صحيفة المثقف

السُّخْرِيَةُ وَالسُّخْرُ .. إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ! (4): دعبل يبيع رجالات عصره بالمزاد العلني

karem merzaألا فاشتروا منّي ملوكَ المخرّمِ ** أبعْ حسناً وابني هشام بدرهمِ

وأعطي رجاءً بعد ذاك زيـــادةً ****وأسمحْ بدينارٍ بــــغير تندّم

فإن ردّ من عيبٍ عليّ جميعهمْ **فليس يردُّ العيب يحيى بن أكثم

ويزيدهم ابن شكلة، الخليفة المغني، بعد الإعلان عن إفلاس خزينة الدولة !!:

يا معشر الأجناد لا تَقنطوا ** وارضَوْا بما كان ولا تسخطوا

فسوف تعطَون حُنَيْنِيّــــــة **** يلتذها الأمَـــــرد والأشمط

والمَعْبَدِيّـــــات لِقُوّادِكــــــم *****لا تَدخلُ الكِيس ولا تربطُ

وهكذا يَــــــرزق قُــــــوّادَه *******خليفةٌ مصحفُه البَرْبَط

 

1 - دعبل يبيع رجالات عصره بالمزاد العلني، ألا مَن يشتري منه تقرّباً لله ؟!! (بعد الموقف ومقتل الإمام الرضا، أي بعد 204 هـ)

ألا فاشتروا منّي ملوكَ المخرّمِ ** أبعْ حسناً وابني هشام بدرهمِ

وأعطي رجاءً بعد ذاك زيـــادةً **** وأسمحْ بدينارٍ بــــغير تندّم

فإن ردّ من عيبٍ عليّ جميعهمْ *** فليس يردُّ العيب يحيى بن أكثم (38)

دعبل الخزاعي أول شاعر ساخرعملاق في تاريخ الأدب العربي يبيع رجالات عصره الكبار في المزاد العلني،الوزير الحسن بن سهل (وقيل الحسن بن رجاء، ولّي ديوان الخراج في عهد المأمون)، وابني هشام علي وأحمد، وكانا مسؤولي أمن الدولة، ودينار بن عبد الله رئيس حرس الخلافة،، ورجاء بن أبي الضحاك أحد كبار الشخصيات في العصر العباسي، بعثه المأمون كمبعوث شخصي له للإمام الرضا كي يقنعه بقبول ولاية العهد،ويحيى بن أكثم قاضي القضاة الشهير،وكانوا ينزلون محلة المخرّم ببغداد، وهي أرقى محلاتها وأجملها وأثراها، وهم سلاطينها وملوكها،ويقول الحموي في معجم بلدانه محلة كانت ببغداد بين الرصافة ونهر المعلى، وسكنها من بعد سلاطين البويهيين والسلاجقة، وموقعها الآن من ساحة الكشافة حتى البلاط الملكي ..

الأبيات مبتكرة،غاية الروعة، جريئة جداً، سخرية لم يسبقه إليها أحد، بل هو مدرسة في السخر، سبق الأولين، وأعجز اللاحقين، لم يتهيب من خليفة عظيم، ولا وزير شهير، ولا والي قدير، ولا رجل أمن كبير، ولا قائد عسكري مهيب، ذكرنا ممن سخر هذا الشاعر الذي حمل خشبته فوق كتفه طيلة خمسين عاماً، يدوّر على من يصلبه عليها، ولم يجد !! - كما يقول هو - ويعني بـ (لم أجد)، أي لم يجد الرجال الأكفاء لملاحقته، والاقتصاص منه، وإسكات صوته وهو عاصر أعظم الخلفاء في التاريخ العربي والإسلامي، أجهد النقاد وكتاب تاريخ الأدب قديماً وحديثاً أنفسهم كي يظهروه بمظهر الهجّاء البغيض، ورموه بقبح اللسان، وخبث السريرة، وسوء الطبع بالرغم من أنّ مدحه لآل البيت وغيرهم يشغل أكثر من نصف شعره الذي وصل إلينا عبر القرون بعد أن تلف أو أُتلِف جلّه، ولم يبق إلا اليسير القليل، ومعظم الهجاء المزعوم سخر رفيع، وشتان بين الغرضين، ومنهم مَن يعلم، ولا يريد أنْ يعلّم !!!، وعلى العموم الخبيث بجبلته، و السيء بطبعه - كما يُقال - يجب أن يكون في جميع أحواله ومواقفه، وأيامه، وإلا فهو صاحب موقف من حكامه وسلاطين عصره، وأعوانهم، وسخر منهم إلى آخر يوم من حياته - وقد قاربت القرن - ولم يستطع أحد من الخلفاء وعلية القوم أن يشتري ذمته بالإغراءات المغرية جدّاً، وقد ركل الولاية مرتين بقدميه، مرّة في عهدهارون الرشيد (176 هـ)، ومرّة ثانية في زمن المأمون 201 هـ)، الأمر يستحق التأمل الكبير، لا الحكم السريع !!

نرجع للأبيات البليغة الذكية الفطنه، ففي البيت الثاني لم يرجُ أحداً للإغراء بالشراء،وما سمح بدينار، وهو قد طلب درهماً لبيعهم، وإنما تورية عن رجاء بن أبي الضحاك، ودينار بن عبد الله !! والبيت الثالث فيه سخرية قاسية ومريرة ضد قاضي قضاة عصره يحيى بن أكثم، فهو يريد أن يبيعه بعيبه تماماً، بل بكلّ عيوبه لأنه كما يعتقد أنّ عيبه غير قابل للرد والمساومة وكفى !! .

كما ترى هذا ليس هجاءً بقذف وشتم وسب، أو إظهار العيوب الخلقية، وإنما صورة كاريكترية مبتكرة، لم نألفها في العصور السابقة، وبأبيات ثلاثة فقط، بسيطة في لغتها وصياغتها، كي يحفظها الناس بسهولة، ويتادولونها فيما بينهم بسرعة، فتسير سير النار في الهشيم، لاريب أن تطور الحضارة العباسية، ولاسيما بغداد المتبغددة، واختلاط ناسها بأجناسها من عرب و ترك وفرس وصقالبة وأحباش وهنود ورومان وبيزنطينيين، كان له الدور الكبير والفعّال في صناعة هذا الفن الراقي النبيل، هؤلاء كلهم من رجال المأمون وخاصته، وأركان حكمه بعد 204 هـ، وليس من عامة الناس وعوّامهم، ممن لا حيلة لهم ولا قوة !!، وهذه القصيدة جاءت بعد قصيدة (يا أمة السوء...) الرائية التي ذكرناها في الحلقة السابقة .

2 - سخر دعبل وهجاؤه قبل مجيء المأمون إلى بغداد 204هـ، وقبل مقتل الإمام الرضا 203 هـ . ولم يمس الخلافة العباسية، بل ربما كان يدعهما، لأن الإمام الرضا توّلى ولاية عهدها، وهذه كانت حنكة، أم حكمة، أم لعبة، لك أن تقول ما تقول لامتصاص ثورات العلويين في معظم البلدان الإسلامية .

أ - قصائد بعد التائية الشهيرة201 هـ إذ سخر من ابن شكلة (إبراهيم بن المهدي)، ما بين 201 - 203 هـ وما بعد .

ب - وقصائد سخر وهجاء قبل التائية ما بين (198 - 200هـ)، صبّها غضباً على المطلب الخزاعي والي مصر ومن قبلها ولاية الموصل.، وكان عمر دعبل خمسين عاماً (148 - 198 هـ)، قبل هذا التاريخ لم نعثر على قصائد هجاء أو سخر يستوجب ذكرها !!!!

أ - قصائد بعد التائية الشهيرة201 هـ إذ سخر من ابن شكلة (إبراهيم بن المهدي)، ما بين 201 - 203 هـ وما بعد .

الخليفة المغني ابن شكلة تحت سياط الدعبل !!:

دعبل يسخر من ابن شكلة، إبراهيم بن المهدي، الخليفة غير الرسمي !! ما بين 201 هـ - 203 هـ، أي بعد أن أنشد الشاعر قصيدته التائية، (مدارس آيات)، والشاعر في هذه المرحلةوعمره أربعة وخمسون عاما، كان موالياً للخلافة المأمونية، وولي عهدها الإمام علي بن موسى الرضا، في حين كان يعتبر ابن شكلة (إبراهيم بن المهدي، فسخر منه لأسباب عدة ستأتي !!

دعنا نواصل الفكرة الدعبلية المأمونية، لآنها تمثل نقطة فاصلة ومهمة في تاريخنا العربي المنفتح على حرية الفكرمن جميع النواحي العقلية والعلمية والأدبية وحتى العقائدية والتسامح الديني، سأنقل لكم هذة الرواية من (الأغاني) أيضاً، ونعقب بإيجاز، ونواصل المشوار من السخر المختار، يروي الأصفهاني:

حدثني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: "

رأيت دعبل بن علي وسمعته يقول أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها .

حدثني عمي قال حدثنا ميمون بن هرون قال قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولاً في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك:

يا معشر الأجناد لا تَقنطوا ** وارضَوْا بما كان ولا تسخطوا

فسوف تعطَون حُنَيْنِيّــــــة **** يلتذها الأمَـــــرد والأشمط

والمَعْبَدِيّـــــات لِقُوّادِكــــــم *****لا تَدخلُ الكِيس ولا تربطُ

وهكذا يَــــــرزق قُــــــوّادَه *******خليفةٌ مصحفُه البَرْبَط

فقال له إبراهيم فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد فقال له وكأن أبا عباد أبسط يداً منك يا أمير المؤمنين قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح والله ما رأيت أبا عباد مقبلاً إلا أضحكني قول دعبل فيه

أوْلَى الأمور بضيعة وفساد***** أمرّ يدبِّره أبو عبّاد

وكأنه من دَير هِزْقَل مُفِلت***حَرِدٌ يجرّ سلاسل الأقٌياد " (39)

ذكرت الأبيات الدعبلية الساخرة من أبي عباد لغاية كي نعرف مدى أهمية السخر، ودوره في تقويم المجتمع، بل قياداته العليا حتى تصل لرأس الدولة فيصلح أمر وزيره، لذلك نقلت الرواية ومعها قول دعبل " أنا أحمل خشبتي ..." لنتفهم أن السخر ضريبته باهضه، قد تصل إلى الموت، والحق أن المعتصم قد هدر دم دعبل من بعد،وهرب إلى آخر الدنيا في عهده إلى أسوان وما بعدها من صحراء قاحلة مهلكة:

حللتُ محلاً يقصر البرق دونهُ ** ويعجزُ عنهُ الطيف أن يتجشما !!

ولم يفلت من القتل، إذ بعث إليه مالك بن طوق والي الجزيرة رجلاً حصيفاً مقداماً، فقتله في الأحواز (246 هـ/ 860 م)، وقد تجاوز خمس وتسعين سنة ميلادية،وكان قد هجا هذا المالك الطوق التغلبي بهجاء مقذع بالسب والشتيمة والقذف، وما هذا بسخر !!،

مهما يكن من أمر، والموت أمره غاية الإنسان، نرجع لدعبل و ابن شكلة، إبراهيم ابن الخليفة المهدي، هذا الرجل نترجم له قليلاً، والمأمون اكتفينا بشهرته، فهو أعظم خليفة عباسي، ابراهيم أخو الرشيد من أبيه، أمّا أمه فهي جارية سوداء من الديلم، كانت تجيد الموسيقى، وابنها أسود مثلها، تعلم الموسيقى، وكان صوته رخيما جيداً، فأجاد الغناء، وشجّعه أخوه الرشيد على ذلك رغم أنه من بيت الخلافة، ابن المهدي وحفيد المنصور، والرجل أصغر من أخيه بكثير، فهو مواليد 163 هـ 779م وتوفي 224 هـ 839 م، والرشيد مواليد 145 هـ / 763م توفي 193هـ 809م، يقول عنه الذهبي في (أعلام نبلائه) "الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ أَبُو إِسْحَاقَ، الْمُلَقَّبُ بِالْمُبَارَكِ ...وَيُعْرَفُ بِالتِّنِّينِ لِلَوْنِهِ، وَضَخَامَتِهِ ...كَانَ فَصِيحًا، بَلِيغًا، عَالِمًا، أَدِيبًا، شَاعِرًا، رَأْسًا فِي فَنِّ الْمُوسِيقَى . وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ شَكْلَةَ، وَهِيَ أُمُّهُ ...

وَقَالَ ابْنُ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ: مَا اجْتَمَعَ أَخٌ وَأُخْتٌ أَحْسَنُ غِنَاءً مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَأُخْتِهِ عُلَيَّةَ ..." (40)

أواصل معكم الحديث، والحديث شجون، والدنيا دولٌ وشؤون !! إضافة إلى ما ذكرناه، و في هذه الفترة، وبعد عودة دعبل إلى العراق أواخر سنة (201 هـ)، شهد خروج إبراهيم بن المهدي - عم المأمون، وأخي الرشيد - على خلافة مأمونه بتحريض من العباسيين في بغداد الذين قلـّدوه الخلافة غير الشرعية، أي بدون توصية من الرشيد، وأصبح خليفة غير رسمي ما بين (25 ذي الحجة 201 حتى 15 ذي الحجة 203 هـ)،وذلك عقبى خلع الأمين ومقتله، وترسيم الإمام الرضا جبراً ولياً للعهد، واستبدال شعار العباسيين الأسود بشعار العلويين الأخضر، فالشاعر إلى تلك الأيام الغابرة، لم يمس مقام الخلافة الشرعية بكل رموزها السابقين، ومأمونها الحكيم، وإنما كما استدركنا، صبّ سخريته على الخارج الإبراهيم، الذي لقبه معاصروه بابن شكلة،وهذا اسم أمه الأمَة السوداء، استصغاراً لشأنه، ولا سيما كان يجيد الغناء، بالرغم من أنه توّلى ولاية دمشق في عهد أخيه الرشيد لمدة ست سنوات على دفعتين، ونعت بالعدل والصرامة، وإبان خلافته المزعومة، حاربه الوزير الحسن بن سهل والي العراق المأموني، لم يقدر عليه، فردّه خائباً،مما جعل المأمون أن يرسل لقتاله قائده العسكري المقتدر حميد الطوسي، فانتصر عليه انتصاراً باهراً، فانهزم ابن شكلة، واختفى في بغداد حين وصلها المأمون سنة (204هـ)، وبقي مختفياً حتى سنة (210 هـ)، إذ عفا عنه المأمون وأكرمه،توفي في سامراء (224 هـ)، وصلـّى عليه ابن أخيه المعتصم، نعته الخطيب البغدادي بأوصاف رائعة: وافر الفضل، غزير الأدب، واسع النفس، سخي الكف، وكان معروف بصناعة الغناء حاذقاً فيها، وقد قلّ المال عليه أيام خلافته ببغداد.(41)

وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوباش الناس وأوغادهم، فاحتبس عليهم العطاء، فجعل إبراهيم يسوفهم وهم لا يرون لوعده حقيقة، إلى أن خرج رسوله إليهم يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح إليهم بأنه لا مال عنده،فقال قوم من غوغاء أهل بغداد: أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني أهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءهم ولأهل هذا الجانب مثلها، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: فأنشدني دعبل بعد أيام من (السريع): (يا معشر الأجناد لا تقنطوا) .(42)

سخرية صارخة من مغن ٍيتطلع لعرش الخلافة الإسلامية، وإن كان ابن خليفة، وأخاً لهارون الرشيد، ولك أنْ تعرف - إنْ كنت لا تعرف -الأشمط هو الشايب، والحنينة بمعنى طور غنائي كان ينسب إلى حنين الحيري، ومثلها المعبديات التي تنسب إلى معبد المغني الأموي، والبربط نوع من الملاهي كعود الطرب، واستعار الشاعر (مصحفه البربط) للسخرية من مطرب يتطلع للخلافة الإسلامية .

وقبل إفلاس خزينة خلافته بعدة أشهر رماه دعبل بسخرية لاذعة من (كامله)، يقول فيها:

علمٌ وتحكيمٌ وشيبُ مفارق ٍ ***طلـّسنَ ريعانَ الشبابِ الرائق ِ

وإمارة ٌ في دولةٍ ميمونةٍ ** *كانتْ على اللذات اشغب عائق ِ

فالآنَ لا اغدو ولستُ برائح ٍ**في كبر معشوق ٍ وذلـّة عاشق

نعرَ ابن شكلة بالعراق واهلهِ *** فهفــا إليــه كلّ اطلس مائق ِ

إن كانَ إبراهيم مضطلعاً بها**** فلتصلحنْ منْ بعدهِ لمخارق ِ

ولتصلحنْ من بعد ذاك لزلزل ٍ*** ولتصلحنْ منْ بعدهِ للمـارق ِ

أنـّى يكونُ وليس ذاك بكائن ٍ***يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسق (43)

إذن (ابن شكلة) قام بالفتنة في العراق وبين أهل العراق، وألتفَّ حوله كل ذئب أمرد أحمق وهنيئاً للخلافة بهذا المغني، ولتصلح من بعده للمغنيين المطربين أمثال مخارق وزلزل والمارق كما يذكرهم خليل مردم في (جمهرة مغنيه) (44)

وأخيراً يختم شعره بالحقيقة المرة متسائلاً، ويجيب جازماً، لا يمكن للخلافة أن يرثها الفاسقون . وعن هذه القصيدة الثانية يروي الأصفهاني عن عبد الله بن طاهر بن الحسين كيف دسّها دعبل إلى مأمونه قائلاً: " وأما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله: (علم وتحكيم وشيب مفارق ...)، فلما قرأها المأمون ضحك وقال: قد صفحت عن كل ما هجانا به، إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده،وكتب إلى (أبي) أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً، وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل، فكتب إلي (أبي) بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله، وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل، فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني:

مدارسُ آيات خلت من تلاوةٍ *** ومنزل وحيٍ مقفر العرصاتِ

فجزع فقال له: لك الأمان فلا تخف وقد رويتها، ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده ..." . (45)

لا يمكن مقابلة الواقع بالكمال المنشود، فلكل امرئ واقعه ولكل امرئ نظرته وفهمه للكمال، من هنا نختلف في رؤانا لشعراء الهجاء والسخرية، من تراه قبيحاً، قد أراه حسناً، ومن أراه قبيحاً قد نراه حسناً، والحق يجب أن نتفهم ونفهم بواعث وأحاسيس وغاية الشاعر لحظة الإيحاء الشعري، وما هي الظروف الموضوعية والذاتية المتفاعلة في ذات اللحظة لتشكيل القصيد، وفي كل الأحوال، النظم بدافع الانتقام الشخصي، أو التسلية الفارغة الجوفاء ليس بسخرٍ يستحق التمجيد والخلود، ونحن نستميحك عذراً للركون إلى الخلود، وفي الصباح الكلام المباح !!

 

كريم مرزة الأسدي

.....................

(38): - ديوانه ص 214 - الأعلمي - 1997 - بيروت، وعنه بغية الطلب: 5 / 331، والاغاني: 18 /46 وفيه المخزّم، وتاريخ دمشق: 5 / 238، ومعجم البلدان: 2 /420، 5 / 72 .

(39) الأغاني - أبو فرج الأصفهاني - ج 20 ص 133 - 134 - تحقيق سمير جابر - دار الفكر - ط2 - بيروت .

(40) أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: ج 10 ص 558 - 561 - مؤسسة الرسالة - 2001 م .

(41) (البداية والنهاية): ابن كثير - الجزء العاشر - مادة إبراهيم بن المهدي بن المنصور .

(42) معاهد التنصيص على شواهد التلخيص: العباسي - 1 / 198 - الوراق - الموسوعة الشاملة .

(43) (ديوان دعبل بن علي الخزاعي): ت عبد الصاحب عمران الدجيلي ص 244 - 245 ط 2 - دار الكتاب اللبناني - 1972 - بيروت .

(44) (الديوان): نقلاً عن (جمهرة المغنين): خليل مردم - ص 140 - 144 م . س .

(45) (الأغاني): ج 20 ص 194 - 195 م . س .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم