صحيفة المثقف

الرواية نواة السرديات الكبرى .. علي بدرانموذجا

وهي طبقة حديثة لم تبزغ الا في العصور التي تطلق عليها الثقافة الغربية بالعصور الحديثة واعتقد ان الرواية هي مغامرة المثقفين بأمتياز لما تمتلكه من طاقة اخصابية وقدرة تحليلية ونقدية للوقائع.

علي بدر

 

علي بدر والخطاب الروائي .. مابعد الحداثة

شكلت الاعمال الروائية  لعلي بدر ظاهرة متفردة في السرديات العراقية الحديثة، فمنذ بابا سارنز 2001  وشتاء العائلة 2002 ومصابيح اورشليم 2003 ثم الوليمة  العارية 2004 وصخب ونساء وكاتب 2005 والركض وراء الذئاب 2007 حتى  اخر اعماله السردية ملوك الرمل 2009، جزء من تيار مابعد الحداثة ونصوصه الثقافية لـ هومي بابا وغياتري سيبفاك  والتي ركزت على الاصوات المهمشة والمقصية في الثقافات الطرفية، حيث تم جراء تحول جذري في السرديات الروائية من قص، حكي تقليدي الى نصوص ثقافية/ فكرية تعتمد (فيها على الوثائق، والصحف اليومية، والمنقولات والدراسات الاجتماعية والثقافية، أي ان الرواية ترتكز على اطروحة معينة، هذه الاطروحة هي التي تقود الاحداث حتى النهاية، فتشكل الاطروحة والافكار الهيكل العظمي، بينما العالم والحياة والواقع هو ما يكسوها من جسد نابض، حي هو الحياة بكلمة اخرى. فكل اطروحة يقابلها حدث معين من الحياة ما يظهر هو الحدث بينما تغيب الاطروحة والافكار والوثائق لانها تجريدات ومواد غير حسية بالمرة).

 

 حيث ان  خطاب مابعد الحداثة (يعد الرواية هي البديل الحقيقي عن المشروع البحثي، بكلمة اخرى هو البديل الحقيقي عن العلوم الانسانية وسوف تتحول العلوم الانسانية الى علوم سردية، ستجعل من السرد هو منهجها، وتأتي متعة الرواية من فن الاحتمال الذي يقصيه المنهج في العلوم الانسانية لصالح الحقيقة حيث يخضع البحث لجهاز اصطلاحي ونظري ومنهجي ينتزعه عن الواقع بينما مجموعة الاحتمالات الكائنة في السرد وتعددها هو الذي يمنح الرواية التشويق والمتعة، يتعامل مع الرواية بوصفها علماً عظيم يستند الى تعدد مسارات الواقع) فالتجربة الروائية لـ علي بدر مندمجة بالتفاصيل الصغيرة للحياة اليومية الواقعية حيث يقول: (انا اعمل مثل العبيد.. استيقظ فجراً مع العمال والصنايعية والحمالين والعتالين وعمال البناء ومصادري لاتقع في الروايات وكتب الادب وحدها وانما ابحث عن الوثائق والصحف القديمة وتدوين الحكايات من الاشخاص قبل موتهم والسفر من مكان الى مكان من اجل معلومة او مقابلة شخص او التحقق من موضوعة او قضية، واتابع بشكل لحظي مايدور بين السياسيين والمثقفين) ان هذا المشروع جزء من حقل  ثقافي يقوم على المراجعة والنقد وامتداد فاعل (لنخبة ثقافية عراقية ارادت منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خلق علم اجتماع متميز هو خليط رائع بين الماكيفرية الاميركية ونزعة محلية اقرب الى دراسات التابع في الهند، ولكن هذه الدراسات السوسيولوجية واجهت قمعاً شديد من قبل السلطة  السياسية البعثية واقصتها، بل هدمت كل هذا البناء الرصين). يقول علي بدر: (ان ما اردته انا هو قراءة الانسقة السوسيوثقافية وتأثيرها على المجتمع من خلال الرواية، فالعراق يمتاز يضعف الدولة كمؤسسة خادمة للافراد وصعودها كقوة قمعية هائلة ، غير ان هذه القوى القمعية الهائلة والتي كان لها قدرات غير محدودة تقريباً. لم تستطع تذويب ثقافات ما قبل الدولة كالعشيرة، والطائفية وانما على العكس منحتها مصلاً اخر من القوة).

 

السرديات الروائية

ارخت روائية (بابا سارتر) العام 2001 الظاهرة الوجودية في العراق ابان فترة الخمسينيات من القرن الماضي عبر عملية احيائية للفضاءات الثقافية التي سادت تلك الفترة، والتي كشفت احد القوانين الفاعلة في الثقافة العراقية بوصفها ثقافة استهلاكية. تستهلك الثقافات والمنتجات المعرفية الغربية من وجودية الى ماركسية الى قومية وقد شكلت المعالجة السردية للنص الروائي عبر سرد سيرة شخصية فيلسوف الصدرية وكشف الوعي الثقافي المزيف وتدوين الجغرافيا المكانية للحدث الروائي حيث ان الشخصية المحورية في النص هو عبدالرحمن امين شوكت سليل عائلة ارستقراطية. تجتمع فيها المتناقضات العراقية.

 

في حين عالجت روائية الوليمة المعارية 2004 اشكالية الصراع الثقافي في الاوساط البغدادية في نهايات القرن التاسع عشر حتى دخول الانكليز في فترة الحرب العالمية الاولى والتركيز على موضوع التصدع والانشقاق بين المثقفين العراقيين بين العلمانية والدولة الدينية. اما رواية شتاء العائلة 2002 فهي تعالج الواقع الاجتماعي البغدادي في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من خلال حكاية امرأة من الطبقة الاستقراطية التي انهارت منذ الخمسينيات والتي اختاره التخلي عن العالم الخارجي.

 

في حين تناولت رواية مصابيح اورشيلم 2003 اثر ادوار سعيد في النخبة العراقية منذ تسعينيات القرن الماضي عبر سرد السجالات والنقاشات في الصحف الاميركية بين ادوار سعيد وكنعان مكية. وهي تصور الحياة الثقافية العراقية. حيث يمثل علاء خليل الجيل العراقي المؤيد لكنعان مكية والمندمج في الثقافة الغربية. والذي يرسم صورة مسؤولية للغرب القادر على تخليص العراق من العنف والاستبداد والدكتاتورية والخراب الاقتصادي والفساد. النقيض له شخصية ايمن المقدسي جيل هزيمة 1948 ولد في العراق. لم يذهب الى حروب صدام. بل حصل على بعثة دراسية في جامعة كولومبيا. معادي للغرب في حين ركزت رواية (صخب ونساء) وكاتب مغمور على بداية تشكل الوعي للانتلجستيا  العراقية الحديثة. فضلاً عن ذلك تعيد  بناء فكرة الامة، الهويات، والصدام بين الجماعات التخيلية وتنتمي الرواية الى الدراسات والاعمال الثقافية مابعد الكولونيالية. في حين تتناول رواية الركض وراء الذئاب هروب المجموعات الماركسية العراقية، الى اثيوبيا خلال حقية المد الثوري البطل الاخر في الرواية هو الصحفي العراقي جبر سالم العراقي/ الاميركي والذي يعمل في مؤسسة اعلامية اميركية. حيث يحلل الروائي (مأزق الوهم الثوري) في حقبة السبعينيات ويشرح ازمة البطل والثورة والفكر.

 

ان هذه الرواية تقوم على شبكة من التساؤلات والمراجعية النقدية لافكار شغلت النخب العراقية. وتمثل هذه الرواية نص رثائي لهذه الافكاروالايديولوجيات الكبرى .

 

اما رواية (حارس التبغ) فهي تحكي قصة موسيقي يهودي عراقي كمال مدحت والذي قتل في بغداد العام 2006 وقد عثر على الجثة بعد اقل من شهر حيث خطف على يد جماعة مسلحة. وقد جاءت براعة الروائي في المادة تركيب هذه الشخصية حيث ان الموسيقار العراقي كمال مدحت هو يوسف صالح هاجر الى اسرائيل في العام 1950 أي بعد اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود ومصادرة املاكهم في اسرائيل تزوج من فريدة روبين ولكونه لا يستطيع العيش في اسرائيل هاجر الى ايران عن طريق موسكو باسم حيدر سليمان وتزوج من ابنة تاجر ايراني انتقل الى بغداد العام 1958 وقد شملت عمليات التهجير العام 1980 لكونه ايراني الاصل وفي طهران عاش لمدة عامين ثم توجه الى دمشق بجواز سفر مزور وكان قد انتحل شخصية زوج نادية العمري الذي مات. الرواية تعمل على موضوع الهويات المسلحة، حيث ان كمال مدحت. انجب اولاد يحملون الهويات الدينية العراقية ( يهودياً وسنياً وشيعياً ) عبر زيجاته الثلاثة والتي تمثل اصل الهويات في منطقة الشرق الاوسط. وهي هويات مستعارة في سياقات تاريخية مهيمنة. لذا فان البطل لم يستطع انتاج هوية مثالية صافية، اما رواية (ملوك الرمال 2009) فهي رواية عن الزمن والتاريخ وفلسفة العبث والحياة وتحتوي على تأملات انسانية ويأتي السرد الروائي على لسان الناجي الوحيد من افراد الجيش النظامي العراقي بعد مواجهة مع ملوك الرمال.

 

ان الروائي علي بدر يبتكر الوثيقة التاريخية ويعيد تركيب الحدث الروائي عبر عملية التلاعب الفني بالاحداث والافكار والاشخصيات  حيث ان رواية بدر تتحدث عن سير الافراد المقصين والمهمشين من السرديات الكبرى او السرديات الجماعية. حيث تقوم رواياته على اختراع التواريخ عبر مقتربات سردية متعددة فالرواية بالنسبة له (تقول مالا يقول التاريخ حيث ان هذه الشخصيات النكرة التي لا يهتم بها التاريخ ابد هي التي تلعب دوراً نقيضاً للرواية الرسمية).

 

ففي اعمالة الروائية يناقش مفهوم الثورة والجنس وكيف استطاعت السياقات السوسيولوجية والثقافية والمخصصة ان تتلاعب بهذه المفاهيم وتعيق تركيبها ويبين علي بدر ان باستطاعته الرواية ان تظهر السجل الثقافي والاخلاقي للمجتمع بصورة نقدية وهي قادرة على بعث الخصوبة العظيمة للمجتمعات ويرى ان الرواية العراقية لها اسهامات كمية وليست نوعية أي لم تسطع ان تشكل تيار وذلك لفقدانها  المشروع الروائي، فضلاً عن ذلك القفز على الاشكاليات التاريخية والسوسيولسانية للمجتمع والتي ادت الى انتاج رواية يسودها الاختلاط والتشوش والعجز عن بلوغ البنى المكونة للمجتمع.

 

ويرى علي بدر ان الرواية العربية ليست جذرية ولا مؤسسة لانها ما زالت حتى اليوم تعيش من دون ارادة منها في الهامشي والاطرافي نسبة للشعر، انها متأثرة بالرواية الغربية، ولا يشكل هذا التأثير علاقة ثقافية كوزموبوليتانية. بل ان الخطاب الروائي مزروق بمصل الخطاب الاستعلائي الغربي والتقليد الثقافي والشعور بالدونية. لم يستطع ان يهضم الرواية الافريقية والاسيوية والاميركية اللاتينية التي تجاوزت المؤثرات الغربية من دون ان يدركوا بطريقة ذكية ومحسوسة التطور اللامتجانس والمتنوع للشكل داخل الثقافة العالمية بشكل عام. وهكذا فقدت الرواية العربية بشكل عام والرواية العراقية بشكل خاص الرقعة الجغرافية الدفاعية القليلة التي يوفرها فلكلورها الخاص بها وثقافتها وأدبها وتاريخها وانشغلت بالاهوات وتدمير الزمن السردي والاستقطابات الشكلية الاخرى. وهي لست اشكال مبتكرة وانما مستهلكة في الثقافة الغربية، هذا الامر جعلها بعيدة عن الثقافات العالمية يعيده ويحدد علي بدر وظيفة السرد الروائي في تحليل المجتمع سوسيولوجيا وسلطة المؤلف تقوم على تدوين حركة المجتمع في لحظة تشكله وبالتالي ستكون الرواية البديل الامثل للعلوم الانسانية، والتاريخ والانتربولوجيا الثقافية ولكنها مكتوبة طبقاً الى قواعد السرد فالشكل الادبي مهم حينما يكون ملموس، وهذا الامتياز الذي تملكه الرواية في محاكمة الواقع وتمثيله لا يقع خارج العلاقات الاجتماعية والثقافية وانما يأتي مع تشابكه مع السياق الادبي والاجتماعي. ويعتمد علي بدر في مشروعه الروائي على تفكيك منظومة الثقافة العراقية بطريقتين الاولى: حاولت ان اجعل من السرد منهجا، ذلك لان الاحتمالية التي يتوفر عليها السرد اكثر واقعية من المنهج العلمي الذي يرتكز على المحددات والثوابت، السرد هو فن الاحتمال مثله مثل الحياة، وكان هدفي ان اقدم تخطيطاً اولياً للتجربة الثقافية في مجتمعاتنا عبر انجاز وصفي للروابط بين الثقافة المحلية في علاقاتها المباشرة والفورية مع التيارات الرائجة في الغرب.

 

ثانياً: اعتمد على النقد التقويضي، فرواية صخب ونساء وكاتب مغمور ظهرت من كتاب بندكت اندرسون عن الجماعات التخييلية... وقد الهمتني دراستها لنشأة الدولة الوطنية وتخطيط الحدود والقدرة التمكينية للدولة لممارسة سلطاتها عبر منع السفر، ولكن يتم الربط عبر منظومة الفهم من داخل المجتمع العراقي وليس عبر الانشاء المكتوب من منظور ناء او متعال، فانا احاول رسم حركة الافكار داخل التشكل الاجتماعي والسياسي والثقافي.. فمن غير المعقول ان تكون هنالك ممارسات ثقافية مثل الوجودية والبنيوية والافكار الفلسفية الاخرى ولم تترك اثراً على المجتمعات والعقول، وسأتابع هذا العمل مفترضاً بداهة ان الروابة يمكنها ان تتعامل مع التيارات الثقافية طباقياً ممثلة لا الثقافة وحدها انما المجتمع ايضاً، ان هذا الامر مهم لان التغييرات الثقافية لا تكون كاسحة الا في تأثيرها على منظومات الفهم اما الوضع الاجتماعي فيبقى على حاله، وهذا ما تريد الرواية عرضه، بعبارة اخرى: ان منظومات الفهم مشدودة الى التمثل الاجتماعي وبسبب هذه المنظومات يتحرك التمثل الاجتماعي، وقد اردت في رواياتي جميعها ان اضبط مقدار هذا التحرك، وابين كيف ان التطور الثقافي الفوقي لا يستند الى تطور اجتماعي او حضاري او تحتي بالتعبير الماركسي... وهكذا فالوجودية في رواية بابا سارتر كانت مقتلعة من السان جرمان ومزرعة في الصدرية.. والنتشوية في رواية الوليمة العارية مقتلعة من برلين ومزرعة في جسد  حسن باشا حيث كان يقطن الزهاوي، والسريالية في الطريق الى تل المطران مقتلعة من باريس ومزرعة في الموصــــــل... من دون ان يكون هنالك اساس حضاري او مادي يسندها... وهكذا نحن نعوم الى اليوم في الافكار... في حين اهملت الدولة الحديثة الشروط الحقيقية للمعيش... فحداثتنا تستند الى مثال عائم ومتراكب مع فوضى اقتصادية واجتماعية وسياسية.. وهذا ما نراه اليوم في العراق بأجلى صورة.. من جهة اخرى حاولت ان اضع اكتشاف الغرب ثقافياً في مداه ومدلولاته الاجتماعية.. ومن خلال وعي متعال يضبط اكثر اللحظات احتداماً في مجتمعاتنا الساكنة، اما الفنطازيا فقد كانت شكلاً متوافقاً مع واقع الثقافة في تلك المرحلة، لقد كانت الوجودية والوجوديون والسريالية والسرياليون مع القوميين والشيوعيين والاصوليين في الثقافة العراقية اكثر فنطازية من روايتي الفنطازية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1242 الاثنين 30/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم