية قرآنيَّة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فما بين المعارضة والسُّلطة، وكل معارضة وسلطة، نزاع سياسيّ، لا علاقة له بمحاربة الله ورسوله، فلا الخزاعيُّ رسول الله، ولا حزبه يمثل الله، فتكفير شخص أو نظام صار على مزاج الشّاهروديّ، فهو إذا كان في المعارضة يعتبر السلطة محاربة لله ورسوله، وإذا كان في السلطة يعتبر المعارضة محاربة لله ورسوله، فأين الحقَّ؟

معلوم أنَّ المرجع الكبير محمَّد كاظم شريعتمداريّ (حُبس في داره 1985)، اُعتبر محارباً لله ورسوله، لذا أظهره نظام خميني تائباً على شاشة التلفزيون، ذليلاً مكسوراً يتلي توبته، ومِن يريد المزيد عن مظلومية شريعتمداري فله مراجعة كتاب تلميذه رضا الصَّدر(تـ: 1994) "في سجن ولاية الفقيه"(شقيق موسى الصَّدر)، الذي اعتقل، ومنع من الصّلاة على جنازة أستاذه، الذي أوصى بذلك.

مِن هنا، إذا كان هناك قطرة من الحياء عند القضاء العراقيّ، أن يستدعى خضير الخزاعيّ، للتحقيق، فقضيته تدخل ضمن الخيانات الكبرى بحق العراق. أقول: فلو طلب منه وليه الشَّاهرودي تفجير العراق سيفعلها، لأنها حسب منطقه، تكليف شرعي مِن قبل مرجعه،و إذا لم ينفذه يُعد محارباً لله ورسوله، وصاحب الزَّمان.

يقول مجد الدّين النَّشابي (تـ: 657هـ)، وكان المغول على الأبواب: "يا ضيعة المُلكِ والدِّينِ الحنيفِ/ وما تلقاه مِن حادثاتِ الدَّهرِ بغدادُ/ أين المنيةُ مني كي تساورني/ وللمنيةِ إصدارٌ وإيرادُ/ مِن قبلُ واقعةٍ شنعاءَ مظلمةٍ/ يشيبُ مِن هولها طفلٌ وأكبادُ"(كتاب الحوادث).

***

د. رشيد الخيُّون

ما يفعله ترامب الآن أثار دهشة البعض، وأثار مخاوف كثيرين.. تلك الحكومة التي تتشكل وعلى رأسها إيلون ماسك وزيراً لوزراة غير موجودة إلا في عقل ترامب! تلك الحكومة ليس فيها واحد محسوب لا على الديمقراطيين ولا على الجمهوريين. وهي حكومة مرسومة على مقاس إسرائيل! فهل تَسرَّع ترامب عندما أعلن هذا الأمر مبكراً، رغم أن حكماً ينتظره في السادس والعشرين من هذا الشهر قد يقلب عليه الطاولة أو يحرجه ويضطره لتغيير كل خططه..

 ترامب صريح، وهو لا يخفي ما سيفعله في أوروبا أو الشرق الأوسط، والجولات المكوكية بين إسرائيل وبين منزل ترامب مستمرة، وهناك قنوات اتصال بينه وبين بوتين. ويبدو أن أوروبا هي أكثر الخائفين مما ينتظرها في العام القادم.

2025. عام القلق

 أقل من شهرين على مجيء ترامب رئيساً وعودته للبيت الأبيض. تلك العودة التي ستضع في يديه كل شيء: الكونجرس ومجلس الشيوخ والحكومة، وسوف يكون بمقدوره أن ينفذ وعده، فيحاكم بايدن الذي حاكمه سابقاً ووضع الحديد في يديه!

 المدهش أن ساكن البيت الأبيض الآن، ورغم أنه لم يترك السلطة بعد، يبدو أضعف وأقل نفوذاً من ترامب الذي لم يجلس على كرسي الرئاسة لكنه يدير الأمور بقوة، والوفود تأتي إليه هو، من الداخل والخارج، يريدون أن يعرفوا كيف يفكر وماذا ينوي؟! ولا شك أن في جعبته الكثير، لاسيما وقد علم الجميع كيف أنه يفاجئ الآخرين دائماً بقرارات ومواقف وأعمال غير متوقعة. هو ليس سياسياً مقروءاً، بل هو أقرب للاعب قمار مجازف يحب أن يفاجئ خصومه دائماً بخطوات لا يتوقعون حدوثها. ولهذا تقف أوروبا موقف الخائف منه، المترقب لما ينوي فعله.

 لقد بدأت حرب أوكرانيا في عهد بايدن. ذلك الرئيس السياسي القديم المخضرم، والذي لن يجازف بخسران علاقته القوية مع حلفائه الأوربيين تحت أي ظرف. بينما ترامب البزنس مان، لا يهمه إن خسر حليفه الأوروبي في مقابل أن يكسب محبة شعبه؛ فكيف يلقي بملياراته في جوف زيلينسكي بينما الشعب الأمريكي يعاني البطالة والتشرد ويشكو من غلاء الأسعار؟

 لقد أكد ترامب أن الحرب الأوكرانية الروسية سوف تتوقف بعد يوم من حلف اليمين. ولا توجد طريقة لفعل هذا إلا أن يرفع يد أمريكا من تمويل الحرب، وأن يغادر ساحة القتال ويتركها لباقي دول الناتو الأوروبية تدير معركتها بنفسها. وهذا معناه أن تسيطر روسيا على مقاليد الأمور. حتى لو حدث ما يخطط له ترامب: أن يتم التفاوض على أساس وقف القتال، ووضع قوات دولية محايدة على آخر حدود بين الطرفين المتنازعين، وأن يتم تأجيل انضمام أوكرانيا لحلف الناتو لأجل غير مسمي ترضيةً لروسيا. حتى لو حدث هذا فإن أوروبا ستظل في حالة استنفار مستمرة أمام الدب الروسي الذي سيجدها فرصة لاستعادة قوته، والاحتشاد ضد الناتو، ولن تنام أوروبا ملء جفنيها كما كان سابقاً، بل ستنام كالقطط، بعين مغلقة وأخرى تترقب الحدود الروسية..

 ثمة أشياء كثيرة في العالم ستتغير في العام القادم. ترامب سيكون أحد أيقونات هذا التغيير. الوضع في أوكرانيا سيتغير، ومعه ستتغير أوروبا. والحرب في غزة ولبنان لن تبقي كما هي الآن. الأدهى أن أمريكا نفسها ستلحق بقطار التغيير. وسوف تذوق طعم القلق!

أمريكا الجديدة!

 الشعار الذي يتشبث به ترامب طوال الوقت: "أن تعود أمريكا عظيمة من جديد". إنه يريد أن يُحدث بها تغييراً حقيقياً يستمر أثره بعد رحيله. وها هي الفرصة قد جاءت له سانحة، أن يفعل ما يشاء. خصوصاً وأن خسارة الحزب الديمقراطي الفادحة، جعلت الساحة كلها مرتعاً لترامب وللحزب الجمهوري، وربما يصبح من الصعب على الديمقراطيين أن يضمنوا استعادة مقعد الرئاسة لسنوات كثيرة قادمة. ما يعني أن نجاح ترامب الكاسح هذه المرة قد يضمن بقاء الحزب الجمهوري لسنوات طويلة، وربما لعقود! تلك مخاوف ناقشتها الصحف الأمريكية بعد الخسارة الفادحة التي مني به الديمقراطيين أمام ترامب. غير أني أري الأمر من زاوية مختلفة..

 فالحق أن الحزب الجمهوري نفسه قلق من تصرفات ترامب، لأنه لم يشكل منهم حكومته كما كان متوقعاً، ثم إنه تصرَّف بانتهازية مع الجالية المسلمة، الجالية التي منحته أصواتها في الوقت الذي تخلي عنه اليهود، فإذا هو يأتي بحكومة صهيونية الهوى بالكامل! لقد جعل ترامب الجميع في حالة تحفز، وسوف تستمر حالة الانقسام المجتمعي في الداخل الأمريكي مع استمرار تلك الموجة الترامبية الشعبوية، التي لا تري في الديمقراطيين والجمهوريين إلا جسراً لتمرير خطط ترامب الغامضة، هي خطط تريد أن تبني الاقتصاد لكن على حساب السياسة وعلى حساب الاستقرار المجتمعي.

 ستظل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حكم ترامب على الحافة. وسوف يستغل خلو الساحة أمامه ليزيد نفوذه على حساب الديمقراطيين. وهناك مؤسسات أمنية كبري سوف تتأثر بهذا التغيير الذي سيحرص ترامب على إحداثه من أجل ترسيخ أقدام الحزب الجمهوري بعد انقضاء الأعوام الأربعة التي سيقضيها في الحكم. والخوف أن تأتي ردود الأفعال ضد محاولات ترامب لفرض سيطرته بنتائج عكسية تزيد من الانقسامات الحادثة في الداخل الأمريكي. في الوقت الذي ستواجه فيه أمريكا قضايا خارجية كبري: كصعود الصين، وابتعاد الحليف الأوروبي، وحرب البريكس على الدولار، وهجمات الحوثيين، والتهديد الوجودي القائم ضد إسرائيل.

 إن ترامب يري أن أمريكا يجب عليها أن تنصرف للتفكير في ذاتها وفى تقوية اقتصادها، ولهذا لا يري حرباً ينبغي خوضها إلا حربه الاقتصادية ضد الصين، وهو لن يكسب هذه الحرب.

نهاية الغرب

 هذا عنوان مقال في مجلة "دير شبيجل" الألمانية منذ نحو أسبوع مضي. بقلم "ديرك كوربجويت" يري فيه الكاتب أننا مقبلون على عصر جديد، وتغييرات حادة قادمة لمجرد أن ترامب عاد لتولي السلطة! فمم يخاف الألمان، وما الذي تخشاه أوروبا؟!

 الكاتب ينظر حوله فيري كيف أن اليمين يصعد في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، ثم أتي ترامب ليغلق الدائرة. في الوقت الذي ينهار فيه النموذجان: الليبرالي والديمقراطي بمفهومهما الكلاسيكي المعهود وهو ما سيؤدى في النهاية لتفكك الأحلاف، كنتيجة لغياب المشتركات بين هذه القوي. وبالتالي سيزداد الانقسام بين قوي الغرب. وسيكون مجيء ترامب بمثابة العامل السحري الذي سيسرِّع من حدوث الانقسام والتفكك. وبهذا يفقد الغرب قوته القيادية.

 يقول الكاتب:(بعد عصر الأيديولوجيات الشمولية، التي كانت بمثابة "أديان سياسية" جاء عصر العقلانية المرتكزة على المعرفة العلمية. كانت السياسة تدار بجدية كبيرة؛ حيث كان الهدف هو منع عودة الفاشية والتصدي للاتحاد السوفيتي. اقتربت الدول من بعضها البعض تحت مظلة الناتو، وزالت الحدود بين دول الغرب، الأهمية الكبرى كانت للتحالفات. كان هذا عصر العولمة والمواطنة العالمية. كان عصراً جيداً رغم عيوبه. ولكنه انتهي للأسف!!).

 إن الكاتب يري عدة متغيرات تحدث أمامه: دول تنسحب من الناتو، وهجرة متزايدة أدت لتغيرات ديموجرافية هائلة، ويمين يصعد في أكبر دول أوروبا، وبوتين ينتظر عودة ترامب ليضع يده على الحدود الأوروبية ويعلن انتصاره ولو جزئياً. وترامب سوف يأتي ليكمل المشهد ويغلق الستار، وبهذا ينتهي عهد قديم ويأتي عهد جديد بمفاهيم مختلفة، ونظم سياسية مغايرة. لن يكون فيها ما يسمي بالاتحاد الأوروبي، لأن الناتو نفسه مهدد بالتفكك على يد أمريكا التي صنعته! وربما ينجح البريكس في مسعاه، ويُسقط الدولار من عرشه، فتتغير المفاهيم الاقتصادية تزامناً مع التغيرات السياسية الحادة القادمة حتماً!

 في نهاية مقاله ينصح الكاتب بالعودة للإنسانية كمفهوم مشترك إذا أراد الغرب أن يظل قوياً كما كان، إنه ينادي بمفهوم أهدرته الحروب والانقاسامات. وبالتالي فإن الغرب نفسه مهدد بالسقوط والتداعي. وسوف تظل أوروبا في السنوات القادمة خائفة تترقب. وخوفها الأكبر من حلفائها أن يتركوها، ومن اتحادها أن يتفكك.

***

د. عبد السلام فاروق

أجرت وكالة الأنباء الوطنية الجزائرية لقاءً معي حول الأساليب والطرق التي يلجأ لها النشطاء الفلسطينيين لنشر السردية الفلسطينية، وفضح الرواية الصهيونية التي تعتمد التزوير والتضليل لكسب الراي العام العالمي.

طالما كان للسردية موقعاً مفصلياً بتاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، في تشكيل الراي العام الإقليمي والدولي، وتوجيه السياسات الحكومية. يزداد هذا الدور تأثيراً خاصة مع سعي إسرائيل لإقامة علاقات مع محيطها، وتمكنها من تحقيق اختراقات تطبيعية مع بعض الدول العربية. ثم حدث العدوان الأخير على قطاع غزة فانقلبت بعض الموازين لصالح السردية الفلسطينية في أماكن متعددة من العالم. وكشف العدوان زيف السردية الإسرائيلية القائمة على فكرة ترويج المظلومية والدفاع عن النفس في وجه التهديد الخارجي.

تمكنت السردية الفلسطينية من كسب التضامن والتأييد الشعبي والرسمي بفضل جهود المثقفين والنشطاء الفلسطينيين في مختلف بقاع العالم، وبفضل المتضامنين العرب، وحركة التضامن الدولي، الذين نقلوا معاناة الشعب الفلسطيني جواء سياسات الاحتلال إلى العالم. وبالرغم من السيطرة الصهيونية على الإعلام الغربي، والديبلوماسية الإسرائيلية الناعمة، تمكنت السردية الفلسطينية من الوصول والتأثير على الكثير من الشعوب في العالم، بفضل المصداقية والأدلة المنطقية، والمشاهدات المباشرة لعذابات الفلسطينيين. ولم تتمكن الرواية الصهيونية من إخفاء وتبرير قتل الأطفال وحرق النساء، وتدمير المباني واقتلاع الأشجار، وتجويع شعب كامل آمن يعيش تحت إرهاب دولة إسرائيل.

لقد أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خلال العقدين الماضيين، أدوات قوية وفعالة في تشكيل ونشر السرديات. حيث تمكن الفلسطينيون من الاستفادة المثلى منها لإخبار العالم عم معاناتهم اليومية، ومن نقل الاعتداءات الصهيونية بشكل لحظي، تدعمها شهادات حية للناس مما عزز السردية الفلسطينية وأثبت مصداقيتها.

فيما يلي نص الأسئلة والأجوبة:

1. كيف يستخدم النشطاء الفلسطينيون منصات الإعلام الاجتماعي في نشر قضيتهم والتوعية بانتهاكات الاحتلال؟

منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، بدأت معركة جديدة من نوع مختلف، معركة رقمية لا تقل أهمية وشراسة عن معركة الصواريخ والبنادق، بين الفلسطينيين والأشقاء والأصدقاء الأمميين الداعمين من جهة، وبين الكيان الصهيوني ومن يدعمه من جهة أخرى. معركة مهمة تدور رحاها على الشبكة العنكبوتية، وتتواصل بصوت عال وواضح، ونتائجها سوف تؤثر بشكل عميق على مستقبل الصراع والمواجهة. معركة بين الحق الفلسطيني في التحرر من الاحتلال البغيض، وإقامة دولته المستقلة، وبين العدوان والغطرسة الصهيونية. بين العدالة والإنسانية والتضامن الأممي، وبين التوحش والعجرفة الإسرائيلية.

يهدف النشطاء الفلسطينيون إلى الاستيلاء على السيطرة على السرد من المنافذ الإعلامية التي تقمع وجهة نظرهم وتقارن بشكل خاطئ بين معاناة إسرائيل ومعاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ويحاولون فضح السياسات الإسرائيلية القائمة على نظام الفصل العنصري، الذي يسعى إلى حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

منذ بدء الحرب الهمجية التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ ما يقارب العام، نقلت وسائل التواصل الاجتماعي أصوت الاحتجاج الجماهيري المتضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. أصوات تنمو على الشبكة العنكبوتية، وتتواصل بصوت عال وواضح. في غضون أيام - بينما قصفت إسرائيل الأراضي مناطق سكنية في غزة، انتشرت على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من أفلام فيديو مصورة بالهاتف المحمول من الشباب الفلسطينيين إلى الشتات العربي وإلى مختلف بقاع الأرض، تُظهر وحشية الاحتلال، أشعلت الانترنت وأثارت الغضب في جميع أنحاء العالم. ساعدت هذه الأصوات المؤيدة للفلسطينيين والميمات ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في إنجاز ما لم تنجح فيه عقود من الاحتجاجات العربية ومقاطعة إسرائيل إنجازه للقضية الفلسطينية التي تُركت للموت قبل بضعة أشهر من طوفان الأقصى.

تحول التضامن مع الفلسطينيين إلى الإنترنت وأصبح عالمياً، وهو شارع عربي افتراضي لديه القدرة على إحداث تأثير أوسع من تلك الموجودة في مدن الشرق الأوسط. لقد ربط المتظاهرون عبر الإنترنت ذراعيهم بحركات شعبية لحقوق الأقليات مثل Black Lives Matter، سعياً لاستعادة السرد من وسائل الإعلام السائدة والحصول على الدعم في الدول الغربية التي دعمت إسرائيل بشكل انعكاسي.

فمنذ حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة قبل عام، أصبح العالم عرضة لتدفقات هائلة من المعلومات والبيانات والصور حول ما يحدث في غزة. ظهرت تطورات الحرب كما لو أنها اختباراً لقوة الإعلام الجديد، أو ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي، في مقابل مؤسسات إعلامية ضخمة وعريقة، اتخذت جانب "إسرائيل" وروجت روايتها.

وبينما اتهم الفلسطينيون وأنصارهم وسائل الإعلام الغربية السائدة في أوروبا والولايات المتحدة بالتحيز لصالح الرواية الإسرائيلية للحرب، فقد تم استخدام منصات الإنترنت بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع من قبل الناشطين المؤيدين لفلسطين في جميع أنحاء العالم لمواجهة هذا التحيز وتزويد جمهور الإنترنت بالجانب الفلسطيني من القصة.

2. ما هي أبرز أشكال التضليل الإعلامي التي تواجهها القضية الفلسطينية في الفضاء الرقمي؟ وكيف يرد النشطاء الفلسطينيون على هذه التحديات؟

يعتمد الملايين في جميع أنحاء العالم على مصادر وسائل التواصل الاجتماعي لفهم ومتابعة أسباب الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم تشكيل الراي والموقف من هذا الصراع. ولكن لا يكون كل المحتوى - بما في ذلك المحتوى الذي يقدمه المسؤولين – دقيقاً وصادقاً وحقيقياً.

على سبيل المثال تم إخفاء هاشتاج "الأقصى" منصة إنستغرام مؤقتاً، لأنه كانت هناك تقارير عن "بعض المحتوى الذي قد لا يتوافق مع إرشادات مجتمع إنستغرام"، وفقاً للإشعار الذي تلقاه المستخدمون. وألقت شركة فيسبوك، التي تملك إنستغرام، باللوم في عمليات إزالة المحتوى على "مشكلة تقنية عالمية واسعة النطاق لا تتعلق بأي موضوع معين". ومع ذلك، يبدو أن الوسوم تم حظرها لأن محتوى المنصة يقدم دعماً للفلسطينيين. لقد ربط نظام إدارة المحتوى في فيسبوك عن طريق الخطأ المسجد الأقصى - ثالث أقدس موقع في الإسلام - بمنظمة إرهابية، وفقاً لاتصالات داخلية للموظفين اطلع عليها موقع Buzzfeed.

في حالة ربما كانت الأكثر شهرة لنشر معلومات مضللة بشأن المشاهد في غزة، شارك المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي باللغة العربية، أوفير جندلمان، مقطع فيديو زعم أنه يظهر حماس وهي تطلق الصواريخ على إسرائيل. كان المقطع في الواقع من عام 2018، وأظهر إطلاق الصواريخ في محافظة درعا السورية. تم تصنيف التغريدة في البداية على أنها "إعلام مُتلاعب به" بواسطة تويتر، قبل أن يحذفها جندلمان نفسه.

كما نشر الحساب الرسمي للجيش الإسرائيلي على تويتر معلومات مضللة. شارك حساب قوات الدفاع الإسرائيلية (@IDF) مقطع فيديو يزعم أنه يُظهر حماس وهي تدمج قاذفات الصواريخ في الأحياء المدنية. ومع ذلك، أظهرت اللقطات في الواقع سلاحاً وهمياً استخدمته إسرائيل خلال مناورة تدريبية في شمال غرب البلاد. تمت إعادة مشاركة الفيديو بواسطة حساب تويتر الموثق "Stop Antisemites"، والذي اعتذر لاحقاً عن المعلومات المضللة. وفي الاعتذار، أصرت بشكل استفزازي على وصف اللقطات الفعلية بأنها جاءت من "حي أغلبية مسلمة"، فيما بدا أنه محاولة واضحة لربط سلاح إسرائيلي بالفلسطينيين.

وقال شتايا: "عادة ما تستخدم السلطات الإسرائيلية المعلومات المضللة والأخبار المزيفة كجزء أساسي من دعايتها. هذا النوع من المعلومات يؤثر بشكل كبير على وعي الناس والحركات السياسية الفلسطينية". وفقاً لمنظمة "حملة"، حدد 54٪ من المشاركين في الاستطلاع في تقريرها "الأخبار المزيفة في فلسطين" السلطات الإسرائيلية كمصدر رئيسي للأخبار المزيفة. ووجد البحث أيضاً أن هناك ارتفاعًا بنسبة 58٪ في الأخبار المزيفة أثناء الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين.

ومن بين حالات أخرى من انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت تقارير كاذبة تفيد بأن الفلسطينيين قاموا بتزوير مراسم جنازة في غزة في محاولة لجذب التعاطف العالمي. أظهر الفيديو المزيف، الذي شاركه مستشار وزارة الخارجية الإسرائيلية، دان بوراز، مجموعة من المراهقين يحملون "جثة". وعندما سمعت صفارات الإنذار بصوت عالٍ فجأة، هرع المراهقون - بمن فيهم "النعش" - يتفرق الجميع ويهربون. تم التقاط اللقطات في الواقع العام الماضي في الأردن من قبل مجموعة من الشباب الذين يحاولون تجنب قيود كوفيد-19 من خلال التظاهر بإقامة جنازة وهمية. شارك بوراز الفيديو مع هاشتاج "Pallywood"، وهو مفهوم مشوه للغاية صاغه دعاة اليمين المؤيد لإسرائيل في محاولة ساخرة لاتهام الفلسطينيين بتصوير معاناتهم بشكل درامي لكسب الود الدولي.

مثال آخر لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين يروجون لأخبار كاذبة لربط الناس في غزة بـ "Pallywood" يتضمن مشاركة مقطع فيديو يزعم أنه يظهر فلسطينيين يضعون المكياج على إصابات مزيفة ناجمة عن هجمات إسرائيلية. يمكن إرجاع المقطع، الذي تمت مشاركته الأسبوع الماضي، في الواقع إلى عام 2018، وكان جزءًا من تقرير إخباري عن فناني المكياج الفلسطينيين.

3. ما هو تأثير حملات الهاشتاغ (مثل #FreePalestine) على الرأي العام الدولي وحشد التضامن مع الفلسطينيين؟

لقد أحدث العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني تحولاً كبيراً في الرأي العام العالمي، عبر التواصل عبر الإنترنت والتعبئة والتأثير على السياسة وتغيير التصورات الدولية وتشكيل الحركات الناشطة. وأصبحت الوسوم أداة مهمة في نسج السرديات المعقدة على الإنترنت. مثل هاشتاغ #FreePalestine الذي أثبتت الدراسات أنه لا يُحدِث تغييرات في الرأي العام على الإنترنت فحسب، بل إنه يحشد أيضاً العمل الحقيقي ويشكل السرديات العالمية التي تؤثر على السياسة والأعمال. يشمل تحول الرأي العام تغييرات في مواقف الناس ووجهات نظرهم بشأن قضايا معينة. يقدم هاشتاغ #FreePalestine مثالاً ملموساً لكيفية أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي عاملاً في تحويل الرأي العام. في تطوير هذه الحملة، يمكن ملاحظة أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد وسيلة لنقل الرسائل، ولكنها أيضاً أداة لحشد الدعم الجماهيري. تُظهر الأنشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك المتعلقة بهاشتاغ #FreePalestine، التأثير الكبير للجهات الفاعلة والمؤثرة. يمكن للرسائل التي تنقلها الشخصيات المؤثرة أن تكتسب بسرعة انتباه الجمهور وتشكل آرائهم.

لا يعكس الهاشتاج رد فعل على الأحداث الجارية فحسب، بل يرمز أيضاً إلى المقاومة والنضال طويل الأمد. إن استخدام مثل هذه الوسوم كوسيلة للتضامن يخلق بُعداً تاريخياً يربط الماضي والحاضر والمستقبل. وتضيف مساهمة وانخراط الفاعلين المتضامنين الأفراد والمنظمات غير الحكومية في حملة الهاشتاغ بُعداً سياسياً وإنسانياُ وسعاً. ومن خلال هذا الدعم السياسي والإنساني، تساهم الحكومات والمنظمات غير الحكومية في إنشاء سرد أكثر إنصافاً للقضية الفلسطينية.

على سبيل المثال، يوجد في منصة التواصل الاجتماعي تويتر، هناك موضوع بارز ومهيمن في الغرفة X، ألا وهو الحوار السياسي، والذي يشمل هاشتاجين رئيسيين:

 #IsraelVsPalestine مع 20000 تغريدة و#BusinessPalestine مع 5000 تغريدة. وغالباً ما يعمل الحوار السياسي على تويتر كمساحة للتعبير والنقاش المتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. يشير الهاشتاج #IsraelVsPalestine إلى الاهتمام والمشاركة العاليين، مما يعكس التوتر السياسي واستقطاب الآراء بين مستخدمي تويتر. بالإضافة إلى ذلك، يوفر #BusinessPalestine منظوراً أكثر تحديداً يتعلق بالجوانب الاقتصادية للصراع، مما يعكس الاهتمام والمخاوف بشأن التأثير الاقتصادي للصراع. على منصة فيسبوك، الموضوع المهيمن هو التضامن الفلسطيني، ويمثله هاشتاغان رئيسيان: #FreePalestine مع 10000 تغريدة و#SupportPalestine مع 8000 تغريدة. يعكس هذا التضامن دعماً واسع النطاق من مستخدمي فيسبوك لحرية فلسطين وقد يشمل حملات أو مبادرات مختلفة تؤكد على الجوانب الإنسانية والعدالة الاجتماعية. يشير العدد الكبير من التغريدات تحت كلا الهاشتاغين إلى قوة حركة التضامن هذه بين مستخدمي فيسبوك، مما يسلط الضوء على الدور الحاسم لوسائل التواصل الاجتماعي في تبني وتوحيد وجهات النظر بشأن الموقف من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.

4. كيف تؤثر الرقابة الرقمية على المحتوى الفلسطيني؟ وما هي التحديات التي يواجهها النشطاء في إيصال صوتهم للعالم؟

القيود والرقابة لها تأثير بعيد المدى على قدرة الناس على التواصل والتنظيم وتبادل المعلومات، وتحد من نقل الصورة والمعلومة الحقيقية للآخرين. عندما يتم حظر حسابك أو إزالة المحتوى الخاص بك، فمن الواضح أن هذا ينتهك قدرتك على ممارسة حقك في حرية التعبير عبر الإنترنت. وهذا ما تعتمده إسرائيل في محاولتها خنق ووأد الحقائق ومنع انتشار صور الظلم والقتل والدمار والتنكيل وهدم البيوت الذي يمارسه جيشها.

خلال أزمة حي الشيخ جراح في القدس حول عمليات الطرد الوشيكة في أوائل مايو/ 2021 على خلفية قرارات قضائية إسرائيلية تقضي بإخلاء منازل في الحي من سكانها الفلسطينيين لصالح جمعيات استيطانية صهيونية.

حيث أطلق الناشطون الفلسطينيون وأنصارهم في الخارج ناقوس الخطر بشأن حالات عديدة من إزالة منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي والوسوم وحساباتهم أو إغلاقها أو تقييدها بطريقة أخرى. أثارت هذه السلسلة تساؤلات حول دور شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك وتيك توك وإنستغرام وتويتر في تعميق اختلال التوازن في القوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والطرق التي تساهم بها الرقابة على الفلسطينيين والناشطين من أجل حقوق الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال والتشريد والظلم المستمر.

تم تعليق حساب الصحافية الفلسطينية منى الكرد على منصة إنستغرام لفترة لأنها وثّقت الانتهاكات الصهيونية اليومية التي تحدث في القدس. كما تم إزالة محتوى شقيقها محمد الكرد بسبب "خطاب الكراهية"، على الرغم من أنه قال إنه كان يصور عنف الشرطة الإسرائيلية ببساطة دون تعليق نصي.

والعديد من الفلسطينيين يشتكون أن قصصهم على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة إنستغرام وفيسبوك تتلقى مشاركة أقل ومشاهدات أقل لأسباب غير مفسرة. وفي الوقت نفسه تتم تعطيل حسابات مجموعات تضامنية مع الفلسطينيين والتي تضم مئات الآلاف من الأعضاء بصورة مؤقتة أو بصفة نهائية بسبب "مخالفة معايير المجتمع". أثيرت أسئلة أيضاً على تويتر عندما تم تعليق حساب الصحافية الفلسطينية مريم البرغوثي أثناء تقديمها تقريراً من مظاهرة تضامنية في الضفة الغربية المحتلة. أخبر تويتر لاحقاً موقع Vice أن القرار اتخذ عن طريق الخطأ - على الرغم من أنه فشل في توضيح الجزء المحدد من شروط الخدمة الذي اعتقد في البداية أن البرغوثي انتهكته.

علقت العديد من جماعات حقوق الإنسان على أن أي رقابة من عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي قد ترقى إلى تدمير الأدلة في وثائق جرائم الحرب، والتي تراقبها المحكمة الجنائية الدولية حالياً فيما يتعلق بالعدوان الصهيوني الأخير.

في الوقت الذي يقوم فيه الفلسطينيون والمؤيدون لهم بتوثيق العنف الوحشي الصهيوني وجرائم الاحتلال من خلال الصور ومقاطع الفيديو، مع استخدام هاشتاغات باللغتين الإنجليزية والعربية. فإن النشطاء والمدافعين عن الحقوق الرقمية والمستخدمين انتقدوا منصات التواصل الاجتماعي بسبب الأدلة المتزايدة على الإزالة غير المبررة للمحتوى المؤيد للفلسطينيين. اعترف فيسبوك الأسبوع الماضي بأنه وصف بشكل غير دقيق بعض الكلمات التي يستخدمها الفلسطينيون عادة عبر الإنترنت (بما في ذلك "الشهيد" و"المقاومة") على أنها تحريض على العنف.

بين أكتوبر ونوفمبر 2023، وثقت هيومن رايتس ووتش أكثر من 1050 عملية إزالة وقمع أخرى للمحتوى على إنستغرام وفيسبوك نشره فلسطينيون وأنصارهم، بما في ذلك عن انتهاكات حقوق الإنسان.

5. كيف يمكن تعزيز المقاومة الإلكترونية في المستقبل؟

لقد حولت سهولة وسرعة المشاركة وإعادة التغريد وإعادة النشر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة حاسمة في هذا التحول الناجح في السرد. جدير بالأهمية أن يستمر ويتواصل ويتطور عمل ودور وفاعلية المواطنين الفلسطينيين العاديين الذين يغطون بكاميرا الهاتف الأحدث التي تقع في فلسطين، من اعتداءات وقتل يقوم بها جنود جيش الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، ونزاهة الجمهور المتلقي.

ومن المهم تعزيز استقطاب الرأي من خلال استخدام الناشطون والمجموعات المهتمة بالقضية الفلسطينية فيسبوك كأداة لحشد الدعم ونشر الرسائل. حيث تكتسب الحملات عبر الإنترنت والعرائض والدعوات للتضامن زخماً من خلال كثافة التفاعلات على المنصات، مما يخلق تأثيراً كبيراً على الرأي العام.

أيضاً تشجيع عدد أكبر من المشاهير الإعلان عن مواقفهم من الغطرسة والتوحش الصهيوني علانية في مواقع التواصل الاجتماعي بدلاً من التحدث بها في غرف مغلقة، كما فعلت المغنية البريطانية من أصل ألباني "دوّا ليبا" التي أعلنت صراحة تضامنها مع فلسطين ومع غزة، وطالبت إسرائيل بوقف حملة التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. كلك دعا الممثل والمخرج والمنتج الأمريكي الشهير "مارك روفالو" إلى فرض عقوبات على إسرائيل، وطالب بوقف الدعم الأمريكي لإسرائيل الذي اعتبره أنه يغذي العنف ويعيق وقف إطلاق النار. وكتب تغريدة على موقع تويتر يدعم فيها سكان قطاع غزة، وحصدت أكثر من 15 مليون مشاهدة، وعشرات آلاف الإعجابات، وآلاف التعليقات خلال 24 ساعة فقط.

كما استخدمت العارضتان جيجي وبيلا حديد، ووالدهما فلسطيني، حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي - التي تضم أكثر من 108 ملايين متابع مجتمعين - للتعبير عن دعمهما لفلسطين. وتصل منصاتهما الضخمة إلى الملايين في غضون ثوانٍ.

كل هذا يساعد في دفع التغيير في السرد الصهيوني المهيمن والسائد. حيث لا يمكن اعتبار وسائل الإعلام التقليدية مصدراً موثوقاً للحقائق. وهنا يبرز دور الإعلام الرقمي كأحد سلاح مقاومة العدوان الصهيوني، خاصة في الوقت الذي يتعذر فيه وصول الصحفيين والمحققين إلى أماكن كثيرة في فلسطين محدود للغاية لأسباب متعددة، فتصبح المسؤولية على عاتق المواطنين الذين يتحولون إلى صحفيين ينقلون جرائم الجيش الصهيوني إلى العالم خلال ثوان معدودة، وبوسائل بسيطة.

ومن المهم زيادة وتعميق التواصل ما بين النشطاء والفاعلين فيما بينهم، وفيما بينهم وبين شعوب العالم لزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية وتعقيداتها، ولنقل صورة حقيقية عن حياة الناس ومعاناتهم اليومية نتيجة الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وكذلك القيام بالعديد من الحملات والعرائض، أو حملات هاشتاغ، أو جمع الأموال للمشاريع على الإنترنت لدعم صمود الشعب الفلسطيني.

هذه الحملات المستمرة المنتظمة يجب أن تركز على أولاً: الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)؛ وثانياً: زيادة الوعي بقضية فلسطين من خلال الأنشطة على الإنترنت وعلى الأرض. فيما يتعلق بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. مع وجوب أن تشمل الأنشطة تشجيع المتسوقين على مقاطعة المنتجات من المستوطنات الإسرائيلية. ووقف التعاون العلمي والأكاديمي مع الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، وممارسة الضغط رقمياً على الممثلين والفرق الموسيقية والمغنين الدعوة والتوقف عن القدوم إلى إسرائيل. ولزيادة الوعي بقضية فلسطين مهم تزويد الجماهير عبر الإنترنت على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المجموعات بقصص ذات طبيعة حقوقية، وإنسانية، تتضمن مثل هذه القصص معلومات عن الظروف المعيشية للشعب الفلسطيني في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة.

من المهم تغيير الطريقة التي كان يرى بها العالم الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الشعب الفلسطيني. فالفلسطينيين وخاصة الذين يعيشون في غزة الآن ليس لديهم خيار سوى أن يكونوا صحفيين حرب.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني

ملاحظات أولية

تتواصل أزمة تلوث الهواء في أجواء العراق، وخاصة في العاصمة بغداد وأطرافها، بالملوثات الغازية السامة والضارة، في ظل عجز الحكومة عن معالجتها وحتى عن التخفيف من وطأتها على المواطنين.

قبل نحو، سبوعين عاش المواطنون في بغداد والأطراف المحيطة بها فترة هدوء قصيرة، خالية نسبياً من الملوثات والروائح الكريهة. يعود الفضل فيها للأمطار التي هطلت ونظفت الأجواء من الملوثات العالقة..

بيد ان فترة الهدوء لم تدم طويلا. فبينما كان العراقيون ينتظرون على مضض، مع أمل لدى البعض منهم، أن تنفذ الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة، وعد رئيس الحكومة السيد السوداني، الذي أطلقه في 15/10/2024، بـ " إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد ".. فجأة شهدت سماء العاصمة ليلة وفجر ونهار يوم الأحد الماضي، من جديد، سحابة دخان كثيف خانق، وروائح كبريتية كريهة، بلون اختناقها الأصفر، دخل المستشفيات على أثرها نحو 200.مواطن، أغلبهم من مرضى الربو وعجز القلب.

وشكلت عودة الدخان الخانق قلقاً واسعاً بين المواطنين من تفاقم التلوث بالغازات السامة، ضاعفت من تصاعد مخاوفهم من تأثيراتها الصحية عليهم وعلى أطفالهم.. وقد رصدت " شفق نيوز"، في فبديو لها، في 17/11/2024، غيوم الكبريت التي غزت سماء بغداد ولوثت أجوائها، معلقة بان هذه الغيوم: " ما تزال تعاند قرارات وإجراءات الحكومة العراقية، وتعود مرة أخرى لتطلي صباح العاصمة ومساءها بلونها الأصفر ورائحتها الكبريتية الخانقة ". وجالت كاميرا الوكالة، محلقة في سماء بغداد، توثق انتشار الدخان الأصفر الذي يتسبب بالكثير من حالات الاختناق والأعراض المرضية الأخرى عند أهالي العاصمة، الذين ينتظرون حلاً حكومياً جدياً، أو أن تحن عليهم السماء ببعض المطر ليغسل الهواء الملوث"..

والمعروف ان أجواء العاصمة بغداد وأطرافها تُعاني منذ أشهر من انتشار رائحة الكبريت، إلا أنها ازدادت بشكل ملحوظ خلال الشهرين الأخيرين، مما أثار شكاوى السكان مجدداً من تأثيره على جودة الهواء وعلى صحتهم وحياتهم، مصعدين من مطالباتهم المتكررة للجهات الحكومية، بالتدخل العاجل لإيجاد حلول جدية تحدُ من الانبعاثات الملوثة وتحسن جودة الهواء.

وقد كشف "المؤشر العالمي لجودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78%-كما أسلفنا في حلقة سابقة

وأشار الخبير في الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي في العراق صادق عطية، إلى تسجيل "ارتفاع كبير وخطير" في مستويات التلوث بالعراق، وقال في منشور عبر حسابه بفيسبوك في 18/10/2024،، إن "خارطة مستويات التلوث AQI في العراق، ومنها العاصمة بغداد، تشير إلى قيم عالية تتجاوز 150-225 مليغرام/ متر مكعب "

وقبل ذلك بيومين، نشرت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وقد بلغ 203، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية " Independent" )عربية"، 26/10/ 2024).

والطامة، أن يخرج المتحدث باسم وزارة البيئة على المواطنين الذين يعانون منذ شهرين وأكثر من الهواء الملوث بأوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى والروائح الكريهة، المخيمة كثيفا على بغداد، وتلحق الضرر بصحتهم وتهدد حياتهم، زاعماً: "لا داعي للقلق"! وان " الوزارة تراقب الوضع عن كثب".

ولم يوضح سيادته ما فائدة " المراقبة عن كثب" للمواطنين، خاصة الذين يعانون من مشاكل صحية، وأدى التلوث الى تفاقم حالتهم، والأطباء يواصلون تحذيراتهم من ان السحابة الكبريتية تزيد من خطر التعرض للسكتة الدماغية، وامراض القلب، والربو القصبي، وسرطان الرئة، وحتى الوفاة المبكرة.

وبما ان حبل الكذب قصير-كما يقول المثل الشائع، فقد ردت لجنة الصحة والبيئة البرلمانية، في الأثناء، على مزاعم وزارة البيئة بـ"مراقبتها عن كثب"، وهو رد يُعتبر بمثابة تكذيب لها، بكشفها بان محطات الوزارة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة، وان تأهيلها يتطلب 2،5 مليار دينار، بينما ميزانية الوزارة للعام الحالي لا تصل الى مليار واحد" ("المدى"، 18 /11/2024)..

ولم ترد وزارة البيئة على اللجنة البرلمانية لحد اليوم.. وسكوتها يعني انها كانت تضلل المواطنين ولا تقول الحقيقة، وبالتالي فهي لا تبالي بالمخاطر الصحية لتلوث الهواء على المواطنين. وبذلك فهي لا تلتزم بواجباتها ومسؤولياتها جاههم وتجاه المجتمع العراقي برمته.

والمفارقة الأخرى، هي ان وزارة البيئة كانت قد حددت في 13/10/2024، أماكن بؤر التلوث في العاصمة، وأكدت أنها تتمثل بمحطات توليد الطاقة الكهرباء التي تستخدم الوقود الثقيل ( النفط الأسود)، مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالاضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطامر غير الصحية، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي، بالإضافة الى الحرق العشوائي، خاصة أثناء الليل، وكذلك كور الصهر غير القانونية التي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة” (المصدر السابق).

وقد حملَّ رئيس الحكومة السيد السوداني، في 15/10/2024، المسؤولية على الممارسات الحكومية الخاطئة في التعامل مع التلوث البيئي، وكشف عن إتخاذ إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد. ووجه، بتشكيل لجنة متخصصة لدراسة حالة التلوث وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة، وبيان أسبابها ومعالجتها، مشدداً على ضرورة وضع حلول جذرية للمشكلة، ودراسة الأمر من جميع جوانبه، بحيث تُقدم اللجنة تقريرها الخاص بالموضوع خلال يومين (" الشرق. نت"، 18/10/ 2024..

هنا لابد من ملاحظة.. السيد رئيس مجلس الوزراء مهندس زراعي قديم، وكان إدارياً ناجحاً في وظائفه السابقة- كما وُصِفَ.. فهل من المعقول ان يطلب سيادته تحقيق جملة قضايا مهمة جداً (تشكيل لجنة من ذوي الكفاءة والخبرة، وتجتمع اللجنة، وتقترح معالجات مدروسة وفاعلة وقابلة للتطبيق) خلال يومين فقط ؟ّ!!.

بصراحة يا حضرة رئيس الحكومة، نقولها، مع تقديرنا لحرصك وطموحاتك الخدمية، أنك أوقعت نفسك بنفسك، مرة أخرى، في مطب التخبط والعشوائية وسوء الإدارة، الى جانب التهكمات..

ثم، ان هذا الحدث وما رافقه من تلكؤ وتقصير ولا أبالية، أليست كافية لمحاسبة المسؤولين المتنفذين المقصرين الذين أوصلوا البيئة العراقية الى هذه الحال ؟

أم ان القيود المفروضة عليك تمنعك من القيام بذلك ؟.

وبالعودة الى ما ذكرناه في المقدمة بان المواطنين ينتظرون على مضض تنفيذ الوعود، لأنهم شبعوا حد التخمة منها ومن تشكيل اللجان، معتبرين "تشكيل لجنة" يعني موت القضية المطروحة، وستكون في خبر كان، ذلك لأنه تم طيلة العقدين المنصرمين. تشكيل مئات اللجان، ولم تعُلن نتائج ولا لجنة واحدة رغم مرور أعوام، أو على الأقل أشهر عديدة، على تشكيلها.. ولم يسأل أحد من المسؤولين أو الجهات المعنية عنها..

وبشأن اللجنة التي أمر رئيس الحكومة بتشكيلها، فلا نعلم هل تشكلت فعلآ وضمن مواصفات المهنية والكفاءة العلمية والخبرة الإدارية.. وإذا تشكلت، فهل قدمت، في هذا الوقت القصير جداً، معالجاتها الجادة والفاعلة للمشكلة المطروحة؟ وهل المعالجات التي قدمتها مدروسة وقابلة للتنفيذ؟

حبذا لو تنشر مقترحات اللجنة ليساهم الخبراء البيئيون من خارج وزارة البيئة، في العراق وخارجه، في إغنائها..

وبالرجوع لما شهدته أجواء بغداد من عودة جديدة للدخان الكثيف والخانق والروائح الكريهة، ما يزال المسؤولون المعنيون يتحدثون ويبحثون عن الأسباب، بينما المواطنون ينتظرون من فترة طويلة وضع حد عاحل لهذا النوع من التلوث الذي أضر بصحتهم كثيرا.

أما ما. أما متى يشرعون بالعمل لمعالجة المشكلة جذرياً.. فعيش وشوف!!!

في يوم الاحد 17/11/2024 تحدثت لجنة الصحة والبيئة النيابية عن أسباب عودة الدخان الكثيف والروائح الكريهة. وقال عضو اللجنة، النائب باسم الغرابي ان "أحد أبرز أسباب انتشار الروائح الغريبة الشبيهة بالكبريت، هو حرق النفايات، ومخلفاتها غير المسيطر عليه ".

وأضاف " أن الحكومة شرعت بحملة من قوى الامن وبالتالي أوقفت الحرق نوعا ما، واختفت السحب الدخانية"، مستدركا "عندما توقفت الحملة الحكومية عادت الناس تحرق في نفس الأماكن".

ومن الاسباب الاخرى، وفق الغرابي، هو "انتشار معامل الطابوق ومعامل الاسفلت قرب المناطق السكنية، واستخدام النفط الاسود واستخدام مولدات كهرباء تعمل بالنفط الثقيل او الوقود الثقيل والنفط الاسود، فضلا عن تأثيرات المصافي، مثل الدورة ومخلفاته، التي تنبعث منها نتيجة التكرير، ومكانات الصهر الموجودة في داخل الاحياء غير مسيطر عليها" ("المدى"، 18/11/2024)..

لم توضح اللجنة البرلمانية المتخصصة ما الجديد فيما أعلنته، وهو معروف للقاصي والداني. وقد شخصت مصادر بيئية عديدة ان السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة يعود إلى استمرار بعض المعامل الصناعية في استخدام الوقود الثقيل، المعروف بتسببه في انبعاثات ملوثة عالية، على الرغم من الدعوات السابقة لإغلاق هذه المنشآت أو التحول إلى بدائل طاقة أنظف.

وثمة مصادر كانت أكثر جرأة من غيرها، عندما قالت بأنه رغم الجهود الحكومية المعلنة لمكافحة التلوث البيئي، إلا أن العديد من تلك المعامل لم تخضع للإجراءات العقابية أو الإغلاقات المطلوبة، مما يعكس وجود فجوة في تطبيق القوانين البيئية. ويأتي ذلك في وقت تتزايد فيه شكاوى المواطنين من تردي نوعية الهواء، حيث تتسبب الانبعاثات السامة في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية، لا سيما بين الأطفال وكبار السن. وإن غياب الرقابة الصارمة واستمرار السماح باستخدام الوقود الثقيل يشكلان عقبة رئيسية أمام تحسين جودة الهواء في بغداد. وطالب ناشطون بيئيون باتخاذ إجراءات حازمة تشمل إغلاق المعامل المخالفة وتحفيز الانتقال إلى مصادر طاقة مستدامة.

وأكد المختص البيئي، مرتضى حاتم بإن "استمرار استخدام الوقود الثقيل في المعامل الصناعية دون اتخاذ حلول جذرية يشكل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة في بغداد، حيث أشار إلى أن الانبعاثات الناتجة عن حرق هذا النوع من الوقود تحتوي على جسيمات دقيقة ومواد سامة ترتبط مباشرة بزيادة معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب، إضافة إلى مضاعفات خطيرة على الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن".

ونبه حاتم الى أن "تراكم الملوثات في الهواء لا يقتصر تأثيره على الصحة الفردية، بل يمتد ليؤثر على النظام الصحي العام من خلال ارتفاع حالات الاستشفاء والتكاليف الطبية".وتابع أن "الأزمة لن تُحل بإجراءات شكلية، داعيًا الجهات المعنية إلى تبني سياسات صارمة تشمل إغلاق المصانع المخالفة، ودعم التحول إلى بدائل طاقة نظيفة تقلل من آثار التلوث على البيئة وسكان العاصمة" ("المدى"، 17/11/2024)

ثم، ان وزارة البيئة ذاتها أعلنت بأن “عودة الروائح وارتفاع تراكيز الملوثات في سماء بغداد سببها إصرار بعض الأنشطة الصناعية والبلدية المخالفة على مزاولة عملها في ساعات الليل”، مبينة أن “إدارتها العليا وفرقها الرقابية تعمل ميدانيا على مدار الساعة على متابعة مصادر تلوث الهواء في بغداد”.

وقال الوكيل الفني لوزارة البيئة د. جاسم الفلاحي، إنه "رغم ان الحالة الطقسية تسهم في وضوح تلك الروائح الا ان هنالك مشكلة كبيرة في إصرار عدد من الأنشطة الصناعية وغيرها بعدم الامتثال لقرارات الغلق واعتماد وسائل حرق مخالفة لأبسط المحددات البيئة". وأشار إلى أن "تقارير مديرية بيئة بغداد الموثقة استعرضت ابرز أسباب تفاقم التلوث يعود إلى استمرار الحرق السلبي في معامل الطابوق وكور الصهر غير القانونية والأسفلت في النهروان وبعض مناطق بغداد إضافة إلى حرق النفايات المستمر في معسكر الرشيد والنهروان وبعض مواقع جمع النفايات رغم وجود مراكز بلدية وبلديات تابعة إلى امانة بغداد والجهات الامنية الماسكة للأرض تتولى تلك المسؤولية".

كما حذر الوكيل الفني من أن "التقرير الشهري الذي ستعرضه الوزارة على مجلس الوزراء الموقر سيتضمن أسماء وعناوين الأنشطة المستمرة بالمخالفات والجهات القطاعية المعنية بإيقاف تلك الأنشطة" ("المدى"، 17/11/2024)..

والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل سيعقب التحذير المذكور إجراءات رادعة ومعالجات فاعلة عاجلة ؟ أم ان المشكلة ستبقى موضع تصريحات وتوضيحات وتفسيرات بين المسؤولين المعنيين، بينما الوضع البيئي المتردي يتفاقم يوماً بعد اَخر، ويفتك تلوث الهواء بملوثات اوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى، بالمواطنين ويلحق اشد الضرر بصحتهم، ويرهقهم بروائحه الكريهة، بينما يواصل الأطباء التنبيه والتحذير من خطورة هذا التلوث، الذي يزيد خطر التعرض للسكتة الدماغية وامراض القلب والربو وسرطان الرئة وغيرها..

هل ثمة أمل في انتظار المواطنين لحلول عاجلة، أم سيكتفون بـ"تطمين" المتحدث باسم وزارة البيئة لهم: "لا داعي للقلق"! لان وزارته "تراقب الوضع عن كثب"، وأمرهم لله لأن المراقبة واهية- محطات وزارة البيئة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة..

الى هذا، كتب راصد الطريق:" كانت جهات معنية مختلفة، بينها وزارة البيئة، قد ذكرت سابقا ان التخلص من التلوث الخطير ممكن عن طريق اغلاق المعامل التي ترفض استخدام وقود نظيف، وفرض هذا الوقود على محطات الكهرباء والانشطة الصناعية الاخرى بضمنها معامل الطابوق، ومنع احراق النفايات في المطامر العشوائية، وغير ذلك.. لكن شيئا من هذا لم يتحقق حتى الساعة، ولم يتم اغلاق او معاقبة أي معمل او جهة اخرى مخالفة."..

وتساءل بحق: "فهل ان هذا الحال، واستمرار اختناق بغداد والبغداديين، مما يروق للوزارة وللحكومة.. ام ماذا ؟ " ("طريق الشعب"، 19/11/2024)..

فهل من مجيب؟

***

الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد

 

.. جنوب لبنان جزء من "إسرائيل" أم العكس؟

كلام رغبوي خارج السياق

في آخر مقالة لي نُشرت في الأخبار (16 تشرين الثاني 2024)، كتبتُ أنَّ إقليم فينيقيا مجاور لشمال فلسطين ويتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى. مالم أقله حينها لانعدام الحاجة والسياق هو أنَّ من حق اللبنانيين أن يقولوا إنَّ الجليل كان جزءاً جنوبياً من فينيقيا، مثلما أن من حق الفلسطينيين القول إن فينيقيا كلها كانت جزءاً شمالياً من أرض كنعان.

الجديد، هو أن موظفاً إعلامياً في مكتب نتنياهو يدعى مايكل فرويند كتب مقالة في صحيفة "جيروزاليم بوست - عدد 17 تشرين الثاني- نوفمبر 2024" عنوانها: "جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل". فما علاقة الكيان الصهيوني المصطنع "إسرائيل" بالعلاقة بين فينيقيا وأرض كنعان القديمتين، بل وما علاقة الكيان القديم "مملكة إسرائيل" الوثنية والتي لعنتها ولعنت ملوكها التوراةُ بهذه السياقات؟

كتب فرويند: "الحقيقة هي أن الحدود الحالية بين إسرائيل ولبنان لا يزيد عمرها على قرن من الزمان وهي حدود مصطنعة بالكامل"، وكأن حدود كيانه ليست مصطنعة، وهو يعلم أنه لولا الأموال والسلاح الأميركي الإبادي لما استمر قائماً بضعة أشهر لا بضع سنوات! ويضيف أن هذه الحدود "هي من بقايا زمن كان فيه المستعمرون الأوروبيون يرسمون خطوطاً على الخرائط على زجاجة البراندي في غرف مليئة بالدخان. من الناحية التاريخية، فإن جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل، وجذور الشعب اليهودي في المنطقة عميقة". إنَّ فرويند يتناسى أن كيانه "إسرائيل" قد رسم خريطته أحد أولئك المستعمرين الأوروبيين ويدعى بلفور في غرفة لا تقل دخاناً ودماء.

وإذا كان من حق فرويند ومشغله ميليكوفسكي نتياهو أن يعودا إلى قصة إسرائيل الوثنية على أرض كنعان أو إلى أرض مملكة يهوذا التوحيدية، فإنَّ من حق اللبنانيين والفلسطينيين اليوم أن يعودوا أيضاً الى تلك هذه الحقب التاريخية السحيقة ويطالبوا بطرد محتلي أرض كنعان. والحقيقة فلا علاقة لغزاة اليوم، لا بأرض كنعان ولا حتى بالعبرانيين أو ببني إسرائيل القدماء. فهؤلاء الذي يزعمون أنهم يهود إنما هم متهودون من شعوب وأعراق أخرى، وقصة صعود وانهيار مملكة "خانية" الخزر (650 -1048 م) وملكها المتهوِّد إيبوزير جاليفان (688–711م) جنوب روسيا موثقة ومعروفة.

عشرون مدينة فينيقية في الجليل

إنَّ أدلة فرويند وحججه ليست إلا اقتباسات انتقائية من التوراة: فمن سفر التكوين (10:19) يقتبس "حدود كنعان تمتد من صيدا نحو جِرار إلى غزة". ثم يقفز من هذا الواقع الجغراسياسي لما قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ليتحدث عن صيدا، المعاصرة ثم يقتبس من سفر التكوين (49: 13) دليلاً توراتياً آخر هو البركة التي منحها "بطريركنا التوراتي يعقوب أبناءه الإثني عشر، وكانت البركة التي أعطاها لابنه زبولون تنص على "ويسكن زبولون عند شاطئ البحر ويكون ميناء سفن، ويكون تخومه إلى صيدا". ومن سفر يشوع (13: 6) يقتبس ورود اسم صيدا صراحةً "باعتبارها المدينة الموعودة للشعب اليهودي، أن حدود سبط آشير كانت تمتد إلى صيدا".

من السهل أن نرد على فرويند وزملائه باقتباسات مضادة من التوراة نفسها، ونطالبهم بإعادة عشرين مدينة في الجليل منحها الملك سليمان للملك الفينيقي حيرام كمقابل لما بعثه له هذا الأخير من ذهب وأخشاب أرز كما ورد في الإصحاح التاسع من سفر الملوك الأول لنقرأ (9 :11) من هذا السفر: "وكان حيرام ملك صور قد ساعف (أسعف – زوَّد) سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرته، أعطى حينئذ الملك سليمان حيرام عشرين مدينة في أرض الجليل ويعيد إلى أحفاد حيرام في صيدا تلك المدن العشرين في الجليل". وكلام التوراة واضح في أن هذه المدن ستعاد إلى أحفاد حيرام أي إنها فينيقية في الأصل! فهل سيعيد فرويند وحكومته هذه المدن العشرين لأحفاد حيرام في صيدا المعاصرة أم أنه سيأخذ من التوراة ما يعجبه فقط؟

ولكننا لن نلجأ إلى النصوص الدينية لأن مدارها وجوهرها دينيان، غيبيان، وأخلاقيان ولا علاقة لهما بمناهج البحث العلمي الحديث في ميادين الإناسة والآثار والحضارات القديمة بل سنلجأ إلى سجلات العلم لنلاحظ:

-إن الدول في عصرنا الحاضر لا تقوم وتحدد حدودها بناء على ما يرد في الكتب الدينية كالتوراة وغيرها، فالتوراة تُلْزِمُ المؤمنين بحرفيتها وصدقيتها فحسب، ولكنها غير مُلْزِمَةٍ لغير المؤمنين بها أو المتضررين منها!

بكلمات أخرى؛ إذا كانت التوراة مُلْزِمة لفرويند فما حجيتها وإلزامها على المسلمين الذين يعتبرون التوراة والأناجيل الحالية محرفة ومختلفة عن تلك التي أنزلت على الأنبياء؟ ولنفترض أن فرويند وجد لبنانيين يتفقون معه على مرجعية التوراة التي تقول إنَّ صيدا هي المدينة الموعودة للشعب اليهودي، فهل سيتفق معهم على تنفيذ ما قاله الإصحاح العاشر من سفر الملوك عن فينيقية عشرين مدينة في الجليل ويعيدها إليهم؟

إن الاحتكام إلى النصوص الدينية لم يعد من عوامل تأسيس الدول ورسم حدودها ولا دور لها في تأصيل وتكريس المعاهدات الدولية في عصرنا، وإنَّ علوما أخرى بدأت تتخصص في دراسة التاريخ القديم وفروعه المختلفة كتاريخ الإنسان واللغات المنقرضة والحية والحضارات، تعتمد الأدلة الآثارية الملموسة والمؤكدة مختبريا بنظائر الكاربون المشع 14 وعلم المورثات والهندسة الجينية وعلوم الألسنيات واللغات القديمة والصوتيات...إلخ.

لن نغوص كثيرا في موضوع التفريق بين الكنعانيين والفينيقيين والعلاقة بينهما، وهل هما شعبان أم شعب واحد سكن إقليمين فصار لاحقا شعبين (كنعانيو الداخل وكنعانيو الساحل). ولكننا نعلم من التأريخ أن النشاط البحري التجاري الفينيقي كان قوياً في عهد الدولة المصرية الوسطى (2050 - 1710 ق.م) فصاعدا، وثمة صورة منحوتة لسفينة فينيقية رسمت على جدران أحد المعابد المصرية تعود إلى عام 1400 ق.م. أما الحدود التخمينية بين الجليل الفلسطيني وفينيقيا الجنوبية فهي متداخلة كما قلنا منذ أقدم العصور.

فينيقيا وفلسطين القديمتين

 ولكننا، نضع اليد على واحدة من تجليات الظاهرة الحدودية الجنينية بين الإقليمين فقد تحول جبل الكرمل في الجليل إلى "فاصلة تحجز بين الفينيقيين والقادمين الجدد "الفلسطة". ولهذا ما عاد الساحل الفلسطيني إلى جنوب الكرمل يدخل ضمن فينيقيا بعد ذلك التاريخ (القرن الثاني عشر ق.م) وصار اسمه (ساحل بلستيا). كما يكتب يوسف سامي اليوسف في "تاريخ فلسطين عبر العصور - ص 58".

لقد كانت حدود فينيقيا الشرقية "الآسيوية" في أقصى اتساع لها، تمتد من كوراسيزيوم جنوب تركيا الحالية وحتى ربيحو "رفح" جنوب فلسطين (خريطة الأبرشية المشرقية)، ثم تقلصت وأمست تمتد من جنوب أوغاريت الكنعانية وحتى شمال مدينة مجيدو (تل المستلم) شمالي فلسطين الكنعانية. ثم انكمشت أكثر ولم تعد تتجاوز حدود مدينتي صور وصيدا وريفهما. أما فينيقيا الغربية الأفريقية وعاصمتها قرطاجنة "قرت حدشت/ قرية حديثة" فلها شأن آخر. فعن أي فينيقيا يريدنا فرويند أنْ نتحدث؟

كلمة إسرائيل ليست عبرية ولا يهودية

إذا كان الموظف في مكتب نتنياهو يحشد أدلته وبراهينه من كتابه المقدس فهذا شأنه، أما نحن فسوف نستقرئ ما تقوله العلوم والأبحاث التأريخية والأنثروبولوجية وعلوم مقارنة الأديان والحضارات:

- تقول الإيتمولوجيا (علم التأثيل اللغوي) إن كلمة "إسرائيل" نفسها لا علاقة لها باللغة العبرية في طورها التوحيدي فهي تتألف من (إسرا) التي تفسرها التوراة نفسها بـ "صرع" في عبارة "صرع الله" التي صارت لقبا ليعقوب بعد أن صرع يعقوب الإله فجرا (تك 32:28). كما وردت لكلمة عدة معانٍ أخرى منها "جندي ئيل، عبد ئيل، وأسير ئيل" مع ثبات اسم (ئيل) كبير الألهة الوثنية في بلاد الرافدين وأرض كنعان القديمة كلها. ومن تركيباتها بابل = باب ئيل، العاصمة الرافدانية المعروفة، وكربلاء "كرب ئيل = قرب ئيل. ومن أسماء الملوك الآراميين الوثنيين القدماء لدينا قائمة طويلة تنتهي باسم الإله ئيل ومنهم ملك دمشق حزائيل الذي قاد تحالف ممالك المدن الآرامية ضد الغزو الآشوري في (853 ق.م). وعلى هذا فكل اسم ينتهي بـ (ئيل) هو وثني تعددي ولا علاقة له بالعبرانيين واليهود الموحدين وإلههم "يهوه".

-تقول الفيلولوجيا (فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة) إنَّ هناك إلهاً فينيقياً وثنياً يدعى "إسرائيل". تكلم عنه مؤرخ وكاهن فينيقي يدعى سنخوناثان (سَنْكُنْيَتُنْ) في كتابه عن تاريخ الفينيقيين، وترجمه إلى اليونانية الكاتب الفينيقي فيلون الجبيلي. وقد كتب الراحل زكريا محمد في مقالة مهمة له (الأخبار- 1 كانون الأول 2018) أن هذا الكتاب لم يصلنا "لكن فقرات منه وردت في كتابات الكتاب المسيحيين الفلسطينيين. وهناك على الأخص فقرة مهمة جداً من يوسيبيوس تعلمنا بوجود هذا الإله: "أما كرونوس (ساتيرن) الذي يدعوه الفينيقيون إسرائيل، والذي ألّه بعد موته، وجُعل في النجم الذي يحمل اسمه، فإنه عندما كان ملكاً، كان له ابن وحيد من حورية تدعى أنوبرت، ولهذا ما زال الفينيقيون يسمونه بالوحيد. وحين أحاقت بأرضه مصائب الحرب، فقد زيّن المذبح، وألبس ابنه الرموز الملوكية وضحى به - (Richmond, (1876، Cory’s Ancient Fragments, Page21-22".

- وإنَّ صهيون كلمة كنعانية وهي وصف طوبوغرافي باللغة الكنعانية لجبل في ضواحي القدس، كما يقول الباحث المقدسي إيهاب الجلاد، الذي يرى أن "الجبل حين ذُكر باسمه هذا في التوراة فهذا يعني أنه موجود قبل ظهور بني إسرائيل، وما جاء كان وصفاً لمكان قائم أصلا". مضيفاً أن "صهيون" أحد أسماء مدينة القدس قديماً. وعدا عن جبل صهيون بالقدس، يحمل جبلٌ في ريف اللاذقية بسوريا، وآخر في اليمن اسم "صهيون" كناية عن علوهما ومنعتهما".

الإله إسرائيل الفينيقي

بالعودة إلى ما كتبه الراحل محمد زكريا نجد أنه ربطه بين هذا الإله ومملكة إسرائيل القديمة الشمالية، والتي وصفناها بالوثنية التعددية، بما يؤكد ديانتها وهويتها الوثنية الكنعانية وربما كان هذا الربط متسرعا ويحتاج إلى مزيد من التقصي والتمحيص. ويلفت محمد نظر قارئه إلى أنَّ المؤرخين الغربيين كلهم، شطبوا اسم هذا الإله من الوجود. لقد رفضوا تصديق وجود إله باسم إسرائيل، مفترضين أن وجوده خطأ من الناسخين لا غير، وأن الاسم يجب أن يكون في الأصل «ئيل/ الوثني» وليس «إسرائيل». مع أن الأحرى بهم كان أن يرفضوا اسم إسرائيل نفسه كاسم توحيدي عبراني وهو ليس كذلك! ويضيف الراحل: "إن الغالبية العظمى - من المؤرخين والباحثين الغربيين - تضع، تقتبس النص أعلاه، «ئيل» مكان «إسرائيل» من دون أن تشير إلى ذلك أبداً، أي من دون أن تخبر القارئ أن الاسم في نسخة يوسيبيوس هو «إسرائيل». وقد أذهلني هذا تماماً حين اكتشفته. وهكذا مُحي اسم هذا الإله الفينيقي. وقد محي لأن وجود إله باسم "إسرائيل" يثير اضطراباً، قد يؤدي إلى تغيير الصورة السائدة للديانة اليهودية جذرياً. فبناء على وجوده، يكون بنو إسرائيل عباد هذا الإله -الوثني -في الأصل". إن وثنية دولة إسرائيل الشمالية تعترف بها حتى التوراة فهي تصب لعناتها عليها وعلى ملوكها لهذا السبب بالذات ولأنهم عبدوا البعل – الإله الوثني المقابل لئيل -وهو ليس أمرا جديدا إنما الجديد في الاسم ومنشئه الفينيقي.

وأخيرا فإن الأدلة المادية التي يوردها فرويند كدليل على قِدم الوجود اليهودي في جنوب لبنان كقبر زفلون في صيدا وقبر أهليآب بن أخيساماخ في بلدة سُجد وقبر النبي التوراتي صفنيا في قرية جبل صافي، إنْ صحت يهوديتها لا تعني إلا أمرين حاسمين ومهمين؛ الأول، وقد اعترف به المؤرخون يهود منصفون وهو سماحة وإنسانية الحضارات العربية والمشرقية القديمة مع الأقليات الدينية وخاصة مع اليهود الذين عاشوا قرونا طويلة في بلاد الرافدين (حيث لاتزال قائمة أضرحة ومقامات أنبياء يهود منهم النبي القرآني ذو الكفل (حزقيال التوراتي) في بابل وعزرا في أقصى الجنوب العراقي) وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا واليمن وتركوا وراءهم العديد من الآثار التراثية بعد أن اقتلعتهم الحركة الصهيونية العنصرية ودولتها من جذورهم بوسائل إرهابية استخبارية.

الأمر الثاني الذي تؤكده هذه الأدلة وغيرها هو أصالة وقِدم الوجود اليهودي الحقيقي في العالم العربي ولكنه وجود وتراث لا علاقة له بالوجود الإشكنازي الخزري المتهود والذي جاءت الحركة الصهيونية بغالبيته من شتى بقاع العالم وحولته الى جيش مسلح استيطاني، في كيان وصفه أرئيل شارون بأنه عبارة عن "حاملة طائرات أميركية ثابتة" كما اقتبس وزير استخباراته يوفال شتاينتس، قبل أن يتحول من حاملة طائرات ثابتة إلى عصابات دموية متحركة بزعامة التيار الصهيوديني لتمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي علناً ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني!

***

علاء اللامي - *كاتب عراقي

لم يعد التعداد السكاني يقتصر على معرفة عدد نفوس الدولة وبيانات عن عدد المواطنين من حيث النوع الاجتماعي (ذكور، اناث) والعمر والمهنة و.. ، بل انتقل الآن الى توفير قاعدة بيانات تساعد في اتخاذ قرارات لتحسين كافة قطاعات الدولة : التعليم، الصحة، الدراسات العلمية، الخدمات.... وكل ما يمكّن وزارة التخطيط بأجراء دراسات أكاديمية تساعد على تطوير الوطن.

 وعلى صعيد المواطن، فان أهم أجراء يحققه هو (العدالة الاجتماعية) وتعني.. تحقيق المواطنة المتساوية وتوزيع الثروة والفرص والامتيازات بشكل عادل بما يحقق الأمن الاقتصادي ( غذاء، سكن، ملابس، رعاية صحية، تعليم...) لكل مواطن، ولهذا فان الدول المتقدمة تجري التعداد السكاني كل خمس او عشر سنوات، فيما تعداد السكان الحالي (2024) في العراق يأتي بعد (27) سنة من آخر تعداد.

 وما حصل في العراق خلال العشرين سنة الماضية، ان الذين استلموا السلطة بعد 2003، استفردوا بها وبالثروة ايضا، وانتهكوا مبدأ العدالة الاجتماعية بشكل صارخ.. فبرغم أن العراق يعدّ اغنى بلد في المنطقة و أحد أغنى عشرة بلدان في العالم، فان من استفردوا بثروة العراق افقروا 13 مليون عراقي باعتراف وزارة التخطيط. والسبب في ذلك شخّصه مركز بحوث فرنسي بأن 36 سياسيا من احزاب السلطة صار كل واحد منهم ملياردير دولار! بينهم من كانوا فقراء. يؤيد ذلك وصف المرجعية الدينية لهم بـ( حيتان الفساد).. الذي شاع زمن الحكومتين (2006 الى 2014) واصبح الفساد في المفهوم العام شطارة وانتهاز فرصة بعد ان كان في القيم العراقية خزيا وعارا.. وانشغلوا بانتاج الأزمات ولم يقدموا انجازا وطنيا واحدا على مدى عشرين سنة!

 ليس هذا فقط بل انهم انتهكوا مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وتقاسموا مؤسسات الدولة بين عوائلهم!، نجم عنها هجرة الألاف من ذوي الكفاءات من مختلف الاختصاصات. ومع ان النظام ديمقراطي يبيح التظاهر السلمي، فأنه في يوم واحد فقط من ايام انتفاضة اكتوبر/ تشرين (الخميس الثالث من الأيام الخمسة الأولى للأنتفاضة) سقط (36) قتيلا في بغداد و (21) في ذي قار تليهما: الديوانية، النجف، كربلاء، وديالى.. برصاص حكومة عادل عبد المهدي.

 اننا اذ نبارك خطوة التعداد السكاني التي جاءت بعد آخر تعداد (1997!) ونحيي السيد محمد شياع السوداني وندرك حسن نيته.. لكننا نرى ان وعده بأن احد اهم اهداف التعداد السكاني هو تحقيق العدالة الأجتماعية.. لن يتحقق. فالذين اصبحوا ملياردريه.. معظمهم قيادات في احزاب اسلامية، استبدلوا عقيدتهم الاسلامية بتطبيق العدالة الأجتماعية بعقيدة حب المال وصاروا في كنزه كجهنم.. يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد. وما اقتدوا بالأمام علي الذي قال يوم اصبح خليفة: جئتكم بجلبابي وثوبي هذا فان خرجت بغيرهما فأنا خائن. ولأنهم ما خافوا حتى من ربّهم يوم الحساب، فأنهم لن يخافوا من رئيس وزراء هم اتوا به، وسيكون حاله حال سلفه السيد حيدر العبادي الذي اقسم بأنه سيقضي الفساد (حتى لو يقتلوني) ثم اعتذر مبررا ان الفاسدين.. مافيا تمتلك المال والقوة والفضائيات، غير انهم سيخافون فعلا ان أعلن السيد السوداني بأن أحد اهم شروط تحقيق العدالة الاجتماعية التي يدعو اليها الاسلام والنظام الديمقراطي.. هو تطبيق مبدأ: من اين لك هذا؟.. حين يدفعه يقينه بأنه فاعلها بقوة اربعين مليون عراقي نصفهم جياع، في ثورة جياع سلمية، يكون بها العراق انموذجا في تطبيق المفهوم الحديث للتعداد السكاني بالمنطقة.

***

ا. د. قاسم حسين صالح

 

الخلط بين حدثين مختلفين

بعد انتهائي من كتابة الجزء الثاني من مقالتي حول بعض مظاهر العدوان الصهيوني على جبهة الآثار والتراث الفلسطيني ونشر هذا الجزء (الأخبار - 16 تشرين الثاني 2024)، وخلال تفحصي لمراجع المقالة، تنبهت إلى وجود خلط محتمل - تأكدت من وجوده لاحقا - بين موضوعين وحدثين مختلفين بينهما أربع سنوات تقريبا، سببه وجود صورة نشرت مع الخبر الخاص باكتشاف ما سماها الإعلام الإسرائيلي "بوابة إسرائيل الأولى" في موقع أثري قرب تل عيراني الواقع على مسافة 43 كم شمالي بئر السبع. وقد تبين لي أن تلك الصورة التي علقتُ عليها في مقالتي الثانية نشرت أيضا مع خبر آخر باللغة الفرنسية يخص اكتشافا مزعوما لمدينة توراتية مفقودة هي صقلغ (Ziklag).

وبالعودة إلى أوليات وتفاصيل الخبر الثاني وجدتُ أن صحيفة هآرتس كانت قد نشرته بتاريخ 09 تموز - يوليو 2019، أي قبل نشر خبر البوابة بأربع سنوات أو أكثر قليلا.

ومن الواضح أن الخبر الثاني، الأقدم، والذي لم أتوقف عنده تحليليا في الجزأين المنشورين، لا يقل تلفيقية واضطراباً عن الآخر؛ فخلاصته الحرفية تقول: "إن فريقاً من علماء الآثار الإسرائيليين والأستراليين أعلنوا أنهم عثروا على أنقاض مدينة صقلغ التوراتية والتي كانت تقع في منطقة النقب في الجنوب بالقرب من بلدة كريات جات مما كان يعرف بمملكة يهوذا. ويرجع تاريخ صقلغ إلى أوائل القرن العاشر قبل الميلاد وهو الوقت المرتبط بالملك داود. وإذا كانوا على صواب فإن ذلك سيعزز النظرية القائلة بأن الملك داود كان أكثر من مجرد زعيم محلي على قمة التلال، ويدعم النظرية القائلة بأنه حكم بالفعل مملكة موحدة في منطقة يهوذا. لكن يبدو أن المملكة لم تكن ذلك الكيان العظيم في العصور القديمة التي يتصورها البعض" وتضيف هآرتس: "وأوضح العلماء أن اسم صقلغ، يبرز في السجل التوراتي على أنه ليس ساميا أو كنعانيا، ولكن يبدو أنه فلسطيني "فلسطي"، وقد أثبتت الدراسات الوراثية الأخيرة التي أجريت على الهياكل العظمية المكتشفة في مقبرة الفلسطينيين في عسقلان، أن الفلسطيين الغامضين نشأوا في أوروبا". وتختم هآرتس تقريرها الإخباري بالقول "وبحسب الكتاب المقدس العبري، فإن ملك فلسطين حشيش جات (لاحظ الاسم السامي للملك)، سمح لداود بالانتقال إلى صقلغ، عندما فر من يهوذا بسبب عدم رضاه على الملك شاوول، وأصبحت المدينة قاعدة له لبناء قواته". لنتفحص هذه الكًوْمة من الأخطاء والتلفيقات:

لن نتوقف طويلا عند فرية "هآرتس" المفضوحة حول "المنشأ الأوروبي للفلسطينيين" والتي كررها بمتعة حتى الجاهل في العلوم نتنياهو، وكنا قد فندنا هذه الفرية في حينها (الأخبار عدد 18 تموز 2019) وفندها غيرنا حين نُشرتْ نتائج التحليل الجيني لرفات عسقلان 2019. فالمتفق عليه بإجماع العلماء هو الأصل الكنعاني السامي "الجزيري" للشعب في أرض كنعان قبل وبعد هجرة قبائل الفلسطة "فلشتيم" من جزر شرقي المتوسط وذوبانهم مع الكنعانيين خلال خمسة قرون، وحتى قبل تسجيل أول إشارة إلى أي وجود عبراني أو شبه عبراني في رسائل تل العمارنة في مصر وباللغة الأكدية الرافدانية سنة 1360 ق.م.

بوابة تل عيراني وأنقاض صقلغ

إن الخلط الذي وقع بين الخبرين؛ خبر بوابة تل عيراني وخبر أنقاض صقلغ لا ينفي أو يضعف من حيث الجوهر تفنيدنا لخبر البوابة إذْ تبقى الأسئلة التي أثرناها صحيحة، خصوصا وأن صورة الموقع الجديد للبوابة لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عن صورة أنقاض صقلغ رغم أنها أكثر تنظيما ووضوحا ولا لكنها لا تعطي الانطباع بوجود البوابة الحجرية "العظيمة والرائعة" التي تحدث عنها الفريق المُكتشِف.

وحتى ضمن نص خبر هآرتس، يفهم القارئ أن الأمر يتعلق بقرية صغيرة تدعى صقلغ ورد ذكرها في التوراة، وبهذا اعتبرت القريةُ توراتيةً. وهذا صحيح جزئيا وشكليا ولكن لا يترتب عليه أن المدينة توراتية أي يهودية أو عبرانية، بل قد تكون كنعانية أو فلسطية مثلما أن قولنا إن نبوخذ نصر هو "شخصية توراتية" بمعنى أن اسمه ورد ذكره في التوراة، وليس بمعنى أنه يهودي أو عبراني فهو الذي دمر مملكة يهوذا. ولكن نبوخذ نصر ليس توراتياً فقط كسليمان أو داود (والدليل الذي قُدم بخصوص داود أي نقش تل القاضي أكد ورولستون، الخبير الإسرائيلي في النقوش السامية القديمة كونه مزيفا وملفقا) بل ورد ذكره في العديد من السجلات والأثار المادية من نصب وتماثيل في بلاد الرافدين بما يؤكد كونه شخصية تأريخية حقيقية. أما ما ورد في التوراة فقط من أسماء شخصيات ومدن فلا يعني تماما ومئة بالمئة أنه تأريخي وحقيقي على الأرض وفي التأريخ. ونجد تفاصيل دحض الكثير مما ورد في التوراة في كتب خبراء الإناسة والآثار ومنهم مثلا توماس تومسن في كتابة "التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" وشلومو ساند في كتبه ومنها "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل"، وإسرائيل فنكلستين "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها". ولكن الخبر نفسه يؤكد أن قرية أو بلدة صقلغ لم تكن سامية أو كنعانية بل هي فلسطينية والأدق أن نسميها "فلسطية". وإن حاكمها الملك حشيش جات، سمح لداود بالانتقال إليها كلاجئ. أما في التوراة فنقرأ أن الملك الفلسطي حاشيش أعطى هذه البلدة لداود، وأن العماليق هاجموها وأحرقوها حين كان داود بعيدا عنها، وأن هذا الأخير طاردهم واسترد الغنائم منهم ...إلخ" وهذه كلها قصص توراتية لا يوجد ما يؤكد شيئا منها، بل إن صقلغ نفسها بقيت مدينة مجهولة الموقع طوال قرون وقرون. فهل وجد الآثاريون اليوم ما يؤكد أن هذه الأنقاض قرب كريات جات هي لصقلغ؟ هل تم العثور على ما يؤكد علاقتها بشخصية تدعى الملك داود؟

الباحثة الفرنسية فيلنوف تجيب

لنستمع لما تقوله الباحثة الفرنسية إستل فيلنوف، المتخصصة في علم آثار الكتاب المقدس (في حوار معها أجرته صحيفة (Tribune Juive) الناطقة بالفرنسية عدد 11 تموز- يوليو 2019، حول ما تم العثور عليه من أدلة أركيولوجية في صقلغ، حيث قالت إن ما تم العثور عليه لا يتعدى وجود "مواد تعود إلى القرنين 11 و12، والتي تعتبر فلسطينية نموذجية، تحت طبقة من بداية القرن العاشر". إذن لا شيء يؤكد اسم المدينة "صقلغ" أو علاقتها بداود بل هناك مواد قد تكون بقايا عضوية حللت باستعمال نظائر الكاربون المشع لمعرفة عمرها وبالتالي عمر الموقع لا أكثر ولا أقل وهذا أمر يمكن أن يحدث في أي مكان وزمان دون ان تترتب عليه أيه نتائج واستنتاجات حاسمة.

وتضيف فيلنوف: "إنَّ من الصعب التعليق على بيانات الحفريات الإسرائيلية حتى يتم نشر النتائج. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن نقول مثل البروفيسور جارفينكل، أحد مديري البعثة الآثارية، أن هذه الاكتشافات تثبت تاريخية الحلقة التوراتية ووجود داود نفسه". ثم تسأل فيلنوف سؤالا لاذعا: "هل ستثبت كاتدرائية نوتردام في باريس وجود كوازيمودو بطل رواية أحدب نوتردام"؟

وحين تواجَه الباحثة الفرنسية فيلنوف بسؤال مباشر وصريح يقول: "هل تم إجراء هذه الحفريات لغرض أيديولوجي"؟ تحاول أن تتملص من الإجابة بالقول "سأحرص على عدم تجربة أي شيء، ومن المرجح أن يسلط الموقع الضوء على الفترة الانتقالية بين العصر الحديدي الأول (القرنين الثاني عشر والحادي عشر) والحديد الثاني (القرنين العاشر والسادس عشر)". ثم تطلق حكما شرطياً معلقاً يقول "إذا جلبت هذه الحفريات بيانات جديدة، فهذا أمر جيد جداً". بمعنى أنها لم تجد ما أعلن عن وجوده الباحث الإسرائيلي جارفينكل من أدلة واستنتاجات شيئا ذا قيمة وبيانات علمية مؤكدة.

إن الباحثة فيلنوف تعي جيدا مسؤولية الباحث الآثاري المنضبط بشروطه العلمية والموضوعية في البحث، ولكنها لا تريد أن يضعها المختلفون معها في خانة "أعداء إسرائيل". ومع ذلك فهي تحافظ على السوية العلمية وخصوصا عندما سئلت سؤالا مباشرا يقول: "لماذا يريد علم الآثار أن يؤكد ما يقوله الكتاب المقدس"؟ فأجابت: "لأن الكتاب المقدس هو أحد أسس الرواية القومية لإسرائيل الحديثة، والتي يعتبرها البعض امتداداً لإسرائيل التوراتية "الكتابية" التي أسسها داود. بالنسبة لجزء من السكان، هذه القصة لا يمكن المساس بها. لكن علماء الآثار هم هؤلاء المواطنون مثل أي شخص آخر، وحتى لو كانوا علماء ممتازين، فإنهم يجرون أبحاثهم كما هي" أي يجرون أبحاثهم بشروط العلم والأدلة الملموسة.

ليس ثمة ما يمكن أن يضاف لكل ما قالته هذه الباحثة الفرنسية بلغة هادئة لكشف حقيقة هذا التلفيق والمبالغات التوراصهيونية حول هذا الاكتشاف؛ فكل ما قيل يفي بالغرض، ويضع الأمور في نصابها العلمي بعيدا عن التشويش الأيديولوجي وعما سماه الباحثان بولان وغويازدا "تسيس التراث وعلم الآثار".

مناقشات آثارية صهيونية داخلية

لقد أثار الخبر، ومن ثم الحوار حوله مع الباحثة الفرنسية الكثير من اللغط والنقاش بين قراء الصحيفة المذكورة. وربما كان من المفيد أن نأخذ فكرة حول هذا النوع من النقاشات في المعسكر الصهيوني أو المنحاز له.  هنا، سنتطرق للنقاشات الحامية على الصفحة التي أجرت الحوار مع الباحثة الفرنسية فيلنوف بين قرائها:

تطلق سيدة تدعى باتريشيا كامباي المناقشة من خلال سؤال مذعور توجهه إلى القراء ومحرري الصحيفة يقول: "أ مدينة فلسطينية في وسط إسرائيل؟! أنا في حيرة. أليس الفلسطينيون غرباء جاءوا عن طريق البحر؟ ألم يستوطنوا على شريط من الأرض على حافة البحر الأبيض المتوسط، يسمى اليوم قطاع غزة" وتختم كلامها بسؤال يقول: "ألم تؤدي كلمة فلسطيني إلى ظهور كلمة فلسطين التي أطلقها الرومان على هذه البلاد؟ هذه الشبكة من الأسئلة تحتوي على أجزاء من الحقيقة مزجت بسوء الفهم والأكاذيب التلفيقات التي نسجتها القراءات التوراتية الآثارية غير العلمية في الوقت عينه وأدت إلى عملية غسيل أدمغة شاملة للجمهور. فإذا كان المقصود بالفلسطينيين في الخبر هم "الفلسطة" فما الذي جاء بهؤلاء إلى وسط إسرائيل شمال أورشليم القدس وهم الذين استقروا في الجنوب؟

ففي حين يصر التوراتيون الصهاينة على وجود إمبراطورية يهودية في زمن داود وسليمان يؤكد العلماء - الباحث الدنماركي نيلز لمكة على سبيل المثال - إنَّ ما سُميَّ إمبراطورية داود وسليمان كانت دويلة صغيرة اتسعت قليلا ولم تستمر أكثر من أربعين عاما، ثم عادت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى مساحتهما الطبيعية والتي تقارب مساحة جزيرة (غوتلاند) السويدية الصغيرة أي ثلاثة آلاف كم² تقريبا، من مجموع مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم²!

وهنا يحاول كاتب آخر هو اندريه مالمو توضيح الموضوع فيزيد الطين بلَّة حين يقول محاولاً الإجابة على سؤال كامباي: "لا، كان الفلسطينيون في جميع أنحاء المنطقة. أنت على حق بشأن اسم فلسطين الذي فرضه الرومان على سكان يهودا والسامرة والجليل لجعل الدول اليهودية تختفي". وهذا غير صحيح فالفلسطينيون بالمعنى القديم لكلمة "الفلسطة" - كما قلنا - لم يكونوا موجودين في جميع أنحاء المنطقة بل في خمس مدن هي غزة، عسقلان، أسدود، جت، وعقرون، في الساحل الجنوبي الفلسطيني ما بين يافا ووادي العريش. أما الموجودون في كل أرجاء المنطقة فهم الكنعانيون سكان البلاد الأصليون قبل أن يتغير اسم البلاد من أرض كنعان إلى فلسطين بالتدريج بدءا من العصر الإغريقي فالروماني. والخطأ الذي تقع فيه باتريشيا كامباي وغيرها هو إنها تخلط بين الفلسطة القدماء وهم مجموعة من المهاجرين البحريين وبين الكنعانيين أو سكان بلاد كنعان الأصليين والذين صار اسمهم "فلسطينيين" في عهود لاحقة. ولا تريد أن تصدق أن هناك فلسطينيين في قلب ما يسمونه أرض إسرائيل التوراتية الوهمية.

ورغم أن بعض المشاركين في النقاش يقرون بأن "مدينة (صقلغ) هي في الأصل مدينة كنعانية وليست مدينة فلسطينية"، ولكنهم يعودون ويكررون ما غرسته التوراة في أذهانهم فيقولون "ولكنها في الواقع مدينة إسرائيلية، لأنها كانت تابعة لملكية يهودية" وأحدهم ذكر القراء بأن كلمة كنعانيين تأتي معنى تحقيري "توراتيا طبعا" لأنهم السكان الأصليون!

والحقيقة فإن بعض التوراتيين الصهاينة صريحون جدا في ما يتعلق بالتوحيد والمماهاة بين اعتقاداتهم الدينية وثقافتهم الآثارية، فهم يعتبرون الرواية التوراتية الدينية حقيقة مطلقة وغير قابلة للمناقشة كما قال المتدخل صامويلي في رده على كومباي حين ذكَّرها: "بالنسبة لليهود المؤمنين، فإن الكتاب المقدس العبري المعروف باسم "العهد القديم" هو وثيقة ذات طبيعة إلهية، وحقيقة لا جدال فيها، ومناقشتها محظورة، وقد أُعطيَ جوهرها لموسى على جبل سيناء؛ منذ حوالي 33 قرنا"، معنى ذلك أن الخطاب الاستبدادي الأيديولوجي القمعي والمعادي للعلوم الحديثة ليس حكرا على قومية أو دين معين فرجال الكهنوت وعبيد النصوص من طينة واحدة وهم موجودون في كل زمان ومكان.

إن هذه الآراء المتطرفة التي تصدر عن جمهور صهيوني توراتي واسع تعرض لعملية غسيل أدمغة مديدة هي التي تمنح الخطاب الصهيوني التوراتي صفته النهائية كخطاب تلفيقي خرافي لا يصمد أبدا أمام الأدلة الملموسة التي تقدمها يقدمها علم الآثار أحيانا أو يسجل انعدام وجود ما يؤكد الرواية التوراتية أحياناً أخرى. ولكن الحقيقة هي اللغة التي تبقى ولا تزول ويحاول مقاربتها علماء التأريخ والآثار والإناسة وبعض من الإسرائيليين المهنيين الذين يحترمون أنفسهم وصفتهم.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

ركزت السياسة الخارجية غير الرّسميَّة الإيرانيَّة، إزاء العراق، على كردستان وشط العرب، الذي يُسمّيه الإيرانيون «أروندرود». بهذا الخصوص استخدم آراش رايزنجاد مؤلف «شيعة إيران والأكراد العراق وشيعة لبنان»، الأسماء الفارسية للمواقع، دون حقّ، فالشط اسمه «شط العرب»، قال ناصر خسرو (ت: 453هج): «وَهَذَا النَّهر هُوَ شط الْعَرَب، ويلتقي دجلة والفرات عِنْد حدود مَدِينَة البَصْرَة» (سفر نامة).

وفق معاهدة (1937) في عهدي الملك غازي (1933-1939) وشاه رضا (1925-1941)، ثبت شط العرب بشاطئيه عراقيّاً. ظلت المعاهدة عقدة تؤرق محمَّد رضا (1941-1979)، ولم يثرها خلال العهد الملكي العراقيّ، بعدها أخذ الشَّاه يبتز العراق عبر أكراده، كي يكون شط العرب مِن حقّ إيران، بما يعرف بـ «التالوك» أعمق نقطة فيه.

توافرت فرص لحل القضية الكُرديَّة، وأجودها حلّ رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز (1966)، إلا أنَّ إيران أفشلتها، فالشّاه يردد «ما لهم لو تنازلوا عن أروند»، ويغري الأكراد بمواصلة القتال، كلما نضج الحلُّ، وكان الجيش الإيرانيّ يُقاتل العِراق مموهاً بالزَّي الكردي.

أشتد التّدخل بعد (1968)، وكادت الحرب الشَّاملة تندلع، صاحب ذلك حبك المؤامرات بين البلدين، حتّى معاهدة الجزائر (1975)، تنازل بها العراق عن «شط العرب»، حينها لم يكن التّنازل يرضي سواد شيعة العراق، يوم لم يكن للأحزاب الدِّينية وجود، فكانت مواكب حسينية بالنَّجف تشدوا: «شط العرب إنا(لنا) مية بالمية، يا حسين شوف (انظر) الخريطة» (شاهد عيان).

تخلص شاه إيران من معاهدة (1937)، لينقلها عقدةً إلى صدام حسين (أعدم: 2006) مقابل الكف عن دعم الأكراد ضد بغداد، وإذا كان شاه إيران ألغى معاهدة 1937 من طرف واحد، فأول فرصة كانت لصدام إلغاء معاهدة (1975)، ثم أعادها في حرب (1991)، وهكذا ظل شط العرب مقايضة، الكف عن دعم الأكراد مقابل التَّنازل عن الشَّط.

صحيح أنَّ جوهر النزاع، بين إيران والعراق، كان شط العرب، لكنَّ هناك مبررات أخرى لدى الشاه، يضغط بها على الأميركان والإسرائيليين، وهو النُّفوذ السُّوفييتي عبر العراق، بعد عقد معاهدة كبرى بين بغداد وموسكو، وقبلها كان يضغط بالتخويف مِن المد النَّاصريّ، لهذا دفع الأميركان والإسرائيليين إلى التعاون ضد بغداد، في دعم الأكراد بالسَّلاح والمال، وما أقنع الأميركان هو تأميم النفط العراقيّ (1972).

نعم اعترف الشَّاه مبكراً بإسرائيل (1955)، لكنه مع قيام دولة فلسطينية، إلا أنّ أيَّ قضيةٍ، كبرت أو صغرت، لا تتعدى أهمية شط العرب عنده، وفي لحظة تنازل العراق انتهت الحركة الكردية، بالانسحاب فرادى إلى إيران، فمهما كان دافع الشّاه في دعم الأكراد ضد بغداد، فلم يتوهم أنه سيكون في مأمن مِن ثورة كردية ببلاده، وهذا ما منعه مِن دعم الأكراد إلى مستوى قيام كيان مستقل بالعراق.

كانت المنطقة تضطرب، كم سُفكت دماء، وبذرت ثروات، لتبقى كردستان العراق ملغومةً، والتآمر بين العواصم مستمراً، والمطلوب شط العرب مقابل رأس الحركة الكُرديَّة، وقد حصل هذا، ولم يُغرَ الشّاه بعرض قادة الأكراد العراقيين، في أنْ تكون مناطقهم تحت تاجهِ، لأنْه سيفتح جبهة تزيد حدوده لهيباً.

ذهب آلاف الأكراد ضحايا السياسة غير الرسمية الإيرانية، فكانوا يعتقدون أنهم يقاتلون لتحقيق الحقوق القوميّة، في قتالهم مع بغداد، وبينهم البين أيضاً (برازانيون وطلبانيون)، لكنَّ كلَّ قطرة دمٍ سُفحت كانت لتحقيق حلم شاه إيران، في التخلص مِن عقدة «أرنودروود»، وبهذا خمدت الثورة الكردية قبل جفاف حبر توقيع معاهدة (1975). إنَّه أحد الدُّروس، التي يجب مراعاتها، في حساب الخسائر والأرباح.

أحسن البزاز بإخلاصه لحلِّ القضية الكردية حلاً عادلاً، كان شريكَ صاحب البيت في شعوره: «قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ولقد يجودُ بأصغريه المُعدمُ» (الجواهريّ، كردستان يا موطن الأبطال). لكنَّ الأوهامَ بإخلاص الشَّاه، دفعت الأكراد حتّى خذلهم، وفي القصيدة ما يعبر: «أنا صورةُ الألمِ الذَّبيحِ أصوغه/ كَلماً عن القلبِ الجريح يُتَرجمُ».

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

تمهيد: تشهد الشواطئ العربية والأفريقية والحدود الإقليمية والدولية موجات غير مسبوقة من الهجرة واللّجوء، بعضها اقترب من رحلات الموت، فلا يكاد يمرّ أسبوعٌ أو شهرٌ إلّا ونسمع عن بواخر وحافلات ومهربين وسماسرة وغرق وسجون، ويزداد عدد الضحايا والمعذبين الذين يقطعون بلدانًا وحدودًا ودولًا وقارات للوصول إلى بلد يؤمن لهم "حق اللجوء"، وكلّ ذلك مصحوب برعب وجوع وخوف وهدر للكرامة واختراق للقوانين والأنظمة الوطنية والدولية.

تيار شعبوي جديد

وحتّى وإن بدا موضوع الهجرة واللجوء اليوم ساخنًا، فإنه قديم قِدم البشرية، وأسبابه مختلفة، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ودينية ونفسية وغيرها؛ لكن ما هو جديد هي حالة الهجرة واللجوء الكثيفة التي شهدها العالم منذ انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات وإلى اليوم، لاسيّما بانتهاء عهد الحرب الباردة بطورها القديم، وبداية أشكال جديدة منها، حيث اتّخذ الصراع الأيديولوجي مناح أخرى.

وترافقت الموجات الجديدة مع صعود تيار يميني عنصري شعبوي في الغرب، وخصوصًا في البلدان الاشتراكية السابقة، التي تشكّل ممرًا للهجرة غير الشرعية مثل المجر وسلوفينيا وسلوفاكيا والتشيك وبولونيا، والتي ارتقت إلى موجة كره الأجانب في بلدان أوروبية أخرى مثل النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا، وإلى حدود معيّنة في بريطانيا، فضلًا عن ارتفاع رصيدها في بعض البلدان الاسكندنافية.

الإسلامفوبيا والويستفوبيا

وبالمقابل فثمة تيارات إسلامية أو إسلاموية متعصّبة ومتطرّفة انتعشت في عدد من البلدان الإسلامية والعربية، وقاد ذلك إلى صراع معلن ومستتر، قديم وجديد، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر العام 2001، حين تم تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، الأمر الذي عزّز من نزعات الغرب في فرض الهيمنة وإملاء الإرادة، لاسيّما وأن الولايات المتحدة أصبحت القوّة الأولى في العالم دون منازع، وهو ما قاد إلى احتلال أفغانستان في العام 2001، ثم احتلال العراق في العام 2003، تحت عنوان محاربة الإرهاب الدولي والقضاء على تنظيم القاعدة، والأكثر من ذلك تم تصنيف عدد من البلدان باعتبارها بلدان الشر.

وهكذا سادت موجة مرافقة لموجة اللجوء ومضادة له من جانب الأوساط الغربية المتنفذة، قوامها الرهاب من الإسلام "الإسلامفوبيا"، مثلما تقابلها "الويستفوبيا"، أي الرهاب من الغرب باعتبار كل ما يصدر عنه "شر مطلق"، ونسيان أن ما أنجبه اليوم من حضارة وعمران وفنون وآداب وعلوم وتكنولوجيا وجمال ليس ملكه وحده بقدر ما هو ملك البشرية، إلّا أنه المستودع والخازن والمنتج والمصدّر لها.

ولعلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي شهدها العالم في العام 2008 وما بعدها لا تزال آثارها مستمرة، وهي التي كانت أيضاً وراء توجّه بعض البلدان الغربية لوقف الهجرة أو تخفيضها إلى أقل حدٍّ ممكن، بما فيها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب (2016 – 2020)، الذي قرّر بناء سياج يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، ناهيك عن تقليص معدّلات الهجرة القانونية، ثمّ قراره العنصري بمنع مواطني عدد من البلدان من دخول الولايات المتحدة، وهو قرار ينمُّ عن صعود موجة عنصريّة تتّسم بروح الكراهية.

الهجرة والحق الإنساني

يمكنني القول أن الهجرة هي حق للإنسان لا يمكن وقفه أو منعه، لكنه يمكن تنظيمه وتقنينه بشكل عام، والحيلولة دون استثماره عبر تجار وسماسرة الموت الذين لا يهمهم شيء سوى الحصول على الأرباح على حساب أرواح الضحايا، خصوصًا وأن المهاجرين واللاجئين لأسباب سياسية تمنحهم قواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي والشُّرعة الدولية لحقوق الإنسان والعديد من المعاهدات والاتفاقات الدوليّة التي وقّعت عليها البلدان الأوروبيّة، ولا سيّما اتفاقية حقوق اللاجئين الدولية العام 1951 وملحقها العام 1967، إضافةً إلى عدد من الاتفاقيات الأوروبية، حقوقاً لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها.

إخفاق سياسات الهجرة

إنّ عدم التنسيق والتعاون واختلاف التوجّهات بين البلدان الأوروبية وصعود التيّار الشعبوي اليميني العنصري، وعدم احترام قواعد القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، هو الذي كان سبباً في إخفاقها من استيعاب الهجرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية ومن دول العالم الثالث إلى الدول الصناعية المتقدّمة، ناهيك عن مسؤوليات الدول الغنية إزاء الدول الفقيرة، سواء بسبب سياسات الاستعمار القديمة أم السياسات الامبريالية الجديدة ونهب ثروات الشعوب، بحيث ساهمت في نشر بذور التعصّب في تُربة صالحة لولادة ابنه التطرّف، وهذا الأخير إذا ما انتقل من التفكير إلى التنفيذ يصبح عنفاً، وإذا ضرب عشوائيًّا يصير إرهاباً، وإرهاباً دوليًّا إذا كان عابراً للحدود، وهدفه خلق الرعب والفزع وعدم الثقة بالدولة من جانب المجتمع والفرد، إضافة إلى عدم ثقة الدولة بنفسها، في حين أنّ العنف يستهدف الضحيّة بذاتها ولذاتها. ولعلّ الفقر والأُميّة والتخلّف، إضافةً إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وعنصرية وإثنية وفكرية وثقافية ودينيّة وطائفيّة ولُغويّة وسُلاليّة وغيرها من الأسباب التي كانت وراء اختلال التوازن وغياب العدالة، سواء على المستوى المحلّي أم على مستوى العلاقات الدولية.

ولأن اللجوء حق للإنسان وواجب على الدول، ينبغي الالتزام به، ولاسيّما من جانب الدول الموقّعة على الاتفاقية الدولية بخصوص اللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967، فإنه في الوقت نفسه واجب على المجتمع الدولي، وخصوصًا الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لحماية السلم والأمن الدوليين، وبالأخص حين تندلع حروبٌ أو نزاعات مسلّحة وتنهار سلطة القانون وفي ظروف الاحتلال، الأمر الذي يستوجب تدخله الإنساني إيجابيًا، سواء لحماية اللاجئين والمهاجرين الذين اضطّروا إلى مغادرة بلادهم، بالإضافة إلى مسؤوليته في إطفاء بؤر التوتّر وحل النزاعات بالطرق السلمية، وحماية حقوق الإنسان طبقًا للشرعة الدولية وانسجامًا مع اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها، البروتوكول الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة؛ والبروتوكول الثاني – الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.

للضرورة أحكام

خاطب وزير العدل والشرطة السويسري الأسبق أرنولد كولر لاجئي كوسوفو الألبان، وهو يستمع إلى المعاناة الإنسانية الفائقة، قائلًا لهم: لو كنا مكانكم، لكنا فررنا نحن أيضًا، ومثل هذه العبارة المسؤولة والواقعية تفسّر التدفّق المفاجئ لملايين اللاجئين على أوروبا خلال العقود الأربعة المنصرمة، والذي تعاظم خلال العقد ونيّف الماضي.

وإذا كانت الهجرة واللجوء حقًا إنسانيًا، فإن الهجرة غير الشرعية ما تزال تسبب أرقًا للدول المستقبِلة، إذْ أن عدم التنسيق والتعاون بيد الدول المصدّرة للجوء والهجرة لأسباب مختلفة وبين الدول المستقبِلة، يؤدي إلى الفوضى في هذا المجال يرافقه أعمال عنف وإرهاب، فضلًا عن تعصّب وتتطرّف، الأمر الذي يقتضي تعاونًا فيما بينها وبين المنظمات الدولية ذات العلاقة، ولعلّ ذلك كان سبب إخفاق استيعات الهجرة من البلدان الفقيرة إلى بلدان الشمال الغنية.

فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون

وكان فرانسيس فوكوياما عشية نهاية القرن المنصرم قد حذّر من تعاظم مشكلة المهاجرين واللاجئين في عالم ما بعد "نهاية التاريخ" الذي ابتدعه في أواخر الثمانينيات، معلنًا ظفر الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي على المستوى العالمي، معتبراً مشكلة تدفق اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغنيّ إحدى التحديّات التي تواجه العالم المعاصر.

واستكمل هذه الرؤية صموئيل هنتنغتون الذي اعتبر أن العدو المحتمل والتحدي الأساسي لعالم ما بعد انهيار الأنظمة الشيوعية هو "الإسلام" الذي يشكل خطراً لسيادة الليبرالية على المستوى الكوني، وفقاً لنظريّته "صدام الحضارات وصراع الثقافات" مع تعاظم مشكلة اللاجئين والمهاجرين، لا سيّما موضوع الهُويّة والاندماج وتفرّعاتهما بمعنى الخصوصية الثقافية والقومية والدينية، مقابل الشمولية العالمية التي تمثّل الليبرالية الجديدة على المستوى الكوني.

قد يثير موضوع الهجرة واللجوء إشكاليات حقيقية ومعاناة فعلية، ثقافية واجتماعية ونفسية بالنسبة للمنفي أو اللاجئ أو بالنسبة لمجتمعه الجديد، وخصوصاً للشباب، وإذا دخل الدين عنصراً في الموضوع فإن هناك الكثير من عوامل عدم الاندماج الموضوعية والذاتية قد تدخل على الخط، ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للمرأة في ظل العقلية الشرقية والأبوية الدينيّة التقليدية التي تظل تفعل فعلها في حياة المهاجرين والمنفيين لوقت طويل، وربّما تتجدد بأشكال وأساليب تزيد من التمسك بها على نحو يبدو كثير الغرابة والتعقيد.

لقد تضخّم ملف الهجرة واللجوء، وأخذ يشمل عشرات الملايين من البشر غالبيتهم الساحقة حسب إحصاءات الأمم المتحدة من البلدان النامية، بما فيها البلدان العربية والإسلامية، لكن الكثير من الإشكاليات والمشاكل ما تزال تعترضه، حيث تتملّص بلدان الجنوب والشمال على حدّ سواء من استحقاقاتها ومسؤولياتها، الأولى فيما يتعلّق بتحقيق التنمية المستدامة التي من شأنها الحدّ من ظاهرة الهجرة واللجوء، لاسيّما باستيعاب الشباب في العمل وتقليص معدّلات البطالة، والقضاء على الأميّة والتخلّف، وتحسين الأوضاع الصحيّة والتعليمية، وتوفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم، والثانية تدير الظهر لبلدان الجنوب، متخليّة عن التزاماتها في تحقيق حدّ أدنى من العدالة، ناهيك عن مساعدتها في تحقيق التنمية المنشودة، على الرغم من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي تلزمها بذلك.

***

د. عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

منذ سنين طويلة يعيش العراقيون في بيئة ملوثة بشتى صنوف الملوثات البيئية، بما فيها الخطيرة. ويشهد أهل بغداد بان البيئة المتدهورة في العاصمة وأطرافها تفاقمت في العقدين الأخيرين، بدلآ من تحسنها، كما يُفترض. وان ظاهرة إختناق المواطنين بالغازات الضارة والروائح الكريهة، ليست جديدة، ولا هي وليدة اليوم، لكنها بلغت ذروتها في التأزم مع إنتشار وإتساع الرائحة الكبريتية، التي يعزوها خبراء بيئيون إلى أسباب عديدة،وفي مقدمتها انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في المصافي والمعامل. بيد ان خبراء وزارة البيئة لم  يتفقوا على أسباب محددة. ومما فاقم من الظاهرة أكثر هو عجز الحكومات المتعاقبة عن معالجتها.

الى هذا، أكد تحقيق استقصائي نشره موقع (DARAG) زيادة إجمالي حجم حرق الغاز في العراق بنسبة 50 في المائة خلال الفترة 2012-2022 ليصل 15.8 مليار متر مكعب في السنة، مما سبب في انبعاث 40.8 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون، وأكد بأن الشركات الأجنبية، لا سيما الأوروبية منها، تمارس الحرق في العراق، على رغم أن هذه الشركات ملتزمة بقوانين صارمة في بلادها وتلتزم باللوائح والإجراءات المتعلقة بالاستدامة وفق مبادرة البنك الدولي (ترجمة وإعداد: "طريق الشعب"،3/10/2024).

وكان الناشط البيئي والإعلامي عادل فاخر قد أوضح في تقرير ميداني ان " العراق يعاني منذ سنوات من ارتفاع معدلات التلوث البيئي، ومن تفاقم تبعاته، وتُعدُ العاصمة بغداد من أكثر المحافظات العراقية تسجيلا لنسب التلوث، بعد أن قارب عدد سكانها 9 ملايين نسمة، وهو ما يعزوه مراقبون لغياب التخطيط والعشوائيات، وعدم بناء مدينة إدارية جديدة للتخلص من التلوث الذي بلغ مستويات خطيرة أثرت على صحة الإنسان."..وأضاف :" تشهد مدينة بغداد تلوثا متعدد الأبعاد في التربة والمياه والهواء، مما يؤثر على حياة السكان بشكل عام، ويزيد من معدلات التلوث وانتشار الأمراض كالربو والأمراض السرطانية وغيرها" ("الجزيرة.نت "، 16/12/2022).

وأكد رئيس المركز الستراتيجي لحقوق الانسان فاضل الغراوي ان اهم مصادر لارتفاع انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون في العراق هي قطاعات النفط والكهرباء والنقل حيث تحتل الغازات المصاحبة لحقول النفط المرتبة الاولى بنسبة 450% ("المدى":،28/7/2024).

وأعاد الباحث في الشأن البيئي عبد الجبار الملا التذكير بتقرير دولي، أعده باحثون أمريكيون في "مركز دراسات الحرب في نيويورك" كشف أن الغبار في العراق يحتوي على37 نوعاً من المعادن ذات التأثير الخطير على الحياة والبيئة "" ( "صوت العراق"،19/9/2024).

وأشرنا في حلقة سابقة الى ما أورده الباحث والأعلامي د. صباح ناهي  عن دراسة جديدة أنجزتها مؤخراً أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي من إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي. وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان" (" Indepemdentعربية"،26/10/ 2024).

الى هذا، إحتل العراق المرتبة الثالثة كأسوأ بلد في العالم في الحفاظ على الطبيعة، بعد حصوله على 43.3 نقطة فقط على مؤشر الحفاظ على الطبيعة لعام 2024. ويأتي ذلك بسبب فشل "أولياء الأمر" في معالجة ظاهرة التغير المناخي، والتصحر، والعوامل الملوثة للبيئة، وحرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط، وانتشار النفايات ورميها في الأنهار، وعدم تنمية الغطاء الخضري، أو تطوير الإنتاج الزراعي، وحماية الحياة البرية والثروة الحيوانية. هذا واعترفت الحكومة بتعرض 7 ملايين عراقي لآثار التدهور البيئي، لكنها أخلفت بوعدها بمعالجة هذه المشكلة التي باتت تهدّد الأمن الغذائي والصحي والمجتمعي ("طريق الشعب"، 31/10/2024).

وحل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024، فمن أصل 193 دولة حل بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا. وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر والسعودي.

ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل ("السومرية نيوز"، 11/9/2024).

أما "مؤشر جودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، فقد كشف ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78% من هذه المناطق. وبحسب تقرير نُشر عن هذا المؤشر، سيبلغ المتوسط السنوي لمستويات التلوث الجزيئي في العراق 32.4 ميكروغرام/ م3، مما يجعله ثاني أكثر البلدان تلوثا في هذه المنطقة.

وحذر المؤشر من ان  السكان في بغداد، عاصمة العراق الأكثر سكاناً في البلاد، سيخسرون 3.5 سنة من متوسط العمر المتوقع. والوضع أسوأ في المناطق الأكثر تلوثا، مثل قضاء المحاويل في محافظة بابل، حيث سيفقد نحو 1.3 مليون نسمة نحو 4.1 سنة من متوسط العمر المتوقع بسبب لتلوث الجزيئي.

وأكد التقرير الخاص بالمؤشر ان " من أسباب تلوث الهواء في العراق هي عوادم المركبات، والمولدات الكهربائية، وحرائق مصافي النفط والغاز، والصراع العسكري المستمر في المنطق".

حيال خطورة الوضع البيئي الراهن في العراق، كرست له صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، إفتتاحيتها في اليوم العالمي للبيئة (الخامس من حزيران) للعام 2024، تضمنت معلومات وافية عن واقع الحال السائد، مبينة ان  "بلادنا في حالة يرثى لها على الصعيد البيئي.  فعناصر الحياة ومصادرها الاساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق ، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل اساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العي"..

وأضافت:" تُظهر المعلومات المتداولة ان التلوث ناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها.وبينت أيضاً عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري  ومياه المبازل، والمصانع، والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يسببه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي .. ا".

ونبهت الإفتتاحية: " ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستويات هطول الامطار وشح المياه، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر. لكن الاخطر هنا هو ان هذه التطورات المثيرة لأشد القلق، لا تقابلها اجراءات حكومية مناسبة، توقفها وتبدد مخاطرها"("طريق الشعب"،6/6/2024)..

وتحت عنوان "واقع بيئي متدهور" تضمن التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (4-5 تموز 2024): ان العراق يواجه تحديات بيئية كبرى، فعناصر الحياة ومصادرها الأساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل أساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العيش.

وتظهر المعلومات المتداولة ان التلوث الناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها، وعن عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري ومياه المبازل والمصانع والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يضاعفه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي. ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات هطول الامطار وشح المياه وتدمير الغطاء النباتي والتقليل المتواصل للمساحات الخضراء، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر، واجواء متربة ومغبرة.

ومن القضايا المفصلية والأساسية في وقف هذا التدهور البيئي هو تأمين المياه للأغراض المختلفة، خصوصا بعد تمادي الجارتين تركيا وايران في حرمان العراق من حصته العادلة في مياه نهري دجلة والفرات".

وإختتم ان " حزبنا يتابع باهتمام كبير تدهور الواقع البيئي في العراق، ويعتبره من أكبر وأخطر التحديات التي تواجه حاضر بلدنا ومستقبله، وينبغي أن تكون البيئة في صدارة القضايا التي تستدعي اهتمام القوى والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والأهلي، والحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، ولكن ما يثير القلق ان هذا كله لا تقابله اجراءات حكومية مناسبة، تحد منه وتوقف مخاطره.

كما ان وزارة البيئة مهمَلة، فهي وزارة رقابة وبحوث لا وزارة قرار وتنفيذ، مجردة من الصلاحيات عمليا، وتعيش على فتات من التخصيصات المالية لميزانيات الدولة السنوية.

وان الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة مسؤولة عن إيلاء الموضوع البيئي ما يستحقه من اهتمام ودعم عمل مختلف الجهات ذات العلاقة، وان تعطي مؤسسات الدولة على اختلافها مثالا محفزا في هذا السياق. كما انه يتطلب زيادة التخصيصات لوزارة البيئة كي تنهض بدورها ("طريق الشعب"، 20/7 / 2024).

من جهته، أكد رئيس تحرير صحيفة "الصباح"، في افتتاحيتها ليوم 16/10/2024، بعنوان: "نفايات سامة": " لا يوجد في العراق حتى الآن قانونٌ يُعنى بالنفايات وكيفيَّة التعامل معها والحدِّ منها وتقليل أضرارها. وطوال السنوات الماضية كانتْ مدن العراق وضفاف أنهاره وهواؤه عرضةً لما تُلقيه المعامل ـ وأغلبها لا يُقيم وزناً لسلامة البيئةـ من نفايات، فتمتلئ الأنهار بالمخلّفات السامّة والهواء بأبخرةٍ لها مفعول قاتل.

وخلال تلك السنوات كانت المسألة تُثار في الإعلام من دون أنْ تُعطى الاهتمام الواجب، وكانت تتكرَّر في وسائل التواصل الاجتماعي شكاوى المواطنين من رائحة كبريت تملأ هواء بغداد وتسبِّب اختناقات خصوصاً للذين يعانون مشكلات في جهازهم التنفسيّ. إلّا أنَّ الأيام الماضية شهدتْ بلوغ هذه الظاهرة حدّاً لا يمكن السكوت عنه، فقد بلغ تلوّث هواء العاصمة حدوداً قياسيَّة، بدلالة التقارير التي تحدّثتْ عن أنَّ بغداد من خمس مدن هي الأكثر تلوّثاً بالهواء في العالم".

واختتم:" اتخذتْ الحكومة إجراءاتٍ عاجلة في محاولة للحدِّ من هذه الأزمة البيئيَّة التي تهدِّد حياة الملايين من العراقيين، غير أنَّ أيَّ إجراء آنيّ يُتَّخذ هو أقلّ من أنْ يكون حلاً جذرياً ما لم يسنده قانون يُشرّع خصيصاً لهذا الغرض. المدن العراقيَّة تختنق وهي بانتظار قانون وإجراءات حاسمة لتتنفس من جديد ".

وما تزال الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة العراقية تطلق الوعود، التي شبع منها العراقيون حد التخمة، والحصيلة لم يُنفذ ولا وعد واحد يخص البيئة طيلة العقدين المنصرمين.

***

*الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد،

متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد

 

نواصل عرضنا التحليلي لدحض باقة من الاكتشافات الآثارية المزيفة أو المبالَغ بأهميتها لسلطة الآثار الإسرائيلية والتي تصاعدت أخيراً متساوقةً مع تصاعد حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان على الشعبين الفلسطيني واللبناني وكنا قد استعرضنا جانباً منها في مناسبة سابقة "الأخبار- 8 تشرين الثاني 2024 "وسنتوقف بشكل خاص عند مشروع قانون جديد سيقدم الى الكنيست بهدف إلى الاستيلاء على آثار الضفة الغربية وقبل ذلك نتوقف عند هذين الاكتشافين:
فينيقيون في أورشليم القدس
يخبرنا موقع (geo.fr) الناطق باللغة الإنكليزية باكتشاف قطعة أثرية ذهبية صغيرة، بحجم زر القميص (4 × 4 × 2 مم). وقد رُبط هذا الاكتشاف بعصر الهيكل الأول، فعنوان الخبر يقول: "أقدم قطعة أثرية ذهبية يعود تاريخها إلى عصر الهيكل الأول".
ويضيف المحرر "اليوم، وبفضل اكتشاف جوهرة فينيقية نموذجية في تل أوفل، لدينا أدلة أثرية مقنعة على وجود فينيقي في القدس في القرن العاشر قبل الميلاد". ويوضح ناجتيجال: "لدينا الآن أقوى دليل أثري حتى الآن يؤكد أن الخدم الفينيقيين قد أُرسلوا بالفعل إلى القدس."
أما على صفحة (ARMSTROG) الناطقة باسم (معهد الآثار التوراتية)، فثمة تقرير مصور ومفصل بقلم برنت ناجتيجال. يُفهم منه أن هذا الاكتشاف يتعلق بـ "قلادة ذهبية صغيرة" ويسميها أحيانا "قرطا" وأحيانا أخرى سلَّة أوفل المسبوكة (Ophel Electrum Basket)، وهي حلية صغيرة لا تتجاوز مساحة قاعدتها أربعة مليمترات. يستعيد ناجتيجال في ثلث تقريره ما ورد في التوراة عن العلاقات بين ملك صور حيرام وملك يهوذا داود، وكيف أرسل له خشب الأرز والنجارين وصاغة الذهب...إلخ، وكيف تعلم صُناع داود الصياغة من الفينيقيين، ثم يربط هذه القصص التوراتية بالاكتشاف الجديد من دون أن يقدم لنا دليلاً ملموساً واحداً على صحة وتأريخية هذا الربط أو على فينيقية الحُلية الذهبية الخالية من أية كتابة.
وفي غمرة حماسته للقصة التوراتية يخبرنا المحرر - في زلة لسان - أنه سبق وأن شاهد صورا لنماذج من هذه الحلية الذهبية الفينيقية في كتاب، حيث عُثر على اثنتين منها بمستعمرة فينيقية بقبرص، وكانتا مؤرختين في الفترة الزمنية نفسها، وعلى أخرى في قادس بإسبانيا، وعلى نموذجين منها في المعابد الكنعانية في بيت شان "بيسان" شمال شرقي القدس سنة 1940. وعلى سادسة اكتشفت في حفريات تل الفرح جنوب فلسطين في ثلاثينات القرن الماضي. وهكذا نسف ناجتيجال قصته التوراتية بتقديمه أدلة على وجود هذا النوع من الحُلي الذهبية الفينيقية في عدة أماكن وصلها التجار الكنعانيون الفينيقيون في حوض البحر المتوسط وفي جنوب فلسطين بما يضعف أي علاقة متخَيَّلة لها بالهيكل الأول والملكين حيروم وداود! الأمر، إذن، لا يتعلق باكتشاف تحفة فينيقية فريدة من نوعها بل بحلية شائعة صغيرة عثر على عدة نماذج منها في فلسطين وخارجها، وهذا يعني أن حُلية أوفل ليست دليلا على صحة أو تأريخية أي جزء من أجزاء القصة التوراتية التي يتسلى بسردها محرر التقرير.
إن ناجتيجال ذو خيال خصب بشكل مفرط، لذلك توصل إلى أن هذا الزر الذهبي الصغير كان يحمله خادم فينيقي -أيام كان الخدم لا يجدون ما يأكلونه بسهولة - وأنه أُرْسِلَ ضمن مجموعة من الخدم من "فينيقيا"، إلى بلاط الملك داود في أورشليم القدس وكأن الفينيقيين مخلوقات فضائية قَدِمت من كوكب آخر لا من إقليم مجاور شمالي فلسطين ويتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى! من الواضح أن ناجتيجال يريد ان يُفهِم قارئه - وبشكل يخلو من خفة لدم - أن هؤلاء الخدم الفينيقيين أرسلوا من قبل الملك حيرام ليعملوا في القصور إمبراطورية عاصمة داود "ذات الألفي نسمة" في القرن الحادي عشر ق.م!
لقد فاق ناجتيجال في تلفيقاته زميله داني دانون، مندوب "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة، مطلق الكذبة الآثارية المدوية سنة 2017. حيث عرض الأخير عملة صغيرة من سنة 76 م، كتب عليها "حرية صهيون" كدليل لا يدحض على أن "القدس جزء لا يتجزأ من تاريخ إسرائيل ومن عقيدتها". وقد أيده في مزاعمه جندلمان المتحدث باسم مكتب رئيس حكومته. ولكن الباحث الفلسطيني أحمد الدبش دحض هذه المزاعم دحضا رصيناً حين أكد "إنَّ نسب العملة المعدنية [التي تم سكها في عام 67 بعد الميلاد] إلى اليهود، هو كذب تاريخي، فلم يسجل على العملة اسم السلطة التي قامت بإصدارها، فكيف تسنى لهم نسبتها لليهود؟! ومن المؤكد أن النقود في هذه الفترة كانت رومانية برموز فلسطينية، ولم يكن لليهود أي كيان سياسي أو اقتصادي مستقل في فلسطين آنذاك".
بوابة إسرائيل الأولى عمرها 5500عام
في شهر آب - أغسطس 2023 أعلن في الكيان وعبر عدة مواقع منها (geo.fr) و(i24news)، عن اكشاف خارق جديد لـ "بوابة حجرية عمرها 5500 عام في جنوب إسرائيل في منطقة تسمى تل عيراني "كريات جت" شمال شرقي قطاع غزة. وهي كما يقول الخبر "أقدم بوابة معروفة حتى الآن في المنطقة". لنلقِ نظرة على خلاصة الخبر ثم نعود لتفكيكه وإظهار مدى استخفافه بعقول الناس: "أثناء التنقيب في مدينة تل عراني القديمة، اكتشف الفريق البحثي ممراً عمره 5500 عام، مبنياً من الحجارة والطوب الِّلبن، ما يشير إلى أن التحضر في المنطقة بدأ قبل قرون مما كان يعتقد سابقاً. وقالت إميلي بيشوف، مديرة التنقيب في سلطة الآثار الإسرائيلية: هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف مثل هذه البوابة الكبيرة التي تعود إلى أوائل العصر البرونزي".
هل لاحظتم كيف تحولت البوابة الحجرية الكبيرة إلى ممر، ثم إلى سور، أو حصن؟ والغريب أنها شيء آخر تماما كما يتبين لنا بنظرة واحدة إلى صورة الموقع الآثاري المعني وكما سنوضح.
ويضيف التقرير "اشتهرت منطقة تل عراني بالتوسع الحضري المبكر في إسرائيل، حيث عرفت استقرارا سكانيا تجاوز 37 فدانا في العصر البرونزي المبكر، بدءاً من حوالي 3300 قبل الميلاد، وربما يرجع إلى وقت مبكر أكثر حتى 3500 قبل الميلاد".
في الأسطر الأربعة الأخيرة ثمة سلسلة من الأكاذيب والتلفيقات والأخطاء الفادحة ومن ذلك:
-يتحدث التقرير عن "بوابة إسرائيل" علما أن المتفق عليه بين المتخصصين أنه لا وجود لشيء اسمه "إسرائيل" أو العبرانيين أو بني إسرائيل في العصر البرونزي المبكر (3400 -2900 ق.م) ولا في تلك المنطقة الكنعانية التي استقر فيها "الفلسطة" المهاجرون بعدها، والتي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمملكتين التوراتيتين المزعومتين يهوذا وإسرائيل الشمالية. وإذا كان محرر الخبر يقصد مملكة إسرائيل الشمالية، فتلك كانت رقعة صغيرة حول مدينة السامرة شمال غربي شكيم الكنعانية "نابلس العربية"، ولم تمتد حتى إلى أورشليم -القدس.
-ووفق التحديد الزمني التوراتي فقد عمَّرت المملكة الشمالية لقرنين تقريباً، بين 928 ق.م. وحتى 722 ق.م، فعن أي إسرائيل يجري الحديث إذن؟ أعن إسرائيل الحالية أم القديمة التوراتية؟ وما علاقة إسرائيل الحالية أو حتى القديمة بالعصر البرونزي المبكر، إذا كان أول ذكر للعبرانيين أو من يحملون اسما قريبا منهم (الخابيرو - العابيرو) ظهر بعد هذا التأريخ بأكثر من ألفي عام وباتفاق علماء الاناسة والآثار استناداً إلى رسائل تل العمارنة التي أفادت أن قبائل الخابيرو قد احتلت مدينة شكيم سنة 1360 ق م وليس قبل 3500 ق.م؟
وتضيف بيشوف: "ما يثير الاهتمام في هذه البوابة هو أنها بنيت جزئياً من طوب اللبن وجزئيا من أحجار متجانسة، وهذه الأحجار أكبر مني وأن العملية تطلبت جلب المواد من مسافة بعيدة، فضلاً عن تصنيع مئات أو آلاف الطوب اللبن. وإن نظام التحصين دليل على التنظيم الاجتماعي الذي يمثل بداية التحضر.
إنَّ مَن يشاهد صورة الموقع المرفقة بالتقرير لا يرى بوابة حجرية ضخمة ولا أسوارا ولا مدينة أو مستوطنة متحضرة؛ ثمة ركام فوضوي من أحجار بعضها ضخم وأخرى صغيرة ومبعثرة. ربما باستثناء بقايا حائط من أحجار مرتبة بشكل بدائي قد لا يزيد طوله على مترين أو ثلاثة. أما كلام الباحث في سلطة الآثار الإسرائيلية باسترناك، وهو يتغزل بهذه الأحجار قائلا: "من المحتمل أن جميع المارة، سواء كانوا تجاراً أو أعداء، الذين أرادوا دخول المدينة، كان عليهم المرور عبر هذه البوابة الرائعة". ويضيف: "لم تدافع البوابة عن المستعمرة فحسب، بل نقلت أيضا رسالة مفادها أن المرء يدخل إلى مستعمرة قوية ومهمة، وكانت منظمة تنظيماً جيداً سياسياً واجتماعياً واقتصاديا"، أما هذا الكلام "السياحي" فمثير للضحك حقا. والأكيد إننا لو سألنا باسترناك عن أية مدينة أو مستعمرة يتحدث، وهل يعرف اسمها وهل لديه دليل على وجودها غير هذه الأحجار لحارَ جوابا!
قانون هليفي للاستيلاء على آثار الضفة
تأريخياً، شعر مؤسسو الكيان والحركة الصهيونية المعاصرة والتي بدأت كحركة مسيحانية "بروتستاندية" عارضتها غالبية يهودية، شعروا بأن مشروعهم يفتقد إلى التوازن والعمق التأريخي المطلوب حتى بعد أن نجحوا بدعم غربي واسع النطاق وأقاموا كيانهم طالما بقيت منطقة الضفة الغربية، والتي ما يزالون يسمونها في خرائطهم ووثائقهم "يهوذا والسامرة"، تحت السيطرة السكانية والإدارية منزوعة السيادة للفلسطينيين. ويبدو أن الصهاينة الدينيين المتشددين المشاركين في التحالف الحاكم يحاولون حسم هذا الأمر عبر مفاقمة الاستيطان في الضفة وشن حملة تهجير، وأخيراً عبر الاستيلاء على القاعدة المادية والعلمية للتراث الحضاري الفلسطيني القديم في الضفة من خلال تشريع قانون جديد.
ففي شهر تموز- يوليو الماضي أعلن عضو الكنيست عن الليكود عميت هليفي أنه حصل على دعم الحكومة لتقديم مشروع قانون يحمل اسمه ويقضي بضم الآثار القديمة في الضفة الغربية قانونياً وفعلياً لسلطة الآثار الإسرائيلية. وبموجب مشروع القانون الجديد فإنَّ السلطات الآثارية الإسرائيلية الرسمية ستعمل في الضفة الغربية مثلما تعمل في أراضي الكيان، وستطبق القانون الاسرائيلي في الضفة الغربية. وهذا يعني أن وزير التراث الإسرائيلي المتطرف -الذي دعا علنا إلى إبادة الفلسطينيين بإلقاء قبلة نووية على غزة - عميحاي إلياهو سيتمكن من ممارسة صلاحياته كوزير في ما يسمونها "إسرائيل الكبرى" أي على جميع الأراضي الفلسطينية!
سيعتبر مشروع القانون المزمع إقراره انجازاً للحملة الكبيرة التي تطلقها جمعيات اليمين في السنوات الاخيرة حول المواقع الأثرية في الضفة الغربية. ولكن صاحب المشروع هليفي لم يتشاور مع الوزير إلياهو، ولا مع سلطة الآثار ولا مع أكاديمية العلوم أو مع مجلس الآثار.
ينطلق رفض أكاديمية العلوم لمشروع القانون من اعتبارات علمية منها "أن الآثار وتراث فلسطين ليست محصورة بالآثار اليهودية إنْ وجدت بل تمتد عميقاً في التاريخ قبل ظهور العبرانيين أو اليهود بآلاف السنوات، وهذه الآثار ليست ملكاً لعرق أو دين معين بل هي ملك للإنسانية جمعاء كسائر الآثار في العالم".
كما عارض مدير عام سلطة الآثار، إيلي ايسكوزيدو المشروع لأسباب إدارية ولأن أحداً لم يتشاور معه، وربما لأنه لا يريد لليكودي هليفي أن ينفرد بهذا "الإنجاز".
أما رئيس مجلس الآثار د. غاي شتيفل، كما كتب نير حسون في هآرتس، فقد كان أكثر وضوحاً وانسجاماً مع رأي بعض العلماء والباحثين الإسرائيليين المهنيين والمنصفين فكتب في رسالته إلى الوزير إلياهو: "بصفتي ممثل اسرائيل في مجلس الآثار الاوروبي فانه يمكنني القول بأن مجرد طرح مشروع القانون، وليس أقل من ذلك إذا تمت المصادقة عليه، سيكون له موجات ارتداد وسيتسبب بأضرار دولية لا يمكن تقديرها".
وأضاف شتيفل "وبدلا من التفاخر بأننا نحافظ على الماضي المجيد لتاريخ هذه البلاد الرائعة، بدءا من فترة ما قبل التاريخ وحتى الآن، فان مشروع القانون الذي يوجد أمامنا يسعى الى تقويض أسس الآثار والتراث التي من المهم التأكيد على أنها لنا جميعنا. الحديث هنا لا يدور فقط عن الآثار اليهودية، كما تم الادعاء، بل يدور عن الجشع لحيازة أشياء تمثل تراث عالمي، متعدد الثقافات، وهي للبشرية كلها".
حسب أقوال شتيفل فإن القانون، سيؤدي إلى إبعاد إسرائيل عن الأبحاث وصناديق الأبحاث الأوروبية وعن العضوية في منظمات مهنية وهيئات تحرير ومجلات وما شابه. وأضاف "إن مشروع القانون سيقوض أسس الآثار والتراث التي من المهم التأكيد على أنها لنا جميعنا. الحديث هنا لا يدور فقط عن الآثار اليهودية، كما تم الادعاء في اقتراح تعديل القانون، بل يدور عن الجشع لأشياء تمثل تراث عالمي، متعدد الثقافات، وهي للبشرية كلها".
أما رد "الوزير النووي" إلياهو على رسالة شتيفل فقد جاء متعجرفا وعنيفا خلاصته أنَّ الرسالة مليئة بالأكاذيب وأن "أرض اسرائيل تعود للشعب اليهودي ولا توجد أي حقوق قومية لأي شعب آخر".
***
علاء اللامي -كاتب عراقي

 

الشعب المصري يشبه "اللافا والحمم البركانية" التي صهرها الزمن وتعاقبت عليها المحن، فصار كالأحجار الكريمة الصلبة الجميلة في جوهرها مهما تراكمت على سطحها أتربة ليست من معدنه الأصيل..
أزمنة هي من عمر هذه الأرض تعاقبت على مصر. وظلت هي وشعبها ونيلها في اتحاد وانسجام وصبر كصبر هذه الأرض نفسها وصلابتها وحنوها. جينات موروثة من قديم الزمن امتصها الإنسان المصري فصارت شخصيته من خارجها صلدة شفافة كالزجاج تبدو للناظرين هشة سريعة الكسر، بينما هي في حقيقتها وباطنها في صلابة الماس وقوته ولمعانه وأصالته تحتمل في ثبات، وتنزع عنها قشرتها الهشة كلما مرَّ بها خطب أو غزاها غازٍ غاشم، وتظل كامنة كمون اللآلئ في محارها تنتظر انفراج الأزمة وانقشاع الغمة، وهنا يظهر المعدن الحقيقي لشعب قهر الزمن، وتحدي الصعاب عهداً بعد عهد، وجيلاً بعد جيل.
شخصية المصري أثارت ذهن هيرودوت فتحدث عنها بانبهار، ورأي أن المصريين أشد تديناً من سائر أهل الأرض! وأنهم أول من حفر الصور والرسوم على الأحجار، وتغزل في نيلها وأدهشته طبيعتها ونسائم جوها المعتدل، ورأي أن ملابس المصريين هي الأنظف والأجمل. وعندما وفد على مصر كل وافد رحالة سرد عنها أعاجيب لا ينفك التاريخ يذكرها ذاهلاً مدهوشاً. فكتب عنها ابن خلدون فصولاً يصفها وصف العاشق المحب، وذكرها المقريزي في خططه وكشف حقيقة صلابة المصري، وأن مداهنته للحكام جاءت نتيجة لقهر قديم، وأنها ممالأة سطحية لا تنم عن طبيعة أصيلة، وأن المصريين في حقيقتهم لهم هِمم وعزائم تطاول الجبال.
تمعَّن جمال حمدان الجغرافي المصري في حقيقة شخصية مصر، ونظر إليها نظرة المتعمق في أصولها وجذورها الباحث في طبقات تكوينها العريق، فلاحظ كيف أنها تجمع بين الأضداد وتوحد بين المتناقضات، ثم تختار الاعتدال. والوسطية فيها أصيلة؛ فهي تتوسط العالَم القديم كأنها رمانة ميزان ثلاث قارات التحمت في هذه البقعة المضمومة بين كفيّ بحرين من أجمل بحار العالم وأعرقها، ويشقها من منتصفها نهر هو الأطول والأجمل والأحلى مذاقاً. ذلك التكوين الجغرافي العبقري الفريد، جعلها لا تشبه أي بلد من بلدان العالَم. واستطاعت جغرافية مصر هزيمة تاريخها، فبقيت مصر، وذهب غزاتها. وابتلعت بطنها هذا التاريخ، لتكشفه بعد آلاف السنين كأنها تحتفظ داخل أرضها بسجلّ الأرض والتاريخ.
هذا التاريخ التليد أبهر كل دارسيه المعاصرين، المصريين منهم والمستشرقين، وحاول كل منهم تفسير حقيقة مصر وجوهرها من دراسته لتاريخها فأعجزته الحيلة، واحتار في أمرها. وراح كل باحث يراها على ضوء دراساته العميقة من زاوية. فكتب ميلاد حنا عما أسماه: "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية". وبحث الدكتور محمد عودة عن جذور هذه الشخصية ووصفها في كتابه " التكيف والمقاومة الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية", . وراح الدكتور عاطف غيث يدرس القرية المصرية العريقة وصفات الفلاح المصري الذي ورث عن أجداده الثبات والرسوخ.
جلد المصري كأنه رقائق بردي، كل طبقة منها تكشف عن حقبة تاريخية عايشها أجداده.. فالحقبة الفرعونية تداخلت مع عهد البطالمة فالرومانيين. ثم انسلخت حقبة قبطية عانت الاضطهاد فجاء الإسلام منقذاً ودرعاً ضرب قبته الشفافة حول ربوع مصر يحميها من الغادرين.
تشكلت الشخصية المصرية من عناصر، أولها العقيدة. واجتمع الباحثون أن المصري مفطور على الإيمان الراسخ، وأنه آمن منذ القدم بالبعث والحياة الآخرة، فبني الأهرامات ومراكب الشمس تكريساً لاهتمامه بالحياة الآخرة. وعندما لاحظ اليونانيون ارتباط المصريين بعقيدتهم، حاولوا النفاذ إليهم من هذا الباب؛ واحترموا عقائدهم. والمصريون الذين احتضنت أرضهم ألواح موسي وإنجيل عيسى باتوا في عقيدتهم المسيحية كأنهم الفنار الذي أضاء ما حوله؛ فبمجرد وصول رسالة السيد المسيح للإسكندرية أصبحت أحد أهم مراكز انتشار الدين الجديد، ورغم الاضطهاد صبر المصريون وطووا صدورهم على عقيدتهم حتى باتت المسيحية هي الدين الرسمي للبلاد، ثم انتقم المسيحيون لأنفسهم من الوثنيين ورفضوا كل ما ينتمي لليونانيين. ثم ظهرت الرهبانية، وبُنيت الأديرة، واحتفي المسيحيون بقدِّيسيهم وأقاموا الموالد التي باتت طقساً مشتركاً بين المسلمين والمسيحيين كعادة اكتسبوها منذ القدم. ومع الإسلام بدأت فترة جديدة مشرقة من الحرية الدينية. وأما عملية التحول للدين الإسلامي استمرت إلى ما يقرب من ثلاثة قرون لتصبح الغالبية إسلامية ومَن بقي على المسيحية عرف فيما بعد باسم قبطي .
العنصر الثاني للشخصية المصرية مستمد من صلابة أرضها وخلودها، وهو عنصر الرسوخ والثبات والاستمرارية. فالمصري لا ينبذ ماضيه، بل هو يجمع تاريخه بين جوانحه وفى ذاكرته ويعيش به دون انقطاع عن حاضره، القديم والجديد مجتمعان في شخصيته دون تنافر أو تعارض.
عنصر ثالث استمده المصري من هذا النيل الجاري منذ آلاف السنين كأنه نابع من علياء السماء. هو عنصر الحكمة والاعتدال. إن أهم سمة لهذا الشعب أنه وسطي معتدل هادئ ثابت الجنان لا يثور ولا يتمرد، كما لا تفزعه النوائب. وهو لا يحب العنف، ولا يمارسه. إن الطبيعة الزراعية لوادي مصر الخصيب أثمرت عند الفلاح المصري ثباتاً وصبراً وارتباطاً بالماء والأرض، الفلاح الذي واجه الفيضان السنوي وآفات المواسم الفتاكة بصبر، لم يهتم بتعاقب الحكام، لأنهم يذهبون ويبقي هو، وتبقي أرضه وثمارها تحدب على هذا النيل العجوز حدب الوليد على أمه.
الحكم الروماني عندما جاء في أعقاب هزيمة أنطونيو وكليوباترا في معركة إكتيوم عام 31 ق. م. بدأ وثنياً مع " أوكتافيوس أغسطس " وانتهي مسيحياً مع قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وأنشأ مدينة القسطنطينية. ومنذ أيام البطالمة كان هناك نظام لإدراج أسماء السكان في قوائم فأدخل الرومان نظام التعداد المنظم الذي كان يجري كل أربعة عشر عاماً واحتفظ الرومان بتقسيم البلاد القديمة إلى أقاليم على رأس كل منها مدير ولو أنهم جردوه من جميع اختصاصاته العسكرية وكان يعاونه كاتب ملكي. واقتطع الرومان للقادة منهم ضِياعاً وأراضي هي الأجود والأكبر، لكنهم ذهبوا وعادت الأرض للمصريين. لقد أقام الرومان حكومة مركزية قوية ذات جهاز إداري واضح المعالم تسندها قوة عسكرية كافية لحفظ الأمن الداخلي ونظام بيروقراطي محكم حافل بالسجلات والأجهزة الرقابية. ومجتمع هرمي الشكل منقسم إلى طبقات ممتازة وطبقات أدني.
خضع المصريون في القرن الأول الميلادي لمبدأ الإلزام الذي أجبرهم على شغل وظائف إدارية لصالح الدولة الرومانية؛ كشيخ القرية ومحصل ضرائبها، وباتت القرية ككل ملزمة بدفع ضرائب أفرادها من الفلاحين. وبدأت الأمية تنتشر بين المصريين وبخاصة النساء، بعد أن كان المصريون على عهد الفراعنة رواداً في مجالات عديدة كالهندسة والطب والقضاء والعمارة والفنون والأدب.
***
د. عبد السلام فاروق

مزاد العملة في البنك المركزي العراقي هو عملية مصرفية يقوم بها البنك الحكومي لبيع الدولار الأمريكي للمصارف وشركات الصيرفة المحلية، الهدف المعلن من هذا المزاد هو تلبية أحتياجات السوق المحلية من العملة الأجنبية والتي تستخدم عادة لتغطية الواردات والمشتريات الأجنبية ودعم الأستقرا ر الأقتصادي.
في هذا المزاد يقوم البنك المركزي ببيع الدولار للبنوك التجارية وشركات الصيرفة التي تشتري الدولار بهدف توزيعهِ على الشركات والأفراد الذين يحتاجون إلى العملة الصعبة لأستيراد البضائع أو تغطية نفقات تجارية.
أن ظاهرة غسيل الأموال Mony Laudering الشائعة اليوم هي رديفة حميمة لظاهرة مزاد بيع العملة في البنك المركزي العراقي والذي هو مؤسسة أقتصادية ومصرفية مهمة للتنمية المستدامة، إن الأصطلاح عصري بديل للأقتصاد الخفي أو الأقتصاديات السوداء أو أقتصاديات الظل والتي تستثمروتشتغل بالأموال (الغير مشروعة) وتخلط حينها بأموال مشروعة لأخفاء مصدرها الممنوع للخروج من المسائلة القانونية بعد تظليل الجهات الأمنية.
علاقة مزاد العملة بغسيل الأموال؟!
تثارحول مزاد العملة أتهامات مرتبطة بغسيل الأموال بسبب بعض المخالفات والتجاوزات التي يمكن أن تحدث في هذه العملية كمثل: أحتمالية أساءة أستخدام الدولار المخصص للأستيراد حيث يتم تقديم وثائق أستيراد وهمية أو تضخيم أسعار السلع المستوردة للحصول على كميات كبيرة من الدولار الأمريكي من المزاد.
من طرق التلاعب المحتملة
- فواتير أستيراد مزورة تقديم وثائق غير صحيحة تدعي أستيراد سلع وهمية بأسعار مبالغ فيها هذا يسمح لبعض الجهات بشراء الدولار من المزاد بسعر مدعوم وتحويله إلى الخارج بدون أن يستخدم لأغراض تجارية حقيقية.
- تهريب العملة بعد شراء الدولار من المزاد يتم تهريبه إلى الخارج بطرق غير شرعية بهدف التربح من فرق السعر أو لدعم عمليات مالية غير قانونية.
- التلاعب بسعر الصرف الرسمي بعض الأطراف قد تستغل الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق لتحقيق منافع مالية كبيرة عن طريق أعادة بيع الدولار بسعر أعلى بعد الحصول عليه من المزاد بسعر أقل.
تداعيات مزاد بيع العملة وغسيل الأموال على ألأقتصاد العراقي
- يمكن أن تؤدي هذه الممارسات الغير سوية إلى أستنزاف أحتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي وبالتالي إلى أضعاف قيمة الدينار العراقي وزيادة التضخم مما يؤثر على الأقتصاد الوطني بشكلٍ سلبي، كما إن غسيل الأموال يؤدي إلى زيادة تدفق الأموال الغير شرعية في النظام المصرفي ما يخلق تحديات إضافية أمام الأجهزة الرقابية.
- يتصدرالعراق لائحة الفساد العالمية، وحسب المؤشر الدولي للدول الأكثر فساداً هي : العراق وفنزويلا وكوريا الشمالية وليبيا والسودان واليمن وأفغانستان وسوريا، وأن هذه المعطيات نُشرتْ من قبل المنظمة الدولية Tronsparency International
- ويعتبر "مزاد العملة الأجنبية" هو تلك الفرية الأمريكية البريمرية للمحتلين طُبقتْ بالتحديد عام 2004 من قبل البنك المركزي العراقي، والذي يعتبر شكلاً جديداً من أشكال الفساد الأقتصادي المرتبط بحبلهِ السري مع عملية غسيل الأموال في العراق، فمزاد العملة في العراق أصبح وسيلة لتهريب الأموال من العراق فقد تمّ هدر 312 مليار دولار من 2004 لحد 2014 وهي من عائدات النفط العراقي الآيل للنفاذ في 2040.
- والذي ضخهُ البنك المركزي العراقي إلى الأسواق وتمّ تحويلهُ ألى الخارج وهو رقم لا يستهان به حين يعاني الأقتصاد العراقي شللا بسبب أستنزاف الحرب الداعشية وأنخفاض سعرالبرميل من النفط الخام والألتجاء إلى الأستدانة من البنوك الدولية ورهن مستقبل الأجيال القادمة بالضمانات السيادية والرضوخ للشروط التعسفية للصندوق الأسود !؟ وهذه واحدة من التداعيات السلبية التي ظهرت على الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية.
- ومما يزيد في الأحباط : أن البنك المركزي يعلن أن (التدقيق) ليس من أختصاصه إنما من أختصاص دائرة الجريمة الأقتصادية التابعة لوزارة الداخلية العراقية.
- التذبذب في سعر الصرف.
- خضوع الأقتصاد العراقي الأحادي لتقلبات ومضاربات الأسوأق المحلية.
- أستنزاف أحتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة وسبائك الذهب الذي يؤثر بدوره في صرف العملة المحلية.
- تراجع أحتياطي البنك المركزي في سنة 2009 ألى 35%.
- فقدان أستقلالية البنك المركزي العراقي.
- نوسع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق.
- البطالة بنسبة 39 % والفقر بنسبة 40%.
- العجز بميزان المدفوعات وثم ألى أنخفاض القدرة الأنتاجية.
- تنامي وأنتشار الفساد والسرقة للمال العام وضعف الروابط الأجتماعية.
- تنامي ظاهرة غسيل الأموال.
ما الحل؟؟؟!!!
للحد من هذه الظاهرة يسعى البنك المركزي العراقي إلى تعزيز الرقابة على مزاد العملة من خلال فرض شروط وضوابط صارمة على عمليات البيع وتدقيق فواتير الأستيراد وأيضاً تعزيز التعاون مع الجهات الأمنية والرقابية للحد من ظاهرة غسيل الأموال والتلاعب بسوق العملة مع هذا وذاك طفت على سطح الأقتصاد العراقي في السنوات الماضية تحديات تكتيكية وأستراتيجية في تدهو (أستدامة) المصادر المالية في العراق منذ سنة 2014 وهي مستمرة حاليا التي تلت الأزمة المالية العالمية وتأثر بها العراق في 2008، وأستمر ظهور العجز في الميزانية العراقية حتى وصل ألى رقم كارثي يتجاوز 111 مليار دولار وخفف الرقم ألى 37 مليار دولار بعد شطب المانحين في نادي باريس لتلك الديون بنسبة 80%، من الضرورة الوطنية في أختيار الجهات الرقابية والتي هي (هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومكاتب المفتشين العموميين) لكي تقف بوجه الفساد بيد أنها تحتاج إلى توفيرالأمن والدعم السياسي لهم.
***
عبد الجبار نوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
في تشرين ثاني 2024
...........................
الهوامش والمصادر/
- د-علي مرزا – أستخدام الأحتياطي في غير وظيفته /
- سمير شعبان – جريمة تبييض الأموال 2016 /
- أيمان محمود –الأزمات المالية العالمية.

 

سؤال شك أم سؤال يقين؟

على سبيل التمهيد: هل نستطيع اليوم أن نتحدّث عن نموذج شرق أوسطي حالي في الحياة المشتركة؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو نموذج الماضي؟ وإذا كان الحديث عن الماضي بغية استشراف المستقبل، فالأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.
والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية في إطار المشترك الإنساني، الذي هو الفضاء الأوسع إنطلاقًا من الشراكة في الوطن والمشاركة في اتخاذ القرار، سواء على مستوى كل بلد أو على المستوى الكوني، فنحن شركاء نعيش على هذا الكوكب، وينبغي أن نكون مشاركين في تقرير مصيره ومستقبله، مثلما نساهم في تقرير مستقبل أوطاننا.
أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في مفهوم المواطنة في الدولة العصرية، التي تقوم على عناصر أربعة، تمثّل القيم الإنسانية المشتركة وهي، الحريّة والمساواة والعدالة، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، وإن بحدّها الأدنى، والشراكة والمشاركة، وغياب هذه العناصر أو أحدها، يؤدي إلى اختلال أو ضعف أو تشويه أو بتر في معادلة المواطنة المتكافئة والمتساوية.
وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها.
العلّة والمعلول
ثمة علاقة بين العلّة والمعلول، والسبب والنتيجة، كما نقول في الفلسفة، فلكلّ علّة معلول، ولكلّ نتيجة سبب أيضًا، وشحّ المساحات المشتركة للمواطنة وأركانها القيمية الإنسانية وعدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا.
قلق وعدم يقين وأزمة
الحديث عن النموذج ليس حديث طمأنينة بقدر ما هو حديث قلق، وهو سؤال شك وليس سؤال يقين، وبالتالي فهو كلام عن أزمة واستعصاء، خصوصًا في ظلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، التي تواجه مجتمعاتنا الشرق أوسطية بشكل خاص، وتقلّص المساحة المشتركة، سواء على الصعيد الديني أم الطائفي، أم على الصعيد الإثني واللغوي.
وفي منطقتنا نشأت ثلاث أديان أساسية ، ونمت وانتشرت منها، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتعاون والتسامح، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا بين الطوائف المختلفة، فقد ظلّ الصراع اللوثري - الكاثوليكي مستمرًا نحو 5 قرون، إلى أن تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016 بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اللوثرية بعد حوار دام نصف قرن تقريبًا، حتى لتبدو أن مقولة 100 عام حوار أفضل من ساعة حرب، تنطبق إلى حدود كبيرة على الصراع اللوثري – الكاثوليكي.
وثمة حروب دامت مئة عام في أوروبا وبعدها حرب الثلاثين عام التي انتهت بتوقيع معاهدة ويستفاليا 1648 والتي تنص على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (الإمارات) المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية.
كما يوجد في منطقتنا أربعة أمم أساسية هي الترك والفرس والكرد والعرب، وأمم أخرى لو تمكنت من تحقيق نوع من التفاهم والإستقرار بينها على أساس مبدأ حق تقرير المصير والخصوصية الهويّاتية ووفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لأمكنها أن تحقق تعاونًا بناءً أقرب إلى التكامل، إضافة إلى تنمية وتطوّر، ولكانت المنطقة أقلّ تأثرًا بالتدخلات الأجنبية، فضلًا عن مناطق نفوذ للقوى المتنفذة في العلاقات الدولية.
وسبق للكاتب أن نظّم عددًا من الفعاليات بخصوص حوار بين مثقفي الأمم الأربعة، إضافة إلى الأمم الأخرى، ويشمل مثل هذا الحوار أتباع الأديان أيضًا من مسيحيين وإزيديين وصابئة مندائيين وغيرهم.
تهجير الكرد الفيليين
الكرد الفيليون فئة من اللور تتوزّع مناطق سكناهم بين العراق وإيران، وظلّت هويّتهم محطّ جدل ونقاش وأخذ ورد من جانب الحكومات المتعاقبة في العراق، وتعرضوا منذ تأسيس الدولة العراقية إلى تمييز في موضوع الجنسية، كما هجّر العديد منهم على فترات مختلفة، وشهدت سنوات الستينيات، من القرن الماضي، عمليات منظمة لتهجيرهم، والتهجير يعني سلب الحق في المواطنة ونزع الجنسية في مخالفة صريحة للقواعد الآمرة في القانون الدولي Jus Cognes وما يسمّى حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية Pacta Sont Serevenda، وخلافًا للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة الثانية)، التي تنصّ عدم جواز حرمان الشخص من الجنسية حرمانًا تعسفيًا.
والكرد الفيليون هم مجموعة عشائر مسلمة، وقد تعرّض هؤلاء إلى محاولات عديدة لإلغاء هويتّهم القومية (الكردية)، إضافة إلى هويتهم الوطنية، سواء كانت هذه الهويّة عراقية أم إيرانية تبعًا لوجودهم قانونًا، وتعود معاناتهم في العراق إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لاسيّما بصدور القانون رقم 42 لسنة 1924، الذي ميّز بين العراقيين على أساس التبعية العثمانية والتبعية غير العثمانية، فاعتبر الأول عراقيًا أصيلًا، أما الثاني فهو عراقي من الدرجة الثانية، وامتدّ التمييز إلى الممارسات العملية، إضافة إلى القانون، فشمل بعض الوظائف الحكومية العليا، والقبول في الكليات العسكرية والشرطة والعمل الديبلوماسي، وإنْ كان العهد الملكي أكثر تسامحًا، على الرغم من التمييز القانوني، لكن فترة العهود الجمهورية كانت الأشد قسوة بالنسبة لهم، باستثناء الفترة الأولى من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لكن قضيتهم، حتى في تلك الفترة، لم يتم حلّها، وظلّت إشكالية الجنسية قائمة، بل أصبحت مسألة معتّقة، صارخة ومأسوية فيما بعد.
وفي مطلع العام 1969، هجّرت الحكومة العراقية نحو 12 ألف كردي فيلي، وفي العام 1971، وعلى الرغم من صدور بيان 11 آذار / مارس 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية، فقد تمّ تسفير نحو 70 ألف مواطن غالبيتهم الساحقة من الكرد الفيليين، حيث لم تنجح محاولات التوصّل إلى حلول لمشكلتهم التي تتعلّق بالجنسية، علمًا بأن غالبيتهم الساحقة هم وآباؤهم وأجدادهم ولدوا في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه.
كان ينبغي إعادة النظر بقانون الجنسية بعد العام 1958، وذلك عقب ثورة 14 تموز/ يوليو، لكن ذلك لم يحصل ولم تتغيّر الأمور، وما جرى هو التخفيف من حدةّ التمييز، ولاسيّما القانوني، حتى وإن كان الكثير منهم قد حصل على الجنسية العراقية.
وإثر توقيع اتفاقية 6 آذار / مارس 1975 بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي كان حينها نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر، وبين محمد رضا بهلوي، شاه إيران السابق، شرعت الحكومة العراقية بتهجير القرى الكردية، وبعضها يقطنها الكرد الفيليين مثل خانقين و مندلي شمالًا وصولًا إلى بدرة وجصّان وزباطية جنوبًا، وبعضهم تم تهجيره إلى جنوب وغرب العراق، وكان الهدف تفتيت التجمعات السكانية وفصل هؤلاء عن إقليم كردستان، ولكن أكبر عملية تهجير حصلت في العام 1980 تمهيدًا للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، حيث صدر قرار خاص بذلك من مجلس قيادة الثورة.
وكان تهجير الكرد الفيليين إلى إيران بمثابة الخطوة الأولى في الحرب العراقية – الإيرانية، فقد كانوا كبش فداء جماعي، حيث تم تهجير نحو 300 ألف منهم بموجب القرار 666 الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 7 أيار / مايو 1980، واستمرّت عملية التهجير طيلة فترة الحرب (1980 – 1988)، كما تم احتجاز ما يُقارب 6 آلاف من أبنائهم بين أعمار تتراوح 16 و 35 كرهائن، ولم يظهر مصير الغالبية الساحقة من هؤلاء.
وقد تمّت مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بشكل تعسفي دون وجه حق ودون تعويض ودون مهلة لتصفية أعمالهم أو الاحتفاظ بوثائقهم، علمًا بأن الكثير منهم أدوا الخدمة العسكرية، وحتى هذه الأخيرة لم تكن مجزية لاكتسابهم الجنسية العراقية الأصلية، حيث جرى التشكيك بعراقيتهم، لدرجة اتهامهم بالعمل كطابور خامس للفرس المجوس، وهم حتى تلك اللحظة لم يخدموا في أي جيش أو أي دولة أو حكومة أجنبية.
وقد تعاظمت مشكلتهم في إيران بعد تهجيرهم، بما لها من تبعات قانونية وسياسية واجتماعية ونفسية، حيث جرى التمييز ضدّهم في إيران، باعتبارهم عربًا، وشكك بقسم منهم بأنهم يعملون لصالح النظام الذي هجّرهم، وقد نشرت 14 شهادة عن معاناتهم ومأساة الحرمان من الجنسية في كتابي "من هو العراقي"، (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2002).
بمثابة خاتمة
دلّت التجربة التاريخية الكونية، أن مشكلة المجموعات الثقافية الدينية والعرقية واللغوية، وإشكالياتها في مجتمعات متعدّدة الثقافات، تتطلّب معالجةً استثنائية لأوضاع استثنائية، بتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية والمتكافئة والحيوية، في إطار الوحدة الوطنية، إذْ كان التنكّر للهويّات الفرعية فادحًا والخسارة المادية والمعنوية كبيرة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقمها وتعقيدها، مما ضاعف من استغلال القوى الخارجية لها، بالتغلغل الناعم، وبوسائل مختلفة لخلخلة كيانية المجتمع ووحدته وتعطيل تنميته وتقدّمه، وليس حرصًا على حقوق المجموعات الثقافية.
وقد عانى الكرد من غياب المواطنة المتساوية والمتكافئة، فضلًا عن الاضطهاد المزمن، واستمرّت القضية الكردية في استنزاف الدولة العراقية على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي أدّى إلى خسائر فادحة، بشرية ومادية، دفع العراقيون عربًا وكردًا وشعوب المنطقة أثمانًا باهظة، ولو حُلّت القضية الكردية بوقت مبكر، وعلى أساس المواطنة والحق في تقرير المصير، لجنبّت الشرق الأوسط الكثير من الهدر لطاقات وكفاءات وثروات كبيرة.
ولعلّ أمر الأديان وأتباعها سيكون تأثيره كبيرًا جدًا على تطوّر مجتمعاتنا وتنميتها، وذلك بسبب الصراعات الدينية والطائفية التي شهدتها مجتمعاتنا، لاسيّما في الفترة الأخيرة بين الشيعية السياسية والسنية السياسية وانعكاساتها المجتمعية، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة النظر بالتشريعات والممارسات العملية، وفقًا لمبادئ المواطنة والشراكة والمشاركة في الوطن، والأمر يشمل المسيحيين والأمازيغيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وآخرين، حيث يتم الانتقاص من هويّتهم، والنظر باستخفاف إلى خصوصياتهم، وذلك يتطلّب الأمر إعادة النظر بالمناهج الدراسية لتكريس مبادئ المواطنة المتكافئة، ومنع التمييز لأي سبب كان، بل واتّخاذ إجراءات حاسمة لكي لا يحصل ذلك في المستقبل، ومعالجة الآثار الضارة للفترات السابقة، وذلك من خلال توسيع مساحة الحياة المشتركة والعيش معًا ومكافحة جذور التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، خصوصًا بالتوقف عند جذوره الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها.
***
د. عبد الحسين شعبان

 

شغلت قضية شيعة لبنان، وقصة السياسة الخارجية غير الرسمية الإيرانيّة- تأتي سيرة موسى الصّدر(المختفي: 1978) موضوعها الأول- فصولاً من كتاب آراش رايزنجاد «شيعة إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان»، الصَّادر (2018-2019) عن دار «بالجريف ماكميلان»، وبمعلومات منسية، لا نجد حتى التلميح إليها، في ما كُتب مِن قَبل.
وصل الصّدر بيروت حاملاً همَ الطائفة الشيعية بلبنان على كاهله، دون فصلها عن بلادها. تم ذلك بموافقة شاه إيران، وبطلب مراجع الشيعة مثل: حسين البروجردي(ت: 1961) بقمّ، ومحسن الحكيم(ت: 1970) بالنّجف، وسرعان ما أصبح الصّدر محل تقدير زعامات لبنان، وكانت لديه الرغبة في مد علاقات طائفته مع المحيط العربيّ، فاتصل بالملوك والأمراء العرب، كما ظهر في خطبه وتوجيهاته بعيداً عن الطّائفيّة.
لكنَّ الظُّروف حتمت، تشكيل ما عُرف بأفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل)، وقبلها تأسيس المجلس الإسلامي الشِّيعي، فجذب عليه العداوة والحسد، مِن قِبل وجهاء شيعة لبنانيين، فإذا كان مدعوماً من قِبل المرجع عبد الحسين شرف الدّين(ت: 1957)، في أن يحل محله لقيادة الشيعة دينياً، ناصبه ولده العداء، ومن هنا بدأت المتاعب تهطل عليه، ومصدرها شاه إيران نفسه.
عندها تخلى الشَّاه عن دعمه لبناء مستشفى، ومرافق خدمية للشيعة، فوضع الصَّدر في موقف محرج مع الطائفة. يومها أخذت السّفارة الإيرانية، تقدمه عدواً للشاه، يعمل مع الثوريين ضده، وبالمقابل أنَّ الثوريين لم يثقوا به، لصلته بالبلاط البهلوي، ولم يقتنع هؤلاء بسحب جوازه الإيرانيّ، وأنه لا يريد أن يكون عميلاً في أجهزة الشَّاه غير الرسمية، ولا عدواً.
عندما وصل الصّدر لبنان (1956)، أول مرة للاستقرار بها، قدم نفسه لبنانيَّاً لا إيرانيَّاً، راجعاً بجوارحه إلى أُصوله بجبل عامل، رافضاً التعاون مع السَّفارة الإيرانيَّة ببيروت، ونقطة جهاز السَّافاك، وحينها مُنح الجنسية اللبنانية والجواز اللبنانيّ، وهذا ما جعله لا يتأثر بسحب جوازه الإيرانيّ.
لم يكن الصَّدر بصف رجال الدين الثوريين، فمِن جانبهم أسقطوا اسمه كرجل دين، بعد زيارته لإيران ومقابلة الشَّاه، بينما كان يتوسط لإطلاق سراح سجناء، من أولئك الثوريين.
لكنَّ هناك مَن كان يفكر به أن يصبح يوماً زعيماً للثورة، بديلاً عن آية الله الخميني(ت: 1989)، لكبر سن الأخير. كان هذا الأمر يُتداول، ولم يكن الصّدر على عِلم به، غير أنَّ المحيطين بالخميني بالنّجف، قد جعلوه عدواً، بعد إرسال برقية التعزية بوفاة محسن الحكيم إلى أبي القاسم الخوئي(ت: 1992)، وليس إلى الخميني، ومعلوم أنّ تعزية الخوئيّ تعني الاعتراف بمرجعية الأخير، بينما كان مصطفى الخميني(ت: 1977)، يريد لأبيه أن يكون مرجعاً دينياً لا سياسياً، فكان يناقشه كثيراً في ولاية الفقيه (فاطمة طباطبائي، ذكرياتي). ظل هذا الشعور قائماً تجاه الصَّدر حتّى اختفائه.
ماذا يعني تأثير الصَّدر لو كان موجوداً عند انطلاق الثورة، وقد اختفى قبلها بشهور؟ قدم رايزنجاد فرضيات للتخلص مِن الصّدر، منها يتعلق بتأثيره المحتمل في الثورة، فهو ليس مع الإطاحة بالشّاه، وهذا لا تريده ليبيا القذافيّ، وبعد كثرة البحث عنه، وجهود الشَّاه نفسه لإنقاذه، واختلاف الوساطات، ومنها ما عُرض على أنور السَّادات، أجاب الأخير: «أُعدم السّيد الصّدر، وأُلقيت جثته في البحر المتوسط»، وعندما أُخبر الشّاه، «جلس على كرسيه لمدة 10 دقائق» صامتاً.
خلال الشُّهور، التي عقبت اختفاء الصّدر، افتضح أمر الحاملين له الضَّغينة، مثل السَّفير الإيراني ببيروت ورئيس نقطة السَفاك. هذا، واختفاء الصّدر، وسقوط الشَّاه، بعد عام، انتهت قصة السّياسة الخارجية الإيرانيّة غير الرسميَّة، وقد حرص الصَّدر ألا يتورط شيعة لبنان بتبعية لغير بلادهم، وإن كان شاه إيران، الذي قدم نفسه قائداً للشيعة، ليبدأ فصل آخر بين إيران وشيعة لبنان.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

مَرّ اكثر من عام على انطلاق طوفان الأقصى (7 تشرين اول/ اكتوبر 2023)، وخلاله تعرى، ما جرى باثر الطوفان وما بعده، او محصله، من مواقف ووقائع ومعلومات عن مؤسسات ومنظمات وحكومات لها صلة بالامر، او متداخلة بالمجريات، وأحدث في الوقت نفسه متغيرات ووقائع جديدة. وقد سميتها في وقتها طوفانات متوالية ومتوالدة من الطوفان الأساسي، طوفانات الطلبة، والوعد الصادق والغضب الشعبي العالمي والهدهد ومتوالياتها، وفرض الطوفان صورا اخرى لم تحصل قبله. وفي الوقت نفسه سجل الطوفان غضبا وحماسة في الحراك الشعبي، عالميا وعربيا. وفي كل هذه المتغيرات برزت اهمية الوقوف امامها بوعي وتقدير موضوعي واستفادة منها في اغتنام الفرص منها ومواكبتها بما يخدم التقدم والتطور والتغيير، ومواجهة الهجمة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية وممارساتها النازفاشية (النازية والفاشية) الجديدة او المتولدة منها، وكسر التحالفات الامبريالية، والصهيونية العالمية، والرجعية العربية، ومن يتخادم مع هذه التحالفات السوداء.
حصل خلال ذلك ايضا ما هو مواز للطوفان، في جبهتنا، ولكن في اطار السلب منه، عند الشعوب العربية وفي حدود الوطن العربي خصوصا وما احاط به، تلخص في نجاح الامبريالية واداتها او قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في منطقتنا، في اغتيال القيادات التي عولت عليها الشعوب في اطار الطوفانات المتتالية، واثبات التفوق التقني والامني والتجسس بكل اساليبه وتفرعاته، فقد خسرت الامة العربية والإسلامية قيادات لها، كانت تلعب دورا كبيرا في ادارة الطوفانات، من جهة وحركة التحرر الوطني من جهة اخرى. ابتدات من اغتيال القائد الفلسطيني الشهيد صالح العاروري في الضاحية الجنوبية من بيروت، وما عناه هذا الاسلوب وما قدمه من رسالة تحد، لم يؤخذ الحذر المرجو منها والاعتبار من تمكن العدو وقدرته على الوصول والتنفيذ بدم بارد، ومن ثم استطاع العدو ان يفجر اجهزة البيجر واللاسلكي العائدة لاعضاء في حزب الله او المقربين منه، وادى الى اصابة اكثر من ثلاثة الاف مستخدم لها باصابات مؤلمة متنوعة، وهذه العملية خطيرة واختراق امني صارخ يثير اكثر من سؤال واستفهام واتهام. لحقه اغتيال الزعيم الفلسطيني، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين، اسماعيل هنية، في العاصمة طهران، في فترة استشهاد رموز لبنانية في قيادة الجناح العسكري للمقاومة الاسلامية في لبنان، وطليعتها حزب الله، ومن ثم تمكن العدو الطبقي والسياسي والامني للامة والوطن من الوصول الى القيادة المباشرة، الشهيد، القائد الأممي، السيد حسن نصر الله، وتلاه الشهيد السيد هاشم صفي الدين وبعدهما مباشرة جاء استشهاد القائد الفلسطيني، والمنظم لطوفان الأقصى والمتصدي للحرب العدوانية الصهيو غربية على غزة، الشهيد يحيى السنوار، كل هذا سجل نقاطا لصالح العدو وضربات متتالية لمحور المقاومة ضد محور الامبريالية الصهيو غربية، وتعمد بدم الشهداء وكاد يوزع خيبة كبيرة في طبيعة الصراع الدموي الذي يجري اليوم في المنطقة اساسا وفي العالم ضمن ارتداداته العلنية والسرية. رغم ان تلك القيادات لم تترك الساحات فارغة بعدها، بل قد غرست جيلا مواصلا لدورها ومكانتها وموقعها الاستراتيجي في المقاومة والمواجهة والمجابهة، مع اعتراف وادراك للفوارق في الامكانات والمعدات والتقنيات والموازنات، وعلى صعد مختلفة، ولكن منظومة الاعداء تفتقر لما عند محور الممانعة والمقاومة من وعي كبير بمهماته وقناعات ايمانية بمدد وعدد وسبل النصر العقيدي والروح الاستشهادي المميز والدافع المعنوي والقيمي في ثناياه.
جاء طوفان الأقصى ليجدد عدالة القضية الفلسطينية ومظلوميتها ويضعها امام العالم، كما يعيدها الى الوعي العربي والاقليمي، ويفضح بها هشاشة القاعدة العسكرية التي كرست ذاتها كقوة رادعة للامة العربية ومن يتعاون معها، سواء من الامم او الشعوب. كما فضح الرد الوحشي على الطوفان ليس وحشية القاعدة الصهيو امبريالية، الكيان إلاسرائيلي الاحتلالي الاستيطاني التوسعي، وحسب، في الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير الجماعي والتخريب والتدمير والهدم والسجن والاعتقال والاسر والاضطهاد والتجويع والحرمان، بل وعرى الحكومات الامبريالية والراسمالية العالمية في ازدواجية المعايير والعنصرية والتناقض في قيمها وقوانينها ودساتيرها وادعاءاتها وخداعها وتضليلها وفشلها في التغطية والتعتيم والتشويش للوقائع والاحداث الدموية الماثلة والمنقولة بوقتها صورة وصوتا في الفضائيات وكل وسائل الإعلام والتواصل الإعلامي والاجتماعي.
ما المطلوب الان؟، بعد كل هذا وبعد مرور تلك الفترة الزمنية والصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وباقي فلسطين وجبهات المساندة من حزب الله في لبنان، ومن انصار الله في اليمن ومن الحشد الشعبي في العراق وسورية وفصائل مسلحة اخرى تتوجه بالسياق نفسه وراي عام يسهم في مقاومة العدو الصهيو امبريالي في مختلف المستويات والمجالات، وتتحدى هذه الفصائل بقدراتها اكبر آلة عسكرية حربية عدوانية ومجمعات صناعية ولوبيات لها تاثيرها في القرارات المتداولة في العدوان والحرب القائمة وعالميا، بعد كل هذا يستعيد محور المقاومة بكل فصائله جاهزيته ودوره ومهامه المنوط بها، والتي يقوم بها عمليا.
يوضح الصراع الدموي القائم الان في فلسطين، ابعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لاشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن ياتي بعدها بالتسلسل او بالتقارب الجغراسياسي ويعكس ابعاد الهيمنة والمشاريع الراسمالية والدول الامبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الاستراتيجي. وللاسف انعكس هذا الامر سلبا او تفشى ضعفا او غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والاسلامي، في اغلب التيارات والاتجاهات والاحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه الى السطح بشكل كارثي لا يخدم الاهداف والمناهج التي اقتنع بها وانتج الايمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي ادت إلى الوصول الى هذه المرحلة الحرجة.
يعيد الواقع الحالي التفكير بنظرية تقسيم الشعب والامة العربية الى تشكيلتين او قسمين، ايجابيا وسلبيا، تقدميا ورجعيا، متطورا ومتخلفا، يؤدي نضالا او عمالة، مقاومة ومجابهة او خضوعا واستسلاما، افقيا وعموديا، وتبدو هذه النظرية رغم قسوتها هي واقع الحال، اليوم، وتوشح المشهد السياسي والفكري والاجتماعي، وانكارها لا يغير منها ولا يفيد في ترقيعها، وتظهر في المنظمات الاقليمية والاحزاب السياسية بتياراتها المختلفة والهيئات العامة والنقابات ووسائل الاعلام والإتصال وحتى داخل العائلة الواحدة، او القبول في الفتنة والانشطار والتفتت وترويجها عموما، علنيا او سريا، بوعي وادراك او بجهل وغباء، الامر الذي يطلب من الجميع ومن يهمه الامر اساسا، في القرار والقيادة والمسؤولية والحرص على الوجود في التأريخ مع التقدم والتطور ان ياخذها بجدية ويعمل من اجل اعادة البناء وادراك حقيقة الصراع القائم والمهمات المطلوبة في التحرر الوطني والقومي بروح ثورية علمية تفتح الافاق وتعيد الثقة بالطاقات والإمكانات الكامنة في امتنا ووطننا والحلفاء الذين تعهدوا ذات المنهج والطريق، وتتجاوز المصالح الذاتية والزبائنية الحزبية او الجمود الفكري او التحجر الثقافي، وهنا الوردة، فلنرقص معا.
***
د. كاظم الموسوي

شهد العراق موجة أمطار غزيرة، يمكن القول بأنها " نظفت" أجواءه مؤقتاً من الملوثات الغازية التي خنقت المواطنين في بغداد وأطرافها، خلال الشهرين الأخيرين. لكن الأزمة لم تُحل، ومن جديدد سيتكرر المشهد المقلق- إستيقاظ المواطنين مختنقين من التلوث، وسط انتشار روائح خانقة من الكبريت وغيره، لأن أسباب المشكلة مازالت قائمة، وسيضطر المواطنون من جديد لارتداء الكمامات في محاولة لحماية أنفسهم من الآثار الضارة لهذا التلوث.
والمقلق أكثر هو ان التقارير والتوضيحات الرسمية الصادرة من الجهات تالاسمية المعنية بحماية البيئة لم تحدد المصدر الرئيس للتلوث، لتضع حد له. وبذلك تدلل ،مرة أخرى،على عجزها عن معرفة الأسباب الحقيقية، ناهيكم عن إيجاد الحلول العاجلة والفاعلة، وهو دليل اَخر على مواصلة التخبط وسوء الإدارة البيئية..
وفي هذا السياق، قوبِلَت التصريحات الرسمية المنتناقشة بردود أفعال قوية، مشفوعة بتصاعد إمتعاض وإستنكار المواطنين،الى جانب تندرهم وإستهزاءهم بالتصريحات المتناقضة وغير المقنعة وغير المبنية على دراسة علمية بشأن أسباب تلوث أجواء بغداد وأطرافها بالملوثات الغازية والروائح الكريهة التي يستنشقها المواطنون مجبرين، ومنها نصيحة المتحدث باسم وزارة البيئة لؤي المختار لأهالي بغداد بـ "عدم الخروج للشوارع في اوقات الليل و الفجر، وإغلاق النوافذ حتى لا يتنفسوا روائح كريهه ومزعجة ، لحين التحقق من الأسباب المفصلة بناء على دراسات علمية رصينة ، وإيجاد حلول جذرية "..
رداً على ذلك، تساءل أحد المواطنين:" لماذا لم تجروا الدراسات العلمية الرصينة احد الآن ؟ وما هو شغل مؤسساتكم ولليوم ليس لديها حلول جذرية لمشكلة وخيمة تهدد صحة وحياة المواطنين ؟!!"..
ومن ردود الأفعال الموضوعية الأخرى:
* كتب د. رائد فهمي، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي موجزاً المشكلة القائمة بالسطور التالية:" التلوث البيئي في العراق بلغ مستويات الأعلى في العالم، وبات يشكل تهديداً اَنياً للصحة العامة. ما يحصل نتيجة طبيعية للإهمال وللسياسات الضارة للحكومات المتتالية. ان مواجهة الأزمة البيئية بفاعلية تتطلب سياسات وإجراءات وفق أولويات عجز عن تأمينها حكم المحاصصة الذي أضعف الدولة وأشاع الفساد".
* وأوردت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي في دراسة انتهت منها أخيراً – بحسب الباحث د. صباح ناهي- قولها إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي والذي يمثل ما قيمته 2.5 مليار دولار سنوياً، واستورد من إيران مليار قدم مكعبة من الغاز يومياً لإنتاج الطاقة الكهربائية خلال عام 2020، ولو تم استخدام الغاز الطبيعي الذي يتم حرقة في إنتاج الطاقة الكهربائية لكان أنتج ما يقارب 10 ميغاواط سنوياً وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان"(" Indepemdentعربية"،26/10/2024)..
ونشرت د.العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وبلغ 203 ، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية. وقالت:" ان مشكلة تلوث الهواء في العراق قائمة منذ اكثر من عقدين، حيث ان محطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية الحكومية الكبيرة والمساهمة بالتلوث قديمة، ويستخدم فيها نفط اسود غير مكرر وديزل. وحيث ان نسبة الكبريت في النفط العراقي هو الأعلى بالعالم. وبدلا من تجديد هذه المحطات وصيانتها او تغييرها بمنظومات تعمل على الغاز الطبيعي النظيف أو حتى الكازاويل، و تركيب فلاتر ومرسبات تمنع هذه الانبعاثات للهواء، كما يتم في كل دول العالم ، تتم سرقة التخصيصات المالية من قبل جيوش الفاسدين واللصوص في الوزارات ذات العلاقة ، وتبقى هذه المحطات تنفث غازات مضرة للصحة وتزيد من تبعات الاحتباس الحراري والتصحر في العراق. ومن هذه الملوثات اكاسيد الكبريت، والكاربون، وكبريتيد الهيدروجين، والسخام الهايدروكربوني، الذي هو مسرطن، وغازات اخرى، والتي منها ما يعتبر ساما اذا تم استنشاقه بتراكيز عالية لفترات غير قصيرة ". .
وأكدت: " ان هيئة حماية البيئة في العراق لا تستطيع إغلاق هذه المحطات لان الحاجة الحالية للطاقة الكهربائية للعراق هي بحدود 40 ميكاوات، ولا ينتج منها في العراق أكثر من 25 ميكاوات، نصفها فقط من منظومات قديمة، وباقي المحطات تعمل بالغاز الطبيعي. يضاف لذلك ان كل معامل حرق الطابوق وصناعة الاسمنت تستخدم النفط الاسود، مضافا اليها مشكلة حرق النفايات المنزلية و حتى الالكترونية في مواقع متداخلة مع سكن المواطنين، مثل التي في منطقة معسكر الرشيد، والتي تنبعث منها ابخرة مصنفة سمية وخطرة عالميا. ولذلك هنالك زيادة كبيرة بالوفيات و في الاصابة بالامراض السرطانية في العراق لا تعلن عنها وزارة الصحة، لان العراق اصلا مصنف ضمن اول 10 أسوأ دول بتلوث الهواء في العالم لاكثر من عشر سنوات"
* من جهته، أكد عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي: "أن الجهات الحكومية تتحمل المسؤولية الأولى عن التلوث البيئي في العراق، حيث سجلت العاصمة بغداد تلوثا في هوائها بنسبة تصل إلى 70 في المائة.ولم تتخذ الحكومة خطوات فعالة لمعالجة مشكلة التلوث"، موضحًا أن الإحصائيات تشير إلى وجود تلوث في الهواء والماء والتربة دون وجود أية معالجات مناسبة. وأضاف، أن وزارة البيئة تفتقر للإمكانات الفنية والصلاحيات القانونية اللازمة لمواجهة هذا الملف الحرج ("طريق الشعب"،14 /10/2024).
* وأفاد مرصد “العراق الأخضر” المتخصص في شؤون البيئة، بأن معامل الاسفلت والطابوق هي المسبب الرئيس لتلوث الهواء في بغداد.وقال عضو المرصد عمر عبد اللطيف، في حديث صحفي ان تلك المعامل، إضافة إلى رداءة الوقود المستخدم في السيارات والمولدات، هي المصادر الرئيسة لتلوث هواء بغداد. فيما لفت إلى ان مصفى الدورة غير معني بهذا التلوث.
* وكانت لجنة الصحة والبيئة النيابية ووزارة البيئة، قد حددتا أسباب انبعاث رائحة الكبريت في بغداد بأنها ناجمة عن حرق الوقود الثقيل المتمثل بالنفط عالي الكبريت، وعند حرقه يولد غازات سامة ("الصياح"، 20/10/2024).
* وكان المتنبئ الجوّي صادق عطية قد نشر يوم السبت 12/10/ 2024 على حسابه الشخصي بمنصّة "فيس بوك"(نقلآ عن الكاتب لؤي الزبيدي) مقطعًا مصورًا يظهر كمية التلوث في العاصمة بغداد.وكتب ان الدخان الصادر عن مواقع الحرق والطمر هو عبارة عن كورة خاصة بالحرق يستخدمها تجار مواد الصفر والنحاس وكيبلات الكهرباء والوايرات، وهي منتجة لرائحة الكبريت كون بعض المواد الممنوعة هي مواد حربية او أجهزة الكترونية دقيقة وايضا قناني الكلور والزئبق وهو ما يسبب ضررًا كبير على البيئة والانسان.
وأوضح، انه وصله بان مواقع التلوث تقع في نهاية منطقة العبيدي، جهة الرئاسة، شريط سدة ديالى وشطيط، ونفس الدخان جهة العماري والباوية ومعمل الثرمستون، ونفس الدخان جهة الدورة وجسر ديالى والسيدية، فضلا عن مواقع طمر البلديات".
وأكمل،: كل ما في الأمر ان هنالك اتفاق بين تجاره السكراب والمواد المعاد تدويرها وبعض أصحاب الاراضي الكبيرة على استغلال فترة الليل وانعدام الرقابة الامنية والبيئة وايضا طمع أصحاب الاراضي وتاجيرها لأصحاب المواد لغرض استخدام الارض كموقع حرق وتدوير او استخراج المواد لغرض بيعه."
* وأكد عضو مجلس النواب ياسر الحسيني أن "رائحة الكبريت والتلوث الملحوظين في الفترة الأخيرة ناجمان عن مصانع تعمل ليلاً بقضايا الأكسدة ومناطق طمر صحي غير ملائمة"...
هذه الطروحات، وغيرها، أحرجت المسؤولين في وزارة البيئة، بل وأربكتهم. وتلافياً لما حصل أقدمت وزارة البيئة على تصحيح الموقف،،كما يبدو، فأجملت، في مؤتمر صحفي في13/10/ 2024، أسباب المشكلة في احتراق النفط الأسود من محطات توليد الطاقة، ومعامل الاسفلت والطابوق، اضافة الى إضرام النيران في مطامر النفايات غير الصحية في اطراف العاصمة.
وأوضح الوكيل الفني في الوزارة لشؤون البيئة د. جاسم الفلاحي: " يعود ارتفاع مؤشرات تلوث الهواء في مدينة بغداد لبؤر تلوث مرصودة في حدود المحافظة من قبل فرقنا المنتشرة ميدانياً، والمثبتة في التقارير والبلاغات التي تصدر عن هذه الوزارة. وتتمثل البؤر بمحطات توليد طاقة الكهرباء والتي تستخدم الوقود الثقيل ( النفط الأسود) مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالاضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطمر غير الصحي، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي بالإضافة الى ما تتعرض له من حرق عشوائي وخاصة أثناء الليل". وأشار أيضاً الى "كور الصهر غير القانونية والتي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة، مع الاخذ بنظر الاعتبار وجود ظهور طقسية في هذه الاثناء والمتمثلة بتغير درجات الحرارة، وتغير اتجاهات الرياح، مع ازدياد معدلات الرطوبة، مع اعتبار تراكم مثل هذه الانبعاثات الضارة والتي تظهر على شكل ضباب أو غيوم تحتوي على ازدياد في تراكيز الغازات الضارة ومنها ثاني اوكسيد الكبريات وغازات الميثان، وغيرها، مع تداعياتها الصحية المتوقعة"..
وسرعان ما إنطلقت من "القطط السمان" مطالبات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الى خارج أطراف بغداد، الأمر الذي دعا أستاذ الأعلام والباحث في الشأن السياسي د.عالب الدعمي ان يتساءل:" لماذا ازدادت الدعوات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء بالتزامن مع انتشار رائحة الكبريت ؟ " وقال بأنه لا يستبعد ان هذه الرائحة الكبريتية يقف خلفها الفساد لذي يخطط للاستيلاء على ارض مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الكائنة على نهر دجلة " ..
وعلق الكاتب سمير داود حنوش: "أخيراً، يبدو أن الجميع إتفق على المسبب الذي ينطبق عليه شعار “رُبَّ ضارة نافعة”، عازين السبب في إرتفاع نسبة التلوث في العاصمة إلى مصفى الدورة في بغداد وبجانبه محطة كهرباء الدورة"..وتساءل: " هل هناك نيّة لإبادة جماعية للعراقيين قد تحدث لهم من خلال الهواء الفاسد الذي يستنشقونه ؟ .. لا أحد يعلم، لكن المؤكد إن الإجراءات الحكومية لا ترتقي لمستوى الأزمة التي تتصاعد يومياً..
***

د. كاظم المقدادي

يري الدكتور يوسف بودن مهندس معماري ومهتم بالفكر الحضاري عند مالك بن نبي وجب أنه علي المجتمع الإسلامي اليوم أن يعرف خصمه تاريخيا ومعرفيا ولا ينبغي ان يحول القرآن إلي تلاوة فقط بل يحول التلاوة إلي سؤال، وأن يعرف الثنائية بين الذات والأخر، هذا الأخر الدي جاء فبادتنا وليس لتحضيرنا وأن لا نحصر المشكلات في المسائل السياسية بل معرفة ما حدث في التاريخ وما يحدث الأن، يعني إعادة قراء التاريخ وكيف نهضت الحضارات وكيف سقطت؟ وهو ما أشار إليه مالك بن نبي في الجزء الثاني من كتابه وجهة العالم الإسلامي.
إن قراءة فكر مالك بن نبي لا يكفي في محاضرة أو ندوة أو حتي ملتقى كونه موسوعة فكرية لا يستطيع أحد منافسته أو الوقوف أمامه ندا للند إلا من وصل إلى مستوي فكره وتأمله وهو يدرس الظواهر ويحللها من منظور عقلي خاصة ما تعلق بالمشكلة الحضارية ومسائل أخرى كالمسالة اليهودية ومشروع العود الأبدي، وقد اعتادت دار النشر ومكتبة الإحسان بمنطقة الأوراس (شرق الجزائر) أن تنظم جلسات فكرية لمناقشة قضايا مختلفة ومتنوعة، تهم الرأي العام لاسيما القضايا والإشكاليات التي هي موضوع الساعة، فكان لها هذه المرة أن تستضيف باحث مهتم بالفكر البنّاوي، هي الإشكالية التي تناولها الدكتور يوسف بودن مهندس معماري واستاذ بجامعة باتنة، وهي قراءة لكتاب "وجهة العالم الإسلامي" في جزئه الثاني للمفكر والفيلسوف مالك بن نبي، الذي سلط الضوء على العود الأبدي "المسألة اليهودية" عند نيتشه وزرادشت، متسائلا عن سبب حضور هذين الفيلسوفين في كتابات مالك بن نبي، وكان مالك بن نبي في الجزء ألأول من الكتاب قد عالج فكرة إنسان ما بعد الموحدين، وحركة النهضة والفوضى التي يعيشها العالم الإسلامي الحديث والعالم الغربي على حد سواء وعواملها الداخلية والخارجية.
في محاضرته وقف يوسف بودن عبر عدة محطات، بدءًا من فكرة التقطيع الزمني الذي مرّ بأربع مراحل حدثت فيها ثورات، وتمدد الجغرافيات وكيف تعرض الإسلام إلى الانكماش ليسوق الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة التي تميزت بالعقلانية والعصرنة، وظهور عصر الأنوار والثورة الفرنسية وهذا المحطات مهدت لعقد المؤتمر الصهيوني في 1897 وكانت من نتائجه ميلاد إسرائيل في 1948، كان هناك إشعاعا كونيا للثقافة العربية لكن رافقتها نوع من الفوضى، وهذه الفوضى أدت بالضرورة إلى انفصال العلم عن الأخلاق، أي السقوط الأخلاقي للغرب والاتجاه نحو المادية.
وقد استعمل المحاضر بعض المفاهيم التي هي بحاجة إلى تبسيط كمفهوم الإستعمار والفتوحات باعتبارهما مفهومان مختلفان، ومفهوم الشّتات في أبعاده العرقية، السياسية، الثقافية والعقائدية الدينية ومفهوم البراديغم عندما قال أن اليهود اليوم يحاولون الخروج من البراديغم والإندماج في المجتمع الغربي من خلال فكرة قتل الاله التي أعلن عنها نينشه، وهي فكرة جربتها النخب اليهودية الأولي ثم المحاولة الثانية في تجسيد الله في المسيح، بالنسبة للعود الأبدي هو الانتقال من الجماعة إلى الدولة ولتحقيق اليهودية مخططها، ساهم اليهودي في تلويث المجتمع المنافس (المسلمون) عن طريق بعض الجماعات كالحشاشين، حتى يصبح اليهودي مركز أوروبا الحديثة ويصبح وحده3 المُنَظِّرُ في الحقول المعرفية، يقول يوسف بودن أن اليهود هم المؤسسين للحداثة وفي الوقت نفسه كانوا ضحاياها، فاضطروا إلى الهجرة لأنهم وجدوا أنفسهم أمام واقع اسمه الدولة الأمة، أراد المخيال اليهودي تحويل الماضي إلى ملحمة وطنية حتى تصبح الهولوكوست دينا يستعمل من أجل الابتزاز مثلما نراه اليوم في المانيا، في نفس الوقت نجد طوفان الأقصى يعيد النظر في ثقافة الإبادة والعنصرية ويفنّد كل الادعاءات مع إبراز بعض الهوامش في العالم.
في المسالة اليهودية توقع مالك بن نبي حرب بين الرأسمالية والإشتراكية، لكنها كانت حربا باردة، اراد مالك بن نبي أن ينبه المسلمين بأن اليهود متواجدون داخل الجماعات بما فيهم اتباع الرأسمالية والإشتراكية، ويستنتج المحاضر من خلال قراءة فكر مالك بن نبي أن الشيوعية تيار يعمل على خدمة اليهود وهذه مفاهيم تسعى في أعماقها خدمة التراث اليهودي ومسار انعتاقهم ومركزيتهم، أما بالنسبة للمسيحية ففي نظر مالك بن نبي انتهت ولم يعد لها وجود ويجب ملء هذا الفراغ الروحي ليس بالهيمنة على العالم بل إنقاذه، أي لإقناع البشرية وليس الانتصار عليها عن طريق التقنية والطاقة وإنتاج نخب تعرف العالم عبر منهجية علمية، وقد ساق يوسف بودن حديث عن المسالة اليهودية لمالك بالنبي الحديث كتاب "الجزائري اليهودية" وهو عنوان وصفه بالمستفز
نقد وتعقيب
كانت هذه محطات وقف عليها الدكتور يوسف بودن وقد فتحت الشهية لدكاترة شاركوا الندوة الفكرية حيث انتقدوا تاريخ ظهور كتاب الجزء الثاني من كتاب وجهة العالم الإسلامي والذي ركز فيه مالك بن نبي عن المسألة اليهودية، وزمن تلقيه (2012) ومنهم الدكتور عمر بوقرورة أستاذ الأدب الجزار بجامعة باتنة في رده علي المحاضر عندما قال أن اليهود اليوم يحاولون الخروج من البراديغم والإندماج في المجتمع الغربي وقال الدكتور عمر بوقرورة أن المسالة اليهودية لا ينبغي أن تطرح في إطارها التاريخي فحسب، بل في إطار استشرافي للوقوف على كيف استولى اليهودي على روح الحضارة الغربية وكيف استسلم الغرب لليهودي، وأصبح اليهودي هو المسيطر على روح الحضارة وهو اليوم يحاول تطويع وتطبيع الحضارة العربية الإسلامية وما تملكه من روح كما طوّع الحضارة الغربية.
كما انتقد الفكرة التي جاء بها يوسف بودن وهي انتقال اليهودي من الديني إلى الثقافي، وقال أن ما حدث هو العكس، أي أن اليهودي انتقل من الثقافي إلى الديني واستغل الثقافي من أجل إعلاء الديني أي السيطرة بالإله، لفشارة وحسب بعض الكتابات فإن اليهود لم يمارسوا التبشير باعتبار أن اليهودية ديانة غير تبشيرية ومغلقة على أهلها، لأنهم يزعمون أن الله اختصهم بها لأنهم شعبه المختار، وهو ما أشار إليه يوسف بودن في قراءته للمسالة اليهودية عند مالك بن نبي، ولعل انتصار اليهودي سببه تفكك العالم الإسلامي وغياب الثقافة الإسلامية، مما جعلهم يتفوقون في جميع الميادين في العلم وفي الصناعة، وما يملكونه من مهارات في الصياغة والجانب المالي والصيرفة ولا زالوا حتي الأن يتوارثون هذه الصفة أو هذه الخاصية كما يستخدمون عنصر المال في السيطرة والهيمنة، ناهيك عن معرفتهم بالكتابة والقراءة عكس العرب في الجزيرة العربية، فيما انتقد أخرون الجامعة الجزائرية وتقاعسها في مناقشة هكذا قضايا وهو ما اشار إليه الصغير باله إطار جامعي ومفتش في قطاع التعليم بأن الجامعة الجزائرية بنخبتها تسوق الانهزامية حيث دعا إلى تحديد المصطلحات والمفاهيم إن كنا نتحدث عن إسرائيل؟ أم نتحدث عن اليهود؟ أم عن الصهاينة؟.
وبالعودة إلى مفهوم العود الأبدي عند اليهود فالمفهوم نفسه يراه البعض في تحول قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، وهذا التحول كان له دور في انتشار الديانات السّامية وبخاصة الديانتان الساميتان الإبراهيميتان التوحيديتان: الموسوية والعيسوية أو اليهودية والنصرانية (المسيحية) في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام، وكيف ارتبطت اليهودية بمنطقة يثرب ما جعلها مركز جذب للديانة التوحيدية السامية الأولي، بفعل نزوح اليهود من فلسطين إلي منطقة الحجاز وقد نجح ايهود إلي حد ما في تهويد بعض القبائل العربية في منطقة الحجاز وبذلك عرف ما يسمي بـ: يهود نازحين وعرب متهوّدين وصاروا يلقبونهم بيهود يثرب، تبقي مسألة انتهاء المسيحية فهذه المسألة اختلفت حولها الآراء، فهي كانت منتشرة انتشارا واسعا وكان حظها من ذلك أكبر من الموسوية أو اليهودية لعوامل عديدة منها الجغرافية والتاريخية والسياسية، فالأرقام التي ذكرها مالك بن نبي في كتابه أزمة العالم الإسلامي الصفحة 130
ورغم أن الأرقام قديمة، لكنه ذكر أن النصاري يحتلون المرتبة الأولي من حيث العدد (600 مليون)، والبوذية (570 مليون) والبرهمانية (450 ليون، الإسلامية (400 مليون) واليهودية (14 مليون) وهكذا تأتي اليهودية في المرتبة الأخيرة (14 مليون) وهي تعد من "الأقليات" بعد انتهاء المجوسية، يقول مالك بن نبي في الصفحة 131 من نفس الكتاب (أزمة العالم الإسلامي) أن اليهودية لا تعدُّ دينا بأتم معني الكلمة، هي سياسة أو دين عنصري لا يطلب من أحد الدخول فيه، أما الشيوعية فقد بدأت تظهر كدين جديد يلقي لونه الأحمر على خريطة الأفكار وقد اكتسح لونها رقعة كبيرة من الأرض: (الصين وشرق أوروبا والاتحاد السوفياتي إذن لم يبق علي الخريطة كعقيدة إلا الإسلام والشيوعية لكن هذه الأخيرة هي الأن متصدعة وغير مستقرة في الاتحاد السوفياتي.
إن أهم مسألة عالجها مالك بن نبي في كتابه أزمة العالم الإسلامي هي فكرة "التمزق" إذ يقول أن التمزق لم يصب الضمير العلمي، وإنما اصاب ضمير الإنسانية المتهيئ لجميع الانفصالات، المستعد لضروب المنازعات، المشرف على منازل القيامة، ولعل في ضمير الغيب مصيرا محزنا ينتظر هذه الإنسانية، ويتوقع مالك بن نبي ان تعود الإنسانية إلى عهد الكهوف (ص 138) وقد توحي إلينا القنابل الذرية في الغد بفن جديد من فنون العمارة، عمارة الحياة في جوف الأرض، ويومئذ تعيش الإنسانية في أعشاش هائلة تشبه أعشاش القوارض..الخ وهو ما يحدث الأن ونحن نقف على ما يحدث في فلسطين وغزة.
خلاصة القول يقول الدكتور يوسف بودن، وجب على المجتمع الإسلامي اليوم أن يعرف خصمه تاريخيا ومعرفيا ولا ينبغي أن يُحَوّل القرآن إلى تلاوة فقط، بل يحوّل التلاوة إلى سؤال، وأن يعرف الثنائية بين الذات والأخر، هذا الأخر الذي جاء لإبادتنا وليس لتحضيرنا وأن لا نحصر المشكلات في المسائل السياسية بل معرفة ما حدث في التاريخ وما يحدث الأن، يعني إعادة قراء التاريخ وكيف نهضت الحضارات وكيف سقطت ؟ وهو ما أشار إليه مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي، كان هذا في رده على سؤالنا إن كان خطاب السّيف الذي تبناه التيار السلفي الجهادي مسؤول عن الأزمة التي يغرق فيها العالم الإسلامي اليوم ؟.
***
علجية عيش بتصرف
.......................
* (في محاضرة ألقاها الدكتور يوسف بودن حول العود الأبدي)

 

خمس وعشرون دقيقة استغرقها لقاء الممثل الجديد للامين العام للامم المتحدة في العراق الدبلوماسي محمد الحسان مع المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني يوم الرابع من تشرين الثاني عام 2024، غداة اللقاء صدر بيان لخص مادار من حديث المرجع الاعلى مع الممثل الامني، بعدها بساعات توالت بيانات القوى السياسية العراقية تكرر تبنيها للمقولات الاساسية التي اشار اليها المرجع، في حين كان المعني بالعتاب اولا واخرا هي القوى السياسية ومن والاها التي ادارت وشاركت واستمرت تستثمر في العملية السياسية ولم تتمكن من تحسين احوال العراق كما ينبغي بل بقي العراق يواجه التحديات التي اقلقت وتقلق المرجع وهو الذي رعى وواكب البناء السياسي في العراق منذ التغيير عام 2003، واستمر بتوجيه الارشادات والنصائح واتخاذ المواقف ليستعيد العراق عافيته دولة مزدهرة ذات سيادة.
المفارقة الكبرى لم تكن فيما كرره المرجع الاعلى من قضايا واولويات وسياسات ينبغي العمل عليها، فقد سبق ان تحدث بنفس القضايا طيلة عشرين عاما، ووجد ان الاستجابة لها كانت لفظية بيانية وخلافها كان عمليا وعيانيا، المفارقة الجديدة كانت في البيانات والتفسيرات والتأويلات التي ذهب اليها متحدثون وكتاب كثيرون حاولوا ان يجدوا اعذارا لمواقف احزابهم والجهات التي يمثلونها أو التي يميلون اليها، فيما ذهب بعض اخر الى الهمز واللمز والتعبير عن عدم الارتياح من ما شدد عليه المرجع من اولويات في الظروف الحرجة التي يمر بها العراق خصوصا فقرات (منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها)، و(حصر السلاح بيد الدولة)، و(مكافحة الفساد على جميع المستويات) و(اعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية)، فجميع هذه المباديء الاساسية من مستلزمات بناء الدولة، اي دولة، فيما تشتد الحاجة للاخذ بها في العراق اكثر من اي وقت مضى، فالتيه والضياع هما الموشران الواضحان على مسار الحياة السياسية العراقية، وقد يتواصل مسلسل العزوف الجماهيري عن المشاركة السياسية، فيما تستمر حالة الانتظار والقلق التي تغلف وتغطي فضاءات المشهد السياسي مع تزايد احتمالات نمو الرفض والاعتراض وبلوغها مرحلة التصعيد، رغم جهود الحكومة الحالية في حلحلة الملفات المعقدة، الحياة السياسية تعاني من مخاطر كبيرة واحزاب السلطة والقوى التي ترتبط بها تتحرك بعيدا عن المسارات السليمة لبناء دولة مستقلة، تحقق انجازا تنمويا حقيقيا، وتصنع املا واعدا للجمهور، وتقلل مظاهر الفساد واللامساواة في توزيع الثروة، وتمنع تغول قوى واتجاهات محددة في المجتمع، لتستولي على المجالين الاقتصادي والسياسي وتؤسس دولة عميقة او دولة موازية .
المرجع الاعلى تحدث عن مخاوفه التي يشاركه فيها ملايين العراقيين، ووصفها بانها تحديات كبيرة يعاني منها العراق والعراقيون على اكثر من صعيد، لكنه لم يوجه دعوته الى السياسيين لمراجعة الاخفاقات والتعلم من دروسها، بل دعا (النخب الواعية) الى العمل بجد وبذل قصارى الجهد في سبيل تحقيق مستقبل افضل للعراق، مشترطا الاعداد لخطط علمية وعملية لادارة البلد اعتمادا على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية، والعودة الى النخب الواعية على لسان المرجع الديني تشير الى وعي عميق لدور النخب في بناء الدول، وحاجة العراق الى النخبة الواعية المسؤولة لتباشر هذه المسؤولية والمهمة الصعبة، فهل يتوفر العراق على هذه النخبة فعلا ؟ هل النخبة فئة مؤثرة اجتماعيا وثقافيا وقادرة على صنع رأي عام وتوجيه الجمهور وبناء النموذج البديل ؟، في ظني ان قضية النخبة تعيد الحديث مجددا الى فشل الوجودات السياسية العراقية في انتاج وتكييف واستيعاب من كان صالحا للاندراج في قوائم النخب، النخب التي تستطيع العمل لبناء الدولة وتسييرها، لسببين، الاول، عدم ايمان الاحزاب نفسها بدور النخب، لان اكثر هذه الاحزاب ايديولوجية ولم تفقه اهمية توافر النخب والعناصر البيروقراطية بالمعنى الفيبري، انما كان الذي يحظى بالعناية والاهتمام اولئك الذين يقدمون الولاء والطاعة للزعامات، وكان ذوو الفكر والعقل النقدي موضع ريبة وتجاهل، وقد استمرت الجماعات السياسية تقدم عناصرها القريبة من زعيم التنظيم على العناصر المتعلمة والقادرة على الادارة والبناء، والسبب الاخر هو هشاشة البناء الفكري والسياسي وضعف الاهتمام بقضايا الدولة وبناء مؤسساتها، اذ الاهتمام الفعلي هو الوصول الى السلطة والمشاركة فيها بصرف النظر عن الكفاءة والنزاهة، فيما بقي الوعي بالدولة ناقصا ومشوها ومضطربا، لذلك اتسم الاداء السياسي مشوبا بالضعف والفساد، مستندا على منطق الصفقات وتبادل المنافع والمصالح، بما رسخ منطق المحاصصة التي ارهقت كاهل الدولة وأعاقتها من تحقيق منجز معقول، وصار الاستحواذ على السلطة يحمل معنى الاستحقاق الانتخابي او المشاركة في الغنيمة .
المرجع الاعلى حمل النخب مسؤولية الاصلاح والتغيير وتدوير الحال السياسي بأخذ العبرة من الاخفاقات السابقة، لكن القوى التي تمسك بالسلطة وترسم السياسات لاتريد التخلي عن مكاسبها رغم الاخفاق العام، وترفض المراجعة والاعتراف، لذلك لم يجد المرجع سبيلا لتحريك الجمود سوى بدعوة النخب للتحرك، وهي دعوة تستبطن الاحباط والغضب واليأس من تحسن قريب للاوضاع باستمرار العقل السياسي يكرر نموذجه السلطوي، ولا اعتقد ان المرجع بوارد الحديث مجددا عن علل تخلف العراق عن بناء دولته العتيدة، فقد نفث ما بصدره وربما جاء هذا النداء ليكون خاتمة الاحاديث .
***
ابراهيم العبادي – كاتب وباحث عراقي

 

في تطور مفاجئ يعكس مشاغبات ومشاكسات كتابات سلمان رشدي المثيرة للجدل رفعت الهند حظراً دام 36 عاماً على استيراد وتداول روايته " آيات شيطانية" بسبب عجز الحكومة عن تحديد النظام القانوني الأصلي في هذا الصدد . ويمثل هذا القرار فيما يبدو انتصاراً رمزياً للكاتب سلمان رشدي، الذي كان صريحاً في انتقاده للحظر منذ أن فرض على روايته في أكتوبر1988.
وكانت الرواية، التي تستغور ثيمات الهوية والهجرة وحدود العقيدة الدينية، قد فجرت عاصفة عالمية من الاحتجاجات غداة صدورها، وأدت إلى إصدار فتوى من الزعيم الإيراني آنذاك آية الله الخميني.
واليوم يثير رفع الحظر تساؤلات حول دور الرقابة الحكومية في المجتمعات الديمقراطية ويعيد فتح النقاش حول حرية التعبير والتدين والضغوط السياسية داخل الديمقراطية الهندية.
لقد قوبل صدور رواية "آيات شيطانية" في عام 1988 بردود فعل عنيفة في العديد من البلدان المسلمة، بما في ذلك الاحتجاجات في الهند، التي تضم ثاني أكبر عدد من المسلمين في العالم. ورغم أن رواية سلمان رشدي لا تشير إلى اسم النبي محمد "ص" مباشرة ولا تعيد تمثل شخصيات إسلامية تاريخية بعينها، فإن بعض المتطرفين اعتبروا الصور والمواقف الخيالية التي وردت فيها أسلوبا تجديفيا .
وقد أدى هذا التصور إلى موجة من السخط في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، حيث أبدت السلطات الهندية قلقها إزاء العواقب السياسية والاجتماعية الوخيمة المترتبة على ذلك. وقد حظرت إدارة رئيس الوزراء آنذاك راجيف غاندي استيراد الرواية على نحو استباقي لمنع الاضطرابات الطائفية بين المواطنين المسلمين وأعضاء البرلمان. ولكن سلمان رشدي من جانبه عارض بشدة هذه الخطوة، ووصفها بأنها قمع لحرية التعبير، وخاصة في دولة ديمقراطية متنوعة مثل الهند. وقد عكست رسالته إلى رئيس الوزراء غاندي، والتي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، خيبة أمله إزاء ما اعتبره استسلاماً من جانب دولة الهند لضغوط وترهيب الجماعات الإسلامية التي وصفها بـ"المتطرفة".
في عام 2019، بدأت حدة الحظر التي فرضتها السلطات الهندية على رواية "آيات شيطانية" في التراجع عندما سلطت دعوى قضائية رفعها مواطن هندي يدعى سانديبان خان، الضوء على هذه القضية البالغة الأهمية: لم تتمكن الحكومة من تحديد الأمر الأصلي الذي أصدر ذلك الحظر. وطعنت دعوى خان في دستورية تقييد استيراد الرواية وتداولها دون توثيق رسمي، مما أثار تساؤلات حول شرعية هذا التقييد. وقد قوبلت محاولته شراء الكتاب من إحدى المكتبات برد مفاده أنه "غير قانوني"، على الرغم من عدم وجود قوانين يمكن الحصول عليها تثبت الحظر. وكان هذا بمثابة بداية صراع قانوني استمر لسنوات، حيث طلبت الحكومة مرارًا وتكرارًا تمديدًا لإنتاج الوثائق المراوغة لهذه القضية. ووصلت الإجراءات القانونية إلى منعطف في نوفمبر 2023، عندما تلقت محكمة دلهي العليا اعتراف الحكومة بأن الأمر الأصلي "غير قابل للتتبع" مما رفع الحظر فعليًا بشكل تجاوزي.
إن هذا الانتصار القانوني، وإن كان غير مباشر، سوف تكون له آثار عميقة على الروائي سلمان رشدي، الذي أصبح الآن في السبعينيات من عمره وشخصية أدبية معترف بها عالميًا.
ومنذ سنوات عديدة ، دافع رشدي عن عمله باعتباره رواية خيالية بحتة، ورفض اتهامات التجديف وقال بأن قصدية الرواية كانت استكشاف ثيمات وجودية واجتماعية دون ازدراء أي دين من الديانات السماوية المقدسة. وبعد سنوات من الانكفاء في الظل بسبب التهديدات ومحاولة اغتياله مؤخرًا في عام 2022، يرمز رفع الحظر في وطنه إلى تأكيد متأخر ولكنه مهم لحقه القانوني والطبيعي في حرية التعبير. المفارقة إذن لا لبس فيها: رواية سلمان رشدي، التي كانت ذات يوم موضوعًا للرقابة الحكومية في الهند، يمكنها الآن دخول البلاد بشكل قانوني ليس بسبب تحول أيديولوجي جديد، ولكن بسبب رفع الرقابة البيروقراطية.
ومما لاشك فيه أن هذه القضية ستلقي الضوء على حوار واسع النطاق حول طبيعة ثنائية الحكم الديمقراطي والرقابة. فقد اعتبر كثيرون قرار الهند بفرض حظر على استيراد الرواية في عام 1988 بمثابة استجابة لضغوط سياسية وليس انعكاساً للإجماع العام. وكان اهتمام الحكومة باسترضاء الطوائف الدينية المختلفة، وخاصة في ضوء الاضطرابات المحتملة، يعكس التوتر بين الحفاظ على الحريات الديمقراطية من جهة والنظام الاجتماعي من جهة أخرى . وعلى مدى عقود من الزمان، كانت الديمقراطية الهندية تكافح مع التحدي المتمثل في تحقيق التوازن بين الحساسيات الثقافية والالتزام بالحقوق الفردية، وهي الدينامية التي أبرزها سلمان رشدي في مراسلاته إلى إدارة الرئيس غاندي.
إن هذه القضية تذكرنا بالقوة التي تتمتع بها الحكومات عندما تتحكم في المعلومات والأهمية التي غالباً ما يتم تجاهلها للشفافية والإجراءات القانونية الواجبة في قرارات الرقابة. لقد تم منع رواية رشدي من التداول على أساس الخلاف الاجتماعي المحتمل، لكن القضية في العمق توضح كيف يمكن لممارسات الحكومة المتجذرة في البراجماتية السياسية بدلاً من القيم الديمقراطية أن تعيق حرية التعبير وتحد من اطلاع الجماهير على وجهات النظر المتنوعة والمتباينة.
إن رفع الحظرعن رواية "آيات شيطانية" يشير إلى تحول في منهجية الهند تجاه الرقابة الأدبية والفنية، وإن كان من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى إعادة تقييم أوسع لموقف البلاد من الأعمال المثيرة للجدل والنقاش الاستشكالي. إن فشل الحكومة الهندية في تحديد الجهة المسؤولة عن توقيع الأمر الأولي يسلط الضوء على أوجه القصور في المساءلة ويثير تساؤلات حول شفافية عمليات صنع القرار فيما يتعلق بالرقابة. إن رسالة رشدي في عام 1988، التي أدان فيها الحظر باعتباره رضوخًا لمطالب "المتطرفين"، مازال يتردد صداها بشكل أعمق اليوم في مناخ عالمي يولي اهتمامًا متزايدًا بحقوق الفنانين والكتاب في التعامل مع الموضوعات المثيرة للجدال دون خوف من انتقام السلطات الحكومية.
إن هذا التطور الأخير يؤكد على أهمية حماية سلامة الديمقراطية من خلال التطبيق المتسق للقانون، وخاصة في القضايا التي تتعلق بحرية التعبير. وبالنسبة لرشدي، الذي طالما دافع عن نزع الطابع السياسي عن الأعمال الأدبية والحق في انتقاد الأديان دون عقاب، فإن هذا التحول القانوني يمثل انتصاراً شخصياً وشهادة على مرونة القيم الديمقراطية، مهما تأخرت.
إن فك الحظر الذي فرضته الهند على رواية "آيات شيطانية" لا يمثل نهاية لتقييد دام عقوداً من الزمان فحسب؛ بل إنه انعكاس للخطاب المتطور المحيط بحرية التعبير والمساءلة ودور المؤسسات الديمقراطية. لقد تحول غياب الأمر الأصلي إلى تأكيد رمزي لحق رشدي في إتاحة عمله في وطنه. وهذه اللحظة تدعو الهند إلى التأمل في القيود التي يفرضها التدخل الحكومي في التعبير الفني وتعزز أهمية الإجراءات القانونية الواجبة في الحفاظ على القيم الديمقراطية. ومع استعادة الهند لإمكانية الوصول إلى رواية رشدي الاستفزازية "آيات شيطانية"، فإنها تتخذ خطوة نحو التعامل بشكل أكثر انفتاحاً مع الأعمال السردية المتنوعة، مما يؤكد أن الأدب، حتى وإن كان مثيراً للجدال، يستحق مكاناً في المشهد الديمقراطي.
***
عبده حقي

يعيش العراقيون في بيئة متداعية مُثقلة بكم هائل من المشكلات المزمنة، ويعانون من تفاقم تداعياتها الوخيمة. بالمقابل يلمس الجميع ان معالجة المشكلات البيئية القائمة من قبل وزارة البيئة والجهات الحكومية المعنية الأخرى، تجابه بسوء إدارة بيئية وتخبط وعشوائية جلية.
وهذا ما يتجلى في الأحداث التالية كأدلة:
أولآ- تذيل العراق في مؤشر الأداء البيئي العالمي خلال العقد الأخير، حيث حصل على درجة واطئة، وهي 30.4 من 100، وأصبحت مرتبته 172 من أصل 180 دولة شملها المؤشر عام 2024. وهي مرتبة منخفضة بين الدول من حيث الاداء البيئي.
ثانياً- حصول العراق على المرتبة 178 من بين 180 دولة في مؤشر أداء الحفاظ على الطبيعة لعام 2024، بمجموع نقاط بلغ 43 نقطة. وبذلك حل العراق على المستوى العربي في المرتبة الأخيرة.
علماً بان هذا المؤشر يستخدم 25 مؤشرًا رئيسيًا لتقديم نظرة شاملة على أداء الدول في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي والبيئة، ويشمل التحليل عوامل متعددة مثل تغطية المناطق المحمية، الأنواع المهددة بالانقراض، القوانين المتعلقة بالحفاظ على الطبيعة، والاتجاهات المستقبلية في هذا المجال.
ثالثاً- تشتد معاناة العراقيين في ظل تفاقم تلوث البيئة بشتى صنوف الملوثات الخطيرة المنتشرة، طيلة عقدين من عمر منطومة الفساد والمحاصصة وتقاسم المغانم,، واشلها الذريع في إتخاذ إجراءات جدية وفاعلة.
رابعاً- كُتِبَ ونُشِرَ خلال العقدين الأخيرين الكثير حول التلوث البيئي وأنواعه وطبيعته وتداعياته في العراق،مع طرح حلول ومعالجات، لكن الحكومات المتعاقبة أهملتها تماماً,حيال ذلك كتب الكاتب والباحث حمزة الجناحي قبل 9 أعوام::" للاسف ان الحديث عن التلوث البيئي في العراق حديث طويل ومعقد ويجب على الدولة والحكومات العراقية الحالية واللاحقة الاهتمام بهذا الموضوع ومعالجته والاستعانة بالدول المتطورة وتوظيف خبراتها لأخراج العراق من هذه المحنة التي لا يمكن التغاضي عنها لما لها من تأثيرات مباشرة على المواطن وحتى تصرفاته العصبية والولادات الجديدة التي تولد مشوهه وربما اذا كانت سليمة ستخرج حاملة لجينات الغباء لتزيد التلوث العراقي تلوثاً جديداً(" كتابات"، 5/10/2015).
خامساً- قدمت لوزارة البيئة ولغيرها من المؤسسات المعنية مبادرات ومقترحات لحلول ومعالجات عملية، إضافة الى وثائق وقرارات وتوصيات ملؤتمرات علمية، كُرست لمساعدة العراق على التخلص من النفايات الخطرة,, هي الأخرى أُهملت، ولم يهتم بها أحد من المسؤولين المتنفذين، غير مبالين بتفاقم المشكلات البيئية الساخنة وتداعياتها الجسيمة..
إقتراناً بهذه المواقف غير المسؤولة واللاوطنية ليس غريباً ان تكون جودة الهواء في العراق متدنية جداً، بحيث أصبح أكثر من 50 في المائة من هواء بغداد ملوثاً، حتى في غياب رائحة الكبريت- بحسب علي الوائلي، رئيس مراقبة جودة الهواء في وزارة البيئة (تبارك المجيد، " المدى"،14/10م2024)
سادساً-تجلى الفشل وسوء الإدارة والتخبط على أشده في التعامل مع المشكلة الراهنة لتلوث أجواء بغداد ومدن قريبة منها..
لقد بين د. رعد موسى الجبوري ان مدى جودة الهواء يوضحه المؤشر العالمي لجودة الهواء، ويتم حسابه من التركيزات المقاسة لملوثات: منها ثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت والغبار الناعم (PM₁₀) و (PM₂,₅) والأوزون، مع تحديد النتيجة الإجمالية الأكثر أهمية للصحة من بين التركيزات المقاسة. و مراقبة ذلك تتم بشكل مستمر، من خلال زرع حساسات مراقبة في المواقع المفتاحية في المدينة.
وأضاف د. الجبوري: للأسف لازال العراق متخلفا في هذا المجال ولا يمتلك سياسات ولا أنظمة إدارة للحفاظ على جودة البيئة ومنها جودة الهواء. فاحتل العراق المرتبة السادسة الأسوأ في تقرير جودة الهواء العالمي لعام 2023 وفي تصنيفات المدن، وجاءت بغداد في المرتبة الخامسة الأسوأ في العالم "طريق الشعب"،17/ 10/2024)
علماً بان تقرير مؤشر جودة الهواء العالمي (AQI) كشف تصدر العاصمة بغداد ا قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالم بشأن تلوث الهواء، مقارنة مع 120 مدينة في العالم، حيث سجلت بغداد نسبة تلوث 186 ملغرام/متر³، متقدمة على كينشاسا في الكونغو،التي سجلت تلوثا وصل الى 178 ملغرام/متر³، وجاءت مدينة هانوي بفيتنام بالمرتبة الثالثة عالميا بمعدل 164 ملغرام/ مترمكعب.وتجاوزت بغداد مدن في العالم إشتهرت بإرتفاع نسب التلوث فيها،مسجلة نسب تلوث 3 أضعاف دلهي و 5 أضعاف القاهرة، مما يشير- برأي الكاتب سمير داود حنوش- إلى وجود كارثة بيئية تقترب من الإبادة الجماعية لحياة العراقيين كباراً وصغاراً من الذين يصبحون أكثر عُرضة لأمراض التلوث مثل الجهاز التنفسي، وأنواع السرطانات ("صوت العراق"،17/10/2024).
وكان الراصد الجوي صادق عطية قد كشف في كانون الثاني 2024 عن ارتفاع نسبة تلوث الهواء في أجواء البصرة، بسبب تحول اتجاه الرياح نحو المدينة، ناقلآ انبعاثات الآبار النفطية المنتشرة في المحافظة، إذ وصل تركيزه إلى حوالي 74 مليغراما في المتر المربع. وينتج هذا الغاز عن حرق الوقود الأحفوري، بما في ذلك الفحم والنفط والغاز، ويشكل خطراً على صحة الإنسان" ( "طريق الشعب"،23 /1/2024).
سابعاً- منذ شهرين تختنق بغداد عشية كل يوم برائحة الكبريت التي أخذت تثير الخوف والهلع والاستياء بين سكان العاصمة وأطرافها، بينما تعجز الحكومة حتى الآن عن تحديد مصدر تلك السموم ( تبارك مجيد- "طريق الشعب"،13/10 /2024).
ثامناً- أعلنت وزارة البيئة إنها "تمتلك قاعدة بيانات متكاملة بخصوص الأنشطة الملوثة"، لكن العراقيين لم يشهدوا أنها وظفتها وفعلت شيئاً إستبقت به الأزمة قبل حدوثها عبر إجراءات عاجلة وفاعلة، وإجراء دراسة ميدانية، ووضع خطط مستقبلية-كما يُفترض..
تاسعاً- التخبط الصارخ وتضارب الروايات الرسمية حول مصدر رائحة الكبريت التي تخنق بغداد، في ظل تبادل جهات حكومية معنية الاتهامات بالتقصير والمسؤولية، وسارغت، في ظل هذه المعمعة، كل منها، تُبرئ نفسها، وتتهم الأخرى في الأزمة.
وقد صدرت تصريحات كثيرة ومتناقضة، أغلبها مبني على تخمينات وليس بالإستناد الى دراسات علمية. ومنها ما قالته وزارة البيئة، على لسان الوكيل الفني للوزارة د. جاسم الفلاحي، أن سبب انتشار الروائح مؤخراً " ظواهر مناخية وطقسية نتيجة تعرض العراق إلى تيارات مختلفة بالإضافة لتغير اتجاه الرياح وارتفاع درجات الرطوبة"..والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه الظواهر ولدت في هذه الأيام ؟!!
بينما أرجع مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة، أسباب انتشار رائحة الكبريت في سماء العاصمة بغداد بشكل متكرر إلى استخدام نفط عالي الكبريت في محطات توليد الكهرباء.وحذر من أن هواء بغداد، خاصة خلال الأيام الأخيرة، بات محملاً بمواد خطرة تهدد صحة الأطفال وكبار السن، مشيرًا إلى أن بغداد تسجل لأول مرة نسبة تلوث في الهواء تصل إلى 515%. ("شفق نيوز"،14/10/ 2024).
أما المتحدث بإسم وزارة البيئة لؤي المختار فقد أعلن:" أن المعلومات المتوفرة من التحقيق تشير إلى أن الرائحة ناتجة عن عمليات حرق النفايات في المطامر الصحية بمنطقة معسكر الرشيد في الرصافة، بالإضافة إلى المخلفات الصناعية الناتجة عن معامل صهر الحديد والعبوات المعدنية في مناطق شرق القناة"... وهذا لا يتفق مع ما طرحه الوكيل الفني للوزارة.
ووجه آخرون أصابع الإتهام إلى معامل الطابوق وكور صهر النحاس التي يبلغ عددها أكثر من 250 معملاً تنتشر في ضواحي بغداد..
وأكد عامر الجابري، مدير إعلام هيئة الأنواء الجوية ان رائحة الكبريت تنتج عن احتراق الوقود الأحفوري، وهو أمر شائع في المناطق التي توجد فيها مصافي النفط. وإنتقد "التفسيرات الخاطئة التي انتشرت حول مصدر هذه الرائحة، حيث أشار بعض المتخصصين إلى أنها قد تكون ناتجة عن احتراق في مواقع الطمر الصحي"، مؤكدًا أن "المشكلة الحقيقية تكمن في انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت من المصافي وعمليات احتراق الوقود الأحفوري، وهي انبعاثات تحمل مخاطر صحية كبيرة على السكان".
وأضاف:"خلال هذا العام تمت إضافة مصدر جديد لرائحة الكبريت، وهو صناعة الأسفلت، التي تتطلب استخدام مواد أسفلتية تحتاج إلى حرق الوقود الأحفوري، وعادةً ما يكون ذلك من النفط الأسود أو الخام، الذي يحتوي على محتوى كبريتي عال. وتفاقمت الحالة مع عدم توفر وسائل السيطرة على الانبعاثات وعدم تحقيق المتطلبات البيئية".
وأعرب الجابري عن استيائه من عدم اتخاذ الجهات المعنية، وخاصة وزارة البيئة، إجراءات جدية لمعالجة هذه المشكلة المتكررة. وحمل المؤسسات الحكومية، وخاصة وزارة البيئة، اسؤولية حماية المواطنين من المخاطر البيئية، ودعا إلى "العمل الجاد على معالجة مشكلة انبعاثات الكبريت، ووجوب أن تكون من الأولويات، نظرًا لتأثيراتها الخطيرة على الصحة العامة".
***
د. كاظم المقدادي

سَنة التأسيس: من الاسئلة التي أثارت جدلاً واسعاً بين من أرخ لتاريخ حزب الدعوة الاسلامية وطُرحت فيها اجابات مختلفة هي:
ـ من هو صاحب فكرة تأسيس هذا التنظيم؟
ـ وفي أي سَنة تأسس؟
ـ ومن هم مؤسسوه الأوائل؟
سنحاول في هذا المقال الاجابة عن هذه الاسئلة الجدلية على شكل حلقات من خلال حشد مجموعة من الأدلة والمؤيدات لأثبات أن صاحب فكرة تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وان أهم مؤسس وقائد ومنظر له هو المفكر الشهيد المهندس محمد هادي السبيتي، وان زمان تأسيس التنظيم كان بعد ثورة ـ انقلاب ١٤ تموز عام ١٩٥٨م.
حول تحديد سَنة التأسيس:
لقد اثبتنا في حلقة سابقة بالأدلة والمؤيدات ان صاحب فكرة تأسيس حزب الدعوة الاسلامية هو المفكر الشهيد محمد هادي السبيتي.
والآن في هذه الحلقة سنتطرق الى سَنة التأسيس وسنثبت ان زمان التأسيس كان بعد ثورة ـ انقلاب 14 تموز 1958م.
ويمكن اثبات ذلك من خلال الأدلة التالية:
أولاً: رواية المؤسسين:
وهي كالتالي:
1. الرواية الرسمية: رواية الاستاذ محمد هادي السبيتي:
ما ذكرته الرواية الرسمية لحزب الدعوة الاسلامية والتي تعتبر اقدم واهم وادق نص أرخ لتاريخ تنظيم الدعوة الاسلامية بقلم صاحب فكرة التأسيس وأهم مؤسس ومنظر وقائد للدعوة وهو المفكر الشهيد محمد هادي السُبيتي، اذ تتميز هذه الرواية بالتالي:
ـ انها الرواية الرسمية التي نُشرت في نشرة الحزب السرية والرسمية، ولا يوجد قبالها اي رواية رسمية أخرى وان ادعى بعض الباحثين وجودها.
ـ انها اقدم نص وثق حدث التأسيس وخلفياته وتطوراته.
ـ انها اقرب وثيقة الى زمن التأسيس.
ـ انها ادق نص وثق حيثيات التأسيس من حيث الفكرة والتطور الفكري والانتشار البشري وغيرها من التفصيلات.
ـ انها صادرة عن صاحب فكرة التأسيس وواحد من اهم مؤسسي ومنظري وقادة التنظيم وشهد أهم مراحل مسيرته.
ـ انها صادرة عن رجل مشهود له بالعلم والعدالة والصدق والاستقامة والدقة بالنقل.
يقول الاستاذ السبيتي حول سَنة التأسيس ما نصه: (اهتز العراق من أقصاه الى أقصاه بالانقلاب العسكري على الحكم الملكي الذي قادة عبد الكريم قاسم.. وانقسم العراق الى قسمين رئيسيين: قسم يؤيد الزعيم وآخر يؤيد العقيد.. وامتلأ الشارع في مدن العراق وقصباتها بالصراع العسكري، وحركت الأحداث جميع الناس، وخُلقت أجواء جديدة للتفكير بالسياسة والأعمال الحزبية، وتأثرت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بهذه الأحداث، وتحسس عددٌ كبيرٌ من خيرة أفراد الحوزة الأوضاع وغياب الإسلام عن الساحة السياسية، وبإمكانية العمل من أجل الإسلام، وكان هذا التحسس بدايةً لكسر الجمود السياسي الذي أصاب الحوزة بعد فشل استثمار ثورة العشرين ضد الاستعمار الانجليزي. في هذا الجو الملائم للعمل تلاقى مجموعة من المؤمنين الواعين للإسلام والممارسين للعمل الحزبي، ومجموعة من الحوزة أرهفت الأحداث نفوسهم، وتهيأت عقولهم لخوض العمل العام، وأفراد من العلماء والمؤمنين المتمرسين بالأعمال الاصلاحية من ذوي الخبرات الجيدة في التعامل مع الناس. التقى هؤلاء الأفراد والمجموعات بواسطة أفراد منهم ذوي علاقات متعددة الجوانب، وأنشئت تعارفات، ودارت نقاشات، وحدثت مباحثات متعددة في أماكن مختلفة، وفي اجتماعات كانت تتسع وتضيق وتتكرر حسب وسطاء الخير الذين عملوا لإيجادها، أو بفعل أفرادٍ من هؤلاء الأفراد والمجموعات، وكانت الأفكار تتلاقى في بعض الأحيان وتتباعد في أحيانٍ أخرى، وانسحب جماعةٌ، وبقي على اتصال دائم كوكبةً منسجمةً أخذت أفكارها تتلاقى وتتوحد.. توحدت الأهداف، وتقاربت المفاهيم، واتجهت العواطف والمشاعر نحو الألفة والتجانس، وشاء الله رب العالمين سبحانه، فكانت النواة الأولى للدعوة...)(1).
هذا النص لا يحتاج الى تعليق وواضح جداً من تفصيلاته ان زمان تأسيس حزب الدعوة الاسلامية كان بعد ثورة ـ انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز 1958م.
2. رواية السيد طالب الرفاعي:
يرى السيد طالب الرفاعي ان (تأسيس حزب الدعوة ونشأته الأولى [كان في] تموز (يوليو) 1959م)(2).
3. رواية الدكتور جابر العطا:
يقول الدكتور العطا (وقد أبلغني بنبأ التأسيس السيد طالب الرفاعي.. وحينها كنتُ طبيباً مقيماً في الناصرية [عام 1958م](3)، وقد سعدت كثيراً لهذا الخبر وبدأت بالعمل الدعوتي من ذلك الوقت)(4).
4. رواية السيد مرتضى العسكري:
العلامة العسكري لا يتذكر بالضبط تاريخ تأسيس حزب الدعوة هل (كان قبل أو بعد 14 تموز 1958م، واذا كان قبلها فإن الأمر لا يتجاوز شهوراً قليلة...)(5).
5. رواية السيد الشهيد مهدي الحكيم:
يقول السيد الشهيد مهدي الحكيم ما نصه: (فبعد 14 تموز كانت الاتصالات والجلسات تجري مع السيد الشهيد الصدر و(....) حول تأسيس حزب، وبُعيد 14 تموز كانت الاطروحة في احتواء الثورة، لان الثورة استوزرت (4) من الوطني الديمقراطي، و (4) من القوميين، و (4) من الشيوعيين، ولو كنا موجودين في الساحة لما اغفلنا، ولكن التسمية (لحزب الدعوة الاسلامية) جاءت بُعيد 14 تموز، وهنا نستطيع القول ان حزب الدعوة تأسس قبيل أو بُعيد 14 تموز)(6).
6. رواية السيد الشهيد محمد باقر الحكيم:
يقول السيد الشهيد محمد باقر الحكيم: ([ان] الشهيد الصدر [كتب].. الأسس في بداية تأسيس حزب الدعوة الاسلامية في أوائل سنة 1378هـ، أواخر سنة 1958م، ثم شرحها وأصبحت مادة أساسية تُدرس في حلقات الحزب...)(7).
7. رواية الأستاذ محمد صالح الأديب:
يقول الأستاذ الأديب: (عندما تخرجت من الكلية في سنة 1957م ابلغني السيد مهدي الحكيم (رحمه الله عليه).. ان نعقد اجتماعاً تأسيسياً للحزب، وهذا ما حدث فكان محل الاجتماع في دار السيد محسن الحكيم (رض) في كربلاء...)(8).
8. رواية السيد حسن شبر:
يقول السيد حسن شبر: (..حزب الدعوة الاسلامية.. تأسس يوم السبت 17 ربيع الأول 1377هـ المصادف 12/10/1957م)(9).
ثانياً: رواية غير المؤسسين:
وهم كالتالي:
1. رواية الشيخ علي الكَوراني:
يرى الشيخ علي الكَوراني ان من (شارك في مداولات تأسيس الدعوة بضعة عشرة نفراً، وكانت جلساتهم متباعدة، وبدأت سنة (1379هـ ـ 1960م) واستمرت نحو سنة حتى تم اتفاق من بقي منهم في الجلسات...)(10).
2. رواية السيد عبد الأمير علي خان:
يرى السيد عبد الأمير علي خان ان تأسيس الحزب كان بين عامي 1957 و 1958م(11).
3. رواية الحاج كاظم يوسف التميمي:
يقول الحاج كاظم يوسف التميمي "ابو صاحب": (..تشكلت الدعوة حسب علمي بدايات 1959 أو نهاية 1958، وكان مؤسسوها [التسعة] الأوائل هم الدكتور جابر عطا، والسيد محمد باقر الصدر، وطالب الهندسة محمد هادي السبيتي، ورجل الدين السيد مرتضى العسكري، ورجل الدين السيد محمد مهدي الحكيم نجل المرجع آية الله السيد محسن الحكيم، ومحمد صالح الاديب، والسيد طالب الرفاعي، والسيد محمد باقر الحكيم،[وعبد الصاحب دخيّل]. وبهذا تكون فرضية الباحث رشيد الخيون حول تأسيس حزب الدعوة هي الأقرب والصواب من التاريخ الشائع الذي يعود لعام 1957م(12).
4. رواية الشيخ الشهيد حسين معن:
يقول الشيخ الشهيد حسين معن ما نصه: (..تأسس حزب الدعوة بعد تصاعد المد الشيوعي في العراق على أثر انقلاب 1958م.. وذلك بالتفاعل بين مجاهدين إسلاميين من صفوف الأمة، وبين الحوزة العلمية في النجف الأشرف.. مما عزز من أصالته، ومكنه من الجمع في قيادته بين الفقهاء والسياسيين، والمنظمين الممارسين للعمل الحزبي...)(13).
5. رواية الاستاذ الشهيد عزالدين سليم:
يرى الأستاذ الشهيد عبد الزهراء عثمان (عزالدين سليم): (..ان نشوء "الدعوة الاسلامية" في النجف الأشرف عام 1957م، ثم انطلاقها عام 1958م بعد نجاح ثورة 14 تموز عام 1958م بقيادة عبد الكريم قاسم..)(14).
6. رواية السيد هاشم الموسوي:
يقول السيد هاشم الموسوي: (اجتمعت النواة التأسيسية الأولى يوم 17 ربيع الأول سنة 1376هـ ـ 1957م، وعقد هذا الاجتماع في كربلاء المقدسة، في دار اقامة المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم ـ أعلى الله مقامه ـ التي كان يقيم فيها عند زيارته لمدينة كربلاء(15).
7. رواية بعض ممثلي حزب الدعوة الاسلامية:
جاء في مجلة الجهاد الشهرية الناطقة باسم الدعوة الاسلامية العدد الثالث عشر الصادر بطهران في جمادى الثانية 1401هـ ـ آذار 1981م، ص 46 موضوع بعنوان "لقاء مع ممثلين لحزب الدعوة الاسلامية في العراق" جاء فيه: (.. وخلال اللقاءات نوقشت أساليب للعمل وجرت مباحثات مختلفة حتى توفرت قناعة لدى اولئك الطيبين المخلصين ان ينشئوا حركة اسلامية اطلق عليها "حزب الدعوة الاسلامية" كان ذلك في نهاية عام 1958م...).
ملاحظات وتعليقات:
نسجل هنا بعض الملاحظات والتعليقات على الآراء المطروحة:
1. النص الرسمي الذي كتبه الاستاذ السبيتي صدر في نشرة الحزب الرسمية عام 1977م واكيد ان السيدين حسن شبر ومحمد صالح الاديب قد اطلعا عليه فلماذا لم يسجلا عليه اعتراضهما في حينها؟ لأن مثل هكذا قضايا تاريخية لا تتحمل المجاملة، خصوصاً اذا عرفنا انهما جمعتهم لقاءات كثيرة واتصالات أكثر مع الشهيد السبيتي في سوريا بداية عام 1980م الى يوم اعتقاله في 9/5/1981م كما يذكر السيد حسن شبر (رحمه الله)(16).
الشيء الغريب في راوية الاستاذ السبيتي، رغم كونها الراوية الرسمية التي نَشرت في أدبيات الحزب السرية الرسمية، إلاّ انها لم تطرح في أجواء حزب الدعوة عندما اراد تحديد تاريخ تأسيس الحزب؟!!
كما اني لم أرَ باحثاً ـ إلاّ القليل جداً ـ في تاريخ حزب الدعوة الاسلامية ممن ناقشوا تاريخ التأسيس قد تعرض لرأي الدعوة الرسمي الذي كتبه الاستاذ السبيتي في نشرة الحزب الرسمية "صوت الدعوة"؟!!
وهذ أمر غريب يجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة حول سبب استبعاد رواية الاستاذ السبيتي الرسمية من قبل الحزب نفسه، ومن قبل الباحثين في تاريخ وفكر حزب الدعوة الاسلامية.
2. العلامة العسكري يذكر في شهادته ان التأسيس كان بعد أو قبل انقلاب 14 تموز 1958م بأشهر قليلة، وبطبيعة الحال إن جملة (بعد أو قبل) تشير الى أن التأسيس وقع في عام 1958م وليس في عام 1957م.
3. الغريب في شهادة الاستاذ الاديب انها اعتمدت كتاريخ رسمي من قبل حزب الدعوة الاسلامية(17) دون غيرها من الشهادات التي تعارضها كثرةً وشهرةً!!
والسؤال هنا: من اتخذ هذا القرار؟ وعلى أي أساس استند؟ ولماذا أهمل الروايات الأخرى وخصوصاً الرواية الرسمية المثبتة في أدبيات الحزب السرية والرسمية؟ وهل دخل تاريخ تأسيس الحزب ضمن معادلة الصراع بين العمامة والأفندي الذي أحتدم في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات داخل الحزب؟
يجب ان نضع عشرات علامات الاستفهام على قرار اعتماد رواية الاستاذ الاديب تاريخاً رسمياً لتأسيس حزب الدعوة الاسلامية، خصوصاً اذا دققنا في كلام الاستاذ الاديب وهو يقول: (فأنا شخصياً لم أحفظ اسماء جميع من حضر الاجتماع التأسيسي، ولكن عندما أجلس مع بعض أخواني مثل السيد محمد باقر الحكيم، أو السيد مرتضى العسكري، وأقول لهم تعالوا نتذكر من حضر الاجتماع التأسيسي فقد يتذكر أحدنا أثنين وينسى البقية، وعندما نصل الى العدد الكامل نقول فعلاً هؤلاء هم من حضروا الاجتماع التأسيسي...)(18)، فإذا كان الاستاذ الاديب (رحمه الله) لا يتذكر الاشخاص الذين حضروا في ذلك الاجتماع وهم لا يتجاوزون أصابع اليدين، فهل جلس مع بقية اخوانه المؤسسين واستذكروا تاريخ تأسيس الحزب بدقة أم لا؟
4. (إن السيد حسن شبر كان قد ذكر أن التأسيس عام 1958م، في كتابه "صفحات سوداء من بعث العراق" الطبعة الأولى، والذي صدر عام 1984م، ولا نعلم لماذا غير رأيه بعد حين، عندما ذكر انه في عام 1957م، وحدد ذلك في 17 ربيع الأول 1377هـ، وهذا رأي متأخر وهو لا يستند على مصدر ما خلا ذكرياته عن بدايات التأسيس...)(19).
5. (ان خروج السبيتي من حزب التحرير كان نهاية الخمسينيات وبالتحديد عام 1958م، وهو من طرح على السيد طالب الرفاعي مفاتحة الصدر بعمل اسلامي.. وهنا نتسأل هل أغفل السيدان الرفاعي والسبيتي وجود حركة اسلامية؟ أم أغفلا وجود اجتماع كربلاء الذي يقال انه عُقد في شهر تشرين الأول من عام 1957م)(20).
6. يقول السيد الشهيد محمد باقر الحكيم في شهادته ان السيد الشهيد محمد باقر الصدر كتب الأسس في بداية تأسيس الحزب أواخر عام 1958م، إضافة الى ان الشهيد الصدر كتب (رسالة برهن فيها على جواز بل وجوب قيام الحكومة الاسلامية زمن الغيبة، وذلك من خلال آية الشورى.. وقيل ان ذلك كان بالضبط سنة 1959م)(21).
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يعقل ان حزب الدعوة الاسلامية بقى متوقفاً عن العمل والنشاط والكتابة ولم يتحرك إلاّ بعد حوالي سنة كاملة من تأسيسه اذا أخذنا بالاعتبار الفترة من تاريخ التأسيس حسب راوية الأستاذ الأديب (12/10/1957م)، الى زمن رواية السيد محمد باقر الحكيم أواخر صيف عام 1958م؟!!
7. لعل من المفارقات الغريبة ما ينقله الحاج محمد صالح الأديب (..أن مفاتحة وكلاء السيد محسن الحكيم [للانضمام الى الحزب] حدث بعد انقلاب 14 تموز 1958م)(22)، ولا يعقل ان الحزب بقى حوالي سنة كاملة دون كسب ولا مفاتحات؟!!!، خصوصاً وان الأستاذ الأديب يذكر انه (..في ذلك الاجتماع [اجتماع كربلاء عام 1957م] تقرر أن ينطلق كلٌ منا إلى منطقته ويعمل لكسب الأنصار ومفاتحتهم بالانضمام للحركة الاسلامية)(23).
8. يقول السيد الشهيد مهدي الحكيم لقد (أقمنا ـ بعد تأسيس الحزب ـ في مسجد الهندي في أول سنة لثورة 14 تموز، في شهر رمضان مجلساً، وصعدتُ المنبر، وهذه ظاهرة جديدة كما قلت، وكان السيد الشهيد الصدر (رض) يحضر المجلس من أجل تأييد هذا الاتجاه، وليس من أجل الاستفادة...)(24).
وعندما ندقق نجد ان تاريخ أول رمضان في أول سنة لثورة 14 تموز يصادف بالتاريخ الميلادي 11/3/1959م، ومنطقياً ان هذا النشاط كان قريباً من تاريخ التأسيس وليس بعيداً عنه بمدة طويلة جداً تصل الى حوالي سنة وأربعة أشهر!!!
9. يذهب السيد الشهيد محمد باقر الحكيم ان تأسيس "جماعة العلماء" كان قبل تأسيس حزب الدعوة الاسلامية، والتي تأسست بعد حوالي شهرين من انقلاب عبد الكريم قاسم وبالتحديد في 17/صفر/1378هـ (2/9/1958م)(25)، وبغض النظر عند دقة رأي السيد الشهيد محمد باقر الحكيم وقبوله أو رفضه من قبل الباحثين إلاّ ان نشاط جماعة العلماء بعد ثورة ـ انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز عام 1958م يشير بوضوح الى ان هذا الحدث الكبير (حرك .. جميع الناس، وخَلق أجواء جديدة للتفكير بالسياسة والأعمال الحزبية، وتأثرت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بهذه الأحداث، وتحسس عددٌ كبيرٌ من خيرة أفراد الحوزة الأوضاع وغياب الإسلام عن الساحة السياسية، وبإمكانية العمل من أجل الإسلام)(26) كما يقول الشهيد السبيتي (رحمه الله) وفي ذلك دلالة كبيرة على ان تأسيس الحزب ـ وانطلاقه كان بعد هذا الحدث الكبير وليس قبله.
10. من المفارقات الغريبة في هذا المسألة اعتماد حزب الدعوة الاسلامية على راوية الاقلية دون الأكثرية، بعد ان عرفنا ان ستة من المؤسسين يذهبون الى ان زمان التأسيس كان بعد ثورة ـ انقلاب 14 تموز 1958م، وان أثنان منهم فقط من خالف ذلك!!
11. ان مسألة فصل تاريخ التأسيس عن تاريخ الانطلاق، أو فرض تاريخين واحد خاص بالتأسيس، وآخر خاص بالانطلاق، أمر غير وارد في تاريخ الاحزاب السياسية حسب علمنا، لأنه لا يوجد حزب تأسس في لحظته دون المرور بمقدمات وحوارات وجلسات ومباحثات سابقة على اعلان التأسيس، وكلها لا تحسب ضمن التاريخ الرسمي للتأسيس، بل من الطبيعي والمعتاد وجود اعلان واحد يكون هو التاريخ الرسمي لتأسيس وانطلاق أي حزب.
خلاصة:
هذه بعض الادلة والمؤيدات والملاحظات والتعليقات حول سَنة تأسيس حزب الدعوة الاسلامية، وربما في المستقبل ستخرج أدلة ومؤيدات أخرى تثبت ذلك بشكل أكبر.
سنبحث في الحلقة القادمة مسألة المؤسسين وكيف أخرج حزب الدعوة الاسلامية ومؤرخوه الاستاذ الشهيد محمد هادي السبيتي صاحب الفكرة والمؤسس والقائد والمنظر الأبرز للحزب من دائرة المؤسسين.
***
أزهر السهر
......................
الهوامش:
(1) ينظر، الشهيد القائد محمد هادي السبيتي والشهيد المفكر عبد الزهرة عثمان (عزالدين سليم)، ثقافة الدعوة الاسلامية: النشرات السرية لحزب الدعوة الاسلامية (1957ـ1982م)، نشر وتقديم: حسين جلوب الساعدي، مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، كانون الثاني 2017م ـ ربيع الثاني 1438هـ، ج3، ص270 وما بعدها بتصرف قليل.
(2) ينظر، رشيد الخيون، أمالي السيد طالب الرفاعي، دار مدارك للنشر، الطبعة الأولى، مارس (آذار) 2012، ص153.
(3) ينظر، فرات عبد الحسن كاظم الحجاج، عزالدين سليم وفكره السياسي، المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخية في البصرة، طبع وتوزيع شركة العارف للأعمال ش.م.م، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، حزيران ـ يونيو 2011م، ص75.
(4) ينظر د. شلتاغ عبود المياح، موسوعة الدعاة: سيّر أبطال كتبوا بدمائهم وأفكارهم مسيرة الدعوة الإسلامية في العراق والمنطقة الإسلامية، ج1، الطبعة الاولى 2019م، نشر وتوزيع شركة العارف للأعمال ش.م.م بيروت ـ لبنان، ص200.
(5) ينظر، محمد الحسيني، محمد باقر الصدر: حياة حافلة.. فكر خلاق، دار المحجة البيضاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1426هـ ـ 2005م، ص69.
(6) ينظر، من مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم (رض) حول التحرك الاسلامي في العراق، اعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية، بدون مكان ولا سنة الطبع، ص39.
(7) ينظر، صلاح الخرسان، الإمام السيد محمد باقر الصدر في ذاكرة العراق: أضواء على تحرك المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الأشرف (1958ـ1992م)،الطبعة الأولى 1425هـ ـ 2004م، مطبعة الوسام، بغداد، ص 101، نقلاً عن السيد محمد باقر الحكيم، النظرية السياسية عند الشهيد الصدر، (نسخة محدودة التداول) 8 نيسان 1988م، ص5.
(8) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص45 وما بعدها، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(9) ينظر، حسن شبر، حزب الدعوة الاسلامية: تاريخ مشرق وتيار في الأمة، الكتاب الأول 12/10/1957ـ 17/7/1968م، العارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، تشرين ثاني ـ نوفمبر 2009م ـ ذو القعدة 1430هـ، ص12.
(10) ينظر، الشيخ علي الكَوراني، الى طالب العلم، الطبعة الثانية 1439هـ ـ 2018م، بدون مكان الطبع واسم المطبعة، ص240.
(11) محاضرة صوتية مسجلة للمرحوم السيد عبد الأمير علي خان محفوظة في ارشيف الشهيد عزالدين سليم.
(12) توفيق التميمي، شهادات عراقية: حوارات في ذاكرة عراقية، تموز، طباعة، نشر، توزيع، الطبعة الأولى، دمشق 2012م، ج2، ص175 وما بعدها.
(13) ينظر، الشهيد حسين معن، الوضع السياسي في العراق، ملحق التقرير السياسي الاسلامي العدد رقم (20)، المركز الاسلامي للدراسات السياسية، طهران، صفر 1403هـ، ص35.
(14) ينظر، عبد الزهرة عثمان محمد (عزالدين سليم)، صفحات من أيامي، منشور في كتاب د. جودت القزويني، تاريخ القزويني في تراجم المنسيين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم (1900ـ 2000م)، الطبعة الأولى، الخزائن لأحياء التراث، بيروت ـ لبنان 2012م، المجلد الرابع عشر، ص 41.
(15) ينظر، هاشم الموسوي، حزب الدعوة الاسلامية المنطلق والمسار، من اصدارات الدائرة الاعلامية، حزب الدعوة الاسلامية، بدون سنة ومكان الطبع، ص16.
(16) ينظر، السيد حسن شُبّر، حزب الدعوة الإسلامية في معترك الأحداث، الكتاب الثالث من بعد شهادة الإمام السيد محمد باقر الصدر 8/ 4 /1980م، الى انتفاضة شعبان 1991م، العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى تشرين ثاني ـ نوفمبر 2009م ـ ذو القعدة 1430 هـ، ملحق رقم (3) محمد هادي السبيتي قائداً وشهيداً، ص 452 وما بعدها.
(17) يقول الاستاذ صلاح الخرسان: (اعتمد حزب الدعوة الاسلامية يوم 17/ربيع الأول/ 1377هـ كتاريخ رسمي لتأسيسه وهو يصادف ذكرى ولادة الرسول الأعظم محمد (ص) وولادة حفيدة الإمام جعفر الصادق (ع) ويستند الحزب في ذلك الى راوية الحاج محمد صالح الأديب، والذي أكد من جانبه لكاتب السطور في مقابلة أجراها معه في دمشق في 15/7/1994م، انه غير متأكد بالمرة من تاريخ اليوم الذي عُقد فيه الاجتماع المذكور، ولكنه متيقن من تاريخ الشهر وهو ربيع الأول/1377هـ. واستناداً الى ذلك يمكن توثيق الحدث من الناحية التاريخية من جهة وقوعه في ربيع الأول والذي يصادف بالتاريخ الميلادي شهر تشرين الأول 1957م)[ينظر، صلاح الخرسان، حزب الدعوة الاسلامية حقائق ووثائق: فصول من تجربة الحركة الاسلامية في العراق خلال 40 عاماً، المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، سورية ـ دمشق، الطبعة الأولى 1419هـ ـ 1999م، ص59.
(18) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص48، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(19) ينظر، عامر حميد سلطان العابدي، محمد هادي السبيتي ودوره السياسي حتى عام 1981م، رسالة ماجستير غير مطبوعة، نوقشت في جامعة المستنصرية ـ كلية العلوم السياسية عام 2017م، ص80.
(20) ينظر، المصدر نفسه، ص81،[بتصرف قليل].
(21) ينظر، احمد ابو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الطبعة الثالثة 2008م، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ج1، ص259.
(22) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص52، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(23) ينظر، المصدر نفسه، ص47.
(24) ينظر، من مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم (رض) حول التحرك الاسلامي في العراق، اعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية، بدون مكان ولا سنة الطبع، ص42.
(25) ينظر، احمد ابو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الطبعة الثالثة 2008م، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ج1، ص302 وما بعدها.
(26) ينظر، الشهيد القائد محمد هادي السبيتي والشهيد المفكر عبد الزهرة عثمان (عزالدين سليم)، ثقافة الدعوة الاسلامية: النشرات السرية لحزب الدعوة الاسلامية (1957ـ1982م)، نشر وتقديم: حسين جلوب الساعدي، مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، كانون الثاني 2017م ـ ربيع الثاني 1438هـ، ج3، ص270، [بتصرف قليل].

 

ها هي نتائج الانتخابات الأمريكية شبه محسومة لصالح ترامب، فيما خالَف آخر استطلاعات للرأي قبيل الاقتراع.
كان هناك استقطاب حاد، وكان هناك تحفز. والجيش نشر قواته حول بعض المؤسسات لحمايتها، وكانت هناك تهديدات مزيفة بتفجير بعض مراكز الاقتراع. إلا أن كل هذا هدأ وانتهي بمجرد ظهور النتائج بفوز ترامب.
ثمة حالة ارتياح عامة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حالة من التحفز والقلق جراء تهديد أنصار ترامب باستخدام العنف لو حدث تزوير. ثم جاءت النتائج على هوي هؤلاء، فلا داعي للعنف إذن..
تلك الانتخابات شهدت أكبر حجم إقبال في تاريخ أمريكا كله. وهو إقبال جاء لصالح الجمهوريين الذين بدا أنهم أنفقوا أفضل على حملتهم الانتخابية، وأتقنوا فن الدعاية، واستطاعوا بالفعل كسب تأييد قطاعات كبيرة ممن تم استقطابهم لصالح هذا الحزب أو ذاك.
ها هو ترامب يعود. فكيف فاز؟ وماذا سيفعل؟ وهل يكون ترامب اليوم مثل ترامب الأمس؟!
كيف فاز؟
كما فعلها أمام "هيلاري كلينتون سابقاً، ربح الآن بخلاف التوقعات، وبنتيجة مريحة للغاية!
والحقيقة أن النتائج بالفعل عجيبة: أولاً: لأن يهود نيويورك لم يصوتوا لصالحه، وبعض يهود الولايات الأخرى صوتوا ضده. في الوقت الذي بدا أن الأصوات التي رجحت كفته في الولايات المتأرجحة كانت أصوات العرب والمسلمين. فكيف حدث هذا؟
لقد كان أداء إدارة بايدن المنحاز تماماً لإسرائيل في حربها على غزة عاملاً رئيسياً في بغض هذه الإدارة، حتى لو كانت كامالا هاريس هي المعبرة عن هذه الإدارة. وحتى لو أنها جاءت في أواخر حملتها الانتخابية لتعد ناخبيها أنها ستوقف الحرب في غزة، فلماذا لم توقفها خلال الـ 13 شهراً الماضية؟!
والحق أن اختيار الحزب الديمقراطي لهاريس كان خاطئاً من البداية لسببين: أولهما أنها تمثل إدارة بايدن الذي انسحب من السباق الرئاسي بسبب انخفاض شعبيته، والثاني: أنها بلا شعبية حقيقية امام غول السياسة والاقتصاد ترامب. بينما لو كان الحزب الديمقراطي اختار "هيلاري كلينتون مثلاً لتمثيله، فكان سيستفيد بأنها لا تمثل إدارة بايدن، وأنها بيضاء البشرة، والأهم أنها بالفعل استطاعت خلال انتخابات 2016 أن تتفوق على ترامب في التصويت الشعبي، وإن خسرت أصوات المجمع الانتخابي، فكانت فرصها أقوي كثيراً من هاريس. ولهذا فإن ترامب أعلن مبكراً أنه سيفوز في الانتخابات بمجرد علمه أن هاريس هي المرشحة ضده. لأنه يعلم مدي قوته ومدي ضعفها.
أكثر من هذا أنه استطاع استمالة العرب والمسلمين لصفه في خطاباته، وأكثر باستغلال سوء إدارة البيت الأبيض لحرب غزة في ظل بايدن وهاريس.
ثانياً: استطاع ترامب أن يستميل الأقليات، وبخاصة المهاجرين من الدول اللاتينية. حدث هذا بالرغم من أنه سبَّ هذه الدول، فقال عنها أنها تصدِّر لهم نفايتها! ورغم هذا فإن الكثير من المهاجرين اللاتينيين منحوه أصواتهم. فكيف حدث هذا؟ هل بفعل المال السياسي، هل بفعل وعود وتطمينات أعطاها لهم في خطاباته الأخيرة؟ أم بفعل كاريزما خاصة يتمتع بها ترامب؟!
لا يمكن إنكار ما يتمتع به ترامب من كاريزما وإن كان يتمتع في الوقت نفسه بكراهية عظيمة من خصومه. وهي كاريزما تشبه ما يتمتع به مقاتلو المصارعة الحرة الذين اعتادوا السباب والتهديد. هكذا كان ترامب بطلاً في أنظار بعض الأمريكيين ممن ينتصرون للأقوي وإن كان فاسداً أو مغروراً أو سيئ الأخلاق. فكل هذا لا يهم في نظرهم، المهم أنه يكسب دائماً.
ها هو قد فاز بالرئاسة من جديد، وسيعود للبيت الأبيض. وقد عرفناه وعرفنا طريقته في إدارة الأمور. هذا الرئيس "البزنس مان". كيف سيتصرف؟ وماذا ستكون أول قراراته؟
ماذا سيفعل؟
أيام تفصلنا عن تنصيب ترامب رئيساً لأمريكا. ولا أتوقع أن تكون هناك محاولة ثالثة لاغتياله، لأنه سوف يتمتع بحماية مكثفة منذ لحظة إعلان النتيجة.
وطبقاً لتصريحات ترامب نفسه فإن أول ما سيفعله فور تسلم الحكم، أنه سيحاكم بايدن بتهم مختلفة تخصه وتخص ابنه! ثم إنه سيبرئ نفسه من كل القضايا التي سبق واتهمه بها الديمقراطيون. وربما تسقط عنه كل الأحكام السابقة، فيقوم بإسقاطها بنفسه.
وأما الاقتصاد فلعبته وسوف يتمكن من جلب الأموال من كل طريق، خاصة لو استطاع تنفيذ وعوده بإيقاف الحرب الأوكرانية التي تستنزف خزائن أمريكا. وربما كان السبب الأول أن بوصلة الانتخابات اتجهت نحو ترامب هو العامل الاقتصادي في الأساس؛ لأن ترامب استطاع بالفعل تحسين معيشة الأمريكيين أثناء حكمه.
وأما موقفه من الهجرة غير الشرعية فهو موقف مُعلن ومعروف، وسوف يعود لغلق الحدود في وجه أي مهاجر وبكل السبل الممكنة. وأما موقفه من الشرق الأوسط فإنه معروف أيضاً، لأنه منحاز تماماً لإسرائيل، وقد وعدها بتوسعة خريطتها بضم الضفة الغربية وتأمين بناء مستوطنات جديدة في مناطق مختلفة.
خلال ولايته الثانية تلك. لن يكون ترامب مضطراً لمجاملة أحد، لا اليهود ولا غيرهم. لأنه لن يكون حريصاً على ولاية ثالثة لا تجوز له. لهذا سوف تكون لديه حرية مطلقة أن يفعل ما يشاء؛ وبخاصة أن المجالس النيابية والتشريعية ستكون في الغالب جمهورية تماماً، ما سوف يجعله قادراً على تمرير أي قرار مهما كان صادماً أو غريباً.
هناك دول وأفراد سعيدة بعودة ترامب، ودول أكثر تكرهه أو تخشاه. فكيف سيكون المشهد العالمي أمام عودة ترامب. وهل ستختلف الأوضاع عما سبق؟
المشهد الإقليمي والعالمي
أما في فلسطين المحتلة. فقد استبق نتنياهو الأحداث وسارع بإقالة وزير الدفاع يوآف جالانت، وقام بتعيين وزير خارجيته المحسوب على تيار اليمين المتطرف. فيما يبدو أنها حركة هجومية يستبق بها نتنياهو محاولات لإزاحته. وفى الوقت نفسه يستطيع تمرير قرار استمرار الحرب رغم الضغط العالمي والمحلي لإيقافها.
لقد كان نتنياهو ينتظر لحظة وصول ترامب، لأنه الأكثر تفهماً لسياساته الدموية. ولا شك أن الفترة القادمة سيستغلها نتنياهو للتصعيد، خاصة بعد استهداف تل أبيب ومطار بن جورين تزامناً مع الانتخابات الأمريكية. فمتي سيضرب نتنياهو إيران؟ وهل تنجر المنطقة لحرب إقليمية؟ هذا ما يبدو في الأفق.
أمرٌ ثانٍ من المتوقع أن يحدث، وهو انسحاب أمريكا من جبهة أوكرانيا. وهو ما سيضع أوروبا والناتو فى. مأزق. وسوف يعطي روسيا الفرصة لإنهاء اللعبة لصالحها وابتلاع أوكرانيا وربما ما هو أبعد. ولهذا فإن الرئيس الأوكراني زيلينسكي ظهر في الصورة يتملق ترامب ويمتدحه، محاولاً إثنائه عن نيته المعلنة بالانسحاب من أوكرانيا، وإنهاء الحرب على الحدود الأوروبية.
الصين أيضاً تعيد الآن حساباتها طبقاً لعودة ترامب. وفى الغالب لن تُقدم على مهاجمة تايوان، كما لن تُقدم كوريا الشمالية على مهاجمة جارتها الجنوبية. بل سوف يظلون في وضع المناورة والتهديد دون اتخاذ أي خطوة هجومية إلا في حالة شعورهم بالتهديد المباشر، وهو ما لن يحدث في ظل إدارة ترامب الاقتصادية. ربما تنشأ حروب اقتصادية بين الصين وأمريكا، لكنها لن ترقَي لمستوي الحرب المباشرة كما أتوقع.
معني هذا أن البؤرة المشتعلة الوحيدة ستكون في فلسطين المحتلة. وقد تمتد ألسنة اللهب إلى حدود إيران. وهو ما سيؤدي لاشتعال الأوضاع أكثر في عدة محاور ومضايق بحرية، بما قد يهدد خطوط الملاحة البحرية، وحركة التجارة وسلاسل الإمداد. وبما قد يؤدي لارتفاع أسعار المحروقات. الجميع الآن يعيد حساباته طبقاً لما أفرزته نتائج الانتخابات الأمريكية فجاءت بترامب رئيساً للمرة الثانية. هذا مشهد جديد قديم. وإنَّ غداً لناظره قريب.
***
عبد السلام فاروق

حول المبالغات في تأثير الصوت العربي والمسلم في الانتخابات الأميركية وكيف كافأ الناخبون النائبتين المسلمة إلهان عمر والفلسطينية رشيدة طويلب بإعادة انتخابهما وإسقاط منافسَيهما الصهيونيين:
إن نتائج الانتخابات المسجلة حتى الآن والتي تعطي لترامب 295 صوتا في المجمع الانتخابي مقابل 226 صوتا لكمالا هاريس، تجعل تأثير الصوت العربي المسلم خصوصا في ميشيغان مبالغا في حسمه لنتيجة الانتخابات. فحتى لو كانت هاريس قد فازت بهذه الولاية لما تغيرت النتيجة كثيرا خصوصا وأن النتائج أكدت أن نسبة مرتفعة من الأصوات السوداء واللاتينية قد ذهبت ولأول مرة إلى ترامب. والمسؤول عن ذلك أساسا إدارة بايدن الديموقراطية التي لم تقدم حلولا للشباب الأميركيين وأصبحت شريكا للكيان في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها. غير أن هذه النتائج لا تعني فقدان الصوت العربي والمسلم لوزنه أو تأثيره مستقبلا ولكن تأطيره وتنظيمه أمران مهمان لا يمكن تثمير هذا الصوت من دونهما.
وفي ميشيغان ذاتها التي يقدر عدد الأميركيين من أصول عربية فيها بنحو 392 ألفا، وفق بيانات المعهد العربي الأميركي، لم يخسر الديموقراطيون أصوات العرب والمسلمين فقط بل خسروا أصوات الشباب بين 18 و29 حيث انخفض تصويتهم لمصلحة المرشحة الديموقراطية من 61 بالمئة سنة 2020 إلى 46 بالمئة. وانخفض الصوت العربي والمسلم من 70 بالمئة صوتوا لمصلحة بايدن وأنقذوه من الهزيمة سنة 2020 أمام ترامب إلى 9 بالمئة لمصلحة هاريس ولكن أصواتهم انقسمت بين مرشحة حزب الخضر والمرشح الجمهوري.
نعم، الصوت العربي والمسلم عاقب الديموقراطيين جزئيا ولكنه لم يتسبب بهزيمتهم الساحقة والتي كانت ستحصل حتى لو فازت هاريس بميشيغان. ففي هذه الولاية فاز ترامب على هاريس بفارق أصوات تجاوز 81 ألف صوت. أما أصوات 40 بالمئة من العرب والمسلمين فلم تعطي لجيل شتاين أكثر من 8 بالعشرة بالمئة أي أقل من 1% وثل هذه النسبة ذهبت الى ترامب.
ورغم هزيمة الديموقراطية هاريس ولكن مما له دلالته "نجاح النائبة الديموقراطية المسلمة إلهان عمر في الدفاع عن مقعدها ضد مرشح جمهوري مؤيد لإسرائيل، رغم الدعم المالي الكبير لمنافسها من جماعات داعمة لإسرائيل، يشير بشكل واضح إلى وجود دعم متزايد داخل القاعدة الديموقراطية لسياسات تتحدى الوضع القائم بشأن إسرائيل وفلسطين". كما كافأ الناخبون النائبة الديموقراطية من أصل فلسطيني رشيدة طليب التي حققت فوزاً ساحقاً على منافسها الجمهوري جيمس هوبر في الانتخابات عن الدائرة الثانية عشرة في ميشيغان، لتؤمن بذلك فترة رابعة كأول امرأة فلسطينية أميركية في الكونغرس الأميركي. وجاء هذا الانتصار بعدما كانت طليب صوتاً بارزاً في انتقادها لهذه الحرب، داعيةً الولايات المتحدة إلى وقف إمداد إسرائيل بالأسلحة كما عبّرت عن دعمها للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية، ما جلب لها انتقادات شديدة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. ويأتي فوزها بعد امتناعها عن تأييد كمالا هاريس في الانتخابات الرئاسية لعام 2024" ما يعني أنهما ستظلان شوكة في خاصرة ترامب والديمقراطيين المتصهينين.
وعن أجواء العداء للقضية الفلسطينية التي سادت في الانتخابات يمكن الإشارة الى رسالة الرئيس الأسبق بيل كلينتون إلى الناخبين العرب والمسلمين في ميشيغان والتي فهمها الناس كتبرير لحرب الإبادة الصهيونية وكأنه قال لهم "إن العرب يستحقون الموت" كما كتب علي عواد/ رابط 1. ويضيف عواد: "وإرسال ليز تشيني، التي قاد والدها مجزرة بحق مليون ونصف مليون عربي في العراق إلى ميشيغان أيضاً، هو تصرف ساذج وغير مفهوم. أما كمالا هاريس، فقد واجهت أسئلة متكررة خلال حملاتها الانتخابية عن غزة، وردودها التي كررت حقّ إسرائيل في «الدفاع عن نفسها». وقد فسّر كثيرون تصريحاتها حول «أحداث العنف» في السابع من أكتوبر، وذكرها للاعتداءات العنيفة، بصفتها تبريراً ضمنياً للقصف على غزة.
آخذين بنظر الاعتبار ما تقدم من وقائع وأرقام يمكن الاتفاق مع ما قاله السيناتور الديمقراطي من أصل عربي كما يبدو من اسمه جورج حلمي عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي "إن الحرب في غزة ساهمت في خسارة كمالا هاريس ولاية ميشيغان. وإنَّ على الولايات المتحدة أن تحاسب حلفاءها عندما يخالفون القانون الدولي". وأضيف إنما من دون مبالغات ومع ضرورة تأطير وتنظيم الصوت العربي في لوبي مؤثر وديموقراطي داخليا.
ترامب ليس جديدا على شعوبنا فهي تعرفه منذ أن زار العراق متسللا بطائرة مطفأة الأضواء ليلا لـ 45 دقيقة! رغم الهزيمة الساحقة التي حلت بمرشحة حزبهم الديموقراطي تواصل قيادة وإعلام هذا الحزب التمسك بلغة نفاقية مرائية باتت جزءا عضويا منهم فكريا ومعنويا "أخلاقيا" وتنظيميا. لقد أعلنوا اليوم أن السبب الوحيد وراء هذه الهزيمة هو بايدن الذي تأخر في سحب ترشحه للرئاسيات ولم يترك لكمالا هاريس وقتا كافيا لتخوض حملتها! حتى لو افترضنا أن هناك شيئا من الصحة الإجرائية في هذا السبب فهو ليس السبب الوحيد ولا الأهم. السبب الأهم نجده في الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن وإدارته لمجرمي الحرب الصهاينة في حرب الإبادة التي يواصلون شنها على الشعب الفلسطيني الجريح والمخذول من جميع العرب والمسلمين حكاما وشعوبا إلا ما ومن ندر في جبهات الإسناد. السبب الاخر نجده في فشل إدارة بايدن الديموقراطية في حل أية مشكلة داخلية وألقت بملايين الشباب الأميركيين الفاقدين للأمل بحياة ذات معنى إلى أحضان اليمين المتطرف ومرشحه ترامب. سبب آخر نجده في اصطفاف إدارة بايدن مع الفاشيين في أوكرانيا وتغذيتهم بعشرات المليارات من الدولات وأحدث الأسلحة ومحاولتهم محاصرة وإضعاف روسيا تحت حكم القوميين الأرثوذوكس وهناك أسباب وأسباب!
وحين يُهزَم الحزب الديموقراطي على يد بلطجي فاسد وومدان محكوم قضائياً ويميني متطرف وعنصري ورجل أعمال فاشل وشبه أمي مثل دونالد ترامب فهذا يعني أن الطرف المهزوم بلا حول ولا قوة ولا ذرة عقل وهو ليس أفضل من الطرف الآخر!
حسنٌ، البعض يريد إرعاب شعوبنا وحركات المقاومة فيها وكأننا أمام غزو فضائي لا سابق له وليس أمام العجوز السمج والجاهل ترامب الذي جربته شعوب المنطقة في فترة حكمه الأولى ولم يُسْكِت أو يُخْضِع هذه الشعوب رغم كل عمليات الاغتيال والقتل والإرهاب ضدها وضد قياداتها؟
أليس هو ترامب المذعور الذي زار مستعمرته العراقية خلال فترة حكمه السابقة متسللا بطائرة مطفأة الأضواء في ساعة متأخرة من الليل ولم يبق بين جنوده سوى 45 دقيقة خوفاً من استهدافه هو والطائرة؟
العراقيون وشعوب المنطقة معهم يعرفون من هو ترامب أما حكام العراق الذين سارعوا وأبرقوا له مهنئين بالانتصار ومتناسين مذكرة الاعتقال التي أصدرها القضاء العراقي بحقة كقاتل لمسؤول عراقي كبير وضيفه الإيراني واعترف بجريمته علنا، أما هؤلاء الحكام فهم ليسوا أكثر من جوقة من التابعين الفاسدين المستمدين حولهم وقوتهم من طيران ودبابات ترامب!
***
علاء اللامي
....................
رابط1: الإبادة «لايف» لعنة حلّت على «الديموقراطيين» بقلم علي عواد
https://al-akhbar.com/Palestine/387311

 

تصدر الكُتب والبحوث والمقالات بكثرة، ما يلامس السّطح مِن تاريخ السّياسة، اعتماداً على المرئي والمسموع، وثبت الحوادث الظّاهرة، لكنّ النَّادر ما وصل إلى جواهر الوقائع، التي تمارس بنوايا لا صِلة لها بالمشهور، فشكلت تاريخاً موازياً للتاريخ الرَّسميّ.
أجد في كتاب الباحث الإيراني آراش رايزنجاد «شيعة إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان»، الصَّادر (2018-2019) عن «بالجريف ماكميلان»، مِن النَّوادر التي كشفت الوقائع، فالباحث لم يكثر مِن التّنظير، إلا ما وجب، إنما اِعتمد المظان الأُصول، مِن أفواه وأقلام صُناعها، درس السياسة الإيرانيَّة في عهد الشّاه محمد رضا بلهويّ(1941-1979)، متناولاً منها موضوع السّياسة الخارجية الإيرانية غير الرّسميَّة بالعِراق ولبنان.
اعتمد رايزنجاد، وثائق الأرشيف الإيرانيّ، والأميركي، وأرشيف «السَّافاك» جهاز المخابرات الإيراني آنذاك، عندما جعل الشَّاه إدارة السِّياسة الخارجية غير الرّسميَّة بيد السَّفاك، بما هو أقوى مِن وزارة الخارجية نفسها.
بحث في أرشيف العلاقات الإيرانيّة العراقيّة، ما يخص الأحزاب الكردية العراقية، وما وثقته جامعة هارفارد، ومذكرات قادة الدبلوماسية الإيرانية ببيروت وبغداد، وضباط «السَّافاك»، الذين كانوا يديرون السياسة غير الرسمية؛ ناهيك عن التاريخ الشفاهِيِّ، بمقابلات الفاعلين في تلك الفترة.
كان الكتاب بمجمله، قصة تلك السِّياسة حتَّى الثورة الإيرانيَّة (1979)؛ كيف أصبح مؤسس جهاز السَّافاك ثائراً ضد الشّاه، ويتحرك بين العواصم للثورة داخل إيران ضد مليكه، حتَّى مصرعه على يد الجهاز الذي أنشأه.
تظهر عادةً سياسة الدوُّل الرّسميَّة مِن بياناتها ومواقفها؛ ويمكن القول إنَّها سياسة مرئية، إلا أنَّ السِّياسة غير رسميَّة، بالضّرورة تكون مخفية، وتمارس بالعكس تماماً مِن الرّسميَّة، تعتمد، حسب ما قدمه مؤلف الكتاب، بأسلوب رائع، على جماعات خارجيَّة، لا تبدو الحكومة تخصهم باهتمام في سياساتها الرّسميَّة، والمقصود أكراد العِراق، وشيعة لبنان. تُظهر الأكراد والشِّيعة أنَّ ما يُقدم إليهما مِن دعم بلا مقابل؛ فلا يبدوان أنهما مُستَغَلان لأجندة من أستغلهما، بينما الحقيقة مخالفة لِما تدعيه تلك السّياسة، فالأكراد والشّيعة مجرد لعبتين.
كان شاه إيران مأخوذاً بما يسميه بالخطر الأحمر، خشية مِن تحرك يساري مسنوداً مِن موسكو، وقد تصاعد هذا الشعور بعد تسلم اليسار السلطة بإفغانستان(1978)، ومع أنه لم يكن على عرشه، عندما دخل الاتحاد السُّوفييتي أفغانستان(1979)، إلا أن ما حصل كان هاجسه الأول، فربَما تكون إيران بعد أفغانستان، حتَّى دفعه هاجسه إلى اعتبار رجال الدّين الثوريين شيوعيين أيضاً.
كان الشاه يرى في التفوق العسكري وحده؛ حماية لسلامة عرشه وبلاده، فلم يعر للثقافة والتطور الاجتماعي اهتماماً، وقد أسكت الملكة فرح عندما طرحت فكرة الاهتمام بالثَّقافة، قال: «هذا ليس من شأنكِ، في حين كنا فخورين بحقّ ثقافة إيران، كانت أراضي إيران مُحتلة مِن قِبل الحلفاء». كان يعتبر الثَّقافة طريقَ الشيوعيين إلى السلطة، مؤكداً: «سوف ينتصر المثقفون على العالم، دون خلق عالم أفضل، لأنّه عندما يدمرونه، يستولي الشّيوعيون عليه». فالتحديث الذي كان يفهمه شاه إيران هو «التنمية العسكرية».
عانى العِراق، ولبنان أيضاً، مِن السياسة الخارجية غير الرَّسمية الإيرانيَّة، في ذلك العهد، فإذا اُستخدم أكراد العراق ضد بغداد، فلم يفلحوا إلا بالمصائب عندما صارت كردستان ساحة لتضارب المصالح بين الدّول، وإذا كان مجيء موسى الصّدر(اختفى: 1978) إلى لبنان، هدفه «تقدم الشّيعة»، كانت السَّافاك تحاول جعل الشَّيعة جزءاً مِن إيران، والشّاه هو حامي الشِّيعة بالعالم، انطلاقاً مِن لبنان، والصَّدر يمتنع.
تجد في قصة السِّياسة الخارجية الإيرانيّة غير الرسميَّة التوأمين: «عاشوراء والنَّيرُوز»، يربط بهذين الهلالين، والتسمية لآراش، الشّيعة والأكراد، ولا نظن أنَّ الأمرَ قد تغير، ففي سياسات الدول الرّسميّة الوضوح، وفي غير الرّسميّة المخفي، وهو الأخطر، فلا قيود ولا التزامات.
***
د. رشيد الخيون

 

قيل المنتصرون هم من يكتبون التاريخ، ربما يصح ذلك نسبيا، عندما تكون حكاية التاريخ قد انتهت، وان مصادر كتابة التاريخ واحدة، وان المنكسرون لا يتكلمون ولا يسمعون ولا يبصرون، وكأنهم اموت، وهذا ما يجافي منطق التاريخ ذاته، فالمنتصر القابض على السلطة والثروة، وكل ادوات القمع، والبطش، والقهر والعسف، المادية والمعنوية، قادر على إشاعة ما يريد من سرديات، بما فيها الملفقة والمشوهة والمختلقة والإقصائية، لكنه غير قادر على جعل كل الناس مؤمنين بها كمسلمات، وإلا لدامت دول وإمبراطوريات وعقائد الانظمة التي إنتصرت يوما ما اثناء سجال التاريخ، وقد تعلمنا من التاريخ ان جوهر الصراع المجتمعي متغير بإستمرار، وان ارادة الشعوب المقاومة لابد ان تنتصر في المحصلة، برغم الهزائم والانكسارات، فالايام تدور، وبدورانها تتفاعل عوامل القوة والضعف، وبالتراكم ينبثق كيف جديد، ومن معجلاته، إشتعالات ارواح الطلائع المقدامة التي تبث طاقة في الصفوف، تحفز على المطاولة المنتصرة، بالنقاط لا الضربات القاضية !
هيرودوتس رأى وكتب!
يكاد يتوسل مبعوث، خاشايارشا احشيورش الاول، قائد جحافل الأخمينيين وملكهم، الذي قرر إخضاع ممالك اليونان لنفوذه، بليونيداس ملك سبارطة، لإقناعه بعدم الوقوف بطريقه لأن ذلك يعني الانتحار، فالجحافل مليونية، ومقاومة الإسبارطيين لا جدوى منها، ورفض القائد الإسبارطي العرض رغم ضمانته لإستمرار حكم الاسبارطيين تحت جناح الأخمينيين سادة الدنيا حينها، وبعد اخذ ورد، استطاع اعوان الملك الأخميني إخافة المتحالفين مع سبارطة وانسحبوا من المواجهة، ولم يتبقى مع ليونيداس سوى خاصته من المحاربين الاحرار الذين يؤمنون بأن الجبن امام الجبابرة يجعلهم اكثر غرورا وعجرفة، اما صدهم وجرحهم فسيجعلهم اكثر تواضعا، وعليه قرر ليونيداس المقاومة حتى النفس الأخير مع أنفاس المحاربين الإسبارطيين ال 300، ويروي ابو التاريخ هيرودوتس نقلا عن الناجي الوحيد من المحاربين الإسبارطيين، الذي ارسله ليونيداس ليقول لسبارطة واليونان كلها تذكرونا، أن يتذكروا، كيف عرقل 300 محارب حر مسيرة الجحفل المليوني، وكيف ان القوى الغاشمة، لا تحترم الجبناء، وبحسب هيرودوتس، هبت ممالك اليونان موحدة، لمقاومة الغزوالأخميني !
الفداء: ذروة في الإقدام إلانساني !
الموت بالنيابة، الموت الطارق الضاغط على زناد الانعتاق، إشتعال الروح لإضاءة طريق العتمة، حل للغز المتاهة، هكذا كانت فدائية السيد المسيح ، طريقا للخلاص الارضي والسماوي، ومن قبله سبارتكوس قائد ثورة العبيد الذي صرع روما المتجبرة بصرع الهزيمة الكلية، وثورة الحسين التي أصلت ثقافة إنتصار الدم على السيف، وتشي جيفارا الانسان الحالم بعالم خالي من القبح بكل اشكاله، عالم فاضل بعدله وحريته، عالم لا تباد فيه الشعوب، ولا تقهر، ليتخم تجار البشر وقتلة الحالمين !
الفلسطيني من هذا الطراز:
على الطريق ذاتها، يطلع من ابواب وشبابيك زنازين العبودية الخانقة، متمردا، كالمارد في عنفوان وقفته، يجود بروحه إعلانا لرفض الخنوع، ينتصر لذاته الحرة، وبها لحرية الكل، والسنوار ليس خاتمتهم مع تفرده بالسخرية من الموت، حيث حاوره ووبخه ، ففي لقاء مسجل له يقول : ربما اموت بحادث تافه او الكرونا او المرض، الموت لا يخيفني، الذي يخيفني التقصير في إعلاء شأن قضيتنا العادلة !
كان السنوار من النوع الذي سقي الفولاذ، كأبطال رواية نيكولاي أوستروفسكي، كيف سقينا الفولاذ، فهو لا يسلم الروح حتى النفس الاخير دون محاولة للنيل من النازيين الجدد !
22 عاما في السجن المؤبد كان كالمغزل اليدوي، يدور في زنزانته وهو يغزل مقاومته المعلنة مع المحققين والسجانين، تعلم العبرية واتقنها، ليدرس عدوه ويعرف مكامن ضعفه لينقض عليها، وقد طبق منهج غسان كنفاني، وكأنه تشرب به، القائل : اعرف نفسك، وعرف عدوك، وعندما اطلق سراحه بصفقة تبادل 2011، خرج ليلبس إسرائيل ما غزله لها حتى الرمق الاخير !
وصف ابو تمام لبأس وجود صاحبه هو من بعض ماعند صاحبنا من شيم:


فتى دهره شطران فيما ينوبه
ففي بأسه شطر وفي جوده شطر
*
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر .


ممات يغيظ العدا:
هي ليست كلمات لتعويذة رددها دراويش، او قوالون، كضرب من ضروب التبجح، او الرجز، هي تعبير عن حالة انسانية سوية، تصل لذروتها، في مقاومة القهر بكل اشكاله والاغتراب المفروض فرضا، ومقاومة للخنوع ايا كان مصدره، داخلي او خارجي، فالانسان بفطرته حر، اما وقد تطبع على الذل فسيكون قد هشم إنسانيته وجعلها ناقصة ودونية، وهكذا عندما يصبح السجن في النفوس سجية، وفي عالم الواقع كله تسري ثنائيات العبد والسيد، والقوي والضعيف، والغاصب والمغتصب، والضحية والجلاد، والمتخم والمُجوع، المواجهة حتمية مادام هناك ادراك بأن لهذه الثنائيات اسباب وعلل، وبتغيير موجباتها يتغير الحال، ومن المحال دوامه، والضحايا اول المستفيدين من المتصدين والمتقدمين في مسارات المواجهة، وإستيعاب دروسها لتقليص الكلفة، فن من فنون الثورة المطلوبة والتغيير المنشود !
في قصيدة "الشهيد" للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود التي كتبها قبل إستشهاده بنحو 10 سنوات أثناء معارك نكبة 1948، صاغ الشاعر الثائر بيته المجيد ليكون لازمة لكل فداء:
فأما حياة تسر الصديق    وإما ممات يغيض العدا
لم يستكين هذا الشاعر الفلسطيني المتوهج شبابا ووعيا وإقدام، بعد مطارته من جلاوزة الانتداب البريطاني إثر نشاطه الثوري أثناء ثورة 36، فر للعراق 1938 وهناك تعرف على عبد القادر الحسيني وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ثم رجع لفلسطين ليشارك في مقاومة المشروع الصهيوني حتى إستشهاده، وصفه جبرا ابراهيم جبرا، الشاعر الشهيد هو الفارس الاول في شعرنا المعاصر، حيث ربط القول بالفعل .
وهو القائل أمام الامير سعود بن عبد العزيز اثناء زيارته للقدس عام 1935 :
المسجد الاقصى أجئت تزوره؟ أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
ما اشبه اليوم بالبارحة، قبل قيام إسرائيل كان حكام العرب على علم بما يريده البريطانيون والصهاينة، وكانوا يساومون، ومازالوا !
اما عبد الكريم الكرمي "ابو سلمى" زيتونة فلسطين، الذي اعتبره محمود درويش الجذع الذي نبتت عليه قصائد شعراء ارضها، فقد كتب في قصيدة " الى ملوك العرب" 1936 متهكما على بيان الملوك والامراء العرب الذي اصدروه في اكتوبر 1936، الذي طالب الفلسطينيين لوقف إضرابهم العام ضد السياسة البريطانية المؤيدة للصهاينة:

"انشر على لهب القصيد
شكوى العبيد الى لعبيد
شكوى يرددها الزمان غدا
الى الابد الابيد
قوموا اسمعوا
في كل ناحية يصيح دم الشهيد " .
***


جمال محمد تقي

قد يتسائل البعض عن معنى الحقيقة، ماهيتها وغائيتها، وكما نرى تفسيرها الموضوعي، أن لها وجهان اساسيان وربما أكثر من وجه يتلبسها .
المقارنات أحيانا قد تضفي طابعاً مجتزءا لا يفي بالغرض وقد يعطي انطباعاً مجرداً لا ينفع معه التلازم في المعنى والمرمى .. وهذا، لا يعني إلقاء الدروس أبداً، إنما تفسير المقصود من الكلمات والجمل، فليس مهماً تسويق المفاهيم من زاوية الحقيقة النسبية وتسويغ شموليتها وإسقاط بعض أسسها وهي الصورة الجمالية والايقاع والمدلول .. لأن الغاية كما نراها إيجابية في خوض غمارها والعمل في وضع الأطر المفيدة لإخراجها.
الحقيقة تنظر الى الاشياء من كل زواياها لا من زاوية واحدة ابدا .. ليس من زاوية سلبية ولا من زاوية ايجابية فحسب، انما من الزاويتين معا وتسمى الحقيقة الموضوعية عند التقييم الموضوعي في زمن ليس بإستطاعة احد امتلاك الحقيقة الموضوعية، لأن أوجه الحقيقة نسبية قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية وقد تجمع بين الأثنين في اطار منهج الشك الذي اعتمده ديكارت.
وتنسحب هذه الحقيقة على جماليات الشعر وإيقاعاته وغائياته .. الجدلية في مضمار جمال الشعر جدلية لا تنفع إلا بالتخصيص والتحديد حيث إطار البحث العلمي الموثق، وإلا باتت الاحاديث عن جماليات الشعر القديم وغائياته في الحب العذري قد فقدت معانيها وبهتت وتلاشت وطواها النسيان في العصر الحديث .. فالشعر النثري ليس جديداً، له رواده القدامى والمعاصرين، فهو لم يكن بديلاً للشعر العمودي او نقيضا له، إنما أن يتخلى عن أسر القافية الرتيبة الواحدة ويكتفي بالموسيقى الإيقاعية وجمال الصورة وبالغائية المتنوعة، لأن الشعراء محكومون بالحقيقة النسبية في الزمان والمكان.
فالصورة الجمالية والايقاعية لم تستنفد مفعولها ودورها فهي متلازمة مع الشعر والادب والثقافة. فإذا كان الشعر بلا صورة شعرية ولا ايقاع فما الذي يتبقى في الشعر سوى الغرض او الهدف فهل يمكن تصور الشعر بدون صور جمالية ولا إيقاع ولا مفعول ولا دور؟
الصورة الجميلة ضرورية ومطلوبة والايقاع ضروري والدور ضرورة شعرية .. وكل ذلك ليس على حساب الغاية وأولوياتها من اجل انقاذ الوعي الجمعي من التفسخ والتحلل، وهذا صحيح في مرماه ولكن لا أن نجعل من الاغراض او الغائية ظاهرة مجردة من الصورة الجميلة والايقاع الجميل .. فاذا فقد الشعر جماله وايقاعه فما الذي سيتبقى له، وهل يبقى شعراً؟
الحديث عن أولويات اهداف الشعر في مرحلة الرخاء ومرحلة العناء ومرحلة التحرير تختلف جذرياً عن بعضها .. ففي مرحلة الاحتلال التي يعاني منها العراق مثلاً فإن اولوية الشعر هو هدف التحرير، ولكن هذا لا يلغي جمالية الصورة الشعرية في هذا الهدف أو غيره، لأن الحياة ليست كلها حرب - في زمن حرب التحرير التي خاضها مثلاً في كولومبيا وفينزويلا وافريقيا (تشي جيفارا)، كان وجماعته يركنون بنادقهم جانباُ ويتحلقون للغناء والرقص والترفيه عن النفس - الحياة ليست كلها رفاهية، ففيها (ضنك) وعذابات وجوع وسجون وموت، وفيها فسحة من نسيم هواء طلق يجدد المحارب قدرته على التحمل .
فالحقيقة مرة في أعين البعض وحلوة في اعين البعض الاخر .. وهي كلية في اعين القلة وجزئية في اعين الكثرة .. ووهمية لدى البعض وشاخصة لدى البعض الاخر .. ولا وجود لها لدى البعض، لأنها مجرد فكرة ذهنية، ولدى البعض الآخر لها وجود مادي على ارض الواقع .. والجميع يغرق بين الكلي والجزئي، فالكل ، كما يراه هو الحقيقة .. حتى الاحتلال يراه البعض تحريراً وهذه الرؤية صفيقة وتافهة ومغايرة للواقع وللحقيقة. لأن الحقيقة لها مقاساتها الخاصة .
فالإحتلال حقيقة مطلقة تستوجب التحرير، والتحرير حقيقة مطلقة تستوجب حشد الطاقة المادية والاعتبارية، وحشد الطاقات حقيقة مطلقة تستوجب الاعتماد على الأساسيات وتأجيل صراع الثانويات .. ألم تكن هذه كلها حقائق علوم الصراع التي تستوجب الكشف عن مسببات الصمت ومسببات الصراخ الاجوف والسكوت على الهم والغم والضيم ألم تكن هذه جميعها حقائق مؤلمة؟
***
د. جودت صالح
4/11/2024

 

ساعات تفصلنا عن الانتخابات الأمريكية الأخطر والأهم في تاريخ أمريكا..
العالَم بأسره يراقب تلك الانتخابات وعيونهم على الخصمين يتبارزان بكل أسلحة المال والنفوذ والعلاقات. والعالَم، لا أقول الشعب الأمريكي، منشطر إلى نصفين: نصف يبغض ترامب ويريد هاريس. وشطر متعاطف مع ترامب لأسباب سياسية متباينة..
المعضلة التي تواجه انتخابات هذا العام: أن أنصار ترامب يقفون في تحفز وفي يدهم سلاح وفي قلوبهم غيظ، وربما انفجر المشهد بأيديهم وبأسلحتهم المعبأة. ثم إن جيوش العالَم متحفزة هي الأخرى: فها هي قوات كوريا الشمالية تتدرب بين صفوف الجيش الروسي تنتظر إشارة استخدامهم في الحرب ضد الناتو. وها هي القوات الصينية متحفزة حول تايوان، وها هو نتنياهو يهدد بضربة جديدة حال انتهاء انتخابات أمريكا والتيقن من أمر الساكن الجديد للبيت الأبيض.
هاريس تتقدم
آخر استطلاعات للرأي جاءت في صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية تؤكد تقدم كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي عن المشرح الجمهوري بأكثر من نقطة واحدة. وكانت الاستطلاعات السابقة تؤكد تعادلهما التام، وأن فرصهما لنيل المنصب متساوية.
هذا الأمر له معني واحد: أن الولايات المتأرجحة هي العامل الحاسم في تحديد الفائز هذا العام. وأن الفارق بين المرشحين في الحصول على أصوات سوف يكون قليلاً جداً، يُقدّر ببضعة آلاف من الأصوات، وأن نسبة النجاح ستكون نسبة ضئيلة ترجح مرشحاً على الآخر. وهذا الأمر تتمثل خطورته في إتاحة الفرصة لترامب وأنصاره في التشكيك بنتائج الانتخابات كما حدث منذ أربعة أعوام مضت؛ عندما خرج ترامب على أنصاره بخطاب تحريضي مدعياً تزوير النتائج، وعلى إثر ذلك الخطاب قام أنصاره باقتحام الكونجرس بالأسلحة، وكادوا يقلبون الطاولة على الجميع.
هذا العام هناك عدة عوامل تقول إن الخطورة التي تنتظر الشارع الأمريكي أكبر بكثير في حالة هزيمة ترامب في الانتخابات: أولاً أن ترامب وحملته على أتم استعداد لمواجهة القادم، بينما كان أمر الهزيمة مفاجئاً له منذ أربع سنوات، ثم إن ترامب يعتبر هذه الانتخابات حياة أو موت بالنسبة له؛ لأنها آخر فرصة له للسيطرة على الأمور من جديد والتخلص من القضايا التي تواجهه في المحاكم بإيعاز من خصومه. أكثر من هذا أن الأموال التي حصل عليها من مليارديرات أمريكا هي الأضخم، وهي موجهة في الأساس لشراء الذمم وتعبئة الحشود وكسب التأييد. أي أن أنصار ترامب المتطرفين من أصحاب السلاح على استعداد أكبر هذا العام، ولديهم خطط واضحة لقلب الطاولة حال الهزيمة. وقد حدث أن إحدى قنوات التلفزيون الأمريكية الكبرى قامت باستطلاع رأي سألت فيه الناس إن كانوا يرون أن الوقوف بالسلاح لحماية نتائج الانتخابات ضروري، وأجاب نحو 30% بالإيجاب. ما يشير لارتفاع نسبة التحفز أكثر هذا العام!
الذين يريدون ترامب
رغم حرفية ترامب وخبراته السابقة، إلا أن هاريس تسبقه بجولاتها المكوكية المكثفة خلال الساعات الأخيرة قبيل الانتخابات، طافت خلالها بجميع الولايات المتأرجحة الحاسمة في السباق. وكان خطابها التفاؤلي الهادئ جذاباً لعدد إضافي من الناخبين. وهي لا تكتفي بالخطاب الدفاعي بل تهاجم ترامب بأسلوب ذكي، فقالت أمام حشد ضخم من أنصار الحزب الديمقراطي: (لدينا فرصة هذا العام أن نغلق صفحة ترامب السوداء لتي استغرقت عِقداً من الزمان يحاول فيها إبقاءنا منقسمين وخائفين من بعضنا البعض).
ثمة أمور جديدة طرأت على المشهد الانتخابي هذا العام وقد يكون لها دور في حسم النتائج: أولها بلا شك الحرب الصهيونية الدموية على غزة ولبنان. وأداء بايدن السيئ خلال تلك الحرب استغله ترامب في دعايته لحملته الانتخابية. وجعلته قادراً على استمالة جزء كبير من الشعب قوامه: العرب والمهاجرين. رغم أنه كان ضد الهجرة وما زال. إلا أنه استطاع بطريقة ذكية استغلال عاطفة الناس ضد الأداء الكارثي للبيت الأبيض خلال حرب غزة لاستمالتهم.
معني هذا أن العرب أصبحوا رقماً في المعادلة الانتخابية. والغريب أن ترامب الذي كان وما زال معتمداً على اليهود، يخاطبهم الآن بخطاب تهديدي؛ مصرحاً بأن الفرصة الوحيدة لدولة إسرائيل هي فوزه في الانتخابات، وأن زوالهم سيأتي حتماً خلال عام أو عامين إذا انهزم فيها! وعلى الناحية الأخرى رأيناه في جولاته الانتخابية الأخيرة يستصحب عدداً من رموز العمل السياسي من العرب والمسلمين يريد استمالة الجالية العربية والإسلامية في صفه. فهل تنحاز تلك الجالية له بالفعل؟ وهل تكون تلك الجالية عامل حسم هذا العام؟
أمر آخر بات مختلفاً هذا العام هو وجود مرشحة ثالثة لحزب الخِضر هي "جيل ستاين"، وهي مرشحة ذات فرص معدومة أمام الحزبين الكبيرين. لكن رغم هذا قد يؤثر وجودها على المشهد الانتخابي إيجاباً أو سلباً؛ إذ أن بإمكانها جذب الأصوات المترددة من كارهي الحزبين الكبيرين، وبخاصة أن ترامب وهاريس كليهما منحازين لليهود، ووجود أحدهما يعني استمرار الحرب الضروس ضد غزة ولبنان، برغم تصريحات ترامب العنترية بإنهاء الحروب.
أكثر من هذا أن جمعها لأصوات إضافية قد يساعد في فوز ترامب بطريقة سلبية؛ إذ أنها إذا نجحت في جمع أصوات الولايات المتأرجحة أو بعضها لصالحها، فسوف تُخصم تلك الأرقام من الأصوات الذاهبة للحزب الديمقراطي، وبالتالي يفوز الحزب الجمهوري تلقائياً.
إن "حزب الخضر" ما زال حزباً غير رسمي. لكن إذا استطاعت جيل ستاين من جمع أصوات تزيد على نسبة 5% من أصوات الناخبين، سوف يصبح حزبها رسمياً يتمتع بفرص أفضل خلال الانتخابات القادمة أمام الحزبين الرئيسيين في البلاد. هذا الأمر دفع بعض الأقليات واللوبيات في التفكير للانحياز لهذا التيار الثالث؛ خاصةً وأن جيل ستاين ذات الأصول اليهودية أبدت تعاطفاً ضد الحرب في غزة لصالح القضية الفلسطينية، وهو ما دفع الجالية العربية للتفكير في منحها أصواتهم بشكل جماعي. وهو أمر لا يستطيعون التأكد من تحقيقه؛ لأن العرب ليست لديهم مؤسسات ولوبيات وكيانات سياسية قوية في أمريكا، وأصواتهم مشتتة لا يمكن حسابها أو تقييمها بشكل واضح وقياسي.
هكذا تشير كل الظروف المحيطة بانتخابات هذا العام أنها الانتخابات الأخطر والأصعب والأكثر حماسية وتنافسية في تاريخ أمريكا كله.
موقف القوى العالمية
عندما فاز ترامب بانتخابات 2016 قيل إن روسيا تدخلت في نتائج الانتخابات من خلال عملاءها في أمريكا، وهو اتهام قد يكون صحيحاً؛ إذ أن له شواهد وأدلة ترجحه. الأخطر هذا العام أن الصين قد يكون لها يد في ترجيح كفة عن كفة، من خلال قدراتها السيبرانية التي تطورت كثيراً، وأصبح بإمكان الصين التأثير على النتائج بشكل أو بآخر.
فأما الصين وروسيا وإيران فموقفهم ليس واحداً؛ ففي حين تفضل روسيا قدوم ترامب، يفضل الصينيون والإيرانيون فوز هاريس. لأن ترامب قد توعدهما بالويل والثبور وعظائم الأمور. وأما أوروبا فهي تفضل هاريس على ترامب، لكن تأثيرها على المشهد الانتخابي ليس كبيراً كالقوي واللوبيات الأخرى.
وأما منطقتنا العربية فهي في حيرة من أمرها: كثير من العرب منحازون لترامب لا لشيء إلا لأنهم تعاملوا معه ويعرفون طريقته السياسية ويألفونها، وأن الحكمة تؤكد: "أن ما نعرفه أفضل مما لا نعرفه". بينما المنحازون لهاريس يأملون أن يكون أداءها مختلفاً عن ترامب وعن بايدن وإن كانت ديمقراطية مثل بايدن، لكنها امرأة، وهي تتمتع بمرونة أكثر من كلا الرجلين.
المشهد الانتخابي الأمريكي هذا العام ملتبس ومحير. وأكثر من هذا أنه خطير ومؤثر. وقد تترتب عليه أموراً كثيرة تشتعل على إثرها حروب أو ربما تنطفئ. وما بين هاريس وترامب يقف العالم على أطراف أصابعه.
***
د. عبد السلام فاروق

 

قبل بدء حرب الإبادة ضدّ لبنان كنت قد عثرت على ورقة بين أوراقي المبعثرة وراء صفّ من الكتب العتيقة في مكتبتي غير المتناسقة، وأنا أعيد بعض ما استعرته منها لأغراض المراجعة والتدقيق. ابتسمت وأنا أقرأ بعض تدويناتي عن تشي جيفارا، وكأنه نور سحيق أفلت من قبضة زمن مختلف.
رحت أفكّر، لبضعة دقائق في حنين غريب، بتلك المرحلة فندّ من تلك الأوراق الطريّة النديّة على الرغم من جفافها صوت أغنية قديمة "جيفارا مات" وهي قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومع أنه نسيم عذب وريح خفيفة تسبق المطر، لكنه لحن حزين وقاس: جيفارا مات، جيفارا مات، آخر خبر بالراديوهات وفي الكنايس والجوامع... مات المناضل المثال، ياميت خسارة عالرجال...
وبدلًا من إعادة أوراقي العتيقة إلى مكانها نفّضت عنها الغبار ووضعتها على طاولتي ولا أدري لماذا دسستها بعد ذلك في حقيبتي، ربما خوفًا عليها من الضياع في زحمة الأوراق والقصاصات والصحف والمجلات، ولعلّ تلك العادة كنت التمست جدواها لفترة زادت عن خمسة عقود من الزمن، حيث كنت أخبئ تلك الأوراق لأعود إليها أحيانًا، وكم تكون مفاجأتي كبيرة حين أجدها راهنية، بل وآنية، وهكذا كنت أحتفظ ببعض القصاصات والأوراق والرسائل في حقيبة اليد، حتى وإن كنت لا أستعملها.
عادت بي الذاكرة الملعونة إلى 57 عامًا إلى الوراء يوم وصلنا خبر اغتيال جيفارا في بوليفيا إثر وشاية واندساس، كيف ظلّ الرجل متماسكًا وثابتًا وواجه مصيره بكلّ جرأة وشجاعة، وهو القائل "كن هادئًا وصوّب جيدًا، أنت تقتل رجلًا".
يومها بعد 7 أكتوبر / تشرين الأول 1967، وكنت حينها في الصف المنتهي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، نظمنا اجتماعًا مهيبًا في كلية التربية، وتبادلنا التعازي، بل أن الكثير من أصدقائنا كلانوا يخصوننا بذلك، وقد رويت ذلك في كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، بيروت، 2011).
وعلى الرغم من أننا حينها لم نكن من التيار الذي اقتفى أثر الجيفارية، بل اعتبرناها تجربة غير قابلة للاستنساخ، فضلًا عن أن الدعوة إلى تشكيل البؤر الثورية على حساب العمل المنظم ليست السبيل إلى تغيير الأوضاع، لاسيّما بالزحف من الريف إلى المدينة، لكن ذلك لم يمنعنا من إظهار أنواع التضامن مع أحد أبرز ثوريي عصره، بل أحد أكبر الثوريين في العالم الذين وضعوا أحلامهم قيد التنفيذ، واسترخصوا حياتهم في سبيل تلك الأحلام التي بدت لهم الحقيقة الوحيدة على حد تعبير المخرج الإيطالي فيليني.
وبغض النظر إن كان الثوري الحقيقي أخطأ الحساب أو لم يقدّر ظروف المواجهة ويحسب ميزان القوى بدقة، سواءً بالتقليل من قوّة العدو أو بتضخيم قواه الذاتية، لكنه لمجرد اختياره لحظة المجابهة "هذه اللحظة الثورية"، فإن واجب التضامن معه يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، وقد هلّل ماركس إلى السماء لكمونة باريس يوم اندلعت بقوله "هبوا لاقتحام السماء"، على الرغم من ملاحظاته عليها وشعوره بأنها يمكن أن تذبح، فلم يعد الوقت مناسبًا للنقد أو إبداء الملاحظات طالما أن المعركة بدأت، ولا مجال للتفرّج عليها.
من المعروف أن ماركس قد حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر، من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في آذار / مارس 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمرًا واقعًا، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصر ماركس اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها".
ومثل هذا الأمر يتكرر عادة في التاريخ، منها مواجهة الزعيم العربي جمال عبد الناصر للمخطط الإسرائيلي العدواني في العام 1967، على الرغم من الملاحظات حول الأعداد للمعركة عسكريًا، وحريّة الجماهير للمشاركة فيها، ولعلّ أية معركة حقيقية تحتاج إلى حشد أوسع الطاقات وإطلاقها في مواجهة العدو.
لم يكن أدنى شك من أن المواجهة تتطلّب مستلزمات أخرى، لكن الوقت ليس وقت شماتة أو تشفّي أو استقالة عن المشاركة أو تسقّط الأخطاء طالما أن المعركة بدأت، وإلّا سيصبّ مثل هذا الأمر في طاحونة العدو، أمّا النقد والتقييم، وحتى المساءلة بإعادة قراءة التجربة، فيأتي لاحقًا، ولطالما بدأت حرب المواجهة في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، فلا مجال إلّا بالانحياز لفلسطين وللمقاومة ولمجابهة العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الشاملة، والاساس في ذلك أن هذه الحرب هي حرب عقول وإرادات، وحرب علوم وتكنولوجيا.
وهي حرب وطنية وتحرّرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، استهدف منها العدو الصهيوني، ولاسيّما بوحشيته ولا إنسانيته الخارقة فرض الإذعان، بل وجعله ثقافة وتيئيس الأمل في التحرير، ومحاولته شن حرب نفسية ناعمة موازية للحرب الهمجية العسكرية العنيفة المنفلتة من عقالها، وربما هذه الحرب أكثر خطورة وإيلامًا وخبثًا ودناءة من الحرب العسكرية ومن العدوان الإجرامي.
وهكذا أخذت بعض الأصوات ترتفع بحجة "العقلانية" و"الموضوعية" و"تجنب الصراع" لضخ شتّى الاتهامات للسيّد حسن نصرالله، الذي أعاد صورة جيفارا بكلّ رمزيته وكارزميته وجلاله إلى ساحتنا مجددًا، بعد أن نسي أو تناسى كثيرون هذه الأمثلة الرائدة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها في اختيار وتوقيت لحظة المجابهة والإعداد الكافي لها وتحمّل نتائجها، لكننا لا ينبغي أن ننسى أن العدو ووجوده في قلب الوطن العربي هو مشروع "حرب مستمرّة" و"بؤرة توتّر دائمة"، بل و"قنبلة غير موقوتة" لا يمكن التكهّن بأية لحظة ممكن أن تنفجر، وتلك هي حقيقة الصراع التي لا ينبغي أن تغييب عن البال.
الثوريون الحقيقيون بلا أحلام يصدأون، فالحلم هو جزء من شخصية الثوري الحقيقي، وطالما ظلّ الثوري ثوريًا فالحلم يبقى طازجًا ولا يتحوّل إلى حلم معلّب،
وعلى طريق الحالم الكبير والثوري الكبير والشهيد الكبير نصرالله، سقط حالم آخر هو يحيى السنوار وفي الميدان أيضًا، لكن أرواح الثوريين مثل أفكارهم تتناسل، بل إنها لها أجنحة، هكذا ستطير على حد تعبير ابن رشد، نعم للأفكار أجنحة مثلما للبطولة أجنحة، وأجنحة الثوريين الحالمين لا ترفعهم إلى السماء فحسب، بل تنثر أرواحهم في ربوع تربة الوطن لتنبت ثمّ تزهر وبعدها تثمر ثم تنضج، وهذه الأرض المروية بالدم والشمس والأحلام والمتطلّعة إلى الحريّة والحياة، لا يمكنها إلّا أن تكون كذلك، فليس هناك شعب تحتلّ أراضيه ولا يقاوم إلّا إذا كان شعبًا من العبيد، وأظنّ أن الشعب العربي الفلسطيني هو شعب حرّ توّاق إلى الحريّة والحياة، مثله مثل الشعب اللبناني وشعوب الأمة العربية كافّة.
كنت وأنا أقابل آخر الثوريين الحالمين بعد تحرير الجنوب اللبناني، وانسحاب العدو الإسرائيلي "خانعًا" قلت له "أرى القمر هذه الأيام أكثر إشعاعًا، وكأنني أراه لأول مرّة، ربما هو قمر بني هاشم الذي زاده ضياءً"، فبادرني "إنه منكم..." إنه "نور النجف"، واستوقفني حيث كان قد درس في مدرستها التي مضى عليها ألف عام، ومرة أخرى في اجتماع لدعم المقاومة، كنت أتأمله بابتسامته الخجولة ونظرته الحالمة، يوم اجتمعت جميع فصائلها الفلسطينية واللبنانية وشخصيات فكرية وثقافية حين كانت روحه هناك، إلى حيث الحلم الليموني، إلى التحرير.
وفي كلّ مرّة كنت أتطلّع إليه أو أشاهده في التلفزيون تقصر المسافة عندي بين الحلم والواقع، بل يتداخل الحلم مع الواقع في قصيدة أو لوحة أو سمفونية هي التي تجمع الحياة بالحريّة والإنسان بالقيم والثوري بالأمل.
***
د. عبد الحسين شعبان

من البديهي ان ينظر للتحول الالي في بداياته وقد تحقق في الموقع الارضوي الازدواجي الطبقي الاعلى ديناميات ضمن صنفه،بحدود مايمكن ان يتيحه العقل الارضوي كمروية تعتبر ذاتها هي العالم، باعتبار ماقد حدث بين ظهرانيها وكانه حدث نهائي مكتمل، خصوصا وان هذا المجال لايجد امامه ولايعرف من صيغ المجتمعية غيرماهو عليه، هذا بينما الموضع اللاارضوي ومجتمعيته التاريخيه الازدواجية الاصطراعية، كان وقتها مازال يعيش اشتراطات اليدوية، لابل وهو في حال من الانحدار الانقطاعي من بين ثنائية دورات تاريخه المتراوح بين الانقطاع والصعود الدوراتي.
وضع من هذاالقبيل كان من المحتم ان يترك الانقلاب التحولي المستجد خارج الادراك والوعي الضروري المشتمل على حقيقة الحاصل اليوم وابعاده ومايترتب عليه، بما قد وضعنا بعكس ماهو شائع امام سياق تاريخي انتقالي يبدا بمحطة الانتقالية الالية الارضوية، ولا ينتهي او يكتمل الا مع انبثاق التحولية اللاارضوية، بما يجعل من غير الصائب ولا الدقيق باية درجة كانت، القول الذي ظل ماخوذا على انه الفصل الاجمالي الذي يجعل من ابتداء الانتقال الالي بصيغته الابتدائية الافتتاحية وكانه هو المطلوب والكمال، علما بانه مجرد خطوة اولى ناقصة تظل تنتظر التفاعلية والاصطراع على المستوى الكوكبي، قبل ان تكتمل وتصير معلومه الملامح والابعاد والمتطلبات.
ومع اشتراطات الارضوية المجتمعية ومستوى ادراكيتها وحدودها بمقابل مايتولد عن الانقلاب الالي مجتمعيا، وماتعرفه الحياة وقتها من انقلابيه تشمل الاليات المجتمعية، وبالذات منها الطبقية حيث انبجست الاله، فانه لايمكن تحاشي غلبة الاعتقاد الابتدائي بدرجه التحول الحاصل، ونوع الانقلابيه الواقعه بفعل الاله، خصوصا حين تقارن بتلك التي ماتزال يدوية في الغالب، اي من طور مجتمعي منته، ومن هنا تولد وتتراكم الاسباب الموجبه والضرورية لاعتبار والاقرار بخصوصية ورفعة الحال الحاصل الانقلابي الاولى الاوربي بفعل الاله ومايتولد عنها من تسارع في الديناميات، الامر الذي يمنحها الافضلية والتميز كوكبيا بلا منازع. ماقد كرس بناء عليه حالة التوهمية الابتدائية الالية، حتى وضع العالم بناء عليه ضمن سياقات افتراضية متفارقة مع الحقيقة الاليه نفسها، ومع المنطويات الحقيقية للحاصل التاريخي الانقلابي.
هذا وبقية العالم وبلدانه لايمكن ان تكون لها رؤية مقابلة لما لم تختبره ولاعرفته، وهو ماينطبق على الموضع الشرق متوسطي المقابل والمضاهي تاريخيا، مقابل ماقد توفر من اسباب الارجحية للموضع الالي الابتدائي، فوفر الاسباب واتاح ظهور نزعات تشبه وتماه مع التوهمية الغربية الاوربيه، الامر الذي شمل التصورات حول الدول، و انتهى الى الايديلوجيات وعلى راسها وبمقدمها "القومية" المفترضة بالتماهي بناء على غلبتها ونموذجيتها الغربية، مع مايلزم من تبريرات واهية لااساس لها، مثل العروبة وخروج العرب من الجزيرة العربية الى العالم، واستقرارهم خارج شبه الجزيرة العربيه، بالذات في الموضع الكوني الاستهلالي حيث ظهرت المسيحيه واليهودية والاسلام الذاهب الى حدود الصين شرقيا، في حين لم يكن لدى العرب حاملي الرسالة الابراهيمه الختامية اية دعوة قومية/ عروبيه/ في حينه، ولا كان من الممكن للعرب وهم في الجزيرة العربية معزولين يعيشون تحت فعالية اقتصاد الغزو الصحراوي، لولا الابراهيميه، خاصية المنطقة وتعبيريتها عن ذاتها، التي حملها العرب للعالم، مالايتلاقى مع مفهوم "القومية" الحداثي الاوربي، بما هو حالة ونوع تعبيرية دنيا مقارنة بالمدى والافق الابراهيمي المبكر الكوني، المخترق للبنى المجتمعية الاولى الامبراطورية الشرقية والغربية الصابه في هذا الموضع الفعال (روما وفارس)، والاعلى ديناميات على مستوى المعمورة.
ولاشك ان المشار اليه من التحاق بالنموذجية الحداثية الغربية شرق متوسطيا، هو بالاحرى الفصل الشرق متوسطي من التوهمية الاليه الغربية وانعكاساتها واثارها ضمن شروط الغلبة المبكرة الاستثنائية المؤقته، وقت حلت على اوربا وميزتها، مع مايقابلها من انتفاء الاليات المجتمعية و"التاريخانيه" في العالم الابراهيمي، وخاصيات تحقق وانبثاق الديناميات النهوضية وموضعها، ماقد ولد في حينه ازدواجية تعبيرية غير ملحوظة، طرفها الاول انبعاثي غير ناطق يبدا مع القرن السادس عشر في جنوب ارض الرافدين في ارض سومر، مع بدء الانبعاث الحديث الثالث بعد الدورتين الاولى والثانيه، يقابله ظهور مركز استعاري متماه مع اوربا تركز في مصر وساحل الشام، لاسباب تكوينه وبنيوية خاصة بالمنطقة الجاري الحديث عنها حيث الانماط الثلاث والمجال الوسط، العراق كازدواج مجتمعي ارضوي لاارضوي/ ومصر ككيانيه دولة احادية المجتمع فيها يتشكل في الدولة والكيانيه "الوطنيه"، وشبه الجزيرة العربية حيث اللاادولة الاحادية، وساحل الشام الموقع الذي لاتتوفر له اسباب التشكل الكياني. مع ما يحكم هذه اللوحه من ديناميات متعدية للقدرة العقلية المتاحة على الا دراكية البشرية واستمرار فعل "اللانطقية" الذاتيه، بالذات في الموضع الاعلى دينامية، الازدواجي، عدا عن خصوصيته التشكلية الصاعدة كقانون من الجنوب الى اعلى، والى الامبراطورية الازدواجية، وقد بدات اليوم بالفترةالاولى "القبلية" مع تشكل "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه، اعقبتها فترة "الانتظارية النجفية" الحديثة. قبل الفترة الثالثة الاخيرة الايديلوجية الحزبية المقترنه بالفبركة الكيانيه بعد الاحتلال الانكليزي.
هذا يعني ان منطقة شرق المتوسط كان عليها الانتقال من غلبة البرانيه الشرقية، الى البرانيه الغربيه بعد الاله ومايعرف بالحداثة الاوربية على الطرف الغربي من المتوسط، علما بانها تكون بالاحرى في حال انبعاث مغفلة بلا ذاتيه/ نطقية بمقابل ضخامة النطقية التوهميه الغربية، مايحجب بدايات حضور الذاتيه ومسارها الحديث غير المعبر عنه لصالح ماقد اعتبر من قبيل "النهضة الزائفة"، حيث التشكلات الثلاثة المصرية والشامية والجزيريه الارضوية كينونة بنيويه وديناميات، هي الحاضرة آنيا تحت طائلة دفع وبالتماهي مع الظاهرة الغربية المستجده، وبالتحديد ارتكازا الى الكيانيه "الوطنية" الاحادية المصرية التقليديه، المماثلة نمطيا للاوربيه من دون ديناميات اصطراعية ذاتيه، مع محمد علي، والطهطاوي، وعبده، والافغاني، ومايلحق بهم من نزوع قوموي علماني شامي، او نزوعات استعادية نبوية جزيرية خارج اشتراطاتها التاريخيه، لن تلبث ان تندحر بحكم تبدل وانقلاب الظروف، متحولة الى صيغه الريعيه القبلية المطابقة لمقتضيات الغلبة الغربيه.
هذا بينما العالم محكوم لاستبدادية وتوهميه المفهوم والرؤية الغربية للتحول الالي الحاصل اليوم، وتحديدا لتكريس الوحدانية التحولية، برهنها للنمطية ونوع المجتمعية الاوربية الاحادية الارضوية، من دون اي تنبه الى احتمالية ان يكون الحاصل في الغرب وقتها هو مقدمه وابتداء تحولي ناقص، لن يكتمل الا بعد ان يحضر المنظور اللاارضوي الشرق متوسطي، مع انتهاء امد "اللانطقية التاريخيه" تحت طائلة الاصطراعية المستجده نوعا، كصيغه تعبير حتمي آلي مابعد يدوي، اي التعبيرية اللاارضوية الثانية المطابقة للحظة الانقلابيه مابعد الابراهيمة الحدسية النبوية الاولى، اليدوية.
ـ يتبع ـ
***
عبدالامير الركابي

أوراق من كتاب تحت الطبع

تنويه:

1.الكتاب يمثل رصدًا لسلوك الطبقة السياسية، وشؤون الحكم في ميزوبوتاميا المعاصرة خلال مدة 14 سنة "2010-2024".

2.نشر صفحات منه مسبقًا لم يكن لأغراض الترويج له، وإنما لأني لم أسعَ لاحتكاره ليكون نسخة ورقيّة فقط؛ لذلك فور الانتهاء من طبعه سيكون متاحًا إلكترونيًّا لمن أحب.

كرسي وسبع مؤخرات...!

قرأت أمس عن جدل دائر بين برلمانيين عراقيين من قائمة رئيس الحكومة السيّد نوري المالكي وبين برلمانيين من قائمة السيد إياد علاوي.. (وفقًا للسومرية نيوز)، سبب الجدل هو أنَّ بعضًا من نواب العراقية (علاوي)، يطالبون بأنْ يكون رئيس وفد العراق في مؤتمر القمة المتوقع انعقاده في بغداد أواخر شهر آذار الجاري أسامة النجيفي - رئيس مجلس النوّاب، في حين يرد عليهم نوّاب من قائمة رئيس الحكومة نوري المالكي بأنَّ رئاسة الوفد العراقي في مؤتمر القمة ستكون لرئيس الحكومة نوري المالكي.

الحجة التي يستند إليها نوّاب قائمة علاوي تقول بأنَّ: نظام الحكم في العراق نظام برلماني، وبالتالي فإنَّ مجلس النوّاب هو أعلى سلطة في العراق، بينما ما يستند إليه نوّاب المالكي من حجة تقول بأنَّ: نوّاب علاوي لا يفهمون الأصول الدبلوماسيّة، وأنهم جهلة، ويسعون إلى إفشال انعقاد القمة في بغداد..!

وبعد قدح الحجة بالحجة حتى تطاير الشرر منهما، وجدت الآتي:

أولاً: في النّظام الرئاسي يكون رئيس الجمهورية هو مَن يمثل الدّولة في حضور المؤتمرات الدّوليّة التي تنعقد على مستوى رؤساء الدول، فمثلًا: يحضر الرئيس الأمريكي والرئيس السوري والرئيس الصومالي، ولكن يرأس الوفد رئيس الحكومة في الدول التي تعتمد النظام البرلماني، فتحضر ميركل عن ألمانيا، ورئيس وزراء لبنان، ورئيس وزراء الدومنيكان، ورئيس وزراء استراليا، ورئيس وزراء بريطانيا، وهكذا.. إذن؛ من هذه الناحية فإنَّ حجة نوّاب قائمة علاوي ساقطة، ولا أساس لها من الصحة وفقًا للعرف الدّبلوماسي الدّولي.

ثانيًا: وفقًا للقوانين المرعية، فإنَّ حجة النوّاب عن قائمة علاوي ساقطة أيضًا، ومثل هذا التصرف يطلق عليه في المحاكم العراقية تصرف فضولي؛ لأنهم ليسوا من أطراف الخصومة وفقًا لقانون أصول المحاكمات، إذ إنَّ طرفي الخصومة في مثل هذه القضايا هما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ولا يغير من ذلك مخاطبة امرأة الحلبوسي زوجها بالسيد الرئيس أو مخاطبته لها بالسيدة الأولى، فتلك شؤون محض عائلية لا أهمية لها.

ثالثًا: هذا الموضوع وأمثاله هو ما يشغل أذهان الأطراف الحاكمة من الطبقة السياسية العراقية عمّا سواه، في وقتٍ تمر المنطقة والعراق فيه بالذات بأمور جلل، وهو لم يكن الأول، فقد حصل تراشق بالنيران المتوسطة والخفيفة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية في العراق الديمقراطي الاتحادي قبل سنوات عدة حول مَن يرأس الوفد العراقي لاجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكاد الأمر أنْ يصل إلى ذهاب الاثنين وحضور الاثنين معًا بوفدين منفصلين: العراق (أ)، والعراق (ب)، على غرار مشاركة الفِرق الرياضية: شباب وأشبال..، ولا أتذكر كيف حُلّت المعضلة، لكن الذي ذهب هو المام العتيد ربما لموعد يجمعه مع سيدة الدبلوماسية الأمريكية كَونداليزيا رايز لينحني أمامها رغم بدانته، ويقبل وجنتيها تحديًا للسيدة الأولى، ولكن عن بُعد كما جرت العادة.

رابعًا: في مؤتمر رؤساء البرلمانيين الذي انعقد في أربيل، ترأس الوفد العراقي، وتبعًا لذلك المؤتمر (كونه منعقد في العراق)؛ السيّد محمود المشهداني - رئيس مجلس النواب في حينه، ولم يترأسه رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية، وطيلة فترة انعقاد المؤتمر كنا نحبس أنفاسنا خشية فلتة لسان من المشهداني على غرار إحدى فلتاته يوم خاطب إحدى عضوات مجلس النواب العراقي قائلًا: "إي مو على أساس أنتِ مشرّمته ...!"، فينفرط عقد المؤتمر لدواعي الشرف وبسبب المحتوى الهابط.

خامسًا: من جرّاء الفوضى السياسية والعبث، واحتدام حالة السعي المستميت لخمط السلطة بين تلك الأطراف، فإنَّ المواطن العراقي بات "ما يعرف رجلها من حماها ..!"، وأقرب مثال لهذه الحالة هو ما اطلعت عليه في تسجيل مصور لكلمة ألقاها السيّد مقتدى الصدر في تجمع لأنصاره في إحدى خطب الجمعة، وهم يهتفون بشكل متكرر ولا يتيحون له الاسترسال بالكلام، فصاح عليهم: جهلة !.. جهلة !.. جهلة ..!، مع أنَّ الحالة التي وصف بها السيّد مقتدى أولئك الناس مبررة؛ كونهم من الأوساط الشعبية الفقيرة، والكثير منهم غير متعلمين.. ولكن ما قولكم بطبقة سياسية تحكم العراق، وتتأبط الشهادات المزورة، وتنعم بالمصفحات والدولار، والتومان، والليرة، والحلي والحلل، لكن لا واحد منهم مشرّمها إنْ لم يكن معظمهم مشرومون بالولادة...؟

سادسًا: عندما قرأت عن مجريات المعركة المحتدمة بين الطبقة السياسية العراقية في هذا المجال بالذات، تمثّل في ذهني أمران:

الأول: إنَّ الأنظمة العربية التي توصف بأنها أنظمة ممانعة لتطبيع علاقاتها مع نظام الحكم في العراق، قد تجد في هذا الجدل مبررًا يتيح لها التملص من حضور المؤتمر، وتذهب المليارات المخصصة له سدى.

الثاني: تذكرت تصرف عبد السّلام عارف - رئيس جمهورية العراق-، بعد انقلاب 8 شباط 1963 الخادش للذوق والحياء، يوم خطب في حشد من الجنود، أعتقد في النشوة من أعمال البصرة، وكان أحد الجنود يقف ليس بعيدًا عنه، وتراوده نفسه الأمّارة بالترفيع للحصول على خيط من الرئيس..!، فكان كلما بدأ الرئيس بجملة ليبدأ بها خطابه قاطعه الجندي بهتاف بحياته من قبيل: يعيش الرئيس المؤمن يا يعيش، يا يعيش... فـ (زهك) الرئيس، وترك الميكرفون وانحنى يبحث عن (حجارة)، قذف بها على الجندي، وهو يصيح عليه مهتاجًا: كلب ابن الكلب دخلينا ناكل (...).

سابعًا: شارفت الدورة البرلمانية لمجلس النواب العراقي على انقضائها والطبقة السياسية في العراق في حالة عرّ وجرّ مستدامة .. مَن يكون رئيس الحكومة، وما صلاحيات رئيس مجلس السياسات الذي لن يرى النور ما دام علاوي على قيد الحياة "حتى يبقى حسرة بنفسه وربما يحين وقت تأسيسه مع خليفته على عرش أبيها مدام سارة علاوي.."، ومَن هو نائب رئيس الوزراء، ومَن هو وزير الدفاع..؟ ومَن هو الذي يرأس وفد العراق في مؤتمر القمة العربية ..؟، وهل يشتري النواب لأنفسهم مصفحات أم مدرعات ..؟، وهل بقي زاغور لم يتم تجريبه لزيادة الملايين لجيوب جيوش الطبقة السياسيّة في العراق..؟

الوضع العالمي المتأزم لا يشغل فخامات العراق، والوضع الإقليمي الذي يوشك على الانفجار لا يشغل فخامات العراق، والوضع الداخلي الأمني والمعاشي والاقتصادي والخدمي الخرب لا يشغل ساسة العراق، المهم.. مَن منهم يكون رئيسًا لمؤتمر القمة، وهي ليست أكثر من واحدة من تلك القمم التي أبدع النوّاب في وصفها أيّما إبداع..!

لو سألوني حلًا لمعضلة مَن يمثل العراق لرئاسة القمة لاقترحت عليهم واحدًا من حلّين:

-إما أنْ يستعيروا عبد السّلام عارف لفترة انعقاد المؤتمر ليرأس هيئة الفخامات، وتناط به مهام رئيس مؤتمر القمة، على أنْ يضعوا قرب قدميه تنكة جلمود لمن يفتح منهم فاه.

-أو أنْ يبعثوا بطائرة خاصّة إلى إيطاليا على جناح السرعة ليصنع لهم الطليان كرسيًا يكفي لسبع مؤخرات، وينصبونه على منصّة رئاسة المؤتمر، ويعلقون فوقه قطعة مكتوبًا عليها "وأمرهم شورى بينهم"، ويكلف أثخنهم مؤخرة بمهمة تنظيم الدور بالكلام "مو يحچون سوا"، والمخالف يقول له: انضبط فخامتك.

أما عن الجانب الأخلاقي لنظام الحكم فقد لخصه السيد محمود المشهداني الرئيس السابق لمجلس النواب والمرشح لرئاسته حاليا من قبل كتلة عزم عن "السنّه"، بدقة ووضوح يحسد عليهما عندما قال حرفيا في لقاء متلفز على إحدى الفضائيات حول مواصفات رئيس الوزراء الذي يمكن قبوله والتصويت لصالحه من قبلهم فقال: "يمعود أحنا اشعلينا نزيه، فاسد، كفوء، فاشل، تكنوقراط، معمم، وسخ، نظيف مالنا شغل... احنا ينطونا مالاتنا وهاي هيه، ومالاتنا مبينات: 6 مناصب وزارية، و9 مناصب هيئات، و60 درجة مدير عام..، واللي ينطينا 61 نكَله هلا بيك...!" ، فإذن المعيار الوحيد هو "المالات" التي يتم تصريفها في بورصة الفساد إلى كومشنات وعقود ورواتب فضائيين، وتقاسم الاغتيالات والتغييب ضد المواطنين، واجتراح كل الموبقات، وصولًا لتقاسم النفوذ على الملاهي وصالات القمار..، هذا هو هاجس ساسة العراق لا بناء ولا مظلومية ولا تهميش، والاختيار لا يكون على اساس الجدارة والنزاهة بل لمن يدفع اكثر لشراء المنصب أو الأكثر قدرة على ملئ خروج المتنفذين ممن رشحوه ..

في هذه الحالة لا تقل لي الدستور أو القانون أو المحكمة الاتحادية؛ بل انظر إلى سلوك الحاكمين والطبقة السياسيّة، ومن خلاله قل لي: هل أنَّ نظام الحكم في ميزوبوتاميا المعاصرة محدد المعالم.. أم مختلف عليه ويلزمه شهادة إثبات نسب..؟

احفظوها عني...

سمعت أنَّ نائب رئيس الجمهورية قدّم طلبًا مرتين لمقابلة رئيس الوزراء، ولحد الآن ما طالع الجواب.. هو لو مقدم على إجازة سوق چان طلعت..

***

د. موسى فرج

 

مع اختتام مجموعة البريكس بلس الاقتصادية قمتها التي استمرت ثلاثة أيام في مدينة قازان الروسية يوم الخميس الماضي، من الصعب المبالغة في تقدير الإمكانات المتنامية للمجموعة لتغيير الحوار العالمي حول الحوكمة الجيوسياسية والتنمية الاقتصادية، وحتى إعادة توزيع السلطة.

لقد تضاعف عدد أعضاء مجموعة البريكس تقريبًا في العام الماضي، حيث اصطفت عشرات الدول من الجنوب العالمي للانضمام. أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الرئيس الحالي للمجموعة، يوم الخميس أن نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب جديد يتشكل أمام أعيننا.

بالنسبة لروسيا على وجه الخصوص، يمثل هذا الاجتماع وسيلة بديلة للتأثير الدبلوماسي ومن الصمود الاقتصادي بعد تجميد علاقاتها مع الغرب تحت وابل مكثف من العقوبات. والواقع أن الاجتماع في قازان جعل عناصر رئيسية من أجندة روسيا الخارجية تبدو وكأنها طبيعية تقريبا.

ولكن هذا يوضح أيضاً محدودية قدرة موسكو في التأثير على توجهات المجموعة. فقد رفضت أغلب دول مجموعة البريكس بهدوء الانضمام إلى أي إدانة حادة للغرب، أو دعم أي جهد شامل لبناء بديل كامل النطاق للنظام العالمي القائم.

وتضم مجموعة البريكس حاليا تسعة أعضاء - البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى أعضاء جدد هم مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة. وحضر قمة قازان ستة وثلاثون زعيما عالميا، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وأجرى معظمهم محادثات جانبية حميمة مع السيد بوتن وغيره من المشاركين.

وأصدرت الكتلة بيانا توافقيا من 43 صفحة، أطلق عليه اسم إعلان قازان، والذي حدد مطالب لإصلاح المؤسسات العالمية الرئيسية، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين التي تتألف من الدول الغنية والنامية الرائدة.

ولكن ما يثير قلق أنصار النظام الحالي الذي يقوده الغرب هو أن هذا القرار يندد بشدة بـ"التأثيرات التخريبية" التي تخلفها "العقوبات غير القانونية" على الاقتصاد العالمي. كما يضع القرار ما قد يُنظَر إليه على الأقل باعتباره بداية لهيكل بديل للتمويل والتجارة بين أعضاء المجموعة والشركاء من شأنه أن يتجنب استخدام الدولار الأميركي. كما ينص القرار على إنشاء بنك للتنمية لتوفير التمويل للتنمية الاقتصادية على أسس أكثر عدالة مما هو متاح في النظام المالي الحالي.

يقول دميتري سوسلوف، الخبير في العلاقات الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو: "إن ما يدفع نمو مجموعة البريكس هو أولاً، عدم رضا العديد من البلدان عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. لقد سئم الناس من عملية تسيس الدولار الأميركي، وهناك شعور عام بأن النظام الأميركي مصمم خصيصا لخدمة المصالح الغربية في المقام الأول".

ويضيف أن مجموعة البريكس تُعَد أداة لتمكين التغيير نحو نظام يجسد "التعددية القطبية دون هيمنة". ورغم أن الدول العشرين أو أكثر التي تسعى إلى الانضمام إلى المجموعة متنوعة للغاية ــ وفي بعض الحالات هم أعداء بالمعنى الحرفي  للكلمة ــ فيما يتصل بقضايا الحوكمة العالمية، إلا أنه يصر على أنها متفقة في الرأي.

بالنسبة للسيد بوتن، فإن الفائدة المباشرة والأكثر وضوحا من قمة قازان هي أنها قدمت دليلا مقنعا على أنه على الرغم من الجهود المتضافرة من الغرب، فإن روسيا ليست معزولة - وهي رسالة لم تغب عن وسائل الإعلام الغربية. توفر دول مجموعة البريكس والجنوب العالمي بالفعل شريان حياة اقتصادي لروسيا المتضررة من العقوبات، من خلال شراء الطاقة وتزويدها بمجموعة من السلع التي لم يعد من الممكن الحصول عليها مباشرة من الغرب.

ولكن ما ترغب روسيا وإيران التي تعاني من العقوبات، وبدرجة أقل الصين، في رؤيته هو التحرك السريع نحو أنظمة دفع وشبكات مصرفية بديلة محصنة تماماً ضد العقوبات. ومن الممكن أن تتوج مثل هذه الخطة بتطوير عملة مجموعة البريكس القادرة على المنافسة الكاملة مع الدولار الأميركي واليورو كوسيلة للدفع وتراكم المدخرات. وهي مهمة شاقة، ولا تهم كثيراً الأعضاء الكبار في المجموعة مثل الهند والبرازيل.

ومع ذلك، يبدو أن أغلب بلدان الجنوب والشرق مستعدة لاستخدام العملات الوطنية وغيرها من وسائل الدفع التي تتجنب الدولار، كما تقول إيرينا ياريجينا، الخبيرة المصرفية في معهد موسكو الحكومي الدولي للأبحاث الاستراتيجية، وهي جامعة مرتبطة بوزارة الخارجية الروسية. وتقول إن المعاملات بالدولار بين البلدان المرتبطة بمجموعة البريكس انخفضت إلى 38% فقط من الإجمالي في السنوات الأخيرة.

قبل الاجتماعات الرئيسية، تم توزيع بطاقات "بريكس للدفع" محملة بمبلغ 500 روبل (5.20 دولار) على الزوار في منتدى أعمال البريكس في موسكو. تصف وسائل الإعلام المصرية والجنوب أفريقية البطاقات كإيماءة ترويجية رمزية بدلاً من الإشارة إلى وجود نظام حي. ومع ذلك، فإن ذلك يذكر بمبادرة أخرى - لربط أنظمة الدفع المحلية - والتي لم تحقق الزخم المطلوب، وفقاً لتقرير حديث لمجلة فوربس روسيا.

كما تلاشت المناقشات حول سلة العملات المشتركة لمجموعة البريكس، ويرجع ذلك في الأساس إلى اعتبار ذلك أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، أشار بيان مجموعة البريكس + إلى استكشاف "أدوات ومنصات للدفع"، والتي قد تشمل إما سلة أو على الأرجح عملات رقمية للبنوك المركزية بالعملات المحلية.

في الآونة الأخيرة، كان التركيز الرئيسي على "البريكس للتجسير" القائم على تقنية السجل الموزع كوسيلة لتمكين معاملات العملة المحلية، وربما مع العملات الرقمية للبنوك المركزية. إن استخدام كلمة تجسير هو إشارة إلى تجسير العملات الرقمية وهو نظام الدفع عبر الحدود الذي طورته بعض دول مجموعة البريكس، والذي وصل إلى مرحلة المنتج النهائي القابل للتطبيق. والجدير بالذكر أن المجموعة في طور إتاحة كود تجسير العملات، مما قد يسهل على أعضاء مجموعة البريكس تبنيه. وعلى عكس البريكس للدفع، فإن تجسير العملات الرقمية عبارة عن بنية أساسية للدفع في الخلفية ترتبط بأنظمة مصرفية قائمة.

ولكن في الأمد القريب، يتلخص الهدف في استخدام تسوية العملة المحلية كجزء من شبكة البنوك المراسلة القائمة. وقد أكد على ذلك البيان المشترك الرسمي لمجموعة البريكس بلس.

كما تضمن البيان فقرة حول دراسة "البنية الأساسية لإيداع وتسوية الأوراق المالية في دول البريكس" والتي من شأنها أن تكون بديلاً للبنى الأساسية الغربية مثل مركز دبي للسلع المتعددة، ويوروكلير، وكليرستريم. وقد تم طرح هذه الفكرة في السابق في ورقة روسية تم تداولها قبل الاجتماعات. وذكرت بلومبرج أن البعض ينظر إلى هذه الفكرة باعتبارها مبادرة من روسيا وإيران، في حين أن أعضاء آخرين في مجموعة البريكس قد يكون لديهم رغبة أقل في ذلك.

على كل يذكر المراقبون بان البريكس لاتزال بعيدة من تهديد النظام المالي السائد، وأنظمة الدفع المهيمن عليها من أمريكا والغرب حتى الآن، ولكن في غضون الخمس -العشر سنوات القادمة فان هذا التحدي سيكون جديا.

***

علي حمدان

عقد منتدى «أصيلة» بالمغرب (من 20 إلى 21 أكتوبر 2024)، ندوته «الحركات الدِّينيّة والحقل السّياسيّ: أيُّ مصير»؟ وهي واحدة مِن ثلاث ندوات، في موسمه الخامس والأربعين. تُقام النَّدوات عادة في جامعة «المعتمد بن عباد المفتوحة» بأصيلة. شارك فيها سياسيون، ومهتمون بتاريخ الإسلام السّياسيّ، مِن بلدان شتى، وفي الغالب كلٌّ قدم تجربة بلاده.

فقد اختلفت تحولات الجماعات الإسلاميّة مِن بلاد إلى أخرى، منها سُلمت لها الإدارة وفشلت، فتراجعت عن شعارها «الإسلام هو الحلّ»، وما عادت تنادي به حتّى همساً، ومنها مكنتها الظّروف، ولو أحسنت الأداء، لرفعتها النَّاس، كما رفعت جنوب أفريقيا مانديلا (ت: 2018)، لكنَّ «فاقد الشَّيء لا يعطيه»، فصارت مهيمنة بأجنحتها المسلحة، ولو قطع حبلها السّري بالخارج، لانتهت بطرفة عين، لأنّها لم تُقدم شيئاً، بل صار وجودها كارثةً على النَّاس.

نشأ الإسلام السّياسيّ مخالفاً للزمن، فالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، أنهت عصر الإمبراطوريات، المعتمدة كونيّة الدّين، وبدأ عصر الدّولة الوطنية، فلإحياء الخلافة ظهر الحزب الدِّينيّ عابراً الدَّولة، والمخالفة الثّانيّة للزمن، أنَّ هذا الحِزب الدِّيني ليس لديه جديدٌ، القديم هو جديده، وما «الحاكميّة»، بعنوانها السّنيّ، و«ولاية الفقيه» بعنوانها الشّيعيّ، إلا لاستقدام الماضيّ تعسفاً، فالقوانين المعاصرة تُعد وضعية، وبالتالي كافرة، وعليه اعتبروا «العلمانيَّة» كافرة، يشمل ذلك رجال دين ومؤمنين، ممَن لا يرى شرعية الدَّولة الدِّينية.

طرحت النّدوة تداعيات «الرّبيع العربيّ»، وتلقفه مِن قِبل الجماعات الدِّينيَّة، فشكلت أحزابها بألفاظ لا تقر بمعانيها، وقد أجاد معروف الرُّصافي (ت: 1945) القول مبكراً: «لا يخدعنك هِتاف القوم بالوطنِ/ فالقومُ بالسرِّ غيرَ القومِ بالعلن/إحبولة الدِّين ركَّت مِن تقادِمها/ فاعتاض عنها الوراء أُحبولة الوطنِ» (الدِّيوان، الدِّين والوطن). بعد أن جُربت الجماعات السّلطة، صارت وجهاً لوجه مع المعضلات الاقتصادية والسّياسيّة، فمنيت بالانتكاس، ومَن حصل على أغلب المقاعد، صار يتمنى الأربعة، ومنها ما إن استلم السُّلطة، أسرع إلى الأسلمة بتطبيقاته.

لا تستطيع الجماعات الدينيّة الاستمرار دون الأسلمة، هذا ما طُرح في النَّدوة أيضاً، لافتاً الأنظار إلى التَّعبير السّياسي المغلف بالشّعور الدّينيّ، فبعد فقدان التّمكن، صاروا إلى كتابة الحيطان، واستخدام الأجهزة لإثارة المشاعر، على سبيل الدَّعوة، في المحلات العامة، ووسائط النَّقل، وكلُّها وسائل للأسلمة.

لم يكن هذا النّشاط بريئاً مِن محاولة إثبات الوجود، والعودة إلى تجديد الصّحوة الدّينية، التي انحسرت عن مدن اعتبرتها عَقْر دارها، مثلما الحال في الثَّمانينيات. أخذت تنفذ هذه المظاهر بإدارة حزبيّة، فمَن يعترض يُشار إليه بعداوة الدّين، على أنّ الإسلام لا وجود له إلا عبر خطابهم.

لا أحد يستطيع الدّفاع عن جماعات الإسلام السياسيّ الأولى، فالتنظيمات الإرهابيَّة اليوم أفرعها، وتجهيل المجتمع غايتها، فقد حرصت، منذ نشأتها، على إدارة التّعليم بكوادرها، وضخه بالتكفير والكراهية، وربط العِلم بالدّين، كربط الدّين بالسّياسة، فأظهروا «الاعجاز العلمي»، وهو في حقيقة الأمر أسلمة للعلم، وعلمنة للدين، بينما للدين مجاله وللعلم مجال، والخلط بينهما يُعد ضرراً على الاثنين، كلّ هذه الأفكار وغيرها طُرحت في ندوة أصيلة.

كان راعي «أصيلة»، الوزير محمد بن عيسى، يحثُ على الحديث عن المستقبل، فالغالب مِن المداخلات كان ماضوياً، وقد نعطي الحقّ للمتحدثين، لأن الزمن عند الأحزاب الدينية بعد ألف عام، هو قبل ألف عام نفسه، كذلك الحقّ لراعي المنتدى، إذا كان ما نبه إليه كعب بن زُهير (ت: 26هج) واقعاً في المجالات كافة: «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/ أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا»(ابن عبد ربّه، العقد الفريد)، لكنَّ بما يخص تطبيقات الإسلام السّياسيّ، وحاكميته المعلنة عند جماعة، والمخفية لدى أخرى، نجد كعباً قد أصاب في ما ذهب إليه، عطفاً على معاكسة الأحزاب الدينية لاتجاه الزمن، في تأسيسها ودعوتها وتطبيقاتها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تقتضي تطورات الأحداث التي تطرأ على العلاقات بين الدول وقت اشتداد الأزمات، أن يلجأ أحد أطراف النزاع إلى تصعيد موقفه من أجل فرض فرض حلول أفضل في  رأيه. وبديهي أن يسعى هذا الطرف أو ذاك ممن يبصر في نفسه موقف القوة والتفوق أن تكون هذه الحلول بمثابة المرآة الصادقة للحفاظ على مصالحه، والضامن الأكيد للبقاء في موقف القوة، بل وأن تكون صمام الأمن المستقبلي لتجنب عودة نشأة مسببات الأزمة وتفادي تكرارها، وعلى رأس مظاهر هذا التصعيد،إعلان الحرب.

يحدثنا التاريخ أن قرار إعلان الحرب بين الأمم لم يكن يستغرق زمنا، فلا يتجاوز مثلا مدته حدود بحث كيفية تنفيذه في الميدان، كما لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الخطير بحاجة كبيرة لتوفير أسبابه المقنعة سواء كانت حقيقية أو واهية،وسواء كانت مؤكدة أو محل شك فيها، كما لم يكن اتخاذ القرار يتوخى تلمس حساسية الأوضاع السياسية المحيطة بقدر ما كان الأهم أن يكون العمل العسكري في حد ذاته موفيا لدواعيه كاملة ملحقا أشد الأضرار التي تحقق أهدافه سواء العقابية أو الانتقامية أو الردعية .. أو الاستعمارية، إنه منطق القوة الذي سادت همجيته زمنا وقضى على ملايين البشر.

أبت كل المواثيق الدولية التي صدرت على أنقاض ما قاسته البشرية من ويلات الحرب العالمية الثانية إلا أن تواكب تطور الفكر الإنساني وأن تكون عاكسة لتطلع شعوب العالم  نحو بناء حضارة تعترف بحق الأمم في التحرر وتؤكد حق الشعوب في العيش الكريم، وأن توثق هذه الحقوق فتفرض على كافة الأنظمة السياسية احترامها وتجبر كل الحكومات على التمسك بها سلوكا وفكرا وعقيدة .

اتجهت جهود كل الدول في عصرنا الحديث إلى تطوير قدراتها العسكرية وتجديده وتحديث أسلحتها حتى أصبحت الصناعة العسكرية نشاطا رئيسيا حيويا في منظومة النشاط الاقتصادي للكثيرمن الدول الصناعية الكبرى، وأصبحت العودة للسباق نحو التسلح ظاهرة مقلقة تهدد السلام العالمي وتناقض مبدأ نبذ العنف المسلح، والسؤال الحائر هنا، لماذا تجددت النزعة لامتلاك الدول المزيد من عناصر القوة المسلحة ؟ ولماذا ازدهرت تجارة السلاح عبر العالم ؟ ولماذا تسعى كل الدول إلى امتلاك أسلحة التفوق الاستراتيجية المدمرة ؟ الواقع لا يحمل دلائل النية الحسنة، ولا يشير الى المساعي الحميدة، حيث بات الميل إلى التهديد باستعمال القوة أعلى صوتا بل ويسبق الدعوات لترجيح الجهود السلمية واستغلال فضائل الحوار السياسي في تسوية الأزمات .

لا تولد الأزمات الدولية من فراغ،وهي قد تنشب نتيجة مشاكل مستجدة أو بسبب خلافات تاريخية بقيت عالقة زمنا كقنابل موقوتة، والسائد في العلاقات الدولية أن تجنح الدولة التي تستشعر أن حيفا قد أحاط بها أو ظلما قد أصابها إلى إفادة المجتمع الدولي كما هو مفترض بملابسات ما تعرضت له لحشد الرأي العام الدولي إلى جانبها ودعمه لها ضد خصومها وإنصافها لاسترجاع حقها ورفع الظلم عنها، وكثيرا ما تعلن هذه الدولة أنها تحتفظ بحقها " المشروع " للحفاظ على حرمة ترابها وسيادتها وكرامة شعبها بالوسائل الممكنة وفي الوقت الذي تراه مناسبا، إنه تلويح صريح باحتمال استعمال القوة المسلحة وفق مقولة " وقد أعذر من أنذر.."  والحاصل أنه على قدر ما يمكن أن تسوقه أي دولة من أسباب أو تقدم ما أمكنها أن تسوغه من مبررات لاستعمال القوة المسلحة فهو لا يكفي لحصولها على تأييد دولي بإعطائها كل الحق في إعلان الحرب لأن الأمر مهما كان يتعلق في النهاية بإراقة الدماء، وعليه فإذا كان المجتمع الدولي من جهة ينبذ العنف ويندد بسفك الدماء، فإنه من جهة أخرى لم يملك إزاء الكثير من القضايا الدولية أدوات الضغط الكافية من خلال الهيئات والمنظمات الدولية التي تمثل إرادته للامتثال لقراراته، بل أن صمت المجتمع الدولي كان دافعا لمضي بعض الأطراف في غيها مستفيدة من صعوبة تحقيق إجماع على إدانتها، وأصبح على عاتق الدولة المطالبة بحق لها أن تزود خطابها السياسي بالمنطق الذي يبررلجوءها للعمل العسكري ويعززه وذلك حتى لا تقع تحت طائلة الاستنكار والتجريم أو أن تكون عرضة لعقوبات دولية قد لا تطيق تحمل تبعاتها وهي في أدني مستوى لها، فالمنطق يقتضي أن تفيد الدولة المجتمع الدولي بكل الخطوات التي اتخذتها لحصر الخلاف في أضيق الحدود، وأن تستعرض على المستوى الدولي كل الجهودها التي بذلتها من أجل احتوائه وأن تنشر بيانات بتحركاتها الايجابية في اتجاه الحل السلمي له، وأن تؤكد صحة مواقفها على مستوى علاقاتها الدولية في شكلها الثنائي والمتعدد الأطراف وجعلها رسائل غير مباشرة للخصوم فيكون من المنطقي والمفهوم أنه الأمر نفسه بالنسبة للشركاء السياسيين يضخم بكل منطقية حجم الحلفاء من الدول .

يستمد المنطق السياسي أهميته في الجدل السياسي، كما يستمد قوته من مقدار الواقعية والموضوعية في التناول ومن مدى الحيادية في الموقف والنزاهة في التقدير،وكلها اعتبارات تفترض أن يكون من يحرص على اتباعها أن يكون على علم مسبق ومعرفة واسعة وإلمام كبير بكل جوانب المسألة، وهي إذا اجتمعت فإنها تكسب صاحبها مهارة استغلال المناسبة بجعلها فرصة لاستحضار القيم التي تنفض الغبار عن الحقائق التاريخية التي ربما لا يصمد أمامها كل استنتاج متعجل، فتكون بذلك محل إعجاب بالمسعى وتشجيع للمبادرة ودعوة للاقتداء، إنها ميزة السداد في الرأي وفي إدارة الأزمات بالمنطق الذي يعزز الخيارات بما فيها الخيار العسكري الصعب الذي يناظر في صعوبته مفهوم الرباط الشرطي الخاص باعتماد ثقافة الخوف مثلا بزعم وجود خطر على البلد ومصلحة الوطن تعطي للأمن حق التدخل في السياسة الحكومية، فثمة مواقف هي التاريخ، وثمة مواقف في وجه التاريخ حاضرة، وسياسات تنتج المزيد من المنطق الحضاري وتراعي خصوصيات الأمم وتتحاشى منطق التسوية الحضارية للأزمات، وهناك سياسات تأخذ صفة الشاهد في المأساة، ومن المنطق السياسي الاعتراف بأنه حيث لا توجد إيديولوجيا مسبقة على الواقع، فإنه لا واقع بلا إيديولوجيا، وعليه يمكن أن يخفي الصراع العسكري الظاهر خلافا إيديولوجيا عميقا يحتاج فيه كل طرف إلى ما يعزز مرئيته بمنطق يجعل موقفه أوضح في الحجة وأبين في المنع، إذ يعتبر الموقف بصفة عامة علامة فارقة في الزمن من المفروض بداهة أنها لا تحتكم إلا للمبادئ، ويبدو أن بين شكل الموقف وطبيعة المبدأ علاقة جدلية واضحة، فعلى قدر سمو ورفعة المبدأ يكون نبل الموقف والعكس صحيح فحقارة الموقف من دناءة المبدأ.. وبين الاعتماد على المبدأ الذي يعبر في حقيقته عن نوع العقيدة من جهة، وبين تجسيد الموقف عمليا بشكل كلي أو جزئي من جهة أخرى تكمن أهمية تحديد لغة الخطاب الذي من المفروض أن يتضمن ما يؤكد أو ينفي أمرا محددا بشأن موقف سابق أو لاحق حول قضية معينة، ويحتاج العمل العسكري إلى تأييد سياسي يكسبه الشرعية ويحشد الدعم الشعبي الضروري حوله، ويأتي مثل هذا الدور في صلب منطق يبرره ويتم التسويق له في الخطاب السياسي على النحو الذي يعززه، وهنا يثور التساؤل مجددا عن ما مقدار الصحة التي يمكن أن تصيب كبد الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالحديث الحائر بين العسكريين عن العلاقة الموجودة بين صرامة لغة المواقف ومناورات لغة السياسة؟.

قد تدفع الظروف المحلية أو الدولية إلى انحراف الخطاب السياسي غصبا أو طوعا عن مقصده النبيل بأن يبتعد عن غايته السامية وذلك إما بالتمويه على الصحيح من الرأي، أو بالتعتيم على عمليات تصفية الحسابات، أو أن يزيغ مضمونه البصر بالأوهام وتضيع معانيه البصيرة بالآمال الزائفة والوعود الكاذبة من أجل تحقيق أغراض خاصة أو لمراعاة مصالح ضيقة، وحينها نكون في مواجهة معالم نموذج التيه السياسي الذي لا يسمح باختصار لأي كان اقتحام مناطقه المظلمة، وهو نموذج يؤدي حتما إلى وقوع الخطأ في العمل السياسي ويؤدي تبعا لذلك إلى تناسل الأخطاء وإلى الوقوع في دائرة الشك حيث الممكن يصبح فنا يبرر النفاق في الخطاب تماما كما يبرر الإيمان بالموقف فتضيع بذلك بوصلة المنطق السياسي فيحرم العمل العسكري من فضائل تعزيزه .

***

صبحة بغورة

ـ الختام اللاارضوي وزوال الغرب:

 هذا ماكان مقدرا للسياقات التفاعلية التاريخانيه المجتمعية وهي سائرة نحو اللاارضوية ان تعرفه مع بدء العملية التحولية الانتقالية الكبرى،لا من الارضوية مع انتهاء امدها وصلاحيتها منذ انبثاق الالة، حيث من الحاسم التفريق بين رؤية التوهم بخصوص المجتمعات ونمطيتها الازدواجية، والمراحل الكبرى "اليدوية" الاولى الارضوية، و "الالية " اللاارضوية المتاخرة غير المدركة، بانتظار اسقاط استمرارالهيمنه الايهامية الارضوية التي تجمل المرحلتين تحت مسمى ونوعية واحده احادية، فينظر الى التحول الالي، ويتم التعامل معه باعتباره ماقبلة وصنوه ومن نوعه في الجوهر، الى ان تتحقق الانتقالة العقلية المتعدية للقصورية التكوينيه العقلية، وتحل السردية والمروية اللاارضوية المطابقة للانتقالية الالية، مكان التوهمية الكبرى كما تتمثل في الرواية الارضوية الموروثة عما مضى وما قد صار موضوعيا خارج الحياة والتاريخ.

 وليس مايشار له كما واضح من طبيعته بالامر المتاح بسهولة ويسر كما يمكن ان نتوقع، فالمطلوب اليوم مجتمعيا رؤيويا يقارب، او هو من نوع الانتقال من منظور ومفهوم " الارض المسطحه" الى "الارض الكروية التي تدور حول الشمس وحول نفسها"، ولنتخيل ساعتها وبناء عليه مانحن بصدده، او نتصور الانتقال من طور"الصيد واللقاط"، الى " التجمع + انتاج الغذاء" قبل تبلور الاخير، ومايفصل بينهما من تفاعلية غير محدده ولامكتملة، يمكن نسبتها لنمطية بعينها، سوى كونها انتقال غير متبلور بين محطتين، ولنتخيل للتقريب لو ان الوعي البشري قد ظل "صيديا لقاطيا" بعد تبلور المجتمعية في ارض سومر جنوب ارض الرافدين، وهو الحاصل اليوم وبعد انبجاس الاله اوربيا، حيث عمت الرؤية اليدوية بمحركات واليات العنصر الالي المستجد والمضاعف للاليات المجتمعية. موجدا حالة من التناقضية الكبرى، بين المجتمعية بصيغتها الغالبة المطموسة تاريخيا يدويا ونوع التفاعل واجمالي التعامل معها لحين اقتراب لحظة التفارق الاقصى بين وسيلة الانتاج وصيرورتها الاعلى، ومايطابق طبيعتها وفعلها مابين الجسد والعقل.

 مع اللحظة المشار اليها، وساعة بلوغها، لابد من توقع تحشد كل ممكنات التوهمية الكبرى عند لحظة تازمها الاقصى، وذهابها الانتحاري لتكريس ماقد فاته الواقع والزمن نهائيا، وهاهو الشرق الاوسط موقع اللاارضوية والمجتمعية البدئية، ومنبت رؤيتها الكونية النبوية يتحول مجددا لساحة الاختبار الاخير الدرامي الدموي، الاكثر انطواء على حزمة موضوعات الانقلابيه الكبرى التحوليةالمجتمعية، قبل انهيار الغرب، وفي المقدمه امريكا، وتحول اسرائيل الى ماساة كبرى، وشرذمه بلا اي اساس، فعلهاالوحيد القتل وازالة الاخر، والمساعدة على سحق قيم الغرب المدعاة بلا اساس، في وقت اللاكيانيه، وبحثها المستحيل عنها في غير زمنها، وسط انتفاء اي صنف من اصناف الدول غير الكونية التوحيدية البشرية، بمعنى اننا اليوم على اعتاب لحظة انهيارالتوهميه الغربيه تحت طائلة محاولة ابقائها فاعلة بلا اساس، بقوة الابادة للاخر، الامر الذي لن يلبث ان تنتفي ممكنات استمراره، مع انقلاب وسائل الارجحية الطارئة التكنولوجية الحالية، بينما تلوح في الافق اشارات الذهاب الاولى الى اللااارضوية الثانيه "العلّية"، فلا يعود الصراع احاديا يخوضه طرف واحد ضد الاخرين وضد ذاته المنتهية الصلاحية.

 ليس صدفة ولا من باب الخرافه الاسطورية مرة اخرى، ان جريمه امريكا / اسرائيل الزائلة قريبا، ومعها الغرب تتواقت بذات العام مع صدور الكلمه الاولى الدالة على حضور اللاارضوية (كتاب العراق)، ايذانا بتحول المعركة للمرة الاولى الى اصطراع عالمين وجبهتين، احداهما مهووسه بما يمكن تسميته جنون اكراه التاريخ والسير عكسه، واخرى بدات تنبثق اليوم بعد الاف السنين من انتظار حضورها على مر التاريخ ... اسرائيل انتهت كطليعه انصبابية، في ارض الابراهيمه، مفبركة مرهونة لغرب صار هو بذاته منتهيا، ومايحدث هو مقدمات ماساوية كبرى انقلابيه، موافقه للحقيقة والقانون المغفل الحاكم للتطور التاريخي المجتمعي، حيث الانتقال الانقلابي الاعظم في نهاية المطاف، من المجتمعية الحاجاتيه الجسدية الارضوية الى اللاارضوية العقليه.

***

عبد الامير الركابي

.......................

 (1) " هنالك احساس قوي بفرادة امريكا ونموذجيتها تعززه المشاعر الدينيه التي تثيرها عبارة " مدينة على جبل" في نفوس من يحسبون ان النص يخاطبهم كمسيحيين وكامريكيين في ان واحد. ويرى غير مؤرخ ان فكرة الوحدانية الامريكيه، التي لها تعبير علماني معاصرهو " الاستثناء الامريكي" او "الاختبار الامريكي"، ظهرت للمرة الاولى في خطاب القاه الطهراني جون وينثروب وذكر فيه عبارة "مدينة على جبل" مستنهضا الذين ابحروا معه من انكلتر نحو الارض الجديده" طارق متري/ مدينة على جيل؟ عن الدين والسياسة في امريكا/ دار النهار ـ بيروت/ صص 13 ـ 14

(2) يراجع/ اسياد العالم الجدد/ جون بلجر/ دار الكتاب العربي/ بيروت ـ لبنان

(3) (كتاب العراق) عبدالامير الركابي / دارالانتشار العربي / بيروت/ اصدار عام 2024 .

(4) الفكرة في الوجود الامريكي سابقة على التشكل والوجود المادي وهي وهي مايجعلها قائمه، مجسدة بحالة التدين الاوسع بين الامريكيين مقارنه باي شعب في العالم اليوم "وعلى امتداد الثمانينات من القرن العشرين سعى معهد دراسة الدين الامريكي لاحصائها (الديانات المبتكرة والتقليدية)، وفي تقرير له نشر عام 1988 في موسوعة الاديان الامريكيه اشار الى وجود1586 جماعه دينيه في الولايات المتحدة 700 منها "غير تقليديه"، بمعنى انه يتعذر تصنيفها مذاهب داخل الاديان العالمية التاريخيه المعروفه." طارق متر ي/ مصدر مذكور سابقا ص32.

(5)  من "مابعد الامبراطورية: دراسة في تفكك النظام الامريكي" لامانويل تود: دار الساقي/ ترجمة محمد زكريا اسماعيل/ الى/ " امريكا التوتاليتاريه: الولايات المتحدة والعالم: الى اين؟" / ايضا دار الساقي ـ ترجمة خليل احمد خليل/ يتوالى البحث في منتهيات التوهمية الرساليه الامريكيه، دلالة على انقضاء ممكنات استمراريتها.

(6)  الفيلسوف إيمانويل تود يتنبأ بهزيمة الغرب كما تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي: يراجع الرابط:

https://www.aljazeera.net/culture/2024/10/21/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D9%86%D8%A8%D8%A3

بقلم: عائشة زاراكول

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل وجود أوروبا الحديثة، كان هناك عالم سياسي كبير ومترابط وثري بالتبادل العلمي والفني

***

إن العملية التي أدت إلى ظهور المركزية الأوروبية في العلوم الاجتماعية والتاريخ يمكن مقارنتها إلى حد ما بحماقات الشباب. يجد الأطفال الصغار صعوبة في تصديق أن والديهم كانوا موجودين قبل ولادتهم. غالبًا ما يعتقد المراهقون أنهم أول من يخوض التجارب التي يمرون بها وهم في طريقهم إلى مرحلة البلوغ. عادة ما يفكر الشباب في الأجيال السابقة على أنها مملة وقديمة الطراز، ويعتبرون أنفسهم مميزين ومبتكرين بشكل فريد. ويتخيلون أنهم سيبقون كذلك إلى الأبد، وكأن الزمن سيتوقف عن الحركة من بعدهم.

ومع ذلك، فإن جزءًا من النضوج هو الخروج تدريجيًا من هذه السذاجة النرجسية. مع تقدمنا في السن، نبدأ في إدراك أن الآخرين الذين سبقونا مروا بتجارب كثيرة تشبه تجاربنا، حتى لو كانوا يتمتعون بأزياء مختلفة ويفتقرون إلى تقنيات معينة. ثم تتكرر الدورة مع الجيل القادم. ولعله ليس من المستغرب بشكل خاص أن علومنا الاجتماعية، التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ــ أي "شباب" الهيمنة الأوروبية/الغربية ــ كانت لديها أيضاً سذاجة مماثلة بشأن تاريخ العالم. كانت أوروبا/الغرب هي الأكثر أهمية في تلك اللحظة، لذا لا بد أن الأمر كان كذلك دائماً. ولعلها علامة على أننا نقترب الآن من سنوات شفق هذه الهيمنة، حيث أصبحت الانتقادات (والانتقادات الذاتية) للمركزية الأوروبية شائعة جدًا في معظم العلوم الاجتماعية لدرجة أنها أصبحت مبتذلة.

ولكن على الرغم من أنه كان من السهل توجيه انتقادات للمركزية الأوروبية ضد العلوم الاجتماعية ــ وهي ثمرة سهلة المنال إن وجدت ــ فقد ثبت أن إيجاد حلول لها أمر أكثر صعوبة. هناك دائما الخطر المتمثل في أننا، في محاولاتنا للهروب من المركزية الأوروبية، نستبدل نوعا من التاريخ الأناني بنوع آخر. ومن السذاجة أيضًا الاعتقاد بأن الأوروبيين وحدهم هم من ينتجون أو أنتجوا روايات تاريخية متمحورة حول الذات. إن تاريخ العالم الذي يتمركز حول الصين أو مركزية روسيا ليس حلاً، فهو لن يؤدي إلا إلى تكرار الدورة.أو الشىء نفسه.

كيف نفعل ذلك؟

وفي العلاقات الدولية أيضاً، حتى وقت قريب، كان الطلاب يتعلمون أنه لا يوجد نظام دولي (وبالتالي لا توجد علاقات دولية). حتى القرن السابع عشر، إلى أن أنشأ الأوروبيون نظامًا إقليميًا عبر اتفاق صلح وستفاليا *عام 1648 ثم قاموا بتوسيع ذلك حول العالم. وكان من المفترض أن تكون بقية دول العالم منعزلة، عالقة في صوامعها الإقليمية، وغير مهتمة بالعالم الأوسع، إلى أن ربطتها الجهات الفاعلة الأوروبية بأوروبا أولاً، ثم ببعضها البعض.

في مثل هذه الروايات، يتم تعريف "النظام الدولي" عادة على أنه يشير إلى نظام القواعد والمعايير والمؤسسات التي تحكم العلاقات بين الدول والجهات الفاعلة الدولية الأخرى. وتشمل المبادئ والقواعد التي يقوم عليها النظام الدولي الحديث السيادة والسلامة الإقليمية وحقوق الإنسان وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتسوية السلمية للنزاعات والتعددية وسيادة القانون. تعتبر اتفاقية وستفاليا نقطة الأصل بسبب طرحها المفترض لمبدأ عدم التدخل.

هناك الكثير من مواد العلاقات الدولية في التاريخ خارج أوروبا وقبل الحداثة

لقد تعرضت "الأسطورة الويستفالية" في العلاقات الدولية لانتقادات كبيرة في السنوات الأخيرة، ولكن بالنظر إلى الطريقة التقليدية التي يتم بها تعريف النظام الدولي، فليس من المستغرب بشكل خاص أن يؤكد الخبراء أنه لم تكن هناك أنظمة دولية مماثلة قبل نظامنا الحديث (على الرغم من أنه ومن المشكوك فيه أيضًا مدة وجود مثل هذا النظام حتى في الحداثة). تنبع المشكلة من حقيقة أن مصطلحاتنا تستحوذ على بعض سمات السياسة العالمية التي لم تكن موجودة إلا في الحداثة (على سبيل المثال، مفهوم حقوق الإنسان، أو المنظمات الدولية، أو حتى السلامة الإقليمية) وتدمجها في التعريف مع سمات أخرى يمكن القول إنها كانت موجودة لفترة أطول (على سبيل المثال، السيادة أو آليات التسوية السلمية للنزاعات). وحتى مصطلح النظام الدولي مضلل لأنه يفترض الدول القومية، وهي سمة متأخرة نسبيا في السياسة الإنسانية.

ولكن إذا خففنا من الافتراض القائل بأن الأنظمة التي أنشأتها الدول القومية هي وحدها التي تستحق الدراسة، فسنجد أن هناك الكثير من مواد العلاقات الدولية في التاريخ خارج أوروبا وقبل الحداثة التي يمكننا البححث والتدقيق  فيها. ولهذا السبب أفضّل الحديث عن "الأنظمة العالمية" بدلاً من "الأنظمة الدولية"، التي تُعرف بأنها القواعد والتفاهمات والمؤسسات (التي صنعها الإنسان) والتي تحكم (وترسم) العلاقات بين الجهات الفاعلة الأساسية في السياسة العالمية (ولكن تلك الجهات الفاعلة يمكن أن تتغير بمرور الوقت: الدول القومية، والبيوت الأرستقراطية، ودول المدن، وما إلى ذلك). يتمتع "النظام العالمي" أيضًا بطموح عالمي في جوهره وهو موسع في رؤيته.

عندما نفكر في الأمر بهذه الطريقة، ليس من الصعب أن نرى أنه كانت هناك بالتأكيد أنظمة عالمية قبل وستفاليا والقرن السابع عشر: كان «الشرق» أيضًا موطنًا للنظام العالمي (والأنظمة العالمي). ومن خلال النظر إلى الأنظمة العالمية الآسيوية التي جاءت قبل الهيمنة الأوروبية، يمكننا أن نتعلم الكثير.

كان هناك نظام عالمي "جنكيزى" أنشأه جنكيز (جنكيز) خان وأعضاء بيته (القرنين الثالث عشر والرابع عشر)، يليه النظام العالمي "ما بعد الجنكيز" للتيموريين والمينغ الأوائل(القرنين الرابع عشر والخامس عشر) ) وأخيرًا، عالم العولمة الذي تحتل موقعه الأساسي ثلاث إمبراطوريات ما بعد التيمورية (وبالتالي الجنكيزية) (القرنين الخامس عشر والسابع عشر): العثمانيون، والصفويون، والمغول (جنبًا إلى جنب مع آل هابسبورغ). وكانت هذه الأنظمة أيضًا مرتبطة ببعضها البعض، تمامًا كما يرتبط نظامنا المعاصر بالنظام الدولي في القرن التاسع عشر، حيث كانت هناك استمرارية في معاييرها المشتركة. في كل فترة من هذه الفترات، كان العالم يحكم وينظم من قبل بيوت عظيمة بررت سيادتها على غرار الجنكيزيين.

تعني السيادة "الجنكيزية" ما يلي: في القرن الثالث عشر، أعاد جنكيز خان تقديم نوع من الملكية المقدسة القوية إلى أوراسيا، والتي نربطها أكثر بالعصور القديمة، ولكنها اختفت من جزء كبير من هذا الفضاء بعد ظهور الديانات التوحيدية والمعتقدات المتعالية. الأنظمة التي تكبح القوة الأرضية للحكام السياسيين من خلال الإشارة إلى قانون أخلاقي قوي ينطبق على جميع البشر. وبما أن هذه الديانات اكتسبت المزيد من القوة منذ العصور القديمة المتأخرة فصاعدًا، فقد تضاءلت قوة الملكية بشكل كبير في جميع أنحاء أوراسيا. لم يعد بإمكان الملوك سن القوانين حيث كان عليهم تقاسم سلطتهم مع الشريعة الدينية المكتوبة ومفسريها. كسر جنكيز خان والمغول هذا النمط من الملكية المقيدة (وقد حاول آخرون القيام بذلك من قبل أيضًا، ولكن لم ينجحوا أبدًا). إن صفة جنكيز أكثر ملاءمة من المغول لوصف العوالم التي تم إنشاؤها على هذا النحو لأن هذه الأنظمة كانت أوامر من بيوت عظيمة (سلالات) وليس من الأمم.

مثل هؤلاء الحكام المطلقين طاردوا دائمًا الإمبراطورية العالمية وانتهى بهم الأمر إلى تنظيم العالم

ادعى جنكيز خان سلطة تشريعية تتجاوز سلطة الجهات الدينية (وغيرها). لقد جعل من نفسه مُشرعًا، لكنه لم يدّعي أنه نبي. كما أنه لم يدعي أنه ينطق فقط بالقوانين الإلهية. لقد وضع القانون وما زال يتوقع من الناس أن يطيعوه، حتى لو كان لديهم بالفعل قواعدهم وقوانينهم الدينية الخاصة. وتتطلب مثل هذه المركزية للسلطة العليا في شخص واحد شرعية قوية. إن الادعاء بامتلاك مثل هذه السلطة الهائلة لا يمكن تبريره إلا من خلال تفويض بالسيادة العالمية على العالم، وهو ما يؤكده ويتجلى في الغزو العالمي والإمبراطورية العالمية. ولأن جنكيز خان نجح في إنشاء إمبراطورية عالمية تقريبًا، فقد نشر أيضًا هذا الفهم الخاص للسيادة عبر أوراسيا.

قصة جنكيز خان باعتباره فاتحًا للعالم ومشرعًا، استمرت لعدة قرون (كما يتضح من مثال تيمور/تيمورلنك لاحقًا)، مما أضفى الشرعية على نوع معين من الحكم السياسي في جميع أنحاء هذا الفضاء وعزز أيدي الحكام الذين يطمحون إلى مركزية السلطة السياسة حتى في الأماكن التي تشكل فيها السلطة الدينية (مثل الفقهاء الإسلاميين) تحديًا للملكية المطلقة. وكان هؤلاء الحكام يطاردون دائمًا الإمبراطورية العالمية وينتهي بهم الأمر إلى تنظيم العالم (في كثير من الأحيان بعنف ووحشية ولكن أيضًا بشكل منتج في بعض الأحيان) في منافستهم على هذه العباءة. تشكل الأنظمة العالمية الآسيوية بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر تاريخاً مهماً من الأنظمة العالمية القوية والمؤثرة خارج الهيمنة الأوروبية. وبقدر ما تشكل المركزية السياسية عنصرا أساسيا في السيادة الحديثة، فقد يقال إن الفهم والممارسات الآسيوية المماثلة للسيادة تسبق المسار الأوروبي وربما أثرت عليه.

الأول كان "النظام العالمي" الأصلي الذي أنشأه جنكيز خان (وبيته) في القرن الثالث عشر. إذا كان هناك بالفعل "شرق" متميز عن "الغرب"، فيمكن وضع إحدى نقاط الانفصال هنا. بعد كل شيء، كانت إمبراطورية جنكيز خان في المقام الأول إمبراطورية «آسيوية»، تمتد من المحيط الهادئ في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب. تفاعلت الجهات الفاعلة في هذا النظام (وداخله) مع شبه القارة الهندية في جنوبها والأنظمة الإقليمية الأوروبية/البحر الأبيض المتوسط في غربها (وأثرت على التطورات فيها والعكس صحيح). ولكن، في أغلب الأحيان، لم يتم دمج الأنظمة السياسية في تلك المناطق في هذا النظام واحتفظت بمنطقها الخاص في السلطة، والشرعية، والحرب، وما إلى ذلك.

في هذا النظام "الآسيوي"، تقاسم الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الجغرافية التي نسميها الآن "روسيا" و"الصين" و"إيران" و"آسيا الوسطى" - وهي في الأساس معظم قارة آسيا - نفس السيادة لأول مرة ثم بعد ذلك. كانت تحكمها/تهيمن عليها سلالات (القبيلة الذهبية/جوشيد، ويوان، والإيلخانات، والجاغاتاي) التي ورثت بشكل مباشر القواعد الجنكيزية، أي طموحات السيادة العالمية وشرعية الأسرة الحاكمة على أساس الغزو العالمي، ودرجات عالية من المركزية السياسية حول السلطة العليا. سلطة الخان الأعظم. كما كانت مرتبطة ببعضها البعض بشكل كبير من خلال الطرق البرية والبحرية التي امتدت عبر القارة بأكملها، وكذلك المحيط الهندي.

إن وجود مثل هذه الطرق التجارية – “طرق الحرير” – سبق وجود الإمبراطورية الجنكيزية. ومع ذلك، بعد فتوحاتهم، عزز المغول هذه الروابط من خلال النظام البريدي (يام) وقاموا بتجانس نقاط الاتصال في جميع أنحاء وجودهم في مناطق النفوذ الرئيسية داخل القارة. وهكذا، كانت أوراسيا في أواخر القرن الثالث عشر متصلة كما كانت في أي وقت مضى (وأكثر من بعض الفترات اللاحقة). وبالتالي، كان باستطاعة المستكشفين المشهورين في القرن الرابع عشر - على سبيل المثال، ماركو بولو أو ابن بطوطة - أن يشقوا طريقهم من أوروبا أو شمال أفريقيا إلى الصين بسهولة نسبية، لا يكاد يسبب أي ضجة أكثر من بعض الفضول بين المضيفين (الذين اعتادوا على المسافرين على طول هذه الطرق) ولا يواجهون سوى طلب معين للحصول على معلومات محدثة حول المدن والقادة الذين يواجهونهم على طول الطريق.

كان انتشار الموت الأسود من الشرق في منتصف القرن الرابع عشر بمثابة نهاية لهذا الوضع الراهن.

ومع ذلك، سافر آخرون في الاتجاه المعاكس من الصين إلى غرب آسيا، وبدأوا حياة جديدة  في أوروبا أو ما يسمى الآن إيران، في ظل حكام جدد.أحد الجوانب المنسية في هذا النظام هو تسهيل التبادل المعرفي بجميع أنواعه، وعلى الأخص بين "إيران" و"الصين": في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، كان من الممكن أن يولد البيروقراطيون والعلماء والفنانون والحرفيون والمهندسون على جانب من آسيا وينهون حياتهم المهنية على الجانب الآخر، مع ما يترتب على ذلك من آثار عميقة على المعايير الفنية والثقافية والعلمية لكلا المجتمعين. وأفضل مثال (ولكن ليس هذا المثال فقط) لهذا التبادل الثقافي هو التحول الأساسي للفن الإسلامي منذ القرن الثالث عشر فصاعداً تحت التأثيرات الصينية، مما أدى إلى إنتاج الخزف الأزرق والأبيض، من بين أشياء أخرى، الذي يرتبط الآن بشكل وثيق بالشرق الأوسط. يُطلق على هذه العملية أحيانًا اسم "التبادل الجنكيزي" من قبل مؤرخي الإمبراطورية المغولية، على غرار التبادل الكولومبي من حيث تأثيره التاريخي العالمي.

بعد السيطرة على معظم آسيا تحت نفس السيادة لأكثر من نصف قرن - وهو ما لن يكون بالأمر الهين حتى اليوم، ناهيك عن القرن الثالث عشر - انقسمت الإمبراطورية/الخانية العالمية التي يحكمها بيت جنكيز خان العظيم إلى أربع خانات أصغر. ، كل منها يقع في مناطق مُنحت في الأصل لفروع مختلفة من نسله ليحكمها. مرت الخانات المتنافسة ذات يوم بالاستقلال الذاتي، بفترة وجيزة من القتال العنيف لاستعادة عباءة السيادة العالمية، لكن لم يتمكن أي منها من السيطرة على الآخرين. وفي نهاية المطاف، استقروا في نوع من توازن "توازن القوى" في أوائل القرن الرابع عشر. كانت هذه الفترة جيدة بشكل خاص للتجارة البرية عبر أوراسيا، مما أدى إلى تمديد الفترة المعروفة باسم السلام المنغولي.

ومع ذلك، كان انتشار الموت الأسود من الشرق (أو آسيا الوسطى) إلى الغرب في منتصف القرن الرابع عشر بمثابة نهاية لهذا الوضع الراهن، حيث انهارت جميع الخانات باستثناء واحدة. استمرت القبيلة الذهبية في حكم السهوب في شمال غرب آسيا (روسيا الحالية)، لكن خانات جاغاتاي (آسيا الوسطى) وإلخانات (الشرق الأوسط) تفككت، وأفسحت المجال أخيرًا في نهاية القرن الرابع عشر لنشأة الإمبراطورية التيمورية. تم الإطاحة بسلالة مينغ من بلاد ما وراء النهر ويوان في عام 1366. وهكذا أنهى أول نظام عالمي محتمل نظمته السيادة الجنكيزية.

جلب النظام العالمي التالي الذي خلف نظام جنكيز خان والخانات التي خلفته المزيد من التنوع والتنافس بين قوتين عظميين. ومن الثلث الأخير من القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر، تنافست بيوت تيمورلنك الكبرى (تيمورلنك) وتشو يوانزانغ (هونغ وو)، أي أسرة مينغ، من الجانبين على خلافة البيت العظيم لجنكيز خان الآسيوي.

وطالما تنافس المينغ والتيموريون، فقد نظموا العالم بطريقة ما بعد الجنكيزية. لقد كانوا في مرحلة ما بعد الجنكيز، حيث لم يكن التيموريون ولا المينغ مرتبطين بشكل مباشر ببيت جنكيز خان، لكنهم ما زالوا متأثرين بشدة بترتيب أسلافهم. وكانت لديهم وجهات نظر مختلفة بشأن الجنكيزيين، ولكن كما هي الحال في عالمنا الحديث، لا يستطيع المرء الهروب من الإرث المؤسسي بمجرد رفض مبدعيه.

من السهل اكتشاف تأثير ما بعد الجنكيز في حالة التيموريين، حيث بذل تيمور، وهو نفسه حاكم تركي مغولي، قصارى جهده لإقامة أية روابط. تزوج من أميرة جنكيزية. لقد حكم من خلال خان دمية من السلالة الجنكية، دون أن يأخذ اللقب لنفسه (كان يُدعى أمير نفسه). ومع ذلك، فقد اتبع بوعي مثال جنكيز خان في كل شيء ومات وهو في طريقه لمحاولة غزو الصين ، تمامًا مثل جنكيز خان. لقد ركز السلطة في القالب الجنكيزى، ساعيًا إلى غزو العالم والاعتراف به. حتى أنه وجد طريقة جديدة للتوفيق بين التوفيق بين السيادة الجنكية والإسلام من خلال لقب / sahibkıran صاحب القرآن، حيث كان علم الفلك/علم التنجيم بمثابة جسر بين الطرق الجنكيزية والإسلامية لرؤية العالم.

على النقيض من ذلك، رفض المينغ، الذين كانوا من الهان، ظاهريًا أي تأثيرات جنكيزية بعد أن أطاحوا بسلالة يوان. ومع ذلك، فإن انشغال أباطرة مينغ الأوائل هونغ وو ويونغله بالاعتراف العالمي أيضًا مستمد بشكل واضح من المُثُل الجنكيزية، وبالتالي يمكن اعتباره ما بعد الجنكيزيين. في عام 1403، أمر إمبراطور مينغ ببناء 137 سفينة عابرة للمحيطات؛ وفي وقت لاحق أمر ببناء 1180 سفينة أخرى. وقد كلف تشنغ هي بالمسؤولية عن هذه الرحلات الاستكشافية التي وصلت إلى المحيط الهندي. لقد أدت طموحات الصين الحديثة في استعراض القوة إلى إعادة تقديم ما يسمى "رحلات كنز مينغ" إلى المخيلة الشعبية.

جلبت التجارة البرية سلع مينغ إلى غرب آسيا (التي باعتها بعد ذلك إلى الشرق الأوسط وأوروبا).

ومع ذلك، فإن ما يتم إغفاله غالبًا في المناقشات المعاصرة هو السياق الأكبر والسوابق التاريخية لهذه الرحلات. لم يكن المبعوثون البحريون سوى جزء من القصة - فقد أرسل يونغلي أيضًا مبعوثين بريين، بما في ذلك إلى هيرات، العاصمة التيمورية.  وحتى الخبراء في مجال العلاقات الدولية التاريخية المتنامية في الصين غالباً ما يتجاهلون الدرجة التي دفع بها هدف الاعتراف الخارجي أسرة مينغ المبكرة وكيف استمد هذا المثل الأعلى من أسلافهم اليوان (الجنكيزيين) وكيف تقاسمه المنافسون في آسيا الوسطى. إن قسماً كبيراً من الدراسات العلمية في مجال العلاقات الدولية، مع انحيازها لعالم القرن العشرين، ما زالت تتصور أن آسيا الداخلية كانت هامشية في السياسة العالمية في التاريخ. ولكن في القرن الخامس عشر، كانت مركزًا لعالم حكمه التيموريون من جهة والمينغ من جهة أخرى.

فشل تيمورلنك في غزو الصين واضطر في النهاية إلى القبول بشيء مثل الاعتراف المتبادل مع أسرة مينغ المبكرة. كانت هناك قارة من المنازل الصغيرة تربط بين المنازل الكبيرة لتيمور ويوان أو مينغ. وكان لدى البعض تطلعاتهم الخاصة في بناء الإمبراطورية العالمية على الطراز الجنكيزى، والبعض الآخر، مثل أسرة جوسون في كوريا، على سبيل المثال، عملت على الأقل مع فهم نفس التراث الجنكيزى. كانت الروابط المادية أيضًا جزءًا من تراث النظام العالمي الجنكيزي عبر آسيا. جلبت التجارة البرية سلع مينغ إلى غرب آسيا (التي باعتها بعد ذلك إلى الشرق الأوسط وأوروبا) والفضة إلى الشرق. كما قام كل من التيموريين والمينغ برعاية الأعمال الفنية والحرفية العظيمة في هذه الفترة.

قد يعترض البعض على أن الاتصال المباشر بين هذين البيتين العظيمين على جانبي آسيا كان نادرا، وبالتالي لم يكن كافيا لتشكيل نظام عالمي. لكن هناك تشابهًا بين نظام التيموريين والمينغ في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، من ناحية، والنظام الذي خلقه التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، من ناحية أخرى. وفي كلا النظامين، قلل أحد القطبين من أهمية إرث النظام العالمي السابق، أو حتى رفضه ظاهرياً، في حين اعتنقه الطرف الآخر. لكن كلاهما كانا نتاجًا لتجربة تاريخية مشتركة، وفي الواقع كان لديهما الكثير من القواسم المشتركة في كيفية رؤيتهما للعالم. وحتى عندما لم تتفاعل سلالتا تيمور ومينغ بشكل مباشر، فقد تنافستا مع بعضهما البعض بشكل رمزي، وبذلك عززتا النسيج المعياري للنظام العالمي في آسيا من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس عشر.

مثل نظام الحرب الباردة، لم يستمر التنافس التيموري-مينغ لفترة طويلة. في منتصف القرن الخامس عشر، ضربت المجاعة ونقص الأموال أوراسيا وأثارت أزمة هيكلية مع انخفاض تجارة الأراضي. كانت السلالة التيمورية في غرب آسيا هي الأكثر تضرراً بشكل خاص. فقد التيموريون السيطرة على أراضيهم. في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، تضاءل التأثير الجنكيزى على أسرة مينغ أيضًا وسيطرت الكونفوشيوسية الجديدة. قامت حركة الكونفوشيوسية الجديدة بتمكين البيروقراطيين والمسؤولين والحد من قوة وسلطة حكام مينغ وأوقفت المركزية. أصبح عالم مينغ أكثر انغلاقًا أو انعزالية. لقد تشرذم النظام العالمي "ثنائي القطب" الذي كانت تسوده السلالات التيمورية والمينغية قبل أن تتاح له فرصة الترسيخ والتحول إلى نظام أكثر مؤسسية.

الأرض الخصبة التالية لمشاريع النظام العالمي على أساس معايير السيادة الجنكيزية جاءت من الركن الجنوبي الغربي من آسيا. في القرن الخامس عشر، كانت المنطقة تحت سيطرة الإمبراطورية/الخانية التيمورية، واندمجت معايير السيادة الجنكيزية مع المفاهيم الفارسية الحالية للملكية، وتوقعات الألفية، وعلم التنجيم والعلوم الغامضة الأخرى، بالإضافة إلى الممارسات الشعبية للإسلام داخل هذه المنطقة. أدى هذا الاندماج بين الثقافات السياسية الجنكية والفارسية والإسلامية إلى ظهور ثلاثة منازل عظيمة على الأقل مع بعض مطالبات السيادة العالمية الأكثر طموحًا في التاريخ: العثمانيون، والصفويون، والمغول.

بحلول القرن السادس عشر، ادعت هذه البيوت الثلاثة الكبرى معًا السيادة على أكثر من ثلث سكان العالم. كما سيطروا على قلب الاقتصاد العالمي. على الرغم من تسميتها في كثير من الأحيان بالإمبراطوريات الإسلامية، إلا أن العثمانيين والصفويين والمغول كانوا يشتركون في أنهم أكثر من الإسلام (وفي بعض الأحيان يتعارضون مع الممارسات الإسلامية السابقة).  بعد تيمور، استند ادعاء العثمانيين والصفويين والمغول بالعظمة إلى ادعاء حكام هذه البيوت بأنهم sahibkıran، وهم ملوك عالميون تتميز بعلامات من السماء، يعيشون في نهاية الأيام، يحققون توقعات الألفية. دعم علم الفلك وعلوم السحر والتنجيم الأخرى مشاريع السيادة العالمية لهذه الإمبراطوريات العالمية المحتملة. في القرن السادس عشر، كان "حكام الألفية" في جنوب غرب آسيا في مرحلة ما بعد الجنكيز والتيموريين هم في المقام الأول الذين أمروا بعالم شديد العولمة، وليس الأوروبيين بعد.

يميل علماء العلاقات الدولية إلى رؤية القرن السادس عشر باعتباره يحمل بذور نظام عالمي قائم على الهيمنة الأوروبية. لا يمكن إنكار أن القرن السادس عشر كان فترة نمو وتوسع بالنسبة لأوروبا (وخاصة بالنسبة لأسبانيا هابسبورغ)، ولكن أوروبا كانت تنمو من موقع يعاني من حرمان أكبر من آسيا. إذا لم نقرأ نهاية القصة مرة أخرى في السرد التاريخي،  فلم يكن من المتوقع بأي حال من الأحوال أن تهيمن الجهات الفاعلة الأوروبية على العالم في القرن السادس عشر. تعامل جميع تواريخ هذه الفترة تقريبًا في العلاقات الدولية العلاقات الشرقية لعائلة هابسبورغ على أنها غير ذات أهمية نسبيًا، ولكن هذا أيضًا يعد إسقاطًا لمعايير فترة لاحقة، حتى القرن السادس عشر. خاصة في الثلثين الأولين من القرن السادس عشر، كان المنافس الرئيسي لآل هابسبورغ هم العثمانيون، الذين كانوا هم أنفسهم منخرطين في منافسة متزامنة مع الصفويين، الذين كان المغول يحاولون الانفصال عن مدارهم. لا شك أن البيوت الأوروبية الأصغر حجماً كانت لديها تطلعات، ولكن وقتها لم يحن بعد، وكان عليها في البداية أن تعتمد على التحالفات الشرقية فضلاً عن التجارة مع آسيا حتى تتمكن من السير على مسار صاعد.

لا توجد منطقة "مقدر لها" أن تنظم العالم؛ ولا تعتمد النتائج على المسار فحسب، بل إنها مشروطة ومتغيرة أيضًا

كل هذا يعني أننا يجب أن نتخلص من السرد التقليدي الكامن في خلفية أسطورة الأصل الويستفالي للعلاقات الدولية، أي سرد النظام الأوروبي الصاعد في القرن السادس عشر مع المتطفلين غير الأوروبيين الذين ينظرون إليه، مثل العثمانيين على أطرافها (أو الروس). الصورة الحقيقية هي عكس ذلك تماما: كان لعالم القرن السادس عشر نواة من إمبراطوريات ما بعد التيمورية في (جنوب) غرب آسيا، تحركها منافسة شديدة تركز على السيادة العالمية، وكان اللاعبون الأوروبيون مثل آل هابسبورغ يحاولون تحدي هيمنة هذا المركز (في حين ارتبط به لاعبون أوروبيون آخرون من خلال الشبكات التجارية والتحالفات الأخرى). لا يزال يتعين على المينغ أن يتعاملوا مع المحاربين المغول على حدودهم بدافع من نفس الأفكار. وفي الشمال الغربي، تم إعادة تشكيل موسكو على غرار القبيلة الذهبية. لا تزال شعوب آسيا الداخلية المختلفة تعمل إلى حد كبير وفقًا لمعايير السيادة الجنكيزية، حتى لو ظلت توقعات المركزية والإمبراطورية طموحة فقط. كان عالم القرن السادس عشر لا يزال منظمًا بقوة من الشرق. ومن المهم أن ندرك هذا لأنه يعطل تفكيرنا المأمول حول حتمية الهيمنة الأوروبية. لا توجد منطقة "مُنظمة" لتنظيم العالم؛ النتائج لا تعتمد على المسار فحسب، بل إنها حساسة ومتغيرة أيضًا.

لم يتم إيقاف توسع هذا النظام العالمي الشرقي في مساراته، ليس بسبب القدر أو العظمة الأوروبية، بل بسبب التطورات غير المتوقعة في أواخر القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، وهي فترة مضطربة سياسيًا في جميع أنحاء أوراسيا. يطلق بعض المؤرخين على هذه الفترة اسم "الأزمة العامة في القرن السابع عشر"، وهي فترة من التمردات الطويلة والحروب الأهلية والتدهور الديموغرافي في جميع أنحاء نصف الكرة الشمالي. قدم المؤرخون تفسيرات مختلفة للظروف الى أدت إلى هذه الاضطرابات: يقترح البعض أسبابًا مالية (على سبيل المثال، التداعيات العالمية لـ "ثورة الأسعار" الإسبانية - التضخم - بسبب تدفق فائض الفضة من العالم الجديد)، بينما يشير آخرون إلى الانكماش الديموغرافي. ويربط آخرون الآن فوضى هذه الفترة بالعصر الجليدي الصغير: لحظة الذروة لفترة شديدة البرودة في نصف الكرة الشمالي والتي امتدت من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر. ربما كانت الفترات الطويلة من درجات الحرارة الباردة والعواصف مسؤولة بالفعل عن جميع العوامل الأخرى التي نربطها بهذه الفترة: فشل المحاصيل، وتعطيل التجارة البرية، والانهيار الديموغرافي في المناطق النائية، والتمردات، والحروب الأهلية.

وأياً كان السبب، فإن الفوضى المستمرة في القرن السابع عشر كانت سبباً في تفتت النظام العالمي في القرن السادس عشر على نحو لا رجعة فيه. كانت هذه نقطة تحول بالنسبة للشرق، لأنه في حين أن بعض معايير السيادة الجنكيزية ظلت قائمة في القرن السابع عشر وحفزت بعض الحكام (مثل نادر شاه من بلاد فارس)، إلا أنه لم يكن من الممكن إنشاء "أنظمة عالمية" جديدة بنجاح بعد القرن السابع عشر، والتي كان قد  تم تنظيمها حول هذه المعايير في القرن التاسع عشر. التصور العالمي الذي نشأ في القرن التاسع عشر بأن آسيا كانت في حالة تدهور لا رجعة فيه لعدة قرون، على الرغم من أن معظم الدول الآسيوية والأوراسية قد تعافت مادياً من أزمات القرن السابع عشر، بل إنها، في بعض الحالات، استمرت في التوسع الإقليمي في العالم. القرن الثامن عشر (مثل روسيا والصين). وهذان التطوران مرتبطان ببعضهما البعض ـ فقدان "الأنظمة العالمية" الناشئة في الشرق من ناحية، وتصور الانحدار على الرغم من استقرار الدول الشرقية المستمر من ناحية أخرى.

إن إحدى أعظم فوائد تجاوز المركزية الأوروبية وبالتالي الحصول على المزيد من الأمثلة خارج التاريخ الأوروبي للتفكير في تحدياتنا الحالية هي أن مثل هذه الأمثلة توسع خيالنا فيما يتعلق بما هو ممكن. حتى وقت قريب، كان علماء العلاقات الدولية يتصورون أن الأنظمة الدولية لا تتغير كثيرا من حيث لبنات بنائها ــ وكان من المفترض أن عدد أو هوية القوى العظمى فقط هو الذي تغير. وحتى وقت قريب، لم تسمح العلاقات الدولية أيضًا باحتمال تفكك النظام الدولي الليبرالي أو استبداله بنظام غريب تمامًا (على غرار أطروحة “نهاية التاريخ” في التسعينيات). مثل هذه الاستنتاجات لا مفر منها إلى حد ما إذا نظرنا إلى عالم ما بعد القرن السابع عشر فقط. لكن تاريخ العالم يعلمنا دروسا مختلفة.

عندما ندرس مسار أنظمة العالم الشرقي، نرى أن الأزمات البنيوية تتخلل نهاية كل نظام (على الرغم من صعوبة تحديد السلسلة السببية الدقيقة). يبدو أن تجزئة كل نظام عالمي شرقي يرتبط على الأقل بـ "أزمة عامة" أثرت على مناطق واسعة من نصف الكرة الشمالي. لقد انقسم النظام العالمي الجنكيزي الأصلي في وقت كان فيه الطاعون ينتشر عبر آسيا (ثم أوروبا) وانتهى خلال فترة يطلق عليها بعض المؤرخين «أزمة القرن الرابع عشر»؛ لقد انقسم النظام العالمي في مرحلة ما بعد الجنكيز خلال فترة يسميها بعض المؤرخين «أزمة القرن الخامس عشر»، والتي يبدو أن آثارها ظهرت بشكل خاص في غرب آسيا وأوروبا.

استمرت فترة أزمة التشرذم في القرن السابع عشر لفترة أطول وكانت بمثابة نهاية لأنظمة العالم الشرقي

يتيح لنا الإدراك المتأخر لفترة طويلة أن نرى أن الاضطرابات السياسية خلال هذه الأزمات (وأثناء التفتت الذي أعقب ذلك للنظام القائم) لم تكن ناجمة في الواقع عن منافسات داخلية كبيرة محددة أو "انتقال السلطة". (أي الأشياء التي تثير قلق العلاقات الدولية أكثر من غيرها باعتبارها تآكلًا للنظام) ، بل الديناميكيات الهيكلية مثل تغير المناخ والأوبئة والتدهور الديموغرافي والمشاكل النقدية وما إلى ذلك: أي الأشياء التي لم تقلقها العلاقات الدولية على الإطلاق حتى وقت قريب. وخلافًا لافتراضات أدبيات العلاقات الدولية حول القوى العظمى، يشير هذا التاريخ إلى أن المنافسات بين البيوت الكبرى التي تشترك في نفس الفهم لـ "العظمة" عززت في الواقع النظام العالمي القائم (حتى عندما تحولت تلك المنافسات إلى العنف).

ويمكن تقديم ملاحظة مماثلة حول المنافسة بين القوى العظمى في القرن التاسع عشر أو الحرب الباردة. فالتنافس يشكل عنصراً أساسياً في النظام (مثله مثل التجارة والتعاون تقريباً)؛ غالبًا ما ينشأ تراجع النظام تقريبًا من مكان آخر. الملاحظة الأخيرة هي أن الأنظمة العالمية لم يتم استبدالها على الفور بعد التفتت؛ كانت هناك أوقات لم يكن فيها أنصار "النظام العالمي" (أو حتى لو كانوا حاضرين، لم يكن وجودهم محسوسا من قبل الجهات الفاعلة الأخرى). استمرت فترة أزمة التشرذم في القرن السابع عشر لفترة أطول، وربما كانت بالتالي بمثابة نهاية أنظمة العالم الشرقي.

ولكن من المؤسف أن هناك أسباباً كافية للشك في أننا قد نشهد فترة مماثلة من الاضطراب والفوضى في القرن الحادي والعشرين. إن جميع العوامل التي كانت مؤثرة في القرن السابع عشر ــ تغير المناخ، وعدم القدرة على التنبؤ الديموغرافي، والتقلبات الاقتصادية، والفوضى الداخلية ــ والتي صرفت انتباه منظمي العالم تن الحفاظ على النظام العالمي، أصبحت حاضرة أيضا اليوم.

يستند هذا المقال إلى فصل "ما هو الشرق؟" من كتاب المؤلف "قبل الغرب" (2022) الذي نشرته مطبعة جامعة كامبريدج.

(تمت)

***

..................

الكاتبة:عائشة زاراكول/: Ayşe Zarakol أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج، حيث تم تعيينها أيضًا كزميلة سياسية في كلية إيمانويل.  نشأت في إسطنبول بتركيا وانتقلت إلى الولايات المتحدة للالتحاق بكلية ميدلبري بولاية فيرمونت (بكالوريوس في العلوم السياسية والدراسات الكلاسيكية) حصلت على  شهاداتي  الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ويسكونسن - ماديسون. بعد التخرج، عملت كأستاذ مساعد في السياسة في جامعة واشنطن آند لي، فيرجينيا، حتى انتقلت إلى جامعة كامبريدج في عام 2013. تشمل كتبها "بعد الهزيمة: كيف تعلم الشرق التعايش مع الغرب" (2011)، و"قبل الغرب: صعود وسقوط الأنظمة العالمية الشرقية" (2022).

* صلحُ وستڤاليا أو سلامُ وستڤاليا ‏ هو اسمٌ عامٌّ يُطلقُ على معاهدتيْ السلامِ اللتيْنِ دارتِ المفاوضاتُ بشأنِهِما في كلٍّ منْ مدينتيْ أوسنابروكَ ومونسترَ في وستڤاليا، وتمَّ التوقيعُ عليهِما في 15 مايو/أيارَ لعامِ 1648م و24 أكتوبر/تشرينَ الأولِ 1648م وحُرّرّتا باللغةِ الفرنسيةِ. ويكيبيديا

رابط المقال على أيون:

https://aeon.co/essays/the-first-world-orders-were-not-european-they-came-from-asia

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم